الرئيسيةبحث

القضاب المشتهر على رقاب ابن المطهر

القضاب المشتهر
على رقاب ابن المطهر
  ► ☰  
بسم الله الرحمن الرحيم

الله أحمد على ما أطلق به لساني وأظهر بنطق بياني من تنزيهه عما نسب إليه الملحدون، وافترى عليه وعلى نبيه الضلال الجاحدون، الذين عجزت أفهامهم عن إدراك الحق بالتحقيق وعزبت عن الوصول إلى علم الكتاب والسنة إلا بالتصديق، وعمي عليهم لفرط ضلالهم الصراط المستقيم وسواء الصراط، وحادوا عن نهج الهدى وواجب التوفيق، ومالوا إلى عصبة العصيان بالعصبية القاتلة إلى الدرك الأسفل اصطلاء الحريق. وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له، شهادة من علم أن الدواهي استدفع بها الدواهي وأنها من أشرف ما يقال وعثار الإلحاد فيه لا يقال... وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أتم له الأمن، أدرك ما أمله ولا حل مغني اتباعه وقوي به الأمن، عادت عليه عواديه ثواب ﷺ من جوهر فطر الله، وعلى آله الذين جعلهم الله أطهر آل، وعلى أصحابه الذين إليهم دين الحق.

أما بعد، يقول أحقر العباد الملتجئ إلى حرم الله تعالى محمد بن يعقوب الفيروآبادي، جعله الله إلى كل خير وحق قائدا، ومن كل سوء وباطل صادا زاهدا، وعلى رضاه فيما يقضي وفيما قضى راقدا:

إني نظرت إلى هذا الكتاب المنسوب إلى بعض غلاة الرافضة المحرومين عن قوى العاصمة والحافظة، قد أتى مما لا يحل من الأحاديث الموضوعة والأخبار المطروحة المفتراة ما لا يرضى بذكره إلا جاهل أو زنديق في أمر الدين، متحامل متساهل في هذه الأحرف، فواجب لاعناق بقبائه باتكه وشوارع لإطباق نفاقه وإحقاق نفاقه هاتكه، وسميته بالقضاب المشتهر على رقاب ابن المطهر. على الله أعتمد وبالله نعتضد في صحة ما إلى الكتاب والسنة نعزو ونستند، وبالله التوفيق.

إن مقالات هذا التأويل ليست صالحة لأن تذكر فصلا فصلا، لأنه لم يوجد لشيء منه إلا الشاذ النادر صحة ولا أصل له، فنذكر أصل مدعاه وما يصح من دلائله، ونعرض عما سواه من القول الفاسد وقابله.

ادعى أن عليا «رضي الله ع» أفضل الخلق بعد رسول الله ﷺ. وذكر على هذا دلائل.

منها أنه كان أكثرهم علما.

قلنا: هذا كذب صريح بحت، لأن علم الصحابي إنما يعلم بأحد وجهين: أحدهما كثرة روايته وفتواه. والثاني كثرة استعمال النبي ﷺ إياه. فمن المحال أن يستعمل النبي ﷺ من لا علم له، وهذه أكبر الشهادات وأبينها على العلم وسعته. فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي قد ولى أبا بكر للصلاة بحضرته طول أيام علته، وجميع أكابر الصحابة حضور، كعلي وعمر وابن مسعود وأبي وغيرهم، وآثره بذلك على جميعهم، وهذا خلاف استخلافه ﷺ في الغزوات، لأن المستخلف في الغزو لم يستخلف إلا على النساء والصبيان وذوي الأعذار فقط، فوجب ضرورة أن يعلم أن أبا بكر أعلم بالصلاة وشرائعها، وأعلم من المذكورين، وهي عمود الدين. ووجدناه ﷺ استعمله على الصدقات، فوجب أن يكون عنده علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل، وربما كان أكثر. أما ترى الفقهاء قاطبة إنما اعتمدوا في الحديث الذي رواه أبو بكر «رضي الله ع» في الزكاة وجعلوه أصلا فيها، ولم يعرجوا على ما رواه علي «رضي الله ع». وأما الحديث الذي رواه علي «رضي الله ع» فأعرضوا عنه بالكلية وطريقه مضطرب وفيه ما لم يقل به أحد من الأئمة، فإن فيه: "في كل خمس وعشرين من الإبل خمس شياه لا غير" هذا مما لا قائل به، فكان أبو بكر «رضي الله ع» أعلم بالزكاة التي هي أحد أركان الدين.

وأما الحج، فإنه لما فرض سنة تسع على الصحيح بادر ﷺ وجهز المسلمين حيث لم يتفرغ بنفسه، لبيان جواز التأخير، وأمّر عليهم أبا بكر «رضي الله ع» لتعليم الناس المناسك. ومن المستحيل تقديمه في هذا الأمر الخطير المشتمل على علوم لا يشتمل عليها شيء من قواعد الدين فيه وثمَّ من هو أعلم منه.

