كتاب الرد على وحدة الوجود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أوجد الأشياء شرها وخيرها وهو في عين أهل الحق يكون غيرها و على من بين نفعها وضرها وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحزابه السائرين في السلوك سيرها أما بعد فيقول الملتجئ إلى حرم ربه الباري علي بن سلطان محمد القاري إنه ورد سؤال من صاحب حال مضمونه أنه قال بعض المتصوفة للمريد عند تلقينه كلمة التوحيد اعتقد أن جميع الأشياء باعتبار باطنها متحد مع الله تعالى وباعتبار ظاهرها مغاير له وسواه فقلت هذا كلام ظاهر الفساد مائل إلى وحدة الوجود أو الإتحاد كما هو مذهب أهل الإلحاد فالتمس مني بعض الإخوان أن أوضح هذا الأمر وفق الإمكان من البيان فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق إن الله سبحانه وتعالى كان ولم يكن قبله ولا معه شيء عند أهل السنة والجماعة بإجماع العلماء خلافا للفلاسفة وبعض الحكماء ممن يقول بقدم العالم ووجود بعض الأشياء وهو مردود لقوله تعالى الله خالق كل شيء أي موجود ممكن في عالم مشهود ومن المحال
أن يكون الحادث بباطنه متحدا بالقديم الموجد مع أنه مخالف لمذهب الموحد فإن الإثنينية تنافي الوحدة اليقينية قال الله تعالى لا تتخذوا إلهين اثنين فكيف بالآلهة المتعددة والذي يعرف من السادة الصوفية أنهم يقولون ينبغي للسالك أن ينظر حال تكلمه كلمة التوحيد عند لا إله بنظر النفي والفناء إلى السوى وعند إلا الله الثبوت والبقاء إلى المولى وقد تقرر في علم العقائد أن الله سبحانه وتعالى ليس محلا للحوادث فإن الحدوث عبارة عن وجود لاحق لعدم سابق فيكون مع القديم غير لائق ثم المقصود من كلمة التوحيد نفي كون الشيء يستحق العبودية وإثبات الربوبية لمن له استحقاق الألوهية وإلا فالكفار كانوا عارفين للوجود ومغايرته لما سواه كما أخبر به سبحانه وتعالى عنهم بقوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض أي أوجد العلويات والسفليات من حيز العدم إلى صفحة الوجود ليقولن الله أي الذات الواجب الوجود
المستجمع لصفات الجلال والكمال من الكرم والجود ثم اعلم أن حقائق الأشياء ثابتة كما قال أهل الحق لأن في نفيها ثبوتها حاصلة خلافا للسوفسطائية حيث حملوها على الأمور الخيالية ويلحق بهم الطائفة الوجودية حيث رتبوها مما عدا خالقها على الفضولات الاعتبارية نظرا إلى جهاتها الباطنية والظاهرية فتبعوا طائفة من السوفسطائية حيث يزعمون أن حقائق الأشياء تابعة لاعتقاد المعتقدين في القضية فهم بحكم هذه المسائل خرجوا عن الطوائف الإسلامية حيث أنكروا الأمور الحسية والأدلة الشرعية الإنسية ثم الإجماع على حدوث العالم وهو ما سوى الله ذاتا وصفة فإن الصفات لا عين الذات ولا غيرها عند أهل السنة وقد نفت المعتزلة أصل الصفات والأسماء تحرزا من تعدد القدماء فتبين أن مقال هذا الجاهل مع أنه ليس تحته طائل مخالف لإجماع أهل الإيمان إذ يلزم من قوله
قدم باطن الأشياء وهو واضح البطلان وكلامه هذا قول بعض الفلاسفة إن الأشياء قديمة بذواتها محدثة بصفاتها شبيه بشبهة الدهرية المدفوعة بلزوم دوام الممكنات بدوام بارئ المخلوقات ووجوب أن لا يحصل شيء في العالم من التغيرات فسبحان من يغير ولا يتغير لا في الذات ولا في الصفات ثم التوحيد في اللغة الحكم أو العلم بأن الشيء واحد وفي الاصطلاح هو تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام ويخيل في الأذهان والأوهام وهذا معنى قول علي كرم الله وجهه لما سئل عن التوحيد ما معناه فقال التوحيد أن تعلم أن ما خطر ببالك أو توهمته في خيالك أو تصورته في حال من أحوالك فالله تعالى وراء ذلك ويرجع إليه قول الجنيد قدس الله سره التوحيد إفراد القدم من الحدوث إذ لا يخطر ببالك إلا حادث فإفراد القدم أن لا يحكم على الله بمشابهة شيء من الموجودات لا في الذات ولا في الصفات فإن ذاته لا تشبه الذوات ولا صفاته قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ولذا قيل ومعنى كون الله واحدا نفي الانقسام في ذاته ونفي التشبيه والشريك عن ذاته وصفاته وأما ما نقل عن بعض العارفين من أن التوحيد إسقاط الإضافات فهو بيان توحيد الأفعال حيث يتعين فيه أن يسقط عن نظره ملاحظة الأسباب والآلات ليتضح له أن الخلق جميعا لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة
ولا نشورا ثم اعلم أن مذهب أهل الإسلام أن معرفة الله تعالى واجبة على جميع الأنام لكن اختلفوا في طريقها فمذهب الصوفية أن طريقها الرياضة والتخلية والتحلية وتصفية الطوية لقبول التحلية وليستفيد الواردات وشواهد تكثيرها التي عجز العقل عن تفسيرها وذهب جمهور المتكلمين إلى أن طريقها إنما هو النظر والاستدلال بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة المطابقة للأدلة العقلية وقال بعضهم يعرف بالعقل المجرد الباقي على الفطرة الأصلية وقال بعضهم يعرف الله بالله لا بغيره وهذا أشبه بمذهب الصوفية وعن هذا قالوا إن أحدا لا يعرف الله حق معرفته وإن كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا لقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وكقوله سبحانه وتعالى ولا يحيطون به علما وقوله لا تدركه الأبصار ومن هنا قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال لا تتفكروا في ذات الله وقال كل الناس في ذات
الله حمقى ومن ثم قال الصديق الأكبر العجز عن درك الإدراك إدراك وورد عليكم بدين العجائز فسبحان من لا يعرفه إلا هو وهذا لا ينافي قول أبي حنيفة نعرف الله حق معرفته لأنه أراد به ما أوجب عليه من معرفة ذاته وصفاته لا كنه معرفته وإحاطة كمالاته وأما قوله ولا نعبده حق عبادته أي لا يمكننا أن نعبد حق طاعته لأنا ضعفاء عاجزون عن كمال هذه الحالة ولو بالإرادة حيث لا ننفك عن التقصير وإيقاع الخلل في العبادة ثم اعلم أن الواحد والأحد من الأسماء الحسنى وفرق بينهما بأن الأحد في الذات والواحد في الصفات فعن الزهري أنه لا يوصف شيء بالأحدية غير الله ويؤيده قوله قل هو الله أحد بالعبارة الحصرية فالأحدية تخالف ما قاله الوجودية من تصور الكثرة الباطنية والظاهرية مع أن العارفين بالله يبطلون الإثنينية بالكلية ويقولون في التوحيد الصرف كما ورد عن بعض
الأحرار ليس في الدار غيره ديار وجاء عن بعض أرباب الشهود سوى الله والله ما في الوجود كما ورد في حزب بعض مشايخنا من قوله استغفر الله مما سوى الله وهذا المعنى وأمثاله مستفاد من قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه و كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فأينما تولوا فثم وجه الله و هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي الأول الأزلي والآخر الأبدي الظاهر بصفاته الباطن في ذاته ومستنبط من حديث أصدق كلمة قالها الشاعر ألا كل شيء ما خلا الله باطل ومأخوذ من قول علي كرم الله وجهه هو مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة مشيرا إلى قوله وهو معكم أينما كنتم وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وأما أرباب الكمال المتجلي عليهم بنعت الجلال ووصف الجمال فهم جامعون بين الأحوال لا يحجبهم الكثرة عن الوحدة والوحدة عن الكثرة وهذا معنى قوله المؤمن مرآة المؤمن فإن هذه الطائفة
يرون الخلق مرآة الحق أو الحق مرآة الخلق والأول أظهر لأن الخلق هو المظهر فإنه قال كنت كنزا مخفيا فتدبر ويشير إلى الجمع بين المرتبتين قوله سبحانه وتعالى إياك نعبد وإياك نستعين فإن العبادة إشارة إلى التفرقة كما أن الاستعانة عبارة عن الجمعية وكذا قوله لا إله تفرقة وإلا الله جمعية لأن في الأول ملاحظة الكثرة وفي الثاني مشاهدة الوحدة وقد قالت الصوفية الجمعية بدون التفرقة زندقة والتفرقة بدون الجمعية كفر ومفسقة وقالوا إن المريد في مقام المزيد ينبغي أن يقول في باطنه عند كلمة التوحيد أولا لا معبود إلا الله وهذه شريعة ثم يقول لا موجود إلا الله وهذه طريقة ثم لا مشهود إلا الله وهذه حقيقة ولا يلزم منه الاستهلاك من عين الأحدية ما توهمه الوجودية من عكس القضية فإذا عرفت ذلك
ما يعتد الوجودية على ما هنالك من نسبة القول الباطل الذي صدر من القلب الغبي إلى الشيخ محي الدين بن عربي الله أعلم بصحة النسبة في الرواية ليحكم بكفر قائله بناء على ما تقتضيه الدراية وهو أنه ذكر في الفتوحات المكية بالعبارة الردية وهي قوله سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذا كما ترى مخالف لجميع أرباب النحل والملل الإسلامية وموافق لما عليه الطبيعية والدهرية ولذا كتب العارف الرباني الشيخ علاء الدولة السمناني في حاشية هذه العبارة الدنية أيها الشيخ لو سمعت من أحد أنه يقول فضلة الشيخ عينه لا تسامحه بل تغضب عليه فكيف يسوغ العاقل أن ينسب إلى الله تعالى هذا الهذيان تب إلى الله تعالى توبة نصوحا لتنجو من هذه الورطة الوعرة التي يستنكف منها الدهريون والطبيعيون واليونانيون والشكمانيون ثم قال ومن لم يؤمن بوجوب وجوده فهو كافر حقيقي ومن لم يؤمن بوحدانيته فهو مشرك حقيقي ومن لم يؤمن بنزاهته من جميع ما يختص بالممكن فهو ظالم حقيقي لأنه ينسب إليه ما لا يليق بكمال قدسه والظلم وضع الشيء في غير موضعه ولذلك قال تعالى في محكم كتابه ألا لعنة الله على الظالمين وسبحانه وتعالى عن وصف
الجاهلين ثم نقل عن بداية أمره في مقام التوحيد إلى الفرق حيث كان يظهر أن الحلول كفر والاتحاد توحيد أنه أنشد يعني على وجه التضمين أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... ليس في المرآة شيء غيرنا قد سها المنشد إذ أنشده ... نحن روحان حللنا بدنا أثبت الشركة شركا واضحا ... كل من فرق فرقا بيننا لا أناديه ولا أذكره ... إن ذكري وندائي يا أنا ثم قال فلما وصلت إلى نهاية مقام التوحيد ظهر أنه غلط محض فرجعت إلى الحق انتهى كما نقله مولانا عبد الرحمن الجامي في كتابه النفحات وهو في نقله من جملة الثقات والحاصل أنه مقام ناقص ابتلي به المنصور حيث قال أنا الحق ولعل البسطامي في هذا الحال قال ليس في جبتي سوى الله نعم فرق بين قول منصور وقول فرعون أن المنصور غلب عليه
مشاهدة الحق حتى باين عن ملاحظة الخلق فقال ما قال وأما فرعون فقوله نشأ من غلبة رؤية نفسه وجسمه ومطالعة كثرة حشمه وخدمه وذهل عن مشاهدة خالقه ومنعمه وكبريائه وعظمته وبهائه ولهذا اختلف العلماء في حق المنصور واتفقوا على كفر فرعون المهجور هذا وقد قال الإمام الرازي إن المجسم ما عبد الله قط لأنه يعبد ما تصوره في وهمه من الصورة تعالى منزه عن ذلك قلت فالوجودي كذلك فإن تصوره على وجه تنزه سبحانه عما هنالك ومما يدل على بطلان مذهبه أنه سئل أبو حنيفة عما لو قيل أين الله تعالى فقال له كان الله قبل أن يخلق الخلق ويقال كان الله ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء وهو خالق كل شيء وأما حكم النبي عند إشارة الأمة إلى السماء بكونها مؤمنة فباعتبار أنها يظن بها أنها من عبدة الأوثان فبإشارتها إلى السماء علم أن معبودها ليس من الأصنام وأما قوله تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله أي معبود فيهما ومتصرف في نفسهما وأهلهما وأما ما نقل عن بعض العارفين كان الله ولم يكن معه شيء والآن على ما كان عليه فمحمول على مشاهدة
حقيقة التوحيد وملاحظة حال التفريد إذ ليس شيء مستقل في وجوده ومقام شهوده في نظر العرفاء كالهباء وكالسراب في الصحراء فتبين الفرق بين الوجودية الموجودين وبين الوجودية الملحدين حيث قال الأولون الوجود المطلق هو الحق نظرا أنه الفرد الكامل وقال الآخرون الوجود المطلق لتضمنه الخلق الشامل كما يشير إليه قول بعضهم الله هو الكل وأنت الجزء فإذا وصلت إلى مقام الحضور ونفي الشعور صرت الكل في عالم الظهور وقد تقرر في علم العقائد من المواقف والمقاصد أنه سبحانه وتعالى منزه من أن يكون كلا أو كليا في المشاهد ثم اعلم أن من روى عن أبي حنيفة رحمه الله أن الله تعالى ماهية لا يعرفها إلا هو فقد افترى عليه لأن الشيخ أبا منصور الماتريدي مع كونه أعرف الناس بمذهبه لم ينسب هذا القول إليه ونفى القول بالماهية كذا في شرح القونوي لعمدة النسفي ولا يبعد أن يراد بالماهية الحقيقة الذاتية فإنها لا يعرفها إلا هو فمن ادعاها حكم على جهله
بها ثم في كتب العقائد أنه لا يقال صفاته تحل ذاته أو تحل ذاته صفاته أو صفاته معه أو فيه أو مجاورة له لأن هذه الألفاظ تستعمل في المغايرات ولا تغاير هنا بل يقال صفاته قائمة بذاته وصفاته لا هو ولا غيره أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه لو كانت غيره لوجب أن يكون معه في الأزل غير الله تعالى وهو كفر ولا يجوز أن يكون ولا يجوز أن يكون بعضه لأن التبعيض من علامات الحدوث ولا يجوز أن تكون هذه الصفات حادثة لأن القول بحدوثها يؤدي إلى أن الله تعالى يكون موصوفا بأضدادها فالله تعالى منزه عن ذلك فكيف هذا الجاهل يقول إن الأشياء بباطنها متحد مع الله فنقول له قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي كتابه ورسوله فبيننا الكتاب والسنة وقال وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين فهم فيما ورد فيهما من مقتضى أهوائهم
معتقدون وفي مخالف آرائهم معرضون وقد قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت أي الشيطان وأتباعه ويزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانا وتوفيقا في اتباعه كما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم إنما نريد أن نحس الأشياء بتحقيقها أي ندركها ونعرفها بماهيتها وكميتها وكيفيتها ولم يعرفوا أن من الأشياء ما لا يدرك كنهه وحقيقته كما قال الله تعالى ولا يحيطون به علما ولا تدركه الأبصار ولذا لما قال فرعون وما رب العلمين قال موسى رب السموات والأرض وما بينهما فسئل عن الذات وأخبر عن الصفات لتعذر معرفته كما أشار إليه بقوله لا أحصي ثناء عليك و لا تتفكروا في ذات الله وتفكروا في آلائه وعد العجز عن درك الإدارك إدراكا وهنا حديث لا أدري نصف العلم وقول
الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا وقول الأنبياء لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ثم هؤلاء الجهلة بعقولهم الكاسدة وآرائهم الفاسدة يزعمون أنهم يريدون التوفيق بين الدلائل التي عندهم مما يسمونها العقليات وهي في الحقيقة محض الجهليات وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الكتاب والسنة وقد يتفوهون أنهم يريدون التحقيق والتدقيق بالتوفيق بين الشريعة والفلسفة كما يقول كثير من المبتدعة من المتنسكة والجهلة من المتصوفة حيث يقولون إنما نريد الإحسان بالجمع بين الإيمان والإتقان والتوفيق بين الشريعة والحقيقة ويدسون فيها دسائس مذاهبهم الباطلة ومشاربهم العاطلة من الاتحاد والحلول والإلحاد والاتصال ودعوى الوجود والمطلق وأن الموجودات عين الحق ويتوهمون أنهم في مقام الجمعية والحال أنهم في عين التفرقة والزندقة وكما يقول كثير من الملوك والحكام والأمراء إذا خالفوا في بعض أحكام الإسلام إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينهما وبين الشريعة المستحسنة فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما هو ظاهر الشرع المبين له نصيب من ذلك وهو هالك فيما هنالك
واعلم أن نبينا قد أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ولوامعه فبعث بالعلوم الكلية والمعارف الأولية والآخرية على أتم الوجوه فيما يحتاج إليه السالك في الأمور الدينية والدنيوية والأخروية ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها واضطربوا في بيان خطئها وصوابها فالعلم نقطة كثرها الجاهلون ولذلك صار كلام الخلف كثيرا قليل البركة بخلاف كلام السلف فإنه قليل كثير البركة والمنفعة فالفضل للمتقدمين لا ما يقوله جهلة المتكلمين إن طريقة المتقدمين أسلم وطريقتنا أحكم وأعلم وكما يقول من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه أنهم لم يتفرغوا لاستنباط وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه بما يتعلق هنالك فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعن علومهم وقلة تكلفهم فتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف
التي همة القوم مراعاة أصولها ومعاهدها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية والمراتب الغالية فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن وهو سبحانه وتعالى كل يوم في شأن وقد جعل الله لكل شيء قدرا ومن هنا قال الغزالي ضيعت قطعة من العمر العزيز في تصنيف البسيط والوسيط والوجيز ولهذا لا تجد عند جهلة الصوفية من المعرفة واليقين في جميع أمور الدين ما يوجد عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم الموقنين وذلك لأن اشتمال مقدماتهم على الحق والباطل أوجب المراء والجدال وانتشر كثرة القيل والقال وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال واتسع كلامهم في أمور المحال إذا عرفت ذلك وتبين لك ما هنالك من المهالك الواقعة للسالك في ضيق المسالك فاعلم أن أول ما يؤمر به العبد علم التوحيد الذي هو عبارة عن الإيمان والتصديق
والإقرار على وجه التحقيق إما حقيقة أو حكما فإن من صلى ولم يتكلم بالشهادتين اختلف فيه العلماء الأعلام والصحيح عندنا أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام ولو لم يتكلم بهما لتحقيق المرام على ما ذكره العلامة علي بن أبي العز الحنفي في شرح عقيدة الطحاوي والتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا على وفق النظام كما قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة والعبرة بالخاتمة اللاحقة لأنها مظهر القائمة السابقة والتوحيد إما في الذات بمعنى أنه يعبد وحده لا شريك له وإما الصفات فإنه لا شبيه له في صفاته الذاتية وإما في الأفعال فإنه الفعال لما يريد ويفعل الله ما يشاء وهو خالق كل شيء فاعبدوه وأما الجهم بن صفوان ومن وافقه من نفات الصفات حيث أدخلوا نفي الصفات في مسمى توحيد الذات لئلا يلزم
تعدد الواجب من القدماء فمعلوم الفساد بالضرورة عند العلماء فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج وإنما الذهن قد يتصور المحال ويتخيله وهذا غاية التعطل والمذهب الحق هو الوسط بين التشبيه المحقق والتنزيه المطلق قال شارح عقيدة الطحاوي وهذا القول الذي هو ظاهر الفساد قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد وهو أقبح من كفر النصارى في الاعتقاد فإن النصارى خصوه بالمسيح من الكائنات وهؤلاء عموا جميع الكائنات ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملوا الإيمان عارفون بالله تعالى على التحقيق والإيمان ومن فروعه أنه لا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح فكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا على الناس تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا انتهى وكأنه أشار إلى أقوال نسبت إلى الشيخ ابن عربي من أنه قال في الفصوص من ادعى الألوهية فهو صادق في
