| فلما صار ود الناس خبا المؤلف: أبو الطيب المتنبي |
| مَـلومُكُما يَـجِلُّ عَـنِ المَلامِ | وَوَقعُ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ |
| ذَراني وَالفَلاةُ بِلا دَليلٍ | وَوَجهي وَالهَجيرَ بِلا لِثامِ |
| فَإِنّي أَستَريحُ بِذي وَهَذا | وَأَتعَبُ بِالإِناخَةِ وَالمُقامِ |
| عُيونُ رَواحِلي إِن حُرتُ عَيني | وَكُلُّ بُغامِ رازِحَةٍ بُغامي |
| فَقَد أَرِدُ المِياهَ بِغَيرِ هادٍ | سِوى عَدّي لَها بَرقَ الغَمامِ |
| يُذِمُّ لِمُهجَتي رَبّي وَسَيفي | إِذا اِحتاجَ الوَحيدُ إِلى الذِمامِ |
| وَلا أُمسي لِأَهلِ البُخل ضَيفاً | وَلَيسَ قِرىً سِوى مُخِّ النِعامِ |
| فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً | جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ |
| وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ | لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ |
| يُحِبُّ العاقِلونَ عَلى التَصافي | وَحُبُّ الجاهِلينَ عَلى الوَسامِ |
| وَآنَفُ مِن أَخي لِأَبي وَأُمّي | إِذا ما لَم أَجِدهُ مِنَ الكِرامِ |
| أَرى الأَجدادَ تَغلِبُها كَثيراً | عَلى الأَولادِ أَخلاقُ اللِئامِ |
| وَلَستُ بِقانِعٍ مِن كُلِّ فَضلٍ | بِأَن أُعزى إِلى جَدٍّ هُمامِ |
| عَجِبتُ لِمَن لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ | وَيَنبو نَبوَةَ القَضِمِ الكَهامِ |
| وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالي | فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ |
| وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً | كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ |
| أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائي | تَخُبُّ بِيَ المَطِيُّ وَلا أَمامي |
| وَمَلَّنِيَ الفِراشُ وَكانَ جَنبي | يَمَلُّ لِقاءَهُ في كُلِّ عامِ |
| قَليلٌ عائِدي سَقِمٌ فُؤادي | كَثيرٌ حاسِدي صَعبٌ مَرامي |
| عَليلُ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِيامِ | شَديدُ السُكرِ مِن غَيرِ المُدامِ |
| وَزائِرَتي كَأَنَّ بِها حَياءً | فَلَيسَ تَزورُ إِلّا في الظَلامِ |
| بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا | فَعافَتها وَباتَت في عِظامي |
| يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسي وَعَنها | فَتوسِعُهُ بِأَنواعِ السِقامِ |
| إِذا ما فارَقَتني غَسَّلَتني | كَأَنّا عاكِفانِ عَلى حَرامِ |
| كَأَنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتَجري | مَدامِعُها بِأَربَعَةٍ سِجامِ |
| أُراقِبُ وَقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ | مُراقَبَةَ المَشوقِ المُستَهامِ |
| وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِدقُ شَرٌّ | إِذا أَلقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ |
| أَبِنتَ الدَهرِ عِندي كُلُّ بِنتٍ | فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِنَ الزِحامِ |
| جَرَحتِ مُجَرَّحاً لَم يَبقَ فيهِ | مَكانٌ لِلسُيوفِ وَلا السِهامِ |
| أَلا يا لَيتَ شَعرَ يَدي أَتُمسي | تَصَرَّفُ في عِنانٍ أَو زِمامِ |
| وَهَل أَرمي هَوايَ بِراقِصاتٍ | مُحَلّاةِ المَقاوِدِ بِاللُغامِ |
| فَرُبَّتَما شَفَيتُ غَليلَ صَدري | بِسَيرٍ أَو قَناةٍ أَو حُسامِ |
| وَضاقَت خُطَّةٌ فَخَلَصتُ مِنها | خَلاصَ الخَمرِ مِن نَسجِ الفِدامِ |
| وَفارَقتُ الحَبيبَ بِلا وَداعٍ | وَوَدَّعتُ البِلادَ بِلا سَلامِ |
| يَقولُ لي الطَبيبُ أَكَلتَ شَيئاً | وَداؤُكَ في شَرابِكَ وَالطَعامِ |
| وَما في طِبِّهِ أَنّي جَوادٌ | أَضَرَّ بِجِسمِهِ طولُ الجِمامِ |
| تَعَوَّدَ أَن يُغَبِّرَ في السَرايا | وَيَدخُلَ مِن قَتامِ في قَتامِ |
| فَأُمسِكَ لا يُطالُ لَهُ فَيَرعى | وَلا هُوَ في العَليقِ وَلا اللِجامِ |
| فَإِن أَمرَض فَما مَرِضَ اِصطِباري | وَإِن أُحمَم فَما حُمَّ اِعتِزامي |
| وَإِن أَسلَم فَما أَبقى وَلَكِن | سَلِمتُ مِنَ الحِمامِ إِلى الحِمامِ |
| تَمَتَّع مِن سُهادِ أَو رُقادٍ | وَلا تَأمُل كَرىً تَحتَ الرِجامِ |
| فَإِنَّ لِثالِثِ الحالَينِ مَعنىً | سِوى مَعنى اِنتِباهِكَ وَالمَنامِ |