الرئيسيةبحث

الكيلانية/الصفحة الخامسة


فصل

وأما نصوص الإمام أحمد على خلق كلام الآدميين وخلق أفعال العباد فموجودة في مواضع كثيرة كما نص على ذلك سائر الأئمة. وليس بين أهل السنة في ذلك اختلاف؛ ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان شيخ الإمام أحمد: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة وقد سئل الإمام أحمد عن أفاعيل العباد مخلوقة هي؟ فقال نعم. ونص على كلام الآدميين في رواية أحمد بن الحسن الترمذي كما سيأتي وفيما خرجه على الزنادقة والجهمية وهو مروي من طريق ابنه عبد الله ( وجادة وقد ذكره الخلال أيضا في كتاب السنة ونقل منه القاضي أبو يعلى وغيره وقد حكى إجماع الخلق على ذلك غير واحد منهم أبو نصر السجزي في الإبانة وهو من أشد الناس إنكارا على من يقول: إن ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو يقول: إن المسموع من القارئ ليس هو القرآن. قال أبو نصر: وأما نسبة الأصوات إلى القراء - فيما ذكرنا في هذا الباب وفي غيره من كتابنا هذا - ونسبة القراءة إليهم وإن فرح بها الزائغون فلا حجة لهم فيها؛ وذلك أنا لم نختلف في إضافة الصوت إلى الإنسان وأنه إذا صاح أو تكلم بكلام الناس أو نادى إنسانا فصوته مخلوق. قال: وهذا لا يشتبه: وإنما وقع الاختلاف في أن المستمع من قارئ القرآن ماذا يستمع؟ وساق الكلام إلى آخره. وذكر في موضع آخر الإجماع أيضا على ذلك.

فصل

وإنما نبهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وأهل الحديث في مسألة تلاوتنا للقرآن لأنها أصل ما وقع من الاضطراب والتنازع في هذا الباب مثل مسألة الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ ومسألة نور الإيمان والهدى ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة فيها ويتمسك كل فريق ببعض من الحق فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مختلفين في الكتاب كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض وهم عامتهم في جهل وظلم: جهل بحقيقة الإيمان والحق وظلم الخلق ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان ويغضب له الرحمن ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف. وأصل ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله تعالى من القرآن والإيمان الذي هو من صفاته وبين أفعال العباد وصفاتهم؛ فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في الإثبات. وآخرون إلى زيادة في النفي؛ ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار: النهي عن الإثبات العام والنفي العام؛ بل إما الإمساك عنهما - وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد. وأما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان كما أن الأول لعموم أهل الإيمان. وهذه المسألة لها أصلان. ( أحدهما أن أفعال العباد مخلوقة وقد نص عليها الأئمة أحمد وغيره وسائر أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين للقدرية واتفقت الأمة على أن أفعال العباد محدثة. و( الأصل الثاني مسألة تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به هل يقال إنه مخلوق أو غير مخلوق؟ والإمام أحمد قد نص على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين والمستأخرين؛ لكن كان رده على اللفظية النافية أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين. ( أحدهما أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي وجانب النفي - أبدا - شر من جانب الإثبات؛ فإن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل في صفات الله وبالنفي المجمل: فوصفوه بالعلم والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات وفي النفي: { ليس كمثله شيء } { ولم يكن له كفوا أحد }. وأما الخارجون عن حقيقة الرسالة: من الصابئة والفلاسفة والمشركين وغيرهم ومن تجهم من أتباع الأنبياء فطريقتهم النفي المفصل ليس كذا ليس كذا وفي الإثبات أمر مجمل ولهذا يقال: المعطل أعمى والمشبه أعشى. فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل. ( الوجه الثاني أن أحمد إنما ابتلي بالجهمية المعطلة فهم خصومه فكان همه منصرفا إلى رد مقالاتهم؛ دون أهل الإثبات؛ فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات؛ كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي. والإنكار يقع بحسب الحاجة والبخاري لما ابتلي باللفظية المثبتة ظهر إنكاره عليهم كما في تراجم آخر كتاب الصحيح وكما في كتاب خلق الأفعال مع أنه كذب من نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق من جميع أهل الأمصار وأظنه حلف على ذلك وهو الصادق البار.