دعواه ومن أنه أباح المكث للجنب والحائض في المسجد وأنه لا يحرم فرجا وأنه يقول بقدم العالم ومن أنه قال ضيق ابن أبي كبشة أمر الدنيا على الموحدين وأن فرعون خرج من الدنيا طاهرا ومطهرا وقد ذكرت بطلان هذا القول في رسالة مستقلة وقعت شرحا وطرحا لرسالة جعلها الجلال الدواني تبعا له في هذه المراتب الأداني ومن نظر إلى كتاب الفتوحات رأى فيها عجائب المخلوقات وقد صرح في الفصوص بأن الرياضة إذا كملت اختلط ناسوت صاحبها بلاهوت الله انتهى وهذا عين مذهب النصارى حيث قالوا امتزجت الكلمة بعيسى امتزاج الماء باللبن فاختلط ناسوته بلاهوت الله سبحانه حتى ادعو أنه ابن الله تعالى شأنه وتعظم سلطانه وقال الشيخ العلامة شرف الدين ابن المقريء ولهذا طائفة من
العوام وقعوا في الفتنة من هذا الكلام وقالوا هذا الكلام باطن لا يعرفه إلا أهل الإلهام ولبسوا على الناس حتى أصغى الجاهل إلى أقوالهم من أن كل شيء هو الله وأن الخالق هو المخلوق وأن المخلوق هو الخالق وأن الألوهية بالجعل فمن جعلته إلهك فقد عرفته وما عرفك وأن المنفي في لا إله إلا الله هو المثبت فجعلوا كلمة الشهادة ما لا معنى له ولا فائدة تحته وأشباه هذا من كلامهم ما لا يحصى كثرة وهو في كتابه يأمر بعبادة الأوثان والتنقل في الأديان بقوله إياك أن تقتصر على معتقد واحد فيفوتك خير كثير فاجعل نفسك هيولى لسائر المعتقدات فما كتبه إلا كسم دس في الإسلام ومصيبة أصيب بها كثير من الأنام وقال شيخ مشايخنا العلامة الجزري يحرم مطالعة كتبه والنظر فيها والاشتغال بها ولا يلتفت إلى قول من قال إن هذا الكلام المخالف لظاهر المرام ينبغي أن يؤول بما يوافق أحكام الإسلام فإنه غلط من قائله وكيف يؤول قوله الرب حق والعبد حق وقوله ما عرف الله إلا المعطلة والمجسمة وقد قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا دليل المعطلة وهو السميع البصير دليل المجسمة وقوله ما عبد من عبد إلا الله لأن الله
يقول وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه وأحسن ما عندي في أمر هذا الرجل أنه لما ارتاض غلبت عليه السوداء فقال ما قال فلهذا اختلف كلامه اختلافا كثيرا وتناقض تناقضا ظاهرا فيقول اليوم شيئا وغدا بخلافه قلت ويؤيد ما نقل عنه أنه قال من لم يقل بكفره فهو كافر قال والظانون به خيرا أحد رجلين إما أن يكون سليم الباطن لا يتحقق معنى كلامه ويراه صوفيا ويبلغه اجتهاده وكثرة علمه فيظن به الخير وإما أن يكون زنديقا إباحيا حلوليا يعتقد وحدة الوجود ويأخذ ما يعطيه كلامه من ذلك مسلما ويظهر الإسلام واتباع الشرع الشريف في الأحكام ولقد جرى بيني وبين كثير من علمائهم بحث أفضى إلى أن قلت اجمعوا بين قولكم وبين التكليف وأنا أكون أول تابع لكم ولقد نقل الإمام عماد الدين بن كثير عن العلامة تقي الدين السبكي عن شيخ الإسلام ابن دقيق العيد القائل في آخر عمره لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال شيخ سوء كذاب يقول
بقدم العالم ولا يحرم فرجا وقال الجزري وبالجملة فالذي أقوله وأعتقده وسمعت من أثق به من شيوخي الذين هم حجة بيني وبين الله تعالى أن هذا الرجل إن صح هذا الكلام الذي في كتبه مما يخالف الشرع المطهر وقاله وهو في عقله ومات وهو معتقد ظاهره فهو أنجس من اليهود والنصارى فإنهم لا يستحلون أن يقولوا ذلك ثم إنما يؤول كلام المعصوم ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهره الكفر لم يكن في الأرض كافر مع أن هذا الرجل يقول في فتوحاته وهذا كلام على ظاهره لا يجوز تأويله انتهى وقد صنف العلامة ابن نور الدين مجلدا كاملا في الرد على ابن عربي سماه كشف الظلمة عن هذه الأمة أقول والعاقل تكفيه الإشارة ولا يحتاج إلى تطويل العبارة وأما ما ذكره صاحب القاموس في فتواه عند مدح ابن عربي بأن دعوته تخرق السبع الطباق وبركته تملأ جميع الآفاق وأنه أفضل الخلائق على الإطلاق وأن تصانيفه العلية من أعلى
العلوم النافعة الشرعية فبناء على حسن ظنه به لعدم الاطلاع على كلامه وفهم مرامه أو لموافقة مشربه ومطابقة مذهبه وأما قوله إن إنكار جماعة من فقهاء الظاهر العاجزين عن فهم شيء من معاني كلام الشيخ وحقائقه فإنهم متى سمعوا كلامه أنكروا وبدعوا وشنعوا لعدم فهم مرامه أليس حافظ الأمة أبو هريرة رضي الله عنه يقول حفظت من رسول الله وعاءين من العلم فبثثت أحدهما فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم كذا في صحيح البخاري أراد به علوم الحقيقة التي ليست من شأن أهل الظاهر لأن ذلك خاص بما خصه الله تعالى من الصديقين والأدباء المقربين فهو خطأ ظاهر وغلط باهر من وجهين أحدهما أن المشايخ المعتبرين قد أنكروا عليه كما ثبت واشتهر من إنكار الشيخ الرباني علاء الدولة السمناني والثاني استدلاله بالحديث المذكور فإنه لا شك في صحة مبناه وإنما أخطأ فيما ذكره من بيانه معناه لأنه يلزم منه أنه خصه بعلم لا يجوز إفشاؤه لكونه مخالفا لظاهر الشريعة وقد أجمع الفقهاء والصوفية والعرفاء أن كل حقيقة تخالف ظاهر الشريعة فهي زندقة مع أن أبا هريرة غير مشهور بهذا العلم ولا أحد أخذ عنه من طرق المشايخ ورجال أسانيدهم وإنما المشهور من الصحابة في هذا الفن باعتبار الحال الصديق الأكبر وباعتبار المقال علي رضي الله عنه وقد انتهى إليهما طرق الصوفية
المرضية والصواب في معنى الحديث المسطور هو أنه سمع منه بعض أحاديث في مذمة بني أمية وكان يخاف على نفسه من يزيد وزيادة بعض أذيته فما أظهر شيئا من ذلك لعذره هنالك ذكره لبعض الخواص من أصحابه لئلا يدخل تحت قوله من كتم علما ألجم بلجام من نار وقد بينت فيما بسطت الكلام بذكر فتاوي العلماء الأعلام في رسالتي المسماة فر العون ممن يدعي إيمان فرعون وذكرت هناك الخلاصة أن الأحوط في أمر الدين هو السكوت عن نفس ابن عربي حيث اختلف
العلماء في أنه صديق أو زنديق وعلى الثاني لعله مات تائبا وتحرم مطالعة كتبه لأنها مشحونة بما يخالف عقائد المسلمين في مقام الإيمان والتصديق والله ولي التوفيق ثم أعلم أن القول بالحلول والاتحاد الموجب لحصول الفساد والإلحاد شر من المجوس والثنوية والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن العالم صدر عنهما وهم متفقون على أن النور خير من الظلمة وهو الإله المحمود وأن الظلمة شريرة مذمومة وهم متنازعون في الظلمة هل هي قديمة أو محدثة فلم يثبتوا بين متماثلين وقد قال تعالى ردا عليهم لا تتخذوا إلهين اثنين وقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل واعتدى وكذا شر من النصارى القائلين بالتثليث
فإنهم متفقون على أن صانع العالم واحد ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد فقولهم في التثليث مناقض في نفسه وقولهم في الحلول أفسد منه بحسب أصله وأما ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري في محض التوحيد وصرف التفريد في كتابه منازل السائرين حيث قال ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد فليس فيه إلا أنه لا يعرف الله ما سواه وحاشاه أن يريد به الاتحاد ليتشبت به الاتحادي ويقسم بالله جهد أيمانه أنه معه وهذا دأب أهل الباطن أنهم يروجون مذهبهم بانتسابه إلى بعض أهل الحق عند الجهال ممن لا تمييز له بين الأقوال كالشيعة ينتسبون إلى الإمام جعفر الصادق وهو بريء منهم ومتنزه عنهم عند من يعرف مقامه ويتبين له مرامه حين يسمع كلامه وكالملحدين يتعلقون بأشعار العطار والحافظ ومير قاسم الأنوار وأمثالهم من أرباب الأسرار وكما أنا المبتدعة كلهم يستدلون على مدعائهم بالآيات القرآنية و بعض الأحاديث النبوية والحاصل أن القرآن وكلام أهل
العرفان كبحر النيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين وقد قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا فأما الذين في قلوبهم زبغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فيفيد أنه لا يجوز تأويله إلا بما وافق تنزيله ولقوله نحن نحكم بالظاهر والله أعلم بالسرائر أما إذا طابق التأويل التنزيل فهو نور على نور وسرور على سرور هذا وقد ثبت بضرورة العقل وأدلة النقل وجود موجودين أحدهما واجب والآخر ممكن أحدهما قديم والآخر حادث أحدهما غني والآخر فقير إلى الله أحدهما خالق والآخر مخلوق وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا إلا أن من المعلوم أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه والآخر لا يجوز قدمه ولا هو موجود إلا بغيره فلو تماثلا لزم أن يكون كل
منهما واجب القدم ليس بواجب القدم موجودا بنفسه غير موجود بنفسه خالقا ليس بخالق غنيا غير غني فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل كما هو منتف بنصوص النقل فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل وأما من جعلهما متحدين فكفر صريح ليس تحته طائل وتحقيق ذلك أنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته والعبد لا يشاركه في شيء من ذلك والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه وقدرته والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان والوجود في الأعيان لا اشتراك فيه وهذا موضع اضطراب فيه كثير من الحكماء حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد وطائفة ظنت أن الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام وأما اللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على آخذ المتاع
والكوكب فلا ينقسم معناه ولكن يقال لفظ المشتري يطلق على كذا وكذا وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في مواضعها الأليق بها فأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين ليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا بل لا يوجد إلا متعينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيهما غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق ألا ترى أنك تقول هذا هو ذاك فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين ثم اعلم أنه سبحانه كما أن ليس له مثل في الذات ليس له مثل في الصفات وهذا بطريق الإجمال مستفاد من قوله تعالى ليس كمثله شيء أي ذاتا وصفة وفعلا وأما بطريق التفصيل فكل نفي يأتي في صفات الله إنما هو لكمال ثبوت ضده كقوله تعالى ولا يظلم ربك أحدا أي لكمال عدله وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض أي لكمال علمه وقوله وما مسنا من لغوب أي
لكمال قدرته وقوله لا تأخذه سنة ولا نوم أي لكمال حياته وقيوميته وقوله لا تدركه الأبصار أي لكمال جلاله وعظمته وكبريائه ومهابته وقوله لم يلد أي ليس بحادث ولم يولد أي ليس محلا للحوادث ولم يكن له كفوا أحدا أي شبيها له في ذاته وصفاته وقوله سبحانه وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا فنبه سبحانه في آخر الآية على دليل انتفاء العجز وهو كمال العلم والقدرة وذلك لأن النفي الصرف لا مدح فيه وعكس المتكلمون وتركوا الطريق الأمثل حيث أتوا بالإثبات المجمل والنفي المفصل وقالوا ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناه ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود
ولا ولد ولا مولود ولا يحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة وفي هذا النفي المجرد مع كونه أنه وصف بالمعدوم لا مدح فيه بل فيه إساءة أدب فإنك لو قلت للسلطان أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقا وإنما تكون مادحا إذا أجملت النفي فقلت أنت لست مثل أحد من رعيتك أنت أعلى منهم وأكمل وأشرف وأجل فالصواب هو التعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية كما هو سبيل أهل السنة والجماعة وطريق السادة الصوفية السنية لا ما ابتدعه المعطلة والمعتزلة ولا ما اخترعوه من المباني والمعاني اللغوية والعرفية قال القونوي بعد ما بحث مع المعتزلة أنه كيف يصح كونه متكلما بكلام يقوم بغيره إذ لو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه في الجمادات والحيوانات كلاما فيلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره زورا وكفرا تعالى شأنه وعظم برهانه وقد اطرد الاتحادية فقال ابن عربي وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه انتهى
وقد بلغني أن واحدا منهم سمع نباح كلب فقال لبيك وسجد له فهل هذا إلا كفر صريح ليس له تأويل صحيح مع مناقضته لقوله إن أحدكم إذا سمع نباح كلب أو نهيق حمار فليتعوذ فإنه رأى شيطانا فهؤلاء أضل من كل من تكلم في الكلام وهم أصناف تسعة كما بينت كلامهم في شرح الفقه للإمام الأكبر وأيضا قد قالت النصارى إن عيسى نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت أي شيء من الإله بشيء من الناس فضلوا وأضلوا مع أنهم صوروه وحصروه في مظهر العجائب ومظهر الغرائب فكيف القول بعموم الكلام وشمول المرام واستواء الخاص والعام وما أحسن المثل المضروب لمثبت الصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه فالمعطل يعبد عدما والمشبه يعبد صنما ولا شك أن تعطيل الصفات شر من تشبيهها ثم اعلم أن من أبى إلا تحريف الكتاب والسنة وتأويلهما بما
يخالف صريح كلام الأئمة فلا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك سبيلا وهذا الذي أفسد الدنيا والدين وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل وحذرنا الله أن نفعل مثلهم وأبي المبطلون إلا أن يسلكوا سبيلهم وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية فهل قتل عثمان إلا بالتأويل الفاسد وكذا ما جرى يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة وهل خرجت الخوارج ورفضت الروافض واعتزلت المعتزلة وافترقت الأمة على فرق جمة إلا بالتأويل الفاسد على وفق متابعة العقل الكاسد ثم كيف يفسر كتاب الله بغير ما فسر به رسول الله الذي قال في حقه لتبين للناس ما نزل إليهم وقد قال من قال في القرآن برأيه فقد كفر فكيف من تكلم في ذات الله وصفاته بالأهواء الردية والآراء البدعية ولا عبرة بقول من يقول العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل والعقل أصل النقل فإذا عارضه قدمنا العقل بل إذا تعارض
العقل والنقل وجب تقديم النقل لأن النقل في نفس الأمر لا يكون مطابقا للعقل فإن العقول مختلفة ولذا ترى أصحابها متفرقة ولذا قيل في المثل العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد وقد قال الداراني كل خاطر خطر واستقر بالبال فاعرضه على ميزان الكتاب والسنة فما وافقهما قبلته وما خالفهما تركته فالواجب كمال التسليم له في التحكيم فلا يحاكم إلى غيره ولا يوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول إمام مذهبه وشيخ مشربه وأهل زمانه ومكانه بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله فلا يرضى بعد تحقيق أمره إلى تقليد غيره كما قال إمامنا الأعظم لا يحل لأحد أن يقول بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا أو هذا معناه وكما قال الإمام الشافعي إذا ثبت الحديث فاضربوا قولي على الحائط فإذا كان هؤلاء المجتهدون في الدين الكاملون في مقام اليقين في هذه المرتبة فما بال من يقلد ابن عربي وغيره في كلام هل صدر عنه أم لا مما يخالف صريح الكتاب والسنة ويوجب الكفر أو البدعة ويترك متابعة سائر المشايخ والأئمة فإن كنت أيها الأخ من المجتهدين فاعمل بما في الكتاب والسنة من أمر الدين وإن كنت من المقلدين فتقلد قول
العلماء العاملين والمشايخ الكاملين المجمع على ديانتهم وتحقيق أمانتهم وتصديق إمامتهم عملا بقوله عليكم بالسواد الأعظم والحاصل أنه لا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر الاستسلام لكتاب الله وسنة رسوله فقد روى البخاري عن الزهري أنه قال من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وهذا كلام جامع نافع وعن جميع البدع مانع فمن رام علم ما أحظر عن علمه ولم يقنع بالتسليم بما فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح التفريد ولم يترق إلى مقام التحقيق بل تنزل إلى حضيض التقليد قال تعالى ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق كما قال ابن المبارك
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك إحسانها وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها فالملوك الجبابرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ويعارضونها بها ويقدمونها على حكم الله ورسوله وأحبار السوء هم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله وتحريم ما أباحه واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره وإطلاق ما قيده وتقييد ما أطلقه ونحو ذلك والرهبان هم جهلة المتصوفة المعترضون على حقائق الإيمان والإسلام ودقائق الشريعة والأحكام بالأذواق والمواجيد الخيالية النفسانية والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله وإبطال دين شرع على لسان نبيه والإعراض عن حقائق الإيمان بحظوظ النفس وخدع الشيطان فقال الأولون إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة حفظا للرياسة وقال الآخرون إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل لأن العقل يثبت النقل وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الكشف وظاهر الشرع قدمنا الكشف لأن الخبر ليس كالمعاينة ولم يدروا أن أخبار الله ورسوله فوق مرتبه عيان الخلق فكيف بالكشف الذي هو محل اللبس ولذا ترى الكشوف مختلفة وآثارها غير مؤتلفة فكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه بل قال أنا
خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وقد قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فالدائر الحائر بين المنقول والمعقول يتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائها شاكا زائغا لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا كما قال الطحاوي فإن قيل كيف يتأتى الندامة والتوبة والملامة مع شهود الحكمة في التقدير مع شهود القيومية والمشيئة النافذة قيل هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على ما هو عليه فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها القدر والمشيئة وقال إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته كما قال قائلهم شعر أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر وأجهلهم بالله وأحكامه الدنيوية والكونية
فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين والحاصل أن هذا ليس بطاعة صدرت عن إطاعة بل انقياد للعبودية واستسلام تحت أحكام الربوبية كما قال تعالى وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون وزبدة الكلام في هذا المقام أن العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار به وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه في الأفعال فوقوع الذنب منه حينئذ كالمحال فإن عليه حصنا حصينا من مقام بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم نفسه فهناك نصبت عليه الشباك والأشراك وأرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبيعي وانفتح له باب الشهود الشرعي بحضرة الندامة والتوبة والملامة والإنابة فإنه كان في المعصية محجوبا بنفسه عن ربه فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه وإليه الإشارة في حديث لا يزني الزاني وهو
