► |
هامش
- ↑ كتب على طرة المخطوط: "فائدة: كان هذا المؤلف بالمنزلة الرفيعة من سعة العلم والتبحر في فنون الشريعة، وهو من أهل القرن العاشر، له من التآليف في الطب واللغة والحديث والفقه والتصريف والتاريخ كتب عديدة، منها مختصر الأذكار ومنها العروة الوثيقة وشرحها المسمى بالحديقة الأنيقة وكان الحبيب القطب عبد الله الحداد ملازما لقراءتها موصيا بها، وله حلية البنات والبنين وله شرح على لامية الأفعال وشرح على ملحة الإعراب. وله تأليف حافل في مناقب شيخه فخر الدين أبي بكر بن عبد الله العدني العيدروس. ترجم له العارف بالله سيدي عبد القادر بن شيخ العيدورس في النور السافر والقاضي محمد بن عبد الرحمن سراج بإجمال في مواهب الرؤوف في مناقب الشيخ معروف وغيرهما من التواريخ. وقال فيه بعض أكابر العلويين: هو بحرٌ رَقّ لا بحرق. وله كرامات ذكر بعضها عبد الرؤوف. وما أحسن ما قيل:
كن آخذًا قائم هذا الحسام ** فإنه العدة عند الصدام
ودعه في كفك واضرب به ** من مبغضي صحب النبي كل هام" - ↑ في هامش الأصل: "هذا حديث ضعيف"
- ↑ إنما أورده في التاريخ الكبير. وقال: "في إسناده نظر" في الضعفاء الكبير للعقيلي.
- ↑ في هامش الأصل: "الجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب الشيء بجرانه أي استقر وثبت اهـ"
- ↑ في الهامش: "هكذا بالأصل"
- ↑ سنن الدراقطني ح1343 وقال: "[فيه] جابر [الجعفي] ضعيف وقد اختلف عنه".
وبه ثقتي
الحمد لله أفضل الحمد وأكمله وأشمله، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والشكر لمولى الحمد ومستحقه على ما من به من التوفيق والهداية إلى سواء الطريق، وأنعم به من العرفان والتحقيق، والاتباع والتصديق، لنبيه محمد ﷺ الذي فضله على جميع الخلائق، وبعثه بخير الأديان والطرائق، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وأعاذ إجماعها المعصوم من كيد الخناس واتباع الوسواس، وحفظ فيها كتابه المبين وشرعه المتين، بقوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». وقال ﷺ: "ستفترق أمتي إلى اثنتين وسبعين فرقة كل فرقة منها تدعو إلى النار، والناجية منها فرقة واحدة، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: هم المتمسكون بما أنا عليه وأصحابي". والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد وصلني كتاب كريم، من أخ في الله صديق حميم، وهو الفقيه الأجل الصالح الفاضل الكامل شرف الدين أبو القاسم بن سليمان الحرازي بلدا المنسوب إلى بيت الحاري، وهو يستغيث إلى الله عز وجل ثم إلى المملوك، يريد الجواب على ثلاثة عشر سؤالا مشتملة على شبه مضلة، وأوهام عند إشراق الحق مضمحلة، يستغوي داعي الإسماعيلية من حمقى الرجال وطغام الجهال من هو شبه المجانين في الدين، ومن الزنادقة الغاوين، الذين خدعهم الشيطان اللعين، الذين قال فيهم وفي أتباعهم أصدق القائلين: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}. فما خص به سيدي من السلام فعليه وعلى من حضر مقامه الكريم أضعاف أضعافه، وليعلم الأخ في الله تعالى أن الدعاء له ولهم مبذول، ومن الجميع مسؤول، والرجاء في الله حسن القبول.
ثم حاصل ما يشير إليه في المكاتبة والأسئلة أن قال السائل في مكاتبته: ويُنهى تعريف خاطركم الكريم أنه قد ظهر في جهاتنا فتنة عظيمة من رئيس الإسماعيلية عندنا، وصار يدعو من جاوره من أهل السنة إلى الدخول في مذهبه وبدعته، ويذكر لهم الأحاديث الواردة في فضل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويستدل بها على تعين خلافته كحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» وحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وحديث المؤاخاة، إلى غير ذلك. ويحتج بها على أن عليا هو الوصي بالخلافة من رسول الله ﷺ، وأن خلافة الثلاثة قبله معصية غير مرضية، مخالفة لنص رسول الله ﷺ. واستحل بذلك سب الصحابة رضي الله عنهم لتعاونهم على تقديم أبي بكر فمن بعده ظلما. وقد غر بهذه الشبهة خلقا كثيرا، وعظم ضرره على أهل السنة، ولم يقع من علماء تلك البلاد ما يدفع شبهته ويبطل حجته. وقد كتبت إليكم شبهته التي أغوى بها كثيرا من العوام، ولبس بها على الطغام، فتفضلوا بما يدفع شبهته من الحجج البالغة والبراهين الدامغة، والدلائل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الصحابية والتابعية. فالغوث الغوث.
وقد علمتم أن الرد عليهم من فروض الكفاية {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} فالهمة الهمة، القيام القيام، وجاوبوا بجواب مبسوط شاف كاف مع المبادرة، فإن داعي الإسماعيلية قد كتب جوابا على ما يدعيه من الأحاديث التي كتبتها لكم مطولا ثم ختم بأبيات من شعره يمدح فيها مذهبه وأهله ويذم من خالفه فاجعلوا أيضا ختم جوابكم أبياتا من الشعر في فضل السنة وأهلها، وفضل الصحابة، وفضل الأئمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الأحاديث التي أوردها الإسماعيلي يؤيد بها مذهبه
فمن الأحاديث التي أوردها الإسماعيلي ما في مسند الإمام أحمد أنه ﷺ أخذ بيد علي رضي الله عنه بعد أن جمع الناس للصلاة بغدير يقال له غدير خم -بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم- وقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى، قال: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وقال الإسماعيلي: إن المولى في الحديث بمعنى الأولى، وأنه إنما أراد لعلي من الولاء عليهم ما له ﷺ من الولاء، قال وقوله قبل ذلك: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم" بيان لهذا وإلا لذهب ذلك سدى، وقال لو كان المولى بمعنى الناصر أو غيره لم يحتج إلى جمع المسلمين وإشهادهم ولا أن يأخذ بيد علي لأن ذلك يعرفه كل أحد، ولا كان يحتاج إلى أن يدعو بقوله «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» لأن مثل هذا لا يكون إلا لإمام مفترض الطاعة. وبهذا الحديث وغيره من نحو قوله ﷺ: «علي ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي» وقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ونحو حديث المؤاخاة احتج على ما ادعاه. فبينوا حل هذه الشبهة.
ومنها: أنه زعم أن عليا رضي الله عنه استنقذ أم ابنه محمد بن الحنفية من يد أبي بكر حين سباها في الردة ثم تزوجها علي من وليها بعقد صحيح، إذ كان يرى أن لا يحل لأبي بكر سبيها لأنها من قوم لم يجر منهم ما يوجب قتالهم، وإنما كان منهم منع الزكاة فقط، وذلك لا يوجب الردة. هذا كلامه، وأراد بذلك أن عليا كان يقدح في خلافة أبي بكر ولا يعتقد صحتها.
ومنها: أنه زعم أن عليا لم يصل صلاة خلف أبي بكر ولا غيره ولا تأمر عليه أبو بكر ولا غيره.
ومنها: سؤال من السائل نفسه: أخبرونا كم صلى أبو بكر بالناس من أيام في مدة مرض رسول الله ﷺ، وهل صلى النبي ﷺ خلف أبي بكر رضي الله عنه في مرضه كما صح أنه ﷺ صلى خلف عبد الرحمن بن عوف في صحته؟
ومنها: أنه زعم أن دفن أبي بكر وعمر عند رسول الله ﷺ ما كان عن إذن منه، ولا أمر أن يشق لأحد في بيته قبر، وقال الله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}.
ومنها: أنه زعم أن لكل نبي وصيا، وكان النبي ﷺ يأمر بالوصية في الأولاد وقضاء الديون، فكيف ترك نفسه ولم يوص بالخلافة إلى أحد في زعمهم، ويترك الأمة يتيهون في الضلالة.
ومنها: أن المسلمين أجمعوا على تسمية علي رضي الله عنه وصي النبي ﷺ، فوجب أن يكون وصيا بالخلافة.
ومنها: أن عثمان لما ولي قعد على المنبر في مقعد رسول الله ﷺ في ذروته مع أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه نزل عن ذلك درجة وعمر درجتين. وأنه نفى أبا ذر، وآوى مروان، وأقطعه فدك، وهي صدقة النبي ﷺ. إلى غير ذلك من الأمور التي من فعل بعضها لم يستحق الإمامة ووجوب الطاعة.
ومنها: أن عمر كسر سيف الزبير وضرب سعد بن عبادة، وذلك يقدح في إمامته.
ومنها: وهي من السائل أنه أشكل علينا ما ذكره الواحدي في تفسير قوله تعالى: {وإذ أسر النبي} الآية أنه قال لحفصة: "أبوك وأبو عائشة واليا أمر الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا" وقال: كره أن ينتشر ذلك في الناس فما سبب هذه الكراهة وهو مأمور بالتبليغ. وكذلك في الحديث الذي ذكر فيه الرؤيا أنه ﷺ وزن هو وأبو بكر فرجح بأبي بكر، فوزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر بعمر، ووزن عمر بعثمان فوزن عمر بعثمان، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهة في وجه النبي ﷺ ما سبب هذه الكراهة. وكذلك حديث أنه ﷺ قال للعباس: "إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه". وقال العلماء: أراد بذلك بقاء الخلافة في أولاده إلى يوم القيامة، فأين خلافة بني العباس اليوم؟
ومنها: صح أن عليا زوج ابنته أم كلثوم التي أمها فاطمة من عمر رضي الله عنهم، فكيف صح هذا النكاح وغير الهاشمي ليس بكفء للهاشمي؟ وقال الشافعي رضي الله عنه: ليس للرجل أن يزوج ابنته الصغيرة من عبد ولا من غير كفؤ فلو فعل ذلك لم يصح النكاح لأنه خلاف الغبطة والمصلحة.
ومنها: ما روي أن فاطمة جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه وادعت أن النبي ﷺ نحلها فدكا أو سهما من فدك، وأقامت عليا وأم أيمن يشهدان بذلك فلم يعطها شيئا وقامت مغضبة.
ومنها: أن داعي الإسماعيلية زعم أن الخلافة محصورة في آل النبي ﷺ بما رواه البزار أنه ﷺ قال: «إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يقترقا حتى يردا علي الحوض». فقرن العترة بكتاب الله والتمسك بكتاب الله واجب فكذلك العترة. انتهى كلامه.
فبينوا لنا ذلك بيانا شافيا متع الله بكم المسلمين.
ومن جملة شعره الذي ختم به احتجاجه على ما يدعيه من بدعته قوله:
وخذوا الجوابا مبينا ومبرهنا ** عني فإني عبد آل محمد
من فضلهم وعلومهم لي حجة ** كالشمس نورا واضحا للمهتدي
ولهم ولائي لا أريد سواهم ** ومتين حبلهم به وثقت يدي
قرنا كتاب الله جل جلاله ** لا افتراق إلى ورود المورد
سفن النجاة إذا طغى موج الهوى ** وأمده بدع كموج مزبد
وهم أولو الذكر المبين ومنهم ** أنوار صدق أصلها من أحمد
آل الرسول وحيدر من مثلهم ** في الخلق في شرف يجل وسؤدد
فهذه جملة أسئلته، وحاصل أبياته من جملة خمسة عشر بيتا، فالله الله، الغوث الغوث، الغارة الغارة. أيدكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فيسر الله الجواب بتصنيف يهدي إلى جادة الصواب، ويكشف عن تلك المشكلات النقاب، ويزيل عن الواقفين الوهم والشك والارتياب، ويبطل تلك الشبهة الزائغة، ويفضح تلك الدعاوى الفارغة أداء لفرض الكفاية وقياما بواجب النصح والرعاية، وسميته "الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول". وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله على أشرف خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وله الحمد، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي من على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأكرم عصابة السنة بحبله المتين، ونصرهم فكانوا هم الغالبين، وآتاهم الفهم في كتابه المستبين، وهداهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم زيغ الضالين، وضلال الملحدين، ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين، وآله الأكرمين، وصحبه الهادين المهتدين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
أما بعد: فقد سمعت نداءك أيها الأخ المستنجد، وأجبت دعاءك أيها الصارخ المسترشد، سلك الله بنا وبك قصد الطريق، وأمدنا وإياك بالعصمة والتوفيق، بما يجب علي لك من حق الإخاء والوداد، ولله ورسوله من نصرة الدين والجهاد، ولأئمة المسلمين وعامتهم من النصح والإرشاد. فإنك ذكرت أنه قد انتشرت عندكم فتنة طار شررها، وشاعت لديكم محن عم ضررها، من شخص من رؤوساء الإسماعيلية الضلال، استحوذ على طائفة من العوام الجهال، لبس عليهم بدعته فاتبعوه، واستخفهم بشبهته فأطاعوه، استزلهم بما يورد من الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عن صحيح اعتقادهم، واستزلهم بزعمه موالاته ونصرته عن طريق رشادهم، حتى أدى بهم ذلك إلى القدح في خلافة الصديق ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ثم سب سائر الصحابة ونسبتهم إلى الفسوق والمروق من الدين. وإنك تحب ما تستظهر به في دفع شبهته، وتستضيء به من السنة من ظلم بدعته، فاعلم أولا أن هذا دخان نار قد أوقد تقبل هذا الأوان، وغبار جدار قد وقع منذ دهور وأزمان، قد تبين فيها الرشد من الغي، واستبان فيها الصريح من اللي، وعرف فيها الحق من الباطل، والباطل من الهدى، فمن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
مقدمة فيما يتعلق بهذه المسألة من معتقد أهل السنة والجماعة
وذلك في بيان خمسة أشياء: وجوب الإمامة، ثم بيان شروطها، ثم بيان ما تثبت به، ثم بيان الإمام الحق، وترتيب الخلفاء في الفضل، ثم بيان ما يجب لهم ولسائر الصحابة من التعظيم.
