الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الحدود/باب حد المحارب


باب حد المحارب


هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو نفي من الأرض لقوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم قلت : أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار بدليل قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم والإسلام يحقن الدم سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها ، وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله إيذاناً بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله تعالى ورسوله .

أقول : ظاهر القرآن الكريم أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله ساع في الأرض فساداً فإن عقوبته إما القتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي من الأرض من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل . والظاهر أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع ولا بين اثنين منها ، ولا يجوز تركه عن أحدها . هذا معنى النظم القرآني . فإن قلت : كيف عقوبة الصلب هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ، ولو كان قليلاً قلت يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك ، وإن كان أعم منه فالإمتثال يحصل بفرد من أفراده . وقال الشافعي : المكابرون في الأمصار قطاع . وقال أبو حنيفة : لا . وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب أنه يقتل ويغسل ويصلي عليه . ثم يصلب ثلاثاً ثم ينزل ويدفن . وقيل يصلب حياً ثم يطعن حتى يموت مصلوباً وقال أبو حنيفة : لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق ، ومعنى النفي عند الحنفية الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح . وعند الشافعي للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزيز ، والطلب نفي أيضاً لأنه حامل على هربه .

يفعل الإمام منها مارأى فيه صلاحاً لكل من قطع طريقاً ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فساداً هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب ، فإن الله سبحانه قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فساداً ، فكان ذلك دليلاً على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فساداً كان حده ما ذكره الله في الآية ، ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقاً تحت عموم الآية دخولاً أولياً ثم حصر الجزاء في قوله : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض فخير بين هذا الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحاً منها ، فإن لم يكن إمام فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ، ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب . وأما ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا الأموال صلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد ، ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية . وإن كان مخالفاً لها غاية المخالفة ، ففي إسناده ابن أبي يحيى وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة . وأما ما روي عن ابن عباس أيضاً أن الآية نزلت في المشركين كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات . ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف . وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله . وقد ثبت عن رسول الله (ﷺ) في العرنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرها من حديث أنس . والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك ، أو يصلبه صلباً لا يموت فيه . فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت ، والصلب الذي لا يفضي إلى الموت . ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل ، لأن الصلب هو قتل خاص . وأما النفي من الأرض فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها ، وقد قيل أنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي .

فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك لنص القرآن بذلك وهو قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم قلت : معناه عند الشافعي إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق ، فإن كان قتل يسقط تحتم القتل ويبقى عليه القصاص ، فالولي فيه بالخيار إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه . وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع اليد والرجل ، وقيل في سقوط قطع اليد حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب . وإن كان قد قتل وأخذ المال سقط عنه تحتم القتل والصلب ، وإذا تاب بعد القدرة لا يسقط عنه شئ من العقوبات . ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه ، وهذا أظهر قولي الشافعي . والقول الثاني : أن كل عقوبة تجب حقاً لله تعالى مثل عقوبات قاطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة . لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

وأقول : الآية ليس فيها إلى الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة . وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب . ولو سلم القطع فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله . وأما الحقوق التي للآدميين من دم أو مال أو عرض فليس في الآية ما يدل على سقوطها . ومن زعم أن ثم دليلاً يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزعم