السيف الصقيل فى الرد على رسالة البرهان الجليل بكر بن عمر بن أحمد بن موسى التميمي الداري |
الكتاب رد على رسالة البرهان الجليل على صحة التوراة والإنجيل فرغ تسويده في الثامن والعشرين من ذي الحجة من سنة 1308 وطبعته المطبعة الشريفة بالقاهرة سنة 1313 وبهامشه كتاب تنوير الأذهان في الرد على مدعي تحريف القرآن لمحمد زكي الدين سند |
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حمدا لمن أنزل على عبده الفرقان وخصه بالحفظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان. والصلاة والسلام على من خص بنسخ جيمع الشرائع والأحكام، سيدنا محمد المبعوث إلى كافة الأنام، المنعوت في التوراة والإنجيل، المتحققة بظهوره دعوة أبيه إبراهيم الخليل – صلى الله عليه، وعلى آله ذوي المجد والشان، وأصحابه المؤيدين بأقوى الحجة والبرهان
أما بعد، فيقول راجي العفو والفتوح من مولاه الكريم الباري، بكر بن السيد عمر بن السيد أحمد بن السيد موسى التميمي الداري:
إني بتوفيق الله قد وقفت على رسالة لبعض أذكياء المسيحيين من فرقة بروتستنت في الرد على أئمة المسلمين في مسألتي النسخ والتحريف عدد صفحاتها ثمانية عشر صحيفة بالقطع الثمن، مطبوعة بحروف مصرية سنة ألف وثمانمائة وثلاث وثمانين ميلادية بمطبعة الإنكليز في مدينة أورشليم – أي القدس الشريف – التابعة إدارتها إلى الدولة العثمانية الإسلامية، سماها البرهان الجليل على صحة التوراة والإنجيل. زعم فيها أنه أقام الحجة القاطعة على المسلمين في مسألتي النسخ والتحريف وأنه استنبط من الآيات القرآنية صحة التوراة والإنجيل وأن النسختين الموجودتين في أيديهم الآن هما عين الموجود ذكرهما في القرآن. وقد أوجب فيها على أهل الإسلام الاهتمام بشأنهما والقيام بما فيهما من الأحكام لينالوا بذلك السعادة الأبدية والحياة السرمدية. مع ما في آخرها من الطعن والتكذيب الصريح والاستخفاف بالحضرة النبوية. وقد نشرها مبشروهم في الأقطار، من القرى والأمصار، مع أن نشر مثل هذه الرسالة وطبعها في بلاد الإسلام اعتداء زائد خارج عن رسوم النظام. لكن الباطل كسيح بل قبيح، وإن غطى وجهه بكل مليح.
ولما كان ديننا القويم وصراطنا المستقيم يطالبنا برد الشكوك والشبه ويرخص لنا بمكافأة المعتدين بمثل ما اعتدوا به، أردت أن أرد على هذا المفتري وأبين له إفكه وخطأه الجلي. وإني وإن كنت ليس لي أهلية لهذا الشأن لحدوث سني وقرب العنفوان ولشغل البال بحوادث الأحوال، لكن الاتكال على معونة الواحد المنان يرفع عن العبد قيودات الأزمان. فلذلك شرعت في المطلوب راجيا تمام المرغوب، مراعيا صحة النقل لما يلزم عن الثقات الفخام، مستمدا التوفيق من الملك العلام. وسميته "السيف الصقيل في الرد على رسالة البرهان الجليل" ليقطع لسانها ويمزق حجتها وبرهانها. ثم المأمول ممن عثر في هذا الكتاب من ذوي الألباب على شيء زل به الفهم القاصر والعزم الفاتر أن ينظر إليه بنظر الإصلاح ويستره بذيل السماح. فإن الأعمال بالنيات والإنسان محل الهفوات والفقير معترف بقلة البضاعة وعدم ممارسة هذه الصناعة. لكن عناية الملك اللطيف إذا لاحظت قد يسبق الضعيف كما قيل:
إن المقادير إذا ساعدت ** ألحقت العاجز بالقادر
فالله أسأل وبنبيه أتوسل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم موصلا للفوز بجنات النعيم وأن يرشدني إلى الحق والصواب ويسهل لي جميع الصعاب. إنه أكرم مأمول وأعظم مسئول.