وجوب الإمامة
الأول: قال أهل الحق: يجب على الأمة نصب إمام متبع في كل عصر وأوان، لأن به ينصر الدين، ويتمكن من قمع المفسدين، ويؤخذ ما يجب أخذه، ويدفع ما يجب دفعه {ولولا دفع الله الناسب عضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}. والدليل على ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله ﷺ على أنه لا يجوز خلو الوقت عن من يرجعون إليه بعده في أمر الدين والدنيا مع أنهم أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم. بل لما خطبهم أبو بكر وقال: ألا إن محمدا قد مات، وإنه لا بد لهذا الدين ممن يقوم به؛ بادر الكل إلى قبول قوله، وتركوا أهم الأشياء وهو دفن رسول الله ﷺ. ثم لم يزل المسلمون على ذلك. هذا مع أنا نعلم أن مصالح العباد من أمر المعاش والمعاد لا تتم إلا بإمام يرجعون إليه، وإلا ربما أدى ذلك إلى هلاكهم جميعا، والتجربة تشهد لذلك مما يثور من الفتن ويهيج من المحن عند موت الولاة إلى استقلال وال آخر، بحيث لو تمادى ذلك لتعطلت المعايش وأدى إلى رفع الدين وهلاك المسلمين.
شروط الإمامة
الثاني: يجب أن يكون الإمام (ذكرا) لأن النساء ناقصات عقل ودين، (بالغا) لقصور عقل الصبي واحتياجه إلى من يكفله، فضلا عن أن يكون كافلا للأمة كلها، (عاقلا) لما ذكر في الصبي، مسلما لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا}، ( عدلا) لئلا يجور، (حرا) لئلا تشغله خدمة السيد، (قرشيا) لقوله عليه الصلاة والسلام: «الأئمة من قريش»، ثم إن الصحابة أجمعوا على العمل بمقتضاه، (مجتهدا) في الأصول والفروع ليقوم بأمر الدين، (ذا رأي) ليقوم بأمر الملك، (شجاعا) ليقوى على الذب عما يجب عليه القيام بحفظه. فهذه عشر شرائط. ولا يشترط أن يكون هاشميا خلافا للشيعة للإجماع على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا يكون معصوما خلافا للإمامية، ولا عالما بجميع المسائل المتعلقة بالدين.
ما تثبت به الإمامة
الثالث: تثبت الإمامة إما بالنص من الإمام السابق بالإجماع أو بأن يبايعه أهل الحل والعقد، خلافا للشيعة. ولا يشترط حضور جميع أهل الحل والعقد لأن الصحابة رضي الله عنهم مع صلابتهم في الدين اكتفوا بمجرد عقد بيعة عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، فبايعوهما، ولم يتوقفوا في صحة إمامتهما إلى اجتماع أهل المدينة فضلا عن اجتماع أهل العصر.
الإمام الحق
الرابع: الإمام الحق بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم لما سبق أن طريق ثبوت الإمامة إما بالنص وإما بعقد البيعة. وقد انعقد الإجماع على أنه ﷺ لم ينص لأمته على استخلاف أحد معين، وعلى انعقاد البيعة لأبي بكر، ثم نص أبو بكر على خلافة عمر، ثم عقدها المسلمون لعثمان، ثم لعلي رضي الله عنهم.
وأما ترتيبهم في الفضل فأجمع أهل السنة على ترتيبهم فيه على ترتيبهم في الخلافة ما خلا طائفة من السلف فإنهم توقفوا في التفضيل بين علي وعثمان، ومنهم من فضل عليا عليه، ونقل ابن عبد البر أن إجماع الخلف انعقد على ما عليه جمهور السلف من الترتيب. هذا مع الاتفاق على أن عثمان إمام حق لأن من استكمل شروط الإمامة صحت إمامته وإن كان مفضولا، بل قد تجب تولية المفضول لكونه أصلح أو لكون نصب الأفضل مثيرا فتنة، إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده، ورب مفضول في علمه وعمله هو بالإمامة أعرف وبالرعية أشفق وأرأف.
يجب تعظيم كافة الصحابة
الخامس: يجب تعظيم كافة الصحابة رضي الله عنهم، والكف عن القدح في منصبهم الجليل، وتطلب المحامل الحسنة والتأويلات اللائقة بقدرهم فيما ينقل عنهم بعد العلم بصحة ذلك عنهم، وعدم المسارعة إلى ما ينقله عنهم المؤرخون والأخباريون وأهل البدع المضلة المبطلون. وإنما المعتمد على ما يورده العلماء الراسخون في علم الحديث والسير بالأسانيد المعتمدة. فإذا صح ذلك وجب حمله على أحسن المحامل لأن تقريره يؤدي إلى مناقضة كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ؛ والخلف في قولهما محال، ثم يؤدي إلى هدم أركان الشرع من أصله والإزراء بشارعه وناقله وأهله، لأن الصحابة الذين نقلوا إلينا الشرع والتوحيد والنبوة والرسالة والإسلام والإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج والحلال والحرام إلى غير ذلك، ومتى تطرقت الأوهام إلى القدح فيهم انخرمت عدالتهم وردت روايتهم وشهادتهم، وصار هذا الدين الذي هو خير الأديان شر الأديان لكون حماله فسقة، وكان القرآن مفترى، وكان قوله فيهم {أولئك هم الصادقون} و {التائبون العابدون} {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} إلى غير ذلك: زورا وبهتانا، وكان الرسول متقولا على الله. وقوله: "أصحابي كالنجوم"، [2] و «خيركم قرني»، و "يحمل هذا العلم" إلى غير ذلك إفكا وباطلا، وكان الخير كله والصدق والنزاهة مع أعداء الله القادحين فيهم الذين حدثوا بعدهم وأحدثوا بدعهم لا مع الله ورسوله وكتابه، وصار جميع الأنبياء والمرسلين المبشرين برسالة محمد ﷺ كذبة، والكتب المنزلة عليهم من عند الله مختلقة، وصار جميع العلماء والأحبار والعارفين بالله الأخيار من أول الدهر إلى آخر الأعصار على باطل وضلال لاتفاقهم على تصديق الصحابة فيما نقلوه وعملهم بعلمهم الذي عنهم حملوه إلى ما لا يحصر من الكفر والضلال، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وهذا في الحقيقة هو المقصود لهذه الفرقة الضال التي ظاهر مذهبها الرفض، وباطنها الكفر المحض. وإلا فكيف يخطر بقلب من يدعي الإيمان الإزراء بسادة المؤمنين وأركان الدين، أو يتطرق إليه القدح فيهم أخذا بقول {من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}، وعدولا عن ثناء الله عليهم في مواضع عديدة في كتاب عزيز {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}.
فأين قول القادح فيهم المنتقص لهم المزري بهم من قول الله تعالى الذي لا يبدل القول لديه ولا يتصور أن ينعكس مدحه ذما ولا رضاه سخطا، {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون. أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم}
فهذه الخيرات والفلاح والجنات المعدة لمن هي؟
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآيات.
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
وهذا الرضا الأبدي من المراد به؟
{رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.
وهذه البيعة الرابحة من تولى عقدها؟
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
وهذه الأوصاف الجميلة من هو الموصوف بها؟
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله}. {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما}.
يا عجبا كيف تكون العصاة الفسقة بزعم الدعاة المرقة أحق بكلمة التقوى وأهلها، هلا كانوا هم أحق بها وأهلها لزعمهم أنهم على الحق لا الصحابة وأتباعهم. أغلطٌ صدر من البارئ جل وعلا حتى أعطى القوس غير باريها، أم سهو حصل ممن لا يضل ولا ينسى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور حتى يقول فيهم ذلك مع علمه بما سيكون منهم من التبديل والتحريف! كلا والله بل كان الله بكل شيء عليما، وكانوا هم أحق بها وأهلها أزلا وأبدا، وعلم الله لا يتبدل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ثم كيف أطنب في مدحهم في كتابه وعلى لسان رسوله وهو يعلم ما يصدر منهم من التعاون على الظلم والعدوان وقول الزور والبهتان قبل أن يدفنوا نبيهم ويجهزوه، أغش منه لرسوله المحبوب مع ما له عنده من المكانة، أم عجزت قدرته النافذة عن أن يختار لرسوله من يصحبه بالصدق ويؤدي شرعه بالأمانة، أم أنزل كتابه وأرسل رسوله للإضلال لا للإرشاد حتى مدح فيه من هو مذموم عنده من العباد.
فاعتبروا يا أولي القلوب والأبصار، {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير}
فصل
وما أورده الخصم من تعداد مناقب لسيدنا أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ففضل علي لا ينكر، وعلو منصبه وجلالة قدره أشهر، فوق ما ذكر بأضعاف كثيرة وأكثر، ولكن للصديق أيضا من الفضل ما هو أكبر، ونصيبه من عطاء الله أتم وأوفر، {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}. وكما أن الرسل فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، فكذلك أتباعهم وأتباع أتباعهم هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون.
ثم إن كلامنا هذا إنما هو تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وأما الخصم فإنه يلزمه على مذهبه الفاسد إبطال ما احتج به، ورد ما أورده، لأن هذه الأحاديث كلها وغيرها إنما رواها الصحابة الذين أبطل عدالتهم ورد شهادتهم، ونقلها عنهم أتباعهم القائلون بمعتقدهم. ورد شهادتهم على مذهبه أولى. فكيف احتج بروايتهم فيما وافق رأيه وهواه، وردها فيما هو أهم من ذلك من نقل أصل الدين وما سواه. وأيما أعظم: اعتقاد التفضيل، أم اعتقاد هدم قواعد الشرع والتعطيل. {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
جعلوا شغلهم الأهم مسألة التفضيل، وصرفوا همهم إلى غير ما أمروا به من القال والقيل، مع أنه مفروغ منه، و {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}. أولئك قوم قد لحقوا بالله، وعرف كل منهم منزلته عند الله، {في مقعد صدق عند مليك مقتدر}، {إخوانا على سرر متقابلين}، والواجب على من بعدهم لهم ما يجب على الأولاد لآبائهم من البر والإحسان والاستغفار المأمور به بنص القرآن: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}. فإنهم آباء أهل الإسلام، إذ هم الذين آووه ونصروه، ثم مهدوه وقرروه، ثم أدوه كما سمعوه، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء. وكل ما ورد من الفضائل في حق علي وغيره فعنهم نقل ومنهم عرف. وكيف ينسب المبتدع نفسه إلى أنه أتقى منهم وأقوم بدين الله وأطوع لله وأعلم بمراد الله، وينسبهم إلى أنهم خالفوا رسول الله فيما سمعوا منه مشافهة وخالفوا الله ورسوله في تقديم مفضول على فاضل والتمادي على الباطل. {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}.
ثم لم يزل العلماء والأولياء والفقهاء والقراء وغيرهم يتناقلون هذه الأخبار وغيرها مما هو مشهور على مر الأعصار، ويودعونها في تصانيفهم ويتقربون إلى الله بذكرهم في تواليفهم، ولم يصل الموافق والمخالف إلى عملها إلا بواسطتهم، وهم معتقدون لما عليه الصحابة من ترتيب الخلفاء في التقديم وتوفية كل منهم ومن سائر الصحابة ما هو له من الإجلال والتكريم. فلو علموا أن تلك الأحاديث مصادمة لما فعلوه ومضادة لما اعتقدوه، لكان كتمها وتبديلها بعكسها أهون إثما مما ارتكبوه من مخالفتها كفاحا والتمادي في الباطل إلى الموت وسن سنة قبيحة منسوبة إلى الله ورسوله كذبا يعمل بها من بعدهم إلى يوم القيامة. فأي مصيبة أعظم في دين الله من هذا الاعتقاد، وأي فساد في الدنيا والآخرة أشنع من هذا الفساد {سبحانك هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}.
اللهم إنا كما نشهد لك بالوحدانية ولنبيك بالتبليغ فإنا نشهد لهم بالصدق فيما إلينا عنك أوصلوه، وعن نبيك نقلوه، وبأداء الأمانة فيما من أمر دينك تحملوه، ولا نتخذهم أربابا، ولا نجعل بعضهم على بعض أحزابا، بل هم عبيد لك مربوبون، سامعون لك مجيبون، دعاهم نبيك فتابعوه، وعلى نصر دينك بايعوه، فصدقوا كما سميتهم الصادقين، وما بدلوا تبديلا.
فصل في ذكر طرف من ثناء الرسول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثناء أهل البيت الطيبين الطاهرين على السادة الأتقياء والبررة الأصفياء وحثه أمته على حبهم والتحذير عن سبهم وأمره باتباعهم والاقتداء بهم والكف عما شجر بينهم
فمن ذلك قوله ﷺ: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» رواه البخاري ومسلم.
و «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه" أخرجه البخاري. [3]
"إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم" أخرجه الترمذي.
"سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي فأوحى إلي يا محمد: إن أصحابك عندي كالنجوم في السماء بعضهم أقوى من بعض ولكل نوره، فمن أخذ بشيء مما هم عليه فهو عندي على هدى" أخرجه رزين في جامعه.
"إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" أورده المحب الطبري في الرياض النضرة.
ومن ذلك قوله ﷺ: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم» أخرجه البخاري ومسلم.
«لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» أخرجه الترمذي وصححه.
وشهد ﷺ للعشرة بالجنة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح. أخرجه الترمذي وأبو داود.
ودخل حائطا للأنصار فاستأذن عليه أبو بكر فقال: «افتح له وبشره بالجنة» ثم عمر كذلك ثم عثمان كذلك وقال فيه: «بشره بالجنة على بلوى تصيبه» أخرجه البخاري ومسلم.
وكان على حراء ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص فتحرك بهم الجبل فركضه النبي ﷺ برجله وقال: «اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» أخرجه مسلم والترمذي. وأخرجه البخاري وأبو داود فذكرا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فقط.
وسمع سعيد بن زيد أحد العشرة رجلا يسب رجلا من الصحابة فغضب وقال: "والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله ﷺ خير من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح" أخرجه الترمذي وأبو داود. زاد رزين: لا جرم لما انقطعت أعمارهم أراد الله أن لا يقطع الأجر عنهم إلى يوم القيامة، فالشقي من أبغضهم والسعيد من أحبهم.
ومن ذلك سئل ﷺ أي الناس أحب إليك؟ فقال: «عائشة» قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها» قيل: ثم من؟ قال: «عمر بن الخطاب» أخرجه البخاري ومسلم.