مؤمن وسر القدر يخفى عن البشر ففي الإنجيل يا بني إسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا ولكن قولوا بم أمر ربنا لأن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال عدله وحكمته لا لمجرد قهره وقدرته خلافا لجهم وشيعته وقد قال الطحاوي إن العلم علمان علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود كفر ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود انتهى ويعني بالعلم المفقود علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه ويعني بالعلم الموجود علم الشريعة أصولها وفروعها فمن أنكر شيئا مما جاء به الرسول كان من الكافرين وكذا من ادعى علم الغيب ثم لا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها في نفس الأمر فمن الحكم المجهولة عندنا خلق المؤذي من الأشياء وإيلام الأطفال والأنبياء ثم من علامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار كما عليه أكثر الفجار حيث يميلون عن العلوم الشرعية الإلهية إلى العلوم الطبيعية النفسية وقد قال إن من العلم جهلا وقال أعوذ بالله من علم لا ينفع
وقلب لا يخشع ثم أنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن فمن طلب الشفاء من غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين ثم من المعتقد المعتمد كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه كما كان قبل خلق الموجودات وظهور الكائنات وأما القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه فغير مقبول فكيف بالاتصال من وجه وبالانفصال من وجه مع أنه يلزم منه أن يكون بارئ النسمات محلا للخسائس والقاذورات فكما أنه تعالى منزه عن أن يكون له مكان فمنزه عن أن يكون مكانا لغيره وإنما مال هذا القائل بالإلحاد والباطل إلى مذهب الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء وهم أسفه السفهاء حيث ذهبوا إلى أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة له فلا يعلم الجزئيات بأعيانها وكل موجود في الخارج فهو جزئي ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته وإنما العالم عندهم لازم له أزلا وإن سموه مفعولا فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته فهذا إيمانهم بالله سبحانه وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء بل يصفه بما وصف به نفسه ثم الحذر الحذر من أن يتوهم أن من أخطأ في عقيدته يكون
معذورا بل باتفاق المسلمين يكون موزورا ثم تأويلها باطلة على وجه يوافق قول أهل الحق هل يفيده أم لا ففيه خلاف مشهور فإن طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون بكفره وإن كان متأولا في نفسه وقال شارح عقيدة الطحاوي إن مذهب الجهم بن صفوان أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط فلازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين عنده فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما ولذا قال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وكذا أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين بل كافرين معاندين وكذا أبو طالب فإنه قال شعر ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك متينا بل يكون إبليس مؤمنا عند الجهم فإنه لم يجهل ربه بل هو عارف به قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال رب بما أغويتني قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ولا أحد أجهل منه بربه فإنه جعله الوجود المطلق وسلب عنه جميع صفاته ولا جهل أكثر من هذا فيكون كافرا بشهادته على نفسه وكان الجهم بخراسان وأظهر مقالته هناك وتبعه عليها جمع بعد أن ترك الصلاة أربعين
يوما شكا في ربه وكان ذلك لمناظرته قوما من المشركين يقال لهم السمنية فلاسفة الهند الذين ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات قالوا له هذا ربك الذي تعبده هل يرى أو يشم أو يذاق أو يلمس فقال لا فقالوا هو معدوم فبقي أربعين يوما لا يعبد شيئا ثم لما خلا قلبه من معبود تألهه نقش الشيطان اعتقادا تحت فكره فقال إنه الوجود المطلق ونفى جميع الصفات وقد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الاثنتين وسبعين فرقة أم لا ثم اعلم أن المعتقد الحق أن الجنة والنار لا تفنيان وأدلتهما مملوء منها الكتاب والسنة وقيل تبقى الجنة وتفنى النار قال شارح عقيدة الطحاوي وهو قول جماعة من السلف والخلف مذكور في كثير من كتب التفسير وغيرها انتهى وهذا غير مشهور ولا مذكور كما لا يخفى وعلى تقدير ثبوته يكون محمولا على طبقة مختصة بعصات المؤمنين دون الكافرين ومما يدل على هذا التأويل إطلاق نقله عن ابن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم ثم قال وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه وقيل بفناء الجنة والنار وقائله الجهم بن صفوان إمام المعطلة
وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وأبو الهزيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا ثم قال الشارح فللناس في أبدية النار ودوامها أقوال منها أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون وهذا القول حكاه اليهود للنبي وأكذبهم فيه وقد أكذبهم الله بقوله وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الآية ومنها أن أهلها يخرجون منها وتبقى على حالها ليس فيها أحد ومنها أنها تفنى بنفسها لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وهذا قول الجهم وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم والجواب عن شبهته أن بقاء الجنة والنار ليس لذاتهما بل بإبقاء الله تعالى لهما ومنها أنها تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا لا يحسون بألم وهذا قول أبي الهزيل ممن وافق الجهم في أصله وخالفه في فروعه ومنها أن أهلها يعذبون فيه ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي انتهى وهذه الأقوال ظاهرة البطلان مخالفة للكتاب والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة ومما يدل على بطلان القول الأخير قوله
تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب وقوله تعالى فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا وقوله ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله ولهم عذاب مقيم وقوله لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون أي حائرون آيسون ثم اعلم أن الجهم هذا هو ابن صفوان الترمذي رئيس الجبرية القائلين بأن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش والعروق النابضة وحركات الأشجار وإضافتها إلى الخلق مجاز وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله وقابلتهم المعتزلة فقالوا إن جميع الأفعال الاختيارية مع جميع الحيوان بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا وقال أهل الحق أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة وهي مخلوقة لله تعالى والحق سبحانه منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا صنع العبد أصلا كما غلت المشبهة في إثبات الصفات فشبهوا والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة بل أردى من المجوس من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين
وهم أثبتوا خالقين وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم وليس هذه الرسالة موضع بسط الأدلة وأما ما استدل به الجبرية من قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهو دليل عليهم لأنه سبحانه أثبت لرسوله رميا بقوله إذ رميت فعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء فابتداؤه الحذف وانتهاؤه الإصابة وكل منهما يسمى رميا أو يقال المعنى وما رميت خلقا إذ رميت كسبا ولكن الله رمى حيث خلقك وخلق أسباب الرمي لك وقوة الكسب فيك وهذا هو عين معنى جمع الجمع الذي عليه السادة الصوفية الرضية السنية السنية وفي العقيدة الطحاوية أن نبيا واحدا أفضل من جميع الأولياء قال شارحها يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية
وجهلة المتصوفة ممن يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في عبادته وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم حقيقة قول فرعون وهو أن هذا الموجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم فإنه كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الموجود المخلوق هو الموجود الخالق كابن عربي وأمثاله وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين والأنبياء يستفيدون منها كما قال شعر مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي وهذا قلب للشريعة فإن الولاية ثابتة للمؤمنين كما قال تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون والنبوة أخص من الولاية والرسالة أخص من النبوة وقال ابن عربي أيضا في فصوصه لما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا
موضع اللبنة وكان هو موضع اللبنة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية فيرى ما مثله به النبي ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ويرى نفسه تنطبع في موضع لبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أن الحائط له لبنة من فضة ولبنة من ذهب واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول قال فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع قال الشارح فمن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب وللرسول بلبنة فضة فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول تلك أمانيهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه وكيف يخفى كفر من هذا كلامه وله من الكلام أمثال هذا وفيه ما يخفى منه الكفر فلهذا يحتاج إلى نقد جيد ليظهر زيفه فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة اتحادية في الدرك الأسفل من النار والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين
لإظهارهم الإسلام كما كان يظهر المنافقون الإسلام في حياة النبي ويبطنون الكفر وهو يعاملهم معاملة المسلمين لما يظهر منهم فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليهم حكم المرتد والله المستعان وأما قول بعض الجهلة إن الفقراء يسلم إليهم حالهم فكلام باطل بل الواجب عرض أحوالهم وأفعالهم على الشريعة المحمدية وعلى الكتاب والسنة النبوية فما وافقها قبل وما خالفها رد كما ورد من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد فلا طريقة إلا طريقة الرسول ولا شريعة إلا شريعته ولا حقيقة إلا حقيقته ولا عقيدة إلا عقيدته ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الحق ولا إلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعة رسوله ظاهرا وباطنا ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ملتزما لطاعته فيما أمر من الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليا ولو طار في الهواء وسار في الماء وأنفق من الغيب وأخرج الذهب من الغيب ولو حصل من الخوارق ماذا عسى أن يحصل فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وترك المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى وبابه المقربة إلى سخطه وعقابه وأما من اعتقد من بعض البله والمولهين مع تركه لمتابعة
الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله أنه من أولياء الله فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده فإن ذلك الأبله إما أن يكون شيطانا زندقيا أو مزورا كاذبا متخيلا أو مجنونا مبذورا ولا يقال يمكن أن يكون هذا متبعا في الباطن وإن كان تاركا للاتباع في الظاهر فإن هذا خطأ أيضا بل الواجب متابعة الرسول ظاهرا وباطنا والطائفة الملامية وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه ويقولون نحن متبعون في الباطن ويقصدون إخفاء أعمالهم ضالون مبتدعون مخطئون في فعلهم ما يلامون عليه وهم عكس المرائين ردوا باطلهم بباطل آخر والصراط المستقيم بين ذلك وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالون وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك ولو عند سماع القرآن بل كانوا كما وصفهم الله إذ ذكر الله وجلت قلوبهم وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان وتكلم ببعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه فذلك شيطان يتكلم على لسانه كما يتكلم على لسان المصروع وذلك كله من الأحوال الشيطانية وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق فهو ملحد زنديق فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته ولهذا قال له أنت موسى بني إسرائيل قال نعم ومحمد مبعوث
إلى الثقلين بل إلى جميع أهل الكونين ولو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعه وإذا نزل عيسى إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه وأما الذين يعبدون بالرياضات والخلوات ويتركون الجمع والجماعات فهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة إن كان عالما فهو مغضوب عليه وإلا فهو ضال ولهذا شرع الله تعالى لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليه ولا الضالين وقد ثبت عن النبي أنه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وقال طائفة من السلف من انحرف من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى ولهذا تجد أكثر المنحرفين من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم فيه شبه من اليهود حتى إن علماء اليهود يقرأون كتب شيوخ المعتزلة ويستحسنون طريقتهم وكذا شيوخ العباد ونحوهم فيه شبه من النصارى ولهذا يميلون إلى نوع من الرهبانية والحلول والاتحاد وسائر أنواع الفساد في الاعتقاد والله رؤوف بالعباد وقد ذكر ابن المقري صاحب الإرشاد في متن الروضة أن من شك في تكفير اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي كفر قال شارحه الشيخ زكريا أي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد وغيره وهو بحسب ما فهمه كبعضهم من ظاهر كلامهم والحق أنهم مسلمون أخيار وكلامهم جار على اصطلاحهم كسائر الصوفية وهو حقيقة عندهم في مرادهم وإن افتقر عند غيرهم ممن لو اعتقد ظاهره كفر إلى تأويل لأن اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في
غيره فالمعتقد منهم معتقد لمعنى صحيح انتهى ولا يخفى أن اصطلاحهم على تقدير الوجود لهم مخالف لمصطلح الصوفية فإن منهم من كفره كما قدمناه عن الشيخ علاء الدين السمناني وغيره من الأكابر مع أن ابن عربي صرح بنفسه أن كلامه هذا ليس فيه تأويل ثم هل يجوز لمسلم أن يجعل مصطلحا مخالفا للقواعد العربية التي نزل بها القرآن ووقع بها السنة فتنقلب الحقيقة اللغوية المطابقة للقواعد الشرعية معاني مجازية والاصطلاحات المحدثة حقيقة عرفية هل لمسلم أن يقول صدق فرعون في قوله أنا ربكم الأعلى فإن المراد بالرب هنا الملك وهو كان سلطان سلاطينهم وكذا قوله رسل الله الله أعلم مبتدأ وخبر مع أن هذا الكلام ليس على مقتضى اصطلاح لهم في هذا المقام بل إلحاد وزندقة فيما قصده من المرام ثم قوله وقد نص على ولاية ابن عربي جماعة عارفون بالله منهم ابن عطاء الله والشيخ
اليافعي مدفوع بإنكار شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام وغيره من العلماء الأعلام والمشايخ الفخام وتصريحهم بأنه زنديق فالجمع بينهما أن الأولين ما تأملوا كلامه ولا عرفوا مقامه ولا حققوا مرامه وعلى تقدير التنزل في الأمر بأن التعارض موجب للتساقط المقتضي لعدم الكفر فنحن نحكم بالظاهر والله أعلم بالسرائر فقول الشارح الحق باطل بلا مرية فيه إذ ليس بعد الحق إلا الضلال وهو يوجب تضليل أرباب الكمال والله أعلم بالأحوال ومن اطلع على مباحثه في الفصوص والفتوحات المكية جزم أنه لم يتكلم على مصطلحات الصوفية بل أوردها على قواعد العربية وأما قول الشارح إنه ربما وقع عنه كلمات في حال السكر والمحو فمردود بأن تلك الكلمات لم تؤلف إلا في وقت الشعور والصحو على أن هذا الشرح والجواب ليس مطابقا لما في الكتاب إذ لم يتعرض الماتن إلى نفس ابن عربي لاحتمال موته على دين النبي وإنما قال وطائفته ممن مشى على طريقته المنافية لدين الله وشريعته كما سيظهر من كلماته الصريحة في الارتداد واتفاق اتباعهم على ظاهر كلامه من الفساد على
وجه الاعتماد وطريق الاعتقاد بحيث كل من له أدنى عقل أو عنده شمة من نقل علم أن ضرر كفرهم على المسلمين أقوى من كفر اليهود والنصارى وضلال المبتدعة أجمعين فكلام الماتن هو الحق والحق بأن يتبع أحق فانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال إن كنت من أهل العلم والحال فإن بعضا من الطائفة الوجودية ذكر الاعتراضات الواردة على الكلمات الردية المنسوبة إلى ابن عربي وأتباعه الدنية ونسب إنكارها إلى العلماء القشيرية والمشايخ القشيرية ثم أجاب عنها بأجوبة واهية غير مرضية فها أنا أوردها مع أجوبتها على وجه يظهر بطلانها وحقيقتها اعلم أن الاعتراضات على نوعين نوع لا يتعلق بوحدة الوجود وهي ثمانية ونوع يتعلق بها وهي ثمانية عشر فالمجموع ستة وعشرون اعتراضا الأول قوله في فص آدم عليه السلام أنه للحق سبحانه بمنزلة إنسان العين للعين ومحظوره ظاهر ومحذوره باهر لأنه سبحانه قبل إنشاء آدم بل قبل إبداء العالم كان بصيرا وكان في عالم القدم يرى الأشياء قبل ظهورها من الوجود إلى العدم ثم تعليله بقوله فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم ليس بصحيح على إطلاقه إذا خلق الملائكة والشياطين من قبل إيجاده فلا يكون بسبب الرحمة على عباده وأما تأويله بأنه جعل الإنسان علة غائية في خلق هذه الدار لما ورد لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك ولا الجنة والنار فغير
صحيح لأن أفعاله سبحانه غير معللة وإن كانت صادرة عن حكم مبينة أو مجملة ومع هذا فالحكمة التي بمنزلة العلة الغائية في الجملة هي المعرفة الإلهية كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليعرفون كما فسر ابن عباس وغيره كما ورد كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأن أعرف وإنما خص الجن والإنس بها لأنهما مظهرا صفات الكمال من صفتي الجمال والجلال إذ الملائكة مختصون بمظهرية اللطف والجمال كما أن الشياطين محصورون في مظهرية القهر والجلال بخلاف الإنسان فإن له قابلية كل من المظهرين في عظمة الشأن ومن ثم قال تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وهذا معنى قوله إن الله تعالى خلق آدم على صورته أي على صورة جميع أسمائه وصفاته وبسط هذا الكلام يخرجنا عن المرام ثم
لما كان نبينا أكمل بني آدم بل وأفضل أفراد العالم ورد في حقه لولاك لما خلقت الأفلاك فهو إنسان العين وعين الإنسان وأما الله سبحانه فهو علي الشأن جلي البرهان فلا يجوز تشبيه ذاته ولا صفاته بشيء من مخلوقاته وقد نهى الله سبحانه عن مثل ذلك في آياته حيث قال فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ولله المثل الأعلى الثاني قوله في فص آدم عليه السلام أيضا إن الإنسان هو الحادث الأزلي والنشأة الدائم الأبدي انتهى والقول بقدم العالم فهو كفر بإجماع العلماء خلافا للفلاسفة من الحكماء مع التناقض الظاهر والتعارض الباهر في كلامه حيث جمع في مرامه بين الصفة الحدوثية والنعت الأزلية والله سبحانه هو الأول وهو خالق كل شيء فتأمل فإنه موضع زلل ومحل خلل وأما من أول قوله بقوله إن الإنسان حادث بالوجود الخارجي وأزلي بالوجود العلمي الإلهي فهو غير صالح أن يكون تأويلا لقوله الأول على تخصيص المعلوم الإلهي بالإنسان ليس له وجه يكون المعول فتأمل لأنه قال بنفسه في فص موسى عليه السلام عند قوله تعالى لا تبديل لكلمات الله ليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات فينسب إليه القدم من حيث ثبوتها العلمي وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها الخارجي انتهى وهو كلام لا غبار
