من أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم - وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله ﷺ وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج الخارجين عما بعث الله به رسوله ﷺ من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم ﷺ وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله.
وجعلهم أمة وسطًا أي عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم.
فالأول: مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو التوحيد وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، [1] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، [2] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، [3] وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ]}، [4] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}. [5]
ومثل الإيمان بجميع كتب الله، وجميع رسله، كما قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. [6] ومثل قوله تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، [7] ومثل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلى آخرها. [8]
ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. [9]
ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة الأنعام والأعراف وسبحان وغيرهن من السور المكية: من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والعدل في المقال، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم، مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل على الله والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله والقيام لأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين.
إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن، كالسور المكية وبعض المدنية.
وأما الثاني: فما أنزله الله في السور المدنية من شرائع دينه، وما سنه الرسول ﷺ لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال: {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. [10] وقال: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [11] وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَةِ}. [12]
قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سننه ﷺ؛ ولهذا قال ﷺ: «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه» وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن.
وهذه الشرائع التي هدي الله بها هذا النبي وأمته مثل: الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع، والسجود، واستقبال الكعبة.
ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين: من الماشية والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له، حيث يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. [13]
ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم في المناكح والمواريث والعقوبات والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم من الأعياد والجمعات والجماعات في المكتوبات والجماعات في الكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة والتراويح.
وما سنه لهم في العادات مثل المطاعم والملابس والولادة والموت، ونحو ذلك من السنن والآداب، والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض والمنافع والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله ﷺ.
وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فجعلهم متبعين لرسوله ﷺ، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم؛ إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولا إليهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [14] وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ}. [15]
ومحمد ﷺ خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة. ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل، الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله ﷺ وعما مضت عليه جماعة المسلمين.
فإن الله أمر في كتابه باتباع سنة رسوله ﷺ ولزوم سبيله، وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [16] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله}، [17] وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، [18] وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [19] وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، [20] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، [21] وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، [22] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [23] وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، [24] وقال تعالى في أم الكتاب: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}. [25]
وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون». فأمر سبحانه في أم الكتاب التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا ﷺ من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها: أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم، كاليهود، ولا الضالين، كالنصارى.
وهذا الصراط المستقيم هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو السنة والجماعة فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض؛ فإن النبي ﷺ روى عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد، كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: «ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» وفي رواية: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
وهذه الفرقة الناجية: أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}. [26]
ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}، [27] وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ الله قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِّمَا مَعَهُمْ}. [28]
ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله}. [29] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم».
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره. وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}، [30] وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا.
وكذلك في صفات الله تعالى: فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة. وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت. إلى غير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.
والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمى ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه {ن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}. [31]
ومن ذلك: أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى: {فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. [32] فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط، ولا شحم الثرب والكليتين ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.
وأما النصارى، فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، [33] ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. [34]
وأما المؤمنون، فكما نعتهم الله به في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. [35] وهذا باب يطول وصفه.
وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق. فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل.
وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}. [36]
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي ﷺ وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي ﷺ ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.
وهم أيضا في أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم وسط بين الغالية، الذين يغالون في على رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب على وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة على رضي الله عنه وإمامته.
وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
فصل
وأنتم أصلحكم الله قد مَنَّ الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب. والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. [37] وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة، مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته، وقضائه وقدره، أو يسب أصحاب رسول الله ﷺ ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك، فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين، وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم، من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين.
وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات.
وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشائخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي، ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم.
والشيخ عدي قدس الله روحه كان من أفاضل عباد الله الصالحين وأكابر المشائخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك. وله في الأمة صيت مشهور ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشائخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي. [38] وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما.
وهؤلاء المشائخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لا بد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة.
وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق.
فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [39] فإذا منَّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال، وقد قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [40] وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. [41]
وأنتم تعلمون أصلحكم الله أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله ﷺ، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات. وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي ﷺ، الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان.
وذلك في دواوين الإسلام المعروفة؛ مثل: صحيحي البخاري ومسلم، وكتب السنن؛ مثل سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي وموطأ الإمام مالك، ومثل المسانيد المعروفة كمثل مسند الإمام أحمد وغيره. ويوجد في كتب التفاسير والمغازي وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض. وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به، حتى حفظ الله الدين على أهله.
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة مثل: حماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم في طبقتهم. ومثلها ما بوب عليه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في كتبهم.
ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد وأبي بكر الخلال وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني وأبي بكر الآجري وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله بن منده وأبي القاسم اللالكائي وأبي عبد الله بن بطة وأبي عمرو الطلمنكي وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر البيهقي وأبي ذر الهروي، وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة.
وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين، أحاديث كثيرة تكون مكذوبة، موضوعة على رسول الله ﷺ، وهي قسمان:
منها ما يكون كلامًا باطلا لا يجوز أن يقال، فضلا عن أن يضاف إلى النبي ﷺ.
والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا. أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله، فيعزى إلى النبي ﷺ، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة، عملها بعض الكذابين وجعل لها إسنادًا إلى رسول الله ﷺ، وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى.
وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم، هل تسمى نعمة أم لا؟ وفيها أيضا أشياء مرجوحة.
فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا.
فصل: (في أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه)
وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه. وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه، قد اعترض الشيطان كثيرًا ممن ينتسب إليه، حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة.
وأمر النبي ﷺ بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وغير هؤلاء، أن النبي ﷺ ذكر الخوارج فقال: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم أو فقاتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». وفي رواية: «شر قتيل تحت أديم السماء، خير قتيل من قلتوه» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوي لهم على لسان محمد ﷺ لَنَكِلُوا عن العمل». وزوى: أي قضى، ولنكلوا: أي لانقطعوا.
وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم هو وأصحاب رسول الله ﷺ بأمر النبي ﷺ وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام.
وهكذا كل من فارق جماعة المسلمين، وخرج عن سنة رسول الله ﷺ وشريعته من أهل الأهواء المضِلَّة والبدع المخالفة.
ولهذا قاتل المسلمون أيضا الرافضة الذين هم شر من هؤلاء، وهم الذين يُكَفِّرون جماهير المسلمين؛ مثل الخلفاء الثلاثة وغيرهم، ويزعمون أنهم هم المؤمنون ومن سواهم كافر، [42] ويكفرون من يقول إن الله يُرَى في الآخرة، أو يؤمن بصفات الله وقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم التي هم عليها. فإنهم يمسحون القدمين ولا يمسحون على الخف، ويؤخرون الفطور والصلاة إلى طلوع النجم، ويجمعون بين الصلاتين من غير عذر، ويقنتون في الصلوات الخمس، ويحرمون الفقاع وذبائح أهل الكتاب وذبائح من خالفهم من المسلمين؛ لأنهم عندهم كفار، ويقولون على الصحابة رضي الله عنهم أقوالا عظيمة لا حاجة إلى ذكرها هنا، إلى أشياء أخر. فقاتلهم المسلمون بأمر الله ورسوله.
فإذا كان على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر النبي ﷺ بقتالهم، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها، بل قد مرق منها، وذلك بأسباب:
منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلا}. [43] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}، [44] وقال النبي ﷺ: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» وهو حديث صحيح.
ومنها: التفرق والاختلاف الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز.
ومنها: أحاديث تروى عن النبي ﷺ، وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها لموافقة ظنه وهواه.
وأضل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}، [45] وقال في حق نبيه ﷺ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. [46]
فنزهه عن الضلال والغواية، اللذين هما الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى.
وأنا أذكر جوامع من أصول الباطل التي ابتدعها طوائف ممن ينتسب إلى السنة وقد مرق منها، وصار من أكابر الظالمين. وهي فصول:
الفصل الأول
أحاديث رووها في الصفات، زائدة على الأحاديث التي في دواوين الإسلام، مما نعلم باليقين القاطع أنها كذب وبهتان، بل كفر شنيع.
وقد يقولون من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثًا؛ مثل حديث يروونه: "أن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق، يصافح الركبان ويعانق المشاة". وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله ﷺ، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء المسلمين أصلا، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله ﷺ. وقال أهل العلم كابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار ليشينوا به على أهل الحديث، ويقولون: إنهم يروون مثل هذا.
وكذلك حديث آخر فيه: "أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف". أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله، الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله ﷺ.
وهكذا حديث فيه: "أن الله يمشي على الأرض، فإذا كان موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه" ويقرؤون قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [47] هذا أيضا كذب باتفاق العلماء. ولم يقل الله فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال: {آثَارِ رَحْمَتِ الله} ورحمته هنا النبات.
وهكذا أحاديث في بعضها: أن محمدًا ﷺ رأى ربه في الطواف، وفي بعضها: أنه رآه وهو خارج من مكة، وفي بعضها: أنه رآه في بعض سكك المدينة إلى أنواع أُخر.
وكل حديث فيه أن محمدًا ﷺ رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم.
وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمدًا ﷺ هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمدًا ﷺ رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها تنكر ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي ﷺ شيئا، ولا سألته عن ذلك. ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه كما يروونه ناس من الجهال: "أن أباها سأل النبي ﷺ فقال: نعم. وقال لعائشة: لا" فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء.
ولهذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله هل يقال: إن محمدًا ﷺ رأى ربه بعيني رأسه؟ أو يقال: بعين قلبه. أو يقال: رآه ولا يقال: بعيني رأسه ولا بعين قلبه؟ على ثلاث روايات.
وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: «رأيت ربي في صورة كذا وكذا» يروى من طريق ابن عباس ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه: أنه وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج؛ فإن هذا الحديث كان بالمدينة. وفي الحديث: أن النبي ﷺ نام عن صلاة الصبح ثم خرج إليهم، وقال: رأيت كذا وكذا، وهو من رواية من لم يصلِّ خلفه إلا بالمدينة كأم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}. [48]
فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة، كما جاء مفسرًا في كثير من طرقه: أنه كان رؤيا منام، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة ليلة المعراج.
وقد اتفق المسلمون على أن النبي ﷺ لم ير ربه بعينيه في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي ﷺ قط حديث فيه: أن الله نزل له إلى الأرض، بل الأحاديث الصحيحة: «إن الله يدنو عشية عرفة»، وفي رواية: «إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ».
وثبت في الصحيح: أن الله يدنو عشية عرفة، وفي رواية: «إلى سماء الدنيا، فيباهي الملائكة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا، ما أراد هؤلاء؟ » وقد روي أن الله ينزل ليلة النصف من شعبان، إن صح الحديث فإن هذا مما تكلم فيه أهل العلم.
وكذلك ما روى بعضهم: أن النبي ﷺ لما نزل من حراء تبدي له ربه على كرسي بين السماء والأرض؛ غلط باتفاق أهل العلم، بل الذي في الصحاح: «أن الذي تبدي له الملك الذي جاءه بحراء في أول مرة، وقال له: اقرأ. فقلت: لست بقارئ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ: فقلت: لست بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} » فهذا أول ما نزل على النبي ﷺ.
ثم جعل النبي ﷺ يحدث عن فترة الوحي. قال: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض». رواه جابر رضي الله عنه في الصحيحين. فأخبر أن الملك الذي جاءه بحراء رآه بين السماء والأرض، وذكر أنه رعب منه، فوقع في بعض الروايات الملَك فظن القارئ أنه الملك، وأنه الله، وهذا غلط وباطل.
وبالجملة إن كل حديث فيه: «أن النبي ﷺ رأى ربه بعينيه في الأرض» وفيه: «أنه نزل له إلى الأرض» وفيه: «أن رياض الجنة من خطوات الحق» وفيه: «أنه وطئ على صخرة بيت المقدس» كل هذا كذب باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم.
وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت فدعواه باطل باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ ؛ أنه لما ذكر الدجال قال: «واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت».
وكذلك روي هذا عن النبي ﷺ من وجوه أخر؛ يحذر أمته فتنة الدجال، وبين لهم أن أحدًا منهم لن يرى ربه حتى يموت، فلا يظنن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه.
ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها هو على مراتب كثيرة؛ قال النبي ﷺ لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه. ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق.
وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضا من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.
وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه، فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام.
فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشهود بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين: أنه رأى ربه بعيني رأسه، فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.
نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضا للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ حيث قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوًا ليس دونه سحاب». وقال ﷺ: «جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»، وقال ﷺ: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار. فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة».
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم؛ الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله ﷺ في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.
وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال، كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص؛ إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم.
بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس: أنا ربكم. ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويقول للخَرِبَة: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها. وهذا هو الذي حذر منه النبي ﷺ أمته، وقال: « ما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال، وقال: «إذا جلس أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع؛ ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال».
فهذا ادَّعَى الربوبية وأتى بشبهات فَتَنَ بها الخلق، حتى قال فيه النبي ﷺ: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت»، فذكر لهم علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس؛ لعلمه ﷺ بأن من الناس من يضل فيجوز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية. وهم صنفان:
قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء؛ كما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه ونحوه؛ وقوم في أنواع من المشائخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى.
وصنف يعمون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية: كأصحاب ابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، والبلياني، وغيرهم.
ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه.
وهو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا؛ كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. [49]
فهؤلاء الضلال الكفار؛ الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه! وربما يعين أحدهم آدميًا؛ إما شخصًا، أو صبيًا، أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم، يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارًا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. [50] فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولدًا حتى ٍقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شيئا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [51] فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًا رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله. وهؤلاء هم الزنادقة؛ الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثًا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم؛ لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.
فصل في التحذير من الغلو في بعض المشائخ
وكذلك الغلو في بعض المشائخ: إما في الشيخ عدي ويونس القتي أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوه، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه.