وقال لأبي بكر: "أبشر فإنك «عتيق الله من النار»" فسمي من يومئذ عتيقا. أخرجه الترمذي.
وقال: "أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" أخرجه أبو داود.
وقال: "ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر" وفي رواية: "أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" وفي أخرى: "أبو بكر وعمر في أمتي كالشمس والقمر في النجوم" وأوردها المحب الطبري.
وأوذي أبو بكر فغضب ﷺ لذلك غضبا شديدا وقال: «هل أنتم تاركون لي أصحابي» كررها ثلاثا «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون ليصاحبي» أخرجه البخاري.
وقال: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر» أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.
وقال: «ما لأحد عندنا يدا إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة» أخرجه الترمذي. وفي تصديق ذلك نزل قوله تعالى {وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى. وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى} فوعده الله تعالى بالرضا مكافأة عن نبيه ﷺ، وحكم له بأنه أتقى الأمة بعد حكمه بأن أكرمكم عند الله أتقاكم. فصار حكما منه بأن أبا بكر أكرم الأمة على الله وأفضلها. ومن هنا قال فيه ﷺ: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" أخرجه الترمذي.
ولما ثقل النبي ﷺ قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وكان غائبا، فقدّم القوم عمر، فلما سمع صوت عمر تغيرت حالته وأطلع رأسه من الحجرة مغضبا وهو يقول: «يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، ليصل بالناس ابن أبي قحافة» ثم بعث إليه فجاء وصلى بالناس مدة مرضه ﷺ.
ولما قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» راجعته عائشة ثم حفصة أن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، فغضب وقال: «إنكن لأنتن صواحب يوسف» أخرجه البخاري ومسلم.
ووجد خفة في مرضه فخرج وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر استأخر فأومأ إليه أن مكانك إكراما له، فلم يستطع ذلك أبو بكر إجلالا لمنصب الرسالة فعاتبه النبي ﷺ بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم. زاد الترمذي: وقال ألست أحق بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا، ألست صاحب كذا.
فلو قدم المسلمون غيره بعد موت النبي ﷺ يؤمهم فهل وافقوا نبيهم أو خالفوه؟ وإذا ارتضاه الرسول لأمر دينهم فما بقي من أمر الخلافة، أيحسن أن يكون خليفة غيره؟ لا يحسن له أن يتقدم بين يدي آحاد رعيته في أعظم شعائر الدين من الصلوات الخمس والجماعات والأعياد، فإن كانت الخلافة جباية الأموال وما هو دون ذلك فبئس بها. وأي شيء استفاده الصديق من عقد البيعة سوى أن ولاه المسلمون جباية الزكاة وصرفها في مصارفها. وهل كسب الصديق بولايته كنوز الأموال أو تنعم بالملابس الفاخرة أو اتخذ العبيد والخول أو شيد القصور وزخرفها. وإذا لم يكن شيء من ذلك فأي شيء عمله على الظلم والعدوان وخسران الآخرة والأولى بزعم أعداء الله تعالى، {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.
وقد كان فضله في حياة رسول الله ﷺ مشهورا بين الصحابة يعلمه الخاص والعام، ولا يداخل أحد منهم شك ولا ريب في أنه أقدم الخليقة منزلة عنده، ولله در حسان حيث يقول مخاطبا للنبيﷺ، ويمدح أبا بكر بعد أن استدعى منه النبي ﷺ ذلك فقال:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمود سيرته ** وأول الناس طرا صدق الرسلا
وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: كنا في زمن رسول الله ﷺ لم نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب رسول الله ﷺ لا نفاضل بينهم. أخرجه البخاري والترمذي وأبو داود.
كنا نقول ورسول الله ﷺ حي أفضل أمة النبي ﷺ بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.
ولما قال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، قال لهم عمر: أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر في الصلاة؟ فقالوا بأجمعهم: نعوذ بالله من ذلك. أخرجه النسائي. فعند ذلك بادروا ببيعته، وقالوا: رضيه رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.
ومن ذلك عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: إن رسول الله ﷺ لم يعهد إلينا عهدا نأخذ به في إمارة ولكنه شيء رأيناه من أنفسنا فاستخلفنا أبا بكر ورحمة الله على أبي بكر فأقام واستقام، ثم استخلف عمر ورحمة الله على عمر فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه. [4] أخرجه أحمد وفي رواية: ثم حطمتنا فتنة يعفو الله منها عمن يشاء.
وعن محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قلت لأبي: أي الناس أفضل بعد رسول الله ﷺ؟ فقال: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: عمر، قلت وخشيت أن يقول ثم عثمان فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أنا إلا رجل مسلم. أخرجه البخاري وأحمد وأبو حاتم.
وعن كثير بن عبد الله قال: قال رجل لعلي رضي الله عنه: يا خير الناس، فقال له: أرأيت رسول الله ﷺ؟ قال: لا، قال: فهل رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: فهل رأيت عمر؟ قال لا، قال: لو قلت رأيت رسول الله ﷺ لضربت عنقك، ولو قلت رأيت أبا بكر أو عمر لجلدتك. أخرجه الإمام أحمد.
وعن علي كرم الله وجهه قال: كنت مع رسول الله ﷺ إذ طلع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال رسول الله ﷺ: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، يا علي لا تخبرهما» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو حاتم وزاد: "سيدا كهول أهل الجنة وشبابها"، وفي رواية: قال علي: ما حدثت حتى ماتا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم يدعون لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ويترحمون عليه وقد وضع على سريره إذ رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي فالتفت فإذا هو علي رضي الله عنه وترحم على عمر ثم قال: رحمك الله إني كنت لأرجو أن أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: «كنت وأبو بكر وعمر، فعلت وأبو بكر وعمر، انطلقت وأبو بكر وعمر»، وما خلفت أحدا أحب إلي من أن ألقى الله بمثل عمله منك. أخرجه البخاري.
ومما أورده المحب الطبري عن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله ﷺ بعيني هاتين وإلا فعميتا وسمعته بأذني هاتين وإلا فصمتا وهو يقول: "ما ولد في الإسلام مولود أزكى ولا أطهر من أبي بكر ثم عمر".
وعنه في قوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} قال: هم رسول الله وأبو بكر وعمر.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: نظر النبي ﷺ إلى أبي بكر وعمر فقال: "والله إني لأحبكما ومن أحببته أحبه الله، والله تعالى أشد حبا لكما مني، وإن الملائكة لتحبكما بحب الله لكما فأحب الله من أحبكما، وأبغض من أبغضكما، ووصل من وصلكما، وقطع من قطعكما، وأسعد من أسعدكما في حياتكما وبعد مماتكما"، فقال علي: لقد ازددت لهما حبا يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: أجل حبهما فإن حبهما إيمان وبغضهما نفاق. وفي رواية: "يا علي، ألا أدلك على عمل إذا عملته كنت من أهل الجنة، وأنت من أهل الجنة؟ إنه سيكون بعدي أقوام يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام، ويزعمون مودة أهل بيتي، يسبون أبا بكر وعمر، فإذا أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون".
وعن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، رضي الله عنها، قالت: نظر رسول الله ﷺ إلى علي فقال: "هذا في الجنة وإن من شيعته قوما يسمون الرافضة يرفضون الإسلام من لقيهم فليقتلهم فإنهم مشركون"، وأخرجه الإمام أحمد أيضا. وفي رواية: "إن ممن يزعم إنه يحبك أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقال لهم الرافضة فإن أنت أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون" كررها ثلاثا قال: يا رسول وما علامتهم؟ قال: "لا يشهدون جمعة ولا جماعة أي لأهل السنة ويطعنون في السلف الأول".
وعن ابن عباس وقد سئل عن أبي بكر فقال: كان رحمه الله للقرآن تاليا، وللشر قاليا، وعن الفحشاء لاهيا، وبالله عارفا، ومن الله خائفا، فاق الصحابة ورعا وزهادة وبرا وأمانة، فعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم القيامة. وأما عمر فرحم الله أبا حفص فكان والله كهف الإسلام، ومأوى الأيتام، وللحق حصنا حصينا، وللإيمان وأهله عونا معينا، قائما بأمر الله، صابرا محتسبا لله، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وقورا في الرخاء والشدة، شكورا لله على كل حال، فأعقب الله من يبغضه اللعنة والندامة إلى يوم القيامة. أما عثمان فرحم الله أبا عمرو كان والله أفضل البررة، وأكرم الحفدة، مجهز جيش العسرة، كثير الاستغفار، هجادا بالأسحار سريع الدموع عند ذكر النار، دائم الفكر فيما يعنيه بالليل والنهار، مبادرا إلى كل مكرمة، فارا من كل مهلكة، ولقد عاش سعيدا، ومات شهيدا فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم القيامة. وأما علي فرحم الله تعالى أبا الحسن كان والله علم الهدى، وكهف التقى، وطود النهى، وعين الندى، ونورا مسفرا في الدجى، وداعيا إلى المحجة العظمى، ومستمسكا بالعروة الوثقى، أبو السبطين وزوج خير النساء، فعلى من يبغضه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد.
وسئل عنهم أيضا جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي المرتضى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنهم أجمعين فقال: أما أبو بكر فقد ملئ قلبه بمشاهدة الربوبية، وكان لا يشهد مع الله غيره، فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه لا إله إلا الله، وأما عمر كان يرى كل ما دون الله صغيرا حقيرا في جنب عظمة الله، وكان لا يرى التعظيم لغير الله، فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه الله أكبر، وأما عثمان كان يرى ما دون الله معلولا إذا كان مرجعه إلى الفناء، وكان لا يرى التنزيه لغير الله تعالى، فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه سبحان الله، وأما علي بن فكان يرى ظهور الكون من الله، وقيام الكون بالله، ورجوع الكون إلى الله فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه الحمد لله.
وطعن قوم في أبي بكر وعمر عند زين العابدين ابن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم فقال لهم بعد أن أغلظ لهم القول: ألا تخبروني هل أنتم من السابقين الأولين أو الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ قالوا: لا، قال: فهل أنتم من الذين تبوؤا الدار والإيمان الآية؟ قالوا: لا، قال: فأنا أشهد أيضا أنكم لستم من {الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}.
وسئل الباقر محمد بن علي عن أبي بكر وعمر فقال: إماما عدل لا نالتني شفاعة جدي محمد عن لم أتولاهما وأتبرأ من عدوهما. وفي رواية قيل له: ما ترى في أبي بكر وعمر؟ فقال: إني أتولاهما وأستغفر لهما وما رأيت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما، ومن جهل فضل أبي بكر وعمر جهل السنة. وفي أخرى أنه قال لجابر الجعفي: يا جابر أخبر أهل الكوفة عني أني بريء ممن تبرأ من أبي بكر وعمر، وفي أخرى: يا جابر بلغني أن أقواما بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر وعثمان، ويزعمون أنهم في أمرتهم بذلك فأبلغهم أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده لو قدرت عليهم لتقربت إلى الله بدمائهم.
وعن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: البراءة من أبي بكر وعمر براءة من علي، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، قال ذلك للرهط الذين اجتمعوا ليقاتلوا معه، قالوا لا نخرج معك إلا أن تتبرأ من أبي بكر وعمر. وقال: من سب أبا بكر وعمر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وقال جعفر الصادق في مرض موته: اللهم إني أحب أبا بكر وعمر، فإن كان في نفسي غير ذلك فلا تنلني شفاعة محمد.
وسئل عنهما موسى الرضا فقال: أبو بكر جدي، وعمر ختني، أفتراني أبغض جدي وختني!
وقال عبد الله بن الحسن بن علي بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب لرجل من الرافضة: ورب هذه البنية -يعني الكعبة- إن ما تزعمون من أمر الإمامة لباطل، ووالله إن قتلك لقربة لولا حق الجوار، أساء بنا آباؤنا إن كان ما تقولون من دين الله ثم لم يخبرونا به، ولم يطلعونا عليه، ولم يرغبونا فيه ونحن كنا أقرب منهم قرابة منكم وأوجب عليهم وأحق أن يرغبونا فيه منكم.
وقال رجل لعلي: سمعتك يا أمير المؤمنين تقول على المنبر الله أصلحني بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين فمن هم يا أمير المؤمنين؟ فاغرورقت عيناه بالدموع ثم قال: أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش والمقتدى بهما بعد رسول الله ﷺ، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون.
وعن علقمة رحمه الله قال: سمعت عليا رضي الله عنه وهو على المنبر يقول: بلغني أن أناسا يفضلونني على أبي بكر وعمر، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدم، فمن أتيت به بعد هذا وقد قال شيئا من هذا فهو مفتر، وعليه ما على المفتري، ألا إن خير الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر، ثم الله أعلم بالخير.
وفي رواية: أتي علي رضي الله عنه وهو بالكوفة برجل ينتقص أبا بكر وعمر فأمر بضرب عنقه قال يا أمير المؤمنين لم تضرب عنقي وإنما غضبت لك؟ قال: وما ذاك ويلك؟ قال: إني غريب ما صحبت رسول الله ﷺ، ولا علمت منزلة هذين الرجلين منه ومنك، وإنما سمعت بعض من يغشاك يفضلك عليهما، ويزعم أنهما ظلماك حقك وتقدماك في أمرك. فقال علي: أوتعرف القوم؟ قال: لا إلا بأعيانهم عند نظري إليهم. فقال: والله ما ظلماني ولا تقدماني ولولا أنك قلت بغربتك وقلة معرفتك لضربت عنقك، ثم خطب خطبة طويلة وقال في آخرها واعلموا أن خير الناس بعد نبيهم ﷺ أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم أنا وقد رميت بها في رقابكم ووراء ظهوركم فلا حجة لكم علي عند الله.
وفي رواية: أتي علي برجل يقال له أبا السوداء كان ينتقص أبا بكر وعمر فدعاه ودعا بالسيف وهمّ بقتله، ثم قال: لا تساكني في بلدة، فسيره إلى المدائن.
وفي أخرى: أتي بعبد الله بن سبأ وكان يفضل عليا على أبي بكر وعمر فقال: اقتلوه، فقال ابن سبأ: أتقتل رجلا يدعو إلى حبك وحب أهل البيت، فخلاه وقال: من قدر عليه بعد ثلاثة أيام فليقتله، وسيره إلى المدائن ثم خطب الناس.