ولما كانت سورة براءة مشتملة على كثير من المناسك وعلى مناقب أبي بكر، أرسل عليا «رضي الله ع» ليقرأها على الناس. فلما قدم قال له أبو بكر: أميرا أو مأمورا؟ فقال: بل مأمور. فقرأها على الناس ليسمع الناس مناقب أبي بكر من لسان علي «رضي الله ع» فيكون أوقع في النفوس وأدخل في القلوب والرؤوس ويكون أعلن في إظهار فضل أبي بكر وأدل على علو قدره.

وأما قول المارق إن النبي ﷺ ربما استعمل أبا بكر لدفع شره والمنع من إذاعة سره، فلا دليل فيه على شرفه؛ فكلام يشم منه رائحة الكفر والعناد، وبرهان على جهل قائله بالأحاديث الصحيحة والمشحونة بها دواوين الإسلام، كما سنبينه قريبا في بابه. ونعوذ بالله من الخذلان.

ثم وجدناه استعمله على البعوث، [فصح أن عنده من علم أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله ﷺ على البعوث] في الجهاد، فعند أبي بكر «رضي الله ع» من الجهاد والعلم فيه كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث، لا أكثر ولا أقل.

فقد صح التقدم لأبي بكر على علي وسائر الصحابة في علم الصلاة والزكاة والحج، وساواه في الجهاد، فهذه أعمدة العلم.

ثم وجدناه ﷺ قد ألزم نفسه ﷺ في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر، فشاهد أحكامه وفتاويه [أكثر من مشاهدة علي «رضي الله ع»، فصح أن أبا بكر أعلم بها. فهل بقيت من العلم بقية إلا وهو المقدم فيها. فبطل دعواهم في العلم.

وأما الرواية فأمر أوضح من الشمس، وبيانه أظهر من وضح النهار أنه كان أرسخ قدما فيها. وذلك أن أبا بكر لم يعش بعد رسول الله ﷺ غير سنتين وستة أشهر، وهو لم يبرح من طيبة إلا لحج أو عمرة، لا غرب ولا طاف البلاد كغيره، والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إذ ذاك متوافرون وقريبو العهد بصحبة النبي ﷺ، عند كل أحد من العلم والرواية ما يحتاج إليه غالبا. ومع ذلك روي له عن رسول الله ﷺ مائة وستة وثلاثون حديثا. وعلي «رضي الله ع» عاش بعد رسول الله ﷺ ثلاثين سنة، مشرقا ومغربا ظاعنا من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر، وسكن الكوفة أعواما، وكثر احتياج الناس إلى الأحاديث والعلم وتزاحم عليه السؤال والمقتبسون وتراكم لديه طالبو الرواية والمسترشدون، ولم يرو مع ذلك سوى خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثا، يصح منها خمسون حديثا. فإذا نسبت مدته إلى مدته وعدد أحاديثه إلى عدد أحاديثه تبين لك أن أبا بكر أكثر حديثا وأكثر رواية من علي «رضي الله ع» بشيء كثير. وهذا ما لا يخفى على أحد. مع هذا عاش علي «رضي الله ع» بعد عمر «رضي الله ع» مدة سبعة عشر سنة وسبعة أشهر. ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون [حديثا]، يصح منها خمسون حديثا. فالذي يصح من حديث عمر مقدار الذي يصح من حديث علي إلا حديثا أو حديثين. فانظر إلى هذه المدة الطويلة ولقاء الناس إياه وكثرة الحاجة من المسلمين إلى الرواية، ولم يزد على عمر إلا حديثا وحدثيين. فعلم أن أن علم عمر كان أضعاف علم علي بذلك.

وبرهان ذلك أن كل من طال عمره من الصحابة نجد الرواية عنه أكثر، ومن قصر عمره قلّت روايته. وعلي مع طول عمر مدته قلت روايته. فعلم أن علم أبي بكر كان أضعاف ما كان عند علي من العلم. والله أعلم.

ومنها أنهم قالوا كان علي أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا في الجهاد، والجهاد أفضل الأعمال، فكان علي أفضل الرجال.

قلنا: هذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: الأول الدعاء إلى الله تعالى باللسان، والثاني الجهاد بالتدبير والرأي، والثالث الجهاد بالطعن والضرب في المعارك.

فوجدنا القسم الأول هو الجهاد في اللسان لا يلحق فيه سوى أبي بكر، فإنه أسلم على يديه أكابر الصحابة. وليس لعلي من هذا كثير حظ. وأما عمر فإنه من يوم أسلم وجهاد المشركين بعده بمكة عز الإسلام وعبد الله سبحانه جهارا، وهذا أعظم الجهاد. [1] وهذان الرجلان خصا بهذا القسم من الجهاد ولا يشركهما في ذلك أحد وانفردا بذلك، وليس لعلي «رضي الله ع» في هذا حظ أبدا.

