ارادة الداعي الى الهدى والضلال
فالداعي الى الهدى والى الضلالة هو طالب مريد كامل الطلب والارادة لما دعا اليه لكن قدرته بالدعاء والأمر وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول ولهذا قرن الله تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب وما يحصل للكفار بهم من الغيط وما ينالونه من العدو وقال كتب لهم به عمل صالح فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرةالتي باشروها بأنفسهم وهي الانفاق وقطع المسافة فلهذا قال فيها الا كتب لهم فإن هذه نفسها عمل صالح وارادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فما حدث مع هذه الارادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الاعانة هي لهم عمل صالح وكذلك الداعي الى الهدى والضلالة لما كانت ارادتهم جازمة كاملة في هدى الأتباع وضلالهم وأتى من الاعانة على ذلك بما يقدر عليه كان بمنزلة العامل الكامل فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه للهادي مثل أجور المهتدين وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة فان السنة هي مارسم للتحري فإن السان كامل الارادة لكل ما يفعل من ذلك وفعله بحسب قدرته ومن هذا قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال لا تقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فالكفل النصيب مثل نصيب القاتل كما فسره الحديث الآخر وهو كما استباح جنس قتل المعصوم لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة فصار شريكا في قتل كل نفس ومنه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ويشبه هذا أنه من كذب رسولا معينا كتكذيب جنس الرسل كما قيل فيه كذبت قوم نوح المرسلين كذبت عاد المرسلين ونحو ذلك ومن هذا الباب قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء انهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون فأخبر أن أمة الضلال لا يحملون من خطايا الأتباع شيئا وأخبر أنهم يحملون أثقالهم وهي أوزار الأتباع من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيء لأن ارادتهم كانت جازمة بذلك وفعلوا مقدورهم فصار لهم جزاء كل عامل لأن الجزاء على العمل يستحق مع الارادة الجازمة وفعل المقدور منه وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان أن النبي ﷺ كتب الى هرقل فإن توليت فإن عليك اثم الأريسيين فأخبر أن هرقل لما كان امامهم المتبوع في دينهم أن عليه اثم الأربسيين وهم الأتباع وان كان قد قيل ان أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة كلفظ الطاء بالتركي فإن هذه الكلمة تقلب الى ما هو أعم من ذلك ومعلوم أنه اذا تولى عن أتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة ومن هذا قوله تعالى الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب المستكبرين واذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
فقوله ومن أوزار الذين يضلونهم هي الأوزار الحاصلة لضلال الأتباع وهي حاصلة من جهة الآمر ومن جهة المأمور المتثل فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلال فلهذا كان على هذا بعضه وعلى هذا بعضه الا أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل كما دلت عليه سائر النصوص مثل قوله من دعا الى الضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ومن هذا الباب قوله تعالى قال ادخلوا في أمم قد قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى اذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى وقالوا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفا من العذاب ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال حتى روي في أثر لا يحضرني اسناده انه ما من عذاب في النار الا يبدأ فيه بابليس ثم يصعد بعد ذلك الى غيره وما من نعيم في الجنة الا يبدأ فيه بالنبي ﷺ ثم ينتقل الى غيره فإنه هو الامام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم كما قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم وهو أول من يستفتح باب الجنة وذلك أن جميع الخلائق أخذ الله عليهم ميثاق الايمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء ويصدق بمن بعده قال تعالى واذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه الآية فافتتح الكلام باللام الموطئة للقسم التي يؤتى بها اذا اشتمل الكلام على قسم وشرط وأدخل اللام على ما الشرطية ليبين العموم ويكون المعنى مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم اذا جاءكم ذلك النبي المصدق الايمان به ونصره كما قال ابن عباس ما بعث الله نبيا الا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه والله تعالى قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه كما في حديث ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا وفي رواية متى كتبت نبيا فقال وآدم بين الروح والجسد رواه أحمد وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي ﷺ أنه قال اني عند الله الخاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته الحديث فكتب الله وقدر في ذلك الوقت وفي تلك الحال أمر امام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه كما ثبت ذ لك في الصحيحين من حديث ابن مسعود فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك وان كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت الا بالايمان المجمل على أنه امام مطلق لجميع الذرية وأن له نصيبا من ايمان كل مؤمن من الأولين والآخرين كما أن كل ضلال وغواية في الجن والانس لابليس منه نصيب فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي ﷺ مرسلا اما من مراسيل الزهري واما من مراسيل من فوقه من التابعين قال بعثت داعيا وليس الي من الهداية شيء وبعث ابليس مزينا ومغويا وليس اليه من الضلالة شيء ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه قوله في الحديث الذي في السنن وزنت بالأمة فرجحت ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح ثم وزن عمر بالأمة فرجح ثم رفع الميزان فأما كون النبي ﷺ راجحا بالأمة فظاهر لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا الى أجره وأما أبو بكر