هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف. إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوماً: هي من عند الله، واحتج بقوله سبحانه: «وعَلمَ آدمَ الأسماء كُلَّها»، وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه. وهذا أيضاً رأي أبي الحسن، على أنه لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه. على أنه قد فسر هذا بأن قيل: إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.
وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده، والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغة فيها أسماء، وأفعال، وحروف، وليس يجوز أن يكلم المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها: مما ليس بأسماء فكيف خص الأسماء وحدها؟ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به، جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها، ومحمول في الحاجة إليه عليها. وهذا كقول المخزومي:
الله يعلم ما تركت قتالهم | حتى علوا فرسي بأشقر مزبد |
أي فإذا كان الله يعلمه، فلا أبالي بغيره سبحانه أذكرته واستشهدته، أم لم أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أن هذا أمر خفي، فلا يعلمه إلا الله وحده، بل إنما يحيل فيه على أمر واضح، وحال مشهورة حينئذ، متعالمة. وكذلك قول الآخر:
الله يعلم أنا في تلفتنا | يوم الفراق إلى أحبابنا صور |
وليس بمدع أن هذا باب مستور، ولا حديث غير مشهور، حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده، وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به، لفشوه فيهم وكثرة جريانه على ألسنتهم.
فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب، وطيه، وستره، والبجح بذلك، والادعاء له ما لا خفاء.
قيل: هذا وإن جاء عنهم، فإن إظهاره أنسب عندهم، وأعذب على مستمعهم، ألا ترى أن فيه إيذاناً من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله، ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل به لكان مطيقاً له مقتدراً عليه، وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل به، وخور الطبيعة عن الاستقلال بمثله، ألا ترى إلى قول عمر بن أبي ربيعة:
فقلت لها: ما بي من ترقب | ولكن سري ليس يحمله مثلي |
وكذلك قول الأعشى:
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل |
وكذلك قول الآخر:
ودعته بدموعي يوم فارقني | ولم أطق جزعاً للبين مد يدي |
وأمر في هذا أظهر وشواهده أسير وأكثر.
ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحياً. وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظاً، إذا ذكر عرف به ما مسماه، ليمتاز من
غيره، وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله. بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه، كالفاني، وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد، كيف يكون ذلك لو جاز، وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه، فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم، فأومئوا إليه، وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سمة عينه أو يده، أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها، وهلم جرا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها، فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد، والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر، وعلى هذا بقية الكلام. وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية، فوقعت المواضعة عليها، لجاز أن تنقل ويولد منها لغات كثيرة: من الرومية، والزنجية، وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار، والصائغ، والحائك، والبناء، وكذلك الملاح. قالوا: ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعاً بالمشاهدة والإيماء. قالوا: والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحداً من عباده على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحو،ه والقديم سبحانه لا جارحة له، فيصح الإيماء والإشارة بها منه، فبطل عنهم أن تصح المواضعة على اللغة منه، تقست أسماؤه، قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه -سبحانه- كجوازه من عباده. ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم، كالصورة التي توضع للمعميات، والتراجم، وعلى ذلك أيضاً اختلفت أقلام ذوي اللغات، كما اختلفت أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم في المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أنني سألت يوماً بعض أهله فقلت: ما تنكر أن تصح المواضعة من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة، بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشبة أو غيرها، إقبالاً على شخص من الأشخاص، وتحريكاً لها نحوه، ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتاً يضعه اسماً له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه -عز اسمه- قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الإيماء، وهذه الإشارة، مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضاً قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه، فيقيمها في ذلك مقام يده، لو أراد الإيماء بها نحوه؟ فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه، ولم يخرج من جهته شيء أصلاً فأحكيه عنه، وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير ناقلة لساناً إلى لسان. فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف، والرقة، ما يملك علي جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا -رحمهم الله-، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله -عز وجل- فقوى في نفسي اعتقاد كونها توفيقاً من الله سبحانه، وأنها وحي.
ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا -وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهاناً، وأسرع خواطر، وأجرأ جناناً. فأقف بين تين الخلتين حسيراً، وأكاثرهما فأنكفيء مكثوراً. وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به وبالله التوفيق.