السيرة الفلسفية المؤلف: أبو بكر الرازي |
قال أبو بكر الرازي - ألحق الله روحه بالروح والراحة -: إن ناسا من أهل النظر والتمييز والتحصيل لما رأونا نُداخِل الناس ونتصرف في وجوهٍ من المعاش عابونا واستنقصونا وزعموا أنا حائدون عن سيرة الفلاسفة ولا سيما عن سيرة إمامنا سقراط المأثور عنه أنه كان لا يَغشَى الملوك ويستخف بهم إن هم غشوه ولا يأكل لذيذ الطعام ولا يلبس فاخر الثياب ولا يبني ولا يقتني ولا ينسل ولا لحما ولا يشرب خمرا ولا يشهد لهوا بل كان مقتصرا على أكل الحشيش والالتفاف في كساءٍ خَلَقٍ والإيواءِ إلى حُبٍّ في البرية، وأنه أيضا لم يكن يستعمل التقية للعوام ولا للسلطان بل يجابههم بما هو الحق عنده بأشرح الألفاظ وأبينها. وأما نحن فعلى خلاف ذلك. ثم قالوا في مساوئ هذه السيرة التي سار بها إمامنا سقراط إنها مخالفة لما عليه مجرى الطبع وقوام الحرث والنسل وداعية إلى خراب العالم وبوار الناس وهلاكهم. وسنجيبهم بما عندنا في ذلك إن شاء الله فنقول: أما ما أثروه عن سقراط وذكروه فقد صدقوا وقد كان ذلك منه، لكنهم جهلوا منه أشياء أُخر وتركوا ذكرها تعمدا لوجوب موضع الحجة علينا. وذلك أن هذه الأمور التي أثروها عن سقراط قد كانت منه في ابتداء أمره إلى مدة طويلة من عمره، ثم انتقل عن كثير منها حتى إنه مات عن بنات وحارب العدوَّ وحضر مجالس اللهو وأكل الطيبات إلا من اللحم وشرب يسير المسكر. وذلك معلوم مأثور عند من عُني باستقصاء أخبار هذا الرجل وإنما كان منه ما كان في بدء أمره لشدة عجبه بالفلسفة وحبه لها وحرصه على صرف زمان الشهوات والشغل باللذات إليها ومؤاتاة طبعه له على ذلك، واستخفافه واسترذاله لمن لم يلاحظ الفلسفة بالعين التي تستحق أن تلاحظ بها وآثر ما هو أخس منها عليها. ولا بد في أول الأمور المشوقة المعشوقة من فضل إليها وإفراط في حبها ولزومها وشنآن المخالفين فيها، حتى إذا وغل فيها وقرّت الأمور به قرارها سقط الإفراط فيها ورجع إلى الاعتدال، كما يقال في المثل لكل جديد لذة فهذه كانت حالة سقراط في تلك المدة من عمره، وصار ما أُثر عنه من هذه الأمور أشهر وأكثر لأنها أطرف وأعجب وأبعد من أحوال الناس، والناس مولعون بإذاعة الخبر الطريف النادر والإضراب عن المألوف والمعتاد. فلنا إذاً بمخالفين للأمر الأحمد من سيرة سقراط وإن كنا مقصرين عنه في ذلك تقصيرا كثيرا ومقرين بالنقص عن استعمال السيرة العادلة وقمع الهوى العلم والحرص عليه. فخلافنا إذا لسقراط ليس في كيفية السيرة بل في كميتها بمنتقصين إن أقررنا بالنقص عنه إذ كان ذلك هو الحق وكان الإقرار بالحق أكثر شرفا وفضيلةً. فهذا ما نقوله في هذا الموضع وأما ما عابوه من سيرتي سقراط فإنا نقول: إن المعيب منها بحق أيضا كميتها لا كيفيتها إذ من البين أنه ليس الانهماك في الشهوات وإيثارها الأمر الأفضل الأشرف على ما بيّنّا في كتابنا في الطب الروحاني لكن الأخذ من كل حاجة بمقدار ما لا بد منه أو بمقدار ما لا يجلب ألما يفضل على اللذة المصابة منها. وقد رجع سقراط عن المفرط منها الذي هو المعيب بالحقيقة والداعي إلى خراب العالم وبوار الناس، إذ قد عاد إلى أن أنسل وحارب العدو وحضر مجالس اللهو. ومن فعل ذلك فقد خرج عن أن يكون ساعيا في خراب الدنيا وبوار الناس، وليس يجب أن لا يكون كذلك حتى يكون مغرقا في الشهوات. ونحن وإن كنا غير مستحقين لاسم الفلسفة بالإضافة إلى سقراط فإنا مستحقون لاسمها بالإضافة إلى الناس غير المتفلسفين وإذ قد جرى في هذا المعنى ما جرى فلنُتِمّ القول في السيرة الفلسفية لينتفع بها محبو العلم ومؤثروه.