وها أنا شارع في المقصود بعون عناية الملك المعبود فأقول
التحريف في التوراة والزبور والأناجيل الأربعة
قال القسيس النبيل صاحب البرهان الجليل بعد البسملة والحمدلة والبعدية هكذا:
- فلما كانت التوراة والإنجيل والزبور هي الكتب المعتبرة، وبالعمل بها تنال سعادة الدينا والآخرة، ورأينا بعض أحبابنا المسلمين غير مهتمين بقراءتها، فسألناهم عن سبب ذلك فقالوا إن علمائنا قالوا بحرمة مطالعتها لاشتمالها على التغيير والتبديل والزيادة والنقصان؛ أردنا أن نكر بعض براهين تبطل ذلك مستنبطة من القرآن.
أقول وبالله التوفيق وبه الهداية إلى أقوم طريق: إنما قال علماء المسلميين بحرمة مطالعة هذه الكتب الثلاث التي ذكرها حضرة القسيس وغيرها من بقية كتب العهد القديم والجديد لما اشتملت عليه من المفاسد والمناقضات والاختلافات والغلط الكثير. وما ذلك إلا بسبب وقوع التغيير والتبديل بالزيادة والنقصان كما ستقف عليه في محله إن شاء الله تعالى بالتفصيل الشافي والبيان الكافي. فمن قال بحرمة مطالعة هذه الكتب فهو مضطر ومعذور لأن الكلام الإلهي مصان عن المناقضات والاختلافات والغلط. ونسبة ذلك إلى الله عز وجل كفر. وكذا يصان عن تفسيق الأنبياء الكرام وتنقيصهم ونسبة الكذب والزنا والكفر إليهم لأن الله تعالى لما اصطفاهم لهذه الرتبة الشريفة حفظ ظواهرهم وبواطنهم عن التلبس بمنهي عنه نهي تحريم أو كراهة. وإنك لتعلم أيها العاقل اللبيب أن تلبسهم بذلك يوجب تنفير أقوامهم المرسلين إليهم فلا ينقادون لهم، فتبطل فائدة بعثتهم ويفوت الاستصلاح والغرض من رسالتهم، وهو محال.
وإنا نرى هذه الكتب التي عناها حضرة القسيس تصرح وتنادي بتفسيقهم وتنقيصهم. وما نرى من نبي ذكر فيها من نوح إلى المسيح إلا ويكون فاسقا أو كافرا أو زانيا أو من أولاد الزنا – أعاذنا الله من أمثال هذه الاعتقادات الفاسدة في حق الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام. وإني وإن كنت أرى أن أنقل ما نسبوه في كتبهم المقدسة إلى الأنبياء الكرام من الذنوب والكفريات المفتريات ولو على سبيل الإلزام، لكني لما رأيت علماء بروتستنت في هذا الزمن الأخير أطالوا ألسنتهم في كتبهم كمؤلف رسالة الكندي وصاحب ميزان الحق في الدين المبين والصراط المستقيم، سيما في حق سيد المرسلين، إطالة فاحشة لتغليط العوام الذين لا وقوف لهم على كتبهم وإفكهم؛ أحببت أن أنقل بعضها على سبيل الإلزام وأتبرأ من اعتقادها بالقلب واللسان وأستغفر الله العظيم الشان. وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر. فأقول:
من ذلك ما جاء في العدد الثامن عشر من الأصحاح التاسع من سفر التكوين من الترجمة المطبوعة سنة 1870 في حق نوح عليه السلام هكذا:
- وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض. وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فابصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. – إلى هنا ا هـ
ففي هذا الكلام تصريح بأن نوحا شرب الخمر وسكر وصار مكشوف العورة. وفيه شيء أخر وهو أن المذنب بالنظر إلى عورته حام أبو كنعان، والذي عوقب باللعنة ابنه كنعان، مع أن أخذ الابن بذنب الأب خلاف العدل.