فصل

وقد نص أحمد على نفس هذه المسألة في غير موضع فروى أبو القاسم اللالكائي في أصول السنة قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال حدثنا عمرو بن جعفر قال؛ حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: قلت لأحمد بن حنبل: إن الناس قد وقعوا في القرآن فكيف أقول؟ فقال أليس أنت مخلوقا؟ قلت: نعم قال: فكلامك منك مخلوق؟ قلت: نعم قال: أفليس القرآن من كلام الله؟ قلت: نعم قال: وكلام الله من الله؟ قلت: نعم قال: فيكون من الله شيء مخلوق. بين أحمد للسائل: أن الكلام من المتكلم وقائم به؛ لا يجوز أن يكون الكلام غير متصل بالمتكلم ولا قائم به؛ بدليل أن كلامك أيها المخلوق منك؛ لا من غيرك فإذا كنت أنت مخلوقا وجب أن يكون كلامك أيضا مخلوقا وإذا كان الله تعالى غير مخلوق امتنع أن يكون ما هو منه وبه مخلوقا. وقصده بذلك الرد على الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله ليس من الله ولا متصل به. فبين أن هذا الكلام ليس هو معنى كون المتكلم متكلما ولا هو حقيقة ذلك ولا هو مراد الرسل والمؤمنين من الإخبار عن أن الله قال ويقول وتكلم بالقرآن ونادى وناجى ودعا ونحو ذلك مما أخبرت به عن الله رسله واتفق عليه المؤمنون به من جميع الأمم؛ ولهذا قال تعالى: { ولكن حق القول مني } وقال: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وقال تعالى: { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } وقال تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }. وليس القرآن عينا من الأعيان القائمة بنفسها حتى يقال: هذا مثل قوله: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وإنما هو صفة كالعلم والقدرة والرحمة والغضب والإرادة والنظر والسمع ونحو ذلك؛ وذلك لا يقوم إلا بموصوف وكل معنى له اسم وهو قائم بمحل وجب أن يشتق لمحله منه اسم وأن لا يشتق لغير محله منه اسم. فكما أن الحياة والعلم والقدرة إذا قام بموصوف وجب أن يشتق له منه اسم الحي والعالم والقادر؛ ولا يشتق الحي والعالم والقادر لغير من قام به العلم والقدرة فكذلك القول والكلام والحب والبغض والرضا والرحمة والغضب والإرادة والمشيئة إذا قام بمحل وجب أن يشتق لذلك الموصوف منه الاسم والفعل فيقال: هو الصادق والشهيد والحكيم والودود والرحيم والآمر ولا يشتق لغيره منه اسم. فلو لم يكن الله سبحانه وتعالى هو القائل بنفسه: { أنا الله لا إله إلا أنا } بل أحدث ذلك في غيره لم يكن هو الآمر بهذه الأمور ولا المخبر بهذا الخبر ولكان ذلك المحل هو الآمر بهذا الأمر المخبر بهذا الخبر وذلك المحل: إما الهواء وإما غيره فيكون ذلك المحل المخلوق هو القائل لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولهذا كان السلف يقولون في هذه الآية وأمثالها: من قال: إنه مخلوق فقد كفر. ويستعظمون القول بخلق هذه الآية وأمثالها أكثر من غيرها يعظم عليهم أن تقوم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى. ولهذا كان مذهب جماهير أهل السنة والمعرفة - وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد وأبي حنيفة وغيرهم: من المالكية والشافعية والصوفية وأهل الحديث وطوائف من أهل الكلام: من الكرامية وغيرهم - أن كون الله سبحانه وتعالى خالقا ورازقا ومحييا ومميتا وباعثا ووارثا وغير ذلك من صفات فعله وهو من صفات ذاته؛ ليس من يخلق كمن لا يخلق ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق فالخلق فعل الله القائم به والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه. وذهب طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم: من الفقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم إلى أنه ليس لله صفة ذاتية من أفعاله وإنما الخلق هو المخلوق أو مجرد نسبة وإضافة وهذا اختيار ابن عقيل وأول قولي القاضي أبي يعلى وهؤلاء عندهم حال الذات التي تخلق وترزق أو لا تخلق ولا ترزق سواء. وبهذا نقضت المعتزلة على من ناظرها من الصفاتية الأشعرية ونحوهم؛ لما استدلت الصفاتية بما تقدم من القاعدة الشريفة فقالوا: ينتقض عليكم بالخالق والرازق وغير ذلك من أسماء الأفعال؛ فإن الخلق والرزق قائم بغيره وقد اشتق له منه اسم الخالق والرازق؛ ولم يقم به صفة فعل أصلا فكذلك الصادق والحكيم والمتكلم والرحيم والودود وهذا النقض لا يلزم جماهير الأمة وعامة أهل السنة والجماعة؛ فإن الباب عندهم واحد وليس هذا قولا بقدم مخلوقاته أو مفعولاته سواء قيل: أن نفس فعله القائم به قديم فقط كما يقوله كثير من هؤلاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والكلام والصوفية - أو يقولون له عند إحداث المخلوقات أحوال ونسب كما يقوله كثير من هؤلاء: الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام من الطوائف كلها. وذلك لأن القول في ذلك كالقول في مشيئته وإرادته فإنه وإن كان مذهب أهل السنة وسائر الصفاتية أنها قديمة فليست مراداته قديمة وكذلك صفة الخلق والتكوين؛ وذلك لأن الشرع والعقل يدل على أن حال الخالق والرازق الفاطر المحيي المميت الهادي النصير ليس حاله في نفسه كحاله لو لم يبدع هذه الأمور؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق }. فالفرق بين الخالق وغير الخالق كالفرق بين القادر وغير القادر. والمخالف يقول إنما هو موصوف بالقدوة التي تتناول ما يخلقه وما لا يخلقه سواء في نفسه كان خالقا أو لم يكن خالقا ليس له من كونه خالقا صفة ثبوتية لا صفة كمال ولا صفة وجود مطلق كما له بكونه قادرا. ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودا مثنى عليه ممجدا؛ وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال وليس الغرض هنا ذكر هذه المسألة وإنما هي طرد حجة الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات وسائر الصفاتية؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في كتاب المحنة : لم يزل الله عالما متكلما غفورا. فبين اتصافه بالعلم - وهو صفة ذاتية محضة - وبالمغفرة وهي من الصفات الفعلية والكلام الذي يشبه هذا وهذا وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية لما ذكر قول جهم: إنه يتكلم؛ ولكن كلامه مخلوق. قال أحمد قلنا له: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه وكذلك ذكروا في المحنة فيما استدل به الإمام أحمد في المناظرة واستدل بقوله: { ولكن حق القول مني } قال: فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق.