وعمر فلأن لهما معاونة مع الارادة الجازمة في ايمان الأمة كلها وأبو بكر كان في ذلك سابقا لعمر وأقوى ارادة منه فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي ﷺ على ايمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها في محياه وبعد وفاته ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد أفي القوم محمد أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن الخطاب فقال النبي ﷺ لا تجيبوه فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال كذبت يا عدو الله ان الذي ذكرت لأحياء وقد بقي لك ما يسوءك رواه البخاري ومسلم حديث البراء بن عازب فأبو سفيان رأس الكفر حينئذ لم يسأل الا عن هؤلاء الثلاثة لأنهم قادة المؤمنين كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال والله ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقى الله بعمله من هذا المسجى والله اني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر وأمثال هذه النصوص كثيرة تبين سبب استحقاقهما ان كان لهما مثل أعمال جميع الأمة لوجود الارادة الجازمة مع التمكن من القدرة على ذلك كله بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض ووجدت منه ارادة في بعض ذلك دون بعض وأيضا فالمريد ارادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل وان لم يكن اماما وداعيا كما قال سبحانه لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسني وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما الارادة الجازمة مع العجز عن الفعل فالله تعالىنفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز بل يقال دليل الخطاب يقتضي مساواته اياه ولفظ الآية صريح استثنى أولو الضرر من نفي المساواة فالأستثناء هنا هو من النفي وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وان لم يساووهم في الجميع ويوافقه ما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في غزوة تبوك ان بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه الا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم الا العذر ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال اذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم فإنه اذا كان يعمل في الصحةوالاقامة عملا ثم لم يتركه الا لمرض أو سفر ثبت أنه انما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الارادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل الا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وان كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض الا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا وقوله فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافية ومن هذا الباب ما ثبت عنه ﷺ أنه قال من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا وقوله من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء فإن الغزو يحتاج الى جهاد بالنفس وجهاد بالمال فإذا بذل هذا بدنه وهذا ماله مع وجود الارادة الجازمة في كل منهما كان كل منهما مجاهدا بارادته الجازمة ومبلغ قدرته وكذلك لا بد للغازي من خليفة في الأهل فاذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز وكذلك الصيام لا بد فيه من امساك ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم والا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم وكذلك قوله في الحديث الصحيح اذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها مثل ذلك لا ينقص بعبضهم من أجور بعض شيئا وكذلك قوله في حديث أبي موسى الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين أخرجاه وذلك أن اعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرا طيبة به نفسه لا يكون الا مع الارادة الجازمة الموافقة لارادة الآمر وقد فعل مقدوره وهو الامتثال فكان أحد المصتدقين ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي ﷺ قال انما الدنيا لأربعة رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله فقال رجل لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله فقال النبي ﷺ فهما في الأجر سواء وقد رواه الترمذي مطولا وقال حديث حسن صحيح فهذا التساوي مع الأجر والوزر هو في حكاية حال من قال ذلك وكان صادقا فيه وعلم الله منه ارادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل الا لفوات القدرة فلهذا استويا في الثواب والعقاب وليس هذه الحال تحصل لكل من قال لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل الا اذا كانت ارادته جازمة يجب وجود الفعل معها اذا كانت القدرة حاصلة والا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لا نفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون
وليس كل من عزم على شيء عزما جازما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الارادة عند القدرة المقارنة للصوارف كما قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وكما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أن رجلا من أمة النبي ﷺ ينشر الله له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر ويقال له هل تنكر من هذا شيئا هل ظلمتك فيقول لا يا رب فيقال له لا ظلم عليك اليوم فيؤتى ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والاخلاص والصفاء وحسن النية اذ الكلمات والعبادات وان اشتركت في الصورة الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما ومثل هذا الحديث في حديث المرأة البغي التي سقت كلبا فغفر الله لها فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة اذ ذاك ومثله قوله ﷺ ان العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه الى يوم القيامة وان العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه الى يوم القيامة العبد بين الهم والعمل وأمثله لذلك وبهذا تبين أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها انما هي فيما دون الارادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي ﷺ فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال أن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده سيئة واحدة وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل لهذا قال فعملها فلم يعملها ومن أمكنه الفعل فلم يفعل لم تكن ارادته جازمة فإن الارادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل وموجب له اذ لو توقف على شيء آخر لم تكن الارادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل ومن المعلوم والمحسوس أن الأمر بخلاف ذلك ولا ريب أن الهم والعزم والارادة ونحو ذلك قد يكون جازما لا يتخلف عنه الفعل الا للعجز وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل بل يفرق بين ارادة وارادة اذ الارادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد كما قال أبو هريرة القلب ملك والأعضاء جنوده فاذا طاب الملك طابت جنوده واذا خبث الملك خبثت جنوده وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي ﷺ ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب فاذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة فإن ذلك طاعة وخير وكذلك هو في عرف الناس كما قيل لأشكرن لك معروفا هممت به ان اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك ان لم يمضه قدرفالشيء بالقدر المحتوم مصروف فإن عملها كتبها الله له عشر حسنات لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف كما قال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة وكما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة الى أضعاف كثيرة وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا انه يعطى به ألف ألف حسنة وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها فإن الله لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح وسواء سمي همه ارادة أو عزما أو لم يسم متى كان قادرا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست ارادته جازمة وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ ان الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن ارادته لها جازمة فتلك مما لم يكتبها الله عليه كما شهد به قوله من هم بسيئة فلم يعملها ومن حكى الاجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار وهذا الهام بالسيئة فاما أن يرتكها لخشية الله وخوفه أو يتركها لغير ذلك فإن تركها لخشية الله كتبها الله له عنده حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث وكما قد جاء في الحديث الآخر اكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي أو قال من جرائي وأما ان تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة كما جاء في الحديث الآخر فإن لم يعملها لم تكتب عليه وبهذا تتفق معاني الأحاديث وان عملها لم تكتب عليه الا سيئة واحدة فإن الله تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها ولا يجزي الانسان في الآخرة الا بما عملت نفسه ولا تمتلىء جهنم الا من أتباع ابليس من ا لجنة والناس كما قال تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس أن الجنة يبقى فيها فضل فينشىء الله لها أقواما في الآخرة وأما النار فإنه ينزوي بعضها الى بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلىء بمن دخلها من أتباع ابليس ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولاد المشركين وأنه لا يجزم لمعين منهم بجنة ولا نار بل يقال فيهم كما قال النبي ﷺ في الحديثين الصحيحين حديث أبي هريرة وابن عباس الله أعلم بما كانوا عاملين فحديث أبي هريرة في الصحيحين وحديث ابن عباس في البخاري وفي حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري أن منهم من يدخل الجنة وثبت أن منهم من يدخل النار كما في صحيح مسلم في قصة الغلام الذي قتله الخضر وهذا يحقق ما روي من وجوه أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الله فيهم فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره وأما أئمة الضلال الذين عليهم أوزار من أضلوه ونحوهم فقد بينا أنهم انما عوقبوا لوجود الارادة الجازمة مع التمكن من الفعل بقوله في حديث أبي كبشة فهما في الوزر سواء وقوله من دعا الى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه فاذا وجدت الارادة الجازمة والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه ارادة جازمة وفاعل السيئة التي تمضي لا يجزي بها الا سيئة واحدة كما شهد به النص وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الامام أحمد الهم همان هم خطرات وهم اصرار فهم الخطرات يكون من القادر فإنه لو كان همه اصرارا جازما وهو قادر لوقع الفعل ومن هذا الباب هم يوسف حيث قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه الآية وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل انه كان هم اصرار لأنها فعلت مقدورها وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى وهموا بما لم ينالوافهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم كما ذمهم الله عليه ومثله يذم وان لم يكن جازما كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافي الايمان وبين ما لا ينافيه وكذلك الحريص على السيئات الجازم بارادة فعلها اذا لم يمنعه الا مجرد العجز فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل لحديث أبي كبشة ولما في الحديث الصحيح اذا التفى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل هذا القاتل فما بال المقتول قال انه كان حريصا على قتل صاحبه وفي لفظ انه أراد قتل صاحبه فهذه الارادة هي الحرص وهي الارادة الجازمة وقد وجد معها المقدور وهو القتال لكن عجز عن القتل وليس هذا من الهم الذي لا يكتب ولا يقال انه استحق ذلك بمجرد قوله لو أن لي ما لفلان لعملت مثل ما عمل فإن تمني الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم بل لا بد من أمر آخر وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه وانما ذكر أنهما في الوزر سواء وعلى هذا فقوله ان الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل لا ينافي العقوبة على الارادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل فان الارادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل والا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت ارادته جازمة عازمة فلا بد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه ولو أنه يقربه الى جهة المعصية مثل تقرب السارق الى مكان المال المسروق ومثل نظر الزاني واستماعه الى المزني به وتكلمه معه ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك فلا بد مع الارادةالجازمة من شيء من مقدمات الفعل المقدور بل مقدمات الفعل توجد بدون الارادة الجازمة عليه كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه العينان تزنيان وزناهما النظر واللسان يزني وزناه النطق واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك او يكذبه وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال انه أراد قتل صاحبه وفي رواية في الصحيحين انه كان حريصا على قتل صاحبه فانه أراد ذلك ارادة جازمة فعل معها مقدوره منعه منها من قتل صاحبه العجز وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل فاستحق حينئذ النار كما قدمنا من أن الارادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام والارادة التامة قد ذكرنا أنه لا بد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك مع القدرة مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا من اللمس والنظر والقبلة ويمتنع عن الفاحشة الكبرى لهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح العين تزني والأذن تزني واللسان يزني الى أن قال والقلب يتمنى ويشتهي أي يتمنى الوطء ويشتهيه ولم يقل يريد ومجرد الشهوة والتمني ليس ارادة جازمة ولا يستلزم وجود الفعل فلا يعاقب على ذلك وانما يعاقب اذا أراد ارادة جازمة مع القدرة والارادة الجازمة التي يصدقها الفرج ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من أمرأة قبلة فأتى رسول الله ﷺ فذكر ذلك له فأنزل الله تعالى أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات الآية فقال الرجل ألي هذه فقال لمن عمل بها من أمتي فمثل هذا الرجل وأمثاله لا بد في الغالب أن يهم بما هو أكبر من ذلك كما قال والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه لكن ارادته القلبية للقبله كانت ارادة جازمة فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة وأما ارادته للجماع فقد تكون غير جازمة وقد تكون جازمة لكن لم يكن قادرا والأشبه في الذي نزلت فيه الآية أنه كان متمكنا لكنه لم يفعل فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الاصرار هو الذي عليه الجواب فمن لم يمنعه من الفعل الا العجز فلا بد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته وان فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر ولهذا قال ابن المبارك المصر الذي يشرب الخمر اليوم ثم لا يشربها الى شهر وفي رواية الى ثلاثين سنة ومن نيته أنه ااذا قدر على شربها شربها وقد يكون مصرا اذا عزم على الفعل في وقت دون وقت كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره فليس هذا بتائب مطلقا ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ويثاب اذا كان ذلك الترك لله وتعظيم شعائر الله واجناب محارمه في ذلك الوقت ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ولا هو مصر مطلقا وأما الذي وصفه ابن المبارك فهو مصر اذا كان من نيته العود الى شربها قلت والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود اليها في غير شهر رمضان مصر أيضا لكن نيته أن يشربها اذا قدر عليها غير النية مع وجود القدرة فاذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى ولكن متى كان مريدا ارادة جازمة لا يمنعه الا العجز فهو معاقب على ذلك كما تقدم وتقدم أن مثل هذا لا بد أن يقترن بارادته ما يتمكن من الفعل معه وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الاجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له فهذا الإجماع صحيح مع القدرة فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن فانه بمنزلة الفاعل التام كما تقدم ومما يوضح هذا أن الله سبحانه في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الارادة كقوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا وقال من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار وقال من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ويريد الحياة الدنيا ويريد حرث الدنيا وقال في آية هود نوف اليهم أعمالهم فيها الى أن قال وباطل ما كانوا يعملون فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها وأن الارادة هنا مستلزمة للعمل ولما ذكر ارادة الآخرة قال ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن وذلك لأن ارادة الآخرة وان استلزمت عملها فالثواب انما هو على العمل المأمور به لا كل سعي ولا بد مع ذلك من الايمان ومنه قوله يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرةفهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود وهذا يطابق قوله اذا التقى المسلمان بسيفيهما الا أنه قال فانه أراد قتل صاحبه أو انه كان حريصا على قتل صاحبه فذكر الحرص والارادة على القتل وهذا لا بد أن يقترن به فعل وليس هذا مما دخل في حديث العفو ان الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها
ومما يبنى على هذا مسألة معروفة بين أهل السنة وأكثر العلماء وبين بعض القدريه وهي توبة العاجز عن الفعل كتوبة المجبوب عن الزنا وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة ونحوه من العجز فانها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم وخالف في ذلك بعض القدرية بناء على أن العاجز عن الفعل لا يصح أن يثاب على تركه الفعل بل يعاقب على تركه وليس كذلك بل ارادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا وبينا أن الارادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام فهذا العاجز اذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه كالتائب القادر عليها سواء فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل كاصرار العاجز عن كمال الفعل ومما يبنى على هذا المسألة المشهورة في الطلاق وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به