قال النبي حزقيال أحد أنبائهم عليه السلام في العدد العشرين من الأصحاح الثامن عشر من كتابه هكذا: «النفس التي تخطئ فهي تموت. الابن لا يحمل إثم الأب والأب لا يحمل إثم الابن، وعدل العادل يكون عليه، ونفاق المنافق يكون عليه»
على أنه لو فرضنا أن الابن يحمل إثم الأب وكان ذلك من العدل فما وجه تخصيص كنعان من بين أولاد حام الناظر إلى عورة أبيه مع أن أولاده كانوا أربعة: كوش ومصرايم وفوط وكنعان كما هو مصرح به على هذا الترتيب في العدد السادس من الأصحاح العاشر من سفر التكوين؟ على أنه ما سُمع أن كنعان ولا بنوه كانوا عبيدا ولا في وقت من الأوقات، بل كانوا سادة وملوكا وجبابرة فلسطين وغيرها كما يعلم ذلك من سفر التكوين.
وجاء في العدد العاشر من الأصحاح الثاني عشر من سفر التكوين في حق إبراهيم عليه السلام هكذا:
- وحدث جوع في الأرض. فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك. لأن الجوع في الأرض كان شديدا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت اأنك امرأة حسنة المنظر. فيكون اذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته. فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك اختي. ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك. فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة انها حسنة جدا. ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. فأخذت المرأة إلى بيت فرعون. فصنع إلى أبرام خيرا بسببها. وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام. فدعا فرعون أبرام وقال ما هذا الذي صنعت بي. لماذا لم تخبرني أنها امرأتك. لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي. والآن هوذا امرأتك. خذها واذهب. – ا هـ
فظهر من هذه الحكاية أنه لو لم يقل عن زوجته إنها أخته ما أخذها فرعون، وأن الكذب بقوله هي أختي ما كان لمجرد الخوف بل كان لرجاء حصول المنفعة والخير أيضا؛ بل رجاء حصول الخير والمنفعة كان أقوى، ولذلك قدمه في كلامه. على أن خوفه من القتل مجرد وهم، سيما إذا كان راضيا بتركها فإنه لا وجه لخوفه بعد ذلك أصلا. وكيف يجوّز العاقل – أيها العاقل – صدور مثل هذا عن إبراهيم عليه السلام، وكيف يرضى بترك حريمه وتسليمها للغير ولم يدافع دونها؟ حاشا جنابه الشريف أن يرضى بذلك، بل لا يرضى بمثله من له أدنى غيرة، فكيف إبراهيم خليل الله أبو الأنبياء وصفوة الأمناء.
ومثل هذا ما جاء في حق ابنه إسحق عليه السلام من أنه لما حدث في الأرض جوع ارتحل إلى أرض فلسطين وسكن في جرار فسأله رجال ذلك الموضع عن زوجته فقال عنها إنها أخته لئلا يقتلوه من أجل حسنها، كما هو مصرح به في العدد السابق من الأصحاح السادس والعشرين من سفر التكوين.
قال القسيس وليم اسمث في الصفحة 169 من كتابه المسمى طريق الأولياء بعد أن نقل هذه الحكاية هكذا:
- يا أسفي يا أسفي أنه لا يوجد كمال في أحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير. والعجب أن شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم وقع فيها إسحق وقال عن زوجته إنها أخته. فيا أسفي أن أمثال هؤلاء المقربين عند الله محتاجون إلى وعظ.
انتهى كلام القسيس المذكور بلفظه.
أقول: ولما تأسف هذا القسيس تأسفا شديدا على عدم وجود كمال في أحد من الناس غير المسيح العديم النظير وعلى أن هؤلاء المقربين محتاجون إلى واعظ يعظهم، فلا نطيل الكلام فيه لكني أتأسف على عدم وجود هذا القسيس في تلك الأيام حتى يكون واعظا لهؤلاء المقربين والأنبياء الصالحين. ربنا لا تجعلنا من القوم الضالين ولا من العقول مسلوبين.