عليه كما لا يخفى إلا أنه لا يطابق قوله المشهور من أنه سبحانه أوجد الأشياء وهو عينها لأن المرتبة العلمية لا يقتضي المنزلة العينية مع أن كلامه هذا مناقض أيضا لما قال في الفتوحات أيضا في الباب التاسع والستين من أنه سبحانه لم يوجد الأشياء في الأزل لكونه محالا من وجهين الأول أنه لا يوجد الموجود فإنه تحصيل الحاصل في معرض الشهود والثاني أنه سبحانه مختص بوصف الأزلية فكون العالم أزليا يناقض أوليته وبهذا تبين كلام الشيخ الجزري أن ابن عربي كان غلب عليه السوداء فليس كلامه على أساس البناء وأما الشارح القيصري للفصوص فقد صرح بقدم الأرواح إلا أنه فرق بين أزلية الأعيان الثابتة والأرواح المجردة وبين أزلية الحق سبحانه بأن الأرواح وإن كانت أزلية إلا أن عدمها مقدم على وجودها بالتقدم الذاتي لأن وجودها ليس منها وأما أزلية الحق فهي عبارة عن نفي الأولية الحقيقية فإن وجوده من ذاته وأغرب الملاجامي وقال بقدم أرواح الكاملين وبحدوث أرواح الناقصين ونسب هذا المذهب إلى الشيخ صدر الدين القونوي إلا أنه لم يعين محل نقله والمؤول الذي طالع كتب ابن عربي من
الفصوص والفتوحات مدة ثلاثين سنة من الأوقات صرح بأنه ما وجد في كلامه ما يدل على قدم الأرواح والأشباح انتهى ولا يخفى أنه منقوض بقوله أوجد الأشياء وهو عينها مندفع بما سبق من نسبته إلى قدم العالم في نقل أكابر العلماء مع أن هذه العبارة بعينها متناقضة الطرفين لأنه يلزم من إيجاد الأشياء حدوثها ومن قوله وهو عينها قدمها بأسرها أو قدم أرواحها والحاصل أن طوائف الإسلام من العلماء والحكماء وغيرهم من أهل السنة والجماعة والمعتزلة وسائر أرباب البدعة أجمعوا على حدوث الأرواح على خلاف في أن خلقها قبل الأشباح بسبعين ألف سنة أو بسبعمائة ألف سنة وإنما قال بقدم العالم جمع من السفهاء الفلسفية وهم كفرة بإجماع علماء الأمة الحنيفية وقوله تعالى خالق كل شيء يشمل الأرواح والأشباح وحديث أول ما خلق الله تعالى روحي نص في هذا المعنى إن صح المبنى وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة وفي مسند أحمد ومسلم
وأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقد قال تعالى ولله جنود السموات والأرض أي ملكا وخلقا وملكا هذا وقال المؤول إن الشيخ ذهب إلى حدوث العالم من الأرواح والأشباح وإنما وقع غلط كلي من الشراح قلت فثبت حرمة مطالعة كتبه لأن دسائس كلامه وهو أجرأ مرامه إذا خفيت على مثل القيصري والجامي فكيف بالنسبة إلى غيرهما ممن يطالعها وهو في مرتبة العامي على أن الظاهر أنهما ما ذكرا هذا القول من عندهما ولا معتقدهما بل لما فهما من كلامه على ما فهما ولا عبرة بنقل المؤول عن شيخه والطعن فيهما لأنه على تقدير صحة نقله عن شيخه فله أقوال متعارضة وأحوال متناقضة كما تفوه مرة بإيمان فرعون ولزوم أنه في الجنة مع الأبرار وصرح مرة بأنه من جبابرة الكفار وأنه في قعر النار وأمثال ذلك كثير في كلامه حيث كان مترددا في مرامه ومتذبذبا في مقامه الثالث قوله في فص آدم أيضا إنا ما وصفنا الحق بوصف من الأوصاف إلا كنا عين ذلك الوصف وقد وصف الحق نفسه لنا فمتى شاهدناه شاهدنا أنفسنا ومتى شاهدنا شاهد نفسه انتهى وهذا كفر صريح لا يخفى لأن ذات الإنسان وصفته لا تكون عين وصف الله ونفسه إلا في مذهب الحلول والاتحاد ومشرب الوجودي والإباحي وأهل الإلحاد وهذا الفساد في الاعتقاد
أخرب العباد وأضل العباد حيث يزعمون أن الشيخ محل الاعتماد وأما قول المؤول إن هذا مبني على قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة أن الصفات الذاتية من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في الأفراد الإنسانية ليست عين ذواتهم بل زائدة عليها وكذا قالوا في حق الباري قياسا للغائب على الشاهد فيلزم من مشاهدتنا صفاتنا مشاهدة صفاته ومشاهدته سبحانه صفاته مشاهدة صفاتنا فصدق عليه أن كل وصف وصف به سبحانه هو صفتنا بل نحن عين ذلك الوصف انتهى ولا يخفى أن مآل هذا التأويل شر من ذلك القيل فإن صفات الخالق أزلية ثابتة له بنعت القدم وصفات الخلق ناقصة حادثة من العدم فأي مناسبة بين الصفاتين ثم أي ملازمة بين المشاهدتين وكيف يكون صفة الحادث عين صفة القديم فهل رجع كلام هذا المؤول إلى قول شيخه الأول سبحان من أوجد الأشياء وهو عينها مع أن مذهب أهل السنة هو أن صفات الله لا عينه ولا غيره بخلاف صفات المخلوق فإنها غيرهم وقد صرح العلماء الكرام والمشايخ العظام أن إطلاق لفظ الحياة والعلم وغيرهما من الصفات الثبوتية على الحق والخلق ليس بمعنى واحد حقيقي بل اشتراك اسمي لمجرد إطلاق لفظي لأن صفاته سبحانه ليست حادثة ولا أعراضا ولا متناهية الأثر بخلاف صفات الإنسان فإنه حادث وعارض ومتناهي الأثر فشتان بين القطن والكتان ولذا قيل ماللتراب ورب الأرباب
ونظير هذا ماروي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن أسماء الفواكه وغيرها مما يكون في دار الدنيا ودار العقبى إنما هي لمجرد المشابهة الاسمية لا المشاركة الحقيقية لاختلافهما في الماهية والكمية والكيفية وقد كابر هذا المؤول في رد كلام الأكابر بأنه يلزم من هذا الكلام جهلنا بصفات الملك العالم وبأن مفهوم العلم والقدرة في الواجب والممكن واحد بديهة وأنت تعلم أن أهل الحق معترفون بقصور إدراكهم عن كنه ذاته وصفاته حيث لا مشابهة بينه وبين مخلوقاته وقد قال تعالى ولا يحيطون به علما ولا تدركه الأبصار وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وقد صح قوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال الصديق الأكبر العجز عن درك الإدراك إدراك فحاشا مقامهم أن يقيسوا الغائب على الشاهد فيما يقتضي مرامهم وكأن هذا المؤول الجاهل الغافل ما فرق بين صفاته وصفات الحق ولا بين ذاته وذات الحق فكلامه عين كلام شيخه سبحان من أوجد الأشياء وهو عينها
فمشربهما من عين واحدة فهما في دعوى معرفة الحق جاحد ولاحد بل أكفر من نفاة الصفات كالجهمية والمعتزلة والفلاسفة من الحكماء حيث أرادوا بنفيها احترازا من تعدد القدماء الرابع قوله في فص شيث عليه السلام بعد بيان بعض العلوم أنه ليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ولم ير أحد هذا العلم من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولم يره أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى خاتم الرسل لم ير هذا العلم متى ما يراه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فالرسل من حيث ولايتهم لا يرون ما ذكر إلا من مشكاة خاتم الأولياء فخاتم الرسل من حيث ولايته بالنسبة إلى خاتم الأولياء كنسبة الرسل والأنبياء إلى خاتم الرسل وقوله أيضا في الفص المذكور لما شبه النبي جدار النبوة المبني باللبن وقال قد تم ذلك الجدار إلا موضع لبنة وعنى به نفسه فكملت النبوة بوجوده في عالم شهوده فلا بد لخاتم الأولياء من رؤية ذلك الجدار مبنيا من الذهب والفضة المركبتين في الدار وأنه يكون ناقصا مكان لبنتين أحدهما من ذهب والأخرى من فضة لاعتبار وأنه يرى خاتم الأولياء نفسه منطبعا مكان تينك اللبنتين فيكمل به البناء وسبب رؤية ذلك أنه تابع شرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع لبنة الفضة ولكونه يأخذ شرع خاتم الرسل من الحق بطريق الإلهام كجبريل عليه السلام يكون
هو موضع لبنة الذهب أيضا وقوله في ذلك الفص أيضا حيث كان خاتم الأنبياء وآدم بين الماء والطين وكذلك خاتم الأولياء كان وآدم بين الماء والطين وقد صرح في الفتوحات أنه المراد بخاتم الأولياء انتهى ولا يخفى ما فيه من أنواع الكفر الظاهر المفهوم عند العقل الحاذق الباهر حيث ادعى علم الغيب أولا في دعوى هذه المراتب ثم تقديم نفسه على أرباب المناقب وقد أجمعوا على أن الأولياء بأجمعهم لم يصلوا إلى مرتبة نبي واحد فهو في دعوته الكاسد ومدعاه الفاسد لظاهر الشريعة ناقد ولباطنها جاحد حيث يزعم أنه يأخذ الشرع المجدد في بعض الأحكام عن الحق بواسطة الإلهام وأنه مستغن في سير باطنه عن النبي وأن الرسل وخاتمهم يحتاجون إليه ويأخذون الفيض الإلهي النازل لديه وأن الأولياء الآتين كعيسى E والمهدي وغيرهما من أتباعه في مرتبة الولاية المختومة عليه وحيث شبه النبي باللبنة من المدر في جدار الشريعة
الشريفة ومثل نفسه بلبنتين من الفضة والذهب المركبتين من جدار الكعبة المنيفة بمقتضى رؤيا رآها وأن المراد باللبنة من الفضة متابعته لظاهر الشريعة المحمدية وباللبنة من الذهب أخذه الفيض الباطني من الحضرة الأحدية وأمثال ذلك من الكلمات الكفرية حيث لا يشك أحد من اليهود والنصارى والصابئين والحكمآء الإشراقيين والشكمانيين والدهريين والطبيعيين فضلا عن طوائف المسلمين من أهل السنة والجماعة وغيرهم من المعتزلة والخوارج والشيعة وسائر أهل البدعة ثم حصل كلام المؤول الجاهل بعدما ماطال الكلام فيما لا تعلق له بالمقام من تعريف الولي والنبي والرسول وتقسيم خاتم الأنبياء والأولياء إلى الصغير والكبير والأكبر وأمثال هذا المرام المعلوم عند الخواص والعوام هو أن أنوار الأنبياء وأرواحهم فاضت من النور المحمدي والروح الأحمدي الذي هو العقل الأول والقلم الأكمل وولاية مشتملة على ولاية سائر الأولياء فعلى هذا مشكاة خاتم الأنبياء مفاضة مشكاة خاتم الأولياء ولو أخذ خاتم الرسل من مشكاة خاتم الأولياء شيئا من الأشياء لا يكون سببا لتفضيل خاتم الأولياء على خاتم الرسل والأنبياء انتهى ولا يخفى أن هذا مصادرة وفي مقام الجواب مكابرة على أن الشيخ بنفسه ذكر في الفتوحات أن خاتم الأولياء حسنة من حسنات خاتم
الأنبياء مقدم الجماعة وسيد ولد آدم يوم القيامة في فتح باب الشفاعة ثم نسب المؤول إلى شيخه ما هو أكبر قبحا في حقه وأظهر كفرا في نفسه حيث قال إن الشيخ ذكر في فص شيث عليه السلام أن خاتم الرسل والأنبياء وسائر الرسل والأصفياء يأخذون العلم الخاص المختص بالخواص من حيثية أنهم أولياء أيضا يأخذون من مشكاة خاتم الأولياء فانظر هذا الكفر الصريح إن كان لك الإيمان الصحيح ثم ذكر المؤول قوله في الفص المذكور أنه لم ير أحد من الأنبياء والرسل هذا العلم إلا من مشكاة خاتم الرسل ولم يره أيضا أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء انتهى ومناقضته لكلامه الأول ظاهرة كما لا يخفى إلا أن يقال إنه أراد بالأولياء الولاية العامة الشاملة للأنبياء والأصفياء فيصح الحصران في كلامه ويكون على وفق ما سبق من مرامه لكن ذكر المؤول أن شيخه الملا نور الدين عبد الرحمن الجامي قال في شرح الفصوص إن مشكاة خاتم الأولياء هو مشكاة خاتم الرسل وإلا فلا يصح الحصران ثم أطال المؤول بما لا طائل تحته ومن جملته قوله في فص شيث إن خاتم الأولياء من وجه أنزل وأدنى كما أنه من وجه أفضل وأعلى ثم مثله المؤول بموافقات عمر رضي الله عنه في بدر وغيره فيلزم منه أن عمر أفضل من النبي من وجه وهذا قول لم يتفوه به مؤمن فتدبر ففي المضمرات ما قالت الروافض إن عليا كان أعلم من محمد فهذا منهم كفر
ومثله أيضا بقوله في قضية تأبير النخل أنتم أعلم بأمور دنياكم فأقول للمؤول أيها الجاهل الغافل فتكون عامة الناس أفضل من النبي من وجه لكونهم أعلم بالتجارة وأقوى على حمل الحجارة وأتقن في فن الصباغة والصناعة والحياكة والزراعة وأصناف حرف الشناعة وأن المنطقيين والفلاسفة من الحكماء افضل من سيد الأنبياء وسند الأولياء بسبب زيادة الفضلات التي تسمى فضيلة عند جهلة الفضلاء مع أنه جعلها علوما غير نافعة واستعاذ منها في المرتبة الرابعة وقد مدح أهل الجنة بأنهم لم يعلموا العلوم الدنيوية وأن علومهم منحصرة في الأفعال الدينية والأحوال الأخروية حيث قال أكثر أهل الجنة البله مقتبسا من مفهوم قوله تعالى في ذم الكفرة يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ومن ثم قال إن من العلم
جهلا وأقول تبعا له في تبيين كلامه وتعيين مرامه إن من العلم كفرا والعاقل تكفيه الإشارة ولا يحتاج إلى تطويل العبارة رزقنا الله تعالى علما نافعا ووفقنا عملا رافعا واعتقادا مستقيما جامعا مانعا الخامس قوله في فص إسحاق عليه السلام إن إبراهيم عليه السلام قال لولده يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك والحال أن النوم من عالم الخيال فكان حقه أن يعبر الرؤيا وفق عالم المثال فإن الكبش ظهر بصورة ولد إبراهيم وفداه الله سبحانه عنه بذبح عظيم وهذا كما تصور اللبن في المنام نبينا محمد وأوله بالدين والعلم واليقين وكما تصور البقرات بصورة السنوات في تعبير يوسف عليه السلام ثم قال ولما كان الكبش على صورة ولده كان ينبغي له أن يعبر عنه بذبح كبش في بدله فحمله على ظاهره ووقع في اجتهاده على طرق مرجوحة انتهى وهذا من غاية حمقه وقلة أدبه وعدم معرفته بمقام نبي ربه ثم من أين له هذا العلم بأن الكبش كان على صورة ولده بل الظاهر من الكتاب والسنة أنه أمر بذبح ابنه على صورته من غير أن يكون على صورة كبش ووصفه كما قال تعالى مخبرا عنه يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فاستقر رأي النبيين على الذبح المذكور وأقرهما الله على
الوجه المسطور فكلام المؤول إنه كان خطأ في اجتهاده كما جوز للنبي الاجتهاد وكذا خطؤه عند أصحاب الاعتقاد وأرباب الاعتماد خطأ فاحش لأن شرط خطأ النبي في اجتهاده أن لا يقر على خطئه بل ينبه على خطئه قبل تحقق فعله أو بعد صنيعه وهذا قد صدق الله فعل إبراهيم بقوله قد صدقت الرؤيا حيث نزل عزمه موضع فعله وأقام ذبح الكبش مقام ذبحه لأنه كان الحكمة في ذلك المنام حصول الاستسلام وقطع العلاقة والمحبة الطبيعية بين الوالدية والولدية كما هو بلية عامة في الأنام مع أن العلماء أجمعوا على أن منام الأنبياء عليهم السلام حق وعد من أنواع الوحي والإلهام فحمله على الوهم قلة الفهم وأغرب المؤول حيث أجاب عن هذا بقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم وكأنه لم يقرأ يوحى إلي أي في اليقظة أو المنام فاستدلاله ببعض الآيات كما قيل للقلندري أما تصلي فقال قال تعالى ولا تقربوا الصلاة قيل اقرأ ما بعده من جملة الحال فقال نحن من عشاق أول
المقام ثم تسمك بقوله إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر فتدبر فإن بعض الجهلة من أتباع الوجودية يزعمون أن هذا المؤول طابق بين كلام الشيخ وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حيث يرون أنه يذكر الأدلة من الكتاب والسنة ولم يفهموا أن إيراده إياهما ليس على وجه المطابقة بل ولا على نوع من المناسبة كما أن المعتزلة يثبتون ما ذهبوا إليه من أنواع البدعة بما يذكرون في كتبهم من الكتاب والسنة فصدق الله العظيم في الفرقان الكريم يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا فالعلم كالنيل من ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين وكل حزب بما لديهم فرحون وإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد وما أسخف عقول هؤلاء حيث تركوا مطالعة كتب التفسير والحديث والفقه ومعتقدات أئمتهم وكتب المشايخ المجمع على ديانتهم وولايتهم كالتعرف الذي لولاه لما عرف التصوف وككتاب العوارف الذي هو المعارف والرسالة القشيرية التي هي مقبولة عند جميع الصوفية وأمثال ذلك من الكتب الجامعة بين العلوم الظاهرة والمعارف
الباطنة المستنبطة من الكتاب والسنة وأقبلوا على هذه الكفريات فتأمل أيها الغافل الجاهل فإنه ليس ذلك إلا بغلبة هواك وتسويل نفسك وتزيين شيطانك هدانا الله وهداك إلى الدين القويم وأماتنا على سلوك الصراط المستقيم السادس قوله في فص إسماعيل وكذا في فص أيوب عليهما السلام وكذا في الفتوحات أن الكفار وإن لم يخرجوا من النار لكن في عاقبة الأمر يصير العذاب عذبا لهم بحيث يتلذذون بالنار الجحيم والماء الحميم كما يتلذذ أهل الجنة بالنعيم المقيم انتهى وهذه الدعوى منه في علم الغيب من غير نقل صحيح كفر صريح مع مناقضته لقوله تعالى ولهم عذاب مقيم أي دائم ومعارضته لقوله سبحانه ولهم عذاب أليم وقوله لا يخفف عنهم من عذابها وقوله فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا وقوله كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب فإنه صريح في بطلان مذهبه فإنه لو انقلب عذابه بعذبه لما كان يحتاج إلى تبديل الجلود المحترقة بالجلود المجددة لإذاقة
العقوبة المخلدة المؤبدة وبه بطل تعلق المؤول بقوله في الفتوحات إن الله تعالى قال خالدين فيها أي في النار ولم يقل خالدين فيه أي في العذاب انتهى ولا يخفى بطلان برهانه وما زعم أنه ينفعه في شأنه فإنه سبحانه إذا قال في مواضع متعددة في كتابه إن الكفار خالدون في النار ونص في مواضع أخر أنه لا يخفف العذاب عن الكفار فدعوى انقلاب العذاب لا يصدر إلا من أهل الحجاب الجاهل بأحكام الكتاب الغافل عن فصل الخطاب والمائل عن صوب الصواب مع أن هذا القول وهو تخفيف العذاب وانقطاعه مخالف لما عليه الصوفية السنية من أن الحكمة في دوام العقوبة وزيادة المثوبة أن لا تتعطل التجليات الأسمائية من الصفات الجلالية والنعوت الجمالية الأبدية التي غير متناهية في المراتب الكمالية فمخالفته هذه مصادمة للأدلة النقلية والعقلية اللتين عليهما مدار علماء الشريعة وعرفاء الحقيقة فيكون كفرا بالإجماع من غير احتمال النزاع ومن جملة الأدلة في تحقيق هذه المسألة قوله تعالى لا يموت فيها ولا يحيى أي حياة طيبة وهو ينافي
القول بصيرورة العذاب عذبا ومن جملتها الإجماع والإجماع من أقوى الحجج في دفع النزاع إذا كان مستنده الكتاب والسنة والدليل قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم ومن ثم قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا القول الذي صدر عنه أي عن ابن عربي لم يسبق به أحد من العوام فضلا عن الخواص من العلماء الكرام والمشايخ العظام وأما قول الرازي إن الدليل على أن الإجماع حجة عقلي والأدلة العقلية لا تفيد إلا الأحكام الظنية والأمور الظنية غير معتبرة في الأحوال الاعتقادية فإنما يصح إذا لم يكن الإجماع مستندا إلى الكتاب والسنة ولا إلى الصحابة والمجتهدين من علماء الأمة فلا يحل تعلق المؤول به على نفي إجماع الأمة المطابق للكتاب والسنة الصادر من السلف والخلف فمن ادعى أن أحدا من الصحابة أو غيرهم من الأمة ذهب إلى هذه البدعة الشنيعة والمقالة الفظيعة فعليه البيان ولنا دفعه بالبرهان فالعذاب سرمدي والعقاب أبدي وأما ما ورد من حديث متفق على ضعفه أنه قال والذي نفسي بيده ليأتين على جهنم زمان تصفق أبوابها وينبت في قعرها الجرجر فلا يقاوم
النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع العلماء الدينية والمشايخ الصوفية وعلى صحته يحمل على أن المراد بها طبقة مختصة بالفجار فإنهم لا يخلدون كالكفار بل يخرجون عاقبة الأمر من النار وكذا ما ورد من الأثر عن عمر رضي الله عنه أن أهل النار يخرجون ولو مكثوا فيها بعدد رمل عالج فإنه مع كونه ضعيفا بل وعلى التنزل أن يكون صحيحا أو حسنا لا يصلح حمله على ظاهره لمصادمة قوله تعالى خالدين فيها وقوله سبحانه يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها فالجواب ما سبق أو المعنى يخرجون من النار ويدخلون في الزمهرير المعد للكفار وأما قول المؤول إن ابن تيمية الحنبلي ذهب إلى أن الكفار في عاقبة الأمر يخرجون من النار فافتراء عليه وعلى تقدير صحة ما نسب إليه فخلافه لا يخرق الإجماع بل يحكم بكفره أيضا من غير النزاع ثم اعلم