فكل من غلا في حي أو في رجل صالح؛ كمثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح، كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى؛ مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال؛ التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهًا آخر.
والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر والكواكب، والعزير والمسيح والملائكة، واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسر، أو غير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق؛ أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله.
فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}. [52]
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلىّ كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه}. [53] فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شرك في الملك، وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه. وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}، [54] وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، [55] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ [ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ]} الآية، [56] وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} الزخرف: 45 وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}. [57] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}. [58]
وكان النبي ﷺ يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده»، وقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد»، ونهى عن الحلف بغير الله فقال: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وقال: «لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة ونحوها.
ونهى النبي ﷺ عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك، وقال: «لا يصلح السجود إلا لله»، وقال: «لو كنت آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «أرأيت لو مررت بقبري، أكنت ساجدًا له؟ » قال: لا. قال: «فلا تسجد لي».
ونهى النبي ﷺ عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: « إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني»؛ ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة.
والسنة في زيارة قبور المسلمين نظير الصلاة عليهم قبل الدفن، قال الله تعالى في كتابه عن المنافقين: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}. [59] فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يُصَلَّى عليهم، ويقام على قبورهم.
وكان النبي ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم».
وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، [60] قال طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي ﷺ عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وكذلك الطواف والصلاة والاجتماع للعبادات، إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيدًا، كما قال ﷺ: «لا تتخذوا بيتي عيدًا». كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، وكما قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}. [61]
ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}. [62] وقال ﷺ: « من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة». والإله: الذي يؤلِّهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، وإكرامًا.
فصل في الاقتصاد في السنة واتباعها
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت - بلا زيادة ولا نقصان - مثل الكلام في القرآن، وسائر الصفات.
فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. هكذا قال غير واحد من السلف. روى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك.
والقرآن الذي أنزله الله على رسوله ﷺ هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئًا لا لمن قاله مبلغًا مؤديًا، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، [63] وهذا القرآن في المصاحف، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}، [64] وقال تعالى: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، [65] وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}. [66]
والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله. وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي ﷺ: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات» وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.
وإذا كتب المسلمون مصحفًا، فإن أحبوا ألا ينقطوه ولا يشكلوه جاز ذلك، كما كان الصحابة يكتبون المصاحف من غير تنقيط ولا تشكيل؛ لأن القوم كانوا عربًا لا يلحنون. وهكذا هي المصاحف التي بعث بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار في زمن التابعين.
ثم فشا اللحن فنقطت المصاحف وشكلت بالنقط الحمر، ثم شكلت بمثل خط الحروف، فتنازع العلماء في كراهة ذلك. وفيه خلاف عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من العلماء، قيل: يكره ذلك لأنه بدعة. وقيل: لا يكره للحاجة إليه. وقيل: يكره النقط دون الشكل لبيان الإعراب. والصحيح أنه لا بأس به.
والتصديق بما ثبت عن النبي ﷺ: أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث. فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة.
وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلى وحيث كتب. فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد.
ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق.
وأما من قال: إن المداد قديم؛ فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. [67] فأخبر أن المداد يكتب به كلماته.
وكذلك من قال: ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق، أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ هو ما بين الدفتين. والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء.
وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، فهو مبتدع ضال. كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت، فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة.
وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم، فهو ضال. كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله.
وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق، والجلد، والوتد، وقطعة من الحائط كلام الله، فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.
وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة نفيًا وإثباتًا، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل؛ فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف ويشكل به قديم، فهو ضال جاهل، ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن، فهو ضال مبتدع.
بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها كما دخلت معانيه، ويقال: ما بين اللوحين جميعه كلام الله. فإن كان المصحف منقوطًا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله. وإن كان غير منقوط ولا مشكول كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله. فلا يجوز أن تلقي الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
فصل في وجوب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة
وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه ﷺ من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، [68] وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. [69]
وفي الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه.
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما. واتفق أصحاب رسول الله ﷺ على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا»، وقال ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين.
وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم؛ ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثير، ليس هذا موضعه.
وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب. وهم كانوا مجتهدين؛ إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات وقد سبق لهم من الله الحسنى فإن الله يغفرها لهم؛ إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال ﷺ: «خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» وهذه خير أمة أخرجت للناس. [70]
ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق». وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن عليًا رضي الله عنه أقرب إلى الحق.
وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة؛ كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم، فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة، وعلى ذلك أكثر أهل الحديث.
