☰ جدول المحتويات
- المقدمة
- مقدمة المؤلف
- باب ذكر جمل من فضائل القرآن والترغيب فيه ، وفضل طالبه وقارئه ومستعمله والعامل به
- باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى ، وما يكره منها وما يحرم ، واختلاف الناس في ذلك
- باب تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء وغيره
- باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه
- باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه ، وثواب من قرأ القرآن مُعْربا
- باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله
- باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو وفيمن عاداه
- باب ما يلزم قارىء القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته
- باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي ، والجرأة على ذلك ، ومراتب المفسرين
- باب تبيين الكتاب بالسنة ، وما جاء في ذلك
- باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ ، وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه
- باب معنى قول النبي ﷺ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه
- فصل قال كثير من علمائنا كالداودي وابن صفرة وغيرهما
- فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام
- باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها
- فصل في فعل عثمان رضي الله عنه
- فصل وقد طعن الرافضة قبحهم الله تعالى- في القرآن
- باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه
- فصل وأما شكل المصحف ونقطه
- فصل وأما وضع الأعشار
- فصل وأما عدد حروفه وأجزائه
- باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف
- باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أولا
- باب ذكر نكت في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها
- فصل إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين
- باب التنبيه عن أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره
- باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان
المقدمة
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي رضي الله عنه :
الحمد لله المبتدىء بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الصمد الواحد الحي القيوم الذي لا يموت ذو الجلال والإكرام والمواهب العظام والمتكلم بالقرآن والخالق للإنسان والمنعم عليه بالإيمان والمرسل رسوله بالبيان محمداً ﷺ ما اختلف المَلَوان وتعاقب الجديدان أرسله بكتابه المبين الفارق بين الشك واليقين الذي أعجزت الفصحاء معارضته وأعيت الألباء مناقضته وأخرست البلغاء مشاكلته فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها وأوامره هدى لمن استبصرها وشرح فيه واجبات الأحكام وفرق فيه بين الحلال والحرام وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام وضرب فيه الأمثال وقص فيه غيب الأخبار فقال تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . خاطب به أولياءه ففهموا وبين لهم فيه مراده فعلموا فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون وحفظة علمه المخزون وخلفاء أنبيائه وأمناؤه وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه .
قال رسول الله ﷺ : " إن لله أهلين منّا قالوا : يا رسول الله ، مَن هم ؟ قال : هم أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصّته" أخرجه ابن ماجه في سننه وأبو بكر البزار في مسنده فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ، ويتذكرّ ما شرح له فيه ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحييه فإنه قد حمل أعباء الرسل وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . ألا وأن الحجة على من علمه فأغفله أو كد منها على من قصر عنه وجهله ومن أوتى علم القرآن فلم ينتفع وزجرته نواهيه فلم يرتدع وارتكب من المآثم قبيحا ومن الجرائم فضوحا كان القرآن حجة عليه وخصما لديه قال رسول الله ﷺ : "القرآن حجة لك أو عليك" خرّجه مسلم فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ويتدبر حقائق عبارته ويتفهم عجائبه ويتبين غرائبه قال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وقال الله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ويتدبره حق تدبره ويقوم بقسطه ويوفي بشرطه ولا يلتمس الهدى في غيره وهدانا لأعلامه الظاهرة وأحكامه القاطعة الباهرة وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة ثم جعل إلى رسول الله ﷺ بيان ما كان منه مجملا وتفسير ما كان منه مشكلا وتحقيق ما كان منه محتملا ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به ومنزلة التفويض إليه قال الله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله ﷺ استنباط ما نبه على معانيه وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد فيمتازوا بذلك عن غيرهم ويختصوا بثواب اجتهادهم قال الله تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} .
فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه وآذاننا موارد سنن نبيّه وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما طالبين بذلك رضا رب العالمين ومتدرجين به إلى علم الملة والدين. وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل به السنة والفرض ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري ، وأستفرغ فيه منتي بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيهما ومبينا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف وعملته تذكرة لنفسي وذخيرة ليوم رمسي وعملا صالحا بعد موتي قال الله تعالى : { يُنَبَّأُ الأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . وقال تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وقال رسول الله صلى وسلم : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا في ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .
وشرطي في هذا الكتاب : إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها فإنه يقال من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث فبقي من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم ومعرفة ذلك على جسيم فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام والثقات المشاهير من علماء الإسلام ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب والله الموفق للصواب وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لابد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها وترشد للطالب إلى مقتضاها فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه النزول والتفسير الغريب والحكم فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل هكذا إلى آخر الكتاب وسميته بـ (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان) جعله الله خالصا لوجهه وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه إنه سميع الدعاء قريب مجيب ؛ آمين.