وعن سويداء بن غفلة رضي الله عنه قال: دخلت على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقلت: يا أمير المؤمنين مررت بنفر من أصحابك يتناولون أبا بكر وعمر فلولا أنهم يرون أنك تضمر لهما على وفق ما أعلنوا به ما اجترأوا على ذلك، فقال: أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الذي أتمنى المضي عليه، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول الله ﷺ وصاحباه ووزيراه رحمة الله عليهما. ثم نهض دامع العين يبكي حتى دخل المسجد فصعد المنبر فجلس متكئا قابضا لحيته ينتظر اجتماع الناس إليه فلما اجتمعوا قام فتشهد بخطبة موجزة بليغة ثم قال: ما بال قوام يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمين بما أنا عنه متنزه، وعما قالوه بريء، وعلى ما يقولونه معاقب، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن ولا يبغضهما إلا فاجر، صاحبا رسول ﷺ ووزيراه، صحبا رسول الله ﷺ على الصدق والوفاء، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان فما يجاوزان فيما يقضيان رأي رسول الله ﷺ، وكان ﷺ لا يرى كرأيهما، ولا يحب كحبهما أحدا، مضى رسول الله ﷺ وهو عنهما راض، ومضيا والمسلمون عنهما راضون. أمر رسول الله ﷺ أبا بكر على صلاة المسلمين، وصلى بهم أبو بكر سبعة أيام في حياة رسول الله ﷺ، فلما قبض الله عز وجل نبيه واختار له ما عنده ولاه المسلمون ذلك أيضا، وفوضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان، ثم أعطوا البيعة طائعين غير مكرهين، وأنا أول من سن له ذلك من بني عبد المطلب، ووالله إنه لذلك كاره، يود لو أن أحدا كفاه ذلك، وكان والله خير من بقي، أرحمه رحمة وأرأفه رأفة وأثبته ورعا وأقدمه إسلاما، شبهه رسول الله ﷺ بميكائيل رأفة ورحمة، وإبراهيم حلما ووقارا، سار فينا سيرة رسول الله ﷺ حتى قبضه الله عز وجل. واستخلف بعده عمر بعد أن استأمر أبو بكر المسلمين في ذلكف منهم من رضي ومنهم من كره، وكنت أنا ممن رضي، فلم يفارق عمر الدنيا حتى رضي به من كان كارها، فأقام الأمر على منهاج رسول الله ﷺ ومنهاج صاحبه يتبع أثرهما ويعمل بعملهما، كاتباع الفصيل أمه، وكان والله رحيما للضعفاء والمساكين، وعونا للمظلومين على الظالمين، لا تأخذه في الله لومة لائم، قدضرب بالحق على لسانه، وجعل الصدق من شأنه، حتى كنا نظن أن ملكا ينطق على لسانه، أعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قواما، وألقى الله عز وجل له في قلوب المؤمنين المحبة، وفي قلوب المنافقين الرهبة، شبهه رسول الله بجبريل، فظا غليظا على الأعداء، وبنوح عليه السلام حتفا مغتاظا على الكفار، فمن الذي كان لكما مثلهما رحمة الله عليهما، ورزقنا الله المضي على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع أثرهما، والحب لهما، فمن أحبني فليحبهما، ومن لم يحبهما فقد أبغضني وأنا برئ منه، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة إلا إنه لا ينبغي لي أن أعاقب قبل التقدمة، ألا فمن أتيتبه يقول هذا جلدته جلد المفتري، ألا وخير هذه الأمة أبو بكر بن أبي قحافة، ثم عمر بن الخطاب، ثم الله أعلم بالخير، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولإخواننا ثم نزل.
وأخرجها كلها المحب الطبري وعزاها إلى مخرجيها حفاظ الإسلام.
وما أوردناه فقطرة من بحر ثناء الله تعالى ورسوله وأصحابه وآله الطيبين الطاهرين على الصحابة كلهم وإنزالهم منازلهم وإلزام الخلق كافة محبتهم لحب الله ورسوله لهم. وهذه نصوص السادة أهل البيت النبوي علي وابن عباس وفاطمة وبني علي الحسن والحسين وابن الحنفية وزين العابدين ومحمد وجعفر وسائر السادة الذين اتبعوا آثارهم واقتفوا منارهم شاهدة لهم بمحبتهم، ناطقة بموالاتهم ونصرتهم، وإنهم وأبو بكر وعمر وعثمان بل وسائر الصحابة حزب واحد وفريق متحد، متناصرون على الحق، متظاهرون على الهدى، ولا ينكر ذلك إلا جاهل مارد ومتجاهل معاند.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف اختار هؤلاء المارقون عن الدين مروق السهم عن الرمية ما جنحوا إليه من البدعة المهلكة الردية، ثم يزعمون أنهم القائمون بنصرة العترة الفاطمية، والموالون لأهل العصبة النبوية، فإن كان موالاتهم ونصرتهم لغير من ذكرناه من علي وأتباعه الهداة المهتدين فقد اعترفوا بالضلال، ونحن براء مما زعموه، وإن زعموا أنه حدثمن أهل البيت بعد ما ذكرنا من هو أهدى منهم وأعلم فقد كابروا الحس وقيل لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وإن وافقونا على أن من ذكرنا هم سادة أهل البيت فليشهد الله وملائكته وجميع خلقه بأنا من أتباع أولئك نعادي من يعادون، ونوالي من يوالون، وأما الخصم فبيننا وبينهم كتاب الله وسنة رسوله وأهل البيت المذكورون، فما حكموا به على الصحابة من مدح أو ذم اتبعناه، ونحن والله أولى منهم بموالاة السادة الكرام أهل البيت لاقتفائنا آثارهم، {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}.
فصل
اعلم أن من حسن الأدب معهم رضي الله عنهم أن نتلقى ما ورد من فضائلهم ومناقبهم بالقبول ليقع في القلوب موقع التعظيم، ولا نشتغل بمقابلة هذه الفضيلة بهذه الفضيلة تفضيلا لأنه ربما خيف من الإزراء بالمفضول، هذا مع اعتقاد ما أجمع عليه السلف، وهذا كما نهي عن المجادلة في تفضيل الرسل بعضهم على بعض مع تصريح القرآن بذلك، وتصريح الرسول بأنه سيد ولد آدم مع قوله: "لا تفضلوني على يونس بن متى". فكان اللائق بنا أن لا نشتغل بالجواب عما أورده الخصم، ولكن عند الضرورات تباح المحظورات، فنقول: قد علمت مما سبق أن حجته داحضة من وجوه كثيرة:
أحدها: إنه يزعم فسق الرواة فيعترف ببطلان شبهته على معتقده الفاسد، فقد ألزم نفسه بطلان شبهته، وكفى بنفسه عليه شهيدا، فلا نشتغل بجوابه حتى يوافقنا على معتقدنا.
الثاني: إذا اعترف زدناه فقلنا: كل هذه الأدلة الواردة في فضل سيدنا أمير المؤمنين علي معارضة بأدلة أقوى منها، وأقوى من ذلك كله الإجماع على أفضلية أبي بكر وتقديمه وصحة إمامته حتى من علي وسائر أهل البيت رضي الله عنهم، وهذه النقول الصادقة المعتمدة بيننا وبينكم محكمة، ولا نعطي كل أحد بدعواه، وكل دعوة لا يؤيدها بينة شرعية مردودة.
الثالث: إن اعتقادنا أفضلية الصديق وصحة إمامته موجب لتقرير الشريعة وموجب لفضيلة علي وإثبات فضائل أهل البيت وغير ذلك مع اعتقاد صدق الناقلين لذلك، واعتقادهم أفضلية علي موجب لبطلان إمامة الصديق وفسق الرواة فيوجب ذلكرد فضائل علي أيضا وغيره، فلو لم يرد نص في أفضلية الصديق ولا إجماع لوجب قطعا اتباع معتقدنا، فكيف والأمر بالعكس، فما أشبههم بإخوانهم الزاعمين اتباع موسى والإيمان بالتوراة ويكفرون بمحمد والقرآن المصدق لموسى والتوراة، مع أن شريعة موسى والتوراة موجبة التصديق بمحمد والقرآن، فكفروا بموسى والتوراة من حيث لا يشعرون، {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا}. الرابع: ما يترتب على معتقدهم من الإزراء بأمير المؤمنين علي وسبه أعظم السب وحاشاه من ذلك لأنهم يزعمون أنه يعلم أنه وصي رسول الله ﷺ وولي عهده، فكيف نبذ وصية رسول الله ﷺ وراء ظهره وضيع عهد الله وخذل دين الله، بل وعلى ما أجمع السلف أنه لا نص في الخلافة، فيزعمون أنه يعلم أنه أفضل الأمة وأن الخلافة متعينة عليه. فقد نسبوه على كل تقدير إلى ما لا يجوز لمسلم أن ينسبه إلى أفسق الولاة الظلمة من تضييع حقوق الله ورسوله وحقوق دينه وحقوق العباد، وتركها بأيدي من يزعمون أنهم فسقة ظلمة متعاونون على الإثم والعدوان، هذا وهو البطل المقدام، الذي لا يماثله الشجعان، فكيف رهب من الموت، وآثر الحياة الدنيا، وهو ابن عم رسول الله ﷺ وزوج الزهراء وأبو السبطين. أما وجد قط في بني هاشم ثم قبائل قريشثم في سائر الأمة من يقوم بنصره ويعينه على أمره، ويبذل روحه لله ولرسوله ! فكيف قدر بعد ذلك على قتال معاوية وأتباعه لما رأى الإمامة متعينة عليه، أين يذهب هؤلاء الضلال؟ {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}.
الخامس: القرائن الشاهدة بوجوب تقديم الصديق أصرح وأظهر مما استدلوا به على وجوبت قديم علي:
فمنها: الإجماع على أنه ﷺ استخلف أبا بكر في الصلاة ولم يعزله فيبقى بالاتفاق إماما للمسلمين في الصلاة بالنص المجمع عليه، فيكون إمامهم في غيرها من طريق الأولى، إذ لا قائل بأن شيئا من أركان الإسلام أعظم منها، ولأنه يلزم منه لو عزلوه عن الصلاة مخالفة النص الصريح، وإن اتبعوه فيها واستخلفوا غيره فيما سواها نقصان شأن ذلك الخليفة وانخرام أمر خلافته، والقطع بأن ما بقي عليه الصديق من الصلاة أعظم شأنا مما استفاده الخليفة الآخر وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وقد نبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله السابق: استخلفه رسول الله ﷺ على صلاة المسلمين، وولاه المسلمون ذلك بعده، وفوضوا إليه أمر الزكاة لأنهما مقترنان.
ومنها: من الآيات قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} تدل بالنص الصريح على أنه لا أن يكون في هذه الأمة التي هي خير الأمم من المؤمنين المخاطبين بالآية خلفاء حق حتى يخلفون رسوله، كما خلف الرسل قبلهم خلفاء حق يمكن لهم دينهم الذي أكمله لهم وارتضاه في حياة نبيهم، ويبدلهم من بعد خوفهم في ابتداء الإسلام أمنا فهذا منطوقها مجملا. ويجب حملها عقلا ونقلا على الخلفاء الأربعة للإجماع على أنه لم يلحقهم من هو أولى بهذه الفضيلة منهم، فهم الذين صدق وعد الله فيهم، وهم أئمة حق، وعلى هدى من ربهم، قاموا بسياسة المسلمين والذب عن حوزة الإسلام أتم قيام فقرروا قواعد الدين فتمكن وأمن بهم المسلمون أبلغ أمن، ثم هذه الأمور الموعودة كان ابتداؤها في خلافة أبي بكر وكمالها على أتم الوجوه في مدة خلافة عمر وصدر خلافة عثمان، وانتهاؤها في إمامة علي رضي الله عنهم أجمعين. وهذا مصداق قوله ﷺ: "«الخلافة بعدي ثلاثون» ثم يكون ملكا عضوضا". فالتعريف في قوله الخلافة للعهد فكأنه قال الخلافة التي وعدكم الله بها، ومتى صحت خلافة الأربعة وجب ترتيبهم في الفضل والحقية بها على الترتيب الواقع.
وقوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين إما قتالكم لهم أو إسلامهم، وليسوا ممن يقاتل حتى يسلم أو يعطى الجزية، فأما المفسرون فحملوا الداعي على الصديق، والقوم أولي البأس على بني حنيفة. وأما من حيث تعيين ذلك أيضا فللعلم بأن ذلك الداعي للأعراب إلى الجهاد معهم ليس رسول الله ﷺ لقوله تعالى {قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} ولا عليا رضي الله عنه لأنه لم يقاتل كفارا ليسلموا، ولا من بعده لأنهم عندنا ظلمة وعندهم أشد ظلما. وبقي الاحتمال منحصرا في الثلاثة أبي بكر لقتال أصحاب مسيلمة، وعمر وعثمان لقتالهما فارس والروم، ويترجح جانب الصديق لأن فارس والروم يقاتلون ليسلموا أو يعطوا الجزية، وأهل اليمامة يقاتلون أو يسلمون، ولهذا حمل المفسرون الآية على ذلك ليطابق الواقع، فثبت أن الصديق هو الداعي الموعود به، وثبتت خلافته وخلافة من بعده على الترتيب.
وقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} فلو كانت إمامة الصديق باطلة وقد أعانته عليه والإمامة حق علي ولم تعنه لكانوا شر أمة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
وقوله تعالى {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} قال ابن عباس: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله تعالى، وتلا هذه الآية وقال: قال لحفصة: "أبوك وأبو عائشة أولياء الناس بعدي". أخرجه الواحدي وأورده المحب الطبري. وقال في قوله تعالى {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} قال الزرع محمد ﷺ والشطأ أبو بكر فآزره فقواه عمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله عنهم.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سألت النبي ﷺ عن تفسير سورة العصر فقال: {والعصر} قسم من الله تعالى بآخر النهار {إن الإنسان لفي خسر} أبو جهل {إلا الذين آمنوا} أبو بكر {وعملوا الصالحات} عمر {وتواصوا بالحق} عثمان {وتواصوا بالصبر} علي. أخرجه الواحدي وأورده المحب الطبري. وموضع الدلالة سياق ترتيبهم الدال على ترتيب منازلهم في الفضل، وهم يوجبون إمامة الأفضل، وكذلك كل موضع ورد فيه ذكرهم لا تراهم إلا على هذا الترتيب.
