► فهرس :إسلام | ☰ |
وبه ثقتي وعليه اعتمادي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا.
أما بعد فإني لما كتبت كلمات يسيرة على الأبيات التي في البردة وزيادة البغدادي المتضمنة للغلو في النبي ﷺ وبينت بعض ما اشتملت عليه من الباطل، وجد ورقة فيها اعتراض على ما كتبته وهو اعتراض ظاهر البطلان ولكن لغلبة الجهل قد يحصل تلبيس على الجهال. فطلب مني بعض الإخوان تعقب اعتراضات هذا المبطل وبيان فسادها فأجبته لما رأيته من تمكن الحهل في قلوب أكثر الناس خاصة في التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وبه أرسل جميع الرسل وأنزل جميع الكتب وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من ذلك أني ذكرت أن ما تضمنته هذه الأبيات وهي قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ** ألوذ به سواك
إلى قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ** ومنقذي من عذاب الله والألم
وما قبل هذه الأبيات وما بعدها، ذكرت أن هذا يشابه غلو النصارى في المسيح عليه السلام.
قال المعترض: "حاشاه من ذلك.. إلخ"
فنقول: مقتضى هذه الأبيات علم الغيب للنبي ﷺ وأن الدنيا والآخرة من جُودِه، وتضمنت الاستغاثة به ﷺ من أعظم الشدائد ورجائه لكشفها وهو الأخذ بيده في الآخرة وإنقاذه من عذاب الله، وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام وإن لم يقل هؤلاء إن محمدًا هو الله أو ابن الله ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه ﷺ بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" [1] والإطراء هو: المبالغة في المدح حتى يؤول الأمر إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية.
وقول المعترض: إن مراد الناظم من هذه الأبيات طلب الشفاعة.
فنقول:
أولا: هذه الألفاظ من هذه الأبيات صريحة في الاسثغاثة بالنبي ﷺ كقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك
أي وإلا فأنا هالك. والنبي ﷺ يقول في دعائه: "لا ملجأ منك إلا إليك". [2]
وقوله: إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعًا لي.. إلخ. أي هلكت، وأي لفظٍ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ وعَطْف الشفاعة على ما قبلها بحرف أو في قوله: أو شافعًا لي صريح في مغايرة ما بعد أو لما قبلها وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة. فإن لم يكن بالشفاعة.. وقول المعترض يحتمل أن العطف للتفسير، وهذا من جهله فإن عطف التفسير إنما يكون بالواو لا بغيرها من حروف العطف. ذكره ابن هشام وغيره.
ومحل عطف التفسير إذا عطف لفظ على لفظ معناهما واحد مع اختلاف اللفظ، كما ذكره من قول الشاعر:
وألفى قولها كذبًا ومينًا... والمين هو الكذب.
وأما قول الناظم: "ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعاُ لي..." إلخ"
فمعنى الإنقاذ غير معنى الشفاعة، قال الله تعالى عن صاحب يس: { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ }
ولم يقل أحد من المفسرين إن عطف الإنقاذ على الشفاعة من عطف التفسير، بل فسّروا الإنقاذ بالنصر والمظاهرة بالفعل وفسّروا الشفاعة بالمعاونة بالجاه، وهذا ظاهر.
ولكن لأجل تخبيط هذا الجاهل الأحمق أوجب بيان جهله وغلطه.
ومن كلام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية قال بعد كلام سبق: "فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته دائمًا. وإذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما تنقذني بها من ذلك الضر ولا من الجاه والمكانة عنده ما تشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر فأي وجه تستحق العبادة إني إذًا لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله من هذا شأنه". انتهى.
ونقول أيضًا: إنه إذا خوطب الرسول أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة نحو قول: أغثني أو أنقذني أو خذ بيدي أو اقض حاجتي أو أنت حسبي ونحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك. فهذا شرك العرب الذين بُعث إليهم النبي ﷺ كما وضحه الله سبحانه في كتابه في مواضع مخبرًا عنهم أنهم يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه } ِ ولم يقولوا: إن آلهتهم تحدث شيئًا أو تدبر أمرًا من دون الله.
قال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ }، الشرك في الألوهية إذا اعترفتم بالربوبية. { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّه } والآيات في هذا كثيرة، يحتج سبحانه عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على بطلان شركهم في توحيد الألوهية كما قال سبحانه: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }
فسر إيمانهم في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية وهو أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض ومن ينزل المطر وينبت النبات ونحوه قالوا الله، ومع ذلك يعبدون غيره.
وفسر إيمانهم بإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد، كما في قوله سبحانه: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }. ونحو ذلك من الآيات، ويشركون في الرخاء بدعاء غيره.
فهذه نصوص القرآن صريحة في أنهم يعترفون لله بتوحيد الربوبية اعترافًا جازمًا وأنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله، وأما من ظن أن مدعوه ومسئوله يحدث شيئًا من دون الله ويدبر أمرًا من دون الله فهذا شرك في توحيد الربوبية والألوهية معًا، ولم يدّعِ ذلك أحد من المشركين اللذين بعث الله إليهم محمدًا ﷺ، وإنما أرادوا من آلهتهم الشفاعة إلى الله الذي بيده النفع والضر لجاههم ومنزلتهم عنده كما أخبر الله عنهم بذلك.
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه عن رجلين تناظرا فقال أحدهما "لا بد من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر عليه إلا بذلك، فأجاب رحمه الله إلى أن قال: "وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار لكن الشفاعة لمن يأذن الله قال تعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ }. وقال: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }. وقال: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }.
قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون المسيح وعُزَيرًا والملائكة والأنبياء فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر فمن جعل الملائكة وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحُجَّاب الذين يكونون بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك من الطالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل، وهؤلاء شبّهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادًا وفي القرآن من الرد على هؤلاء مالا تتسع له هذه الفتوى فإن هذا دين المشركين عبّاد الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ }.
وقد بين هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حيث لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى: { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ }.
وقال: { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ }
وقال: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }.
وقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }. فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية فلله وحده". انتهى ملخصًا، وقال رحمه الله في الرسالة السَنية بعد كلام سبق: (فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده، أو يقول إذا ذبح شاه: "باسم سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنا في حسبك أو أنت حسبي ونحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتِل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لُيعبد وحده لا يجعل معه إلهٌ آخر والذين يُجعلون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر، والمسيح، وعُزَيْر، والملائكة، واللات، والعزى، ومناة، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وتنبت النبات وتنزل المطر وإنما كانوا يعبدونهم أو تماثيلهم أو قبورهم يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }، { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحدٌ من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. " انتهى. [3]
فليتأمل مريد نجاة نفسه ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يتبين له حقيقة الشرك الذي أرسل الله الرسل من أولهم إلى آخرهم ينهون عنه وأنه الذي يسميه بعض الناس في هذه الأزمنة تشفعًا وتوسلًا وبعض الضُلاّل يُسميه مجازًا يعني بذلك أن استغاثتهم بالمقبورين والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات على سبيل المجاز وأن الله هو المقصود في الحقيقة وهذا معنى قول المشركين: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم تدير شيئًا من دون الله وإنما يستجلبون النفع ويستدفعون الضر بجعلها وسائط بينهم وبين الله الذي بيده الضر والنفع ولهذا يخلصون لله الدعاء في الشدائد باعتقادهم أن آلهتهم لا تغني عنهم شيئًا من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع وقد لَبَّسَ الشيطانُ على كثير من الناس خاصةً ممن ينتسب إلى طلب العلم بأن السكوت عن الكلام في هذا الباب هو الدين والورع فتولَّد من ذلك الإعراض عن الاعتناء بهذا الأمر الذي هو أصل الدين حتى صار جاهلًا به ثم آل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحسان الشرك والنفرة من ذكر التوحيد ولم يدر هذا المتورع الورع الشيطاني أن أفرض العلوم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته ومعرفة حقه على عباده الذي خلق الجن والإنس لأجله وهو توحيد الألوهية الذي أرسل به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب قال سبحانه: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }، وقال: { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي واعلموا أن لا إله إلا هو وقال: { هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } فبين سبحانه أن من الحكمة في إنزال القرآن ليعلم الناس بما فيه من الحجج والبراهين أنه هو المستحق للألوهية وحده ففرض على عباده العلم لأنه الإله وحده وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك فتعيَّن على كل مكلف معرفة لا إله إلا الله الذي هو أصل الأصول وأوجب العلوم.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" [4] فرتب دخول الجنة على العلم بأن لا إله إلا الله وهذا يبين معنى أحاديث أُخر كقوله ﷺ: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [5] "ومن قال لا إله إلا الله صدقًا من قلبه دخل الجنة" [6] وغير ذلك من الأحاديث. وأن المراد من هذه الأحاديث ونحوها العلم بأن لا إله إلا الله وهذه الأمور التي انتشرت في أكثر الأمصار من الاستغاثة بالمقبورين في تفريج الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح وغير ذلك من أنواع القربات ومن لم يعرف أن هذا تأُّلُهٌ لغير الله وشرك عظيم تنفيه لا إله إلا الله فهو لم يعلم أن لا إله إلا الله حقيقة العلم.
وزعم المعترض أننا بإنكارنا ما تضمنته الأبيات المشار إليها من الغلو فيه ﷺ متنقصون لجنابه صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من قوله مثل قول النصارى لما قال النبي ﷺ: "إن عيسى عبد لله مربوب" قالوا إنه يسب المسيح وأمه ووشوا به عند النجاشي؛ وهذا ما يلقيه الشيطان على ألسنة المشركين قديمًا وحديثًا، إذا قال الموحدون إن آلهتكم باطلة وأنها لا تستحق شيئًا من العبادة اشمأزوا من ذلك وَزَعموا أن من سَلَبهم ذلك فقد هضم مراتبهم وتنقَّصهم، وهم قد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتَنقَّصوه لهم نصيب من قوله سبحانه: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا }.
