الرجل الذي زرع أشجاراً المؤلف: جان جيونو المترجم: موسوعتي |
يتعين على المرء أن يكون لديه خصلة جيدة وهي أن يتمكن من مراقبة أفعاله على مدار السنين حتى تظهر شخصيته صفات حسنة غير معتادة. لو كانت أفعال المرء خالية من الأنانية، ولو كان مبدأه الأساسي هو الكرم غير المسبوق، ولو كان في حكم المؤكد أنه لا يسعى وراء مقابل وأن أفكاره تركت أثراً واضحاً على العالم، فبدون شك لابد وأن المرء قد وجد شخصاً لا ينسى.
منذ أربعين عاماً ذهبت في نزهة على الأقدام في مرتفعات مجهولة للسائحين، في المناطق العتيقة من جبال الألب التي تمتد إلى منطقة بروفانس. هذه المنطقة يحدها من الجنوب والجنوب الشرقي مجرى نهر الديورانس بين سيسترون وميرابو، ومن الشمال منبع نهر الدروم حتى منطقة دي، ومن الغرب سهول كومتات فينايسي وسفوح جبل فينتو. هذه المنطقة تحيط بالجزء الشمالي من مقاطعة الألب السفلى كاملاً، والجزء الجنوبي من مقاطعة الدروم، و جزء صغير من مقاطعة فوكلوز.
كانت هذه المنطقة عندما قمت بهذه النزهة التي تقع على ارتفاع 1200 أو 1300 متر من سطح البحر جرداء مقفرة ولا ينمو فيها شيئاً إلا الخزامى البري.
عبرت هذه المنطقة من أوسع أجزاءها وبعد ثلاثة أيام وجدت نفسي في منطقة مهجورة تماماً. نصبت مخيمي بالقرب من بقايا قرية مهجورة. كنت قد استهلكت مخزون الماء لدي أول أمس وكان لابد من العثور على مصدر ماء. هذه المنازل بالرغم من أنها مهجورة و تشكل عش دبابير قديم، إلا أنها دفعتني للتفكير في أنه بالتأكيد كان هناك بئر أو نبع من قبل. لقد كان هناك بئر بالفعل إلا انه كان جافاً. كانت البيوت الخمسة أو الستة عديمة الأسقف والتي تآكلها الريح والمطر والكنيسة الصغيرة كانت متراصة مثل منازل القرى المأهولة إلا أن الحياة قد اختفت.
كان يوماً جميلاً ومشمساً من أيام شهر يونيو، إلا أن في مثل هذه الأراضي المرتفعة أن تكون بلا مأوى فسوف يعصف بك ريح شديد. كان صوت الريح وهو يهب داخل هذه المنازل أشبه بصوت حيوان متوحش يزأر لأن شيء ما قاطعه أثناء تناول طعامه.
اضطررت لفض مخيمي ومن ثم التحرك. بعد خمسة ساعات لم أجد أي أثر للماء وفقدت الأمل في العثور عليه. كان حولي في كل مكان نفس الجفاف ونفس الأعشاب الجافة. تخيلت أنني أرى ظلاً منتصباً أسوداً صغيراً على مبعدة مني تخيلت انه جذع شجرة وحيدة. أكملت طريقي باتجاه الظل بسبب الحظ فقط وليس بسبب الإصرار. لقد كان راعي غنم وكان بالقرب منه ثلاثين رأس أغنام تقريباً مستلقية على الأرض الحارة.
أعطاني شربة ماء من وعاء الماء الخاص به ثم اصطحبني إلى الكوخ الخاص به المختبئ وراء مرتفع صغير على السهل. كان يحصل على الماء بسلاسة من بئر طبيعي والذي وضع فوقه مرفاع بدائي.
هذا الرجل لا يتكلم تقريباً، كما هو الحال لمن يعيشون وحدهم. إلا أنك تشعر أنه واثق من نفسه وواثق من تقديره لنفسه. لقد كان هذا الأمر غريباً في مكان مجرد من كل شيء. لم يكن يعيش في كوخ بل في منزل مبني من الحجارة ويستطيع المرء أن يرى بوضوح أين وكيف استطاع استعادة البقايا التي وجدها عندما وصل أول مرة. كان السقف مصمتاً ومحكم. كان صوت الريح وهي تهب على قرميد السقف مثل صوت الأمواج وهي تنكسر بهدوء على الشاطئ.
كان منزله مرتباً، أوعيته نظيفة والأرض كذلك وبندقيته مشحمة جيداً وحساؤه يغلي على النار. لاحظت أيضاً أنه قد حلق لحيته مؤخراً وأن أزراره مخيطة بعناية وأن ملابسه رتقت بعناية فائقة للدرجة التي تجعل أماكن الرتق غير ملحوظة تقريباً.
شاركني حساؤه وعندما عرضت عليه كيس التبغ الخاص بي أخبرني أنه لا يدخن. كان كلبه، هادئاً مثل الرجل، ودوداً دون إذلال. تم الاتفاق ضمنياً دون أي نقاش أنني سأقضي الليلة عنده حيث أن القرية التالية تبعد مسيرة يوم ونصف. بالإضافة إلى ذلك كنت أعلم طباع مثل هذه القرى جيداً. يوجد بالمنطقة أربعة أو خمسة متناثرة على سفوح هذا السهل وسط تكتلات من البلوط الأبيض على نهايات الطرق المعبدة. يسكن هذه القرى صانعي الفحم الخشبي. ومثل هذه الأماكن لا تصلح للسكنى. حيث أن العيش متقاربين في هذا الجو السيئ صيفاً وشتاءاً وأيضاً العائلات التي تعيش في غرف مغلقة يزيد من شعورهم بالأنانية ويؤدي إلى طموح شديد غير عقلاني في سعيهم المستمر للهروب من هذه الأماكن.
يحضر الرجال الفحم الخشبي إلى المدينة في عرباتهم ومن ثم يعودون. على مثل هذا الطريق المتناقض تبلى أفضل الصفات الحميدة. النساء تمتلئن بالمرارة، ويحملن دائماً الضغائن نحو الآخرين. هؤلاء البشر يتنافسون على أي شيء بدءاً ببيع الفحم حتى مكان الجلوس في الكنيسة، وحول فضائل النساء ورذائل الرجال وحول الصراع العام بين الرذائل والفضائل دون انقطاع. وفوق كل ذلك الريح الشديدة التي توتر الأعصاب. ينتشر الانتحار مثل الوباء وهناك العديد من حالات الجنون وغالباً ما تكون مميتة.
أحضر الراعي الذي لا يدخن كيساً من القماش وافرغ منه كومة من البلوط على الطاولة. شرع الرجل في فحصهم بتمعن الواحدة تلو الأخرى، فاصلاً بين الجيدة منها والرديئة. كنت أدخن غليوني. عرضت عليه المساعدة. أخبرني أن هذا هو عمله. في الواقع لم ألح في طلبي عندما رأيت كم الاهتمام الذي يوليه لهذا العمل. كان هذا هو كل ما تبادلناه من حديث. وحالما فصل ما يكفي من الحبات السليمة شرع في عدهم في أكوام تتكون كل منها من عشرة حبات وأثناء ذلك كان يستبعد الحبات الصغيرة أو المخدوشة حيث أنه كان يدقق في الفحص بشدة. حالما تَكوَّن أمامه مائة حبة بلوط سليمة توقف ثم ذهبنا إلى الفراش.
كانت صحبة هذا الرجل تزرع في نفسي السكينة. سألته في الصباح التالي لو استطيع المكوث والراحة لديه طوال النهار، كان الأمر بالنسبة له طبيعي جداً أو أكثر تحديداً أعطاني انطباع أنه لا يوجد شيء يستطيع إزعاجه. في الواقع لم أكن في حاجة للراحة، بل أنني أصابني الفضول وأردت أن أعرف المزيد. جمع الراعي قطيعه وأرشده إلى مرعاه. إلا أنه قبل أن يرحل طمر الكيس الذي يحتوي على الحبات التي اختارها بعناية في وعاء من الماء.
