→ باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب | الخصائص المؤلف: ابن جني |
باب في تركب اللغات ← |
من ذلك قول لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال وقال: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها وقال: فظلت لدى البيت العتيق أُخيلُهو ومطواي مشتاقان لهْ أرقان فهاتان لغتان: أعني إثبات الواو في " أخيلهو " وتسكين الهاء في قوله " له " لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في " له " عن حذف لحق بالصنعة الكلمة لكن ذاك لغة. ومثله ما رويناه عن قطرب: وأشرب الماء ما بي نحوهو عطش إلا لأن عيونهْ سيل واديها وأما قول الشماخ: له زجل كأنه صوت حا إذا طلب الوسيقة أو زمير فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة فينبغي أن يكون ذلك ضرورة " وصنعة " لا مذهباً ولغة. وكذلك يجب عندي وينبغي ألا يكون لغة لضعفه في القياس. ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ولا مذهب الوقف. أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس. وأما الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن لا لغة. وأنشدني الشجري لنفسه: وإنا ليرعى في المخوف سوامنا كأنه لم يشعر به من يحاربه فاختلس ما بعد هاء " كأنه " ومطل ما بعد هاء " بِهىِ " واختلاس ذلك ضرورة وصنعة على ما تقدم به القول. ومن ذلك قولهم: بغداد وبغدان. وقالوا أيضاً: مغدان وطبرزل وطبرزن. وقالوا للحية: أيم وأين. وأعصر ويعصر: أبو باهلة. والطِنفِسة والطُنفُسة. وما اجتمعت فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به. فإذا ورد شيء من ذلك - كأن يجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصيحتان - فينبغي أن تتأمل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال كثرتهما واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها فلحقت - لطول المدة واتصال استعمالها - بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة والكثيرته هي الأولى الأصلية. نعم وقد يمكن في هذا أيضاً أن تكون القلي منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه وإن كانتا جميعاً لغتين له ولقبيلته. وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه ألا ترى إلى حكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهار وأن أبا العباس قال له: ما أردت فقال: أردت " سابقٌ النهار " قال أبو العباس فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. فهذا يدلك على أنهم قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه وذلك لاستخفافهم الأضعف إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة إذ لولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة. وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفاً منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر وإن كان الآخر في وجه من القياس جائزاً. وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد نحو قولهم: هي رَغوة اللبن ورُغوته ورِغوته ورُغاوته ورِغاوته ورُغايته. وكقولهم: الذَرُوح والذُرُّوح والذِّرِّيح والذُرَّاح والذُرَّح والذُرنوح والذُرحرح والذُرَّحرح روينا ذلك كله. وكقولهم: جئته من علُ ومن عِل ومن علا ومن عَلوُ ومن عَلوَ ومن عَلو ومن عُلُوّ ومن عال ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا: من علٍ. وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة. وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا. ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما: الصقر " بالصاد " وقال الآخر: السقر " بالسين " فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه. فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر. أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها. وهكذا تتداخل اللغات. وسنفرد لذلك باباً بإذن فقد وضح ما أوردنا بيانه من حال اجتماع الللغتين أو اللغات في كلام الواحد من العرب.