وكذلك آل بيت رسول الله ﷺ، لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله ﷺ، فقال لنا: قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد». وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله فإن النبي ﷺ قال: «إن الصدقة لا تَحِلُّ لمحمد ولا لآل محمد» وقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. [71] وحرم الله عليهم الصدقة، لأنها أوساخ الناس، وقد قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق. وفي المسانيد والسنن أن النبي ﷺ قال للعباس لما شكا إليه جفوة قوم لهم قال: «والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي».
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم».
وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده، صار قوم ممن يحب عثمان ويغلو فيه ينحرف عن علي رضي الله عنه مثل كثير من أهل الشام، ممن كان إذ ذاك يسب عليًا رضي الله عنه ويبغضه.
وقوم ممن يحب عليًا رضي الله عنه ويغلو فيه ينحرف عن عثمان رضي الله عنه مثل كثير من أهل العراق، ممن كان يبغض عثمان ويسبه رضي الله عنه.
ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك، حتى سبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وزاد البلاء بهم حينئذ.
والسنة محبة عثمان وعلي جميعا، وتقديم أبي بكر وعمر عليهما رضي الله عنهم لما خصهما الله به من الفضائل التي سبقا بها عثمان وعليا جميعًا. وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله.
فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله؛ فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة، ثم كفرت الصحابة وقالت عنهم أشياء، قد ذكرنا حكمهم فيها في غير هذا الموضع.
ولم يكن أحد إذ ذاك يتكلم في يزيد بن معاوية ولا كان الكلام فيه من الدين، ثم حدثت بعد ذلك أشياء، فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية. وربما كان غرضهم بذلك التطرق إلى لعنة غيره، فكره أكثر أهل السنة لعنة أحد بعينه، فسمع بذلك قوم ممن كان يتسنن، فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى.
وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون: إنه كافر زنديق، وإنه قتل ابن بنت رسول الله ﷺ، وقتل الأنصار وأبناءهم بالحرة ليأخذ بثأر أهل بيته الذين قتلوا كفارًا، مثل جده لأمه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد، وغيرهما، ويذكرون عنه من الاشتهار بشرب الخمر وإظهار الفواحش أشياء.
وأقوام يعتقدون أنه كان إماما عادلا هاديًا مهديًا، وأنه كان من الصحابة أو أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى. وربما اعتقد بعضهم أنه كان من الأنبياء! ويقولون: من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم، ويروون عن الشيخ حسن بن عدي: أنه كان كذا وكذا وليًا، ومن وقفوا فيه وقفوا على النار؛ لقولهم في يزيد. وفي زمن الشيخ حسن زادوا أشياء باطلة نظمًا ونثرًا. وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير قدس الله روحه فإن طريقته كانت سليمة لم يكن فيها من هذه البدع، وابتلوا بروافض عادوهم، وقتلوا الشيخ حسنا، وجرت فتن لا يحبها الله ولا رسوله.
وهذا الغلو في يزيد من الطرفين، خلاف لما أجمع عليه أهل العلم والإيمان.
فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يدرك النبي ﷺ، ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء، ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرًا ولا زنديقًا، وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، ولم يكن مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه.
وجرت في إمارته أمور عظيمة:
أحدها: مقتل الحسين رضي الله عنه وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه رضي الله عنه ولا حمل رأس الحسين رضي الله عنه إلى الشام، لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر، ولو كان بقتاله، فزاد النواب على أمره، وحض الشمرذي الجيوش على قتله لعبيد الله بن زياد، فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد، فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر مرابطًا، أو يعود إلى مكة فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم، وأمر عمر بن سعد بقتاله فقتلوه مظلومًا له ولطائفة من أهل بيته رضي الله عنهم.
وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة، فإن قتل الحسين وقتل عثمان قبله كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة، وقَتَلَتهُمَا من شرار الخلق عند الله.
ولما قدم أهلهم رضي الله عنهم على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروى عنه أنه لعن ابن زياد على قتله. وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصار له، والأخذ بثأره كان هو الواجب عليه، فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب مضافًا إلى أمور أخرى. وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء.
وأما الأمر الثاني: فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون وينهبون، ويفتضون الفروج المحرمة. ثم أرسل جيشًا إلى مكة المشرفة، فحاصروا مكة، وتوفي يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره.
ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة: أنه لا يسب ولا يحب. قال صالح ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد. قال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟
وروى عنه: قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية؟ فقال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟
فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه، فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي ﷺ ضربه. فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ﷺ. فقال النبي ﷺ: «لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله».
ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه؛ لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله.
وطائفة أخرى ترى محبته؛ لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة، وبايعه الصحابة. ويقولون: لم يصح عنه ما نقل عنه، وكانت له محاسن أو كان مجتهدًا فيما فعله.