ومن طالع الأصحاح السابع والعشرين من سفر التكوين وجد فيه نسبة الكذب إلى سيدنا يعقوب عليه السلام ثلاث مرات وأنه خادع أباه – حاشا جنابه الشريف أن يصدر ذلك. أما الخداع الذي نسب إليه في الأصحاح المذكور، فهو أن أباه إسحق عليه السلام لما شاخ وكبر طلب من ولده عيسو طعاما لكي يدعو له بالبركة التي يكون مستحقا بها وأهلا لمنصب النبوة. فلما سمع بذلك يعقوب عليه السلام ذهب وجاء إلى والده بالطعام المطلوب وقال له: ها أنا ولدك عيسو قد فعلت لك الطعام كما أمرتني. قم يا والدي وكل لكي تباركني بنفسك. فلما أكل إسحق عليه السلام من ذلك الطعام دعا لولده يعقوب عليه السلام بدعاء كثير وباركه لكن بنيته أنه عيسو، لا أنه يعقوب. ومع ذلك فقد صار يعقوب عليه السلام بسبب ذلك الدعاء مستحقا لمنصب النبوة، ولذلك حصلت له، بخلاف عيسو. فكما أثر ذلك الخداع عند إسحق عليه السلام أثر عن الله تعالى أيضا. فإن إسحق عليه السلام كان بصميم قلبه واعتقاده داعيا إلى ولده عيسو لا لولده يعقوب عليه السلام، لأن يعقوب جاء بصورة أخيه عيسو، وكما لم يميز إسحق عليه السلام بين الأخوين في حال الدعاء، فكذلك لم يميز الله عز وجل بينهما عند إجابة الدعاء – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والعجب أن ولاية الله والنبوة والصلاح تحصل بالمحال على أصول كتبهم المقدسة، فلو كان حال ديانة أبي الأنبياء الإسرائيلية هكذا أو حال علم الله هكذا فللمنكر أن يقول يجوز أن يكون مبنى معاملات سائر الأنبياء الإسرائيلية مع الله تعالى على الخداع والمكر كأبيهم الأعلى – والعياذ بالله تعالى من هذه الأمور الواهية التي يكذبها البرهان وتقشعر من ذكرها جلود أهل الإيمان.
ولقد جاء في العدد الثلاثين من الأصحاح التاسع عشر من سفر التكوين في حق لوط عليه السلام هكذا:
- وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه. لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه. فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد ان الكبرى قالت للصغرى إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. فهلم نسقيه خمرا الليلة أيضا [ فادخلي اضطجعي معه. فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. ] وقامت الصغرى واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب. وهو أبو الموآبيين إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه عمان. وهو أبو العمانيين إلى اليوم. ا هـ
أقول: لو فرضنا صدق هذه الحكاية المحال وقوعها وأنها صادرة عن قلم موسى عليه السلام فما الحامل له على ذكرها؟ وما الغرض والفائدة من بثها مع أنه لم يلحقها بوعيد عذاب ولا شديد عقاب؟ حاشا جنابه الشريف أن يتعرض لهتك أعراض الأنبياء المنزهة أعراضهم عن عروض مثل هذه الأعراض. وما هي إلا دسيسة دسها من لا يخشى الله تعالى في الكتب السماوية. وهذا الإنجيل المتداول يشهد بأن لوطا عليه السلام بار قديس، لم يعق الوهن في قدسيته وبرارته بعد نسبة هذه الحركة الشنيعة له. ففي العدد السابع من الأصحاح الثاني من رسالة القديس بطرس الثانية هكذا: «وأنقذ لوطا البار مغلوبا من سيرة الأردياء في الدعارة. اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالافعال الأثيمة.» ا هـ
فهذا بطرس الحواري قد أطلق عليه لفظ البار ومدحه على شدة طاعته لله تعالى، وأنا أشهد أيضا أنه كان بارا بريّا مما نسبوه إليه. على أنّا ما سمعنا أن السكر يوصل إلى هذه الحركة الشنيعة. فإن السكران لا يخلو إما أن يكون سكره متوسطا أو في أعلى طبقة. فإن كان متوسطا يبقى له تمييز فيميز بناته عن الأجنبيات. وإن كان سكره في أعلى طبقة يسقط حينئذ تمييزه، لكن لا يبقى في هذا الوقت قابلا للجماع، كما شهد بذلك الأطباء والمولعون بشرب الخمر، وإلى هذا الحين ما سمعنا أن في الدنيا بأسرها أن رزيلا من الأرزال الذين يكونون في أغلب أوقاتهم مخمورين أنه فعل مثل هذا الفعل الشنيع، وإذا كان الخمر موصلا إلى هذه الرتبة السافلة فوا أسفي على حال المولعين بشرب الخمر؛ كيف يرجى نجاة بناتهم وأمهاتهم من أيدي الآباء والأبناء والإخوة؟ سيما إذا أضفنا ذلك إلى من يجمع نسائهم ورجالهم كأس واحد. والعجب كل العجب من هذا القديس البار بحكم الإنجيل كما ابتلي في الليلة الأولى ابتلي في الليلة الثانية وما انتبه فيها لما فعلته معه ابنته الكبرى في الليلة الأولى، وذلك مما لا يمكن تصوره.
