الرئيسيةبحث

اللغة العربية كائن حي/العصر الجاهلي

اللغة العربية كائن حي
المؤلف: جورجي زيدان


ويراد به الزمن الذي مرّ على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرّت قبل زمن التاريخ..ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونمت، أي تميّزت فيها الأسماء، والأفعال، والحروف، وتكوّنت فيها معظم الاشتقاقات، والمزيدات، وهي لا تزال في حجر أمها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية، والعبرانية، والفنيقية، وغيرها من اللغات السامية. وبعبارة أخرى أن أم اللغات، ويسمونها اللغة الساميّة أو الآرامية تم نموّها، فتكوّنت أفعالها، وأسماؤها، وحروفها، واشتقاقاتها، ومزيداتها قبل أن تشتت أهلها، أو نزحوا الى فينيقية، وجزيرة العرب، وما بين النهرين، حيث اختلفت لغة كل قوم منهم بعد ذلك النزوح، باختلاف احوالهم..فتولّدت منها اللغات السامية المعروفة. فالساميون الذين نزلو جزيرة العرب، تنوّعت لغتهم تنوّعا يناسب ما يحيط بهم من الأحوال، أو يجاورهم من الأمم.. فتميّزت عن اخواتها بأمور خاصة، هي خصائص اللغة العربية. وتشعّبت هذه اللغة في أثناء ذلك الى فروع يختلف بعضها عن بعض باختلاف الأصقاع، وهي لغات الحجاز، واليمن، والحبشة. وتفرّعت لغة كل من تلك البقاع الى فروع، باعتبار القبائل والبطون مما لا يمكن حصره..كلّ ذلك حدث قبل زمن التاريخ.
ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت الينا، لقد كانت قبل تدوينها - أي قبل الإسلام - لغات عديدة تعرف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم، وربيعة، ومضر، وقيس، وهذيل، وقضاعة، وغيرها. كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبها باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الإختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام، وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش، فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالا الى الشام، والعراق، ومصر، وجنوبا الى بلاد اليمن، وشرقا الى خليج فارس وما وراءه، وغربا الى بلاد الحبشة. فضلا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود، والفرس، والأنباط، واليمنية، والأحباش، والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون اليها من جالية اليهود والنصارى، فدعا ذلك كله الى ارتقاء اللغة بما تولّد فيها أو دخلها من الإشتقاقات، والتراكيب، مما لا مثيل له في اللغات الأخرى.
وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول، والثاني، قبل الإسلام، بنزول الحبشة والفرس في اليمن، والحجاز، على اثر استبداد ذي نواس ملك اليمن..وكان يهوذيا فاضطهد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد، وخاصة أهل نجران، فطلب اليهم اعتناق اليهودية.. فلما أبوا قتلهم حرقا وذبحا، فاستنجد بعضهم بالحبشة..فحمل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينا، وأذلّوا ملوكها اعواما. ثم أنف أحد ملوكها ذو يزن، فاستنجد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان، لإأنجده طمعا في الفتح..فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملكوها 72 عاما، وكانوا في أثناء ذلك يتردّدون الى الحجاز، وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم، ورجالهم ولم يفلحوا. واهتم أهل الحجاز بقدوم الحبشة الى مكة حتى أرّخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن، أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطّنوا، وكانوا يقدمون الى الحجاز وأهل الحجاز يتردّدون اليهم.