► | العدد الثالث الصادر يوم الاثنين 19 جمادى الثانية 1352 من مجلة الصراط السوي التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة قسنطينة. | ☰ |
قرأنا في جريدة "النداء" البيروتية الغراء أن الأستاذ الدكتور حسين كتب في جريدة "كوكب الشرق" المصرية فصلا جاء فيه:
".... لقد خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان، جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب (كذا!) والفرنسيين، وجاءتهم من الإنكليز أخيرا.... "
فحشر الدكتورُ طه العربَ في جملة الظالمين، الذين ظلموا مصر وحكموها بالبغي والعدوان. ولم يكد ينتشر طعنه هذا على العرب، حتى قام شباب العربي في سوريا (بلبنانها وفلسطينها) وفي العراق وفي سائر بلاد العرب يستنكرون على طه ويدعون إلى تحريق كتبه، وتظاهروا ضده في الأسواق والطرقات. وكان لهذه الحوادث رد فعل في مصر فقام بعض الأحداث من الذين يدينون بالوثنية الفرعونية يدافعون عن طه حسين بحجة أنه من دعاة "الوثنية الفراعنة" أيضا. ونشرت جريدة "النداء" لواحد من هؤلاء الشبان مقالا يدافع فيه عن طه وعن الوثنية الفرعونية، ويزعم أن هذه "الفرعونية" هي خير لمصر من إسلامها وعروبتها، ونسي هذا الشاب المحامي أن شباب العرب قاموا على طه لا لأنه من دعاة "الفرعونية" فقط، بل لأنه أيضا تنقّص العرب وحط من كرامتهم، وادعى أنهم اضطهدوا مصر وأذاقوها الخسف والعذاب، لا أنهم جاءوها بالرحمة والهدى.
ولو كنا معشر العرب كما كان آباؤنا "أباة ضيم" نغضب للكرامة ولا نرضى بالهوان، لقمنا بهذا العمل الواجب قبل اليوم، ولعلّمنا هؤلاء الشعوبيين كيف يقفون عند أقدارهم لا يتجاوزونها، وكيف يحترموننا.
للأستاذ طه حسين غاية واحدة، يسعى إليها من يوم ظهر على المسرح إلى هذا اليوم، وهي محاربة العروبة والإسلام، لا يفتأ يعمل لها، ولا يفتر في طلبها، فهو شعوبي ماكر يعرف كيف يستر "شعوبيته"، ويعرف كيف يخفي غرضه وهواه عن كثير من شبابنا الأغرار، الذين لا يكادون يدركون مراميه البعيدة إلا ما كان منها مثل هذا الطعن الصريح المكشوف. لقد أوتي طه حسين كلّ وسيلة من وسائل الفتنة والإغواء، فأسلوبه سهل جذاب، وموضوعاته التي يكتب فيها هي الحب والهوى، وما إلى الحب والهوى مما يشوّق الشباب ويستهويه، وهو يدخل على الشبان لا من باب العقل والإدراك، ولكن من باب العواطف والشهوات. يقودهم من أهوائهم وشهواتهم إلى حيث يريد لهم من الهلاك والردى، إلى حيث يسلبهم دينهم وإيمانهم، ويستل منهم النخوة والاعتزاز بالعروبة، كما تستل الشعرة من العجين، ثم يملأ نفوسهم ظلمة وكراهية لآبائهم ولعروبتهم، ويجعلهم يهيمون حبا وغراما بالغرب، وبكل شيء غربي، وينفرون من العرب والإسلام، ومن كل ما هو عربي إسلامي.
وبالجملة، فالأستاذ طه حسين من أكبر أعوان الاستعمار على احتلال عقول أبناء العرب، وهو من أقدر العاملين على توجيه شبابنا في الاتجاهات التي يريدها لهم غلاة المستعمرين.
لقد درّس الأستاذ طه حسين كثيرا، وخطب وحاضر كثيرا، وكتب كثيرا، ولكن هل تجدون له كلمة واحدة أثنى بها على العرب، أو هل اعترف لهم يوما من الأيام بمكرمة من المكارم ومنقبة من المناقب؟ الاستعمار اليوم يعتقد أن الإسلام والعرب جزءان لا يمكن انفصال أحدهما عن الآخر؛ أي يعتقد المستعمرون أن العرب لا تقوم لهم قائمة إلا إذا بعث دين الإسلام من جديد، وأن الإسلام لا يبعثه من جديد إلا العرب أنفسهم، ولذلك فهم يسعون جهدهم لمحو العروبة والإسلام معا، يعاونون المبشرين المسيحيين بالأموال والنفوذ على تكفير أطفال المسلمين وتنصيرهم، واخترعوا القوميات المحلية في بعض بلدان الإسلام مناهضة للعروبة ومحاربة لها.
ومن المؤسف حقا أن كثيرا من العرب لم يتفطنوا لهذا المعنى، فهم حينما أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" وطعن فيه على القرآن، ونسب فيه إلى الرسول ﷺ التحيل ونحو ذلك، سكتوا ولم يقولوا شيئا، ظنا منهم أن الأمر لا يعني إلا المسلمين "الجامدين"، بل كثير من شباب العرب وصحافة العرب نصروا طه ودافعوا عنه باسم "حرية الفكر"، ولم يعلموا أن كتاب "في الشعر الجاهلي" إنما هو طعنة نجلاء في صميم العروبة؛ لما هو تكذيب بآيات الله.
ورسالة "قادة الفكر" إذا أنت قرأتها علمت كيف يتجاهل طه حسين العرب، ويحذفهم جملة واحدة من قائمة المفكرين، ويهملهم إهمالا تاما كأن لم يكونوا "قادة الفكر" في الدنيا قرونا طوالا.
وكتاب "المجمل" في الأدب العربي قد اشترك طه في تأليفه، وقد مُلئ هذا الكتاب شكا وريبا بدعوى أنه يعلم الطالب كيف يفكر، وكيف يبحث. وليس لهذا الكتاب إلا نتيجة واحدة يحصل عليها الطالب عندما يفرغ من قراءته؛ وهي أنه لا قيمة لهذا الأدب العربي، وليس هو شيئا مذكورا، وأنه لا ثقة بالأدباء العرب في كل ما لهم من الروايات والأسانيد. ومعلوم أن كتابا كهذا "المجمل" أقل ما فيه أنه يفقد الطالب أهمّ ركن من أركان الأدب الرفيع، وهو "الذوق" الصحيح، والذوق لا ينال بالشك والريب، ولكن بالمحاذاة والتقليد. وإذا كان أكبر شرط لطالب العلم أن يتمرن على البحث والتفكير، فإن أعظم واجب على طالب الأدب أن يتلقى الأدب من طريق الإيحاء والتلقين، وتلك هي سبيل "الذوق" الصحيح السليم لا غيرها.
وهذان الكتابان الأخيران قد قررتهما وزارة المعارف في مصر، وفرضتهما على طلاب المدارس الثانوية. وليت شعري كيف يتفق ما في هذين الكتابين مع ما تريده الحكومة المصرية في دروس التربية الوطنية من الطلبة أن يشربوا في قلوبهم حب الوطن واحتراب الآباء والأجداد.
لقد أحسنَ "صدقي باشا" إذ عزل الدكتور طه حسين من منصب عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية، لأنه بهذا العزل قد استراح العرب واستراح المسلمون من شر كثير. وسوف يحتفظ الغرب والمسلمون "لدولة صدقي باشا" بهذه اليد البيضاء أبد الدهر، ولكننا نتمنى على حكومة مصر أن تحذف جميع كتب طه من جميع مناهج التعليم. وكُتب طه كلها شعوبية ومقت.
فكتابه "في الصيف" فيه دعاية كبرى إلى التوراة وإلى تلاوتها ودراستها. وزعم أنها مورد عميق من موارد الأدب الرفيع العالي؛ ولكنه لم يقل كلمة واحدة يدعو بها إلى تلاوة القرآن، وإلى دراسته كمعجزة للفصاحة وسحر البيان. على أن رأيه هذا هو رأي باطل غير صحيح، فأدباء لبنان مثلا الذين توفروا على دراسة التوراة وتفهمها وتذوقها لم يكونوا هم المبرّزين في حلبة الأدب العربي في هذا العصر الحديث، بل إن عيبهم الوحيد هو أنهم يحتذون أسلوب الترجمة الركيك الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
سمعت كثيرا بالأستاذ مخائيل نعيمة؛ وهو من الأدباء العرب المشهورين، ومن الذين تذوقوا كل ما يراه طه حسين من الفن والجمال في التوراة والإنجيل، وأردت ذات يوم أن أقرأ له فصلا نشر في مجلة "المقتطف" فإذا هو يقول: وكان صباح، وكان مساء... ومضى في عبارات على غاية الركاكة والثقل، فوالله ما استطعت أن أقرأ ولا صفحة واحدة من المقال، ولم أدر من أين جاء بهذه التعبيرات التي أُنكرها ولا أعرفها، ثم أخذت أطالع التوراة ذات يوم، فإذا هو يقتبس من "نورها ومن جمالها!"
ولا شكّ أن كثيرين من أمثالي لا يستطيعون أن يتذوقوا هذا الجمال الذي يقول طه إنه في التوراة. والأستاذ إلياس أبو شبكة هو من الأدباء المعدودين، ومن الذين تذوّقوا "جمال التوراة" ومع ذلك فهو لا عيب فيه إلا هذه العجمة النابتة التي تشيعُ في أسلوبه، والتي هي كل ما أفاد من التوراة.
وما أريد هنا أن أتتبع هفوات طه حسين فهي أكثر من تعد، وإنما أريد أن أنبه إلى شذوذه ونزقه. على أن ما في طبع طه من نزق وطيش يطغى به من حين إلى حين هو الذي جعل العرب يفطنون لشعوبيته ولعصبيته على الإسلام، وهنا ينبغي أن نقول:
إن طه لا يكتب إلا في الموضوعات التي يريدها الاستعمار وبالأسلوب الذي يريده الاستعمار، فهو لم يزد على أنه ناشر للآراء والأفكار الوبيئة التي يحب الاستعمار أن تشيع في الذين آمنوا، فالذين اخترعوا الدعوة إلى "الفرعونية" إنما هم غلاة المستعمرين. وكيف يدّعي الوطنية مصري يدعو إلى "الفرعونية" التي خلقها الاستعمار وروّج لها؟ ومتى كانت الوطنية هي اعتناق الفكرة التي يدعو إليها المستعمرون؟
إنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت أنشأت لجنة للأدب، وأسندت أمرها إلى هذا العاجز الضعيف؛ فعزمنا أن نصدر بيانا دوريا بالكتب التي ينبغي أن يقرأها أبناء هذه البلاد العربية، وبيانا آخر دوريا بالكتب التي ينبغي أن يحذرها أبناؤنا. وربما نشرنا ذلك قريبا غير بعيد. [1]
ولكن هل للصحافة العربية وللمعلمين العرب أن يدعوا إلى العروبة ومكارمها، وإلى الكتب التي تدعو إلى العروبة ومكارمها؟ وهل لنا أن نكف عن التنويه بالشعوبيين؟ وهل لنا أن نحترم أنفسنا فلا نقرأ كتابا يطعن على العرب؟ [2] إن العرب هم الذين أغروا طه حسين بنقصهم، فقد أشادت به صحفهم وصفقوا له تصفيق الاستحسان، فأمعن هو في امتهانهم والطعن عليهم.
إن اليهود لا يقرءون كتابا فيه الطعن عليهم ولو على طريق التلويح البعيد، فلماذا نحن لا نعامل بالرفض والإهمال كلّ كاتب أو كلّ كتاب فيه شعوبية علينا، إن لم نفعل ذلك احتفاظا بكرامتنا واحتراما لأنفسنا، أفلا نفعل ذلك على الأقل اقتداء باليهود؟ [3]
- وهران
- محمد السعيد الزاهري
هامش