لقد أحسن القائل رحمه الله وهو ابن القيم:
قالوا تنقّصتم رسول الله ** واعجبًا لهذا البغي والعدوان [7]
أنتم تنقصتم إله العرش ** والقرآن والمبعوث بالقرآن [8]
ونظير هذا قول أعداء المسيح ** من النصارى عابدي الصلبان
إنا تنقصنا المسيح بقولنا ** عبد وذاك غاية النقصان
وكذاك أشباه النصارى قد [9] غلوا ** في دينهم بالجهل والطغيان
صاروا معادين الرسول وديننا ** في صورة الأحباب والإخوان
فانظر إلى تبديلهم توحيده ** بالشرك والإيمان بالكفران
فاتظر إلى تجريه التوحيد من ** أسباب كل الشرك بالرحمن
واجمع مقالتهم وما قد قاله ** واستدع بالنُّقاد والوزَّان
عقل وفطرتك السليمة ثم زِن ** هذا وذا ولا تطغ في الميزان
رامي البريء بدائه ومصابه ** فعل المباهت أوقح الحيوان
كمُعيِّر للناس بالزغل الذي ** هو دربه فاعجب لذا البهتان
يافرقة التنقيص بل يا أمة الد ** عوى بلا علم ولا عرفان
والله ما قدمتم يوما مقا ** لته على التقليد للإنسان
تبًا لكم ماذا التنقص بعد ذا ** لو تعرفون العدل من نقصان
والله أمركم عجيب معجب ** ضدان فيكم ليس يتفقان
تقديم آراء الرجال عليه مع ** هذا الغلو فكيف يجتمعان
كفَّرتم من جرد التوحيد جهـ ** ـلا منكم بحقائق الإيمان
لكن تجردتم لنصر الشرك والـ ** ـبدع المضلة لكل زمان
والله لم نقصد سوى التجريد للتـ ** ـوحيد ذاك وصية الرحمن
ورضا رسول الله منا لا غلو ** الشرك أصل عبادة الأوثان
ولقد نهى ذا الخلق عن اطرائه ** فعل النصارى عابدي الصلبان
ولقد نهانا أن نُصيِّر قبره ** عيدًا جذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ** قد ضمه وثنًا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه ** وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه ** في عزة وحماية وصيان [10]
ولقد غدا عند الوفاة مصرحًا ** باللعن يصرخ فيهم بأذان
أعني [11] الأولى جعلوا القبور مساجدًا ** وهم اليهود وعابدو الصلبان
ولولا ذلك أبرز قبره ** لكنهم حجبوه بالحيطان
قصدوا إلى تسنيم حجرته ** ليمتنع الجود له على الأذقان
قصدوا موافقة الرسول وقصده ** التجريد للتوحيد للرحمن
فلينظر المصنف وليتأمل فالأمر كما قال رحمه الله: أمركم عجيب معجب وهذا حال غلاة زماننا تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم جمعوا بين الضدَيْن الغلو والتنقص، فجعلوا للنبي ﷺ خصائص الربوبية والألوهية، بل جعلوها لمن دون الرسول وبدّعوا من جرد التوحيد بل كفّروهم وضمنوا إلى هذا الغلو التنقيص للنبي ﷺ بحيث إنهم لا يلتفتون إلى سنته ولا يعبئون بها إذا خالفت ما عليه مشايخهم ويقولون مشايخنا أعلم منا وفرضنا التقليد ويعيبون على من قدّم سنة النبي ﷺ على ما خالفها وينسبونه إلى الجهل وتنقص العلماء وهم مع ذلك مخالفون لإمام المذهب الذي ينتسبون إليه ولأتباعه من علماء مذهبه ولسائر الأمة في النهي عن تقليدهم.
وضموا إلى ذلك موالاة أعداء أئمة المذاهب الذي ينتحلونه من المعطلة بزعمهم أنهم أهل الحق والسواد الأعظم فجمعوا بين الغلو في أهل مذهبهم لا سيما متأخريهم وبين تنقّصهم بحيث زعموا أن مخالفيهم في الأسماء والصفات والإيمان وغير ذلك هم أهل الحق الذين لا يجوز مخالفتهم كما جمعوا بين الغلو والتنقص في جانب الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
قال المعترض: وأما استدلالكم على أن النبي لا يشفع بقوله: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } قال والآية نزلت في الكفار، قال: وجميع ما في القرآن من نفي الشفاعة فهو في حق الكفار انتهى. أما نسبته إلينا أنا نقول إن النبي ﷺ لا يشفع فلا يحتاج إلى جواب لأنه يعلم هو وأصحابه أننا لا ننفي شفاعته ﷺ بإذن الله، بل هو صاحب الشفاعة العظمى وله ﷺ شفاعات غيرها والأنبياء يشفعون والملائكة يشفعون والمؤمنون يشفعون لكن لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد لربه ويحمده بمحامد يفتحها عليه حتى يقال: "يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع" [12] قال تعالى: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } وهذا من عظمته سبحانه وجلاله وكبريائه ألا يتجاسر أحد أن يشفع عنده حتى يؤذن له فالقرآن صرح بنفي الشفاعة في الكفار مطلقًا ونفاها عن غيرهم بغير إذنه ونحن إنما ننفي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن وهو أن أحدًا يشفع عنده بغير إذنه. وأما قول هذا الضال أن قوله سبحانه: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } في الكفار خاصة يعني فلعصاة المسلمين ولي من دونه وشفيع والولي هو الناصر والشفيع ذو الجاه وهذا القول كفر ظاهر حيث جعل قوله سبحانه: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } بالكفار أي فلغيرهم على زعمه ولي من دونه وشفيع فأي كفر أعظم وأَبين منه وهذا من تحريف الكلم من مواضعه.
وزعم المعترض أن "من" في قول الناظم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
أنها لبيان الجنس. وهذا الجاهل الأحمق يتحذلق عند أصحابه بما لا يعرفون لظنوا أن عنده علمًا، وهو لا يُميز بين "من" التي لبيان الجنس والتي للتبعيض، و"من" في الموضعين للتبعيض بلا شك، والذين يتكلمون على معاني الحروف ذكروا علامة "من" التي للتبعيض صحة حلول "بعض" محلها وعلامة التي لبيان الجنس صحة حلول "الذي" محلها كما في قوله سبحانه: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، والتي لبيان الجنس لا يبتدأ بها، و "من" في هذين الموضعين لا يصح حلول "الذي" محلها بل يصح حلول "بعض" موضعها فالمعنى: بعض جودك الدنيا وضرتها، وبعض علومك علم اللوح والقلم؛ أي فالدنيا وضرتها بعض جودك، وعلم اللوح والقلم بعض علمك. والمقصود بيان بطلان تحذلق هذا الجاهل وإلا فكلام الناظم باطل على كل حال، وعلى زعم الجاهل أنها لبيان الجنس فالمعنى: "جودك الدنيا وضرتها، وعلومك هي علم اللوح والقلم لا تنقص عنها، بل هي عينها"، وصرح المعترض بدعواه أن النبي ﷺ يعلم الغيب حتى مفاتيح الغيب الخمسة.