وأما القسم الثاني، وهو الجهاد بالرأي والتدبير والمشورة، فقد جعله الله خالصا لأبي بكر ثم لعمر.

وأما القسم الثالث، وهو الطعن باليد والمبارزة في القتال، فوجدناه أقل مراتب الجهاد، وبرهان ذلك ضروري، وهو أن رسول الله ﷺ لا يشك مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، ووجدنا جهاده إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والرأي الصالح، وكان أقل عمله الطعن والضرب.

وقد رأيت قول المؤلف رحمه الله في ميسرة الهيئة وأنا معتكف إذ ذاك بالمسجد الأقصى وقلت: يا رسول الله ﷺ صدقوا يا رسول الله أنك شجاع، فقال ﷺ: "أنا أشجع الشجعان.. " المنام بطوله.

وهذا مما لا يتردد فيه ذو دين وعقل، ولكنه ﷺ كان مؤثرا الأفضل فالأفضل فيقدمه ويشتغل به. ووجدناه ﷺ يوم بدر كان أبو بكر معه لا يفارقه إيثارا من رسول الله ﷺ بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه. ثم عمر ربما شورك في ذلك.

ومنها أنهم قالوا كان علي أقرأ الصحابة للقرآن، فكان أفضل.

قلنا: هذه فرية بلا مرية لوجوه.

أولها أن رسول الله ﷺ قال: "يؤم القوم أقرؤهم فإن استووا فأفقههم فإن استووا فأقدمهم هجرة". ثم رأيناه ﷺ قد قدّم أبا بكر في الصلاة أيام مرضه، فصح أنه «رضي الله ع» كان أقرؤهم وأفقههم وأقدمهم هجرة. وقد يكون من لم يحفظ القرآن كله على ظهر قلبه أقرأ وأعلم بالقراءة ممن حفظه كله وجمعه عن ظهر قلب، فيكون حفظه أفصح لفظا وأحسن ترتيلا وأعرف بمواقف الآي ومبادئها. على أن أبا بكر وعمر وعليا لم يستكمل أحد منهم حفظ القرآن، فعلمنا يقينا أنه كان أقرأ من علي لتقديمه ﷺ إياه على الصلاة وعلي حاضر. وما كان ﷺ ليقدم الأقل علما بالقراءة على الأقرأ ولا الأقل فقها على الأفقه. فبطل ما قالوه، وبالله التوفيق.

ومنها أنهم قالوا كان أزهد الصحابة فكان أفضل.

قلنا: هذا بهتان بين. وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الأولاد والحواشي.

فأما عزوف النفس عن المال فقد عُلم أن أبا بكر أسلم وله مال [كثير]. وجاهر بقلة الحياء من أنكر ذلك فقال كان فقيرا محتاجا وأبوه كان أجيرا لابن جدعان على مدّ يقتات به. بل كان أبو بكر ذا مال جزيل ينيف على أربعين ألف درهم، فأنفقها كلها في الله وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله سبحانه وتعالى، ولم يعتق عبدا ذا معونة بل كل معذب ومعذبة في الله. إلى أن أذن الرسول ﷺ في الهجرة، وما كان بقي لأبي بكر «رضي الله ع» من المال غير ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله ﷺ، ولم يبق لأهله منها درهما فردا. ثم أنفقها كلها في سبيل الله حتى لم يبق له شيئا، وصار محلى بعباءة له إذا نزل فرشها وإذا ركب لبسها. وأما غيره من الصحابة فقد تمولوا واقتنوا الضياع والرباع من حلها وطيبها، إلا من آثر في سبيل الله زهدا.

ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال. وعُد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه، ثم أمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمقاسم مع رسول الله ﷺ.

فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه أحد من الصحابة إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين، فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله ﷺ. وتوسع من سواهم من الصحابة في المباح الذي أحله الله لهم، إلا أن من أثر على نفسه أفضل. ولقد اتبع أبا بكر عمر في هذا الزهد.

وأما علي «رضي الله ع» فتوسع في الباب من حله. ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد، سوى الخدم والعبيد، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى، وقيل عن أربعين ولدا إلا واحد ما بين ذكر وأنثى، ذكره المزي والذهبي في التهذيب والتذهيب. وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء في قومهم. ومن جملة عقاره ينبع التي تصدق بها، كانت تغل ألف وسق تمرا سوى زرعها. فأين هذا من ذاك.

وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا بين. فقد كان لأبي بكر من ذوي القرابة مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي ﷺ صحبة قديمة وفضل ظاهر، فما استعمل أحدا منهم على شيء من الجهات، ولو استعملهم لكانوا أهلا لذلك، ولكن خشي المحاباة وتوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى.

ثم جرى عمر مجراه في ذلك، فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد، وقد فتح الشام ومصر ومملكة الفرس وخراسان، إلا النعمان بن عدي على ميسان ثم أسرع إلى عزله، ثم لم يستخلف ابنه عبد الله بن عمر وهو من أفاضل الصحابة، وقد رضي الناس به وكان أهلا لذلك، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد، فما فعل.

ووجدنا عليا «رضي الله ع» إذ ولي قد استعمل أقاربه: عبد الله بن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وقثم ومعبدا ابني عباس على مكة والمدينة، وجعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان. وأمر ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة بعده. ولسنا ننكر لاستحقاق الحسن للخلافة ولا لاستحقاق ابن العباس للخلافة، فكيف إمارة البصرة. لكنا نقول إن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وفي تأمير مثل طلحة وسعيد بن زيد، تم زهده [في الفصل: "فلا شك في أنه أتم زهدا"] ممن أخذ منها ما أبيح له أخذه. فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد الصحابة كافة ثم بعده عمر.

ومنها قولهم إن عليا «رضي الله ع» كان أكثر الصحابة صدقة.

قلنا: هذه قحة وقلة حياء ومجاهرة بالباطل، لأنه لا يعرف لعلي مشاركة ظاهرة في المال. وأمر أبي بكر في إنفاق جميع ماله أشهر من أن يخفى. ثم لعثمان من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره. فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغناء في الإسلام من علي «رضي الله ع».

ومنها قولهم إن عليا كان أسوس الخلق، فكان أحق بالإمامة.

وإن هذا بهتان لائح لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالسير وتواريخ السلف. بيانه أنه ﷺ لما توفي وارتدت العرب الممتنعون عن أداء الزكاة إلى أبي بكر واختل نظام الإسلام وتمزقت الأهواء وركب كل رأسه واختلفت آراء الصحابة في قتالهم وتركهم، ولم يتزلزل رأي أبي بكر وثبت جأشه للتصميم على قتالهم وقال: "والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم حتى تنفرد سالفتي أو ينفذن الله أمره". ولم يزل حتى ردهم إلى الإسلام وأعادهم إلى أحسن النظام. ثم إنه لم يزل يسوس أمر الإسلام حتى حكم على رقاب الأكاسرة وملوك الفرس وحلّهم عن سرير ملكهم، فأخضعهم وأذلهم وفتح الله عليه ما فتح من الأمصار والمدن الكبار، وهو بالمدينة [مقيم] لم يبرح منها.

ثم من بعده عمر حذا حذوه وقفا أثره وسار بسيرته وساس بسياسته، مقتديا بآثاره مهتديا بأنواره، إلى أن فتح الممالك وأمّن المسالك واتصل الإسلام من مبتدإ مصر والشام إلى أقصى بلاد الهند. وملكوا بلاد العجم من أذربيجان وخراسان وفارس وكرمان. ثم من بعده عثمان.

ولما صارت الخلافة والولاية لعلي «رضي الله ع» كان في أيامه ما كان، وحصل للمسلمين من الاضطراب والاكتراب في كل قطر ومكان، ووقع من الفتن ونصب القتال ما قتل فيها من الصحابة والتابعين ما يفيق على مائة ألف أو يزيدون، وشغلهم ذلك الأمر عن أن يفتحوا مدينة بل ولا قرية أو يزيدوا في ممالك الإسلام ضيعة أو مزرعة، وربما ضعف الحال إلى أن استولى الكفار على أماكن استعادوها وجماعات من المسلمين أهلكوها وأبادوها. فأين السياسة من السياسة.

ومنها أنهم قالوا كان علي «رضي الله ع» أقرأ الصحابة وأتقاهم.

وبطلان هذه الدعوى ظاهر لمن له أدنى إلمام بمعرفة الصحابة. ونحن نوضحه للجاهل بوجوه. منها أن هذا الكلام والدعوى رد لقول رسول الله ﷺ الثابت عنه في جميع الكتب الصحاح من دواوين الإسلام. وقد تقدم مبينا موضحا، والحمد لله تعالى.

وأما التقوى، فلقد كان علي رضي الله عنه وأرضاه تقيا نقيا، إلا أن الفضائل يتفاضل فيها أهلها، وما كان أتقاهم له إلا أبا بكر. والبرهان على ذلك أنه لم يسؤ قط أبو بكر رسول الله ﷺ في كلمة، ولا خالف إرادته في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد. وقد تكلم رسول الله ﷺ على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما عُرف. وما وجدنا قط لأبي بكر توقفا عن شيء أمره به رسول الله ﷺ [إلا مرة واحدة عذره] فيها وأجاز له فعله، وهي إذ أتى رسول الله ﷺ من قباء فوجده يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر تأخر وأشار إليه النبي ﷺ أن أقم مكانك، فحمد الله أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف، وتقدم رسول الله ﷺ فصلى بالناس، فلما أتم قال له النبي ﷺ: «ما منعك أن تثبت حين أمرتك» فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ.

فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله ﷺ. وما أنكر ﷺ ذلك عليه. وإذ قد صح أن أبا بكر أعلم الصحابة فقد وجب أنه أخشاهم لله تعالى. قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} والتقوى هي الخشية لله.

قالوا: لو كانت إمامة أبي بكر حقا لما تأخر علي عن بيعته ستة أشهر.

قلنا: نعم مثل ذلك، لكن لما ظهر له الحق رجع وتاب واعترف بالخطأ. وبيان ذلك أنه إذا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر، تأخره عنه ستة أشهر لا يخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون مصيبا في تأخره فقد أخطأ [إذ بايع]، وإما أن يكون مصيبا ببيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها. وأما الممتنعون عن بيعة علي، وهم جمهور الصحابة، فلم يعترفوا بالخطأ، بل منهم من كان عليه ومنهم من لا له ولا عليه، وما تابعه منهم إلا الأقل، سوى أزيد من مائتي ألف مسلم بالشام ومصر والعراق والحجاز كلهم امتنع عن بيعته، وحكمهم في ذلك حكم علي «رضي الله ع» في مدة تأخره عن بيعة أبي بكر.

وإذا بطل كل ما ادعاه الرافضة والضلال المردة الجهال، صح أن أبا بكر «رضي الله ع» هو الذي فاز بالسبق والحظ في العلم والقراءة والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والطاعة والسياسة. فهذه وجوه الفضل كلها، فهو بلا شك أفضل الصحابة كافة.

ولم نحتج عليهم بالأحاديث، لأنهم لا يصدقون أحاديثنا وإن كانت مما يجب تصديقه لكونه المتواتر متنا والمشهور [أثرا]، فإن صحيحي البخاري ومسلم قد تلقتهما الأمة بالقبول، والأمة معصومة من الإجماع على ضلال وباطل. ونحن لا نصدق أحاديثهم التي انفردوا بها، لأن بطلانها وفريتها ثابت بشهادة من طعن فيها من الأئمة الثقات والأئمة الأثبات، كالإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس وأبي عبد الله أحمد بن حنبل وأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأضرابهم. ونحن اقتصرنا في الرد عليهم على البراهين الضرورية بنقل الكواف عن الكواف.

وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه، لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير الخصم يومئذ مكابرا منقطعا إن ثبت على ما كان عليه. إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها. منها قول رسول الله ﷺ لعلي «رضي الله ع»: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

وإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم بالفضائل فأبو بكر أحق بها. فكيف والنص على خلافته صحيح. وإذ قد صحت إمامة أبي بكر فطاعته فرض في استخلافه عمر بما ذكرنا، وبإجماع المسلمين عليها. ثم أجمعت الأمة جميعا بلا خلاف على صحة إمامة عثمان.

وأما خلافة علي فحق لا شك فيه ولا ريب، ولكن لا بنص ولا بإجماع بل ببرهان آخر. وذلك أنه إذا مات الإمام ولم يعهد إلى أحد فبادر رجل مستحق الإمامة ودعا إلى نفسه ولا معارض له ففرض اتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته. وهكذا فعل علي «رضي الله ع» فوجب اتباعه. وكذلك فعل ابن الزبير. وقد فعل قبلهما خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة، فأخذ خالد اللواء عن غير إمرة وصوّب ذلك رسول الله ﷺ إذ بلغه، وساعد خالد في جميع ذلك المسلمون.

ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عز وجل: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فهذه فضيلة لا خلاف بين المسلمين في أبي بكر، فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه معه وفي أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار. وأعظم من ذلك كله: أن الله معهما. وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.

وقد اعترض على هذا بعض السفهاء فقال: قال الله عز وجل: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا} قال: وقد حزن أبو بكر فنهاه ﷺ عن ذلك، فلو كان حزنه [رضى لله] عز وجل لما نهاه رسول الله ﷺ.

وهذه مجاهرة بالباطل. أما قوله عز وجل: {فقال لصاحبه وهو يحاوره} فقد أخبرنا بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر به وبأنهما مختلفان، وإنما سماه صاحبه في المجاورة والمجالسة فقط، كما قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب. وليس هكذا قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله تعالى لهما وفي كونه تعالى معهما. فهذه الصحبة غاية الفضل، وتلك غاية النقص بنص القرآن.