فصل

وأما قول القائل: إن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فبطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفتري بها على الأئمة أحوج منه إلى جوابه؛ فإن الإمام أحمد صار مثلا سائرا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم حتى صار اسم الإمام مقرونا باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد. هذا مذهب الإمام أحمد. لقوله تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين. وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله. فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض - حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله ﷺ وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم: من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ما جاء به الرسول ﷺ كما أظهره أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التي لا قدر لها؟ وأيضا فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا وقد جعلوا يطالبونه بما ابتدعوه فيقول لهم: كيف أقول ما لم يقل فكيف يكتم كلمة ما قالها أحد قبله من خلق الله. وأيضا فإن أحمد بن الحسن الترمذي من خواص أصحابه وأعيانهم فما الموجب لأن يستعمل التقية معه. وأيضا فلم يكن به حاجة إلى أن يقول: كلام الآدمي مخلوق وإنما هو ذكر ذلك مستدلا به ضاربا به المثل فكيف يبتدئ بكلام هو عنده باطل لم يسأله عنه أحد وأيضا فقد كان يسعه أن يسكت عن هذا؛ فإن الإنسان إذا خاف من إظهار قول كتمه. أما إظهاره لقول لم يطلب منه وهو باطل عنده فهذا لا يفعله أقل الناس عقلا وعلما ودينا. فمن يسب الإمام أحمد الذي موقفه من الإسلام وأهله فوق ما يصفه الواصف؛ ويعرفه العارف فقد استوجب من غليظ العقوبة ما يكون نكالا لكل مفتر كاذب راجم بالظن قاذف قائل على الله ورسوله والمؤمنين وأئمتهم ما لا يقوله العدو المنافق. وأيضا فقد ذكر ذلك فيما صنفه من الرد على الزنادقة والجهمية وهو في الحبس وكتبه بخطه ولم يكن ذلك مما أظهره لأعدائه: الذين يحتاج غيره إلى أن يستعمل معهم التقية. وهذا القول أقبح من قول الروافض فيما ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قاله وفعله على وجه التقية؛ فإن الإمام أحمد صنف الرد عليهم وبين أنهم زنادقة فأي تقية تكون لهم مع هذا وهو يجاهدهم ببيانه وبنانه وقلمه ولسانه؟

فصل

شبهة هؤلاء أنهم وجدوا الناس قد تكلموا في حروف المعجم وأسماء المخلوقات . فإن المنتسبين إلى السنة تكلموا في حروف المعجم في غير القرآن والكتب الإلهية وقال طوائف منهم: كابن حامد وأبي نصر السجزي والقاضي في أشهر قوليه وابن عقيل وغيرهم: إنها مخلوقة وقالوا: الحروف حرفان. وقال طوائف وهم كثير من أهل الشام والعراق وخراسان: كالقاضي يعقوب البرزيني والشريف أبي الفضائل الزيدي الحراني ويروى ذلك عن الشيخ أبي الحسين بن سمعون وهو قول القاضي أبي الحسين وحكاه عن أبيه في آخر قوليه وهو قول الشيخ أبي الفرج الأنصاري والشيخ عبد القادر وابن الزاغوني وغيرهم: الحرف حرف واحد وحروف المعجم غير مخلوقة حيث تصرفت؛ لأنها من كلام الله وحقيقة الحرف واحدة لا تختلف. وقد نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه الإنكار على من قال: بخلق الحروف وإنه لما حكي له أن بعض الناس قال: لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقال الإمام أحمد: هذا كفر. وروي إنكار ذلك عن غيره من الأئمة. والأولون لا ينازعون في هذا؛ فإنهم ينكرون على من يقول: إن الحروف مخلوقة؛ فإنه إذا قال ذلك دخل فيه حروف كلام الله تعالى من القرآن وغيره وهم يخصون الكلام في الحروف الموجودة في كلام المخلوق دون الحروف الموجودة في كلام الله ويقولون: حقيقة الحروف والاسم وإن كانت واحدة فذلك بمنزلة كلمات موجودة في القرآن وقد تكلم بها بعض المخلوقين. فالمتكلم تارة يقصد أن يتكلم بكلام غيره وإن وافقه في لفظه بالنسبة إلينا وهذا لا يتأتى إلا في الشيء اليسير وهو ما دون السورة القصيرة؛ فإن الله قد تحدى الخلق أن يأتوا بسورة مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا. قال الأولون: فموافقة لفظ الكلام للفظ الكلام لا يوجب أن يكون لأحدهما حكم الآخر في النسبة إلى المتكلم المخلوق؛ بحيث ينسب أحدهما إلى من ينسب إليه الآخر فكيف بالنسبة إلى الخالق؟ بل { لما كتب مسيلمة إلى النبي ﷺ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله رد عليه النبي ﷺ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب } كان اللفظ برسول الله من المتكلمين سواء: من أحدهما صدق - ومن أعظم الصدق - ومن الآخر كذب - ومن أقبح الكذب. وقد ذكر الله عن الكفار مقالات سوء في كتابه مثل قولهم: { اتخذ الله ولدا } { ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وقولهم: { عزير ابن الله } و{ المسيح ابن الله } وغير ذلك من الأقوال الباطلة وقد حكاها الله عنهم فإذا تكلمنا بما حكاه الله عنهم كنا متكلمين بكلام الله ولو حكيناها عنهم ابتداء لكنا قد حكينا كلامهم الكذب المذموم. ولهذا قال الفقهاء: من ذكر الله أو دعاه جاز له ذلك مع الجنابة وإن وافق لفظ القرآن إذا لم يقصد القراءة. وقالوا: لو تكلم بلفظ القرآن في الصلاة يقصد مجرد خطاب الآدمي بطلت صلاته؛ لأن ذلك من كلام الآدميين والصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين وإن قصد مع تنبيه الغير القراءة صحت صلاته عند الجمهور كما لو لم يقصد إلا القراءة. وعند بعضهم تبطل كقول أبي حنيفة. ومن هذا الباب مسألة الفتح على الإمام وتنبيه الداخل بآية من القرآن وغير ذلك. وسبب ذلك أن معنى الكلام داخل في مسماه ليس هو اسما لمجرد اللفظ والمعنى: هو إنشاء وإخبار والإنشاء فيه الأمر والنهي ومعلوم أن أمر زيد ليس هو أمر عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ وكذلك اختيار زيد ليس هو اختيار عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ. فالآمر المطاع الحكيم إذا أمر بأمر كان له حكم خلاف ما إذا أمر به الجاهل العاجز وإن اتفق لفظهما وكذلك الشاهد العالم الصادق إذا أخبر بخبر كان حكمه خلاف ما إذا أخبر به الجاهل الكاذب وإن اتفق لفظهما. وإذا كان كذلك فمن أدخل في كلام له بعض لفظ أدخله غيره في كلامه لم يوجب ذلك أن يكون هذا اللفظ من كلام ذلك المتكلم وإن كان أحد اللفظين شبيها بالآخر وهو بمنزلة من كتب حروفا تشبه حروف المصحف كتبها كلاما آخر لم يكن ذلك مما يوجب أن يكون من حروف المصحف. وقال الآخرون مجرد الموافقة في اللفظ لا يوجب أن يجعل حكم أحد اللفظين حكم الآخر لكن إذا كان أحدهما أصلا سابقا إلى ذلك الكلام والآخر إنما احتذى فيه حذوه ومثاله: كان اللفظ والكلام منسوبا إلى الأول؛ بمنزلة من تمثل بقول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل أو بقوله: ويأتيك بالأخبار من لم تزود أو بمثل من الأمثال السائرة كقوله: عسى الغوير أبؤسا ويداك أوكتا وفوك نفخ وكل الصيد في جوف الفرا ونحو ذلك. فهذا الكلام هو تكلم به في المعنى الذي أراده؛ لا على سبيل التبليغ عن غيره ومع هذا فهو منسوب إلى قائله الأول فهكذا الحروف الموجودة في كلام الله وإن أدخلها الناس في كلامهم الذي هو كلامهم فأصلها مأخوذ من كلام الله تعالى. قال الأولون: هنا مقامان. ( أحدهما: أن كل من أنطقه الله بهذه الحروف فإنما كان ذلك بطريق الاستفادة من كلام الله أو ممن استفادها من كلام الله. وهذه الدعوى العامة تحتاج إلى دليل؛ فإن تعليم الله لآدم الأسماء أو إنزاله كتبه بهذه الحروف لا يوجب أن يكون لم ينطق غير آدم ممن لم يسمع الكتب المنزلة بهذه الحروف كما كانت العرب تنطق بهذه الحروف والأسماء قبل نزول القرآن والله تعالى أنزله بلسانهم الذي كانوا يتكلمون به قبل نزول القرآن. ( المقام الثاني: أنه لو لم يكن أحد نطق بها إلا مستفيدا لها من كلام الله؛ لكن إذا أنشأ بها كلاما لنفسه ولم يقصد بها قراءة كلام الله لم تكن في هذه الحال من كلام الله كما لو فعل ذلك في بعض الجمل المركبة وأولى. ويدل على ذلك الأحكام الشرعية. قال الآخرون - القائلون بأن حروف المعجم غير مخلوقة مطلقا - لنا في الأسماء الموجودة في غير القرآن قولان. منهم من يقول بأن جميع الأسماء غير مخلوقة كما يقول ذلك في الحروف. ومنهم من لا يقول ذلك وقد حكى القولين ابن حامد وغيره عمن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيره من القائلين بأن حروف المعجم غير مخلوقة فمن عمم ذلك استدل بقوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } وهذه الحجة مبنية على مقدمتين. ( إحداهما أن مبدأ اللغات توقيفية وأن المراد بالتوقيف خطاب الله بها لا تعريفه بعلم ضروري وهذا الموضع قد تنازع فيه الناس من أصحاب الإمام أحمد وسائر الفقهاء وأهل الحديث والأصول. فقال قوم: إنها توقيفية وهو قول أبي بكر عبد العزيز والشيخ أبي محمد المقدسي وطوائف من أصحاب الإمام أحمد؛ وهو قول الأشعري وابن فورك وغيرهما. وقال قوم: بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي. وهذا قول طوائف: منهم ابن عقيل وغيره. وقال قوم: يجوز فيها هذا وهذا ولا نجزم بشيء. وهذا قول القاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهما. ولم يقل: إنها كلها اصطلاحية إلا طوائف من المعتزلة ومن اتبعهم - ورأس هذه المقالة أبو هاشم ابن الجبائي. والذين قالوا إنها توقيفية تنازعوا: هل التوقيف بالخطاب أو بتعريف ضروري أو كليهما؟ فمن قال: إنها توقيفية وإن التوقيف بالخطاب فإنه ينبني على ذلك أن يقال: إنها غير مخلوقة؛ لأنها كلها من كلام الله تعالى؛ لكن نحن نعلم قطعا أن في أسماء الأعلام ما هو مرتجل وضعه الناس ابتداء فيكون التردد في أسماء الأجناس. وأيضا فإن تعليم الله لآدم بالخطاب لا يوجب بقاء تلك الأسماء بألفاظها في ذريته؛ بل المأثور أن أهل سفينة نوح لما خرجوا من السفينة أعطي كل قوم لغة وتبلبلت ألسنتهم. وهذه المسألة فيها تجاذب والنزاع فيها بين أصحابنا وسائر أهل السنة يعود إلى نزاع لفظي فيما يتحقق فيه النزاع وليس بينهم والحمد لله خلاف محقق معنوي. وذلك أن الذي قال الحرف حرف واحد وإن حروف المعجم ليست مخلوقة؛ إنما مقصوده بذلك أنها داخلة في كلام الله وأنها منتزعة من كلام الله وأنها مادة لفظ كلام الله وذلك غير مخلوق وهذا لا نزاع فيه. فأما حرف مجرد فلا يوجد لا في القرآن ولا في غيره ولا ينطق بالحرف إلا في ضمن ما يأتلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني وأما الحروف التي ينطق بها مفردة مثل: ألف لام ميم ونحو ذلك فهذه في الحقيقة أسماء الحروف وإنما سميت حروفا باسم مسماها كما يسمى ضرب فعل ماض باعتبار مسماه؛ ولهذا لما سأل الخليل أصحابه كيف تنطقون بالزاء من زيد؟ قالوا: نقول زا قال: جئتم بالاسم؛ وإنما يقال زه . وليس في القرآن من حروف الهجاء - التي هي أسماء الحروف - إلا نصفها وهي أربعة عشر حرفا وهي نصف أجناس الحروف: نصف المجهورة والمهموسة والمستعلية والمطبقة والشديدة والرخوة وغير ذلك من أجناس الحروف. وهو أشرف النصفين. والنصف الآخر لا يوجد في القرآن إلا في ضمن الأسماء أو الأفعال أو حروف المعاني - التي ليست باسم ولا فعل. فلا يجوز أن نعتقد أن حروف المعجم بأسمائها جميعها موجودة في القرآن؛ لكن نفس حروف المعجم التي هي أبعاض الكلام موجودة في القرآن؛ بل قد اجتمعت في آيتين: إحداهما في آل عمران والثانية في سورة الفتح: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الآية و{ محمد رسول الله } الآية. وإذا كان كذلك فمن تكلم بكلام آخر مؤلف من حروف الهجاء فلم ينطق بنفس الحروف التي في لفظ القرآن وإنما نطق بمثلها وذلك الذي نطق به قد يكون هو أخذه وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى وقد لا يكون حقيقة. قيل: الحرف من حيث هو هو شيء واحد له الحقيقة المطلقة التي لا تأليف فيها لا توجد لا في كلام الله تعالى ولا في كلام عباده وإنما الموجود الحرف الذي هو جزء من اللفظ أو اسمه إذا لم يوجد إلا حرف؛ ولكن هذا المطلق؛ بل الأعيان الموجودة في الخارج قائمة بأنفسها كالإنسان لا يوجد مجردا عن الأعيان في الأعيان لا يوجد مجردا عن الأعيان إلا في الذهن لا في الخارج فكيف بالحرف الذي لا يوجد في الخارج إلا مؤلفا فلو قدر أنه يوجد في الخارج غير مؤلف متعدد الأعيان كما يوجد الإنسان لم تكن حقيقته المطلقة من حيث هي هي موجودة إلا في الأذهان لا في الأعيان. فتبين أن الحروف تختلف أحكامها باختلاف معانيها واختلاف المتكلم بها وهذا أوجب تعظيم حروف القرآن المنطوقة والمسطورة وكان لها من الأحكام الشرعية ما امتازت به عما سواها واختلاف الأحكام إنما كان لاختلاف صفاتها وأحوالها. فتبين أن الواجب أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره: إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته } وروى الربيع بن أنس عن { المسيح أنه قال: عجبا لهم كيف يكفرون به وهم يتقلبون في نعمائه ويتكلمون بأسمائه }. وذكر في معظم حروف المعجم أنها مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة من السماء وهذا مما يحتج به من قال: ليست مخلوقة وليس بحجة؛ فإن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق وما اشتقه هو من أسمائه فتكلم به فكلامه به غير مخلوق وأما إذا اشتقوا اسما أحدثوه فذلك الاسم هم أحدثوه ولا يلزم إذا كان المشتق منه غير مخلوق أن يكون المشتق كذلك. وما يروى عن المسيح فلا يعرف ثبوته عنه وبتقدير ثبوته فإذا كان قد ألهم عباده أن يتكلموا بالحروف التي هي مباني أسمائه التي تكلم بها لم يلزم أن يكون ما أحدثوه هم غير مخلوق. وبالجملة فمن نظر إلى أن حقيقة الحرف التي لا تختلف موجودة في كلام الله وكلام الله غير مخلوق قال إنها مخلوقة إشارة إلى نفس حقيقة الحرف؛ لا إلى عين جزء اللفظ الذي به ينطق الكفار والمشركون؛ فإن ذلك الحرف الذي هو صوت لمقدر أو تقدير صوت قائم بالكافر والمشرك لا يقول عاقل: إنه غير مخلوق؛ مع أنه ليس مضافا إلى الله بوجه من الوجوه وإنما يضاف إلى الله ما شاركه في اسمه مما كان متعلقا بالمعنى المضاف إلى الله. وهذا بخلاف الحروف التي في كلام الله؛ فإن تلك كلام الله كيف ما تصرفت ونحن لما يسر الله كلامه بألسنتنا أمكننا أن نتكلم بكلامه؛ لكن بأدواتنا وأصواتنا؛ وليس تكلمنا به وسمعه منا كتكلم الله به وسمعه منه كما تقدمت الإشارة إلى هذا