هذا موضع كان أبو حنيفة - رحمه الله - يراه ويأخذ به. وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله مما يقتضي التغيير فإن أنت غيرت صرت أيضاً إلى مراجعة مثل ما منه هربت. فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أول رتبة ولا تتكلف عناء ولا مشقة. وأنشدنا أبو علي -رحمه الله- غير دفعة بيتاً مبني معناه على هذا، وهو:
رأى الأمر يفضي إلى آخر | فصير آخره أولا |
وذلك كأن تبني من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير: قواءة، وعلى التأنيث: قواوة، ثم تكسرها على حد قول الشاعر:
موالي حلف لا موالي قرابة | ولكن قطينا يحلبون الأتاويا |
-جمع إتاوة - فيلزمك أن تقول حينئذ: قواوٍ فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطرف.
ووجه ذلك أن الذي قال " الأتاويا " إنما أراد جمع إتاوة وكان قياسه أن يقول: أتاوى كقوله في علاوة وهراوة: علاوى وهراوى غير أن هذا الشاعر سلك طريقاً أخرى غير هذه. وذلك أنه لما كسر إتاوة حدث في مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلاً من ألف فعالة كهمزة رسائل وكنائن فصار التقدير به إلى أتاء ثم تبدل من كسرة الهمزة فتحة لأنها عارضة في الجمع واللام معتلة كباب مطايا وعطايا فتصير حينئذ إلى أتاءى ثم تبدل من الياء ألفاً فتصير إلى أتاءا ثم تبدل من الهمزة واواً لظهورها لاماً في الواحد فتقول: أتاوى كعلاوى. وكذا تقول العرب في تكسير إتاوة: أتاوى. غير أن هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته فاحتاج إلى قرار الكسرة بحالها لتصح بعدها الياء التي هي روي القافية كما معها من القوافي التي هي "الروابيا" و "الأدانيا" ونحو ذلك فلم يستجز أن يقر الهمزة العارضة في الجمع بحالها إذ كانت العادة في هذه الهمزة أن تعل وتغير إذا كانت اللام معتلة فرأى إبدال همزة أتاء واواً ليزول لفظ الهمزة التي من عادتها في هذا الموضع أن تعل ولا تصح لما ذكرنا فصار " الأتاويا".
وكذلك قياس فعالة من القوة إذا كسرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ثم تبدل من الهمزة الواو كما فعل من قال "الأتاويا" فيصير اللفظ إلى قواو. فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحد وقلت: أهمز كما همزت في أوائل لزمك أن تقول: قواء ثم يلزمك ثانياً أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث "الأتاويا" فتعاود أيضاً قواو ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ثم من الواو الهمزة ثم كذلك ثم كذلك إلى ما لا غاية. فإن أدت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة على أول رتبة منه وألا تتجاوز إلى أمر ترد بعد إليها ولا توجد سبيلاً ولا منصرفاً عنها.
فإن قلت: إن بين المسألتين فرقاً. وذلك أن الذي قال "الأتاويا" إنما دخل تحت هذه الكلفة والتزم ما فيها من المشقة وهي ضرورة واحدة وأنت إذا قلت في تكسير مثال فعالة من القوة: قواو قد التزمت ضرورتين: إحداهما إبدالك الهمزة الحادثة في هذا المثال واواً على ضرورة " الأتاويا " والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاوراً آخرهما الطرف فتانك ضرورتان وإنما هي في " الأتاويا " واحدة. وهذا فرق يقود إلى اعتذار وترك.
قيل: هذا ساقط، وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغي هذا الاعتراض، ألا ترى أنه كان: كيف يكسر مثال فعالة من القوة على قول من قال " الأتاويا " والذي قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة في الجمع واواً فكذلك فأبدلها أنت أيضاً في مسألتك. فأما كون ما قبل الألف واواً أو غير ذلك من الحروف فلم يتضمن السؤال ذكراً له ولا عيجاً به فلا يغني إذاً ذكره ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفساً بأن يقر هذه الهمزة العارضة في أتاء مكسورة بحالها كما أقرها الآخر في قوله:
له ما رأت عين البصير وفوفقه | سماء الإله فوق سبع سمائيا |
وكان أبو علي ينشدنا:
. . . فوق ست سمائيا | لقال "الأتائيا" كقوله "سمائيا" |
فقد علمت بذلك شدة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة في هذا الجمع مكسورة.
وإنما اشتد ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجوداً في واحد "سمائيا" الذي هو سماء. وذلك أن في إتاوة واواً ظاهرة فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة في قوله "الأتاوى" كالعلاوى والهراوى تنبيهاً على كون الواو ظاهرة في واحدة -أعني إتاوة- كوجودها في هراوة وعلاوة، كذلك أبدل منها الواو في أتاو، وإن كانت مكسورة شحاً على الدلالة على حال الواحد، وليس كذلك قوله:
. . . فوق سبع سمائيا |
ألا ترى أن لام واحدة ليست واواً في اللفظ فتراعى في تكسيره كما روعيت في تكسير هراوة وعلاوة. فهذا فرق - كم تراه - واضح. نعم وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان: وذلك أكثر من أن يحاط به. فإذا كان كذلك لزم ما رمناه وصح به ما قدمناه.
فهذا طريق ما يجيء عليه فقس ما يرد عليك به.