وأما حزن أبي بكر فإنه قبل أن ينهاه رسول الله ﷺ كان غاية الرضا لله عز وجل، لأنه كان إشفاقا على رسول الله ﷺ ولذلك كان الله معه، وهو سبحانه لا يكون مع العصاة بل عليهم. وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله ﷺ عن الحزن، ولو كان لهذا المعترض حياء أو دين لما أتى بمثل هذا السخف والحماقة في هذا المعرض العظيم، إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على رسول الله ﷺ وعلى موسى عليه السلام [عيبا] لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} ثم قال: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} فهذا موسى عليه السلام رسول الله وكليمه أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن معه هم الغالبون، ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه: {لا تخف} فهذا أشد من أمر أبي بكر. وأما النبي ﷺ فإنه خوطب من الله تعالى بقوله: {ومن كفر فلا يحزنك كفره} وقوله: {ولا تحزن عليهم} {فلا يحزنك قولهم} وقوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقوله تعالى: [{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}] وقد أخبرنا الله عز وجل بحزنه وقد نهاه عن ذلك، فلزم في حزن رسول الله كالذي أرادوا في حزن أبي بكر. ثم إن حزن رسول الله ﷺ بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه عن الحزن، فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يومئذ، فإن نهي النبي ﷺ أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه ﷺ: {{ولا تطع منهم آثما أو كفورا }].

وأما تأويلهم لقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } وأن المراد علي «رضي الله ع».

فهذا لا يصح أصلا، بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك. وهو الذي اختاره المحققون من المفسرين، كالإمام وغيره. وأيضا هذا التأويل والتخصيص يؤدي إلى اختلال نظم السورة، فإنه لا يتعلق بشيء مما قبلها وما بعده، بل كلام أجنبي يتوسط نظم السورة. وإن سلمنا أنه المراد فلا دلالة فيه على كثير فضل واختصاص من مزية، فإنه صفة يتصف بها أكثر الصالحين.

وأما الأحاديث في الباب في ذكر الفضائل لأبي بكر لا يشاركه فيها أحد فكثيرة:

كقوله في أبي بكر: «دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت» وقوله: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي» وهذا الذي لا يصح لغيره. وأما أخوة علي «رضي الله ع» فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف.

ومنها أمره ﷺ بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر. وهذا الذي لا يصح غيره. وقد قلب الرافضة قوله أنهم خذلهم الله متشبثين بحديث رواه زيد بن أرقم بسند مظلم، فجعلوه لعلي «رضي الله ع»، وأن الباب والخوخة كان له ومنع عن سده، سد الله أفهامهم من البواطل. وإذا لم تستح فاصنع ما شئت. وإن وجد لهذا الحديث سند فلا يبلغ درجة الحديث الذي رواه الشيخان في صحيحهما.

ومنها غضبه ﷺ على من أشار عليه بغير أبي بكر في الصلاة.

ومنها قوله ﷺ: «إن أمنّ [الناس علي] في صحبته وماله أبو بكر».

ومنها ما هو عمدة المسلمين في فضل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة قوله ﷺ إذ سُئل: من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» قيل: ثم من يا رسول الله؟ قال: «عمر».

والذي صح في فضائل علي «رضي الله ع» قول رسول الله ﷺ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وقوله ﷺ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» وهذه صفة موجودة لكل مؤمن وفاضل. وقوله ﷺ فيما عهد إلى علي «رضي الله ع»: «إنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» صح مثل هذا في الأنصار رضي الله عنهم: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق» وأنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر.

وأما حديث: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فلا يصح من طريق الثقات أصلا. والزيادة التي ألحقوا به: "اللهم وال من والاه وعادي من عاداه" وسائر الأحاديث التي يتعلق بها الرافضة فمرفوضة مفتراة لا يساوي مدادها ولا يحل نقلها ولا تضييع الورق بإثباتها، فإنها معلومة البطلان عند أئمة الحديث وأئمة العلم.

ثم اعلم أن هذه الأحرف منا في الرد على من لا يستحق الجواب تبرع وتنبيه لمن يكون خالي الذهن فيعشعش فيه شيء من هذه الخرافات التي لم يستحوا من ذكرها وضيعوا السواد والبياض في سطرها، وذلك بما ثبت عندنا من قول الإمامية في كثير من كتبهم كلهم قديما وحديثا إن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص فيه وبدل منه كثير. خلا علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن جعفر، كان إماميا يظهر الاعتزال مع ذلك فإنه ينكر هذا القول وكفّر قائله، وكذلك صاحباه أبو يعلى وأبو قاسم الرازي. وأما سائر الإمامية على ما ذكرناه. ومن كان [هذا] دينه ومعتقده ومذهبه كيف يؤهل للجواب إلا بالمخذم السيف القطاع القضاب.