كما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك سائر ما يضاف إليه؛ ولكن لما أنطقنا الله بأدواتنا وحركاتنا وأصواتنا صار بين بعض لفظنا به ولفظنا بغيره نوع من الشبه؛ فإذا تكلمنا بكلام آخر فهو يشبه من بعض الوجوه لفظنا وصوتنا بالقرآن لا يشبه تكلم الله به وقراءته إياه فإذا كان وجود هذه الحروف في كلام الآدميين ليس بمنزلة تكلم الله بالقرآن وإنما يشبه من بعض الوجوه تكلمنا به من جهة ما يضاف إلينا لا من جهة ما يضاف إلى الله امتنع حينئذ أن يقال: عين الحرف الذي هو جزء لفظة من الاسم الذي ينطق به الناس هو عين الحرف الذي هو جزء لفظ من كلام الله تعالى وإنما يشبهه ويقاربه فهو هو باعتبار النوع؛ وليس هو إياه باعتبار العين والشخص خلاف حروف كلام الله القرآن؛ فإنها كلام الله حيث تصرفت وفيها دقة وشبهة أشرنا إليها في هذا الجواب وشرحناها في موضعها. فمن قال: إن الحروف حرفان أراد به أنهما عينان وشخصان وهذا حق. ومن قال: الحرف حرف واحد أراد به: أن الحقيقة النوعية واحدة في الموضعين وهذا حق. ومن قال: إن حروف الهجاء من كلام الآدميين غير مخلوقة فقد صدق باعتبار الحقيقة النوعية. ومن قال: إنها مخلوقة باعتبار العين الشخصية فقد صدق. ونظير هذا كثير يوجد في كلام أهل العلم وأهل السنة من النفي والإثبات ويكون النزاع في معنيين متنوعين نزاعا لفظيا اعتباريا وقد قال بعض الفضلاء: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء؛ لكن وقوع الاشتراك والإجمال يضل به كثير من الخلق كما يهتدي به كثير من الخلق وهو سبب ضلال هؤلاء الجهال المسئول عنهم فإن حجتهم: أن الله علم آدم الأسماء كلها وعلمه البيان وهو مبني على أن اللغات توقيفية كقول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: كأبي بكر عبد العزيز وأبي محمد المقدسي وهو قول الأشعري وابن فورك وغيرهما. لكن التوقيف هل المراد به التكليم أو التعريف أو كلاهما؟ هذا فيه نزاع أيضا كما تقدم. فالذين قالوا: إنها غير مخلوقة يقولون: إنها توقيفية وإن التعليم هو بالخطاب فيكون الله قد تكلم بالأسماء كلها وكلام الله غير مخلوق. قال هؤلاء الجهال الضالون: وكلام الآدميين ليس إلا ما يأتلف من الحروف والأسماء وتلك غير مخلوقة. فهذا أيضا غير مخلوق. فبنوا قولهم على أن حروف المعجم غير مخلوقة وأن الأسماء المؤلفة من الحروف غير مخلوقة واعتقدوا مع ذلك أن كلام الآدميين ليس إلا ما يأتلف من الأسماء والحروف وتلك غير مخلوقة فقالوا: كلام الآدميين غير مخلوق؛ لأن مفرداته غير مخلوقة. وإذا ضويقوا. فقد يقولون النظم والتأليف مخلوق وأما نفس المنظوم المؤلف فهو قديم ثم يحسبون أن المواد المنظومة المؤلفة هي أدخل في الكلام من نفس التأليف والنظم كما أن أجزاء البيت هي أدخل في مسماه من تأليفه وإن كان البيت اسما للأجزاء ولتأليفها. وربما طرد بعضهم هذه المقالة في سائر أصوات الآدميين. ولما ألزمهم من خاطبهم بأصوات العباد؛ التي ليست بكلام طرد بعضهم ذلك في الأصوات ثم طرد ذلك في أصوات البهائم: من الحمير وغيرها ويلزمهم طرد ذلك في جميع الأصوات حتى أصوات العيدان والمزامير؛ إذ لا فرق بينها وبين أصوات البهائم. واعلم أن الجهالة إذا انتهت إلى هذا الحد صارت بمنزلة من يقول: إن الوتد والحائط والعجل الذي يعمل منه الجلد كلام الله أو يقول: إن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الكبار أو يقول: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان أو يقول: إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين بالحجرة أو أنهما فرعون وهامان وأنهما كانا كافرين عدوين للنبي ﷺ مثل أبي جهل وأبي لهب أو يقول: إن علي بن أبي طالب هو العلي الأعلى رب السموات والأرض أو يقول: إن الذي صفعته اليهود وصلبته ووضعت الشوك على رأسه هو الذي خلق السموات والأرض وإن اليدين المسمرتين هما اللتان خلقتا السموات والأرض أو يقول: إن الله قعد في بيت المقدس يبكي وينوح حتى جاء بعض مشايخ اليهود فبرك عليه أو أنه بكى حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة وأنه ندم على الطوفان وعض يديه من الندم حتى جرى الدم أو يقول: إن الشيخ فلانا والشيخ فلانا يخلق ويرزق وكل رزق لا يرزقنيه ما أريده أو يقول إن عليا هو الذي كان يعلم القرآن للنبي ﷺ أو يقول: إن صانع العالم لما صنعه غلبت عليه الطبيعة حتى أهلك نفسه أو يقول: إن وجوده ووجود هذا وهذا هو عين وجود الحق وإن الله هو عين السموات والأرض والنبات والحيوان وأن كل صوت ونطق في العالم فهو صوته وكلامه وكل حركة في العالم وسكون فهو حركته وسكونه وإن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإنه لو زالت السموات والأرض لزالت حقيقة الله وإنه من حيث ذاته لا اسم له ولا صفة وإنه لا وجود له إلا في الأعيان