باب ذكر جمل من فضائل القرآن والترغيب فيه ، وفضل طالبه وقارئه ومستعمله والعامل به
اعلم أن هذا الباب واسع كبير ألف فيه العلماء كتبا كثيرة نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه وعملوا به فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين غير مخلوق كلام من ليس كمثله شيء وصفة من ليس له شبيه ولا ند فهو من نور ذاته جل وعز وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات وندبا في كثير من الأوقات ويزجرون عنها إذا اجتنبوا ويثابون عليها ويعاقبون على تركها وهذا مما اجمع عليه المسلمون أهل الحق ونطقت به الآثار ودل عليها المستفيض من الأخبار ولا يتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من أكساب العباد على ما يأتي بيانه ولولا أنه سبحانه جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله ليتدبروه وليعتبروا به وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته وأداء حقوقه وفرائضه لضعفت ولاندكت بثقله أو لتضعضعت له وأنى تطيقه وهو يقول : تعالى جده وقوله الحق : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . فأين قوة القلوب من قوة الجبال ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلا منه ورحمة .
وأما ما جاء من الآثار في هذا الباب فأول ذلك ما خرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله ﷺ : "يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن وذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين قال : وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" قال هذا حديث حسن غريب وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي في مسنده عن عبدالله قال السبع الطول مثل التوراة والمئون مثل الإنجيل والمثاني مثل الزبور وسائر القرآن بعد فضل وأسند عن الحارث عن علي رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : " ستكون فتن كقطع الليل المظلم قلت يا رسول الله وما المخرج منها ؟ قال كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم" خذها إليك يا أعور. الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء ولم يبن من الحارث كذب وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره ومن ها هنا والله أعلم كذبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم قال أبو عمر بن عبد البر وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني حثني الحارث وكان أحد الكذابين .
وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ : "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة من تمسك به ونجاة من اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشرة حسنات أما إني لا أقول آلم حرف ولا ألفين أحدكم واضعا إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت من الخير البيت الصفر من كتاب الله" وقال أبو عبيدة في غريبه عن عبدالله قال إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن قال وتأويل الحديث أنه مثل شبه القرآن بصنيع صنعه الله عز وجل للناس لهم فيه خير ومنافع ثم دعاهم إليه يقال مأدبة ومأدبة فمن قال مأدبة أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس ومن قال مأدبة فإنه يذهب به إلى الأدب يجعله مفعلة من الأدب ويحتج بحديثه الآخر : " إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل فتعلموا من مأدبته" . وكان الأحمر يجعلهما لغتين بمعنى واحد ولم أسمع أحد يقول هذا غيره قال : والتفسير الأول أعجب إليّ.
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي ﷺ قال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله ﷺ : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر" وفي رواية" مثل الفاجر" بدل "المنافق" وقال البخاري : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة " وذكر الحديث.
وذكر أبو بكر الأنباري : وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم ح وأنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب أن أبا عبد الرحمن السُّلَميّ كان إذا ختم عليه الخاتِمُ القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له يا هذا اتق الله فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي عملت وروى الدرامي عن وهب الذماري قال : ((من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار وعمل بما فيه ومات على الطاعة بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والأحكام)) قال سعيد : السفرة الملائكة والأحكام الأنبياء.
وروى مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" . التتعتع التردد في الكلام عيا وصعوبة وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة ودرجات الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة والله أعلم وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" . قال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقد روي موقوفا وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن في الصفة ؛ فقال : "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم فقلنا يا رسول الله كلنا نحب ذلك ؛ قال أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل" .
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
وروى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة". قال الترمذي حديث حسن غريب وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : " يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حلة فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة" قال حديث صحيح وروى أبو داود عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ : "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه " .
وأسند أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي قال رسول الله ﷺ : "من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة ومن أعطي ثلثي القرآن فقد أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فقد أعطي النبوة غير أنه لا يوحى إليه ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن ثم يقال له اقبض فيقبض ثم يقال له أتدري ما في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم " .
حدثنا إدريس بن خلف حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال قال رسول الله ﷺ : "من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ أمر ثلث النبوة ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ أمر نصف النبوة ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها" . قال : وحدثنا محمد بن يحيى المروزي أنبأنا محمد وهو ابن سعدان حدثنا الحسين بن محمد عن حفص عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ : "من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار" . وقالت أم الدرداء : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها : ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة فقالت عائشة رضي الله عنها : إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن ذكره أبو محمد مكي. وقال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} . قال ابن عباس : فضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ذكره مكي أيضا. وقال الليث : يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقول الله جل ذكره : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . و {لَعَلّ} من الله واجبة.
وفي ((مسند أبي داود الطيالسيّ)) ـ وهو أوّل مُسْنَد ألِّفَ في الإسلام ـ عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله ﷺ قال : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" . والآثار في معنى هذا الباب كثيرة وفيما ذكرنا كفاية والله الموفق للهداية.
باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى ، وما يكره منها وما يحرم ، واختلاف الناس في ذلك
روى البُخَاري عن قتادة قال : سألت أنَساً عن قراءة رسول الله ﷺ فقال : " كان يمَُدّ مَدّاً [إذا] قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، يمدّ بسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم. وروى الترمذيّ عن أم سلمة قالت : كان رسول الله ﷺ يُقَِّطع قراءته يقول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف وكان يقرؤها {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال : حديث غريب وأخرجه أبو داود بنحوه .