والناظم آل به المبالغة في الإطراء الذي نهى الرسول ﷺ إلى هذا الغلو والوقوع في هذه الزلقة العظيمة ونحو ذلك قوله في الهمزية في خطابه للنبي ﷺ:
الأمان الأمان إن فؤادي ** من ذنوب أتيتهن هراء
هذه علتي وأنت طبيبي ** ليس يخفى عليك في القلب داء
فطلب الأمان من النبي ﷺ وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي ﷺ مغفرة ذنبه وصلاح قلبه. ثم إنه صرّح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب. وقد قال سبحانه: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } وقال: { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } وخفي عليه ﷺ أمر الذين أنزل الله فيهم: { وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } الآيات حتى جاءه الوحي وخفي عليه ﷺ أمر أهل الإفك حتى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها في حياته، فكيف بعد موته وهذا يقول: وليس يخفى عليك في القلب داء، يعني أنه يعلم ما في القلوب والله سبحانه يقول: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }. وقال النبي ﷺ: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار". [13]
ثم كابر المعترض وصرح بقوله: إن النبي ﷺ يعلم الغيب حتى مفاتح الغيب الخمسة وزعم أن عامة العلماء قالوا ذلك، فانظر إلى هذه الجراءة العظيمة في الكذب على الله وعلى رسوله وعلى عامة العلماء بقوله إن عامة العلماء قالوا إن الله لم يتوف نبيه ﷺ حتى علّمه ما كان وما يكون وعلّمه كل شيء حتى الخمس، وقد قال الله لنبيه ﷺ: { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } وقال: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لو كنت أعلم الغيب لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالبًا مرة ومغلوبًا أخرى في الحروب.
وقال تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } وقال: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ }، وعلى قول هذا الأفاك يجوز أن يقال قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ومحمد، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ومحمد، وبيان ذلك أنه لو كان أهل قرية لا يحفظ أحد منهم سورة البقرة إلا زيد وعمرو وكان كلامًا صحيحًا مستقيمًا، ما أعظم جراءة هذا الخبيث على هذه الفرية العظيمة مع أن له سلف ضلال وكفر في هذه الدعوى.
حكى شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رده على الذي جوَّز الاستغاثة بالنبي ﷺ، ذكر عن بعض أهل زمانه أنه جوَّز الاستغاثة بالنبي ﷺ في كل ما يستغاث فيه بالله وصنف فيه مصنفًا وكان يقول: إن النبي ﷺ يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله.
قلت: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثكم أن محمدًا يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }، لفظ البخاري. ولفظ مسلم: "من زعم أن محمدًا يخبر عما في غد فقد أعظم الفرية على الله" ثم قرأت { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }. ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك عنه في حياته فكيف بعد الموت مع أنه لا يحتاج في بيان بطلان هذا القول إلى أكثرمن حكايته. قال الله تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }
وأما قول الله سبحانه: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }، والمعنى فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ليكون معجزة له وليس خاصًا بنينا عليه الصلاة والسلام.
وقول المعترض إن الشيخ تقي الدين أثنى على الصرصري في نظمه المشهور الذي فيه التوسل بالنبي ﷺ يعني بالتوسل الاستغاثة فقد كذب على الشيخ وافترى، وكتابه الذي صنفه في الرد على من جوَّز الاستغاثة به ﷺ معروف موجود. قال رحمه الله: "والاستغاثة به ﷺ موجودة في كلام بعض الناس مثل يحي الصرصري ومحمد بن النعمان وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد". انتهى. [14]
قلت: والبوصيري ليس معروفًا بالعلم.
قال المعترض: ومراد الناظم بقوله:
إن من جودك الدنيا وضرتها ** أن الله أعطاه خير الدارين
قال: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله واستشهد لذلك بالكذب الذي عزاه لشرح الإقناع أن النبي يقطع أرض الجنة وأنكر على من ينكر تصرفه ﷺ بقوله وكيف ينكر تصرفه؟؟.. إلى آخره.
فهذا إنكار منه على من ينكر تصرفه ﷺ وتعجب منه يقتضي إثبات الصروف له ﷺ في الدنيا والآخرة بالإعطاء والمنع وأن الله جعل له ذلك خصوصًا في الآخرة بإدخاله الجنة من يشاء. فيا سبحان الله! ما أعظم جرأة هذا الكذب على الله وهذه دعوى عظيمة يُطلب منه إقامة على صحتها كما قال سبحانه عن قول الذي قالوا: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }، أي حجتكم وبينتكم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فإن كل قول لا دليل عليه مردود على قائله، ومن المعلوم أنه لا دليل على هذه الفرية العظيمة. قال الله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، أي يوم الجزاء والحساب وتخصيص الملك بذلك اليوم لا ينفيه عمّا عداه لأنه تقدم أول السورة أنه رب العالمين، والرب هو المالك المتصرف وذلك عامٌ في الدنيا والآخرة وإنما أُضيف إلى الدين لأنه لا يدَّعي أحدٌ هناك شيئًا ولا يتكلم أحدٌ إلا بإذنه كما قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ }، { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا }. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "مالك يوم الدين: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا" [15]
وقال تعالى: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } وقال: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }، وقال { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ }، وقال: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }، وقال: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ }، أي ليس لأحد من الخلق أمرٌ مَعهُ في ذلك اليوم مع أن الأمر كُلَّهُ لَهُ سبحانه في الدنيا والآخرة كما قال: { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ }، واختصاصه سبحانه في التفرُّد بالأمر في ذلك اليوم قال المفسرون: معناه أن الله لا يُملِّكُ أحدًا في ذلك اليوم شيئًا كما ملَّكهم في الدنيا. قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } وقال: { يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }. وهذا المفتري يزعم أن الله سبحانه جعل لنبيه محمد ﷺ التصرف في ذلك اليوم فيكون شريكًا له في الأمر، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا وقال النبي ﷺ لأقرب الناس إليه عمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة: "أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا". [16]
وقال ﷺ: "لن يدخل أحد منكم الجنَّة بعمله"، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقول المعترض: ورد في الحديث: "لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري"
فيقال: أولا هذا حديث باطل. هؤلاء الذين صنَّفوا في معجزاته وفضائله وخصائصه، كصاحب الشفا أين ذهب عنهم هذا الحديث فلم يذكروه مع أنه لا حجة فيه للمبطل ونبينا محمد ﷺ هو خليل الله وحبيبه وأقرب الناس إليه وسيلة وأعظمهم عنده منزلة صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين وقد قال الله له: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }، والله سبحانه قد بيّن الحكمة في خلق السموات والأرض وما بينهما فقال: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } فأخبر سبحانه أنه إنما خلق السموات والأرض وما احتوتا عليه من آياته وعجائب مصنوعاته ليستدل بذلك على كمال قدرته، وسعة علمه، وقال: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }. فنبه على الحكمة في ذلك وهو أنه ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا، وقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }. فأخبر سبحانه بالحكمة في خلقه الجن والإنس، وهو إنما خلقهم ليعبدوه وحده وقال: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }. فأعلمنا سبحانه أنه إنما خلق هذه المخلوقات للحكَِم التي ذكرها لا لأجل أحد من خلقه، وقد ذكرت في الجواب على الأبيات بعض كلام النسفي الحنفي في تفسيره على قوله سبحانه: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }.