فنقول: إنا نحتاج أن نبني أمرنا فيما هو غرضنا المقصود في هذه المقالة على أصول قد تقدم بياننا لها في كتب أُخَر لا بد من الاستعانة لتخفيف ما في هذه المقالة بها. فمنها كتابنا في العلم الإلهي وكتابنا في الطب الروحاني" وكتابنا في عذل من اشتغل بفضول الهندسة من الموسومين بالفلسفة وكتابنا الموسوم بشرف صناعة الكيمياء ولا سيما كتابنا الموسوم بالطب الروحاني، فإنه لا غنى عنه في استتمام غرض هذه المقالة والأصول التي عليها فروع السيرة الفلسفية ونأخذها هاهنا ونقتضبها اقتضابا. وهي: أن لنا حالة بعد الموت حميدة أو ذميمة بحسب سيرتنا كانت مدة كون أنفسنا مع أجسادنا، وأن الأمر الأفضل الذي له خُلِقنا وإليه أُجْرِىَ بنا ليس هي إصابة اللذات الجسدانية بل اقتناء العلم واستعمال العدل اللذين بهما يكون خلاصنا عن عالمنا هذا إلى العالم الذي لا موت فيه ولا ألم، وأن الطبيعة والهوى يدعواننا إلى إيثار اللذة الحاضرة وأما العقل فكثيرا ما يدعونا إلى ترك اللذات الحاضرة لأمور يؤثرها عليها، وأن المالك لنا الذي منه نرجو الثواب ونخاف العقاب ناظر لنا رحيم بنا لا يريد إيلامنا ويكره لنا الجور والجهل ويحب منا العلم والعدل فإن هذا المالك يعاقب المؤلم منا ومن استحق الإيلام بقدر استحقاقه، وأنه لا ينبغي أن نحتمل ألما في جنب لذّةٍ يفضل عليها ذلك الألم في كميته وكيفيته، وأن البارئ جلّ وعزّ قد وكل الأشياء الجزئية من حوائجنا إلينا كالحراثة والنسج وما أشبه ذلك مما به قوام العالم وقوام المعيشة. فلتكن لنا مسلمة لنبني عليها فنقول: إنه إذا كانت لذات الدنيا وآلامها منقطعة بانقطاع العمر وكانت لذات العالم الذي لا موت فيه دائمة غير منقطعة ولا متناهية فالمغبون من اشترى لذة بائدة منقطعة متناهية بدائمة باقية غير منقطعة ولا متناهية. فإذا كان الأمر كذلك تبعه ووجب منه أنه لا ينبغي لنا أن نطلب لذّةّ لا بد في الوصول إليها من ارتكاب أمر يمنعنا من التخلص إلى عالم النفس أو يوجب علينا في عالمنا هذا ألما مقداره في كميته وكيفيته أعظم وأشد من اللذة التي آثرناه، فأما سائر ذلك من اللذات فمباحة لنا. على أن الرجل الفيلسوف قد يترك كثيرا من هذه المباحات ليرَّن نفسه على ذلك ويعودها فيكون ذلك عليه في الموضع الواجب أهون وأيسر كما ذكرنا في في الطب الروحاني. لأن العادة كما ذكر القدماء طبيعة ثانية تسهل العسير وتؤنس بالمستوحش منه، إن كان في الأمور النفسية وإن كان في الأمور الجسدية، كما نرى الفيوج أقوى على المشي والجند أجرأ على الحرب ونحو ذلك مما لا خفاء به في تسهيل العادات للأمور التي كانت تصعب وتعسر قبل اعتيادها. وهذا القول وإن كان وجيزاً مجملاً - أعني ما ذكرناه في المقدار اللذة المحصورة - فإنه تحته من الجزئيات أمورا كثيرةً، على ما قد بيناها في كتاب الطب الروحاني. فإنه