والصواب هو ما عليه الأئمة: من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن. ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له» وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وقد يشتبه يزيد بن معاوية بعمه يزيد بن أبي سفيان، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة وكان من خيار الصحابة، وهو خير آل حرب. وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه في فتوح الشام، ومشى أبو بكر في ركابه يوصيه مشيعًا له، فقال له: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: لستُ براكب ولستَ بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. فلما توفي بعد فتوح الشام في خلافة عمر، ولى عمر رضي الله عنه مكانه أخاه معاوية، وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان، وأقام معاوية بالشام إلى أن وقع ما وقع.
فالواجب الاقتصار في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بين.
فصل في أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان
وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله؛ مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي، أو قرفندي؛ فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي. والواجب على المسلم إذا سُئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله.
وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أنت على ملة علي، أو ملة عثمان؟ فقال: لست على ملة علي، ولا على ملة عثمان، بل أنا على ملة رسول الله ﷺ، وكذلك كان كل من السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم؟ على أن هداني الله للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى قد سمانا في القرآن: المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.
بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها، مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ، كالقادري، والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل، كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري: فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان.
وأولياء الله الذين هم أولياؤه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد أخبر سبحانه أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وقد بين المتقين في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُربي وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [72] والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهي الله عنه.
وقد أخبر النبي ﷺ عن حال أولياء الله، وما صاروا به أولياء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».
فقد ذكر في هذا الحديث أن التقرب إلى الله تعالى على درجتين: إحداهما: التقرب إليه بالفرائض. والثانية: هي التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض.
فالأولى درجة المقتصدين الأبرار أصحاب اليمين. والثانية درجة السابقين المؤمنين، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. [73]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يمزج لأصحاب اليمين مزجًا، ويشربه المقربون صرفًا.
وقد ذكر الله هذا المعنى في عدة مواضع من كتابه، فكل من آمن بالله ورسوله واتقى الله، فهو من أولياء الله.
والله سبحانه قد أوجب موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}. [74]
فقد أخبر سبحانه أن ولى المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهذا عام في كل مؤمن موصوف بهذه الصفة، سواء كان من أهل نسبة أو بلدة أو مذهب أو طريقة أو لم يكن، وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. [75] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ}، [76] وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. [77]
وفي الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وفي الصحاح أيضا أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وشبك بين أصابعه، وفي الصحاح أيضا أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقال ﷺ: «المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه» وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة.
وقد جعل الله فيها عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين، وأمرهم سبحانه بالائتلاف ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. [78] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله}. [79]
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد ﷺ أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى، بلا برهان من الله تعالى. وقد برأ الله نبيه ﷺ ممن كان هكذا.
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم.
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله. وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه، وإن كان غيره أتقى لله منه.
وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضى الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة؟ ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين، فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول ﷺ والمؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. [80] وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت».
لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسبًا إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه أو ماله؟ مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن؟
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ؟
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء}. [81]
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} إلى قوله {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. [82] فمن الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى.
فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتًا، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكل عليه أو سجد له فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ومن فضَّل أحدًا من المشائخ على النبي ﷺ، أو اعتقد أن أحدًا يستغني عن طاعة رسول الله ﷺ استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وكذلك من اعتقد أن أحدًا من أولياء الله يكون مع محمد ﷺ، كما كان الخضر مع موسى عليه السلام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأن الخضر لم يكن من أمة موسى عليه السلام ولا كان يجب عليه طاعته، بل قال له: إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وكان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، كما قال نبينا ﷺ: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
ومحمد ﷺ مبعوث إلى جميع الثقلين، إنسهم وجنهم. فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته، فهو كافر يجب قتله.
وكذلك من كَفَّر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله، فإنه يجب نهيه عن ذلك وعقوبته بما يزجره، ولو بالقتل أو القتال، فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع الطوائف، وأكرم المتقون من جميع الطوائف، كان ذلك من أعظم الأسباب التي ترضى الله ورسوله ﷺ، وتصلح أمر المسلمين.
ويجب على أولى الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشائخها أن يقوموا على عامتهم، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر؛ فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله ﷺ.
فالأول: مثل شرائع الإسلام: وهي الصلوات الخمس في مواقيتها، وإقامة الجمعة والجماعات من الواجبات، والسنن الراتبات؛ كالأعياد، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، وصلاة الجنائز، وغير ذلك، وكذلك الصدقات المشروعة، والصوم المشروع، وحج البيت الحرام، ومثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومثل الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ومثل سائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة، ومثل إخلاص الدين لله، والتوكل على الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه، والصبر لحكم الله، والتسليم لأمر الله، ومثل صدق الحديث، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك، والعدل في المقال والفعال، ثم الندب إلى مكارم الأخلاق، مثل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. [83]
وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلها آخر؛ إما الشمس وإما القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًا من الأنبياء، أو رجلًا من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى، أو يستغاث به أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله.
