الشاعر و الملك الجائر
الشاعر و الملك الجائر المؤلف: إيليا أبو ماضي |
أمر السلطان بالشاعر يوما فأتاه
في كساء حائل الصّبغة واه جانباه
و حذاء أوشكت تفلت منه قدماه
قال: صف جاهي، ففي وصفك لي للشعر جاه
إنّ لي القصر الذي لا تبلغ الطير ذراه
و لي الروض الذي يعبق بالمسك ثراه
و لي الجبش الذي ترشح بالموت ظباه
و لي الغابات و الشمذ الرواسي و المياه
و لي الناس... و بؤس الناس منّي و الرفاه
إنّ هذا الكون ملكي، أنا في الكون إله!
ضحك الشاعر ممّا سمعته أذناه
و تمنّى إنّ يداجي فعصته شفتاه
قال: إنّي لا أرى كما أنت تراه
إنّ ملكي قد طوى ملكك عنّي و محاه
ألقصر ينبيء عن مهارة شاعر
لبق، و يخبر بعده عنّكا
هو الألى يدرون كنه جماله
فإذا مضوا فكأنّه دكّا
ستزول أنت و لا يزول جلاله
كالفلك تبقى، إن خلت، فلكا
و الرّوض؟ إنّ الروض صنعه شاعر
سمح، طروب، رائق، جزل
وشّى حواشيه وزيّن أرضه
بروائع الألوان و الظلّ
لفراشة تحيا له، و لنحلة
تحيا به، و لشاعر مثلي!
و لديمة تذري عليه دموعها
كيما تقيه غوائل المحل
و لبلبل غرد يساجل بلبلا
غردا، و للنسمات و الطلّ
فإذا مضى زمن الربيع أضعته
و أقام في قلبي و في عقلي!
و الجيش معقود لواؤك فوقه
ما دمت تكسوه و تطعمه
للخبز طاعته و حسن ولائه
هو " لاته " الكبرى و " برهمه "
فإذا يجوع بظلّ عرشك ليلة
فهو الذي بيديه يحطّمه
لك منه أسيفه، و لكن في غد
لسواك أسيفه و أسهمه
أتراه سار إلى الوغى متعلّلا
لولا الذي الشعراء تنظمه؟
و إذا ترنّم هل بغير قصيدة
من شاعر مثلي ترنّمه؟
و البحر، قد ظفرت يداك بدرّه
و حصاه، لكن هل ملكت هديره؟
هو للدجى يلقي عليه خشوعه
و الصّبح يسكب، و هو يضحك، نوره
أمرجت أنت مياهه؟ أصبغت أن
ت رماله؟ أجبلت أنت صخوره
هو للرياح تهزّه و تثيره
و الشهب تسمع في الظلام زئيره
للطير هائمة به مفتونة
لا للذين يروّعون طيوره
للشاعر المفتون يخلق لاهيا
من موجة حورا و يعشق حوره
و لمن فيه رمز كيانه
و لمن يجيد لغيره تصويره
يا من يصيد الدرّ من أعماقه
أخذت يداك من الجليل حقيره
لا تدّعيه... فليس يملك، إنّه
كالرّوض جهدك أن تشمّ عبيره
و مررت بالجبل الأشمّ فما زوى
عنّي محاسنه و لست أميرا
و مررت أنت فما رأيت صخوره
ضحكت و لا رقصت لديك حبورا
و لقد نقلت لنملة ما تدّعي
فتعجّبت، ممّا حكيت، كثيرا
قالت: صديقك ما يكون؟ أقشعما
أو أرقما؟ أم ضيغما هيصورا؟
أيحوك مثل العنكبوت بيوته
حوكا؟ و يبني كالنسور و كورا؟
هل يملأ الأعوار تبرا كالضّحى
و يردّ كالغيث الموات نضيرا؟
أيلفّ كاللّيل الأباطح و الرّبى
و المنزل المعمور و المهجورا؟
فأجبتها: كلّا! فقالت: سمّه
في غير خوف " كائنا مغرورا! "
فاحتدم السّلطان أيّ احتدام
و لاح حبّ البطش في مقلتيه
وصاح بالجلّاد: هات الحسام!
فأسرع الجلّاد يسعى إليه
فقال: دحرج رأس هذا الغلام
فرأسه عبء على منكبيه
قد طبع السّيف لحزّ الرّقاب
و هذه رقبة ثرثار
أقتله...و اطرح جسمه للكلاب
و لتذهب الروح إلى النّار
سمعا و طوعا، سيّدي!.. و انتضى
عضبا يموج الموت في شفرتيه
و لم يكن إلاّ كبرق أضا
حتّى أطار الرأس عن منكبيه
فسقط الشاعر معرورضا
يخدّش الأرض بكلتا يديه
كأنّما يبحث عن رأسه
فاستضحك السلطان من سجدته
ثمّ استوى يهمس في نفسه
" ذو جنّة " أمسى بلا جنّته
أجل، هكذا هلك الشاعر
كما يهلك الآثم المذنب
فما غضّ في روضة طائر
و لم ينطفيء في السّما كوكب
و لا جزع الشّجر الناضر
و لا اكتأب المطرب
و كوفيء عن قتله القاتل
بمال جزيل وخدّ أسيل
فقال له خلقه السّافل:
ألا ليت لي كلّ يوم قتيل!
في ليلة طامسة الأنجم
تسلّل الموت إلى القصر
بين حراب الجند و الأسهم
و الأسيف الهنديّة الحمر
إلى سرير الملك الأعظم
إلى أمير البرّ و البحر!!
ففارق الدنيا و لمّا تزل
فيها خمور و أغاريد
فلم يمد حزنا عليه الجبل
و لا ذوى في الرّوض أملود
في حومة الموت و ظلّ البلى
قد التقى السّلطان و الشاعر
هذا بلا مجد، و هذا بلا
ذلّ، فلا باغ و لا ثائر
عانقت الأسمال تلك الحلى
واصطحب المقهور و القاهر
لا يجزع الشاعر أن يقتلا
ليس وراء القبر سيف و رمح
و لا يبالي ذاك أن يعذلا
سيّان عند الميّت ذمّ و مدح
و توالت الأجيال تطّرد
جيل يغيب و آخر يفد
أخنت على القصر المنيف فلا
الجدران قائمة و لا العمد
و مشت على الجيش الكثيف فلا
خيل مسوّمة و لا زرد
ذهبت بمن صلحوا و من فسدوا
و مضت بمن تعسوا و من سعدوا
و بمن أذاب الحبّ مهجته
و بمن تأكّل قلبه الحسد
و طوت ملوكا ما لهم عدد
فكأنّهم في الأرض ما وجدوا
و الشاعر المقتول باقية
أقواله فكأنّها الأبد
ألشيخ يلمس في جوانبها
صور الهوى و الحكمة الوله