ومن الأخبار قوله ﷺ: «إني لا أدري قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه» أخرجه الترمذي. وأخرجه أحمد وأبو حاتم إلى قوله «أبي بكر وعمر»
"لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" أخرجه الترمذي.
«يأبى الله ذلك والمسلمون» ثلاث مرات. أخرجه الترمذي أيضا، وقد سبق.
وقيل يا رسول الله: من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه أمينا قويا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم". أخرجه. [5] وأشار بقوله: "ولا أراكم فاعلين" إلى اختلافهم عليه يوم ولايته وعدم ذكره لعثمان هنا لأن كلامه جواب لهم، ولم يسألوه عنه فنقل الراوي الجواب دون السؤال. يوضحه أنه قد جاء أيضا في رواية: قيل له: يا رسول الله ألا تستخلف؟ قال: "إني إن استخلفت عليكم فعصيتم خليفتي نزل بكم العذاب" قالوا: ألا تستخلف أبا بكر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قويا في أمر الله ضعيفا في نفسه"، قالوا: ألا تستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قويا في أمر الله قويا في أمر نفسه"، قالوا: ألا تستخلف عليا؟ قالوا: "إن تستخلفوه تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الصراط المستقيم".
وبايع ﷺ أعرابيا بقلائص إلى أجل فقال: يا رسول الله إن أعجلتك منيتك فمن يقضيني؟ قال: "يقضيك أبو بكر" قال: فإن عجلت بأبي بكر منيته فمن يقضيني بعده؟ قال: "عمر" قال: فإن عجلت بعمر منيته فمن يقضيني بعده؟ قال: "عثمان" قال: فإن عجلت عثمان منيته فمن يقضيني؟ فقال: "إذا أتى على أبي بكر وعمر وعثمان أجلهم فإن استطعت أن تموت فإن بطن الأرض خير لك من ظاهرها". أورده المحب الطبري.
وسأله بنو المصطلق إلى من ندفع زكاتنا إن حدث بك حدث؟ فقال: "ادفعوها إلى أبي بكر"، قالوا: فإن حدث بأبي بكر حدث الموت فإلى من ندفعها؟ فقال: "إلى عمر"، قالوا: فإلى من ندفعها بعد عمر؟ فقال: "إلى عثمان"، قالوا فإن حدث بعثمان حدث فإلى من ندفعها؟ فقال: "إذا حدث بعثمان حدث فتبا لكم آخر الدهر". أورده المحب الطبري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبي ﷺ بستانا فأتى آت فدق الباب فقال رسول الله ﷺ: "يا أنس قم افتح الباب له وبشره بالجنة وبالخلافة بعدي"، قال قلت: أعلمه بذلك يا رسول الله؟ قال: "أعلمه"، ففتحت فإذا أبو بكر فقلت: أبشر بالجنة وبالخلافة بعد رسول الله ﷺ، ثم ذكر في عمر وعثمان كذلك، وذكر في عمر أنه الخليفة بعد أبي بكر وأنه مقتول، وأن عثمان قال له: يا رسول الله والله ما تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك بها قال: "هو ذاك يا عثمان". أورده المحب الطبري وأشار إلى أن هذه قصة غير قصة بئر أريس التي رواها أبو موسى المشهورة في الصحيحين وغيرهما.
وقال رسول الله ﷺ: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ﷺ ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر"، قال جابر: فقلنا أما الرجل الصالح فرسول الله ﷺ وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه ﷺ. رواه أبو داود.
وقال ﷺ: «بينما أنا نائم رأيتني على قليب أي بئر عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله أي لسقي الناس على حوضها، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم أخذها ابن الخطاب فنزع حتى روي الناس» ووصفه بالقوة. أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن أبي حاتم مع اختلاف في بعض الألفاظ.
وعنه ﷺ أنه قال لأبي بكر: "كيف أنت يا أبا بكر إن وليت الأمر بعدي؟" فقال: بل قبل ذلك أموت يا رسول الله، قال: "فأنت يا عمر" قال عمر: هلكت إذا، قال: "فأنت يا عثمان؟" قال: آكل فأطعم وأقسم فلا أظلم، قال: "فأنت يا علي؟" قال: آكل القوت، وأخفض الصوت، وأقسم التمرة، وأحمي الجمرة قال: "كلكم سيلي وسيرى الله عملكم". أورده المحب الطبري.
وقال ذات يوم: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان، قال الراوي فرأينا الكراهة في وجه رسول الله ﷺ. وفي رواية: فاستاء لها، يعني فساءه ذلك، فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء.
وسبب الكراهة التي بدت على وجهه ليس راجعا إلى رجحان بعضهم ببعض لأن ذلك هو المعلوم المقرر عنده، بل راجع إلى قوله ثم رفع الميزان، وهذا الميزان هو الميزان المشار إليه بقوله تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان}، وهو الميزان الذي يوزن به حكم الكتاب الذي نزل مقارنا له، فيسوى به الحقوق، ويقام فيها القسط فيعطى كل ذي حق حقه، ولما أخبره أنه ذلك الميزان رفع بموت عثمان علم أن منتهى استقامة أمته على أكمل الأحوال، وأتم قوانين العدل إلى موت عثمان، وهذه المدة المشار إليها بقوله خلافة نبوة أي كاملة من كل وجه باجتماع الكلمة واتحادها كما اجتمعوا على نبيهم سامعين مطيعين، ثم يحصل الجور في جانب فيعطى بعض الحق غير أهله كما انصرفت الخلافة عن علي وآله إلى بني مروان. ولا يقدح ذلك في خلافة سيدنا علي لأنه قد أدخل مدته في أسهم الخلافة الموعود بها في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم} فهذه هنا خلافة نبوة، وهي خلافة خاصة مشروط فيها اتحاد الكلمة، والتي في الآية خلافة حق عامة مطلقة. والله أعلم.
وقال رجل: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء. أخرجه أبو داود. ومعنى انتشطت: جذبت ورفعت قبل أن يتمكن من الري من غير تقصير منه ولا تفريط، ومع تأهله وشدة حرصه لولا ما حال بينه وبينها من القضاء المبرم، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ومن الآثار عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي ﷺ بعثه واليا على عمان، ومات رسول الله ﷺ وهو ثم، فجاء عالمهم وكان قد أسلم ليلة مات رسول الله ﷺ فقال له: قد مات رسول الله ﷺ وأتى عليه هذه الليلة، وأتى نحو ذلك في كتابنا، قال: فلم ألبث أن جاءني كتاب أبي بكر بذلك، فقلت لهم: هذا الذي ولينا بعده ما تجدونه في كتابكم؟ قال: يسيرا ثم يموت، قال: قلت: ثم ماذا؟ قالوا: ثم يليكم قرن الحديد يعمل بسيرة النبي ﷺ، يملأ مشارق الأرض ومغاربها قسطا وعدلا لا تأخذه في الله لومة لائم. أورده المحب الطبري. وأخرج أبو داود أن عمر رضي الله عنه سأل الأسقف وهو عالم النصارى لما قدم عليه كيف تجدوني عندكم؟ فقال: قرن حديد. ثم تعرض لخلافة عثمان بعده وخلافة علي بعده رضي الله عنهم.
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنت ببصرى من أرض الشام فأدخلني النصارى ديرا كبيرا فيه تصاوير كثيرة، فإذا بصورة رسول الله ﷺ وصورة أبي بكر رضي الله عنه وهو آخذ بعقب النبي ﷺ، فقالوا: هل ترى صورة صاحبكم؟ قلت: نعم ولا أخبركم حتى أرى ما تقولون، قالوا: هو هذا، قلت: نعم أشهد أنه هو، قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟ قلت: نعم، قالوا: أتشهد أنه الخليفة بعده؟ قال وذلك في ابتداء الإسلام والنبي ﷺ بمكة يومئذ. أورده المحب الطبري.
ثم إنه مما ألجأ الصحابة رضي الله عنهم إلى المبادرة بعقد البيعة للصديق رضي الله عنه مع ما قد عرفوا من الفضل مع ما أبان الله به فضله وأظهر به شأنه وغزارة علمه ونبله:
فمنها: ثباته عند اختلافهم في موت النبي ﷺ واختلال عقول أشدهم بأسا عند تلك الصدمة العظيمة، فخطبهم وقرر لهم موت النبي ﷺ وعزاهم به، وقوى عزائمهم على الصبر ونصرة الدين والثبات على ما كان عليه نبيهم ﷺ بقوله رضي الله عنه: "أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلا قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأنهم لم يسمعوا قبل مقامه ذلك بهذه الآية، فحمدوا الله واسترجعوا وصبروا وثبتوا ولو كان الخطب عظيما. ثم قال لهم ليجمع شملهم على الهدى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، إنه لا بد لهذا الدين ممن يقوم به. ولم يدعهم قط إلى نفسه ولا طلب انقيادهم له خاصة، فأناب الكل إلى قوله، إلا أن الأنصار رضي الله عنهم قالوا: صدقت، ولكن منا أمير ومنكم أمير، أي لأنهم كانوا ممتازين أيام الرسول، فالمهاجرون حيز والأنصار حيز، وكان رسول الله ﷺ كثيرا ما يؤمر على المهاجرين رجلا منهم، وعلى الأنصار رجلا منهم، مع أنهم كلهم مآل أمرهم إليه. فعرفهم الصديق أن القائم بعد رسول الله ﷺ يقوم مقامه، فيجب الإجماع على الولاية العظمى، وتلك ولاية في بعض الأحوال تكون بنظر الإمام، فلا يجوز أن تكون الإمامة إلا لشخص واحد، ثم يجب أن يكون قرشيا لقوله ﷺ: «الأئمة من قريش» وأيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقد سمانا الصادقين في قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. فقد أمركم الله أن تكونوا معنا تبعا فأذعنوا له، واعترفوا بغزارة علمه، فعقدوا له البيعة كارها.
ثم اختلفوا في موضع يقبر النبي ﷺ، فمنهم من قال ينقل إلى مكة لأنها مسقط رأسه ومنشأه ومقام أبيه إبراهيم وحرم الله الأعظم، وقال قوم بل ينقل إلى بيت المقدس عند أبيه إبراهيم وإخوانه الأنبياء والمرسلين، وقال قوم بل يقبر في البقيع بالمدينة عند أصحابه لأنها قد صارت دار هجرته والبقيع بالباء هي المقبرة التي أمر بها ﷺ، فتنازعوا في ذلك فرجعوا إليه، فقال سمعته ﷺ يقول: "إن الأنبياء تدفن حيث تقبض أرواحهم" أو كما قال، فدفنوه في حجرته فزال عنهم الخلاف، واطمأنت قلوبهم ببركته رضي الله عنه.
ولم يزالوا يتعرفون بركة رأيه وغزارة علمه وثبات جأشه، فأول شيء اختلفوا فيه بعد دفن النبي ﷺ وعقد البيعة له جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان النبيﷺ أمره على جيش ومات والجيش مجموع بظاهر المدينة. فأشار جمهور الصحابة على أبي بكر بتخليفه ليكون عونا للمسلمين خشية أن يحدث على المدينة حدث قبل استقرار الأمر، فأبى إلا تنفيذه لجهته وقال: "والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين أزواج النبي ﷺ ما حللت لواء عقده رسول الله ﷺ بيده، ويكون ذلك أول شيء أبدأ به في أمري"، فنفذه لشأنه فحمدوا عاقبته وبركة رأيه لما في ذلك من الإرجاف لكثير من أعداء الدين. وكانت الأعراب التي حول المدينة قد أشاعوا الردة، فلما رأوا ذلك قالوا: والله ما تجاسر هؤلاء على تجهيز الجيوش مبادرة إلا وأمرهم مجتمع وشملهم متحد، فانكسر به حدهم.
ثم من العرب من ارتد كبني حنيفة، ومنهم من منع الزكاة فقط، فعزم على قتال الكل فنازعه الصحابة أولا في قتال مانعي الزكاة، وقالوا كيف نقاتلهم وهم يقولون لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فقال: ألم يقل: «إلا بحقها»، وهذا من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة لأنهما مقترنان في قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} قالوا له: فلعلك تعرض أولا عن مانعي الزكاة وتستعين بهم على أهل الردة ثم إذا استقر الأمر فلك فيهم شأنك، فقال: فإن ترك آخرون الصلاة وآخرون الزكاة وآخرون الصيام وانحلت عرى الدين عقدة عقدة فماذا أفعل، بل أستعين بالله على نصرة دينه وهو خير الناصرين. فانشرحت صدورهم برأيه المبارك، وانقادوا له، وعرفوا بذلك علو همته وشدة عزمه، فحصل النصر والظفر، واستقرت قواعد الإسلام ببركته رضي الله عنه.
فصل
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» أخرجه الترمذي وأحمد. وفي بعض طرقه «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "«من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وانصر من نصره".
وعنه أيضا سمعت رسول الله ﷺ يقول لعلي رضي الله عنه: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" أخرجه الترمذي.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله ﷺ عليا على سرية فلما رجعوا شكاه أربعة نفر من السرية والنبي ﷺ يعرض عنهم فقال: «ما تريدون من علي ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي» أخرجه الترمذي وأحمد.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي» أخرجه البخاري ومسلم.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» أخرجه الترمذي.
والأخبار الواردة في فضل علي وسائر أهل البيت الطيبين الطاهرين أكثر من أن تحصر، وفضلهم ومجدهم وفخرهم أشهر من أن يذكر. وليس من شرط محبتهم وموالاتهم الغلو في الدين واتباع سبيل المفسدين، قال الله تعالى: {لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.