وقد حرم الله قتل النفس بغير حقها، وأكل أموال الناس بالباطل؛ إما بالغصب وإما بالربا أو الميسر، كالبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله ﷺ، وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي بغير الحق.
وكذلك مما حرمه الله تعالى: أن يقول الرجل على الله ما لا يعلم؛ مثل أن يروي عن الله ورسوله أحاديث يجزم بها وهو لا يعلم صحتها، أو يصف الله بصفات لم ينزل بها كتاب من الله ولا أثارة من علم عن رسول الله ﷺ، سواء كانت من صفات النفي والتعطيل، مثل قول الجهمية: إنه ليس فوق العرش ولا فوق السموات، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك مما كذبوا به الله ورسوله، أو كانت من صفات الإثبات والتمثيل، مثل من يزعم أنه يمشي في الأرض أو يجالس الخلق، أو أنهم يرونه بأعينهم أو أن السموات تحويه وتحيط به، أو أنه سار في مخلوقاته، إلى غير ذلك من أنواع الفرية على الله.
وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله ﷺ، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}. [84] فإن الله شرع لعباده المؤمنين عبادات، فأحدث لهم الشيطان عبادات ضاهاها بها، مثل أنه شرع لهم عبادة الله وحده لا شريك له، فشرع لهم شركاء، وهي عبادة ما سواه والإشراك به. وشرع لهم الصلوات الخمس وقراءة القرآن فيها والاستماع له والاجتماع لسماع القرآن خارج الصلاة أيضا، فأول سورة أنزلها على نبيه ﷺ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، [85] أمر في أولها بالقراءة وفي آخرها بالسجود، بقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [86]
ولهذا كان أعظم الأذكار التي في الصلاة قراءة القرآن، وأعظم الأفعال السجود لله وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. [87] وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. [88]
وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي ﷺ بأبي موسي رضي الله عنه وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته، فقال: «يا أبا موسى، مررت بك البارحة فجعلت أستمع لقراءتك» فقال: «لو علمت لحَبَّرتُه لك تحبيرًا. وقال: «لله أشد أذنا» أي استماعا «إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القِينَةِ إلى قينته».
وهذا هو سماع المؤمنين وسلف الأمة وأكابر المشائخ، كمعروف الكرخي والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني، ونحوهم. وهو سماع المشائخ المتأخرين الأكابر، كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين، وغيرهم من المشائخ رحمهم الله.
وأما المشركون، فكان سماعهم كما ذكره الله تعالى في كتابه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً}. [89] قال السلف: المكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق باليد. فكان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون يتخذون ذلك عبادة وصلاة، فذمهم الله على ذلك، وجعل ذلك من الباطل الذي نهى عنه.
فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله، فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم، وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي ﷺ، ولا فعله أكابر المشائخ.
وأما سماع الغناء على وجه اللعب، فهذا من خصوصية الأفراح للنساء والصبيان كما جاءت به الآثار؛ فإن دين الإسلام واسع لا حرج فيه.
وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به هو الصلوات الخمس المكتوبات، ويجب على المسلمين من الاعتناء بها ما لا يجب من الاعتناء بغيرها. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة.
وهي أول ما أوجبه الله من العبادات، والصلوات الخمس تولى الله إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج، وهي آخر ما وصى به النبي ﷺ أمته وقت فراق الدنيا، جعل يقول: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم» وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله، وآخر ما يفقد من الدين، فإذا ذهبت ذهب الدين كله، وهي عمود الدين فمتى ذهبت سقط الدين.
قال النبي ﷺ: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سِنَامه الجهاد في سبيل الله»، وقد قال الله في كتابه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. [90]
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: إضاعتها: تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها كانوا كفارًا. وقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى}. [91] والمحافظة عليها: فعلها في أوقاتها، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، [92] وهم الذين يؤخرونها حتى يخرج الوقت.
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز تأخير صلاة النهار إلى الليل، ولا تأخير صلاة الليل إلى النهار، لا لمسافر ولا لمريض ولا غيرهما. لكن يجوز عند الحاجة أن يجمع المسلم بين صلاتي النهار وهي الظهر والعصر في وقت إحداهما، ويجمع بين صلاتي الليل وهي المغرب والعشاء في وقت إحداهما، وذلك لمثل المسافر والمريض وعند المطر، ونحو ذلك من الأعذار.