وروي عن النبي ﷺ أنه قال : "أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى" . وروي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له : اقرأ فرفع صوته وطرب ، وكان رفيع الصوت ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال : يا هذا ، ما هكذا كانوا يفعلون! وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه. وروي عن قيس بن عباد أنه قال كان أصحاب رسول الله ﷺ يكرهون رفع الصوت عند الذكر. وممن روى عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم ، وكرهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل ؛ كلهم كره رفع الصوت بالقرآن والتطريب فيه. روى عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته ؛ فأرسل إليه سعيد يقول : أصلحك الله! إن الأئمة لا تقرأ هكذا فترك عمر التطريب بعد. وروي عن القاسم بن محمد أن رجلاً قرأ في مسجد النبي ﷺ فطرب فأنكر ذلك القاسم وقال يقول الله عز وجل : {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الآية .
وروي عن مالك أنه سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة ؛ فأنكر ذلك وكرهه كراهة شديدة ، وأنكر رفع الصوت به. وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال : لا يعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به ؛ وذلك لأنه إذا حَسّن الصوتَ به كان أوقع في النفوس وأسمع في القلوب ، واحتجوا بقوله عليه السلام : "زينوا القرآن بأصواتكم" رواه البراء بن عازب أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله عليه السلام : " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن" أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي ﷺ : "لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا" وبما رواه عبد الله بن مغفل قال : "قرأ رسول الله ﷺ عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته" وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنضر بن شُميل ، وهو اختيار أبي جعفر الطبري وأبي الحسن بن بطال والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم .
قلت : القول الأول أصح لما ذكرناه ويأتي. وأما ما احتجوا به من الحديث الأوّل فليس على ظاهره ، وإنما هو باب المقلوب ؛ أي زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي : وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث : زينوا أصواتكم بالقرآن ؛ وقالوا هو من باب المقلوب ؛ كما قالوا : عرضت الحوض على الناقة ، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض. قال : ورواه معمر عن منصور عن طلحة ؛ فقدم الأصوات على القرآن ، وهو الصحيح .
قال الخطابي : ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله ﷺ قال : "زينوا القرآن بأصواتكم" . أي الهجوا بقراءته واشغلوا به أصواتكم واتخذوه شعارا وزينة ؛ وقيل : معناه الحض على قراءة القرآن والدؤوب عليه. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "زينوا أصواتكم بالقرآن" . وروي عن عمر أنه قال : ((حسنوا أصواتكم بالقرآن)) .
قلت : وإلى هذا المعنى يرجع قوله عليه السلام : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن ؛ كذلك تأوله عبدالله بن أبي مليكة قال عبد الجبار ابن الورد : سمعت ابن أبي مليكة يقول : قال عبدالله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته ، فإذا رجل رث الهيئة ، فسمعته يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . قال فقلت لابن أبي ملكية : يا أبا محمد ، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال : يحسنه ما استطاع. ذكره أبو داود ، وإليه يرجع أيضا قول أبي موسى للنبي ﷺ : ((إني لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحسنت صوتي بالقرآن وزينته ورتلته)). وهذا يدل على أنه كان يهذ في قراءته مع حسن الصوت الذي جبل عليه. والتحبير : التزيين والتحسين ؛ فلو علم أن النبي ﷺ كان يسمعه لمد في قراءته ورتلها ؛ كما كان يقرأ على النبي ﷺ ؛ فيكون ذلك زيادة في حسن صورته بالقراءة ومعاذ الله أن يتأول على رسول الله ﷺ أن يقول : إن القرآن يزين بالأصوات أو بغيرها فمن تأول هذا فقد وقع أمرا عظيما أن يحوج القرآن إلى من يزينه ، وهو النور والضياء والزين الأعلى لمن ألبس بهجته واستنار بضيائه. وقد قيل : إن الأمر بالتزيين اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك ، أي زينوا القراءة بأصواتكم ؛ فيكون القرآن بمعنى القراءة ، كما قال تعالى : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي قراءة الفجر وقوله : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته وكما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : ((إن البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام ويوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا)). أي قراءة وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة. فيكون معناه على هذا التأويل صحيحا إلا أن يخرج القراءة التي هي التلاوة عن حدها على ما نبينه فيمتنع وقد قيل إن معنى يتغنى به يستغنى به من الاستغناء الذي هو ضد الافتقار لا من الغناء يقال تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت وفي ((الصحاح)) : تغنى الرجل بمعنى استغنى وأغناه الله وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض قال المغيرة بن حبناء التميمي :
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ورواه سفيان عن سعد بن أبي وقاص. وقد روي عن سفيان أيضا وجه آخر ذكره إسحاق بن راهوية أي يستغني به عما سواه من الأحاديث وإلى هذا التأويل ذهب البخاري محمد بن إسماعيل لإتباعه الترجمة بقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} والمراد الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم ؛ قاله أهل التأويل وقيل : إن معنى يتغنى به يتحزن به ؛ أي يظهر على قارئه الحزن الذي هو ضد السرور عند قرائته وتلاوته وليس من الغنية لأنه لو كان من الغنية لقال يتغانى به ولم يقل يتغنى به ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم الأمام أبو محمد ابن حبان البستي واحتجوا بما رواه مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال : "رأيت رسول الله ﷺ يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء". الأزيز (بزايين) : صوت الرعد وغليان القدر قالوا : ففي هذا الخبر بيان واضح على أن المراد بالحديث التحزن وعضدوا هذا أيضا بما رواه الأئمة عن عبدالله قال قال النبي ﷺ : "اقرأ علي فقرأت عليه سورة النساء" حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان فهذه أربع تأويلات ليس فيها ما يدل على القراءة بالألحان والترجيع فيها وقال أبو سعيد بن الأعرابي في قوله ﷺ : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . قال كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أقوالها فلما نزل القرآن أحبوا أن يكون القرآن هجيراهم مكان الغناء فقال : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" .