أن هذا المؤول أطال في دفع هذا الاعتراض ونحوه مما لا طائل تحت كلامه ونحن نقتصر على بطلان مرامه ونترك ما أتى به من زخارف عباراته وتساويل إشاراته مما يغر الجاهل الغافل بأنه الجامع لمعرفة الكتاب والسنة والعالم الفاضل والحال أن البحث في كفر هذا القائل ومن تبعه في هذا المذهب الباطل السابع قوله في الفص الموسوي عليه السلام وكذا في الفتوحات إن فرعون مات مؤمنا وقبض طاهرا ومطهرا وسؤاله وما رب العالمين من حقيقة الحق تعالى صحيح وهذا كفر صريح كما بينته في رسالة مستقلة على شرح رسالة صنفها الجلال الدواني وتبع فيها ابن عربي وخالف العلماء الربانية والمشايخ الصمدانية مع أن ابن عربي عارض نفسه لكونه جزم بإيمان فرعون أولا ثم شك في حقه بقوله في الفتوحات أمره إلى الله بل صرح في الباب الثاني والستين من الفتوحات أن أهل النار أربعة طوائف من الكفار
وهم المتكبرون على الله كفرعون وأمثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن غيره فقال ما علمت لكم من إله غيري وقال أنا ربكم الأعلى انتهى فعلم أنه كان من الكاذبين أو من جملة المذبذبين ومن أغرب ما نقل المؤول عنه أنه قال في الفتوحات إن فضل الله أوسع من أن لا يقبل المضطر إذا دعاه وأي اضطرار أقوى من اضطرار فرعون فجعل إيمان اليأس من الكفار كحال الاضطرار للأبرار والفجار وأما تأويل المؤول كشيخه قوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا بأن المراد به عدم النفع في الدنيا لا في دار العقبى فيبطله قوله سبحانه وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار هذا ولو كان إيمان اليائس من الكافر وتوبة اليائس من الفاجر نافعا في الآخرة لما دخل أحد في النار ولما خلق دار البوار كما لا يخفى على الأبرار على ما يشير إليه قوله تعالى وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الثامن قوله في فص موسى عليه السلام إن الملائكة العالين أفضل من كل ما خلق من العناصر من غير مباشرة فالإنسان في الرتبة فوق الملائكة الأرضية والسماوية والملائكة العالون خير من هذا النوع الإنساني بالنص
الإلهي أستكبرت أم كنت من العالين انتهى ولا يخفى أن هذا ليس من موجبات تكفيره بل من أسباب تبديعه وتنكيره حيث خالف اعتقاد أهل السنة والجماعة من أن خواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة كجبريل وميكائيل بل نقلوا الإجماع على أن نبينا أفضل الخلق من غير النزاع ويدل عليه قوله على ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا أنا أول من تنشق الأرض عنه فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري والحاصل أن المسألة ظنية فإنكارها بدعة ألحقت بالكلمات الكفرية وإنما لم يلحق الغزالي والحليمي بأهل البدعة حيث قالا بأفضلية جنس الملائكة على جنس البشرية لأن الجنس من حيث هو مع قطع النظر عن ملاحظة أفراده إذا كان من أهل العصمة والطاعة والقربة لا شك أنه أفضل من جنس يغلب عليهم الكفر والمعصية والغفلة لا سيما مع كثرة الجنس الأول وقلة الجنس الثاني وقد حكم الله بأنهم من المقربين العالين وأخبر عن غيرهم بأن بعضهم في أسفل سافلين على أنه من وافق اجتهاده في مسألة لأهل البدعة لا يعد من المبتدعين وكأن المؤول ذكر
هذا الاعتراض حتى يوهم الجهال أن سائر الاعتراضات على هذا المنوال والله أعلم بحقيقة الأحوال التاسع قوله في الفتوحات سبحان من أوجد الأشياء وهو عينها وهو كفر صريح ليس له تأويل صحيح كما قدمناه مع تعارض طرفي كلامه لتصحيح مرامه فإن الموجدية الدالة على الصفة الحدوثية تناقض العينية المعنوية بالصفة القديمة ولذا قال بنفسه استدراكا لفساد مقوله فهو عين كل شيء في الظهور وما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى هو هو والأشياء أشياء لكن فيه أنه الموجود الخارجي الحادثي كيف يكون عين واجب الوجود الأزلي ولو في مرتبة الظهور إلا أن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور مع أن ظهور الأشياء إنما لكونها مظاهر لتجلي الصفات والأسماء وأما ذاته تعالى فلا تدركه الأبصار ولا يحيط به علم أحد من العلماء الكبار ولذا قال سيد الأبرار لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله تعالى وقال الصديق الأكبر العجز عن درك الإدراك إدراك وقال المرتضى ما خطر ببالك فالله وراء ذلك ثم اعلم أن مولانا سعد الدين قال
في شرح المقاصد أنه اشتهر بين جمع من المتفلسفة والمتصوفة أن حقيقة الواجب تعالى وجود مطلق ولما أورد عليهم بأن الوجود المطلق مفهوم كلي وليس له تحقق في الخارج وأفراده غير متناه والواجب موجود في الخارج وواحد ليس له تكثير أجابوا بأنه تعالى واحد شخصي وموجود بوجود هو عينه والتكثير في الموجودات بواسطة الإضافات لا بواسطة تكثير الموجودات لأن الوجود إذا نسب إلى إنسان حصل موجود وإذا نسب إلى الفرس حصل موجود آخر وهلم جرا وزعموا أن هذا جواب ما يرد عليهم من جانب أهل السنة والجماعة من تصريح الشناعة بأن الواجب غير موجود في الخارج وأن وجود جميع الأشياء حتى القاذورات واجب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقال السيد الشريف في حاشية التجريد إن جماعة من الصوفية ذهبوا إلى أنه ليس في الواقع إلا ذات واحدة ليس فيه تركيب أصلا وقطعا وله صفات عينها وحقيقة وجودها منزهة في حد ذاتها من شوائب العدم وسمات الإمكان ولها تقييدات بقيود اعتقادية وبحسبها ترى الموجودات متمايزة فيتوهم منه التعدد الحقيقي وهذا خروج عن طور العقل لأن البديهة شاهدة بتعدد الموجودات تعددا حقيقيا ودالة على أن الذوات والحقائق مختلفة بالحقيقة لا باعتبار العقيدة فقط ومن ذهب إلى هذه الهذيانات يسندها إلى المكاشفات والمشاهدات ويزعم أنه خارج عن طور العقل وحس المدرك انتهى ولا يخفى أن من خرج كلامه من طور العقل
ومرامه من طريق النقل فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه ولا عبرة بمصطلحات لديه وبهذا تندفع شبهة أوردها خاتمة الجمع النقشبندي خواجه عبيد الله السمرقندي قدس الله سره في فقرات التي من جملة كلماته أن خلاصة العلوم المتداولة ثلاثة علم التفسير والحديث والفقه وزبدتها علم التصوف الذي عليه مدار التعرف وموضع هذا العلم بحث الوجود والقائلون بوحدة الوجود يدعون أن في جميع المراتب الإلهية والكونية ليس إلا وجود ظاهر متصور بالصور العملية وهذا المبحث في غاية من الإشكال والتخيل والتعقل فيه بالخوض موجب للزندقة والضلال لما في إفراد الموجودات من الكلب والخنزير وأمثال ذلك من خسيس الحيوانات وأنواع النجاسات وأصناف القاذورات مما يلزم من إطلاق الوجود عليها غاية القباحات ونهاية الشناعات واستثناؤها خرم للقاعدة وخلاف لاصطلاح هذه الطائفة والواجب على الأذكياء أن يشتغلوا بتصفية المرآة الحقيقية عن النقوش الكونية تظهر عليهم الأسرار الصمدانية وتنجلي لهم الأنوار السبحانية انتهى ولا يخفى أن كلامه يوهم أن الطائفة المذكورة هم الصوفية المشهورة وليس كذلك فإن الصوفية المجمع عليهم من المتقدمين كالمحاسبي وداود الطائي والجنيد والمعروف الكرخي وكذا من المتأخرين كصاحب التعرف وعوارف المعارف والرسالة القشيرية ونحو ذلك فليس في
كلامهم ما يعترض على مرامهم بل جميعها مطابقة لظواهر الكتاب والسنة وقد قال سيد الطائفة من لم يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله فهو خارج عن الطريقة وغير داخل في الحقيقة وقال أبو سليمان الداراني كل ما يخطر ببالي فاتزن بكفتي ميزان الكتاب والسنة انتهى ولا يخفى أن هذا شأن الإيمان وطريق الإحسان المؤيد بالبرهان على وجه الإتقان وأما التعليق بالخيالات العقلية والتوهمات النفسية الخارجة عن الأدلة النقلية فليس هذا إلا مذهب الحكماء الفلسفية ومن تبعهم من المعتزلة والخوارج وغيرهم من الأصناف الردية كالوجودية والإلحادية والحلولية والاتحادية والدهرية والمعطلة والمجسمة وأمثال ذلك من المشارب الكفرية فالواجب على العبد أن يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة إما بطريق التقليد وإما بطريق التحقيق والتأييد ثم يشتغل بعلم التفسير والحديث والفقه التي هي العلوم الشرعية وعلم الأخلاق من التصوف الذي مبناه على التخلية والتحلية بأن يتخلى عن الصفات الرديئة ويتحلى بالأخلاق المرضية وأول تلك المنازل العلية التوبة عن المعصية الجلية والخفية والأوبة عن الغفلة الظاهرية والباطنية طالبا من الله حسن الخاتمة فإنها فاتحة الخيرات السرمدية وفاتحة المبرات الأبدية ثم اعلم أن المؤول قد اعترف بأن شيخه تفوه في مصنفاته أن الواجب الوجود وجود مطلق لكنه أراد به أنه موجود بذاته لا معلول بشيء ولا علة له وأن وجوده ليس له ابتداء ثم ادعى أن الوجودية طائفتان إحداهما موحدة والأخرى ملحدة وهذه الطائفة الخبيثة يقولون إن الباري تعالى ليس في الخارج موجود
بوجود مستقل وشهود متبين ومتميز من عالم الأرواح والأشباح بل إنه مجموع العالم وهذا كفر صريح وقول قبيح وقد ذكره في الفتوحات في عقيدة الخواص ثم قال في بعض نسخ الفتوحات لا يوجد ولعله ذكره في رسالة مستقلة سماها رسالة المعرفة فصرح فيها أن في هذا المقام زلت أقدام طائفة عن مجرى التحقيق فقالوا ما ثم إلا ما ترى فجعلت العالم هو الله والله نفس العالم ليس أمرا آخر وسبب هذا المشهد كونهم ما تحققوا به تحقق أهله فلو تحققوا به ما قالوا بذلك انتهى ولا يخفى أن بين كلاميه تعارض ظاهر وتناقض باهر ولعل هذا سبب اختلاف العلماء الكبراء في حقه حيث قال بعضهم زنديق وقال آخرون صديق نظرا إلى كلاميه والله أعلم بحقيقة مراميه فنحن لا نقول بكفره لأنه لا يجزم في أمره بل يحكم بكفر من قال بما يخالف الشريعة والطريقة وخرج عن أطوار الحقيقة بل وعلى تقدير أنه تحقق منه الكفر فلا يبعد أنه رجع إلى حق الأمر في آخر العمر في أقواله وعند انتهاء آجاله فلا يجوز الحكم بكفر أحد إلا إذا ثبت نص قاطع على أنه مات في الكفر وأما اتباعه في مرامه والمطالعين لكلامه فإن سلموا من الاعتقاد الفاسد والوهم الكاسد فمن فضل الله وكرمه وإن تبعوه في طريق ضلالته وسبيل جهالته فمن قبيل قضاء الله وقدره فلا حول ولا قوة إلا بالله فبهذا تبين أن مطالعة كتبه حرام على العامة لأن دسائسه قد تخفى على
الخاصة كما اختاره شيخ مشايخنا الجلال السيوطي وأما الشيخ بعينه فأتوقف في حقه وأفوض أمره إلى ربه فلا أقول إنه زنديق كما قال به كثيرون وإن كان كلامه المتعارض يدل عليه كما تقدم ولا أقول إنه صديق كما قال به آخرون بناء على حسن الظن به وعدم تحقيق مرامه في كلامه وسماع بعض الوقائع المشابه بالكرامات ومشاهدة كثرة علومه وتغلغل فهومه في تحقيق المقامات والله أعلم بتحسين النيات وتزيين الطويات ثم آل كلام المؤول إلى اعترافه بأن شيخه قال وجود الأشياء ذات الحق هكذا بالوجه المطلق على احتمال أنه أراد في المنزلة الظهورية أو في المرتبة الحقيقية بناء على انتساب هذا القول إلى الأشعرية من أن وجود كل شيء عينه وادعائه بأن هذا عين قول شيخه ومن عميت بصيرته ما فرق بين العين والغين المشال بزيادة النقطة الحادثة إلى الأغيار وبالتجرد عن هذه النقطة الدال للأبرار على أن ليس في الدار غيره ديار والمظهر لأهل الشهود معنى قولهم سوى الله والله ما في الوجود والمومى في قول البسطامي الذي كان
مستغرقا في بحر الشهود ونهر الوجود ليس في جبتي سوى الله وما ذاك إلا لوصولهم إلى مقام الفناء وحصولهم في مرام البقاء ووقوعهم في حال السكر والمحو وغيبتهم عن نفس الشرب وغفلتهم عن حال الصحو لكن هذه الحالة لحظة بعد لحظة ولمحة بعد لمحة كالبرق الخاطف وطرفة العين وربما يبقى في هذا المقام بعضهم بقوة الجذبة فإن حفظ في تلك الحالة عن المعصية بالفعل أو المقال فهو من المجذوبين المحبوبين وإلا فيسمى المجذوب الأبتر وهو مقام ناقص وحال عاطل كنسبة المجنون إلى عالم عاقل وأما الكمال من الأنبياء والأولياء فهم في مقام جمع الجمع لا يحجبهم وجود كثرة الموجودات ولا يحجزهم شهود عين الذات عن مطالعة حقائق الممكنات فيرون الأشياء كما هي ويفرقون بين الأوامر والنواهي فيعطون كل ذي حق حقه ولا يلاحظون الحق ويراعون خلقه نعم إذا غلب شهود الحق على وجود الخلق بالاستغراق المطلق فهو المراد بشرط العصمة في حق الله وحق العباد وإليه الإشارة في قوله لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأراد بالملك المقرب جبرائيل وبالنبي المرسل نفسه الأكمل فتأمل
وأما إذا انعكست القضية بحيث غلبت مطالعة الخلق على مشاهدة الحق فهو نقصان إضافي بالنسبة إلى الكمال المطلق ومن هنا يقال حسنات الأبرار سيئات الأحرار ولذا قال سيد الأخيار وسند الأحبار وإنه ليغان على قلبي وأستغفر الله وفي هذا المقام قال بعض المشايخ الكرام أستغفر الله مما سوى الله وقال العارف ابن الفارض شعر ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي وشرح هذا المعنى يطول فلنعطف إلى بيان ما كنا بصدده فنقول معتقد أهل الحق أن الله تعالى هو غير وجود الكائنات فإنه خالق المخلوقات وموجد الوجودات الحادثة للموجودات ولا غنى عن الموجد غيره سبحانه كما قال والله الغني وأنتم الفقراء أي إلى إيجاده أولا وإمداده ثانيا ساعة فساعة فلا موجود إلا بإيجاده أولا ولا مشهود إلا بإمداده بل لا موجود حقا سواه موجد فلا موجود مطلقا إلا الله فتأمل هذا الشهود في مقام الوجود وبين المقالة الوجودية أن أعيان الموجودات من السموات والأرض وما بينهما من الكائنات العلوية والسفلية والأشياء الردية عين الحق بناء على القول بالوجود المطلق نعم كون الأشياء الموجودة والمعدومة أعيان ثابتة في علم الله
سبحانه وأن لها وجودا في الخارج غير مستقل بذاتها بل كالهباء في الهواء وكسراب بقيعة يحسبه الظمآن أنه الماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده لقوله تعالى وهو معكم أينما كنتم إنه بكل شيء محيط وقوله سبحانه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وهذا غاية قرب المريد في مقام المزيد فتعيناتها تعينات علمية صورية لا تعينات عينية حقيقية ثم اعلم أن أرباب المعرفة من الصوفية ضربوا أمثالا في بيان الوحدة الذاتية والكثرة الأسمائية والصفاتية الحسنى ولله المثل الأعلى أن الأشياء على اختلافها في أكوانها وألوانها بالنسبة إلى نور الحق وظهور الذات المطلق كما إذا وقعت الزجاجات والمرايات في مقابلة شمس الوجود وهناك في مقابلها حدد في عالم الشهود فلا شك أن نور الشمس تقع على تلك المجالي فينطبع آثار الألوان المختلفة في الجدر المقابل لتلك المرايا فتبقى في غاية من الظهور للانعكاس المستفاد من ذلك النور والحال أن نور الشمس باعتبار وحدة الذات معرى ومبرا من الألوان المختلفة المنطبعة في المرآة إلا أنه لولا وجود ذاتها لم يتصور شهود تجلياتها في مراياتها فالعارف نظره إلى الحق
المطلق والغافل نظره إلى الخلق وغفلته عن الحق ولذا لما قيل للشيخ الأوحدي وهو مولع بعشق الغلام الأمرد أنت في أي المقام فقال انظر شمس السماء في طشت الماء فقيل له لولا أن لك دمل في القفاء لرأيت الشمس في مقامه العلاء وتنورت بنوره الضياء ثم على هذا ظهور الآثار المختلفة من الواحد الحقيقي لتعدد القوابل المختلفة الاستعداد الخلقي كما يشير إليه قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته ويومي إليه قوله كل ميسر لما خلق له وبهذا المثال ظهر لك أن كون الحق مع جميع الخلق ليس من المحال فافهم ولا تتوهم أن هنا شيئا من الإشكال أو الأشكال والله أعلم بحقيقة الأحوال ثم من نتائج هذا المثال أن المتحقق الوقوع هو النور في جدار الظهور والألوان المختلفة والأكوان المؤتلفة معدومة في صورة الموجودات وموهومة محقق الفناء في حد الذات والجهة النورية جمع والجهة اللونية فرق والوجود الخارجي جامع بين الجهتين وبرزخ بين شهود الواجب الوجود وظهور ممكن الشهود وهو مقام جمع الجمع المعتبر عند الكل فتدبر وتأمل وإليه الإشارة بقوله تعالى وما يستوي
البحران وقوله سبحانه وتعالى مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فدل على أن الواجب لا يمكن أن يصير ممكنا كما أن الممكن لا يتصور أن يصير واجبا وأما الناقص فلا يفرق بين النور واللون وإليه الإشارة بقوله تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وأما من غلب عليه شهود الحق فقال ألا كل شيء ما خلا الله باطل ومن غلب عليه شهود الخلق يكون دهريا عنصريا مجوسيا جحوديا يهوديا وجوديا لا شهوديا فصح قول من قال الرب رب والعبد عبد فلا تغلط ولا تخلط وكذا قول من قال ما للتراب ورب الأرباب وقد قال تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ومثال آخر يقرب للمثل الأول ولله المثل الأعلى فتأمل
كما نظم بعضهم شعر رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وهذه حالة فيها مزلقة الأقدام ومزلة الأقلام وقد وقع هنا خبط للمؤول في الإقدام على كلام غير مستقيم المرام عند الأعلام لدفع ما يرد على شيخه من الملام ولم يراع جانب الملك العلام حيث قال الموجود الخارجي من الحيثية الجامعة بين الماهية الممكنة وبين الواجب فلو قيل له باعتبار اشتماله على المبدأ أنه عين لا يبعد كما أن الصفات لا عين ولا غير وهي غير انتهى وظهور كفره لا يخفى فإن المحققين وهم أهل السنة والجماعة ما رضوا أن يقولوا في الصفات أنها عين الذات بل قالوا إنها لا عين ولا غير احترازا عن تعدد القدماء كما تعلق به نفات الصفات كالمعتزلة وسائر أهل البدعة فكيف يمكن أن يقال الممكنات عين الذات من وجه وغيرها من وجه والحال أن الموجودات من آثار أنوار الصفات ولكن العبد من طبيعة مولاه كما أن المريد على طبيعة من رباه وأما ما مثله المؤول تبعا لغيره في تصوير الوحدة والكثرة كالواحد في مراتب الأعداد فهو ميل إلى القول بالعينية المترتب عليه الاتحاد المحكوم عليه بالإلحاد وكذا ما نقله عن شيخه أنه قال في الفتوحات من أن التخلي عند القوم اختيار الخلوة والإعراض عن الأمور المشغلة من الحضرة وعندنا هو التخلي من الوجود المستفاد لأن في اعتقاد العوام أن وجود الغير
حق وفي نفس الأمر ليس إلا وجود الحق جل وعلا انتهى ولا يخفى أن هذا أيضا يشير إلى وحدة الوجود وهو مخالف لما عليه أرباب الشهود من أن العابد غير المعبود والشاهد غير المشهود وغاية الأمر أن ظهور الخلق يخفى أو يفنى عند نور الحق كغيبة الكواكب الثواقب في حضرة شمس المشارق والمغارب وكذا شمس الجوانب منخسفة ومنكسفة عند تجلي رب المشارق والمغارب فكن من الأقارب لا من الأجانب كيلا يقع لك خطأ في تحقيق المراتب العاشر قوله في فص نوح عليه السلام إن التنزيه عند أهل الحقائق في التوحيد عين التجريد والتقييد فالمنزه إما جاهل للرب وإما غافل قليل الأدب ثم قال لأن الحق له في كل فرد من أفراد الخلق ظهور فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل معلوم إلا من فهم من قال أن العالم صورة الحق وهويته هو ظاهر في كل مظهر وماهية ثم قال وهكذا من شبه وما نزه حيث جعل الحق مقيدا ومحدودا ولم يعرف كونه معبودا ومن جمع بين التشبيه والتنزيه في وصف الحق فهو الذي عرف الحق من بين الخلق وقال في فص إدريس عليه السلام إن الحق المنزه هو الخلق المشبه وقال في فص إسماعيل عليه السلام فلا تنظر إلى الحق فتعريه عن الخلق ولا تنظر إلى الخلق فتكسوه سوى الحق فنزهه وشبهه وقم في مقعد الصدق انتهى وحاصل كلامه أنه ذم التنزيه المجرد ولا شك أنه قول يرد حيث مدح الله سبحانه
