الرئيسيةبحث

الروح/المسألة السابعة عشرة/فصل الأدلة على خلق الروح

فصل الأدلة على خلق الروح

و الذي يدل على خلقها وجوه:
الوجه الأول: قول اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[39:62] فهذا اللفظ عام ولا تخصيص فيه بوجه ما ولا يد في ذلك صفاته فإنها داخلة في مسمى باسمه، فاللّه سبحانه هو الإله الموصوف صفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وسائر صفاته داخل في مسمى اسمه، وليس داخلا في الأشياء المخلوقة، كما لم تدخل ذاته فيها، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق.
و معلوم قطعا أن الروح ليست هي اللّه، ولا صفة من صفاته، وإنما هي مصنوع من مصنوعاته، فوقوع الخلق عليها كوقوعه على الملائكة والجن والإنس.
الوجه الثاني: قوله تعالى لزكريا: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾[19:9] وهذا الخطاب لروحه وبدنه ليس لبدنه فقط فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل، وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح.
الوجه الثالث: قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [37:96].
الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾[7:11] وهذا الإخبار إنما يتناول أرواحنا كما يقول الجمهور، وإما أن يكون واقعا على الأرواح قبل الأجساد كما يقوله من يزعم ذلك، على التقديرين فهو صريح في خلق الأرواح.
الوجه الخامس: النصوص الدالة على أنه سبحانه ربنا ورب آبائنا الأولين ورب كل شي ء، وهذه الربوبية شاملة لأرواحنا وأبداننا، فالأرواح مربوبة له مملوكة، كما أن الأجسام كذلك، وكل مربوب مملوك فهو مخلوق.
الوجه السادس: أول سورة في القرآن وهي الفاتحة، تدل على أن الأرواح مخلوقة من عدة أوجه:

  • أحدها قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [1:2] والأرواح من جملة العالم فهو ربها.
  • الثاني قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [1:5] فالأرواح عابدة له مستعينة، ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودة مستعانا بها.
  • الثالث: أنها فقيرة إلى هواية فاطرها وربها، تسأله أن يهديها صراطه المستقيم.
  • الرابع: أنها منعم عليها مرحومة، ومغضوب عليها ضالة شقية، وهذا المربوب والمملوك لا شأن القديم غير المخلوق.