التأويل الخامس ـ ما تأوّله من استدل به على الترجيع والتطريب فذكر عمر بن شبة قال : ذكرت لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله ((يتغنى)) يستغنى فقال : لم يصنع ابن عيينة شيئا. وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال : نحن أعلم بهذا لو أراد النبي ﷺ الاستغناء لقال : من لم يستغن ولكن لما قال : ((يتغن)) علمنا انه أراد التغني. قال الطبري : المعروف عندنا في ((كلام العرب)) أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع. وقال الشاعر :
تغن بالشعر مهما كنت قائله ... إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال : وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فليس في ((كلام العرب وأشعارها)) ولا نعلم أحدا من أهل العلم قاله وأما احتجاجه بقول الأعشى :
وكنت امرا زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى في هذا الموضع الإقامة من قول العرب غني فلان بمكان كذا أي أقام ومنه قوله تعالى : {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وأما استشهاده بقوله :
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فإنه إغفال منه وذلك أن التغاني تفاعل من نفسين إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال : تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه. ومن قال هذا في فعل الاثنين لم يجز أن يقول مثله في الواحد فغير جائز أن يقال : تغانى زيد وتضارب عمرو وكذا غير جائز أن يقال : تغنى بمعنى استغنى. قلت : ما ادعاه الطبري من أنه لم يرد في ((كلام العرب)) تغنى بمعنى استغنى فقد ذكره الجوهري كما ذكرنا وذكره الهروي أيضا. وأما قوله : إن صيغة فاعل إنما تكون من اثنين فقد جاءت من واحد في مواضع كثيرة منها قول ابن عمر : ((وأنا يومئذ قد نازهت الاحتلام)) وتقول العرب : طارقت النعل وعاقبت اللص وداويت العليل وهو كثير فيكون تغانى منها. وإذا احتمل قوله عليه الصلاة والسلام : "يتغن" الغناء والاستغناء فليس حمله على أحدهما بأولى من الآخر بل حمله على الاستغناء أولى لو لم يكن لنا تأويل غيره لأنه مروي عن صحابي كبير كما ذكر سفيان وقد قال ابن وهب في حق سفيان : ما رأيت أعلم بتأويل الأحاديث من سفيان بن عيينة ومعلوم أنه رأى الشافعي وعاصره وتأويل سادس وهو ما جاء من الزيادة في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به" . قال الطبري : ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى قلنا قوله يجهر به لا يخلو أن يكون من قول النبي ﷺ أو من قول أبي هريرة أو غيره فإن كان الأول وفيه بعد فهو دليل على عدم التطريب والترجيع لأنه لم يقل يطرب به وإنما قال يجهر به أي يسمع نفسه ومن يليه بدليل قوله عليه السلام للذي سمعه وقد رفع صوته بالتهليل : " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا" الحديث وسيأتي وكذلك إن كان من صحابي أو غيره فلا حجة فيه على ما راموه وقد اختار هذا التأويل بعض علمائنا فقال : وهذا أشبه لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالي به غانيا وفعله ذلك غناء وإن لم يلحنه بتلحين الغناء قال وعلى هذا فسره الصحابي وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال وقد احتج أبو الحسن بن بطال لمذهب الشافعي فقال وقد رفع الإشكال في هذه المسألة ما رواه ابن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : " تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل" . قال علماؤنا : وهذا الحديث وإن صح سنده فيرده ما يعلم على القطع والبتات من أن قراءة القرآن بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ جيلا فجيلا إلى العصر الكريم إلى رسول الله ﷺ وليس فيها تلحين ولا تطريب مع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفي المد والإدغام والإظهار وغير ذلك من كيفية القراءات ثم إن في الترجيع والتطريب همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بمدود فترجع الألف الواحدة ألفات والواو الواحدة واوات والشبهة الواحدة شبهات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك ممنوع وإن وافق ذلك موضع نبر وهمز صيروها نبرات وهمزات والنبرة حيثما وقعت من الحروف فإنما هي همزة واحدة لا غير إما ممدودة وإما مقصورة فإن قيل فقد روى عبدالله بن مغفل قال : " قرأ رسول الله ﷺ في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته". وذكره البخاري وقال : في صفة الترجيع آء آء آء ثلاث مرات.