فانه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء وعند مالك في احدى الروايتين يقع وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله ان الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها فقال المنازع هذا المتجاوز عنه انما هو حديث النفس والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس فقال المنازع لهم قد قال ما لم تكلم به أو تعمل به فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد الى هذه الغاية التي هي الكلام به والعمل به كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن فانه لو كان حديث النفس اذا صار عزما ولم يتكلم به أو يعمل يواخذ به لكان خلاف النص لكن يقال هذا في المأمور صاحب المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل اذا لم يتكلم ولم يعمل وأما الارادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجري مجرى التي أتى معها بكمال العمل بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما لكنه اذا أتى بمبلغ طاقته من الاشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقا فليس كذلك بل اذا قيل ان الارادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك يصح ذلك فإن المراد ان كان مقدورا مع الارادة الجازمة وجب وجوده وان كان ممتنعا فلا بد مع الارادة الجازمة من فعل بعض مقدماته وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم وحديث النفس ليس ارادة جازمة ولهذا لم يجيء في النصوص العفو عن مسمى الارادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب اذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا وحينئذ قوله ﷺ ان الله تجاوز لأمتي الحديث حق والمؤاخذة بالارادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق ولكن طائفة من الناس قالوا ان الارادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ثم تنازعوا في العقاب عليها فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج ابن الجوزي يرون العقوبة على ذلك وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ اذا لم يكن هناك قول أو عمل والقاضي بناها على أصله في الايمان الذي اتبع فيه جهما والصالحي وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري وهو أن الايمان مجرد تصديق القلب ولو كذب بلسانه وسب الله ورسوله بلسانه وأن سب الله ورسوله انما هو كفر في الظاهر وأن كلما كان كفرا في نفس الأمر فانه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل حتى ان الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في الايمان بهذا القول بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون هو تصديق القلب واللسان فان هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة وانما بدعوهم وقد بسط الكلام في الايمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها فيقدر مالا وجود له أوجه خطأ جهم في الايمان وأصل جهم في الايمان تضمن غلطا من وجوه أمنها ظنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب كحب الله وخشيته ونحو ذلك ب ومنها ظنه ثبوت ايمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال جومنها ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار فانه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق وجزموا بأن ابليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك وهذا كلامهم في الارادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك فان هذه الأمور اذا كانت هما وحديث نفس فانه معفو عنها واذا صارت ارادة جازمة وحبا وبغضا لزم وجود الفعل ووقوعه وحينئذ فليس لأحد أن يقدر وجودها مجردة ثم يقول ليس فيها اثم وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل محبةالله ورسوله واقترانها بالارادة فان الأمة مجمعة على أن الله يثيب على محبته ومحبة رسوله والحب فيه والبغض فيه ويعاقب على بغضه وبغض رسوله وبغض أوليائه وعلى محبة الأنداد من دونه وما يدخل في هذه المحبة من الارادات والعزوم فان المحبة سواء كانت نوعا من الارادة أو نوعا آخر مستلزما للارادة فلا بد معها من ارادة وعزم فلا يقال هذا من حديث النفس المعفو عنه بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله وفي الصيحيحن عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال كنا مع رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر لأنت يا رسول الله أحب الي من كل شيء الا من نفسي فقال النبي ﷺ لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب اليك من نفسك فقال عمر فانك الآن أحب الي من نفسي فقال النبي ﷺ الآن يا عمر بل قد قال تعالى قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخسون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربضوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فانظر الى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب اليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب الى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والأخوان والا لم يكن مؤمنا حقا ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال قال رسول الله ﷺ لا يجد أحدحلاوة الايمان حتى يحب المرء لا يحبه الا الله وحتى أن يقذف في النار أحب اليه من أن يرجع في الكفر وحتى يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وهذا لفظ البخاري فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الايمان الا بهذه المحبات الثلاث أحدهما أن يكون الله ورسوله أحب اليه من سواهما وهذا من أصول الايمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها الثاني أن يحب العبد لا يحبه الا لله وهذا من لوازم الأول والثالث أن يكون القاؤه في النار أحب اليه من الرجوع الى الكفر وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقة في التوبة هذه الخصال محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه وان كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالارادة المتعلقة بأفعالنا فهي مستلزمة لذلك فان من كان الله ورسوله أحب اليه من نفسه وأهله وماله لا بد أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة مثل ارادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب الى الله ورسوله ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله ومن هذا الباب ما استفاض عنه ﷺ في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي ﷺ قال المرء مع من أحب وفي رواية الرجل يحب القوم ولما يلحق لهم أي ولما يعمل بأعمالهم فقال المرء مع من أحب قال أنس فما فرح المسلمون بشيء بعد الاسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر وأرجو أن يجعلني الله معهم وان لم أعمل عملهم وهذا الحديث حق فان كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك وكونه معه هوعلى محبته اياه فان كانت المحبةمتوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسسب ذلك وان كانت المحبة كاملة كان معه كذلك والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه اذا كان المحب قادرا عليها فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك وان كانت موجودة وحب الشيء وارادته يستلزم بغض ضده وكراهته مع العلم بالتضاد ولهذا قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله والموادة من أعمال القلوب فان الايمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله وذلك يناقض موادة من حاد الله ورسوله وما ناقض الايمان بالله يستلزم العزم والعقاب لأجل عدم الايمان فان ما ناقض الايمان كالشك والاعراض وردة القلب وبغض الله ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الله به رسوله فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات ايمان القلب فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيا عنه كالفواحش والظلم فان هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده اذا كان هذا لا يناقض أصل الايمان وان كان يناقض كماله بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصلاة تضمنت شيئين أحدهما نهيها عن الذنوب والثاني تضمنها ذكر الله وهو أكبر الأمرين فما فيها من ذكر الله أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر والبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أن المحبة التامة لله ورسوله تستلزم وجود محبوباته ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان فانه اذا كان حبه لله وبغضه لله وهما عمل قلبه وعطاؤه لله ومنعه لله وهما عمل بدنه دل على كمال محبته لله ودل ذلك على كمال الايمان وذلك أن كمال الايمان أن يكون الدين كله لله وذلك عبادة الله وحده لا شريك له والعبادة تتضمن كما الحب وكمال الذل والحب مبدأ جميع الحركات الارادية ولا بد لكل حي من حب وبغض فاذا كانت محبته لمن يحبه الله وبغضه لمن يبغضه الله دل ذلك على صحة الايمان في قلبه لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس فاذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله دل على كمال الايمان باطنا وظاهرا وأصل الشرك في الشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا انما هو اتخاذ أنداد يحبونهم كحب الله كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ومن كان حبه لله وبغضبه لله لا يحب الا الله ولا يبغض الا الله ولايعطي الا الله ولا يمنع الا الله فهذه حال السابقين من أولياء الله كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب الي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكثره مساءته ولا بد له منه فهؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة تقربوا بما يحبه من النوافل بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض أحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه وصار أحدهم يدرك بالله ويتحرك بالله بحيث أن الله يحيب مسألته ويعذه مما استعاذ منه وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم وذم من اتخذ الهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه وهذا قد يكون فعل القلب فقط وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع على المحبة والارادة والبغض والسخط والفرح والغم ونحو ذلك من أفعال القولب كقوله والذين آمنوا أشد حبا لله وقوله كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقوله يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا وقوله ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها وقوله وقوله واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون وقوله واذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا وقوله ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم وقوله ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقوله وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم وقوله وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم الا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالى ولا ينفقون الا وهم كارهون وقوله ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم وقوله وأذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه ايماناالآية وقوله والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل اليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه وقوله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا وقال اذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين وقال ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون وقال ان الله لا يحب كل مختال فخور وقال وانا اذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وقال ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني انه لفرح فخور الا الذين صبروا وعملوا الصالحات وقال وتحبون المال حبا جما وقال ان الانسان لربه لكنود وانه على ذلك لشهيد وانه لحب الخير لشديد وقال ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون وقال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون
اعمال القلب
وقال وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين وقال بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون الى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وقال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال ومن شر حاسد اذا حسد وقال ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا وقال لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وقال ان يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم وقال اذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وقال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فيطمع الذي في قلبه مرض وقال واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض وقال أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ومثل هذا كثير في كتاب الله وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء الله من مساعي القلوب وأعمالها مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه لا تباغضوا ولا تحاسدوا وقوله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه وقوله مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وقوله لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من الايمان وقوله لا تسموا العنب الكرم وانما الكرم قلب المؤمن وأمثال هذا كثير
بل قول القلب وعمله هو الأصل مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة ومنه ما لا يقترن به ذلك الا مع الفعل بالجوارح الظاهرة اذا كانت مقدورة وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام أقسام أعمال القلب أحدهما ما هو حسنة وسيئة بنفسه وثانيها ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل وهو السيئة المقدورة كما تقدم وثالثها ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة كما تقدم فالقسم الأول هو ما يتعلق بأصول الايمان من التصديق والتكذيب والحب والبغض وتوابع ذلك فاذن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب وعلو الدرجات وأسفل الدركات بما يكون في القلوب من هذه الأمور وان لم يظهر على الجوارح بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة وانما عقابهم وكونهم في ا لدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض وان كان ذلك قد يقترن به أحيانا بغض القول والفعل لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير وانما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول فأخبر أنهم لا بد أن يعرفوا في لحن القول
وأما القسم الثاني والثالث فمظنة الأفعال التي لا تنافي أصول الايمان مثل المعاصي الطبعية مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر كما ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال من مات يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله دخل الجنة وان زنا وان سرق وان شرب الخمر وكما شهد النبي ﷺ في الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل فقال لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله وفي رواية قال بعضهم أخزاه الله ما أكثر ما يؤتي به في شرب الخمر فقال النبي ﷺ لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة حديث النفس والوسوسة ولهذا قال ان الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به والعفو عن حديث النفس انما وقع لأمة محمد المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الايمان فأما ما نافى الايمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث لأنه اذا نافى الايمان لم يكن صاحبه من أمة محمد في الحقيقة ويكون بمنزلة المنافقين فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله وهذا فرق بين يدل عليه الحديث وبه تألفت الأدلة الشرعيه وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة فمن صح ايمانه عفي له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار بخلاف من ليس معه الايمان فان هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخظئه ونسيانه ولهذا جاء نية المؤمن خير من عمله هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الأمثال من مراسيل ثابت البناني وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي ﷺ ثم ضعفها فالله أعلم فان النية يثاب عليها المؤمن بمجردها وتجري مجرى العمل اذا لم يمنع من العمل بها الا العجز ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة وذلك لا يكون إلا قليلا ولهذا قال بعض السلف قوة المؤمن في قلبه وضعفه في بدنه وقوة المنافق في بدنه وضعفه في قلبه وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاءالآية وهذه الآية وان كان قد قال طائف من السلف انها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي ﷺ وهو ابن عمر أنها نسخت فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين يريدون به رفع الدلالة مطلقا وان كان تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق وغير ذلك كما هو معروف في عرفهم وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك وزعم قوم أن ذلك خبر والخبر لا ينسخ ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله لا يكلف الله نفسا الا وسعها كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه كما روى ابن ماجه وغيره باسناد حسن ان الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما اتستكرهوا عليه وحقيقة الأمر أن قوله سبحانه ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه لم يدل على المؤخذة بذلك بل دل على المحاسبة به ولا يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب ولهذا قال فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب ولا أنه يغفر كل شيء أو يعذب على كل شيء مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين وأنه لا يغفر أن يشرك به الا مع التوبه ونحو ذلك
والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعا لأصل الايمان وما كان منافيا له ويفرق أيضا بين ما كان مقدورا عليه فلم يفعل وبين ما لم يترك الا للعجز عنه فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة انما وقع لكونهم رأوا عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون الا اذا كان الفعل مقارنا للعزم وان كان العجز مقارنا للارادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا فمع الارادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه وان لم يوجد الفعل نفسه والانسان يجد من نفسه أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وارادته ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء ولا عما يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه مثل بسط الوجه وتعبسه واقباله على الشيء والاعراض عنه وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب كما يترتب عليها الحمد والثواب وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون الا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازما ولا نزاع في اطلاق الألفاظ فان من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول ما قارن الفعل فهو قصد وما كان قبله فهو عزم ومنهم من يجعل الجميع سواء وقد تنازعوا هل تسمى ارادة الله لما يفعله في المستقبل فلا بد حين فعله من تجدد ارادة غير العزم المتقدم وهي الارادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة وتنازعوا أيضا هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي وقد ذكروا أيضا في ذلك قولان
والأظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور والارادة مع القدرة تستلزم وجود المراد والمتنازعون في هذه أراد أحدهم اثبات العقاب مطلقا على كل عزم على فعل مستقبل وان لم يقترن به فعل وأراد الآخر رفع العقاب مطلقا عن كل ما في النفس من الارادات الجازمة ونحوها مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل وكل من هذين انحراف عن الوسط فاذا عرف أن الارادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة الا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب وأما اذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادا ارادة جازمة بل هو الهم الذي وقع العفو عنه وبه ائتلفت النصوص والأصول ثم هنا مسائل كثيرةفيما يجتمع في القلب من الارادات المتعارضة كالاعتقادات المتعارضة وارادة الشيء وضدة مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر اذا قارنه بعض ذلك والتعوذ منه كما شكا أصحاب رسول الله ﷺ اليه فقالوا ان أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء الىالأرض أحب اليه من أن يتكلم به فقال أو قد وجدتموه فقالو نعم قال ذلك صريح الإيمان رواه مسلم من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وفيه الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة
وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب فان له موارد واسعة فهنا لما اقترن بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة كان هو صريح الايمان وهو خالصة ومحضه لأن المنافق الكافر لا يجد هذا البغض وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك بل إن كان في الكفر البسيط وهو الاعراض عما جاء به الرسول وترك الايمان به وإن لم يعتقد تكذيبه فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك اذ الوسوسة بالمعارض المنافي للايمان انما يحتاج اليها عند وجود مقتضيه فاذا لم يكن معه ما يتقضي الايمان لم يحتج الى معارض يدفعه وان كان في الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة وليس معه ايمان يكره به ذلك ولهذا لما كانت هذه الوسوسسة عارضة لعامة المؤمنين كما قال تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا وممايوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله الآيات فضرب الله المثل لما ينزله من الايمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الأرض وجعل القلوب كالأودية منها الكبير ومنها الصغير كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وشربوا وكانت منها طائفة انما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به فهذا أحد المثلين
والمثل الآخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه وأخبر أن السيل يحتمل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله ثم قال كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبدالرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والارادات الفاسدة كما شكاه الصحابة الى النبي ﷺ قال تعالى فيذهب جفاء يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما يقذف الماء الزبد ويجفوه وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين والايمان كما قال تعالى ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبةالآية الى قوله يثبت الله الذين آمنوابالقول الثابت في الحياة الدينا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد ايمانا ويقينا كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لله ازداد صلاحا وبرا وتقوى وأما المنافق فأذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها فانه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة ايمانية تدفعها أو تنفيها والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق فتارة يغلب هذا وتارة يغلب هذا
وقوله ﷺ ان الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها كما في بعض ألفاظه في الصحيح هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين دون من كان مسلما في الظاهر وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالاسلام قديما وحديثا وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الايمان في أول الأمر فمن أظهر الإيمانوكان صادقا مجتنبا ما يضاده أو يضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به دون ما ليس كذلك كما دل عليه لفظ الحديث فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث وكذلك قوله من هم بحسنة و من هم بسيئة انما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة وهذا انما هو لمن يفعل الحسنات لله كما قال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله وابتغاء وجه ربه وهذا للمؤمنين فان الكافر وان كان الله يطعمه بحسناته في الدنيا وقد يخفف عنه بها في الآخرة كما خفف عن أبي طالب لاحسانه الى النبي ﷺ وبشفاعة النبي ﷺ فلم يوعد الكافر على حسناته بهذا التضعيف وقد جاء ذلك مقيدا في حديث آخر أنه في المسلم الذي هو حسن الاسلام والله سبحانه أعلم والحمد لله رب العالمين