ملائكته بقوله وإنا لنحن المسبحون ولعل الاكتفاء بالتسبيح عن النقصان والزوال ظهور صفات الجلال والجمال على وجه الكمال ومن أسمائه الحسنى القدوس فلا لوم على المنزه ولو اكتفى بالتنزيه نعم الجمع بين التنزيه والتحميد أولى كما لا يخفى على أهل التأييد لقوله تعالى حكاية عن ملائكته ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولما ورد في الحديث سبحان الله وبحمده على أن كلا منهما يتضمن المعنى الآخر فتدبر فإنه في حقيقة المعنى نظير كلمة التوحيد في المعنى فإن لا إله تنزيه وتمجيد وإلا الله توحيد وتحميد ثم تعليله المعلول خارج عن حيز المعقول والمنقول إذ مآله ضلالة في جعله الخلق عين الحق وهو الكفر المطلق ثم تحسينه للتشبيه مناقض لتحقيق التنزيه ومعارض لقوله تعالى ليس كمثله شيء ثم قول الحق المنزه هو الخلق المشبه هو عين بطلان قوله الأول فتأمل وتنبه ومجمل كلامه وظاهر مرامه أن تنزيه الحق عين تشبيهه بالخلق ليس القول الصدق وهو كذب باطل إذ لا مناسبة بين العبد والرب وبين الحادث والقديم فالصواب ما ذكره سبحانه في الكتاب ليس كمثله شيء أي في ذاته وهو السميع البصير أي كامل في مراتب صفاته ففي الجملة الأولى رد على المشبهة وفي الأخرى إبطال للمعطلة ونفاة
الصفات المكملة فهذا الجمع بين التنزيه والتشبيه عند أرباب التحقيق وأصحاب التنبيه فتأمل أيها النبيه لئلا تقع فيما وقع فيه السفيه وأما ما ورد من الآيات المتشابهة والأحاديث المشكلات حيث جاء فيهما ذكر الوجه واليد والعين والقدم وأمثالها من الصفات ففيه ثلاث مذاهب بعد الإجماع على التنزيه من التشبيه أحدها تفويض علمها إلى عالمها وعليه جمهور السلف وكثير من الخلف ويؤيده قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وثانيها تأويلها وإليه مال أكثر الخلف وبعض السلف وثالثها أن لا تأويل ولا توقف بل المذكورات كلها صفات زائدة على الذات لا يعلم معناها من جميع الجهات وهو مختار إمامنا الأعظم وأحمد بن حنبل وأتباعه كابن تيمية وهو قول ابن خزيمة وغيرهم من أكابر الأمة من المحدثين ونسب إلى عامة السلف وقد وافقهم إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري في بعض الصفات في جميع المتشابهات فإن له في الاستواء
قولين أحدهما التأويل بالاستيلاء وكذا في الوجه حيث قال في أحد الوجوه أن المراد في وجه الوجود وكذا في العين والقدم واليمين والجنب حيث قال مرة إنها كلها صفة زائدة وأخرى اختار تأويلها وأما اليد فليس له فيها إلا القول بأنها من الصفات الزائدة على الذات ووافقه الباقلاني ثم اعلم أن حاصل كلام المؤول في دفع هذا الاعتراض أن الحق سبحانه لما كان عين الأشياء من وجه وغيرها من وجه فلا بد من الجمع بين التنزيه والتشبيه بأن يعتقد التنزيه للذات من حيث الهوية والتشبيه من حيث العينية المعبر عنها بالمعية في قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم انتهى وأنت ترى أن هذا توضيح لكلامه لا تصحيح لمرامه وأما الاستدلال بالآية وحملها على هذا التأويل فخطأ فاحش إذ لا يلزم العينية من المعية إلا على مذهب الحلولية والاتحادية والوجودية بخلاف مذهب أهل الحق المحققين بالمراتب الشهودية الحادي عشر قوله في فص إدريس عليه السلام إن أبا سعيد الخراز قال إنه يعني نفسه وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته حيث لم يعرف رب العباد إلا بأن جمع بين الأضداد ثم قال الخراز هو يعني الله سبحانه سمي بأبي سعيد الخراز وغيره من أسماء المحدثات انتهى ولا يخفى بطلان هذه الهذيانات نعم جمع الحق سبحانه في الصفات بين الأضداد حيث قال هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو في صورة الأضداد إذ المعنى
المراد هو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء والظاهر باعتبار الصفات المقتضية لإظهار المصوغات وإبراز الممكنات والباطن باعتبار الذات حيث لا يعرف كنهه المنزه عن جميع الجهات إلا أن أوليته عين آخريته وظاهريته عين باطنيته من جهة واحدة فيهما وإن كانت مختلفة بالنسبة إلينا كما أول المؤول فإن كلام المعلل ونسبته إلى شيخه المستدل حيث قال في الفتوحات هو الأول والآخر والظاهر والباطن يريدا الخراز من وجه واحد لا من نسب مختلفة كما يراه أهل الفكر علماء الرسوم انتهى ولا يخفى أنه عد علماء الشريعة من أهل التفسير والحديث أرباب الرسوم وجعل نفسه وأمثاله من أصحاب الحقائق والفهوم بمجرد الخيالات في الأمر الموهوم وأما قول المؤول إنه قد تقرر سابقا أنه سبحانه لكونه مبدأ الآثار والأحكام له وجه خاص بالنسبة إلى كل ماهية ما ليس إلى غيرها فهو توضيح لا تصحيح فإنه عين القول بأنه سبحانه عين الأشياء من وجه وغيرها من وجه فثبت أنه كفر صريح ليس له تأويل صحيح وأما استدلاله بحديث إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده يقول ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده فمن سوء فهمه وقلة علمه بالكتاب والسنة فإنه من قبيل قول الخطيب إذا قرأ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وكذا إذا قرأ القارئ آية السجدة وكذا حديث إن الله ينطق على لسان عمر وكذا سماع موسى عليه السلام كلام الرب من الشجرة
الثاني عشر قوله في فص نوح عليه السلام لو جمع نوح بين التشبيه والتنزيه ودعا قومه إليهما لأجابوه فيهما لكنه دعاهم جهارا إلى تشبيه ثم دعاهم إسرارا إلى التنزيه وقال إني دعوت قومي ليلا إلى التشبيه ونهارا إلى التنزيه وهذا مع التناقض من كلاميه والتعارض بين مراميه كفر ظاهر لاعتراضه على نبي من الأنبياء وقد صرح العلماء بأن من عاب نبيا من الأنبياء فقد كفر ولادعائه علم الغيب في الأنباء والتفسير برأيه مخالفا للعلماء والأولياء من غير قاعدة عربية أو قرينة حالية أو مقالية على ما ادعاه من الإيمان ثم أقبح من ذلك فيما ترقى عما هنالك قوله في فص إلياس عليه السلام عند قوله تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته فيه وجهان من بيان المبنى وعيان المعنى أحدهما أن رسل الله مبتدأ والله خبره وقوله أعلم خبر مبتدأ محذوف هو هو ثانيهما أن الله مبتدأ وأعلم خبره وفي الوجه الأول رسل الله يكونون الله وفي الوجه الثاني غيره وسواه فهذا هو التشبيه في التنزيه والتنزيه في التشبيه انتهى وأنت ترى أن هذا إلحاد في المبنى واتحاد في المعنى ولا يخفى أن جهل هذا القائل في الإسلام أقوى من عبدة الأصنام حيث قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وهؤلاء
شفعاؤنا عند الله وأشد كفرا من النصارى حيث قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وهو يقول بأن جميع الرسل الله مع أن هذا ليس على قاعدته المبنية لتصريح هذه الطائفة الرديئة المسماة بالوجودية أن النصارى ما كفروا إلا لحصر الإلهية في الماهية المسيحية فهم عمموا العينية في الأشياء الدنية فصدق في حقهم ما قال الله تعالى يحرفون الكلم عن مواضعه فأي تحريف أقوى من هذا التصنيف المشتمل على هذا الإعراب الذي لم يصدر مثله عن الأعراب المذمومين في الكتاب فإن قطع رسل الله عن قوله أوتي في غاية من الإغراب فجمع بين تزييف المبنى وتحريف المعنى فثبت أنه جاهل أيضا بالقواعد العربية التي لا تخفى على من قرأ الأجرومية هذا وقد أطال المؤول في هذا المقام بما لا طائل تحت شأنه فأعرضنا عن بيانه وإبطال برهانه لقوله تعالى والذين هم عن اللغو معرضون ولحديث إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وإنما ذكرنا هذا المقدار من الأمور الفضيحة لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الدين النصيحة
الثالث عشر قوله في فص نوح عليه السلام أيضا أنه قال ومكروا مكرا كبارا لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو ثم قال بعد أسطر وقالوا في مكرهم لا تذرن آلهتكم إلخ فإنهم لو تركوهم جهلوا من الحق قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها خاصا بعرفه من عرفه ويجهله من جهله انتهى ولا كفر أصرح من هذا على ما لا يخفى ولما عجز المؤول عن تأويله انتقل إلى توضيح كلامه وتصحيح مرامه بما هو أصرح في حال كفره ومقامه حيث قال المقصود من الدعوة إلى الحق مجرد المعرفة لا أنه سبحانه من محل مفقود وفي آخر موجود والدعوة الظاهرة عبارة عن دعاء المدعو مما فيه الحق مفقود إلى ما فيه الحق موجود ولما كان المرسل والمرسل إليه والرسول والرسالة والداعي والمدعو إليه والمدعو والدعوة تقتضي أربعة أشياء والحال أنه بحسب التوحيد الذاتي كلها شيء واحد لا جرم يكون مخالفا للواقع فلو فهم أحد من جهله التعدد الحقيقي تكون الدعوة في حقيقة المكر الخفي وقد قال تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين قلت فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ثم قال ولو اعتقد أن شيئا من الأشياء خال منه وعار عنه فتفوته المعرفة بالحق على مقدار ما تصور فيه الخلو عنه من الخلق قلت ما شاء الله كان من الأشياء ويضل من يشاء ويهدي من يشاء والخطرات الشيطانية ما لها حد
الانتهاء كما تقتضيه جلالية الأسماء الرابع عشر قوله في فص نوح عليه السلام أيضا أغرقوا في بحار العلم بالله فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا فكان الله أنصارهم فهلكوا فيه أي في الله إلى الأبد فلو أخرجهم إلى السيف بكسر السين أي الساحل سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة انتهى ولا يخفى أن الدنيا هي دار المعرفة لقوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى والكفار من أجل خطئهم لما أغرقوا في الماء وأحرقوا بالنار يحصل لهم الإيمان في حال البأس والإيقان في وقت اليأس ولا يسمى ذلك الإيمان معرفة ولذا قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وهذا معنى قوله ولو أخرجهم إلى ساحل الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة لكن تسمية هذه الحالة رفيعة لا شك أنها عبارة شنيعة وإشارة فظيعة قال المؤول إن قوم نوح كانوا عالمين من حيث الفطرة والجبلة بحقائق الأشياء ومسبحين كسائر أجزاء الأرض والسماء لكن من غير شعور لهم به من حيث التعلق الجسداني وارتباط الهيولاني المانع لهم من الفكرة والرؤية والساتر لهم عن الفطرية
لا سيما لما أغرقوا وانقطع العلائق وتفرق العوائق تحققوا بسبب شعورهم للعلوم الفطرية والمعارف الجبلية قال تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد انتهى مقالا ونعوذ بالله من الشقاوة حالا ومآلا ثم رأيت عبارة الشفاء ففيها أن الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب قال شارحه العلامة الدلجي أي حمله على خلاف ما ورد به من المعنى المحكم كحمل بعض المتصوفة قوله تعالى في قوم نوح مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا على ما حاصله أغرقوا في المحبة فأدخلوا نارها مع هذيانات كثيرة صارفة عن ذمهم إلى مدحهم انتهى ولا يخفى أن المعرفة صفة مادحة بل لازمة للمحبة الخامس عشر قوله في فص إبراهيم عليه السلام فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده انتهى والجملة الأولى وجهها ظاهر لأن الحمد بمعنى الثناء فالله تعالى يثني على من يشاء وأما الجملة الثانية فظاهرها كفر كما لا يخفى على أهل الصفاء وأما قول المؤول إن العبادة جاءت في اللغة بمعنى الانقياد والطاعة والله سبحانه أجاب دعاء المطيع كما أن المطيع انقاد
لأمر المطاع قال أبو طالب للنبي ما أطوع ربك لك يا محمد فقال له وأنت يا عمي إن أطعته أطاعك انتهى ولا يخفى أنه ما ورد إنك إن عبدته عبدك فإنه كفر شرعا ولا يلتفت إلى معناه لغة وعرفا وكذا لا يقبل توجيهه المقابلة بالمشاكلة مع أن المقابلة لا يكون إلا في الجملة الأخيرة على ما صرحوا به في علم المعاني والبيان هذا وأي لذة في هذا الكفر بظاهره واحتياجه إلى تأويل في آخره وأي مانع كان له أن يقول ويجيبني وأجيبه والحاصل أن تأويله يصدق قضاء وحكومة وقد يدين ديانة السادس عشر قوله في فص هود عليه السلام إن وجودنا غذاء الحق وهو غذاؤنا انتهى ولا يخفى أن الغذاء ما يكون سببا للبقاء من مطعومات الأشياء والله تعالى منزه عن ذلك كما قال وهو يطعم ولا يطعم وأما قول المؤول إن بقاء الحق لما كان سببا لوجود بقاء الخلق فلا جرم هو غذاؤنا ولما كان الخالقية والرازقية وسائر الأسماء الأفعالية لا يتصور ثبوتها من غير مخلوق ومرزوق وأمثالهما لا تقديرا ولا وجودا لا جرم نكون نحن أسباب وجود الأسماء وبقائها فنحن غذاؤه في ثبوت أفعاله وأسمائه
فمذهب باطل ومشرب عاطل مع قطع النظر عن الكفر باعتبار إطلاق هذا اللفظ الشنيع على الرب الرفيع حيث إن أوصاف الله تعالى توقيفية لأن المعتقد المعتمد عند طوائف الإسلام والعلماء الأعلام والمشايخ العظام أن الله كان خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق على خلاف بين الماتريدية والأشاعرة حيث جعل الأولون صفة التكوين قديمة والآخرون حادثة باعتبار متعلقاتها وأدخلوها تحت نعت القدرة والإرادة والأولون قالوا لا يلزم من حدوث المتعلق أن لا يكون المتعلق ذاتيا كما حقق في العلم والمعلوم فالجواب بالجواب في مقام فصل الخطاب فالأشعرية قالوا وجود الخلق والرزق تقديري والماتريدية قالوا وجودهما حقيقي وقيل النزاع لفظي فقول المؤول لا يتصور ثبوتها أي الأسماء الأفعالية من غير مخلوق ومرزوق لا تقديرا ولا وجودا كفر صريح ليس له تأويل صحيح لا سيما إذا كان قوله لا تقديرا راجعا إلى ثبوتها السابع عشر قوله في فص هود عليه السلام أيضا فإياك أن تتقيد بقيد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه ثم قال فكن هيولي لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع
وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه تعالى يقول فأينما تولوا فثم وجه الله فما ذكر أينا من أين وذكر أن ثم وجه الله ووجه الشيء حقيقته انتهى وكفره لا يخفى إذ يلزم منه أن المعتقدات المختلفة بين الطوائف المؤتلفة كلها حق واعتقاد أن كلها وجميعها صدق وهذا مذهب الزنادقة والإباحية والملاحدة والاتحادية ثم المؤول لما عجز عن تأويل هذا الكلام ذهب إلى طريق توضيح المرام على قاعدة فاسدة له ولشيخه في هذا المقام فقال إن الله سبحانه لما كان مبدأ الآثار والماهيات الخارجية كذلك مبدأ الآثار والماهيات الذهنية وكما أنه من حيث المبدئية مقارن للماهيات الخارجية كذلك من حيث مبدئيته للآثار والأحكام الذهنية مقارن للذهنية فهو مع الموجودات الذهنية كما هو مع الموجودات الخارجية بلا فرق انتهى ولا يخفى أن المعية المذكورة لا تفيد تصحيح المسألة المسطورة اللهم إلا أن يراد بالمعية العينية كما صرح به هو وشيخه في مقاماتها الردية وحينئذ يتعين القول بأن هذه المقولة من الكلمات الكفرية ومجمل كلامه في آخر مرامه أنه سبحانه لا يخلو عن اعتقاد مسطور إلا أنه ليس في اعتقاد دون اعتقاد بمحصور انتهى وهو نهاية كفره وغاية أمره حيث جعل الإيمان والكفر سواء في الاعتقاد وكذا صير سائر الأمور المتضادة مصورة في الاعتماد الثامن عشر قوله في فص شعيب عليه السلام إن الإله المعتقد لشخص
ليس له حكم في الإله المعتقد لآخر فصاحب الاعتقاد ينفي النقصان عنه ينصره وهو لا ينصره ولهذا ليس له أثر في اعتقاد منازعه وكذا هذا المنازع ليس له نصرة من إله له اعتقاد به فما لهم من ناصرين وقال في فص محمد إن المعتقد يثني على إله معتقد له ويتعلق به فالإله مصنوع له فثناؤه عليه ثناؤه على نفسه ولهذا يذم معتقد غيره ولو أنصف لما فعله لكنه جاهل بسبب الاعتراض على الغير في اعتقاده في الحق ولو عرف قول الجنيد لون الماء لون إنائه لسلم لكل ذي اعتقاد معتقده وعرف الله في كل صورة ومعتقد فهو صاحب الظن لا صاحب العلم كما قال الحق أنا عند ظن عبدي بي يعني ما أظهر له إلا في صورة معتقده إن أراد أطلقه وإن أراد قيده والإله المقيد محدود يسعه القلب إذ الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين جميع الأشياء وعين ذاته وفي الشيء الواحد لا يقال أنه يسعه أو لا يسعه انتهى ولا يخفى ما فيه من المنكرات الشرعية والكفريات الفرعية فإنه يبطل التوحيد ويعطل التمجيد ويحرف كلام الله وكلام رسوله عن مقام التسديد والتأييد إذ الحديث الإلهي أنا عند ظن عبدي بي ليس بالنسبة إلى اعتقاد الألوهية فإن الظن لا يغني من الحق شيئا في الأمور الاعتقادية بل معناه أنه عند ظن عبده به في مقام الرجاء والخوف كما
تقتضيهما صفة العبودية بأن يقوم بطاعته ويخاف من معصيته لا لمجرد التمني من غير التعني فإنه غرور لا يعقبه سرور وأما ما ورد في الحديث النبوي من أن القلب بيت الرب وكذا ما ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي لا يسعني فيه أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن ففيهما إيماء إلى مضمون قوله إنا عرضنا الأمانة الآية وتحقيقها ليس هذا محل بسطها ولا يقول مسلم بنزول الرب في القلب وإحاطته به إلا الحلولية والوجودية إلا أن الأولين يخصون القضية ولا يعمون البلية ثم المؤول لما عجز عن تأويله وتصحيحه شرع في بيان كلامه وتوضحيه فتبعه في مرامه وصرح بتصريحه حيث قال أصحاب التقليد من العقلاء تصوروا الحق سبحانه بحسب فهمهم وإدراك علمهم فصوروا في ذهنهم صورة ونزهوها من كل ما يحسبونه نقصانا
عندهم ووصفوها بكل نعت ظنوا أنه كمال لديهم ففي الحقيقة تلك الصورة مصنوعة مخترعة ومجعولة ومفعولة لإدراكهم وفهمهم فلو نظرت في اعتقادات الفرق الإسلامية وتأملت في معتقدات اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام والصابئة أظهر لك هذا المعنى في ميدان المبنى فإن كل واحد منهم بحسب قابليتهم وفهمهم تصوروا الحق بصورة مستحسنة عندهم ويحامونه ويراعونه وينفون عنه المنقصة وينسبون إليها الممدحة وينفون معتقد غيرهم ويذمونه ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وهم الأنبياء والأولياء والراسخون من العلماء لأنهم لم يصوروا صورة معلومة عندهم وحقيقة خاصة من لدنهم بل اتبعوا ما أوحي إليهم بالوحي للأنبياء والإلهام للأولياء انتهى وهذه كلمة حق أريد بها الباطل كما لا يخفى على العاقل الكامل فإن مراد شيخه كما مر مرارا أن الحق عين الخلق وأن كل معتقد صحيح لظهور الحق وكونه مع كل شيء بل عينه واختلاف الاعتقادات بحسب تفاوت الاعتبارات الصادرة على وفق مراتب الاستعدادات والقابليات كانعكاس نور الشمس في المرايات وهذا شبه المعنى الذي هو مدار بنائه بقول نسبه إلى الجنيد لون الماء لون إنائه والتحقيق أن معنى قول الجنيد لو صح روايته عنه يكون من قبيل ما قيل كل إناء يترشح بما فيه أي بما يوافق هواه وطبعه ويطابق معتقده وشرعه لا بما ينافيه ألا ترى أن