قلنا ذلك محمول على إشباع المد في موضعه ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه وقد خرج أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال : "كانت قراءة رسول الله ﷺ المد ليس فيها ترجيع" . وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال : كان لرسول الله ﷺ مؤذن يطرب فقال رسول الله ﷺ : " إن الأذان سهل سمح فإذا كان أذانك سمحا سهلا وإلا فلا تؤذن" أخرجه الدار قطني في سننه. فإذا كان النبي ﷺ قد منع ذلك في الأذان فأحرى ألا يجوزه في القرآن الذي حفظه الرحمن فقال وقوله الحق : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال تعالى : {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
قلت : وهذا الخلاف إنما هو ما لم يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه فذلك حرام باتفاق كما يفعل القرآء بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز ؛ ضل سعيهم وخاب عملهم فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه جهلا بدينهم ومروقا عن سنة نبيهم ورفضا لسير الصالحين فيه من سلفهم ونزوعا إلى ما يزين لهم الشيطان من أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فهم في غيهم يترددون وبكتاب الله يتلاعبون فإنا لله وإنا إليه راجعون لكن قد اخبر الصادق أن ذلك يكون فكان كما أخبر ﷺ.
ذكر الإمام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبدالله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث حذيفة أن رسول الله ﷺ قال : " اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم" . اللحون جمع لحن وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء.
قال علماؤنا : ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرءون بها ما نهى عنه رسول الله ﷺ والترجيع في القراءة ترديد الحروف كقراءة النصارى والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل وهو المشبه بنور الأقحوان وهو المطلوب في قراءة القرآن قال الله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} . وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله عليه وسلم وصلاته فقالت : ما لكم وصلاته! ((كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح)) ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
باب تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء وغيره
قال الله تعالى : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . روى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" . وقال الترمذي في هذا الحديث : ثم ضرب رسول الله ﷺ على ركبتي فقال : " يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" أبو هريرة اسمه عبد لله وقيل : عبد الرحمن وقال : كنيت أبا هريرة لأني حملت هرة في كمي فرآني رسول الله ﷺ فقال : "ما هذه قلت هرة فقال : يا أبا هريرة" قال ابن عبد البر وهذا الحديث فيمن لم يرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى وروي عن النبي ﷺ أنه قال : " من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" .
وخرج ابن المبارك في رقائقه عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله ﷺ : " يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه فقال هل ترون في أولئكم من خير قالوا لا قال أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار" .وروي أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها" . قال الترمذي : حديث حسن وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : " تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن ؟ قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم مائة مرة قيل يا رسول الله ومن يدخله قال القراء المراءون بأعمالهم" . قال هذا حديث غريب وفي كتاب أسد بن موسى أن النبي ﷺ قال : " إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم وذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب وإن في الجب لحية وإن جهنم والوادي والجب ليتعوذون بالله من شر تلك الحية سبع مرات أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن الذين يعصون الله" . فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره روى الترمذي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ﷺ : " أنزل الله في بعض الكتب _ أو أوحى _ إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران" .
وخرج الطبري في كتاب ((آداب النفوس)) حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا المحاربي عن عمرو بن عامر البجلي عن ابن صدقة عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أو من حدثه قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : " لاتخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر" قالوا يا رسول الله وكيف يخادع الله قال : " تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره واتقوا الرياء فإنه الشرك وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رءوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها يا كافر يا خاسر ياغادر يا فاجر ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع". وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم الكبير وتتخذ سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وقال سفيان بن عيينة بلغنا عن ابن عباس أنه قال : ((لو أن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس)) وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قال : قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى.
باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه
فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل كما ذكرنا وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره في الصلاة أو في غير الصلاة لئلا ينساه روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال : "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه" . وينبغي له أن يكون لله حامدا ولنعمه شاكرا وله ذاكرا وعليه متوكلا وبه مستعينا وإليه راغبا وبه معتصما وللموت ذاكرا وله مستعدا وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه راجيا عفو ربه ويكون الخوف في صحته أغلب عليه إذ لا يعلم بما يختم له ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه لحسن الظن بالله قال رسول الله صلى عليه وسلم : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن". أي أنه يرحمه ويغفر له. وينبغي له أن يكون عالما بأهل زمانه متحفظا من سلطانه ساعيا في خلاص نفسه ونجاة مهجته مقدما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده الورع في دينه واستعمال تقوى الله ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه.
وقال ابن مسعود : ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مستيقظون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخضوعه إذا الناس يختالون وبحزنه إذا الناس يفرحون. وقال عبدالله بن عمرو : لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض ولا يجهل مع من يجهل ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن لأن في جوفه كلام الله تعالى وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه ويأخذ نفسه بالحلم والوقار وينبغي له أن يتواضع للفقراء ويتجنب التكبر والإعجاب ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة ويترك الجدال والمراء ويأخذ نفسه بالرفق والأدب وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره ويرجى خيره ويسلم من ضره وألا يسمع ممن نم عنده ويصاحب من يعاونه على الخير ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق ويزينه ولا يشينه وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب وهو لا يفهم ما يتلو فكيف يعمل بما لا يفهم معناه ؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلو ولا يدريه فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا وينبغي لهو أن يعرف المكي من المدني ليفرق بذلك بين ماخاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام وما افترض الله في أول الإسلام وما زاد عليه من الفرائض في آخره فالمدني هو محمود للمكي في أكثر القرآن ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل محمود له ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ ويزيل عنه الشك فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبري سمعت الجرمي يقول : أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه قال محمد بن يزيد وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله ﷺ ، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا وقد قال الضحاك في قوله تعالى : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} قال : حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها.