لاحظت أن الرجل يحمل معه قضيباً حديدياً يستعمله كعصا للمشي عرضها يماثل سمك إصبع الإبهام ويصل طوله إلى متر ونصف المتر. مشيت في طريق موازٍ لطريقه ببطء. كان مرعى أغنامه يقع في منخفض صغير. ترك الراعي قطيعه في حراسة الكلب ثم صعد إلى حيث كنت أقف. خشيت أن يعنفني على تطفلي، إلا أن ذلك لم يحدث، لقد كان هذا هو طريقه المعتاد ودعاني كي اذهب معه إن لم يكن لدي ما أفعله. مشى الراعي حوالي مائتين متر. عندما وصل إلى المكان الذي يريده، زرع القضيب الحديدي في الأرض. وضع حبة بلوط في الحفرة الناتجة عن القضيب وغطاها بالتراب. لقد كان يزرع أشجار البلوط. سألته إذا كان يملك هذه الأرض، أجاب بالنفي. سألته إذا كان يعلم من يملك هذه الأرض، قال أنه لا يعلم. افترض أن الأرض ملك للعامة أو ربما ملك لشخص لا يهتم بها. لم يقلقه أمر معرفة مالكي الأرض. وبهذه الطريقة قام بزراعة مائة حبة بلوط بعناية فائقة.
بعد أن تناولنا الطعام في الظهيرة، شرع مجدداً في تصنيف الحبوب. ربما كنت ملحاً في أسئلتي لأنه أجاب عنها. مرت عليه ثلاث سنوات وهو يزرع الأشجار في هذه العزلة ووصل عدد الأشجار إلى مائة ألف شجرة. نمت من هذه الأشجار عشرون ألف فقط. كان يتوقع أن يفقد نصف هذا العدد بسبب القوارض أو بسبب مفاجئات الطبيعة. أي أن هذا المكان المقفر أصبح فيه عشرة آلاف شجرة، حيث لم يكن هناك أي شيء. عند هذه النقطة، تبادر في ذهني فجأة كم يبلغ هذا الرجل من العمر. يبدو انه أكبر من خمسين عاماً، أخبرني أنه يبلغ من العمر خمسة وخمسين. اسمه إلزيار بوفييه. كان يملك مزرعة في الوادي. كان قد أكمل حياته. فقد ابنه الوحيد وتلته أمه. ذهب إلى هذا المكان المنعزل حيث كان قانعاً وراضياً بحياته المملة بصحبة أغنامه وكلبه. خلص الرجل إلى أن هذه البلاد تموت بسبب قلة الأشجار. وأضاف أنه نظراً إلى أنه ليس لديه أمور هامة، قرر أن يعالج هذا الأمر.
ولأنني في هذا الوقت كنت أعيش حياة منعزلة بالرغم من صغر سني علمت أن قلب شخص منعزل يجب أن تتعامل معه برقة. بالرغم من ذلك، ارتكبت خطأً. لأنني وبسبب صغر سني لم املك إلا أن أتخيل المستقبل تبعاً لنفسي ولسبب بحثي عن السعادة. أخبرته انه في غضون ثلاثين عاماً، ستصبح أشجار البلوط العشرة آلاف رائعة المظهر. أجاب الرجل ببساطة أن الله لو أعطاه العمر سوف يقوم بزراعة الكثير من الأشجار لدرجة أن الأشجار العشرة آلاف سوف تصبح مثل نقطة في بحر في خلال هذه الثلاثين عاماً.
بالإضافة إلى ذلك، كان يقوم بتجربة استزراع أشجار الزان، وكان لديه مشتل به شجيرات نبتت من بذور الزان. لقد كانت الشجيرات رائعة، وكان قد أحاطها بسياج من السلك كي يحميها من أغنامه. لقد كان يفكر أيضاً في زراعة أشجار البتولا في المنخفض الذي قال عنه أن الرطوبة فيه تبعد بضعة أمتار عن سطح الأرض. افترقنا في اليوم التالي.
في العام التالي اندلعت حرب عام 1914 (الحرب العالمية الأولى) والتي حاربت فيها لمدة خمسة سنوات. لا يملك جندي المشاة الوقت كي يفكر في الأشجار. وللحق لم يدوم الصراع معي طويلاً، حيث لم يعدو الأمر كونه هواية مثل جمع الطوابع وقد نسيت الأمر.
بعد تسريحي من الجيش، وجدت نفسي لا أملك إلا مكافئة تسريح ضئيلة، إلا أنني كان لدي رغبة جامحة كي أستنشق هواءً نقياً. وبدون أي خطة – إلا هذه – تتبعت مساري عبر هذه المنطقة المقفرة.
لم تتغير المنطقة. إلا أنني رأيت خلف القرية الميتة نوعاً من الغيوم ذات اللون الرصاصي يغطي المرتفع مثل البساط. ومنذ الليلة الماضية، ظللت أفكر في الراعي زارع الأشجار، قلت لنفسي ’عشرة آلاف شجرة بلوط تشغل مساحة كبيرة جداً‘.
لقد شهدت موت العديد من البشر في السنوات الخمس الماضية ولم أتخيل بسهولة موت إلزيار بوفييه، حتى بالرغم من أن المرء في سن العشرين يظن أن كل من تخطى الخمسين عاماً يعد كهلاً ليس لديه أي شيء سوى انتظار الموت. لم يتوفى الرجل. بل انه على العكس كان خفيف الحركة. وكان قد أبدل مهنته. كان لديه أربعة أغنام فقط، ومائة خلية نحل. لقد تخلص من الأغنام لأنها كانت تشكل خطراً على زراعاته. قال الراعي لي أنه لم يقلق مطلقاً بسبب الحرب (وقد أدركت ذلك بمفردي). لقد استمر في الزراعة بهدوء.
كان عمر أشجار البلوط التي زرعت عام 1910 عشرة سنوات الآن وكان طولها أكبر من طولي وطوله. لقد كان المنظر مبهراً. احتبست الكلمات في حلقي بالفعل بالإضافة إلى أن الراعي لا يتكلم فقد قضينا اليوم بأكمله نتجول صامتين بين أجزاء الغابة. لقد كانت الغابة تتكون من ثلاثة أجزاء، يبلغ طول كل منها إحدى عشرة كيلومتراً وعرضها ثلاثة كيلومترات. عندما تذكرت أن كل هذا هو نتاج عمل هذا الرجل الذي أخلص فيه من روحه – دون أي مساعدة فنية – يتفهم المرء أن الإنسان يستطيع أن يكون مؤثراً مثل الرب، ليس في مجال التدمير فقط.
أكمل الرجل تنفيذ خطته، كما استنبطت من أشجار الزان التي وصل طولها إلى ارتفاع كتفي وتمتد حتى مرمى البصر. كانت أشجار البلوط كثيفة ووصلت في نموها إلى مرحلة تكون فيها بمأمن من القوارض، ولو تأملنا أخطار الطبيعة لوجدنا أن الأمر يحتاج إلى إعصاراً كي يدمر هذا العمل. رأيت أدغالاً من شجر البتولا يبلغ عمرها خمسة سنوات أي عام 1915، العام الذي حاربت فيه في فيردون. زرع الراعي هذه الأشجار في المنخفضات التي كان يعتقد - وكان محقاً في اعتقاده – أن الماء متوافر فيها على مقربة من سطح التربة. لقد كانت تلك الأشجار فتية ومليئة بالإصرار والعزيمة.
هذا الخلق الجديد كان له آثار جانبية. لم يشغل الرجل باله بهذه الآثار، كل ما فعله هو انه ببساطة أكمل مهمته. عندما نزلت إلى القرى، رأيت الماء يتدفق في أغادير لم يكن بها ماء من قبل حسبما أذكر. لقد كان هذا التفاعل التسلسلي من أكثر التفاعلات التي سنحت لي الفرصة لرؤيتها إثارة للإعجاب. لقد كانت هذه الأغادير في سالف الزمان يجري بها الماء . كانت بعض القرى البائسة التي ذكرتها قد بنيت على أماكن بعض المستعمرات الجالورومانية القديمة والتي لا زال بها بعض الآثار والتي نقب عنها علماء الآثار. لقد وجدوا أدوات لصيد السمك في أماكن في القرن العشرين تحتاج أن تبني فيها صهاريج كي تحصل على القليل من الماء.
قام الهواء بنثر بعض البذور. وبعد عودة الماء للتدفق مرة أخرى، عادت نباتات الصفصاف والأعشاب والمروج والحدائق والأزهار للنمو مرة أخرى وعاد معها سبب للحياة.
حدث هذا التغير ببطء شديد مما جعل الأمر مسلماً به في الحياة اليومية. لاحظ الصيادون الذين يتسلقون المرتفعات بحثاً عن الأرانب والخنازير البرية نمو الأشجار الصغيرة إلا أنهم ارجعوا ذلك إلى فلتات الطبيعة. وبالتالي لم يتدخل أي شخص في عمل هذا الرجل. لو ساورهم الشك في ما يفعله الرجل، لتدخلوا في عمله. لقد كان فوق مستوى الشبهات. من يتخيل، في القرى أو الإدارات، مثل هذه المثابرة بهذا الكرم الرائع؟ بدءاً من عام 1920، كنت أزور إلزيار بوفييه سنوياً. لم أره مطلقاً محبطاً أو يساوره الشك. ولازال ماضياً في عمله، ولا يعلم أحد إلا الرب إذا كان الرب نفسه هو الذي قد دفعه نحو ذلك! لم أحتسب لحظات غضبه. إلا أن المرء يستطيع تخيل بسهولة أنه من أجل تحقيق مثل هذا النجاح يجب أن يتغلب الإنسان على المحن، وكي يضمن الانتصار على هذه الآلام يجب أن يحارب اليأس. قام الرجل بزراعة أكثر من عشرة آلاف شجرة قيقب في عام واحد وماتت كلها. في العام التالي، تخلى عن فكرة زراعة أشجار القيقب وعاد إلى زراعة أشجار الزان التي كانت تنمو بصورة أفضل من أشجار البلوط.
كي تُكوِّن رأياً أفضل عن هذه الشخصية الاستثنائية، يجب أن لا تنسى أنه قام بكل ذلك وحيداً، لقد كان وحيداً تماماً للدرجة التي جعلته يفقد القدرة على التحدث في آخر أيامه؛ أو ربما وجد أنها غير ضرورية؟
في عام 1933، قام حارس غابات مندهش بزيارته. هذا الموظف أمره ألا يشعل ناراً بالخارج كي يحافظ على نمو هذه الغابة الطبيعية. قال هذا الرجل الساذج أنه هذه هي المرة الأولى التي تنمو فيها غابة من تلقاء نفسها. في هذا الوقت، اعتاد الرجل أن يزرع أشجار الزان على بعد أثنى عشر كيلومتراً من منزله. وكي لا يضطر للرجوع إلى منزله كل مساء حيث أن عمره خمسة وسبعين عاماً الآن فكر في بناء كابينة صغيرة بجوار المكان الذي يزرع فيه. بالفعل قام بذلك في العام التالي.
في عام 1935، قام وفد إداري مفوض بزيارة الغابة الطبيعية لفحصها. كان حاضراً موظفاً رفيع الشأن من جمعية الغابات الوطنية وممثل منتخب و فنيين. قيل العديد من الكلمات عديمة الجدوى وتم الاتفاق على فعل شيء، ولحسن الحظ لم ينفذ أي شيء عدا أمر واحد: وضع الغابة تحت رعاية الدولة وتم منع صناعة الفحم الخشبي من أشجارها. لقد كان من المستحيل أن لا تُأسر بجمال هذه الأشجار الفتية المليئة بالحيوية. لقد استخدمت الغابة سحرها كي تأسر الممثل نفسه.
كان لدي صديق بين مديري إدارة الغابات والذي كان عضواً في الوفد. فسرت له سر هذه الغابة. بعد أسبوع، قمنا بزيارة إلزيار بوفييه. وجدناه يعمل على بعد عشرين كيلومتراً من مكان التفتيش. لم يكن هذا المدير صديقي هباء، لأنه يعلم قيمة الأشياء جيداً. كان يعلم الوقت الذي يلتزم فيه الصمت. قدمت للجميع بعضاً من البيض الذي أحضرته على سبيل الهدية. تشاركنا هذه الوجبة السريعة وقضينا ساعات عديدة في تأمل صامت للمكان من حولنا.
كانت المنطقة التي أتينا منها تغطيها أشجاراً يبلغ ارتفاعها بين ستة وسبعة أمتار. لقد تذكرت حال هذه المنطقة في عام 1913، لقد كانت صحراء جرداء. منح العمل الهادئ والمتواصل وهواء الجبل النقي والحياة البسيطة وفوق كل ذلك هدوء روحه الراعي صحة وافرة تقريباً. لقد كان الراعي بمثابة رياضياً خاصاً بالرب. تساءلت كم عدد الهكتارات الإضافية التي سيغطيها بالأشجار.
قبل أن نرحل، اقترح صديقي اقتراحاً يخص بعض الأشجار التي قد توفر بيئة معيشة صحية في هذه المنطقة. لم يصر الرجل على اقتراحه، حيث قال لي لاحقاً ’لم أصر لأن هذا الرجل يعلم الكثير عن هذا الأمر أكثر مني‘. بعد ساعة أخرى من المشي، بعد أن فكر في الأمر مليا قال ’هذا الرجل يعلم الكثير عن هذا الأمر أكثر من العالم بأكمله، لقد وجد طريقة عظيمة كي يصبح سعيداً!‘.
بفضل هذا المدير، تم حماية هذه الغابة ومن بعدها سعادة هذا الرجل. لقد عين ثلاثة حراس كي يفرضوا الحماية على الغابة وأرعبهم كي لا يقبلوا أي نوع من الرشوة من أي شخص.
تعرض هذا العمل للخطر المحقق فقط أثناء حرب 1939 (الحرب العالمية الثانية). حيث كانت السيارات التي تعمل بمولدات الغاز يكون وقودها الفحم الخشبي أو الخشب ولم يكن هناك ما يكفي من الخشب. بدأ المسئولين في قطع أخشاب البلوط التي زرعت في عام 1910، إلا أن المنطقة كانت بعيدة جداً عن الطرق المعبدة وبالتالي فشل هذا الأمر لارتفاع تكلفته. تم التخلي عن الفكرة. لم يعلم الراعي أي شيء عن ذلك. لقد كان على بعد ثلاثين كيلومتراً من هذا المكان، يكمل مهمته بسلام متناسياً هذه الحرب مثلما تناسى الحرب العالمية الأولى.
رأيت إلزيار بوفييه للمرة الأخيرة في يونيو 1945. كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت سبعة وثمانين عاماً. رجعت مجدداً إلى الصحراء إلا أن حالة المنطقة السابقة التي كانت مهدمة بسبب الحرب تغيرت حيث كان هناك حافلة بين وادي الديورانس والجبال. وبسبب هذه الوسيلة السريعة للتنقل علمت أنني لن أستطيع تمييز المعالم التي عرفتها خلال جولاتي السابقة. ويبدو أن الطريق جعلني أمر بمناطق جديدة. كان أسم القرية هو الدليل الوحيد الذي أكد لي أنني على الطريق الصحيح، إلى المكان الذي كان مهدماً وفي حالة يرثى لها. تركت الحافلة في فيرجون.
في عام 1913، كانت هذه القرية بها عشرة أو أثنى عشرة منزلاً ويقطنها ثلاثة أشخاص. كان هؤلاء الأشخاص همجيين ويبغضون بعضهم البعض ويعيشون على الصيد باستخدام المصائد: كانوا يعيشون في ذات الحالة البدنية والأخلاقية التي كان يعيشها البشر قبل التاريخ. انتشرت نباتات القُرَّاص في المنازل المهجورة انتشاراً كبيراً. كانت المنازل في حالة يرثى لها. لم يكن لديهم إلا انتظار الموت، موقف يجعل المرء بالكاد ميالاً إلى الفضيلة.
تغير كل شيء، حتى الهواء نفسه. فبدلاً من الرياح العاصفة الوحشية الجافة التي قابلتني من قبل، يوجد نسيم لطيف محمل بروائح عطرية يهب بلطف. سمعت صوتاً يشبه صوت الماء آتياً من المرتفعات: لقد كان حفيف الريح في الغابات. وأخيراً وبطريقة تثير الدهشة سمعت صوت ماء حقيقي تتساقط في حوض. رأيت بالفعل أن هناك ينبوع (فسقية) وكان الينبوع ممتلئ، بالإضافة إلى ذلك قام شخص ما بزراعة شجرة ليم (ليمون حامض) بالقرب من الينبوع وهو الأمر الذي أثر في كثيراً، والتي كانت تبلغ من العمر أربعة أعوام تقريباً وكانت كثيفة الأغصان، رمز لا جدال فيه للانبعاث من جديد.
لقد أظهرت فيرجون آثار أعمال صيانة ومبعثها الأمل. لقد عاد الأمل من جديد. قام شخص ما بإزالة الخرائب وأزال الأجزاء المتهدمة من الجدران وأعاد بناء خمسة منازل. أصبح عدد قاطني هذه القرية ثمانية وعشرين شخصاً مشتملين على أربعة أسر صغيرة. كانت المنازل الجديدة التي طليت بالجير فقط محاطة ببساتين حيث تنمو الخضروات والأزهار والكرنب والورود والكراث والكرفس وشقائق النعمان جنباً إلى جنب بطريقة مرتبة. لقد أصبح المكان محبباً للنفس يدعوك إلى أن تحب العيش فيه.
من هنا أكملت طريقي على الأقدام. كانت الحرب قد انتهت منذ فترة قصيرة، ولم تستعد الحياة كل رونقها بعد إلا أن لازاروس قد بعث من القبر. فعلى حواف الجبال رأيت حقول شعير وفي أسفل الوديان الضيقة كان هناك مراعي خضراء.
في أقل من ثماني سنوات مضت منذ آخر زيارة، أصبحت المنطقة كلها تتألق بالصحة والرخاء. وبدلا من الخرائب التي رأيتها عام 1913، وجدت مزارع أنيقة طليت جدرانها بعناية مما يشير إلى حياة سعيدة ومريحة. جرى الماء في المصادر القديمة التي غزاها المطر والثلج الذين احتجزتهما الغابات. تم حفر قنوات للحفاظ على هذا الماء. فاضت الينابيع بجوار كل مزرعة في بساتين من الأشجار كي تروي مساحات منبسطة من النعناع الناضر. أعيد بناء القرى بأكملها. أتى أشخاص آخرين من السهول حيث ارتفعت أسعار المنازل واستقروا في المنطقة حاملين معهم روح الشباب والحركة وروح المغامرة. ترى في الشوارع رجال ونساء ممتلئين بالصحة وأولاد وبنات يستطيعون الضحك، هؤلاء الأولاد والبنات استكشفوا طعماً آخر لمهرجانات الريف. يدين أكثر من عشرة آلاف شخص بسعادتهم إلى إلزيار بوفييه من بينهم السكان القدامى الذين أصبح من الصعب تمييزهم من بين السكان الجدد لأنهم يعيشون بهدوء بينهم.
عندما يخطر ببالي أن شخص واحد كان يعمل بواسطة مصادره البدنية والروحية فقط كان كافياً كي يحول هذه الصحراء إلى أرض كنعان، أتوصل إلى اعتبار أن الحالة الآدمية رائعة في النهاية. لكن حينما أقدر كل النبل الراسخ في روحه وسماحة النفس ذات العزم الضروريتين للوصول إلى هذه النتيجة، أشعر باحترام عميق لهذا القروي الغير متعلم الذي قام بعمل مشابه لأعمال الآلهة.
توفي إلزيار بوفييه بسلام في عام 1947 في ملجأ خيري في بانون.
لأن صاحب حقوق النشر طرحه في الملكية العامة.