الوجه السابع: النصوص الدالة على أن الإنسان عبد بجملته وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه بل عبودية الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه تبع لها في الأحكام وهي التي تحركه وتستعمله، وهو تبع لها في العبودية.
الوجه الثامن: قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [76:1] فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا، فإنه إنما هو إنسان بروحه لا ببدنه فقط، كما قيل:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الوجه التاسع: النصوص الدالة على أن اللّه سبحانه كان ولم يكن شي ء غيره، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين، أن أهل اليمن قالوا: يا رسول اللّه جئناك لنتفقه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر؟ فقال:
«كان اللّه ولم يكن شي ء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شي ء، فلم يكن مع اللّه أرواح ولا نفوس قديمة يساوي وجودها وجوده، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، بل هو الأول وحده لا يشاركه غيره إلى أوليته بوجه [1].
الوجه العاشر: النصوص الدالة على خلق الملائكة وهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها وهم مخلوقون قبل خلق الإنسان وروحه، فإذا كان الملك الذي يحدث الروح في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقا فكيف تكون الروح الحادثة بنفخة قديمة؟ وهؤلاء الغالطون يظنون أن الملك يرسل إلى الجنين بروح قديمة أزلية ينفخها فيه، كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إياه وهذا ضلال وخطأ، وإنما يرسل اللّه سبحانه إليه الملك فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة، فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدوثها له، كما كان الوطء والإنزال سبب تكون جسمه، والغداء سبب نموه، فمادة الروح من نفخة الملك، ومادة الجسم من صب الماء في الرحم، فهذه مادة سماوية، وهذه مادة أرضية، فمن الناس من تغلب عليه المادة السماوية فتصير روحه علوية شريفة تناسب الملائكة، ومنهم من تغلب عليه المادة الأرضية فتصير روحه سلفية ترابية مهينة تناسب الأرواح السلفية، فالملك أب لروحه، والتراب أب لبدنه وجسمه.
الوجه الحادي عشر: حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه الذي في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» [2]، والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة، وهذا الحديث رواه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أبو هريرة وعائشة أم المؤمنين وسلمان الفارسي وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمرو وعلي بن أبي طالب وعمرو بن عبسة رضي اللّه عنهم.
الوجه الثاني عشر: أن توصيف الروح بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال، وهو شأن المخلوق المحدث المربوب قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [39:42] والأنفس هاهنا هي الأرواح قطعا.
و في الصحيحين من حديث عبد اللّه بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه قال:
سرينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سفر ذات ليلة، فقلنا: يا رسول اللّه لو عرست بنا، فقال: «إني أخاف أن تناموا فمن يوقظنا للصلاة؟» فقال بلال: أنا يا رسول اللّه، فعرس بالقوم فاضطجعوا وأسند بلال إلى راحلته، فغلبته عيناه، فاستيقظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد طلع جانب الشمس فقال: «يا بلال أين ما قلت لنا؟» فقال: والذي بعثك بالحق ما ألقيت على نومة مثلها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء» [3] فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها اللّه حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت، وهي التي تتوفاها رسل اللّه سبحانه وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرها ويكفنها بكفن من الجنة أو النار ويصعد بها إلى السماء فتصلي عليها الملائكة أو تعلنها وتوقف بين يدي ربها فيقضي فيها أمره ثم تعاد إلى الأرض فتدخل بين الميت وأكفانه فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم، وهي التي تجعل في أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة، وهي التي تعرض على النار غدوا وعشيا، وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصي.
و هي الأمارة بالسوء وهي اللوّامة وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره، وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس وترسل وتصح وتسقم وتلد وتألم وتخاف وتحزن وما ذالا إلا سمات مخلوق مبدع، وصفات منشأ مخترع. وأحكام مربوب مدبر مصرف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول عند نومه: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها فإن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» وهو تعالى بارئ النفوس كما هو بارئ الأجساد قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [57:22] قيل من قبل أن نبرأ المصيبة، وقيل من قبل أن نبرأ الأرض وقيل من قبل أن نبرأ الأنفس وهو أولى لأنه أقرب مذكور إلى الضمير: ولو قيل يرجع إلى الثلاثة أي من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجه.
و كيف تكون قديمة مستغنية عن خالف مبدع لها وشواهد الفقر والحاجة والضرورة أعدل شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة وأن وجود ذاتها وصفاتها وأفعالها من ربها وفاطرها ليس لها من نفسها إلا العدم فهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا تستطيع أن تأخذ من الخير إلا ما أعطاها وتنقي من الشر إلا ما وقاها، ولا تهتدي إلى شي ء من مصالح دنياها وأخراها إلا بهداه، وتصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إياها، ولا تعلم إلا ما علمها. ولا تتعدى ما ألهمها، فهو الذي خلقها فسواها وألهمها فجورها وتقواها.
فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور والتقوى خلافا لمن يقول أنها ليست مخلوقة ولمن يقول أنها وإن كانت مخلوقة فليس خالقا لأفعالها بل هي التي تخلق أفعالها وهما قولان لأهل الضلال والغي.
و معلوم أنها لو كانت قديمة غير مخلوقة لكانت مستغنية بنفسها في وجودها وصفاتها وكمالها وهذا من أبطل الباطل. فإن فقرها إليه سبحانه في وجودها وصلاحها هو من لوازم ذاتها وليس معللا بعلة، فإنه أمر ذاتي لها كما أن غنى ربها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته ليس معللا بعلة، فهو سبحانه الغني بالذات، وهي الفقيرة إليه بالذات، فلا يشاركه سبحانه في غناه مشارك، كما لا يشاركه في قدمه و ربوبيته وملكه التام وكماله المقدس مشارك، فشواهد الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان.
قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [35:15] وهذا الخطاب بالفقر إليه للأرواح والأبدان ليس هو للأبدان فقط، وهذا الغنى التام للّه وحده لا يشركه فيه غيره، وقد أرشد اللّه سبحانه عباده إلى أوضح دليل على ذلك بقوله ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ۝83وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ۝84وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ۝85فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ۝86تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ۝87﴾ [56:83—87] أي فلولا إن كنتم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم تردون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلت إلى هذا الموضع، أو لا تعلمون بذلك أنها مدينة مربوبة محاسبة مجزية بعلمها.
و كل ما تقدم ذكره في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرها بعد الموت فهو دليل على أنها مخلوقة مربوبة مدبرة ليست بقديمة.
و هذا الأمر أوضح من أن تساق الأدلة عليه، ولو لا ضلال من المتصوفة وأهل البدع ومن قصر فهمه في كتاب اللّه وسنّة رسوله فأتى من سوء الفهم لا من النص تكلموا في أنفسهم وأرواحهم بما دل على أنهم من أجهل الناس بها، وكيف يمكن من له أدنى مسكة من عقل أن ينكر أمرا تشهد به عليه نفسه وصفاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه، بل تشهد به السموات والأرض والخليقة، فللّه سبحانه في كل ما سواه آية، بل آيات تدل على أنه مخلوق مربوب، وأنه خالقه وربه وبارؤه ومليكه، ولو جحد ذلك فمعه شاهد عليه.

هامش

  1. أخرجه النسائي في باب الجماعة للفائت (2/ 105).
  2. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب الأرواح جنود مجندة (4/ 104).
  3. رواه البخاري في المواقيت 35 والتوحيد 31، ورواه أبو داود في الصلاة 11، والنسائي في الإمامة 47 وأحمد في مسنده 307/5.