الممكنات وإنه الوجود المطلق الساري في المخلوقات: الذي لا يتميز ولا ينفصل عن المخلوقات. إلى أمثال هذه المقالات التي يقولها الغلاة من المشركين والكتابيين. ومن أشبههم من غالية هذه الأمة. فإن المنتسبين إلى السنة والحديث - وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم وإن كان كل خير في غير المسلمين فهو في المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر فكذلك المنتسبة إلى السنة - قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر؛ إذ قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: { لتتبعن سنن من كان قبلكم: حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن }؟ وقال: { لتأخذن مآخذ الأمم قبلكم: شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا: فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء } . وإزالة شبهة هؤلاء تحتاج إلى الكلام في الحروف والأسماء هل هي مخلوقة أم غير مخلوقة وإن كنا قد أشرنا إلى ذلك؛ بل نتكلم على تقدير أنها غير مخلوقة ونقول مع هذا: يجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقا لا يحتاج إلى تفصيل: بأن يقال نظمه وتأليفه مخلوق وحروفه وأسماؤه غير مخلوقة أو تركيبه مخلوق ومفرداته غير مخلوقة فإن هذا التفصيل لا يحتاج إليه. وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه كما قدمناه ليس الكلام اسما لمجرد الألفاظ ولا لمجرد المعاني. وعامة ما يوجد في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة؛ بل وسائر الأمم عربهم وعجمهم من لفظا الكلام والقول وهذا كلام فلان أو كلام فلان؛ فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعا لشموله لهما؛ ليس حقيقة في اللفظ فقط كما يقوله قوم؛ ولا في المعنى فقط كما يقوله قوم. ولا مشترك بينهما كما يقوله قوم. ولا مشترك في كلام الآدميين وحقيقة في المعنى في كلام الله كما يقوله قوم. ومنه قول النبي ﷺ { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } { وقول معاذ له: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } وقوله: { كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } وقوله: { إن أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل } وقوله: { إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند الموت إلا وجد روحه لها روحا. فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } وما في القرآن: مثل قوله: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقوله: { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } ونحو ذلك من أسماء القول والكلام جميعا ونحوهما فإنه يدخل فيه اللفظ والمعنى جميعا عند الإطلاق. وإذا كان كذلك فالمتكلم بالكلام المبتدئ له سواء كان نظما أو نثرا لا ريب أنه هو الذي ألف معانيه وألف ألفاظه؛ وأما مفردات الأسماء والحروف فلا ريب أنه تعلمها من غيره سواء كانت مخلوقة أو غير مخلوقة؛ فإن اللغات سابقة لكلام عامة المتكلمين ونطق الناطقين من البشر وهم تلقوا الأسماء وحروف الأسماء الموجودة في لغاتهم عمن قبلهم إلى أن ينتهي الأمر إلى أول متكلم بتلك الأسماء المفردة. ثم أنه مما علم بالاضطرار واتفق عليه أهل الأرض جميعهم: أن الكلام هو كلام من ألف معانيه وألفاظه وإن كان جميع ما فيه من الأسماء والحروف إنما تعلمها من غيره فالناس مطبقون على أن هذه القصائد كلام منشئيها: مثل شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني: كقوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فجميع الأمم يعلمون ويقولون إن هذا شعر امرئ القيس وكلامه وإن كانت الأسماء المفردة فيه إنما تعلمها من غيره؛ فإن العرب نطقت قبله بلفظ قفا وبلفظ نبك وبلفظ من ذكرى حبيب ومنزل وجميع المسلمين إذا سمعوا قوله ﷺ { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } أو { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } وقوله: { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } قالوا: هذا كلام رسول الله ﷺ وهذا حديثه وهذا قوله مع علمهم أن جميع مفردات هذا الكلام قد كانت موجودة في كلام العرب قبله: مثل لفظ إنما ولفظ الأعمال ولفظ النية والنيات ولفظ كل امرئ ولفظ ما نوى وغير ذلك. وهكذا كلام الصحابة والتابعين وكلام مصنفي الكتب والرسائل والخطب كلهم يقول: هذه الرسالة كلام فلان وهذه الخطبة كلام فلان وهذه المسألة من كلام فلان مع علمهم بأنه مسبوق بمفردات الكلام: أسمائه وحروف هجائه وذلك لأن الكلام لم يكن كلاما باعتبار الألفاظ المفردة ولا باعتبار أجزائها - وهي حروف الهجاء - ولا كان المقصود بوضع اللفظ للمعنى الدلالة على المعاني المفردة فإن المعاني المفردة لا يعلم وضع اللفظ لها إلا بعد العلم بها فلو كان العلم بها لا يستفاد إلا من اللفظ لزم الدور. ولهذا يقول أهل العربية - وهم أخبر بمشبهات الألفاظ من غيرهم -: إن اسم الكلام لا يقال إلا على الجملة المفيدة كالمركبة من اسمين أو اسم وفعل. وقد ذكر ذلك سيبويه حكيم لسان العرب في ( باب الحكاية بالقول حيث ذكر أن القول يحكى به ما كان كلاما ولا يحكى به ما كان قولا والقول إنما تحكى به الجمل المفيدة. فعلم أنها هي الكلام في لغة العرب. وحيث أطلق الفقهاء اسم الكلام على حرفين فصاعدا في ( باب الصلاة فإنما غرضهم ما يبطل الصلاة سواء كان مفيدا أو غير مفيد وموضوعا أو مهملا حتى لو صوت تصويتا طويلا ولحن لحون الغناء أبطل الصلاة وإن لم يكن ذلك في اللغة كلاما. وهم فيما إذا حلف لا يتكلم أو ليتكلمن لا يعلقون البر والحنث إلا بما هو في عرف الحالف كلام وإن كان أخص من الكلام الذي يبطل الصلاة ولهذا لو حلف لا يتكلم وأطلق يمينه حنث بكلام المخلوقين وهل يحنث بتكلمه بالقرآن؟ من العلماء من قال: لا يحنث بحال. ومنهم من قال: لا يحنث بتلاوته في الصلاة. ومنهم من توقف؛ لأن اليمين مرجعها إلى عرف الحالف فعموم اسم الكلام وخصوصه عندهم بحسب الأحكام المتعلقة به. والسلف إذا ذموا أهل الكلام وقالوا: علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح فلم يريدوا به مطلق الكلام وإنما هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين. والخائضون في أصول الفقه وإن قالوا: إن الكلام ما تألف من حرفين فصاعدا أو ما انتظم من الحروف وهي الأصوات المقطعة المتواضع عليها. وتنازعوا في الحرف الواحد المؤلف مع غيره هل يسمى كلاما؟ على قولين؛ كما قال أكثر متكلميهم: إن الجسم هو المؤلف وأقل التركيب من جوهرين وتنازعوا في الجوهر الواحد المؤلف هل يسمى جسما؟ على قولين؛ فهذا اصطلاح خاص لهم. كما اصطلح ( النحاة على أن ( المفرد مثل الاسم وحرف المعنى يسمى كلمة وإن كانت الكلمة في لغة العرب العرباء لا توجد إلا اسما للجملة التامة إلا أن يكون شيئا لا يحضرني الآن. وإذا كان الناس متفقين على أن الكلام هو كلام من ألف ألفاظه ومعانيه وإن كان قد تعلم أسماءه من غيره زالت كل شبهة في المسألة ووجب إطلاق القول بأن كلام الآدميين مخلوق كما يطلق القول بأن هذا الشعر من كلام فلان وهذا الكلام كلام فلان؛ لا كلام الذين تكلموا قبلهم بتلك الأسماء وحروفها؛ فإن كلام الآدميين هو الكلام الذين أنشئوه وابتدءوه فألفوا ألفاظه ومعانيه وإن كان بعضهم قد تعلم أسماءه وحروفه من بعض ولو كانت أسماؤه قد سمعوها من الله تعالى. واعلم أن هنا أمرا عجيبا وهو أن هؤلاء القوم ضد الذين يجعلون القرآن الذي يقرءونه كلام الآدميين لا كلام الله فإن أولئك عمدوا إلى كلام الله الذي يتلونه ويبلغونه ويؤدونه - فجعلوه كلام أنفسهم وهؤلاء عمدوا إلى كلامهم - المتضمن الكفر والفسوق والعصيان والكذب والبطلان - فجعلوه كلام الله الذي ليس بمخلوق. فأولئك لم ينظروا إلا إلى من سمع منه الكلام وهؤلاء لم ينظروا إلا إلى من اعتقدوا أنه تكلم أولا بمفردات الكلام. وأما الأمة الوسط الباقون على الفطرة وجميع بني آدم فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه ولما قرأه من كلام غيره وتلاه. هذا كلام ذاك وإنما بلغت بقواك كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خرج على قريش فقرأ عليهم: { الم } { غلبت الروم } { في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكن كلام الله. وهذا كما قال الله تعالى: { فأجره حتى يسمع كلام الله } وفي سنن أبي داود عن جابر عن النبي ﷺ { أنه كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فيقول: ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي } فبين ﷺ أنما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته كما قال: { زينوا القرآن بأصواتكم } وقال: { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } . والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة من شعر مثل قفا نبك أو هل غادر الشعراء أو خطبة مثل خطب علي وزياد أو رسالة كرسالة عبد الحميد ونحوه أو سجعا من سجع الكهان أو قرآنا مفترى كقرآن مسيلمة الكذاب قالوا: هذا شعر امرئ القيس وكلام علي وكلام عبد الحميد وقرآن مسيلمة وهو كلامه ولم يجعلوه كلاما للمبلغ المؤدي بالواسطة وإن كان بلغه بفعله وصوته وإذا أنشأ رجل قصيدة أو خطبة أو رسالة أو سجعا أو تكلم بكلام منثور: آمرا أو مخبرا قالوا: هذا كلام فلان وقوله وإن كان قد تعلم مفرداته من غيره وتلقنها من أحد. فمن قال: إن الكلام هو كلام لمن تعلم منه المفردات فهو أبعد عن العقل والدين ممن قال: إن الكلام لمن بلغه وأداه وإنما الكلام كلام من اتصل به واتصف به وألفه وأنشأه وكان مخبرا بخبره وآمرا بأمره وناهيا عن نهيه.