ثم إن المصنف غير المنصف، [أعني ابن المطهر]، قد حدث بسند ثبت عندي بخط ولده الفخر محمد وقد حدثني به عن والده عن مشايخه عن علي بن أبي طالب «رضي الله ع» أنه سئل عن أبي بكر وعمر فقال: إمامان عادلان مقسطان كانا على الحق والحق معهما. وإذا ثبت ذلك عن علي بطل جميع ما تعلقوا به من الأقاويل والتهاويل المحضة.

ثم إنا روينا بسند صحيح لا... فيه من عند الإمام أحمد وغيره عن محمد بن الحنفية «رضي الله ع» أنه قال: سألت عليا «رضي الله ع»: من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ فقال: أبو بكر، فقلت: ثم من؟ قال: عمر، فخفت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين. قد صدق علي «رضي الله ع» ولم يقله تقية ولا خوفا ولا مدحا بالباطل، فلم يبق إلا الجزم ببطلان قول من قال بخلافه والسعي في إعلام ما أثبتوه من ذلك وإخلافه. وقد كفانا مؤنة الجدال ونفى عنا أعباء القيل والقال ما أخبرنا به الإمام السند عز الدين عن الشيخ فخر الدين بن البخاري عن الإمام أبي الفرج الأموي، هو ابن الجوزي أورده في الحدائق، عن عبد الله بن محمد القزاز عن أبي الحسين المهتدي قال: حدثنا ابن القاسم بن حبابة قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن العباس الوراق قال: حدثنا أحمد بن منصور قال: حدثنا أحمد بن مصعب من أهل مرو قال: حدثني عمر بن إبراهيم بن خالد القرشي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان، وكان قد أدرك النبي ﷺ، قال: لما قبض أبو بكر وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله ﷺ، قال: فجاء علي بن أبي طالب مستعجلا مسرعا وهو يقول: اليوم انقطعت [خلافة] النبوة، حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر مسجى فقال: رحمك الله يا أبا بكر، فلقد كنت إلف رسول الله ﷺ وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشورته. وكنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا وأخوفهم لله وأعظمهم غنى في دين الله وأحوطهم على رسول الله ﷺ وأحدبهم على الإسلام وآمنهم على الصحابة وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله ﷺ هديا وسمتا ورحمة وفضلا، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله ﷺ أفضل الجزاء، صدّقت رسول الله ﷺ حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمّاك الله في تنزيله صديقا فقال: {والذي جاء بالصدق}: محمد، {وصدق به}: أبو بكر. وواسيت حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، {ثاني اثنين} وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله وأمته. أحسنت الخلافة حين ارتد الناس، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، نهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله ﷺ إذ وهموا، كنت خليفتهم [حقا] لم تنازع ولم تصدع برغم المنافقين وكبت الحاسدين وصغر الكافرين وغيظ الباغين، قمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت إذ تعتعوا، ومضيت إذ وقفوا، فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم وقارا، وأقلهم كلاما، وأصدقهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم نفسا، وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين نفر عنه الناس، وأخيرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما حين صاروا [لك] عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وعلمت ما جهلوا وشمرت إذ خفضوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت آثار ما طلبوا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا ولهبا، وللمسلمين غيثا وخصبا؛ طرت والله بغنائها، [وفزت بخبائها، وذهبت بفضائلها، وأدركت سوابقها، لم تقلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك}، ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك، فلذلك كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف، كنت كما قال: ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين الناس، كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لأحد فيك مطعن، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ [له] بحقه، [والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق]، القريب والبعيد عندك في ذلك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم. شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحسم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم ما حلمت، [فأقلعت] وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك الدين، وقوي الإيمان، وثبت الإسلام والمؤمنون، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون؛ فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالخير فوزا مبينا، فجللت عن البكاء، وعظمت رتبتك في السماء، وجلت مصيبتك في الأنام؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا من الله عز وجل قضاءه، وسلمنا لله أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله ﷺ بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا، وللمؤمنين فيئة وحصنا، وعلى المنافقين غلظة وغيظا؛ فألحقك الله بنبيك ﷺ، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، وإنا لله وإنا إليه راجعون. فسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا بكاء حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله ﷺ.