قال: " هو الظاهر للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبدٌ ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر كالمماليك إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي ودفع الضر عني { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ولم أكن غالبًا مرة ومغلوبًا أخرى في الحروب". انتهى. فاستعظم المعترض لفظ أنا عبدٌ ضعيف، وقال ما هذه الجراءة والتنقص لجناب حبيب الملك الوهاب فانظر إلى الشفا تجده حكى كفر من قال هذه الكلمة. انتهى.
أقول: ما الذي منع هذا الأحمق من نقل ما في الشفا لأصحابه يتحفهم به وليحتجوا به، وهو قد أتحفهم وأضلهم بالكذب الصريح، ونذكر إن شاء الله بعض ما ذكره صاحب الشفا من المبالغة في سد الذرائع إلى الغلو في النبي ﷺ ونحن نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أننا نعتقد أن جميع أهل السموات وأهل الأرض عبيد له مربوبون فقراء إليه ضعفاء لديه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا وأنه لا غناء لأحد منهم عنه سبحانه طرفة عين. [17] قال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }، وقال سيد ولد آدم ﷺ في الدعاء المشهور: "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين إلى من تكلني"، [18] من دعائه ﷺ: "وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلن إلى ضعية وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك". [19]
ومن دعائه: "اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل"، [20] وفي الدعاء المأثور في عرفة: "أنا البائس الفقير المستجير" [21] والبائس الذي اشتد البؤس وهو شدة الفقر، وأظن هذا الجاهل لو يقال له: إن النبي ﷺ غنيٌّ عن ربه لم يستعظم هذا القول. وذكرنا في الجواب الحديث المشهور الذي فيه: "علماؤهم شر من تحت أديم السماء منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود". [22]
قال المعترض: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم كفار مجوس في عهد النبي ﷺ أو فيما يأتي فهذا شناعة على عامة العلماء ومنهم الإمام أبو حنيفة وإن كان ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان.. انتهى.
فانظر: إلى هذه الوقاحة هل قلنا إن هذا الحديث خاص ببلد معين وإنما مقتضى الحديث الإخبار بما يحدث في الأمة من تغيير الدين وأن سبب ذلك علماء السوء، ولا يختص هذا ببلد معين فمن اتصف بصفات علماء السوء الذي يلبسون الحق بالباطل ويفترون على الله الكذب تناوله الذم في أي زمان ومكان، والله سبحانه لم يأمر عباده عند الاختلاف بالرد إلى أهل بلد ولا إلى ما عليه أكثر الناس ولا إلى شخص غير الرسول قال تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } و " شيء " نكرة في سياق الشرط فيعم كل شيء حصل فيه النزاع من أصول الدين وفروعه، ثم قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهذا خطاب لجميع الناس إلى آخر الزمان وأجمع العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إليه في حياته والرد إلى سنته بعد مماته.
قال ابن كثير رحمه الله في الآية: " هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه المسلمون من أصول الدين وفروعه أن يرد المتنازع فيه من ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }. فما حم به كتاب الله وسنة نبيه وشهد له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدل ذلك على أن من لا يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر، وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والرجوع في فصل القضاء إليهما: { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أي وأحسن عاقبة ومآلًا.. " انتهى.
ومن المحال أن يأمر الله سبحانه بالتحاكم إلى ما لا يفصل النزاع ويحكي عن بعض الضلال أنه يقول: نحن مقلدون ولسنا داخلين تحت هذه الآية ونحوها. فيقال له يلزمك هذا في جميع خطاب القرآن كقوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } و { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }، { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } وغير ذلك من خطاب القرآن في الأوامر والنواهي فمن زعم أنه ليس داخلًا في ذلك ولا معنيًا به فلا شك في كفره ومن أعظم مكايد الشيطان لكثير من الناس - خصوصًا من ينسب إلى علم - أن حال بينهم وبين تدبر القرآن وتفهمه خصوصًا فيما تضمنه من أدلة التوحيد وسائر أصول الدين التي لا يجوز التقليد فيها عند عامة العلماء فإذا علم أنه لا يجوز التقليد تعين معرفة أدلتها من الكتاب والسنة والله سبحانه قد بين ذلك غاية البيان والنبي ﷺ بين للناس ما نزل إليهم من ربهم قال الله تعالى: { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }، "من ربهم" ثم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى بعدهم تكلموا في ذلك بما يكفي ويشفي قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ }. قال ابن كثير رحمه الله: " يخبر سبحانه أن في القرآن آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على ما تشابه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس .. "انتهى.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المحكمات قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } والآيات بعدها، وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، والآيات بعدها يعني هذه الآيات ونحوها من المحكم وقال ابن عباس أيضا التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير لا يعلمه إلا الله".