وما استمسك به المبطلون في أن هذه الأحاديث وأمثالها تقتضي أن يكون سيدنا علي هو الوصي بالخلافة وأن خلافة الثلاثة من السادة الأتقياء قبله معصية مخالفة لنص الرسول: إفك مفترى اجترأوا عليه سفها بغير علم افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين، ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، {فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} على وفق أرائهم الفاسدة {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}. {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}. {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم. فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}. وأي سخط أعظم ممن يعتقد رأيا يؤدي إلى تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله وتكذيب أصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين وتخطئة علي وابن عباس وأتباعهما من سادة أهل البيت بموالاتهم الصحابة ونسبتهم إلى خذلان دين الله بتركهم بذل أنفسهم في نصرة الله ورسوله، إلى غير ذلك من الآثار القبيحة والفضائح الشنيعة، قبح الله معتقديها الذين استحبوا العمى على الهدى، وأذاقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
يا عجبا أي عقل أو نقل يقضي أن يرتكب مثل ذلك بمجرد احتمال قام الإجماع على أنه غير مراد. مع أنا لو وجدنا ألف آية في كتاب الله وألف حديث يتواتر في سنة رسول الله ﷺ متطابقة على الأمر بتولية علي بعد النبي، ثم وجدنا الإجماع منعقد من الصحابة ومن علي أيضا على أن الصديق أولى بالخلافة على تصويب ما فعلوه، كانت القواعد المقررة والأصول المحررة المتفق عليه بين أئمة الدين تقتضي إما حمل تلك النصوص كلها على النسخ ويمحو الله ما يشاء ويثبت، وإما على التأويل اللائق المؤدي إلى الجمع بينها وبين ما أجمعوا عليه؛ ولم يداخلنا شك في أنهم إنما امتثلوا بما أجمعوا عليه أمر الله تعالى ولم يتعدوا حكم الله. لأنا إن لم نعتقد ذلك لزمنا اعتقاد بطلان الكتاب كله والسنة كلها وحصلنا على مراد أعداء الله تعالى المتظاهرين بالرفض المصرين على الكفر المحض. فكيف نتناول احتمال أحاديث قد عورضت بما هو أقوى منها متنا وسندا مستندا إلى الإجماع، وتقرير كل نص في محله.
فقوله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه» يحتمل أن يريد ما زعمه الخصم إثبات ما له من الولاية عليهم والتصرف فيهم بعده من غير فاصل بينه وبينه، ويحتمل أن يكون مع فاصل، ويحتمل أن يكون المراد بالمولى القائم بالنصرة والتقدير من كنت مولاه فعلي قائم مقامي بعدي في نصرته، وهو ناصر كل مؤمن بعدي، أو من كان على نصرته فعلي على ذلك أيضا لأن قرابة الرجل تتحمل ما على قريبه. وفائدة اختصاصه بذلك ما عرف لعلي من النصرة لدين الله بما لم يعرف لغيره، فكم جلى من كروب، وكم كابد من حروب، وكم فتح الله على يديه في زمنه ﷺ وكان ذلك كله منه لنصرة الله ورسوله، والله ورسوله ولي المؤمنين {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} أي لا ناصر لهم، وإذا كان كذلك أعلمهم أيضا أنه يبقى بعده على ما كان عليه ناصرا لمن كان النبي ناصره. وصدق ﷺ، فكم أشاد الله من دعائم الإسلام، وأثبت له بها المنة في عنق الخاص والعام. ويحتمل أن يريد إثبات الخلافة له في الجملة لكن بعد فاصل بينه وبينه، وقد وقع ذلك، وهذا كما ثبت أنه ﷺ رأى في منامه حورية في الجنة لعثمان فقال لها: لمن أنت؟ فقالت: للخليفة بعدك. ومثل ذلك جائز في كلام العرب حقيقة ومجازا لصدق البَعدية حتى أهل عصرنا هذا لو صدق عليهم اسم الخلافة حقيقة لم يزل اسم الخلافة مستمرا على الزمان، لأن قولنا جاء زيد بعد عمرو محتمل أنه جاء بعده من غير فاصل ومن غير مهلة، ويحتمل عكس ذلك. فكذلك قوله بعدي على هذا الوجه محتمل. وعلم الصحابة بترجيح الاحتمال الثاني بتولية أبي بكر في الصلاة مع حضور علي وغيره هو خبر متفق على صحته بخلاف شيء من هذه الأخبار فإنها غاية ما تبلغ درجة الحسن سوى قوله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقد علم من سياق القصة أنه قال له تطييبا لخاطره وإعلاما له إنما اختاره له من الخلافة عنه بالمدينة عند سيره إلى الجهاد في تلك المرة لا غير لا نقص عليه فيه، وإن تلك المنزلة منزلة هارون الذي هو أرفع درجة من موسى حيث يقول موسى لأخيه هارون {اخلفني في قومي}، وأن الرفعة له فيما اختاره من المضي معه كما هو أكثر أحواله، والتخلف عنه كما في هذه المرة.
وكيف يكون مراده بذلك تولية الخلافة بعده وهارون المشبه به مات قبل موسى عليهما السلام، وإنما خلفه فتاه وصاحبه في سفره يوشع الذي هو بمنزلة الصديق، {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، فصح أن عليا في تلك المرة بمنزلة هارون من موسى، وأبو بكر بمنزلة فتى موسى من موسى في توليه الخلافة.
وفائدة جمع المسلمين وإشهادهم على ما في بعض طرق الحديث من قوله «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن في نفسه» إلى آخره، إخبارهم بأن عليا كان خليفة بما ولاه عليه من أمر السرية بل ومتأهل التولية أمر الأمة بعده أيام خلافته التي وقعت لا سيما وقد شكوا منه. فأراد التنبيه على جلالة قدره وتعريفهم بأنه سيولى أمرهم ليتمرنوا على اعتقاد طاعته وينوطوا به الآمال إذا توقعوها كائنة وليحذرهم من مخالفته والخروج عليه لما أطلعه الله من أنهم لا يجتمعون عليه لتكون إقامة الحجة على من يعمل خلافه يومئذ. ولو كان المراد ما زعمه الخصم للزم منه ما يترتب عليه من المقاصد السابقة، فوجب العدول عنه عقلا ونقلا.
وما أحسن قول الحسن المثنى بن الحسن بن علي رضي الله عنه لما قال له الرافضي يزعم ما زعمه الخصم: ألم يقل النبي ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فقال الحسن: أما والله لو عنى بذلك رسول الله ﷺ ما تزعمه من الخلافة بعده وتوليته عهده لأفصح به ولقال: أيها الناس إن عليا هو ولي عهدي والخليفة بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. أي كما أفصح بالصلاة في قوله «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وكما قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن كان عبدا حبشيا». ثم قال: لئن كان ما زعمتم حقا أن النبي ﷺ اختار عليا لهذا الأمر بمشهد من المسلمين فإن عليا أعظم خلق الله إثما وأفحشهم خطئية وجرما إذ ترك أمر رسول الله ﷺ والقيام بأمر الله وحابى فيه الناس. أورده المحب الطبري.
وأما قوله ﷺ لعلي: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" فذلك بعد أن آخى بين المسلمين وجاءه علي تدمع عيناه قال يا رسول: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فالسياق يدل على وقوع القول وجوبا تطييبا لقلبه مع أنه حق في نفسه، والأخوة هنا أخوة الإسلام، واختصاص علي بها في هذا المقام فضيلة هو لها أهل. ولكن إذا قوبلت هذه الفضيلة بفضيلة الصديق التي أثبتها له ﷺ ابتداء بقوله وهو على المنبر قبل أن يموت بأيام قلائل في مرضه الذي مات فيه وقد خرج عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي»، وفي رواية: «ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلته» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي مع اختلاف في بعض الألفاظ. واتفقوا على قوله «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي» ظهر لك أن الله يمن على من يشاء من عباده، ويختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأين قوة السند من السند، والمتن من المتن، والفضيلة من الفضيلة، والقول المبتدأ من القول المستدعى {وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير}.
وأما قوله ﷺ: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا» إلى آخره، فصدق رسول الله ﷺ. لكن الشأن في فهم من هو أحق بهذه الفضيلة، فإن كان أهل بيته العباس وابنه علي وعليا وابنيه ومن اقتفى أثرهم واتبع أفعالهم وأقوالهم من أهل البيت إلى يوم الدين فقد ظهر مصداق ذلك إذ لم يزالوا قرناء كتاب الله وسنة رسول الله، وانتشر عنهم من التفسير والحديث والفقه والمواعظ والحكم والسياسات الرياضية وغيرها ما طبق الأرض وملأ أقطار الدنيا، فعلى مخالفهم منا ومن الخصم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وبيننا وبين الخصم تحكيم النصوص عنهم أولا ثم المباهلة فنجعل لعنة الله على الكاذبين، وإنا وإياهم لعلى هدى أو في ضلال مبين.
وقد سبق عن أهل البيت ما فيه كفاية لقوم مؤمنين {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}.
وأما ما اجترأ عليه عدو الله من القدح في الثلاثة الخلفاء رضي الله عنهم فقد علمت مما سبق أن القدح فيهم خاصة وفي سائر الصحابة عامة يؤدي إلى الكفر الصريح الذي ليس بعده كفر، فاتخذ ذلك أصلا لترد به تزويرات أهل الأباطيل، وتحمل به ما صح وثبت على أجمل المحامل وأحسن التأويل. وكان الأولى بنا أن لا نلوث كتابنا بما ألقاه، ويجعل لهم أسوة بما قد افتراه أعداء الله على الله:
قد قيل إن الإله ذو ولد ** وأن هذا الرسول قد كهنا
فما سلم الله من بريته ** ولا رسوله فكيف أنا
لكن رأينا أن نكافئه عنهم بسوء فعله ونكشف الغطاء عما غره من قبيح جهله بنكت نشير إلى الجواب وتهدي إلى جادة الصواب.
أما قوله: إن عليا رضي الله عنه قد استنقذ أم ابنه محمد بن الحنفية من يد أبي بكر إذ كان لا يجوز لأبي بكر سبيها؛ فهذه العبارة الخشنة من أين لفقها وعمن تلقفها، أم من هواه اختلقها أم من مخارق أهل مذهبه الفاسد اخترقها؟ بل المحمل الصحيح في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه رأى جواز سبي نساء أهل الردة قياسا على الكفار الأصليين فوافقه الصحابة يومئذ على ذلك، وهي مسألة اجتهادية للاحتمال فيها مجال، ثم ترجح بعد ذلك للصحابة الفرق بين الكافر الأصلي وبين المرتد فلا تسبى ذراري المرتدين، وكانت أم محمد بن الحنفية من السبي. فإن صح أن عليا جدد نكاحها من وليها أو غيره فمحمول على الورع والاحتياط قبل ترجيح عدم جواز سبي المرتدين، وعلى تدارك الصحة إن كان بعد الترجيح، ولا يترتب على ذلك قدح ولا ذم أصلا.
أما قوله: لأنها من قوم لم يجر منهم ما يوجب القتال؛ فإن كانت هذه الفتوى من على دين محمد ﷺ فكذب عدو الله لانعقاد إجماع الأمة على أن بني حنيفة ارتدوا، وادعى فيهم مسيلمة الكذاب لعنه الله النبوة، وافترى على الله، وقال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، وقال سأنزل مثل ما أنزل الله، وتزوج بسجاح اليربوعية المدعية للنبوة أيضا وأمهرها أن حط عن قومها صلاتي الصبح والعشاء، ولا خلاف بين المسلمين على كفرهم. وإن كان على مذهب إمامه وقدوته عدو الله علي بن الفضل القرمطي فصدق، لأنه استولى على اليمن وتمكن وأظهر ما تضمره الإسماعيلية من المذهب الخبيث، وادعى أولا النبوة، وكان يؤذن المؤذن بين يديه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، واستباح المحظورات، وأحل الخمر والزنا ونكاح البنات. وأنشد أبياته المشهورة:
خذي الدف يا هذه والعبي ** وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم ** وهذي شرائع هذا النبي
لكل نبي مضى شرعه ** وهذا نبي بني يعرب
فقد حط عنا فروض الصلاة ** وحط الصيام فلم نتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ** وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا ** ولا زورة القبر فى يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين ** من الأقربين ولا الأجنبي
فكيف حللت لهذا الغريب ** وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربّه ** وأسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء ** حلال فقدست من مذهب
بل قبحه الله من مذهب.
ثم ادعى الربوبية ثانيا فكان إذا كتب كتابا قال فيه: من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان.
فلا رحم الله مثواه، ولا بلّ بشيء من وابل الرحمة ثراه.
فمن كان هذا إعلان إسراره وعنوان صحيفة إضماره، فكيف يميل إلى مذهبه من يدعي الإيمان فضلا عن أن يعتقده أقوم الأديان {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}.
وأما قول عدو الله: إن عليا لم يتأمر عليه أبو بكر ولا غيره، ولا صلى خلف أحد من الخلفاء قبله؛ فكذب مفترى، وقد سبق تصريح علي نفسه بأنه بايع أبا بكر وعمر طائعا، وعلى ذلك انعقد الإجماع، لكن لم يبايع أبا بكر إلا بعد ستة أشهر من خلافته واعتذر إليه من تخلفه. وقد سبق في خطبة علي أيضا أن أبا بكر صلى بالناس في حياة رسول الله ﷺ سبعة أيام، ولم يصل رسول الله ﷺ خلف أبي بكر في تلك المدة، ولا معنى للسؤال عن ذلك، لأنه إنما أقامه نيابة عنه لعدم قدرته على الصلاة بالمسلمين، وكفى لأبي بكر فخرا قيامه مقام المصطفى ﷺ.
وموضع قبر النبي ﷺ كان ملكا لرسول الله ﷺ، خلفه تركة بعده يصرف في المصالح، ولأزواجه بعده في ذلك حق السكنى كما لهن حق الإنفاق من صدقاته، ثم يصير فيئا للمسلمين، فلما قبر النبي ﷺ في حجرة عائشة رضي الله عنها بقي ذلك الموضع الباقي مستحقا لعائشة فيه السكنى، والبيت بيتها فأذنت لأبيها في ذلك. ثم استأذنها عمر عند موته وأمر باستئذانها بعد موته أيضا فأذنت له حيا وميتا. وقد سبق ذكر قول علي في عمر: إني كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك. وروي أنه ﷺ مر بقبر يحفر فقال: قبر من هذا؟ فقالوا: قبر فلان الحبشي، فقال: "سبحان الله سيق من أرضه إلى الأرض التي خلق منها". وقال علي: إني لأعلم لأبي بكر وعمر فضيلة ليست لأحد خلقا من تربة خلق منها النبي ﷺ. أورده المحب الطبري. وكفى بهذه شهادة من المصطفى ومن علي لهما بأن جعلهما عنده أكبر المناقب. فكيف يصادم عدو الله قولهما، ويجعل ذلك من أقبح المثالب.