وكيف يجوّز العقل السليم وقوع ذلك الفعل الشنيع من ابنتي لوط عليه السلام بعد أن نظرتا وقوع الخسف والعذاب في قوم أبيهم بسبب فعل الفاحشة التي كانوا يفعلونها بالأجانب فضلا عن الأقارب؟ ولو فرضنا وقوع ذلك المحال وقوعه، لم لم تخسف بهم الأرض كما خسفت بأقوامهم؟ بل كان يجب أن يعذبوا بأشد أنواع العذاب حيث رأوا القصاص على مثل ذلك الفعل الشنيع بأعينهم وقد نجاهم الله منه ولم يخشوه فيما بعد وما اتعظوا. لعل أن يقال من طرف حضرة القسيس إن فعل هذا الأمر كان مقضيا مرضيا ليتولد داود وسليمان وعيسى أبناء الله من نسل هذين الولدين السعيدين! لأن عوبيد جد لداود عليه السلام واسم أمه راعوث، كما هو مصرح به في العدد الخامس من الأصحاح الأول من إنجيل متى. وراعوث هذه كانت موآبية من أولاد موآب ابن سيدنا لوط عليه السلام كما هو مصرح في سفر راعوث، ولأن رحبعام بن سليمان عليه السلام من أجداد عيسى عليه السلام كما هو مصرح به في العدد السابق من الأصحاح الأول من إنجيل متى، واسم أمه نعمة. ونعمة هذه التي هي أم رحبعام الذي هو جد للمسيح عليه السلام كانت عمانية من أولاد عمان بن لوط عليه السلام كما هو مصرح به في العدد الثاني والعشرين من الأصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الأول. فهذه نعمة من جدات ابن الله الوحيد بل الله على زعمهم. فأي شرف لموآب وعمان ولدي الزنا! أأزيد من أن بعض بنات الأول صارت جدة معظمة لأبناء الله على زعمهم، وبعض بنات الثاني الذي هو عمان صارت جدة خاصة لابن الله الوحيد، بل الله، على زعمهم!
وحيث ثبت لك أيها اللبيب أن نسب المسيح عليه السلام قد وصل إلى موآب وعمان باعتبار تولده من هاتين الجدتين، فقد صار المسيح عليه السلام موآبيا وعمانيا. وما كان للعمانيين والموآبيين أن يدخلوا في جماعة الرب إلى الأبد، كما هو مصرح به في العدد الثالث من الأصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية من الترجمة المطبوعة سنة 1848 ميلادية. فكيف دخل المسيح عليه السلام في جماعة الرب بل صار رئيسهم على زعمهم؟ ولا يصح أن يقال إن اعتبار النسب بالآباء لا بالأمهات فلا يكون المسيح عليه السلام عمانيا ولا موآبيا لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك يلزم أن لا يكون المسيح أيضا إسرائيليا ولا يهوذاويا ولا داوديا ولا سليمانيا. فإن حصول هذه الأوصاف له من جانب الأم لا من جانب الأب، فلا يكون حينئذ مسيحا موعودا به. واعتبارهم هذه الأوصاف باعتبار الأم وعدم اعتبارهم كونه عمانيا موآبيا من جهة الجدات ترجيح بلا مرجح، وهو باطل. وهذا وارد على نبوة داود وسليمان عليهما السلام أيضا باعتبار راعوث. لكن لا نطيل الكلام فيهما فتأمل.