ومن أعظم ما فتن الشيطان في هذه الأزمنة المتأخرة - أكثر العامة بل كثيرًا ممن ينسب إلى علم الاغترار بالأكثر، فيقول أحدهم: هذه الأمور التي تنكرونها مما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والنذر والذبح لهم منتشر مشتهر في أمصار المسلمين وكذلك القصائد المتضمنة الاستغاثة بالنبي ﷺ كما في البردة ونظم الصرصري وغيرهما متداول مستعمل لا ينكرونه. وهذا كلام فلان في قصيدته وشرحها فلان وفلان وتداولها العلماء وهذه هي الشبه العظيمة التي قامت بقلوبهم فلا يصغون إلا إليها ولا يعولون إلا عليها كأنهم لم يسمعوا بنبي مرسل ولا بكتاب منزل، فيقال: أولا هؤلاء أصحاب موسى الكليم الذين صحبوه فضله الله على عالمي زمانهم وآتاهم الكتاب والحكمة قد سئلوا موسى أن يجعل لهم إلهًا، قال سبحانه: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }.
وكذلك الذين قالوا لنبينا من أصحابه: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال ﷺ" الله أكبر.. إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }، لتركبن سنن من كان قبلكم. [23]
فهؤلاء خفي عليهم أن الذي طلبوه بقولهم اجعل لنا ذات أنواط أنه من التأله لغير الله ومن الشرك الذي حرمه الله، كذلك قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهًا، خفي عليهم قبح ما طلبوه وأنه من الشرك الذي ينهى عنه موسى عليه السلام فإذا كان قد خفي على المذكورين فلا يستبعد خفاؤه على من دونهم، ويقال أيضًا لمن احتجوا بأكثر الناس وأن الحق ما هم عليه خاصة إذا كان المحتج ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد والحنابلة: أكثر الناس في هذه الأزمان مخالفون لما عليه الإمام أحمد وأصحابه في كثير من صفات الرب، منها صفة علو الرب سبحانه فوق سماواته واستواؤه على عرشه فأكثر الناس اليوم لا يثبتون هذه الصفة ويبدِّعون من أثبتها ويضلِّلونهم، وبعضهم يكفِّرهم ويخصون الحنابلة بذلك لأن مذهب الإمام أحمد وأصحابه إثبات صفات الرب واستوائه على عرشه حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، وعلى ذلك أئمة الإسلام وكلامهم معروف في تضليل من لم يثبت هذه الصفة وأكثرهم صرَّح بكفرهم.
ومن ذلك مسألة كلام الرب سبحانه أكثر الناس اليوم يقولون كلامه سبحانه هو المعنى النفسي وأن حروف القرآن مخلوقة ومذهب أحمد وأصحابه وسائر الأئمة أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وليس شيء منه مخلوقًا ويضللون من قال بخلق الحروف وخلاف الحنابلة خاصة مع هؤلاء معروف. ذكرنا هاتين المسألتين على سبيل المثال وإلا فأكثر الناس اليوم على خلاف ما عليه السلف في أكثر الصفات وكذلك في الإيمان فجمهور الناس في هذه الأزمان يقولون: الإيمان التصديق ويقولون: الأعمال ليست من الإيمان وإنما سُميت إيمانًا في بعض الأحاديث فعلى سبيل المجاز ومذهب أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص وكثير من السلف كفَّروا من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط. إذا عُرِف ذلك تبين للمحتج بالأكثر إن كان على مذهب الإمام أحمد وأصحابه وجميع أهل السنة في إثبات الصفات أن حجته حجة داحضة واهية وعلم أن أهل الحق هم الأقلون عددًا الأعظمون عند الله قدرًا.
وقد روى ابن وضاح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله فإنه سيأتي من بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم. [24]
ويشهد لذلك قول النبي ﷺ: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، [25] وقال: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء" [26]
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: "أتدري ما الجماعة قلت: لا، قال إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك" وفي طريق أخرى: "إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل. [27]
والله سبحانه علم ما يحدث في الأمة من الاختلاف والتنازع وأوجب عليهم عند التنازع الرد إلى كتابه وسنة نبيه فقال تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } والنبي ﷺ أمر الأمة عند الاختلاف بالرد إلى سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. [28]
وقول بعض الناس لو كان ما تقولون حقًا لكان غيركم أولى به منكم يشابه قول الكفار: { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }، { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا }، فقال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } وقال سبحانه: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ }، وقال: { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ }،
والميزان العدل هو الكتاب والسنة وعليهما تعرض أقوال الناس وأعمالهم فما شهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، ونحن نتحقق أن في أمصار المسلمين كثيرًا ينكرون هذه الأمور الشركية، كما قد سمعنا من بعض من لقينا وبلغنا عن بعض من لم نلق، لكن صارت الغلبة لضدهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما قول المعترض: لو أن عبارات العلماء مثل البيضاوي والقسطلاني وغيرهما تجدي لديكم شيئًا لذكرناه لكم ولكنها تمحي بلفظة واحدة وهي أنهم كفار.. انتهى.
فهلا ذكر لصحابه من كلام من ذكر وغيرهم ما ينشطهم وهو قد غرهم بما افتراه من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى علماء الأمة عامة، فما الذي يمنعه من ذكر الصدق لهم ليزدادوا يقينًا في باطلهم، وأما افتراؤه علينا أننا نكفِّر علماء المسلمين فهو قد اجترأ على الكذب على الله وعلى رسوله وقد قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ }. ونحن ندعو للمسلمين عمومًا ولعلمائهم خصوصًا فنقول: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }، ومع ذلك نقول كما أوصونا به: "كل يؤخذ من كلامه ويرد إى رسول الله ﷺ". ولهم زلات، وفي الحديث المشهور: "اتقوا زلة العالم" [29] فإذا تبين لنا زلة أحد منهم لم نتابعه عليها وندعو له، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أخشى أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر".