وذكر ابن أبي الحواري قال : أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول فقال بعض القوم إن كان خارجا لشيء فسيخرج لتلاوة القرآن فأمرنا قارئا فقرأ فاطلع علينا من كوة ؛ فقلنا : السلام عليك ورحمة الله ؛ فقال وعليكم السلام ؛ فقلنا كيف أنت يا أبا علي وكيف حالك ؟ فقال : أنا من الله في عافية ومنكم في أذى وإن ما أنتم فيه حدث في الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كنا نطلب العلم ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم فنجلس فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه وأنتم تطلبون العلم بالجهل وقد ضيعتم كتاب الله ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون قال قلنا قد تعلمنا القرآن قال إن في تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم قلنا كيف يا أبا علي قال لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه وناسخه من منسوخه إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة ثم قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
قلت : فإذا حصلت هذه المراتب لقاريء القرآن كان ماهرا بالقرآن وعالما بالفرقان وهو قريب على من قربه عليه ولا ينتفع بشيء مما ذكرنا حتى يخلص النية فيه لله جل ذكره عند طلبه أو بعد طلبه كما تقدم فقد يبتديء الطالب للعلم يريد به المباهاة والشرف في الدنيا فلا يزال به فهم العلم حتى يتبين أنه على خطأ في اعتقاده فيتوب من ذلك ويخلص النية لله تعالى فينتفع بذلك ويحسن حاله. قال الحسن : كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وقاله سفيان الثوري وقال حبيب بن أبي ثابت : طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد .
باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه ، وثواب من قرأ القرآن مُعْربا
قال أبو بكر بن الأنباري : جاء عن النبي ﷺ وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - من تفضيل إعراب القرآن والحض على تعليمه وذم اللحن وكراهيته - ما وجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه.
من ذلك ما حدثنا يحيى بن سليمان الضبي قال حدثنا محمد : - يعني ابن سعيد - قال حدثنا أبو معاوية عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال : " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" . حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم بن الهيثم قال حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس قال حدنا أبو الطيب المرزوي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : " من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة فإن أعربه وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة" وروى جويبر عن الضحاك قال قال عبدالله بن مسعود : جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به. وعن مجاهد عن ابن عمر قال : أعربوا القرآن. وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه. وعن الشعبي قال قال عمر رحمه الله : من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر شهيد. وقال مكحول : بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ : "أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي" . وروى سفيان عن أبي حمزة قال : قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية قال أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم ﷺ وقيل للحسن : إن لنا إماما يلحن قال : أخروه.
وعن ابن أبي ملكية قال : قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : من يقرئني مما أنزل على محمد ﷺ قال : فأقرأه رجل براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله بالجر فقال الأعرابي أو قد برئ الله من رسوله فإن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال يا أعرابي أتبرأ من رسول الله ﷺ فقال : يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال إن الله بريء من المشركين ورسوله فقلت أو قد بريء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابي قال فكيف هي يا أمير المؤمنين قال {إن الله بريء من المشرِكين ورسولُه} فقال الأعرابي وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقريء الناس إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
وعن علي بن الجعد قال سمعت شعبة يقول : مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها وقال حماد بن سلمة من طلب الحديث ولم يتعلم النحو - أو قال العربية - فهو كمثل الحمار تعلق عليه مخلاة ليس فيها شعير قال ابن عطية : إعراب القرآن أصل في الشريعة لأن بذلك تقوم معانيه التي هي في الشرع .
قال ابن الأنباري : وجاء عن أصحاب النبي ﷺ وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك وأوضح فساد مذهب من أنكر ذلك عليهم من ذلك ما حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز قال حدثنا ابن أبي مريم قال أنبأنا ابن فروخ قال أخبرني أسامة قال أخبرني عكرمة ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب وحدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت سعيد بن جبير ويوسف بن مهران يقولان : سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء بالقرآن فيقول فيه هكذا وهكذا أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا وعن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن قول الله جلّ وعزّ : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال : لا تلبس ثيابك على غدر ؛ وتمثل بقول غيلان الثقفيّ :
فإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من سوءة أتقنع
وسال رجل عكرمة عن الزنيم قال : هو ولد الزنى ؛ وتمثل ببيت شعر :
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم
وعنه أيضا الزنيم : الدعي الفاحش اللئيم ثم قال :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعنه في قوله تعالى : {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} قال : ذواتا ظل وأغصان الم تسمع إلى قول الشاعر :
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف طائرا ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال : الأرض قاله ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت : (عندهم لحم بحر ولحم ساهرة) قال ابن الأنباري والرواة يروون هذا البيت :
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وقال نافع بن الأزرق لابن عباس : أخبرني عن قول الله جل وعز : {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ما السنة ؟ قال : النعاس ؛ قال زهير بن أبي سلمى :
لا سنة في طوال الليل تأخذه ... ولا ينام ولا في أمره فند
باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم فقال له رجل : جعلت فداءك! تصف جابرا بالعلم وأنت أنت! فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} . وقال مجاهد : أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن : والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعني بها. وقال الشعبي : رحل المسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة : في قوله عز وجل : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} طلبت اسم هذا الرجل الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله أربع عشرة سنة حتى وجدته. وقال ابن عبد البر : هو ضمرة بن حبيب وسيأتي. وقال ابن عباس : مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ ما يمنعني إلا مهابته فسألته فقال هي حفصة وعائشة. وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب.
باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو وفيمن عاداه
قال أبو عمر : روى من وجوه فيها لين عن النبي ﷺ أنه قال : " من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة الإمام المقسط وذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه" وقال أبو عمر : وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه والعاملون بما فيه وروى أنس أن النبي ﷺ قال : " القرآن أفضل من كل شيء فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله تعالى حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله الملبسون نور الله فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى" .
باب ما يلزم قارىء القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته
قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في (نوادر الأصول) : فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلا طاهرا ومن حرمته أن يقرأه وهو على طهارة ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فيطيب فاه إذ هو طريقه. قال يزيد بن أبي مالك : إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم ومن حرمته أن يتلبس كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج ومن حرمته أن يستقبل القبلة لقراءته. -وكان أبو العالية إذا قرأ اعتم ولبس وارتدى واستقبل القبلة- ومن حرمته أن يتمضمض كلما تنخع. روى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس : أنه كان يكون بين يديه تور إذا تنخع مضمض ثم أخذ في الذكر وكان كلما تنخع مضمض ومن حرمته إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان. قال مجاهد : إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيما حتى يذهب تثاؤبك. وقاله عكرمة. يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقرآن ومن حرمته أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إن كان ابتدأ قراءته من أول السورة أو من حيث بلغ ومن حرمته إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة ومن حرمته أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء ومن حرمته أن يقرأه على تؤدة وترسيل وترتيل ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيمتثلها ومن حرمته أن يلتمس غرائبه ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما فإن له بكل حرف عشر حسنات ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ويشهد بالبلاغ لرسوله ﷺ ويشهد على ذلك أنه حق فيقول : صدقت ربنا وبلغت رسلك ونحن على ذلك من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ثم يدعو بدعوات ومن حرمته إذا قرأه ألا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأها فإنه روي لنا عن رسول الله ﷺ : " أنه مر ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا فأمره أن يقرأ السورة كلها" أو كما قال عليه السلام. ومن حرمته إذا وضع المصحف ألا يتركه منشورا وألا يضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا لسائر الكتب علما كان أو غيره. ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض. ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته إذا غسله بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع والمواقع التي توطأ فإن لتلك الغسالة حرمة وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته. ومن حرمته ألا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب فإن ذلك جفاء عظيم ولكن يمحوها بالماء. ومن حرمته ألا يخلى يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة وكان أبو موسى يقول : إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة. ومن حرمته أن يعطي عينيه حظهما منه فإن العين تؤدي إلى النفس وبين النفس والصدر حجاب والقرآن في الصدر فإذا قرأه عن ظهر قلب فإنما يسمع أذنه فتؤدي إلى النفس فإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء وكان قد أخذت العين حظها كالأذن. روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : " أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا : يا رسول الله وما حظها من العبادة ؟ قال النظر في المصحف والتفكير فيه والاعتبار عند عجائبه" . وروى مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ : " أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظرا" . ومن حرمته ألا يتأوله عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا حدثنا عمرو بن زياد الحنظلي قال حدثنا هشيم بن بشير عن المغيرة عن إبراهيم قال : كان يكره أن يتأول شيء من القرآن عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا والتأويل مثل قولك للرجل إذا جاءك جئت على قدر يا موسى ؛ ومثل قوله تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} هذا عند حضور الطعام وأشباه هذا. ومن حرمته ألا يقال : سورة كذا ؛ كقولك : سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء ولكن يقال : السورة التي يذكر فيها كذا.
قلت : هذا يعارضه قوله ﷺ : " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه" خرجه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود. - ومن حرمته ألا يتلى منكوسا كفعل معلمي الصبيان يلتمس أحدهم بذلك أن يرى الحذق من نفسه والمهارة فإن تلك مخالفة. ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه. ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق ولا بترجيع النصارى ولا نوح الرهبانية فإن ذلك كله زيغ وقد تقدم. ومن حرمته أن يجلل تخطيطه إذا خطه. وعن أبي حكيمة أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة فمر علي رضي الله عنه فنظر إلى كتابته فقال له : أجل قلمك ؛ فأخذت القلم فقططته من طرفه قطا ثم كتبت وعلي رضي الله عنه قائم ينظر إلى كتابتي ؛ فقال هكذا نوره كما نوره الله عز وجل. ومن حرمته ألا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة. ومن حرمته ألا يماري ولا يجادل فيه في القراءات ولا يقول لصاحبه : ليس هكذا هو ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن فيكون قد جحد كتاب الله. ومن حرمته ألا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم {إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} هذا لمروره بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء. ومن حرمته ألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله. ومن حرمته ألا يصغر المصحف ؛ روى الأعمش عن إبراهيم عن علي رضي الله عنه قال : لا يصغر المصحف.