جماعة مختلفة إذا اجتمعوا في محفل فالعالم يظهر منه آثار علمه والكريم يظهر منه آثار كرمه والحسن الخلق يتبين عنه أنوار حلمه فالذاكر لا يذكر إلا مذكوره وموصوفه والعارف لا يعرف إلا معروفه وهكذا بقية أرباب الفضائل وأصحاب الشمائل وطالب الدنيا يتكلم بأمور دنياه والفاسق بما في خاطره من مهواه وكل حزب بما لديهم فرحون عارفون طريقهم ومذهبهم وقد علم كل أناس مشربهم التاسع عشر قوله في فص شعيب عليه السلام أيضا إن العالم مجموعة أعراض وفي كل آن يصير معدوما وموجودا كما قال الأشاعرة وغيرهم في الأعراض لا في الأجسام أقول وهذا المقدار ليس له مطعن في الكلام إذ لا يترتب عليه حكم من الأحكام إلا أنه فرع عليه ما يترتب كفره لديه حيث قال فالمكلف في كل آن يكون غيره ويحشر في العقبى غير ما كان موجودا في الدنيا فالعقاب والثواب لا يكون في الطائع والعاصي انتهى وكفره لا يخفى والمؤول ما التفت إلى دفع الاعتراض بل أظهر توضيح أن الأجسام كالأعراض بقوله إن الله سبحانه هو الذي قائم بذاته في قيامه لا يحتاج إلى شيء من موضوعاته أما ما يسميه أهل الرسوم بالجوهر ويجعلونه قائما بنفسه غير موجود عند هذه الطائفة بل إنه أمر موهوم وشيء معدوم فالعالم من أوله إلى آخره أعراض غير قائمة بنفسها في أمره أقول
ما ذهب إليه العلماء والحكماء والمشايخ الكبراء بالاعتبار أولى حيث فرقوا بين الجواهر والأعراض على وجه لا يتوجه عليهم الاعتراض فإنهم مجمعين على أن الحق هو القائم بذاته وهو لا ينافي أن يقيم الجوهر قائما بنفسه بمعنى أنه ثابت في مقره ولذا قالوا في معنى القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره وعلى تقدير صحة كونه يصير معدوما في كل آن كما يشير إليه قوله تعالى كل يوم هو في شأن أي يحيي ويميت بمعنى يوجد الشيء ويفنيه فنقول يصير معدوما وينقلب موجودا وهكذا في كل زمان من الأحوال كما يقتضيه ظهور صفات الجلال ونعوت الجمال إلى أبد الآباد على وجه الكمال وعلى هذا المعنى لا يترتب الفساد في المبنى كما حقق في إعادة أعضاء الأشباح فليكن كذلك في أجزاء الأرواح وقد قال تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب فما اختلف العاصي والمطيع في مقام العقاب والثواب وهذا فصل الخطاب والله أعلم بالصواب العشرون قوله في الفص العزيري إن ولاية الرسول أفضل من نبوته انتهى ولا يترتب عليه كفر ولا فسق ولا بدعة كما لا يخفى لأن هذه مسألة اختلف فيها الصوفية وأصل وضعها أنه يقال ولاية الرسول أفضل من
رسالته لأن ولايته المختلف فيها هي في زمان نبوته وأما ولايته الكائنة قبل نبوته فلا يصح أن يقال أفضل من نبوته فإنه كفر بلا خلاف إذ لا يكون الولي أفضل من النبي كما حقق في محله أن من قال الولي أفضل من النبي يكفر وإنما بقي الكلام في نبوته المعبر عنها بولايته ورسالته واختلاف لأفضليته في أي نسبة فقال بعضهم إن ولايته أفضل لكون توجهه حينئذ إلى الحق بخلاف رسالته فإنه متوجه في حالته إلى الخلق وهذا التفصيل من هذه الحيثية في التفضيل لا بأس به عند أهل التحصيل إلا أنه يلزم منه أن يكون النبي الذي لم يؤمر بتبليغ الوحي إلى الخلق يكون أفضل وأكمل ممن أوحي إليه وأمر بتبليغ ما لديه وهو خلاف الإجماع اللهم إلا أن يقال المراد بيان أفضلية النسبتين المجموعتين في الرسول بطريق الانفراد فإن مرتبة جمع الجمع أكمل عند جميع العباد ولذا قال بعض العلماء إن مقام رسالة نبينا أفضل من مقام ولايته وإنما أدرجه المؤول وجعله من قبيل القول المشكل ليوهم العوام أن سائر الاعتراضات مثله في قبول التأويل المحتمل نعم ذكر بعضهم أن نهاية النبي بداية الولي وظاهره الكفر إلا أنه له تأويلا حسنا وتوجيها مستحسنا وهو أن الولي لا يصير وليا باهرا إلا إذا عمل بجميع ما أتى به النبي أولا وآخرا وظاهرا وباطنا الحادي والعشرون قوله في فص عيسى عليه السلام إنه لما كان يحيي
الموتى قال بعضهم بحلول الحق فيه وقال بعضهم هو الله وكفروا فقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فجمعوا بين الكفر والخطأ في تمام الكلام فإن كفرهم ليس بقولهم إن الله فقط لأن هذا الكلام بانفراده حق وليس بكفر ولا بقولهم المسيح ابن مريم فقط لأنه ابن مريم بلا شك بل بمجموع الكلامين كفروا انتهى ولا يخفى انحلال مثل هذا الكلام على أدنى العوام لأن أحدا لا يقول من قال إن زيدا هو الإله يكفر بأحد جزئي كلامه بل بتركيبهما وفق مرامه مع إن كل جزء يسمى قولا لا كلاما كما حقق في محله ومع هذا لا يتعلق الاعتراض بالكفر على قوله إلا أن المؤول ذكر أن شراح الفصوص كالقيصري والجندي والجامي اتفقوا أن مراد الشيخ بهذا القول أنهم إنما كفروا بحصر الحق في عيسى لأنه تعالى ليس محصورا بل إنه سبحانه في جميع العالم متجليا انتهى ولا يخفى أنه معارضة صريحة لكلامه سبحانه ومناقضة قبيحة لمرامه عز شأنه وأما بحث التجلي في أفراد العالم فهذا أمر ظاهر لا يخفى على أحد من بني آدم بل ليس له ارتباط بما تقدم فالكفر راجع إليهم حيث ما فهموا كلام شيخهم وحملوه على محمل باطل زعموه حقا عندهم وهؤلاء وإن كانوا بحسب الظاهر من العلماء لكنهم وقعوا فيما وقعوا فيه لفساد أساسهم في البناء فقد ورد حبك
الشيء يعمي ويصم وقد قيل كل إناء يترشح بما فيه وفيه تنبيه على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقد صارت ضلالتهم سببا لضلالة جماعة من السفهاء وإنما قلنا هذا بناء على نقل هذا المؤول ولعله حذفه من كلام شيخه من صريح الباطل كما أشار إليه بقوله وفي الواقع عبارة إن الله هو المسيح ابن مريم مفيد للحصر وأن قول الشيخ يشير إليه حيث بين أن مجموع الكلام هو الكفر انتهى ولا يخفى أن هذا المبنى المفسد للمعنى ليس في كلامه على ما نقله من بيان مرامه ثم مما يدل صريحا على بطلان هذا المبدأ الكاسد والمنشأ الفاسد أنه لو قال أحد إن محمدا هو الله فلا شك أنه يكفر بالإجماع خلافا لمذهب ابن عربي وشراح كلامه وسائر الأتباع حيث لم يعرفوا الحكمة في فصل ضمير الفصل المشار إليه إلى كمال العدل تنبيها على اختلاف طوائف النصارى حيث قال بعضهم إن الله ثالث ثلاثة وقال آخرون إن الله هو المسيح ابن مريم وحده أي
من غير اندراجه في الثلاثة فبين الله سبحانه أن الحصر كفر كالزيادة في عدد الآلهة وقيد الثلاثة بيان الواقع من تلك الطائفة وأما قول من قال إن الله ثالث ثلاثة كفر وقوله تعالى سبحانه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إيمان فمردود إذ لا مناسبة بين الآيتين لا في العبارتين ولا في الإشارتين فإن المعية الإلهية حال النجوى وغيرها ثابتة بالإجماع من غير النزاع حيث قال تعالى وهو معكم أينما كنتم وخصوص العدد لا مفهوم له مع أنه سبحانه عمم هذا المعنى بحيث دخل ثالثهم أيضا في هذا المعنى بقوله ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فالمعية مطلقا إيمان والمشاركة في الألوهية كفر وكفران سوءا فيها الكثرة والقلة الشاملة للأثنينية قال تعالى لا تتخذوا إلهين اثنين والحاصل أن المراد هو تعريف المريد بالتوحيد ليحصل مقام المريد والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأما قول المؤول أنه سبحانه مبدأ جميع الآثار وله من هذه الحيثية مع جميع الأشياء نسبة المقارنة والمعية فهو من حيثية المعية عين جميع الأشياء فحصره في عيسى موجب للتقييد لأنه كذب فظاهر البطلان فإن المعية الثابتة في قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم ليست بمعنى المقارنة والمقاربة الحسية بل محمولة على المعية بالعلم والنصرة ونحو ذلك من الأمور المعنوية ومع هذا لا يلزم من المعية النسبة العينية لأن وجود زيد مع عمرو لا يقتضي أن أحدهما عين الآخر بل العينية توجب الحلول والاتحاد والجسمية فيجب أن ينزه عن أمثال ذلك الباري المتعال فإن كون الواجب
الوجود عين الممكن الوجود من المحال فنرجو من الله أن يحسن الأحوال ويحفظنا من الخطل والخلل في الأفعال والأقوال الثاني والعشرون قوله في فص هارون عليه السلام إنما يسلط الله سبحانه هارون على عبدة العجل كما سلط موسى عليهم حتى يعبد الله في جميع الصور ولهذا ما بقي نوع من أنواع العالم إلا وقد عبد إما عبادة تأليهية كعبدة الأجسام والكواكب وإما عبادة تسخيرية كعبدة الجاه والمال والمناصب والهوى أكثر ما عبد من دون الله قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه انتهى وليس في ظاهر كلامه كفر كما لا يخفى إلا أنه يفهم من باطن مرامه كما يتبين مرة بعد أخرى في مقامه أن مراده بهذا كله أنه سبحانه عين جميع الأشياء فيقتضي أن يكون معبودا في صور جميع مظاهر الأسماء وبطلانه ظاهر على العلماء وإن أخفي على بعض السفهاء ولو زعم الجهلة أنهم من الكبراء على أن دعوى عموم الاقتضاء باطلة لعدم صحة عبودية جميع الأشياء هذا وقد خلط المؤول هنا في ذكره من حل المشكل بين الحق مما ليس تحته طائل فأعرضنا عن كلامه لعدم تحقيق مرامه الثالث والعشرون قوله في فص موسى عليه السلام إنه لما جعل الله
سبحانه عين العالم حين أجاب فرعون حال الخطاب والعقاب فخاطبه فرعون بذلك اللسان وبنى عليه أساس البيان فقال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين لأنك أجبت بجواب يوافق أمثالي من المدعين إلى آخر ما ذكره من كلام المبطلين وهذه منه مسألة جزئية مبنية على قاعدة كليه له في العينية التي هي مذهب الوجودية والدهرية والحلولية والاتحادية الذين وقع الإجماع على كفرهم من الطوائف الإسلامية كما دل عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وعقائد السادة الصوفية المرضية من الجماعة السنية البهية قال المؤول إن موسى عليه السلام لما قال رب المشرق والمغرب وهو بلسان الإشارة أنه سبحانه عين العالم لأن الرب عبارة عن المربي والموجد والمنشيء وهو مبدأ الآثار والأحكام والمبدأ المقارن عين كما تقدم فقال فرعون إنك جعلت الرب عين العالم وأنا من العالم ولو كنت من بني آدم فأكون في دعوى الألوهية صادقا وفي ادعاء الربوبية معك موافقا وأنت ولو كنت معي في هذا الأمر شريكا إلا أن مرتبتي مرتبة التحكم بحسب الظاهر فعارضه بأن لي أيضا تحكم بالأمر الباهر كما بينه بقوله أو لو جئتك بشيء مبين قال فرعون فأت به إن كنت من الصادقين وبالجملة هذه المكالمة بلسان الفطرة لا بلسان الفكرة انتهى ولا يخفى أن هذا ليس جوابا عن فساد كلامه وإنما توضيح لتحقيق مرامه
الرابع والعشرون قوله في هذا الفص إن فرعون كان في منصب التحكم وصاحب السيف ولذا قال أنا ربكم الأعلى يعني وإن كان كلهم أربابا بنسبة البعض إلى البعض لكن أنا الرب الأعلى لأني صاحب الحكم الباهر الظاهر ولما عرف السحرة صدقه في تلك الدعوى لم ينكروا عليه هذا المعنى بل أقروا حيث قالوا إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فصح قوله أنا ربكم الأعلى فإن غيره وإن كان عين الحق فأما في الصورة فهو عين الحق مما بين الخلق فقطع أيديهم وأرجلهم في عين الحق بصورة الباطل فانظر إلى هذا الكلام العاطل الذي ليس تحته طائل وإنما صار سببا لضلالة الجاهل والغافل وإن كان في صورة العاقل والفاضل الكامل فإن العبرة في الاعتقاد فيما بين العباد وإلا فقد سبق الكفرة من الحكماء من عجز عن فهم كلامهم جملة من ظهر بعدهم من الفضلاء وسائر العقلاء لتعلم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء والمؤول لما عجز عن حل المشكل انتقل إلى توضيح كلامه وتصحيح مرامه بحيث شاركه في بطلان مقامه واستحق ما استحق من كفره وملامه وهذا آخر الاعتراضات الواردة على كلماته المشتملة على أنواع من الكفريات أعظمها دعوى العينية ثم دعوى أنها لا غير ولا عين ثم الطعن في الأنبياء ثم دعوى أنهم يستفيضون من خاتم الأولياء ثم إنكار النار للكفار مؤبدا في
دار البوار بل كتبه مشحونة بمثل هذه الأوزار إلا أنها مخلوطة بكلام الأبرار ليلبس الحق بالباطل ويزين الردي بالعاطل منها ما نقله عنه الآق شمس الدين في رسالته على طريقته أنه قال في الفصوص إن من ادعى الألوهية فهو صادق وأنكر على قول العلماء إن وجود الفاني لا يضمحل ولا يمحو عند فنائه بالذات حقيقة بل حسا وخيالا وأن الموجودات مستقلة مستندة إلى ذواتها وليست للحق سبحانه ظلالا انتهى وهذا كما ترى عين ما قال شيخه من دعوى العينية سواء يوافق الحلولية أو يطابق الاتحادية فعلى كل حال هو من الطائفة الإلحادية لمخالفته لما هو مقرر في العقائد الشرعية التي بينها العلماء الإسلامية وقد أغرب حيث استدل على صحة كلام ابن عربي بكلام أتباعه كشراح كلامه ووضاع مرامه ثم خلط وخبط بإيراد كلام الوجودية الموحدة والوجودية الملاحدة في الشاهد على طبق الواحد وأما قول المؤول المشهور بالشيخ المكي من أنه مدة سبع وثلاثين سنة خدم كلام ابن عربي فدل على أنه جاهل غبي حيث ضيع عمره وعطل أمره فيما لا ينفعه بل يضره فلو اشتغل بالكتاب والسنة لرأى خيره واتقى شره وضره وضلاله وكفره وانظر إلى قول حجة الإسلام ضيعت قطعة من العمر
العزيز في تصنيف البسيط والوسيط والوجيز مع أن الأخير هو مدار مذهب الشافعي من طريق النووي والرافعي ثم انتقاله من حاله ومقامه في طريق الفقهاء إلى تصنيف الإحياء وقد مات وصحيح البخاري فوق صدره رجاء حسن الخاتمة في أمره وأما قوله إن شيخه خاتم الولاية الخاصة المحمدية وأنه لم يوجد أحد بعده على قلب محمد في الحالة الظاهرية والباطنية فمجرد دعوى ليس تحتها طائل أو معنى إذ لا دليل على مرامه بل وجود كثير من أكابر الأولياء بعده حجة بينه على بطلان كلامه وعلى تقدير صحة هذه الواقعة في منامه فيكون تأويلها أنه متلبس بالكفر والإيمان وأنه التبس عليه الحق والبطلان وأن الفضة البيضاء عبارة عن الملة الحنفية النوراء كما يشير إليه قوله عليه السلام في تعبيره عنها باللبن لأنه أبيض كاللبن وأن الذهب الأحمر المشتبه بنار سقر عبارة عما ذهب إليه من أنواع الكفر حيث ذهب به عن الإيمان وحقيقة الأمر فهو بهذا المعنى خاتم الأولياء من الشياطين الأغبياء وصدقت رؤياه فإن مثله ما ظهر بعده ولا يظهر إن شاء الله مثله فإن مضرة مذهبه وشرارة مشربه أضر من الدجال ونحوه وأشر من تصانيف النصارى لأن كل أحد من أهل
الإسلام يظهر لهم بطلان كلام الدجال وأقوال النصارى في الحال وكلام ابن عربي في قلب الغبي الجاهل بعلوم النبي مثل السم في المسام وأما قوله إن لشيخه مصنفات قاربت الألف ومنها الفتوحات المكية التي أبوابها قريبة من الألف وأن له تفسير القرآن قدر الفتوحات مرتين المسمى بالجمع والتفصيل في أسرار التنزيل فغير مفيد في مقام التأويل لأن زبدة تصانيفه الفصوص والفتوحات وعمدة ما فيهما من الحقائق المختصة به هذه الكفريات والهذيانات والعبرة بتحقيق قوة الدراية لا بتدقيق كثرة الرواية ثم قس على هذا ما ذكره المؤول في تعظيم شأنه وتضخيم برهانه بما يظنه أنه من الكرامات وقد احتمل على تقدير صحتها أن يكون من الاستدراج بإظهار خوارق العادات كما وقع لفرعون وأمثاله من أرباب الضلالات وأما ما ذكره من ملاقاة شيخه مع شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي من غير مكالمة ومخاطبة وأنه سأل كل عن حال الآخر وأنه قال شيخ الإسلام رأيته بحرا لا ساحل له وأنه قال في حق السهروردي رأيت رجلا مملوءا من السنة من قرنه إلى قدمه فمحمول على ما عرف كل من أحوال الآخر وتخيل ذلك الوقت وتصور من غير اطلاع لشيخ الإسلام
على ما وقع له من الكلام المذموم عند الأعلام مع احتمال أنه كان قبل ظهور ما استحق من الملام على أن في عبارته نوعا من إشارته إلى أنه بحر ليس له مقر وقد قال تعالى وما يستوي البحران فإن بحر الشريعة عذب فرات سائغ شرابه لأنه ممزوج بالحقيقة بخلاف بحر الحقيقة فإنه قد يكون ملحا أجاجا إذا لم يكن على طريق الشريعة والطريقة بل قالوا إن الشريعة كسفينة الطريقة المارة على بحر الحقيقة فمن ركب السفينة قد نجا ومن أعرض عنها فقد غرق وقال النجا النجا ولا حصل له الملجأ ولا المنجا فعليك الالتجاء لسفينة نوح وأمثاله من أرباب الفتوح إن أردت أن يحصل لك روح في الروح ثم من راح في هذه السفينة من الصباح إلى الرواح أدرك النجاح الفلاح في الدنيا حيث ثبت على الدين القويم والصراط المستقيم وكذا يمر في العقبى على الصراط الذي على متن الجحيم ويستقر في دار النعيم بالعيش المقيم والتشرف باللقاء العظيم والثناء الكريم كما قال تعالى سلام قولا من رب رحيم وأما ما نقله من أن الشيخ ابن عبد السلام قال في حق ابن عربي إنه صديق فمنقوض بما تقدم نقل الجرزي بسنده الصحيح إليه أنه قال في حقه إنه زنديق وعلى تقدير صحة الأول أنه كان قبل ما يظهر منه ما وجب الكفر فتأمل وأما ما أسنده إليه من لبس الخرقة منتهيا إلى معروف الكرخي آخذا من الإمام علي
ابن موسى الرضا وآبائه الكرام إلى النبي فليس له صحة عند العلماء الكرام وأصحاب السير من المحدثين الفخام ثم قوله وأخذ الحسين أيضا عن جده عن جبريل عن الله جل جلاله وعم نواله ظاهر البطلان عديم البرهان وكان طريق خدمته من طريق المشايخ إلى أويس وأنه أخذ عن عمر وعلي رضي الله عنهما فغير معروف بل المشهور أنهما لبسا خرقة النبي لا أويس وإن كان هو أيضا غير صحيح مع أن الاعتبار بالحرفة لا بالخرقة فقد قال أبو يزيد طلب منه خرقته ليفيد له في مقام المزيد فقال له لو لبست جلد أبي يزيد لا ينفعك إلا بالعلم النافع والعلم الصالح ويفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويؤيده أنه جعل قميصا له كفنا لرئيس المنافقين للإشعار بأن لباس الظاهر وتزيين المظاهر لا ينفع إذا لم يكن صاحبه من الموافقين ثم اعلم أن صاحب الشفاء ذكر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أحرق عبد الله بن سبأ لأنه قال له أنت الإله حقا وقتل عبد الملك بن مروان المتنبي وصلبه وفعل غير واحد من الخلفاء والملوك وأشباههم وأجمع علماء وقتهم على تصويب فعلهم وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر بالله
على قتل الحلاج لدعواه الألوهية والقول بالحلول وقوله أنا الحق وما في الجبة إلا الله مع تمسكه في الظاهر من حاله بالشريعة ولم يقبلوا توبته حيث عدوه زنديقا وإن كان في الصورة صديقا والحاصل أنه كان كغيره من جهلة المتصوفة المنتمين إلى الإسلام والمعرفة حيث قالوا إن السالك إذا وصل فربما حل الله فيه كالماء في العود الأخضر بحيث لا تمايز ولا تغاير ولا اثنينية وصح أن يقول هو أنا وأنا هو مع امتناعه حقيقة كصيرورة أحد الشيئين بعينه الآخر والآخر بعينه هو بحكم العقل وشهادة ضرورة المشاهدة أنه من المحال بدون احتياج إلى استدلال ولا يمتنع مجازا بأن يكون بطريق وحدة إما إتصالية كجمع ماءين في إناء واحد أو اجتماعية كامتزاج ماء وتراب حتى صار طينا وأما بطريق كون وفساد كصيرورة ماء وهواء بالغليان هواءا واحدا أو استحالة أي تغير كصيرورة جسم بعد كونه سوادا بياضا وعكسه وهذا كله في الحادثات القابلة للتغيرات بخلاف ذات الله تعالى وماله من الصفات فإنه من المحال أن يحل في شيء من الممكنات أو يتحد مع المخلوقات إذ لا مناسبة بين القديم ورب الأرباب والحادث لا سيما من التراب ثم اعلم أن الله سبحانه قد حكى مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم والتحذير من ضلالهم والوعيد على وبالهم في مآلهم وكذلك وقع في أمثاله من أحاديث النبي وعلى آله وأجمع السلف والخلف
من أئمة الدين على ذكر حكايات الكفرة والملحدين في كتبهم وفي مجالسهم ليبينوها للناس وينقضوا شبههم الموجبة للالتباس وإن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث بن أسد المحاسبي بما حكاه في الرعاية فقد صنع أحمد بن حنبل مثله في رده على الجهمية وعلى القائلين بأن القرآن مخلوق من المعتزلة ولعل الفرق أن كلام الأول حكاية عقائد باطلة ثابتة بالكتاب والسنة مستغنية عن البيان في ميدان العيان أو كأنه أورد أدلة الخصم وأوضحها ثم ذكر بينة نفسه وحجته ورجحها بخلاف كلام الثاني حيث ذكر واقعة حال محتاجة إلى جواب سؤال كما وقعت لنا في هذا الكتاب والله أعلم بالصواب هذا وقد صرح العلماء بأن رد مذهب القدرية والجبرية وأمثالها فرض كفاية حفظا للشريعة والصيانة والحماية ولا شك أن كفر الطائفة الوجودية أظهر وضررهم على الطوائف الإسلامية أكثر حيث صنفوا الكتب والرسائل وأوردوا فيها ما يشتبه على العامة حيث استدلوا بالكتاب والسنة ما يتوهم فيه الموافقة والمطابقة لتكون وسائل لضلالة كل طالب وسائل بخلاف