وأما تركه ﷺ الوصية بتعيين الخليفة من بعده، فقد سبق أنه ﷺ أشفق على أمته من أن يحصل منهم عصيان لخليفته أو خليفة خليفته وهلم جرا فيحل بهم العذاب، فوكل ذلك إليهم ليجمع لهم بين فضيلة الاجتهاد وبين السلامة من الوقوع في المحذور ولو بعد حين، ودعوى الخصم الوصية لعلي خلاف الإجماع إن أراد بذلك الخلافة الكبرى، وأما في أمور جزئية فمسلم.
وكون علي رضي الله عنه يسمى وصيا فقد سئل عنه علي فقال: لا، وقد سبق قوله: لم يعهد إلينا في ذلك شيئا، وإنما هو شيء رأيناه من أنفسنا. فهو تكذيب لعلي نفسه، هذا مع إجماع المسلمين على تسمية الصديق خليفة رسول الله ﷺ، وإجماعهم على أنه لم يستخلفه، فإن صح تسمية علي بالوصي فكذلك.
ونزول أبي بكر وعمر عن مجلس النبي ﷺ في المنبر أدب ليس بواجب، وعود عثمان إلى مجلس النبي ﷺ اتباع لسنة النبي وعمل بما عمل، وهو أفضل يومئذ لما فيه من المصلحة، لأنه يترتب على ذلك لو بقي كل خليفة ينزل درجة تبين هجران سنة المنبر، ولكان الخليفة اليوم يخطب الناس وهو في تخوم الأرض.
وإذا صحت إمامته نفذت تصرفاته كلها من الأخذ والعطاء والنفي والإثبات بنظر المصلحة.
وفدك صارت بالإجماع غير ميراث عن النبي ﷺ. وكان مذهب عثمان وكثير من العلماء، أنها للوالي بعده لأنه القائم مقامه، فاستحقها عثمان كلها ووهبها لأرحامه. وعند الباقين أنها صارت فيئا للمسلمين من جملة المصالح العامة يتصرف فيها الوالي كيف شاء بحسب ما يراه من المصلحة. وعلى كل تقدير فقد اتفقوا على تصويب عثمان فيما فعله فيها وفي غيرها ما سوى عدو الله وأهل مذهبه.
ولو أن عمر رضي الله عنه قتل ألفا من أمثال سعد بن عبادة وأمثال الزبير حملناه على الصواب وموافقة حكم الله بعد أن نصحح إمامته، لأن تصرفات الأئمة لا سيما عمر محمولة على الصحة ما لم يعلم مخالفتها لنص، فضلا عن تخطئته بضرب أو كسر سيف لا صحة له.
وقد قال يوم أوصى بالخلافة شورى بين المسلمين وهو في تلك الحالة إذا اتفق أربعة منهم على رأي وخالفهم اثنان أي من الستة المذكورين فاشدخوا رؤوسهما بهذا السيف، فنظرهم رضي الله عنهم مصروف إلى ما يصلح الأمة وحسابهم على الله تعالى لا إلى محاباة زيد وعمرو.
وكراهته ﷺ أن ينتشر إخباره بالخليفتين من بعده محمول على أمر الله له بذلك مراعاة لقرابته، وهو مأمور بالتبليغ فيما أمر بتبليغه، وبالكتمان فيما أمر بكتمه، ومخير في أشياء يبلغها إن شاء ويخبر بها من شاء ويكتمها عن من يشاء. ومن المحتوم عليه التبليغ فيه تبليغ القرآن. ومتى لم ينص على شيء لا يقال لم لم ينص عليه، وإنما علينا قبول ما جاء عنه من غير اعتراض بعقولنا القاصرة عن أسرار النبوة.
والخلافة باقية إلى الآن بمصر في بني العباس، لا يصح عندهم تولية سلطان إلا بعقد يعقد له من الخليفة القائم في كل عصر.
ونكاح عمر رضي الله عنه لأم كلثوم متفق على صحته. ومذهب جمهور السلف والخلف أن الكفاءة في الحرية والدين والعفة كافية، وقد زوج النبي ﷺ فاطمة بنت قيس القرشية من مولاه أسامة بن زيد واختاره لها على قريش، وليس لها ولي غير الشرع. والغبطة والمصلحة عند ولي أم كلثوم بنت علي كانت أظهر من الشمس، وإنما خفيت على حزب الشيطان. وما اعتبره الشافعي من مراعاة الكفاءة في النسب أيضا مذهبه الجديد، والمسألة اجتهادية، واختلاف المجتهدين في الفروع لا قدح فيه.
وكل ما نقل في أمر فدك من ميراث أو نحلة شيء منها فإن تقرير علي لها على ما كانت عليه أيام الخلفاء قبله يكذب ذلك كله.
وقد قام بعض العلوية في جامع الكوفة والمصحف في عنقه بين يدي السفاح أول خلفاء بني العباس وناشده الله أن ينصفه ممن ظلمه، قال: ومن ظلمك؟ قال: أبو بكر أخذ ميراث فاطمة من فدك، قال: فهل كان بعد أبي بكر خليفة؟ قال: نعم عمر، قال: فما فعل فيها؟ قال: أقام على ظلمنا، قال: فهل بعده من خليفة؟ قال نعم عثمان، قال: فما فعل؟ قال: أقام على ظلمنا، قال: فهل بعد عثمان خليفة؟ قال: نعم علي، قال: فما فعل؟ فبهت، فقال السفاح: وايم الله لولا أن هذا أول مقام قمته فيكم لنكلت بكم.
فقل لأعداء الله ما منع أيضا عليا أن يعمل فيها بما يضمرونه في أنفسهم أيام خلافته {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا. أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}.
الخاتمة في زيادة شرح لقوله ﷺ إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به الحديث والحث على حب أهل البيت وإكرامهم
وفيه فصلان
الفصل الأول
فقوله: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به» أي الذي إن تمسكتم به، فما موصولة والجملة الشرطية صلتها، أو شيئا إن تمسكتم به، فهي نكرة موصوفة بالجملة الشرطية، والتمسك بالشيء التعلق به وحفظه.
وقوله: «أحدهما أعظم من الآخر»، وهو كتاب الله. إنما كان القرآن أعظم لأنه أسوة تقتدي به العترة المأمور بالاقتداء به وبهم سائر الناس.
وقوله: «حبل ممدود من السماء إلى الأرض»، ووجه التشبيه بينهما أن من وقع في بئر أو مهواة فسبيل نجاته وإنقاذه أن يدلى له حبل من أعلى يتمسك به فيرتفع، وكان الناس لما كانوا قبل نزول القرآن واقعين في مهواة الهلاك من الكفر والضلال المفضي بهم إلى خسران الدنيا والآخرة، وبعد نزوله واقعين في مهواة طبائعهم مشغولين بشهوات أنفسهم معرضين عما يهمهم من أمر آخرتهم المفضية إلى الانحطاط عن الرتبة العلية الفاخرة، ثم أنزل الله سبحانه كتابه الذي بصربه بعد العمى، وهدى به بعد الضلال، وأحيا به القلوب بعد موتها، واستنقذ به النفوس من أسر شهواتها، رفعهم بذلك من تلك المهواة المهلكة إلى سواء طريق النجاة الموصلة إلى الفوز العظيم والنعيم المقيم، وقد قال الله تعالى فيمن وقع في مهواة شهواته الدنية وانحط عن رتبة الهمة العلية {ولو شئنا لرفعناه بها} أي بآياتنا إلى منازل الأبرار ومراتب العلماء الأخيار {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي مال إلى الدنيا، ولما كانت الأرض سفلا للسماء المرفوعة عبر باستفال درجته عن الأرض السافلة بعد تعبيره عن علو درجته بالرفعة {واتبع هواه} ولم يتبع مقتضى آيات الله فحق عليه ما حق من الخسران والعياذ بالله.
وقوله: «وعترتي أهل بيتي» عترة الرجل بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق تطلق على عشيرته الأقربين والأبعدين، ولهذا قيده هنا بقوله أهل بيتي ليبين أنه أراد بذلك أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وهم عند الجمهور من حرم عليه الصدقة من بني هاشم والمطلب ابني عبد مناف.
ومعنى التمسك بالقرآن العمل بما فيه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومن جملة ذلك تعظيم ما عظمه الله من عباده النبيين والمرسلين والملائكة وأصحاب الرسول ﷺ ومعرفة ما يجبلهم من الحرمة والتكريم والمحبة لإجلال الله ورسوله لهم وحبهما لهم. ومعنى التمسك بالعترة اتباعهم فيما اتبعوا فيه حكم الكتاب، وطاعتهم فيما أطاعوا فيه الله ورسوله، ومحبتهم لله ورسوله من غير إفراط بغلو ولا تفريط بتقصير.
وقوله: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» أي أهل بيتي أوصيكم بالتمسك بسيرتهم كما أوصيتكم بالتمسك بالقرآن، إنما جمعت لكم بين الوصية بهما لالتزام أهل بيتي بأحكام القرآن في سيرتهم التي هم عليها حال الوصية وأنهم لا يزالون عليها حتى يلقوا الله تعالى ملازمين لحكم القرآن فيبعثون على ما ماتوا عليه. والوصية بالتمسك راجعة بالأصالة إلى الموجودين من أهل البيت وهم علي وابناه والعباس وبنوه، وغيرهم بالتبعية إلى كل من سيحدث من نسلهم إلى آخرهم إن لم يفارق حكم القرآن المأمور بالتمسك به قبله ولم يبطل حكم الاقتران بالمخالفة ولم يقطع رحم المصطفى بمخالفة سنته السنية ورحم أهل بيته الطيبين الطاهرين بمخالفة سيرتهم المرضية.
ولا شك أن أهل بيته الذين أمرنا يومئذ باتباعهم والتمسك بهم قد ظهر فيه مصدق الملازمة بينهم وبين كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وامتازوا بذلك عن كافة من ابتدع في الدين وخالف الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالحين. وذلك لكثرة ما انتشر عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من تفسير كتاب الله وإيضاح معانيه وكشف أسراره، ثم من نشر للحديث والفقه، ثم من علي بن الحسين وابنه جعفر وأمثالهم ومن مشى على منوالهم من بيان أسرار العلوم والحكم والمواعظ وسياسات النفوس، إلى ما لا يحصى. مع اتفاق السلف والخلف على أنهم على هدى من ربهم، وأنهم لم يفارقوا في سيرتهم حكم الكتاب والسنة. ومع اتفاقهم على أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على هدى من ربهم ملتزمون لأحكام الكتاب والسنة، وأن الكل حزب واحد وفريق متحد متناصرون على الحق متعاونون عليه، خصوصا أهل البيت مع الصديقين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإن موالاة علي وابن عباس وبنيهما لهما وثناءهم عليهما وغير ذلك مما سبق الإشارة إلى نبذة منه لا يحتاج إلى إقامة دليل. ولم ينقل عن واحد منهم الغض من منصبهما الجليل فضلا عما اتخذه دينا من يزعم أنه من ولاة أهل البيت من التفسيق والتضليل وغير ذلك من الأباطيل.
وإذا ثبت أن أهل البيت المذكورين كانوا نصرة لمن ذكرنا من الصحابة وثبت أن الكل لم يفارقوا حكم الكتاب وأن بعضا لم يضل بعضا، فهل خلف هؤلاء السادة المذكورين أحد من حزب الضلال المبتدعة المخالفين لسنتهم المائلين عن طريقهم الذين أجمع السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم وعلي وبنوه وابن عباس وبنوه ومن حذا حذوهم من السادات أهل البيت أن ما هم عليه بدعة في دين الله مخالفة لكتاب الله مباينة لسنة رسول الله ﷺ مصادمة لما أجمع عليه السلف والخلفمن هو أهدى من أولئك؟ فإن قال الخصم نعم فقد اعترف بتنقيصه عليا وبنيه وكذبه الحس والعيان والسنة والقرآن. وإن قال لا فقد اعترف بأن ما ختاره لنفسه مخالف لما عليه علي وأهل بيته الأطهار. وإن زعم أن ما هو عليه هو دين علي وآله كما صرح به في نظمه فقد اغتاب السادة وعليه البيان على دعواه من نصوص الكتب التي نقل منها فضائل علي وأهل البيت، وهي بيننا وبينه محكمة، وإلا أقمنا الحجة فيها على دعوانا. وإن زعم أن ما فيها مفترى كما هو معتقد جنانه والظاهر من صفحات وجهه وفلتات لسانه فقد أبطل فضائل علي وسائر أهل البيت، ويلزمه إبطال جميع ما فيها من السنة والتوحيد والنبوة والصلاة والصيام وغير ذلك إذ لا فرق إلا لمجرد الهوى وهو مراده لو حصل عليه. ولكن {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
وإذا تبين أنه على ضلال تبين أنه ومن والاه وانتحل مذهبه ممن يزعم أنهم أهل بيت النبي ﷺ قد فارقوا حكم القرآن ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ورفضوا سنة رسول الله ﷺ، وقطعوا الرحم التي أمر الله بها أن توصل، وضللوا سادات أهل البيت عليا وابن عباس وبنيهما؛ فاستحقوا أن يقال لهم ما قال سبحانه وتعالى لنبيه نوح عليه السلام لما قال إن ابني من أهلي: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} وما قاله فيمن زعم أنه أولى الناس بإبراهيم لكونه ولده {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}، وما قاله ﷺ عن آله فقال: "آلي كل تقي إلى يوم القيامة". وما قاله في بعض المنتسبين إليه: «يزعم أنه مني وليس مني إن أوليائي إلا المتقون». {ووقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}. وعلم أن الملازمة بين أهل البيت المذكورين أولا ومن تبعهم وبين القرآن ملازمة صحيحة. فكل من تمسك منهم بالقرآن حتى مات صدق عليه أنه لم يفارق القرآن ولم يفارقه القرآن حتى لقي الله. فلو فرضنا مثلا إنه لم يوجد من أهل بيته إلا الموجودون حال إشارته إليهم والوصية بالتمسك بهم ثم ماتوا، لصح أن يقال إن أهل البيت والقرآن لم يفترقا حتى وردوا القيامة، فكذلك إذا خالفهم طوائف الضالة من ذريتهم ولم يتبعوهم على ما كانوا عليه صاروا بمثابة المعدومين، ولا توارث بين أهل ملتين شتى.