قال عبد الباقي بن قانع: كان أبو محمد الحسن بن طاهر العلوي يأنس بي، فدخلت فقال لي: الحديث الذي يروى عن علي بن أبي طالب «رضي الله ع» أنه دخل يوم موت أبي بكر فقال أنت أنت ومدحه، صحيح؟ قلت: نعم، قال: اكتبه لي، فوعدته أن أكتبه، فلما أتيت منزلي وتوسدت فراشي وتفكرت وقلت: هذا علوي ومتى كتبت له فسد ما بيني وبينه من المدة، فبدى لي أن لا أكتبه وما علم بذلك إلا الله عز وجل، فلما أصبحت صليت الغداة ودخلت إلى منزلي وإذا أبو الفضل عبد السميع الهاشمي على الباب يسلم، قلت: ادخل، فلم يدخل وقال: اخرج إلي، فخرجت فقال: أي شيء أصبت البارحة؟ فضحكت وقلت: جئت بعجائبك، أي شيء أصبت؟ قال: رأيت كأني دخلت أنا وأنت مسجد جامع المدينة وإذا بالنبي ﷺ على سرير وأصحابه متفرقون في المسجد حلقا حلقا، فوقفت أنا وأنت على حلقة فيها أبو بكر «رضي الله ع»، فسلمت عليه فرد علي[ك] وسلمت عليه فلم يرد، فقلت: يا خليفة رسول الله ليس بمتهم عليكم، فقال أبو بكر: صدقت، ولكنه صحيح. فعملت الخبر فأخذته وكتبته وجئت به إليه وما زلت أبثه في الناس. هذا حديث صحيح ونص على أفضلية أبي بكر صريح وبيان عن علي في محل النزاع فصيح. والحديث يقول شرح لما رواه ابن المطهر بسند المتقدم المتوج بأهل البيت عليهم السلام من قول علي «رضي الله ع»: إمامان عادلان مقسطان كانا على الحق والحق معهما. ونحن ما نقول إلا ما قاله علي «رضي الله ع» ولا نعتقد إلا ما اعتقده، ومن زاغ عن معتقد علي وما يدين الله به من فضل أبي بكر فعليه بهلة الله، أي لعنة الله، وأنه لا يستحق الجواب عن أقل القليل. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله وحده.

فإن قال قائل إن أبا بكر مسبوق بالإسلام، وقد روي أن خديجة أول من أسلم، وقيل إن أول من أسلم زيد بن حارثة.

قلت له: إن الروايات قد اختلفت في هذا، ولكن أسانيد الأخبار التي فيها تقدم إسلام أبي بكر أصح ورجالها أعرف وأشهر. والناس كل منهم إنما يقولون في مثل هذا بما يبلغه من الخبر. والجلية في قول رسول الله ﷺ وفي خبره، وهو إعلام في تقدم إسلامه منهم وما تأخر. وقد روي بسند صحيح عن عمرو بن عبسة وكان يقول: أنا رابع الإسلام، فقال: أتيت رسول الله ﷺ وهو متخف بمكة فقلت: ما أنت؟ قال: «نبي» فقلت: وإلى ما تدعو؟ قال: "إلى عبادة الله ونبذ الأصنام" قلت: فمن يتبعك على هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد» يعني أبا بكر وبلالا.

فهذا قول النبي ﷺ في إسلامه وتقدمه إسلام الناس كلهم، ولا يجوز أن يكون أحدا أخبر بذلك وأعلم به منه.

غير أن إسلام علي في ذلك الوقت إسلام تلقين وتربية، لأنه أسلم وهو ابن تسع سنين في قول الأكثرين، وقد قيل ما هو أقل منه. فنشأ مع رسول الله ﷺ وتصرف معه على أطواره، فلم يكن لصباه يهاج ولا يؤذى بقول ولا يقصد بمكروه وفعل. وكان مع ذلك ابن أبي طالب وهو رئيس قريش وزعيم في بني هاشم، فلم يكن لتخفر ذمته في ولده ولا تستباح حرمته فيه.

وأما أبو بكر فإن أسلم محتنكا في السن، وكان من شيوخ قريش وعلمائها ومباشريها. وكان له مجلس يغشى فيجلس إليه الناس ويتحدثون بأيام العرب ويتدارسون أخبارها. وكان مقبول القول، فيجلس مقدما في الرأي محببا في قريش، فأشفقوا في إسلامه وخافوا أن يستميل قلوبهم ويفسد عليهم دينهم، فألحوا عليه أشد الإلحاح أن آذوه الأذى وجفوه أقبح الجفاء، إلى أن ترك بلده وفارق أهله ووطنه، فضرب في الأرض فرده ابن الدغنة إلى مكة وعقد له ذمة وجوارا، وقال لقريش: إن مثل أبي بكر لا ينفى، وهو رجل يقري الضيف ويكسب المعدوم ويحمل الكل ويعين في النائبة. ولبث حينا في جوار ابن الدغنة، ثم شكاه قريش إليه لما رأوا من حرصه على إظهار الدين واستمراره عليه، فرد على ابن الدغنة جواره فقال: قد رضيت بجوار الله ورسوله.

فلم يعلم أحد من الصحابة كان أكثر نفعا للمسلمين وأشد احتمالا لأذى المشركين من أبي بكر «رضي الله ع».

والحمد لله أولا وظاهرا، حمدا كثيرا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

هامش

  1. في الفصل لابن حزم: "وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهرا وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد".