→ باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين | الخصائص المؤلف: ابن جني |
باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب ← |
وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره. فمن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين " ولو " جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت " أو " إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين. وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس " أو " بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى " أو ". وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً وكأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وكأنه - والله أعلم - قال: لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى " أو " في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال " أو " في معنى الواو ألا تراه كيف قال: وسواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو. وعليه قول الآخر: فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله وقد يقبل الضيم الذليل المسير أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح. ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزاً لسكونها. وقد ذكرنا ذلك. فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضاً: صبيان وصبية " وقد " كان يجب - لما زالت الكسرة - أن تعود الياء واواً إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها كانت أصلاً. وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحساناً وإيثاراً لا عن وجوب علة ولا قوة قياس فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قوياً ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثراً. ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلاً: منا ومررت برجل مني وعندي رجل: منو فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا: ضرب منٌ منا كقولك: ومن ذلك قولهم: أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلباً للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من الأسماء التي ليست جمعاً كرباض وحياض ولا مصدراً جارياً على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححاً نحو: خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظاً إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط. نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر. وذلك قول بعضهم في صوان: صيان وفي صوار: صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها وذلك قولهم فيه: لياح. وشجعه على ذلك شيئاً أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضاً ليس بحقيقة موجب. قال: وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب أيضاً مع الفتح وإن لم يكن موجباً غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجاً عنه إليه ولم نسو بينهما فيه. فاعرف ذلك. وقريب من ذلك قول الشاعر: ولقد رأيتك بالقوادم مرة وعلي من سدف العشي رياح قياسه رواح لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء - نحو ريح ورياح ومريح ومستريح - وكانت الياء أيضاً عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن. ومن ذلك قلبهم الذال دالاً في " ادكر " وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك: تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل: من بعض ما يعتري قلبي من الدكر ومن ذلك قولهم: الطنة - بالطاء - في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان كما جاءت الدكر على الأكثر. ومن ذلك حذفهم الفاء - على القياس - من ضغة وقحة كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا: الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة " لا أن " فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب إليه محمد بن يزيد. ومن ذلك قولهم: بأيهم تمرر أمرر فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقاً إلى تعليق حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط. فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا: غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها. فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولاً في ذلك على حرف الجر. وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيهم تمر وغلام من تضرب فأما قولهم: أتذكر إذ من يأتنا نأته فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة. فإن قيل: فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر قيل: لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك حالتان متدافعتان. فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم والظرف في قولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به. ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيراً من أحكامه: من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها صار في ذلك إلى حكمه. وذلك قولك: ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في " أحد " من العموم والشياع إلى " الحلقة ". ولو قلت: قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز. ومن التدريج في اللغة: إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية. وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع: قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت: سويئل وثويئر. وليست كذلك اللام إذا انقلبت همزة عن أحد الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير: كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء وخلاء بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء. وتقول أيضاً في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك: أكسية وأقضية. وتقول في سلاء وخلاء: أسلئة وأخلئة فاعرف ذلك. لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئاً مرتجلاً أعدت الحرفين البتة. وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول: قومم وبيعع. ولم تقل: قأمم ولا بأعع لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال " فعل " لقلت: دوم وقول لا غير. فإن قلت: ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما كما أقررتها في تحقيرهما قيل: البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه. قال أبو علي - رحمه الله - في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول: مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول. وليس كذلك الجمع لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد ألا تراك تقول في تكسير قائم: قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ وسألت مرة أبا علي - رحمه الله - عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه قال تقول: سريحين لقولك: سراحين ولا تقول: عثيمين لأنك لا تقول: عثامين ونحو ذلك. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد. فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد: هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه! ومن التدريج قولهم: هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا: هذا حضرَموت. ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعاً صياغة المفرد فقالوا: هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور. ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة وديم واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم. أنشد أبو زيد: هو الجواد ابن الجواد ابن سبل إن دوموا جاد وإن جادوا وبل ورواه أيضاً " ديموا " بالياء. نعم ثم قالوا: دامت السماء تديم فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع وإن كان من الواو. فإن قلت: فلعله فعل يفعل من الواو كما ذهب الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه قيل: حمله على الإبدال أقوى ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديماً فهذا مجتذب إلى الياء مدرج إليها مأخوذ به نحوها. فإن قلت: فلعل الياء لغة في هذا الأصل كالواو بمنزلة ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضوراً. قيل: يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع الكافة على قولهم: الدوام وليس أحد يقول: الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة. ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: " ما هت الركية تميه ميهاً " مع إجماعهم على أمواه وأنه لا أحد يقول: أمياه. ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح: أرياح حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحاً أسهل قليلاً لأنه قد جاء عنهم قوله: وعلي من سدف العشي رياح فهو بالياء لهذا آنس. وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها فهم لا يزالون تسبباً إليها ونجشاً عنها واستثارة لها وتقرباً ما استطاعوا منها. ونحو هذه الطريق في التدريج: حملهم علباوان على حمراوان ثم حملهم رداوان على علباوان ثم حملهم قراوان على رداوان وقد تقدم ذكره. وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى. ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو: قمت يوم قمت وأجلس حين تجلس شبهوا ظرف المكان في " حيث " فتدرجوا من " حين " إلى " حيث " فقالوا: قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.