وقد أوجب الله على المسلمين أن يصلوا بحسب طاقتهم، كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [93] فعلى الرجل أن يصلي بطهارة كاملة وقراءة كاملة، وركوع وسجود كامل، فإن كان عادمًا للماء، أو يتضرر باستعماله لمرض أو برد أو غير ذلك، وهو محدث أو جنب، يتيمم الصعيد الطيب، وهو التراب. يمسح به وجهه ويديه ويصلي، ولا يؤخرها عن وقتها باتفاق العلماء.
وكذلك إذا كان محبوسًا أو مقيدًا أو زَمِنًا أو غير ذلك، صلى على حسب حاله، وإذا كان بإزاء عدوه صلى أيضا صلاة الخوف، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} إلى قوله: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلى قوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}. [94]
ويجب على أهل القدرة من المسلمين أن يأمروا بالصلاة كل أحد من الرجال والنساء حتى الصبيان. قال النبي ﷺ: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
والرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فمن العلماء من يقول: يكون مرتدًا كافرًا لا يصلي عليه ولا يدفن بين المسلمين، ومنهم من يقول: يكون كقاطع الطريق وقاتل النفس، والزاني المحصن.
وأمر الصلاة عظيم شأنها أن تذكر هاهنا، فإنها قوام الدين وعماده، وتعظيمه تعالى لها في كتابه فوق جميع العبادات؛ فإنه سبحانه يخصها بالذكر تارة، ويقرنها بالزكاة تارة، وبالصبر تارة، وبالنسك تارة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}. [95] وقوله: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}، [96] وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، [97] وقوله: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [98] وتارة يفتتح بها أعمال البر ويختمها بها؛ كما ذكره في سورة سأل سائل وفي أول سورة. [99] قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. [100]
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
هامش
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [المؤمنون: 51، 52]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [الشورى: 15]
- ↑ [البقرة: 285 286]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [النساء: 113]
- ↑ [آل عمران: 164]
- ↑ [الأحزاب: 34]
- ↑ [التوبة: 60]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [فاطر: 24]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [النساء: 64]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [آل عمران: 103]
- ↑ [الأنعام: 159]
- ↑ [آل عمران: 105]
- ↑ [البينة: 5]
- ↑ [الأنعام: 153]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [آل عمران: 79، 80]
- ↑ [البقرة: 142]
- ↑ [البقرة: 91]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [المائدة: 1]
- ↑ [مريم: 93-95]
- ↑ [النساء: 160]
- ↑ [آل عمران: 50]
- ↑ [التوبة: 29]
- ↑ [ الأعراف: 156، 157]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [ آل عمران: 85]
- ↑ عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، أبو الفرج شيخ الشام في وقته، حنبلي أصله من شيراز، تفقه ببغداد، وسكن بيت المقدس واستقر في دمشق فنشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن مؤلفاته الإيضاح، والجواهر، وتوفي بدمشق. ]
- ↑ [الأحزاب: 27]
- ↑ [سورة العصر]
- ↑ [السجدة: 24]
- ↑ [قال المجلسي: والحاصل أن المخالفين ليسوا من أهل الجنان ولا من أهل المنزلة بين الجنة والنار، وهي الأعراف، بل هم مخلدون في النار. بحار الأنوار: 8/ 360 – 361.]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [المائدة: 77]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [النجم: 1-4]
- ↑ [الروم: 50]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الحديد: 4]
- ↑ [المائدة: 72]
- ↑ [مريم: 88 93]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [النجم: 26]
- ↑ [الزمر: 43، 44]
- ↑ [يونس: 18]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [التوبة: 84]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [النساء: 48]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [البروج: 21، 22]
- ↑ [البينة: 2، 3]
- ↑ [الواقعة: 77، 78]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [الفتح: 18]
- ↑ [{كنتم خير أمة أخرجت للناس}]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [البقرة: 177]
- ↑ [المطففين: 22 26]
- ↑ [المائدة: 51-56]
- ↑ [التوبة: 71]
- ↑ [الأنفال: 72 75]
- ↑ [الحجرات: 9، 10]
- ↑ [آل عمران: 103]
- ↑ [الأنعام: 159]
- ↑ [البقرة: 286]
- ↑ [المائدة: 14]
- ↑ [آل عمران: 102- 104]
- ↑ [الشورى: 40 43]
- ↑ [الشورى: 21]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 19]
- ↑ [الإسراء: 78]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [الأنفال: 35]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [الماعون: 4، 5]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [النساء: 101-103]
- ↑ [البقرة: 43، 83، 110]
- ↑ [البقرة: 45]
- ↑ [الكوثر: 2]
- ↑ [الأنعام: 162، 163]
- ↑ [المؤمنون]
- ↑ [المؤمنون: 1-11]