الخصائص المؤلف: ابن جني |
باب القول على الفصل بين الكلام والقول← |
الحمد لله الواحد العدل القديم. وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين. وعليه وعليهم السلام أجمعين.
هذا - أطال الله بقاء مولانا السيد المنصور المؤيد، بهاء الدولة وضياء الملة، وغياث الأمة، وأدام ملكه ونصره، وسلطانه ومجده، وتأييده وسموه، وكبت شانئه وعدوه - كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظاً له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه، واداً أن أجد مهملاً أصله به، أو خللاً أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقاً، ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقاً. هذا مع إعظامي له، وإعصامي بالأسباب المنتاطة به، واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر، وأعوده عليه بالحيطة والصون، وآخذه له من حصة التوقير والأون، وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة، فكانت مسافر وجوهه، ومحاسر أذرعه وسوقه، تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره، وتحي إلي بما خيطت عليه أقرابه وشواكله، وتريني أن تعريد كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه، وتحاميهم طريق الإلمام به، والخوض في أدنى أوشاله وخلجه، فضلاً عن اقتحام غماره ولججه، إنما كان لامتناع جانبه، وانتشار شعاعه، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنا لم نر أحداً من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبي بكر فلم يلمم فيه بما نحن عليه، إلا حرفاً أو حرفين في أوله، وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.
على أن أبا الحسن قد كان صنف في شيء من المقاييس كتيباً، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه، وكفيناه كلفة التعب به، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة ماء البشر والبشاشة علينا، حتى دعا ذلك أقواماً نزرت من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم، وتأخرت عن إدراكه أقدامهم، إلى الطعن عليه، والقدح في احتجاجاته وعلله. وسترى ذلك مشروحاً في الفصول بإذن الله تعالى.
ثم إن بعض من يعتادني، ويلم لقراءة هذا العلم بي، ممن آنس بصحبته لي، وأرتضي حال أخذه عني، سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب، وأوليه طرفاً من العناية والانصباب. فجمعت بين ما أعتقده: من وجوب ذلك علي، إلى ما أوثره من إجابة هذا السائل لي. فبدأت به، ووضعت يدي فيه، واستعنت الله على عمله، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه وهو -عز اسمه - مؤتي ذاك بقدرته، وطوله ومشيئته.