أما الميراث الدنيوي فحكمه مبني على المخالفة الظاهرة بالكلية لأن أحكام الدنيا منوطة بالظواهر، حتى أنا نورث من قال لا إله إلا الله بلسانه وكفر بالله بجنانه وعصاه بأركانه، وأما في الميراث الديني فآله ﷺ الذين يرثون ميراثه كل بر تقي و {إن أولياؤه إلا المتقون}.
وإذا تقرر هذا فاعلم أنه ﷺ مأمور بالتبليغ وإقامة الحجة، وقد أطلعه الله على ما سيلقى علي وبنوه من المحنة وعدم اجتماع الكلمة عليهم، فأشار بهذه الوصية أن عليا كما أنه اليوم ملتزم لحكم الكتاب فإنه أيضا لا يزال كذلك إلى أن يلقى الله، فمتى دعاكم إلى طاعته فأطيعوه وندبكم إلى إجابته فاتبعوه، فإنه يدعوكم إلى حكم الكتاب، ويسلك بكم المحجة العظمى، ويهديكم إلى الصراط الأقوم وستجدونه هاديا مهديا. ولم تتفق من علي رضي الله عنه دعوة إلى اتباعه ولزوم طاعته في مدة الخلفاء الثلاثة قبله باتفاق من الأمة. فلما آن أوان دعوته المشار إليها وبويع له بالخلافة لم ينازعه أحد قط في اسم الخلافة ولم يشك أحد في تأهله لها وأحقيته بها، وإنما حصل بينه وبين من خالفه من مجتهدي عصره نزاع في مسألة اجتهادية مال كل إلى قول فيها من المبادرة إلى قتلة عثمان والتوقف، وجرى بينهم ما جرى به القلم. فكل منهم معتقد أنه على الحق، وأنه مجاهد على دين الله، وأنه لو قصر فيما هو فيه فقد خان الله ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فمنهم من اتضح له الحق بعد ذلك أنه في جانب علي كالزبير وطائفة كثيرة يوم قتل عمار بن ياسر، ومنهم من بقي على ما هو عليه حتى لقي الله. ولقد عاتب بعضهم الصديقة الكبرى بنت الصديق الأكبر أم المؤمنين المبرأة بنص التنزيل عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها رغم أنف شانئيه وشانئيها- على قيامها في ذلك الأمر فقالت: ما أود أني تركت ذلك القيام ويكون لي به من رسول الله ﷺ خمسة أولاد ذكور. وذلك في آخر عمرها، فدل على أنها لم يترجح لها خلاف ذلك، لكن أجمع الخلف من التابعين وجمهور السلف على أن عليا رضي الله عنه كان مجتهدا مصيبا فله أجران، لحديث ابن عباس مرفوعا: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» رواه البخاري، ومخاليفه يومئذ كانوا مجتهدين مخطئين فلهم أجر واحد، وكلا وعد الله الحسنى. وجمهور المخالفين له منهم من هو مشهود له بالجنة، وهم من كان من أهل بيعة الرضوان المحكوم لهم بالرضا الذي لا يتبدل من رب العالمين ومن رسوله بتحريمهم على النار، ومنهم من هو من أهل بدر الذين غفر الله ما تقدم من ذنبهم وما تأخر بشهادة الصادق المصدوق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الفصل الثاني في الحث على محبة أهل بيته ﷺ والتنبيه على جلالة قدرهم وعلو مجدهم
اعلم أن الناس ما بين مفرط في ذلك ومفرط، وكلا قصد طرفي الأمور ذميم، وقد علمت من هو الأولى بهذا الاسم، أي التسمي بأهل البيت، وعلمت أيضا ما يجب من حبهم واحترامهم والتحذير من إهانتهم واحتقارهم نصحا لأمته وشفقة عليها أن لا تهين من أكرمه الله فيهينها الله، {ومن يهن الله فما له من مكرم}.
فمنها: قوله ﷺ: "أحبوا أهل بيتي لحبي" أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه على شرط الشيخين.
وقال ﷺ: "والذي نفسي بيده لا يدخل الإيمان قلب رجل حتى يحبكم لله ورسوله". أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه.
وقوله ﷺ في حديث طويل: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» كررها ثلاثا. أخرجه الإمام أحمد ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه رحمهم الله، إلى غير ذلك. وناهيك بذلك فخرا لأهل البيت لما يتضمنه ذلك من شرف منصبهم، وإيجاب حبهم واحترامهم وتأدية حقوقهم والإحسان إليهم والمحافظة على ذلك كله والتحذير من ضده إكراما لسيد المرسلين وخاتم النبيين. وإذا كانت العقول والعادات بل والشرائع تقتضي إنزال الناس منازلهم واحترام أبناء الفضلاء ومن ينسب إليهم سواء اتصل المأمور بذلك منهم بإحسان أم لا حتى أمر الله وليه الخضر ونجيه موسى بمراعاة من كان أبوهما صالحا، فما ظنك بمن يدلي إلى من أرسله الله رحمة للعالمين، ومن به على المؤمنين، وأنقذهم له من خسران الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، ومن هو الآية الكبرى لمعتبر، ومن هو النعمة العظمى لمغتنم. فأي رقبة لم تتقلد بمننه الجليلة وأي فرقة لم تستغرقها أياديه الجزيلة. وإذا كانت أبناء الرجل الرئيس بل وعشيرته بل وغلمانه وأتباعه بل وقبيلته وأهل بلده بل وقطره بل وأهل عصره قد يسودون بسيادته ويشرفون بشرف رئاسته ويفتخرون على من سواهم بفضله ويعلون بعلو منصبه ونبله، فهل أحد أجل قدرا وأعظم مرتبة وفخرا ممن ينتسب أهل البيت ويعولون في الدنيا والآخرة هم ومن سواهم عليه، خيرة العالم وسيد ولد آدم، صاحب الحوض المورود واللواء المعقود الذي آدم فمن دونه تحته، والمقام المحمود الذي يغبط به الأولون والآخرون، والشفاعة العظمى التي يعجز عنها أولو العزم ويقول: «أنا لها أنا لها»، ومن كان هذا شأنه فنسبة كل شرف إلى شرفه كقطرة في البحار الزاخرة. وإذا تشرف قوم غيره وأجلوا واحترموا لشرف من انتسبوا إليه فشرف أهل البيت النبوي أولى، وقدرهم الرفيع أعلى وبينهم وبين غيرهم في الشرف مثل ما بين من تشرفوا به وبين غيره من البون. ومن هنا خصوا بمشروعية الصلاة عليهم تبعا له ﷺ في كل مقام شريف، من خطبة وصلاة وغير ذلك، حتى أوجبها طائفة من العلماء كما هو وجه في مذهبنا مستدلين بقوله ﷺ: "من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه" أخرجه الدارقطني. [6] ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: لو صليت صلاة لم أصل فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنها تقبل.
وعليه قيل:
يا أهل بيت رسول الله حبكم ** فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخر أنكم ** من لم يصل عليكم لا صلاة له
وقد كانت قلوب السلف الأخيار والعلماء الأحبار مجبولة على حبهم واحترامهم ومعرفة ما يجبلهم طبعا. وبالجملة كل من في قلبه مثقال ذرة من تعظيم المصطفى ﷺ وحبه فمصداق ذلك تعظيم وحب كل من ينتسب إليه بقربة أو قرابة أو صحبة واتباع سنة، إذ كل ما ينتسب إلى المحبوب محبوب.
أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب
فمن قام من أهل البيت بحفظ حدود الشريعة المطهرة فقد تحققت فيه القربة والقرابة، وحاز فضيلة الحسب والنسب، وتوفرت فيه فضيلة الشرفين من الجهتين، ومن لم يسبق له نصيب وافر في الميراث النبوي ولكنه لم يفارق الملة الفراق الموجب للحجب بقي على ميراثه في حق القرابة وروعيت فيه حقوقها، وكذا من ارتكب معصية لا تقتضي إخراجه عن الملة لم يوجب ذلك إطراح ما له من الحقوق وتوكل إساءته وتقصيره عن الالتحاق بسلفه إلى الله إذ صلة الأرحام مأمور بها مع القطيعة والعقوق، وهو ﷺ أولى الناس بذلك، إلا فيما لا بد من إجراء الأحكام وإقامة الحدود، فتراعى حرمة الشريعة حينئذ لأن حقهم إنما وجبت مراعاته لأجل صاحب الشرع، فإذا عارضه حق صاحب الشرع نفسه تلاشى كل حق دونه، وكان حق الله ورسوله أولى. ولهذا قال ﷺ: أحبوهم لحبي إياهم فمتى أبغضتهم فأبغضوهم، وقد علمتم شدة بغضي لمن خالف سنتي فسيروا فيهم سيرتي معهم وكونوا معي. وقال أيضا: "حتى يحبوكم لله ورسوله" أي لا للهوى فما داموا على الطريق المرضي الذي يحبه الله ورسوله وجبحبهم وإن سلكوا ما يسخط الله ورسوله وجب مراعاة حق الله لله ورسوله ﷺ، فنحبهم لله ولرسوله، ونبغضهم لله ولرسوله. فإن الولاية الأصلية ليست إلا لله ورسوله ﷺ، وسواهما إنما تثبت له الموالاة بهما لا غير {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
وهذه قصيدة فيها انعطاف على ما سبق من أول الجواب إلى آخره مقابلة لأبيات المبتدع، وهي على روي أبياته ومن بحرها أيضا، ولكن نصبناها لتطابق الواقع فإن البدعة لم تزل مخفوضة وأعلام السنة منشورة {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}
علم المحجة واضح لمن اهتدى ** فحذار من سبل الغواية والردى
هذي شريعة أحمد الغراء قد ** جليت كأسفار الصباح إذا بدا
بيضاء كالشمس المنيرة ليلها ** كنهارها فتوخها لك مقصدا
واستن سنته القوية واعتصم ** بكتابه وحديثه تلق الهدى
وإذا أظلك ليل شبهة بدعة ** حار الغوي بتيهها وترددا
فبأي أنجم صحب أحمد تقتدي ** تهدى وحق بمثلهم أن يهتدى
قد صح عمن ليس ينطق عن هوى ** هذا عموما مطلقا ومقيدا
وبسنة الخلفاء قال عليكم الـ ** هادين منهم موصيا ومؤكدا
وإلى اللذين عناهما من بعده ** صرف الوصية آمرا أن يقتدى
أتراه أرضانا بذلك خائنا ** أم ناصحا أم مغويا أم مرشدا
أو عن هوى أو كان غمرا جاهلا ** من كان منهم مصلحا أو مفسدا
كلا لقد صدقت فراسته التي ** صدرت وعن عين الحقيقة أوردا
أنى وروح القدس ينفثم لهما ** في روعه ومعلما ومؤيدا
وبعصمة الملك القدير عن الخطا ** أضحى يقول موفقا ومسددا
فلسورة النجم افتتح وأعدها ** للملحدين به شهابا مرصدا
لو جال طرف الطرف في آثار من ** أخذوا بأطراف الحديث وأسندا
لرأيته قرة أعين من جنة ** لمحبهم ولظى الحسود إلى المدى
كم قد أشاد بفخرهم طرا وكم ** أثنى بمثنى في الثناء وموحدا
ورمى الجهول محذرا من سبهم ** بنصال أسهم غيظه وتهددا
من بعد ما أثنى عليهم ربه ** بأجل أوصاف الثناء مرددا
كم سورة صالت على أعدائهم ** فالحشر بالأحزاب غار وأنجدا
والفتح قد ختمت بمسك ختامهم ** والنور أصبح زيتها متوقدا
ثم التي فضحت عداهم أفصحت ** ببيان معناها البديع منضدا
طعنت صدور الطاعنين وأردفت ** تروى المديح مطابقا ذم العدا
وبآل عمران الشهادة أنهم ** خير الورى وكفاك ذاك مشهدا
أترى الخبير بخلقه أثنى على ** من ليس أهلا للثناء مجددا
جعل الفلاح لهم وإجلال الرضا ** خبرا وصدق العهد عنهم مبتدا
أيقول أعددنا الجنان لهم وهم ** ممن طغى في دين أحمد واعتدى
أو حل عقد رضا أحل عليهم ** وقضاه في الذكر الحكيم مؤيدا
أو عنه عاقبة الأمور تغيبت أو ** تخفى تقدس ربنا وتفردا
والله ما نزلت بذا آياته ** هزؤا ولا عبثا ولا جاءت سدى
خذها محكمة القوافي نصبها ** سر لخفض معارضيها قد بدا
نصبت لها أعلام فتح بعد أن ** خفضوا بكثرة جمعهم فتبددا
وسم التصرف بالإشارة أيها ** ذا المستغيث فهذه صلق العدا
فلت بفصل القول من برهانها ** حد القضايا المهملات بلا اعتداء
كم مزدهًا بغروره قلبت له ** ظهر المجن فأولغت فيه المدى
عجبا لمغتر بآل محمد ** أهدى الضلال لمحتذيه وما هدى
تخذ الهوى دينا ويزعم أنه ** أضحى بعقد ولائهم متقلدا
أأراد سادات البرية حيدرا ** وبنيه والحبر الخضم المزبدا
صدق الغوي فإنهم أهل لما ** أثنى ولكن ما بهديهم اهتدى
أهم كما زعم الغوي على الذي ** يلقيه عن شيطانه متمردا
حاشا لقدرهم العلي وفضلهم ** عن زيغ من في دين أحمد ألحدا
فقد افترى كذبا عليهم ومزريا ** بالسادة النجب الكرام أولي الندى
قرناء وحي الله لن يتفرقا ** حتى ورود الحوض بينهما غدا
نشروا عن التفسير فيه ما انطوى ** وشفوا به الأكباد من حر الصدا
ورووا حديث المصطفى حتى غدا ** بالري للراوين أعذب موردا
وبصحبه اتحدوا وعنهم نافحوا ** وعليهم أثنوا الثناء معددا
فلهم ولائي ما حييت عدو من ** عادوا وسلما للمسالم مسعدا
وعليهم من ربهم صلواته ** بعد النبي مع السلام مجددا
وكذلك الصحب الأفاضل ماجدا ** حاد فأطرب حين زمزم منشدا
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}. {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
- كملت نساختها ومقابلتها من نسخة كتبت سنة تسعين بعد الألف قريبا من عصر المؤلف، والمؤلف من أهل القرن العاشر، له من التآليف ما لا يحصى في كل فن رحمه الله تعالى.
- قوبلت على يد الحقير محمد بن عوض بن محمد بن فضل عفى الله عنه في شهر محرم 1341