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".. انتهى.
وليعلم أننا لم نجترئ على تكفير من وجدنا في كلامه ألفاظًا شركية كصاحب البردة وأمثاله، وهذه زلات عظيمة ربما لو نبهوا عليها لتنبهوا ولا نسب الأموات وقد أفضوا إلى ما قدموا، ونسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
وأنكر المعترض قولنا: إن طلب الدعاء من النبي ﷺ ممتنع عقلًا وشرعًا فقال ومن أين لكم هذا الامتناع وما دليله من العقل والسماع.
جوابه.. أما امتناعه عقلًا فلأن النبي ﷺ ميت. قال تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا بشر قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ولن يجمع الله عليك موتتين" [30]
ومقتضى قول من يقول إنه ﷺ حي في قبره كحياته حين كان على وجه الأرض أن يجمع عليه موتتين لأنه قد قام الدليل القاطع أنه عند النفخ في الصور لا يبقى أحد حيًا.
والعقل الصحيح يمنع طلب الدعاء من الميت ولم يرد حديث صحيح بأنه ﷺ حي في قبره لكن نقطع أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء، وقد أخبر الله عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }. ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله سبحانه: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }.
وقوله: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } فهذا الموت المثبت غير الموت المنفي، فالموت المثبت هو فراق الروح البدن والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن، فلو جاء إنسان إلى شهيد بعد خروج روحه وهو على وجه الأرض لا يتحرك ولا ينطق يطلب منه أن يدعو الله له لأنكر ذلك ذوو الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فكيف إذا صار في بطن الأرض
وهو في كلتا الحالتين حيّ حياة الله أعلم بحقيقتها مع القطع بأنها ليست كحياته لما كان على وجه الأرض قبل القتل، وثبت عن النبي ﷺ: "أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش تسرح حيث شاءت من الجنة". [31] وهم مع ذلك أحياء. وصحَّ عن النبي ﷺ: " أن نسمة المؤمن طائر يَعلُق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" [32] وفي سنن أبي داود عنه ﷺ قال: "ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام". فهذا يدل على أن روحه ﷺ ليست في جسده دائمًا بل هي في أعلى عليين، ولها اتصال بجسده أحيانًا، الله أعلم بحقيقته وليس ذلك الرد -أعني رد الروح- خاصًا به ﷺ، بل ثبت عنه ﷺ أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" [33] هذا وروحه في الجنة كما تقدم في الحديث فأرواح الشهداء بل عامة المؤمنين في الجنة ولها اتصال بأجسادهم في بعض الأحيان لا يعلم صفته إلا الله، وأمر البرزخ وأحكامه على خلاف ما يشاهد في الدنيا، وأما امتناع طلب الدعاء منه بعد موته شرعًا فلأن الصحابة رضي الله عنهم -وهم أعلم بالله وبرسوله ممن بعدهم- لم يأتوا إلى قبره ﷺ يطلبون منه أن يدعوا لهم ويستسقي لهم ويستنصر لهم لعلمهم أن هذا ممتنع بعد موته، ولم يأت أحد منهم يستفتيه في قبره في مسائل كثيرة أشكلت عليهم، قال عمر رضي الله عنه: "ثلاث وددت أني سألت رسول الله ﷺ عنها". [34] واستسقى عمر بالعباس ولم يأت إلى قبره ﷺ ليستسقي لهم، [35]
وكان الناس يجيئون إلى أم المؤمنين عائشة ليستفتوها عند قبره ﷺ وهو مع ذلك يسمعهم يُجيبهم لو سألوه على مقتضى زعم الغلاة، وهذا من المحال. بل نهوا عن تحري دعاء الله عند قبره ﷺ، ولما رأى علي بن الحسين رحمه الله رجلًا كان يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: "ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" فرأى علي بن الحسين -رحمه الله- أن ذلك من اتخاذه عيدًا، روى سهيل بن أبي سهيل قال: "رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ حيثما كنتم". ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء" [36]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا علي بن الحسين أفضل أهل بيت النبي ﷺ من التابعين نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره ﷺ، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده وهو أعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذًا له عيدًا، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل [37] القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا.
فانظر: هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت رضي الله عنهم الذين لهم من رسول الله ﷺ قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط".
وقال رحمه الله: "ولقد جرَّد السلف الصالح التوحيد وحمو جانبه حتى كرهوا قصد دعاء الله عند قبره ﷺ، فكيف بدعائه نفسه، وكان أحدهم إذا سلَّم على النبي ﷺ وأراد أن يدعو الله، استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة إذا صلى على النبي ﷺ وأراد أن يدعو الله لأن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره: "الدعاء هو العبادة"، فجرَّد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله ﷺ من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك".
وقال شيخ الإسلام: ودعاء الميت من الشرك سواءً طُلب منه أن يفعل أو طُلب منه أن يسأل الله وذكر القاضي عياض في الشفاء عن مالك رحمه الله أنه كره أن يُقال: زرنا قبر النبي ﷺ.
قال القاضي: "والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر رسول الله ﷺ لقوله ﷺ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [38] فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعًا للذريعة وحسمًا للباب".
وفي المبسوط عن مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ يدعو ولكن يسلم ويمضي".
وقال: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن أناسًا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في لجمعة وفي الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. انتهى.
فانظر: إلى ما ذكر عن علي بن الحسين وما روي عن الحسن بن الحسن مما قدمناه وإلى قول مالك يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده، هل هذا تنقُّص منهم له ﷺ أو سد للذريعة عن الغلو الذي نهى عنه ﷺ.
وفي أثناء كلام لشيخ الإسلام رحمه الله قال:
"وكل ما سوى الله يتلاشى عند ذكر توحيده، والنبي ﷺ أعظم الناس تقريرًا لما يقال على هذا الوجه وإن كان هو المسلوب كما قالت عائشة رضي الله عنها لما أخبرها براءتها: "والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد إلا الله". [39] وفي لفظ: "بحمد الله لا بحمدك ". [40] فأقرها ﷺ وأبوها على ذلك لأن الله أنزل براءتها بغير فعل أحد.
قال حبان: "قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول، قال: دلت الحمد أهله".
وفي الحديث الذي رواه أحمد: "اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، قال عرف الحق لأهله". [41]
وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد فقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد"، [42] وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندًا، بل ما شاء الله وحده". [43]
وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقير: عبد الله ورسوله".
وقال: "يأيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله".
وقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا.
وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد".
وقد قال الله سبحانه: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }.
وقال: { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ }.
وقال: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }.
وقال: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا }. أي لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه، وقال لابنته وعمهم عباس وعمته صفية: "لا أملك لكم من الله شيئًا". [44] وفي لفظ: "لا أغني عنكم من الله شيئًا".
فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم وأبوا ذلك كله وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضم مراتبهم وتنقصهم.
وهم قد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتنقَّصوا، فلهم نصيب في قوله: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هامش
- ↑ البخاري
- ↑ متفق عليه
- ↑ الواسطة لابن تيمية.
- ↑ مسلم
- ↑ أحمد وأبو داود
- ↑ أحمد
- ↑ في النونية المطبوعة: البهتان، بدل العدوان.
- ↑ قبل هذا البيت: قالوا تنقصتم من رسول الله وا ** عجبا لهذا البغي والبهتان عزلوه أن يحتجّ قط بقوله ** في العلم بالله العظيم الشان عزلوا كلام الله ثم رسوله ** عن ذاك عزلا ليس ذا كتمان جعلوا حقيقته وظاهره هو الـ ** ـكفر الصريح البيّن البطلان قالوا وظاهره هو التشبيه والتـ ** ـجسيم حاشا ظاهر القرآن من قال في الرحمن ما دلت عليـ ** ـه حقيقة الأخبار والفرقان فهو المشبّه والممثل والمجـ ** سم عابد الأوثان لا الرحمن تالله قد مسخت عقولكم فليـ ** س وراء هذا قط من نقصان ورميتم حزب الرسول وجنده ** بمصابكم يا فرقة البهتان وجعلتم التنقيص عين وفاقه ** إذ لم يوافق ذاك رأي فلان
- ↑ المطبوعة: مذ
- ↑ في شرح قصيدة ابن القيم: "قال القرطبي: ولهذا بالغ في سد الذريعة في قبر النبي ﷺ فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقةً بقبره ﷺ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليَيْن وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره".
- ↑ في النونية: وعنى
- ↑ متفق عليه
- ↑ متفق عليه
- ↑ الرد على البكري "2/ 479".
- ↑ تفسير الطبري
- ↑ متفق عليه
- ↑ في شرح العقيدة الطحاوية: "ويملك كُلَّ شيء ولا يملِكهُ شيءٌ، ولا غِنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحَيْنِ".
- ↑ تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام؛ وضعفه الألباني في تعليقه على فقه السيرة.
- ↑ أحمد واللالكائي.
- ↑ أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان
- ↑ الطبراني في الصغير والكبير، والخطيب في التاريخ، وابن الجوزي في العلل المتناهية "2/ 844" من حديث ابن عباس، وقال ابن الجوزي: "هذا الحديث لا يصح، قال الدارقطني: كان إسماعيل بن أمية -أحد رواته- يضع الحديث"
- ↑ ابن عدي في الكامل عن علي موقوفا.
- ↑ أحمد والترمذي
- ↑ مقدمة سنن الدرامي والبدع والنهي عنها لابن وضاح.
- ↑ صححه الترمذي والحاكم والذهبي وابن تيمية والشاطبي في الاعتصام وحسنه ابن حجر وقواه ابن كثير؛ وهو في الصحيحة 204، 205.
- ↑ صحيح مسلم
- ↑ اللالكائي في اعتقاد أهل السنة
- ↑ سنن ابن ماجه، وهو في الصحيحة 937.
- ↑ أخرجه البيهقي في الكبرى "10/ 211" وابن عدي في الكامل "6/ 60" من حديث عمرو بن عوف، وفي إسناده كثير بن عبد الله، قال عنه أحمد: منكر ليس بشيء.
- ↑ صحيح البخاري
- ↑ مسلم
- ↑ أحمد وابن حبان
- ↑ ذكره ابن رجب في أهوال القبور وقال: "خرجه ابن عبد البر، وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، وهو كذلك، إلا أنه غريب بل منكر".
- ↑ متفق عليه
- ↑ البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ﷺ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون". والمقصود بالتوسل بالعباس هنا هو التوسل بدعائه إلى الله، لا التوسل بذاته وجاهه، إذ لو كان مقصود عمر التوسل بذات العباس وجاهه، ما عدَّل عن النبي ﷺ إلى العباس، إذ أن جاه النبي ﷺ محفوظٌ بعد موته كما كان في حياته. ولو كان التوسل بجاه النبي ﷺ جائزًا وسببًا في إجابة الدعاء، لأمرنا به ﷺ وحثَّنا عليه، كيف وهو لم يترك شيئًا يقربنا إلى الله إلا ودلنا عليه.
- ↑ مصنف عبد الرزاق
- ↑ أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، والبخاري في الأدب المفرد.
- ↑ صححه في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد
- ↑ البخاري
- ↑ أحمد
- ↑ أحمد والحاكم
- ↑ ابن ماجه والدارمي
- ↑ الأدب المفرد للبخاري ومسند أحمد ومصنف عبد الرزاق
- ↑ أحمد والنسائي في الكبرى