إن كان الأصل الذي وضعناه من أنه لا ينبغي للعاقل أن ينقاد للذة يخشى معها ألما يرجح على الألم الذي يصل إليه من مكابدة ترك اللذة وقمع الشهوة صحيحا حقا في نفسه أو مصدرا عليه فقد وجب منه وتبعه أنا لو قدرنا في حالة على أن نملك الأرض كلها مدة عمرنا بارتكاب من الناس ما لا يرضاه الله مما كان به منعنا من الوصول إلى الخيرة الدائمة والنعيم المقيم لم يكن ينبغي لنا أن نفعل ذلك ولا نؤثره. ولو استحققنا أيضا أو كان الاستحقاق غالبا في أنا إن أكلنا في المثل طبقا من رُطَبٍ رَمِدنا عشرة أيام لم ينبغ أن نؤثر أكله. وكذلك الحال فيما بين هذين المثالين اللذين ذكرناهما - على عِظَم أحدهما وصِغَر الآخر بإضافة - من الأمور الجزئية التي كل واحد منها صغير بالإضافة إلى الأعظم كبير بالإضافة إلى الأصغر، مما لا يمكن القول أن يأتي عليه لِكثرة ما تحت هذه الجملة الكلية من الأمور المفردات الجزئية وإذ بان في هذا الموضع ما أردنا بيانه فلنقصد إلى بيان غرض آخر من أغراضنا تال لهذا الغرض.
فنقول: إنه لما كان الأصل الذي وضعناه من أن ربنا ومالكنا مشفق علينا ناظر لنا رحيم بنا تبع ذلك أيضا أنه يكره أن يقع بنا ألم، وأن جميع ما يقع بنا منه مما ليس من اكتسابنا واختياراتنا بل مما في الطبيعة فلأمر ضروري لم يكن بد من وقوعه. ووجب من ذلك أنه لا ينبغي أن نؤلم مُحِسْا بتّةً من غير استحقاق منه لذلك الإيلام أو لغير صرفنا عنه بذلك الألم ما هو أشد منه. وتحت هذه الجملة أيضا تفصيل كثير يدخل فيها المظالم جميعا، وما يتلذّذ به الملوك من الصيد للحيوان ويفرط فيه الناس من الكد للبهائم في استعمالها. فوجب أن يكون ذلك كله على قصد وسنن وطريق ومذهب عقلي عدلي لا يتعدى ولا يجار عنه. فيوقع الألم حيث يرجى به دفع ما هو أعظم منه، نحو بطّ الجراح وكَيِّ العضو العفن وشرب الدواء المر البشع وترك الطعام اللذيذ خشية الأمراض العظيمة الأليمة. وتكد البهائم كد قصد لا عنف فيه إلا في المواضع التي تدعو الضرورة فيها إلى الأعنف ويوجب العقل والعدل ذلك كحث الفرس عند طلب النجاة من العدو، فإنه يجب في العدل حينئذ أن يحث ويتلف في ذلك إذا رُجي به خلاص الإنسان، ولا سيما إذا كان عالما خيرا أو له غناء عظيم في وجه من الوجوه العائد صلاحها على جملة الناس، إذ كان غناء مثل هذا الرجل وبقاؤه في العالم أصلح لأهله من بقاء ذلك الفرس. أو كرجلين وقعا في برية لا ماء فيها ومع أحدهما من الماء ما يمكن أن يخلص به نفسه دون صاحبه، فإنه ينبغي في تلك الحالة أن يؤثر بالماء أعْوَدُ الرجلين على الناس بالصلاح. فهذا هو القياس في أمثال هذه الأمور وأشباهها وأما الصيد والطرد والإبادة والإهلاك فينبغي أن يكون للحيوان الذي لا يعيش كمال العيش إلا بالحم كالأُسُد والنمور والذئاب وما أشبهها، والتي يعظم أذاها ولا مطمع في