كلام المنصور أنا الحق وأبي يزيد ليس في جبتي سوى الله ونحو ذلك فإنه أخف من وجهين أحدهما أنه أقرب إلى قبول التأويل وثانيهما عدم ثبوت ما قيل فلا عبرة بما نقلته هذه الطائفة عن أبي يزيد من أن أدنى منزلة العارف أن يجري فيه الحق ويجرى فيه حال الربوبية مع أن هذا لو صح عنه فهو قابل أن يؤول بأن هذه مزلة قدم السالك في هذا المقام ولا يلزم عنه تحسين الكلام وتزيين المرام وأما ما نقل عنه أن الصوفي قديم الذات أزلي الصفات فلا يصح عنه قطعا لأنه إن أراد معناه الظاهر فهو الكفر الباهر وإن أراد أنه قديم الذات والصفات باعتبار كونه معلوما عند القديم الحقيقي فتخصيصه بالصوفي لا وجه له اللهم إلا أن يقال إن هذا المعنى يظهر للصوفي دون غيره من أهل العلم العرفي وقس على ذلك ما ذكروا هنالك فإنه لا يحل لمسلم أن يترك الاعتقاد المفهوم من الكتاب والسنة والمعلوم عند علماء الأمة ويميل إلى كلام هذه الطائفة ولقول هذه الجماعة فإنها مجرد رواية من غير دراية يجب أن يحكم بأنها لا أصل لها بل مصنوعة موضوعة من
أهلها إلا إذا كانت ثابتة صحيحة أو حسنة أو يكون ناقلها معروفا بأنه ثقة كالقشيري فإنه نقل عن الجنيد من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ثم رأيت منقولا في بعض التواريخ أن ابن عربي انتقل من بلاد الأندلس بعد التسعين وخمسمائة وجاور بمكة وسمع بها الحديث وصنف الفتوحات المكية بها وكان له لسان في التصوف ومعرفة لما انتحاه من هذه المقالات وصنف بها كتبا كثيرة بما مقاصده التي اعتقدها ونهج في كثير منها مناهج تلك الطائفة ونظم فيها أشعارا كثيرة وأقام بدمشق مدة ثم انتقل إلى الروم وحصل له فيها قبول وأحوال جزيلة ثم عاد إلى دمشق وبها توفي انتهى ثم قال صاحبه ونقلت ذلك من خط أبي حيان وذكره الذهبي في العبر فقال صاحب التصانيف وقدوة القائلين بوحدة الوجود ثم قال وقد اتهم بأمر عظيم وقد وصف شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ابن عربي هذا وأتباعه بأنهم ضلال وجهال خارجون عن طريقة الإسلام لأنه قال فيما أنبأني الحافظان زين الدين العراقي ونور الدين الهيثمي في شرحه على المنهاج للنووي في باب الوصية بعد ذكره طوائف المتكلمين وهكذا الصوفية ينقسمون كانقسام المتكلمين فإنهما من واد واحد فمن كان
مقصوده معرفة الرب سبحانه وصفاته وأسمائه والتخلق بما يجوز التخلق به منها والتحلي بأحوالها وإشراق أنوار المعارف الإلهية وأسرار الأحوال السنية لديه فذلك من أعلم العلماء ويصرف إليه في الوصية للعلماء والوقف عليهم ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وأتباعه فهم ضلال وجهال خارجون عن طريق الإسلام فضلا عن العلماء الكرام انتهى وذكره الذهبي في الميزان فقال صنف التصانيف في تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة وقال أشياء منكرة عدها طائفة من العلماء مروقا وزندقة وعدها طائفة من العلماء من إرشادات العارفين ورموز السالكين وعدها طائفة من متشابه القول وأن ظاهرها كفر وضلال وباطنها حق وعرفان وأنه صحيح في نفسه كبير القدر وآخرون يقولون قد قال هذا الكفر والضلال فمن الذي قال أنه مات عليه فالظاهر عندهم من حاله أنه رجع وأناب إلى الله فإنه كان عالما بالآثار والسنن قوي المشاركة في العلوم قال وقولي أنا فيه أنه يجوز أن يكون من أولياء الله الذين اجتذبهم الحق إلى جنابه عند الموت وختم له بالحسنى وأما كلامه فمن فهمه وعرفه على قواعد الاتحادية وعلم محط القوم وجمع بين أطراف عباراتهم تبين له الحق في خلاف قولهم وكذلك من أمعن النظر في فصوص الحكم وأنعم التأمل لاح له العجب فإن الزكي إذا تأمل في ذلك الأقوال والنظائر فهو أحد رجلين إما من الاتحادية في الباطن وإما من المؤمنين
بالله الذين يعدون أهل هذه النحلة من أكفر الكفرة انتهى وقال في تاريخ الإسلام على ما أخبرني به ابن المحب الحافظ إذنا عنه وسماعا هذا الرجل كان قد تصوف وانعزل وجاع وسهر وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والخطرات والفكرة واستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج وسمع من طيش دماغه خطابا اعتقده من الله تعالى ولا وجود بذلك أبدا في الخارج حتى أنه قال لم يكن الحق أوقفني على ما سطره لي في توقيع ولايتي أمور العالم حتى أعلمني بأني خاتم أوليائه المحمدية بمدينة فاس سنة خمس وتسعين فلما كان ليلة الخميس في سنة ثلاثين وستمائة أوقفني الحق على التوقيع بورقة بيضاء فرسمته بنصه هذا توقيع إلهي كريم من رؤوف رحيم إلى فلان وقد أجزلنا رفده وما خيبنا قصده فلينهض إلى ما فوض إليه ولا تشغله الولاية عن المثول بين أيدينا شهرا بشهر إلى انقضاء العمر انتهى وهذا الكلام فيه مؤاخذة على ابن عربي فإنه إن كان المراد بما ذكر من أنه خاتم الولاية المحمدية وأنه خاتم الأولياء كما أن نبينا محمد خاتم الأنبياء فليس بصحيح بل كذب صريح لوجود جمع كثير من أوليائه تعالى من العلماء العاملين في عصر ابن عربي وفيما بعده على سبيل القطع وإن كان المراد أنه خاتم الأولياء بمدينة فاس فهو غير صحيح أيضا لوجود الأولياء الأخيار بها بعد ابن عربي وهذا من الأمر المشهور قلت
ويا ليته اكتفى بهذا الكذب والزور ولم يتفوه بما هو صريح في الكفر من أن خاتم الأنبياء يأخذ الفيض من خاتم الأولياء كما سبق بيانه في أثناء الأنباء ثم قال وقد أنشدني شيخنا المحدث شمس الدين محمد بن المحدث ظهير الدين إبراهيم الجزري سماعا من لفظه في الرحلة الأولى بظاهر دمشق أن الحافظ الزاهد شمس الدين محمد بن المحب عبد الله بن أحمد المقدسي الصالحي أنشده لنفسه وأنشدني ذلك إجازة شيخنا ابن المحب المذكور شعر دعا ابن عربي الأنام ليقتدوا ... بأعوره الدجال في بعض كتبه وفرعون أسماه لكل محقق ... إماما ألا تبا له ولحزبه وسئل عنه شيخنا العلامة المحقق الحافظ المفتي المصنف أبو زرعة أحمد ابن شيخنا الحافظ العراقي الشافعي فقال لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يشك فيه وكذلك فتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك وقد صح عندي عن الحافظ جمال الدين المزي أنه نقل من خطه في تفسير قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم كلاما ينبوا عنه السمع ويقتضي الكفر في الشرع وبعض كلماته لا يمكن تأويلها والذي يمكن تأويله فيها كيف يصار إليه مرجوحية التأويل والحكم إنما يترتب على الظاهر وقد بلغني عن الشيخ الإمام علاء الدين القونوي وأدركت أصحابه أنه قال في مثل ذلك إنما يؤول كلام المعصومين وهو كما قال وينبغي أن لا يحكم على ابن عربي نفسه بشيء فإني لست على يقين من صدور هذا الكلام منه ولا من استمراره عليه إلى وفاته ولكنا نحكم على مثل هذا الكلام بأنه كفر انتهى وما ذكره شيخنا من أنه لا يحكم على ابن عربي نفسه بشيء خالفه فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني لتصريحه بكفر ابن عربي كما سبق عنه وقد صرح بكفر ابن عربي واشتمال كتبه على الكفر الصريح الإمام رضي الدين أبو بكر محمد بن صالح المعروف بابن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر على الناشري الشافعيان وهما مما يقتدى به من علماء اليمن
في عصرنا ويؤيد ذلك فتوى من ذكرنا من العلماء وإن كانوا لم يصرحوا باسمه إلا ابن تيمية فإنه صرح باسمه حيث قال لأنهم كفروا قائل المقولات المذكورة في السؤال وابن عربي هو قائلها لأنها موجودة في كتبه التي صنفها واشتهرت عنه شهرة تقتضي القطع بنسبتها إليه والله اعلم انتهى والقونوي المشار إليه في كلام شيخنا أبي زرعة هو شارح الحاوي الصغير في الفقه ووجدت ذلك عنه في ذيل تاريخ الإسلام للذهبي فإنه قال في ترجمة القونوي وحدثني ابن كثير يعني الشيخ عماد الدين صاحب التاريخ والتفسير أنه حضر مع المزي عنده يعني القونوي فجرى ذكر الفصوص لابن عربي فقال لا ريب أن هذا الكلام الذي قال فيه كفر وضلال فقال صاحبه الجمال المالكي أفلا يتأوله مولانا فقال لا إنما يتأول كلام المعصوم انتهى والمزي هو الحافظ جمال الدين صاحب تهذيب الكمال والأطراف وفي سكوته إشعار برضاه بكلام القونوي والله أعلم أما
الكلام الذي لابن عربي على تفسير قوله تعالى إن الذين كفروا الآية التي أشار إليها شيخنا الحافظ أبو زرعة بعد ما كتبه لي بخطه من حفظه بالمعنى على ما ذكر وربما فاته بعض المعنى في كلامه فهو ما حدثني أبو زرعة فذكره بالفظ قال سمعت والدي رحمه الله غير مرة يقول سمعت القاضي برهان الدين بن جماعة يقول نقلت من خط ابن عربي في الكلام على قوله تعالى إن الذين كفروا ستروا محبتهم سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك عندهم لا يؤمنون بك ولا يأخذون عنك إنما يأخذون عنا ختم الله على قلوبهم فلا يعقلون إلا عنه وعلى سمعهم فلا يسمعون إلا منه وعلى أبصارهم غشاوة فلا يبصرون إلا إليه ولا يلتفتون إليك وإلى ما عندك بما جعلناه عندهم وألقيناه إليهم ولهم عذاب من العذوبة عظيم انتهى وقد بين شيخنا قاضي اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المعروف بابن المقري الشافعي من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره لأن جماعة من الصوفية بزبيد أوهموا من ليس له كثير نباهة علو مرتبة ابن عربي ونفي العيب عن كلامه فذكر ذلك شيخنا ابن المقري مع شيء من حال الصوفية المشار إليهم في قصيدة طويلة من نظمه فقال فيما أنشدنيه إجازة
ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالبواتر فقد حدثت في المسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغربها من غربين الحواضر تجاسر فيها ابن عربي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر وقال يحل الحق في كل صورة ... تجلى عليها وهو إحدى المظاهر وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عن لا ستواء المقادر كماضل في التهليل جهرا بنفيه ... وإثباته مستجهلا للمغاير وقال الذي ينفيه عين الذي أتى ... به مثبتا لا غير عند التحاور فأفسد معنى ما به الناس أسلموا ... وألغاه إلغا بينات التهاتر
فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر فقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر وكل امريء عند المهيمن مرتضى ... سعيد فما عاص لديه بخاسر وقال يموت الكافرون جميعهم ... وقد آمنوا غير المفاجا المبادر وما خص بالإيمان فرعون وحده ... لدى موته بل عم كل الكوافر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر وأثنى على من لم يجب نوح إذ دعا ... إلى ترك ود أو سواع وناسر وسمى جهولا من يطاوع أمره ... على تركها قول الكفور المجاهر ولم ير بالطوفان إغراق قومه ... ورد على من قال رد المناكر وقال بلى قد أغرقوا في معارف ... من العلم والباري لهم خير ناصر كما قال فازت عاد بالقرب واللقا ... من الله في الدنيا وفي اليوم الآخر وقد أخبر الباري بلعنته لهم ... وإبعادهم فاعجب له من مكابر
وصدق فرعون وصحح قوله ... أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامر وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال بموسى عجلة المتبادر وقال خليل الله في الذبح واهم ... ورؤيا ابنه يحتاج تعبير عابر يعظم أهل الكفر والأنبياء لا ... يعاملهم إلا بحط المقادر ويثني على الأصنام خيرا ولا يرى ... لها عابدا ممن عصى أمر آمر وكم من جراءات على الله قالها ... وتحريف آيات بسوء تفاسر ولم يبق كفر لم يلابسه عامدا ... ولم يتورط فيه غير محاذر
وقال سيأتينا من الصين خاتم ... من الأولياء للأولياء الأكابر له رتبة فوق النبي ورتبة ... له دونه فاعجب لهذا التنافر فرتبته العليا يقول لأخذه ... عن الله وحيا لا بتوسيط آخر ورتبته الدنيا يقول لأنه ... من التابعين للأمور الظواهر وقال اتباع المصطفى ليس واضعا ... لمقداره الأعلى وليس بحاقر فإن يدن منه لاتباع فإنه ... يرى منه أعلى من وجوه أواخر يرى حال نقصان له في اتباعه ... لأحمد حتى جا بهذي المعاذر
فلا قدس الرحمن شخصا يحبه ... على ما يرى من قبح هذي المخابر وقال بأن الأنبياء جميعهم ... بمشكاة هذا تستضيء في الدياجر وقال فقال الله لي بعد مدة ... بأنك أنت الختم رب المفاخر أتاني ابتدا بيضاء وسطر ربنا ... بإنفاذه في العالمين أوامري وقال فلا تشغلك عني ولاية ... وكن كل شهر طول عمرك زائري فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب ... لدينا فهل أبصرت يا ابن الأخاير
بأكذب من هذا وأكفر في الورى ... وأجرا على غشيان هذي الفواطر فلا يدعي من صدقوه ولاية ... وقد ختمت فليأخذونا بالأقادر فيا لعباد الله ما ثم ذو حجا ... له بعض تمييز بقلب وناظر إذا كان ذو كفر مطيعا كمؤمن ... فلا فرق فينا بين بر وفاجر كما قال هذا إن كل أوامر ... من الله جاءت فهي وفق المقادر فلم بعثت رسل وسنت شرائع ... وأنزل قرآن بهذي الزواجر أيخلع منكم ربقة الدين عاقل ... بقول غريق في الضلالة حائر
ويترك ماجاءت به الرسل من هدى ... لأقوال هذا الفيلسوف المغادر فيا محسني ظنا بما في فصوصه ... وما في فتوحات الشرور الدوائر عليكم بدين الله لا تصحبوا غدا ... مساعر نار قبحت من مساعر فليس عذاب الله عذبا كمثل ما ... يمنيكم بعض الشيوخ المدابر ولكن أليم مثل ما قال ربنا ... به الجلد إن ينضج يبدل بآخر غدا تعلمون الصادق القول منهما ... إذا لم تتوبوا اليوم علم مباشر ويبدوا لكم غير الذي يعدونكم ... بأن عذاب الله ليس بضائر
ويحكم رب العرش بين محمد ... ومن سن علم الباطل المتهاتر ومن جا بدين مفترى غير دينه ... فأهلك أغمارا به كالأباقر فلا يخدعن المسلمين عن الهدى ... وما للنبي المصطفى من مآثر ولا يؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلما الدياجر دعوا كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يقومون في بحر من الكفر ظاهر
إذا راح بالربح المتابع أحمدا ... على هدية راحوا بصفقة خاسر سيحكي لهم فرعون في دار خلده ... بإسلامه المقبول عند التجاور ويا أيها الصوفي خف من فصوصه ... خواتم سوء غيرها في الخناصر وخذ نهج سهل والجنيد وصالح ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر رجال رأوا ما الدار دار إقامة ... لقوم ولكن بلغة للمسافر فأحيوا لياليهم صلاة وبيتوا ... بها خوف رب العرش صوم البواكر مخافة يوم مستطير بشره ... عبوس المحيا قمطرير الظاهر وقد نحلت أجسادهم وأذا بها ... قيام لياليهم وصوم الهواجر أولئك أهل الله فالزم طريقهم ... وعد عن دواعي الابتداع الكوافر
انتهى باختصار وهو مجمل ما قدمنا فيما قررناه وتفصيله يعلم مما شرحناه فيما حررناه وقد سبق عن هذه المنكرات في كلام ابن عربي لا سبيل إلى صحته تأويلها فلا يستقيم اعتقاد أنه من أولياء الله مع اعتقاد صدور هذه الكلمات منه إلا باعتقاد أنها خلاف ما صدر عنه مما تقدم هنالك أو رجوعه إلى ما يعتقده أهل الإسلام في ذلك ولم يجيء بذلك عنه خبر ولا روي عنه أثر فذمه جماعة من أعيان العلماء وأكابر الأولياء لأجل كلامه المنكر وأما من أثنى عليه فلظاهر فضله وزهده وإيثاره واجتهاده في العبادة واشتهر عنه ذلك حتى عرفه جماعة من الصالحين عصرا بعد عصر فأثنوا عليه بهذا الاعتبار ثناءا إجماليا لا مدحا تفصيليا يشمل كلامه ويحوي مرامه وسبب ذلك أنهم لم يعرفوا ما في كلامه من المنكرات لاشتغالهم عنها بالعبادات والنظر في غير ذلك من كتب القوم لكونها أقرب لفهمهم مع ما وفقهم الله سبحانه لهم من حسن الظن بالمسلمين وظنوا أنه وأصحابه التابعين له من المؤمنين وأما ما يحكى في المنام من نهي ابن عربي عن ذمه وكذا ما يروى من صورة عذاب لمنكره فهو من تخييل النفوس أو تخويف الشياطين هذا وقد عاب تصوف ابن عربي بعض الصوفية الموافقين له في الطريقة الوجودية كعبد الحق بن سبعين وغيره ويا ويح من بالت عليه الثعالب وقد روى عن
الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر الشافعي العسقلاني أنه قال جرى بيني وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كبيرة في أمر ابن عربي حتى قلت منه بسوء مقالته فلم يسهل ذلك بالرجل المنازع لي في أمره وهددني بالشكوى إلى السلطان بمصر بأمر غير الذي تنازعنا فيه ليتعب خاطري فقلت له ما للسلطان في هذا مدخل تعال بنا نتباهل فقل أن يتباهل اثنان فكان أحدهما كاذبا إلا وأصيب قال فقال لي بسم الله فقلت له قل اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك فقال ذلك قلت أنا اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك قال وافترقنا قال ثم اجتمعنا في بعض مستنزهات مصر في ليلة مقمرة فقال لنا مر على رجلي شيء ناعم فانظروا فنظرنا فقلنا ما رأينا شيئا قال ثم التمس بصره فلم ير شيئا انتهى والمعنى أنه ثبت كونه من الكاذبين ويتفرع عليه أنه من الملعونين وشيخه من الضالين المضلين ثم اعلم أن من اعتقد حقيقة عقيدة ابن عربي فكافر بالإجماع من غير النزاع وإنما الكلام فيما
إذا أول كلامه بما يقتضي حسن مرامه وقد عرفت من تأويلات من تصدى بتحقيق هذا المقام أنه ليس هناك ما يصح أو يصلح عنه دفع الملام بقي من شك وتوهم أن هناك بعض التأويل إلا أنه عاجز عن ذلك القيل فقد نص العلامة ابن المقري كما سبق أن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر وهو أمر ظاهر وحكم باهر وأما من توقف فليس بمعذور في أمره بل توقفه سبب كفره فقد نص الإمام الأعظم والهمام الأقدم في الفقه الأكبر أنه إذا أشكل على الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فينبغي له أن يعتقد ما هو الصواب عند الله تعالى إلى أن يجد عالما فيسأله ولا يسعه تأخير الطلب ولا يعذر بالوقف فيه ويكفر إن وقف انتهى وقد ثبت عن أبي يوسف أنه حكم بكفر من قال لا أحب الدباء بعد ما قيل له إنه كان يحبه سيد الأنبياء فكيف بمن طعن في جميع الأنبياء وادعى أن خاتم الأولياء أفضل من سيد الأصفياء فإن كنت مؤمنا حقا مسلما صدقا فلا تشك في كفر جماعة ابن عربي ولا تتوقف في ضلالة هذا القوم الغوي والجمع الغبي فإن قلت هل
يجوز السلام عليهم ابتداء قلت لا ولا رد السلام عليهم بل لا يقال لهم عليكم أيضا فإنهم شر من اليهود والنصارى وإن حكمهم حكم المرتدين عن الدين فعلم به أنه إذا عطس أحد منهم فقال الحمد لله لا يقال له يرحمك الله وهل يجاب بيهديك الله محل بحث وكذا إذا مات أحد منهم لا يجوز الصلاة عليه وأن عباداتهم السابقة على اعتقاداتهم باطلة كطاعاتهم اللاحقة في بقية أوقاتهم فالواجب على الحكام في دار الإسلام أن يحرقوا من كان على هذه المعتقدات الفاسدة والتأويلات الكاسدة فإنهم أنجس وأنجس ممن ادعى أن عليا هو الله وقد أحرقه علي رضي الله عنه ويجب إحراق كتبهم المؤلفة ويتعين على كل أحد أن يبين فساد شقاقهم وكساد نفاقهم فإن سكوت العلماء واختلاف بعض الآراء صار سببا لهذه الفتنة وسائر أنواع البلاء فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة واللاحقة المطابقة للسعادة السابقة على وفق متابعة خاتم أرباب الرسالة وأصحاب العصمة والجلالة وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين قال مؤلفه رحمه الله برحمته الواسعة
تمت