استصلاحها ولا حاجة في استعمالها مثل الحيات والعقارب ونحوها. فهذا هو القياس في أمثال هذه الأمور. وإنما جاز أن تُتلَف هذه الحيوانات من جهتين: إحداهما أنها متى لم تُتلَف أتلفت حيواناتٍ كثيرة، من الترهب والتخلي في الصوامع وكثير من المسلمين من لزوم المساجد وترك المكاسب والاقتصار على يسير الطعام وبشعه ومؤذي اللباس وخشنه، فإن ذلك كله ظلم منهم لأنفسهم وإيلام لها لا يدفع به ألم أرجح منه وقد كان سقراط يسير مثل هذه السيرة من أول عمره غير أنه تركها في آخر عمره على ما ذكرنا قبل. وفي هذا الباب بين الناس تباين كثير جدًّا غير متطرق به. ولا بد أن نقول في ذلك قولا مقربا ليكون مثالاً.
فنقول: إنه لما كان الناس مختلفين في أحوالهم فمنهم غذىّ نعمة ومنهم غذى بؤس ومنهم من تطالبه نفسه ببعض الشهوات مطالبة أكثر كالمغرمين بالنساء أو الخمر أو حب الرياسة ونحو ذلك من الأمور التي فيها بين الناس تفاوت كثير صار الألم الذي يقع بهم من قمع شهواتهم مختلفا اختلافا كثيرا بحسب اختلاف أحوالهم. فصار المولود من الملوك والناشئ في نعمهم لا تحتمل بشرته خشن الثياب ولا تقبل معدته بشع الطعام بالإضافة إلى ما يقنع به المولود من العامة، لكن يتألم من ذلك ألما شديدا، أو المعتادون أيضا إصابة لذّةٍ ما من اللذات يتألمون عند المنع منها وتكون المؤونة عليهم متضاعفة وأبلغ وأشد ممن لم يعتد تلك اللذة، ومن أجل ذلك أنه لا يمكن أن يكون تكليفهم كلهم تكليفا سواء بل مختلفا بحسب اختلاف أحوالهم. فلا يكلف المتفلسف من أولاد الملوك أن يلزم من الطعام والسراب وسائر أمور معايشه ما يكلف أولاد العامة إلا على تدريج إن دعت ضرورة. لكن الحد الذي لا يمكن أن يتجاوز هو أن يمتنعوا من الملاذ التي لا يمكن الوصول إليها إلا بارتكاب الظلم والقتل وبالجملة بجميع ما يسخط الله ولا يجب في حكم العقل والعدل، ويباح لهم ما دون ذلك. فهذا هو الحد من فوق أعني قي إطلاق التنعم. وأما الحد من أسفل أعني في التقشف والتقليل فأن يأكل الإنسان ما لا يضره ولا يمرض عليه ولا يتعدى إلى ما يستلذه غاية الاستلذاذ ويشتهيه فيكون القصد إليه للذة والشهوة لا لسد الجوع. ويلبس ما تحتمله بشرته من غير أذى ولا يميل إلى الفاخر والمنقش من اللباس، ويسن ما يقيه من الحرارة والبرد المفرطين ولا يتعدى إلى المساكن الجليلة البهية المنقوشة المزخرفة إلا أن يكون له من سعة المال ما يمكن أن يتسع معه في مثل هذه الأمور من غير ظلم ولا تعد ولا إجهاد لنفسه في الاكتساب. ولذلك يفضل في هذا المعنى المولودون من الآباء الفقراء والناشئون في الأحوال الرثة لأن التقلل والتقشف على أمثال هؤلاء أسهل كما كان التقلل والتقشف على سقراط أسهل منهما على افلاطون. وما بين هذين الحدين فمباح لا يخرج به مستعمله من اسم الفلسفة بل يجوز أن يسمى بها، وإن كان الفضل في الميل إلى الحد الأسفل دون الأعلى وكانت النفوس الفاضلة وإن كانت مصاحبة لأجسادٍ غُذيت في نعمة تأخذ أجسادها بالتدرج إلى الحد الأسفل. فأما مجاوزة الحد الأسفل فخروج عن الفلسفة إلى مثل ما ذكرنا من أحوال الهند والمنانية والرهبان والنساك، وهو خروج عن السيرة العادلة وإسخاط الله تعالى بإيلام النفوس باطلاً واستحقاق للإخراج عن اسم الفلسفة. وكذلك الحال في مجاوزة الحد الأعلى، نسأل الله واهب العقل وفارج الغم وكاشف الهم توفيقنا وتسديدنا ومعونتنا على ما هو الأرضى عنده والأزلف لنا لديه وجملة أقول: إنه لما كان البارئ عز وجل هو العالم الذي لا يجهل والعادل الذي لا يجوز وكان العلم والرحمة بإطلاق وكان لنا بارئا ومالكا وكنا له عبيدا مملوكين وكان أحب العبيد إلى مواليهم آخذهم بسيرهم وأجراهم على سننهم كان أقرب عبيد الله جل وعز إليه أعلمهم وأعدلهم وأرحمهم وأرأفهم. وكل هذا الكلام مراد قول الفلاسفة جميعا إن الفلسفة هي التشبه بالله عز وجل بقدر ما في طاقة الإنسان، وهذه جملة السيرة الفلسفية. فأما تفصيلها فعلى ما في كتاب الطب الروحاني، فإنا قد ذكرنا هناك كيف تنتزع الأخلاق الرديئة عن النفس وكم مقدار ما ينبغي أن يجرى عليه المتفلسف أمره في الاكتساب والاقتناء والإنفاق وطلب مراتب الرياسة.
وإذ قد بينا ما أوردنا بيانه في هذا الموضع فنرجع ونبين ما عندنا ونذكر الطاعنين علينا ونذكر أنا لم نسر بسيرة إلى يومنا هذا - بتوفيق الله ومعونته - نستحق أن نخرج بها عن التسمية فيلسوفا. وذلك أن المستحق لمحو اسم الفلسفة عنه من قصر في جزئي الفلسفة جميعا - اعني العلم والعمل - بجهل ما للفيلسوف أن يعلمه أو سار بما ليس للفيلسوف أن يسير به. ونحن بحمد الله ومنه وتوفيقه وإرشاده فبُرآءُ من ذلك. أما في باب العلم فمن قبل أنا لو لم تكن عندنا منه إلا القوة على تأليف مثل هذا الكتاب لكان ذلك مانعا عن أن يمحى عنا اسم الفلسفة فضلا عن مثل كتابنا في البرهان وفي العلم الإلهي. وفي الطب الروحاني وكتابنا في المدخل إلى العلم الطبيعي الموسوم بسمع الكيان ومقالتنا في التركيب وأن للجسم حركة من ذاته وأن الحركة معلومة، وكتابنا في النفس وكتبنا في الهيولى، وكتبنا في الطب كالكتاب المنصوري وكتابنا إلى من لا يحضره طبيب، وكتابنا في الأدوية الموجودة والموسوم بالطب الملوكي والكتاب الموسوم بالجامع الذي لم يسبقني إليه أحد من أهل المملكة ولا احتذى فيه أحد بعد احتذائي وحذوي، وكتبنا في صناعة الحكمة التي هي عند العام الكيمياء، وبالجملة فقرابة مائتي كتاب ومقالة ورسالة خرجت عني إلى وقت عملي هذه المقالة في فنون الفلسفة من العلم الطبيعي والإلهي. فأما الرياضيات فإني مقرّ بآني إنما لاحظتها ملاحظة بقدر ما لم يكن لي منها بد ولم أُفِن زماني في التمهر بها بالقصد مني ذلك لا للمعجزة عنه. ومن شاء لأوضحت له عذري في ذلك بأن الصواب في ذلك ما عملته لا ما يعمله المفنون لأعمارهم في الاشتغال بفضول الهندسة من الموسومين بالفلسفة. فإن لم يكن مبلغي من العلم المبلغ الذي أستحق أن أسمي فيلسوفا فمن هو ليت شعري ذلك في دهرنا هذا وأما الجزء العملي فإني بعون الله وتوفيقه لم أَتَعَدَّ في سيرتي الجدين اللذين جددت، ولم يظهر من أفعالي ما استحققت أن يقال أنه ليست سيرتي سيرة فلسفية. فإني لم أصحب السلطان صحبة حامل السلاح ولا متولي أعماله، بل صحبته صحبة متطبب ومنادم يتصرف بين أمرين: أما في وقت مرضه فعلاجه وإصلاح أمر بدنه، وأمّا في وقت صحّة بدنه فإيناسه والمشورة عليه - يعلم الله ذلك منيّ - بجميع ما رجوت به عائدة صلاح عليه وعلى رعيته. ولا ظهر مني على شره في جمع مال أسرف فيه ولا على منازعات الناس ومخاصماتهم وظلمهم، بل المعلوم مني ضد ذلك كله والتجافي عن كثير من حقوقي. وأما حالتي في مطعمي ومشربي ولهوي فقد يعلم من يُكثر مشاهدة ذلك مني أنّي لم أَتَعَدَّ إلى الإفراط، وكذلك في سائر أحوالي مما يشاهده هذا من ملبس أو مركوب أو خادم أو جارية. فأما محبتي للعلم وحرصي عليه واجتهادي فيه فمعلوم عند من صحبني وشاهد ذلك مني أني لم أزل منذ حداثتي وإلى وقتي هذا مُكباً عليه حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه أو رجل لم ألقه لم ألتفت إلى شُغل بتّةً - ولو كان في ذلك على عظيم ضرر - دون أن آتي على الكتاب وأعرف ما عند الرجل. وإنه بلغ من صبري واجتهادي أنّي كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة. وبقيت في عمل الجامع الكبير خمس عشرة سنة أعمله الليل والنهار حتى ضعف بصري وحدث عليّ فسخ في عضل يدي يمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي فإن كان المقدار الذي أنا عليه من هذه الأمور عند هؤلاء القوم يحطَّني عن رتبة الفلسفة في العمل وكان الغرض من حذو سيرة الفلسفة عندهم غير ما وصفنا فليثبتوه لنا مشاهدةً أو مكاتبة لنقبله منهم إن جاءوا بفضل علم، أو نردّه عليهم أن أثبتنا فيه موضع خطأ أو نقص. وهب أني قد تساهلت عليهم وأقررت بالتقصير في الجزء العملي، فما عسى أن يقولوا في الجزء العلمي؟ فإن كانوا استنقصوني فيه فليُلقُوا إلىّ ما يقولونه في ذلك لننظر فيه ونذعن من بعد بحقهم أو نرد عليهم غلطهم. فإن كانوا لا يستنقصوني في الجزء العلمي فأولى الأشياء أن ينتفعوا بعلمي ولا يلتفتوا إلى سيرتي ليكونوا على مثل ما يقول الشعر
اِعْمَلَ بِعِلْمِي فَإِنْ قَصَّرْتُ فيِ عَمَليِ يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيِري
فهذا ما أردنا أن نودع في هذه المقالة. ولواهب العقل الحمد بلا نهاية كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على المصطفين من عباده والخيرات من إمائه.