قلت : وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال : من كتبه ؟ قال أ نا فضربه بالدرة وقال : عظموا القرآن وروي عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن يقال : مسيجد أو مصيحف. ومن حرمته ألا يخلط فيه ما ليس منه. ومن حرمته ألا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنيا ؛ وروى مغيرة عن إبراهيم : أنه كان يكره أن يحلى المصحف أو يكتب بالذهب أو يعلم عند رءوس الآي أو يصغر. وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله ﷺ : " إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" . وقال ابن عباس وقد رأى مصحفا زين بفضة : تغرون به السارق وزينته في جوفه. ومن حرمته ألا يكتب على الأرض ولا على حائط كما يفعل به في المساجد المحدثة. حدثنا محمد بن علي الشقيقي عن أبيه عن عبدالله بن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال : سمعت عمر بن عبدالعزيز يحدث قال مرّ رسول الله ﷺ بكتاب في أرض فقال لشاب من هذيل : "ماهذا قال من كتاب الله كتبه يهودي فقال لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه" . قال محمد بن الزبير : رأى عمر بن عبدالعزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه. ومن حرمته أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس أو يحفر حفيرة في موضع طاهر حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يكبسها أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حرمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور ولذلك كان رسول الله ﷺ إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات لئلا يكون في هيئة المهجور ؛ وروى ابن عباس قال جاء رجل فقال : "يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال عليك بالحال المرتحل قال وما الحال المرتحل ؟ قال صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ثم يضرب في أوله كلما حل ارتحل" .
قلت : ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله ذكر أبو بكر الأنباري أنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا وكيع عن مسعر عن قتادة أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا . وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا جرير عن منصور عن الحكم قال كان مجاهد وعبدة بن أبي لبابة وقوم يعرضون المصاحف فإذا أرادوا أن يختموا وجهوا إلينا أحضرونا فإن الرحمة تنزل عند ختم القرآن. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال : من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يسمى ومن ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح قال فكانوا يستحبون أن يختموا أول الليل وأول النهار. ومن حرمته ألا يكتب التعاويذ منه ثم يدخل به في الخلاء إلا أن يكون في غلاف من أدم أو فضة أو غيره فيكون كأنه في صدرك. ومن حرمته إذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وعظم النية فيه فإن الله يؤتيه على قدر نيته روى ليث عن مجاهد قال : لا بأس أن تكتب القرآن ثم تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال من وجد في قلبه قساوة فليكتب يس في جام بزعفران ثم يشربه .
قلت : ومن حرمته ألا يقال : سورة صغيرة. وكره أبو العالية أن يقال : سورة صغيرة أو كبيرة ؛ وقال لمن سمعه قالها أنت أصغر منها ؛ وأما القرآن فكله عظيم ؛ ذكره مكي رحمه الله.
قلت : وقد روي أبو داود ما يعارض هذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله ﷺ يؤم بها الناس في الصلاة .
باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي ، والجرأة على ذلك ، ومراتب المفسرين
روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله ﷺ يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علمه إياهن جبريل. قال ابن عطية : ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقري من ألفاظه كعدد النفخات في الصور وكرتبة خلق السموات والأرض. روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : " اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" . وروي أيضا عن جندب قال قال رسول الله ﷺ : " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " قال هذا حديث غريب وأخرجه أبو داود وتكلم في أحد رواته . وزاد رزين ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد فسر حديث ابن عباس تفسيرين : أحدهما- من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله . والجواب الآخر- وهو أثبت القولين وأصحهما معنى - : من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. ومعنى يتبوأ ينزل ويحل ؛ قال الشاعر :
وبوئت في صميم معشرها ... فتم في قومها مبوؤها
وقال في حديث جندب : فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أن الرأي معنى به الهوى من قال في القرآن قولا يوافق هواه لم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب فقد أخطأ لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه. وقال ابن عطية : ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول ؛ وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر ؛ فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه .
قلت : هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطيء وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح .
وقال بعض العلماء : إن التفسير موقوف على السماع لقوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وهذا فاسد ؛ لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط أو المراد به أمر آخر وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي ﷺ فإن النبي ﷺ دعا لابن عباس وقال : " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " . فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك! وهذا بيّن لا إشكال فيه وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى. وإنما النهي يحمل على أحد وجهين :
أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل في طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه ؛ وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتمله فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسره برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . ويشير إلى قلبه ويوميء إلى أنه المراد بفرعون ؛ وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع وهو ممنوع لأنه قياس في اللغة ، وذلك غير جائز. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة ، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون مرادة فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي.
الوجه الثاني- أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ؛ فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة القرآن بالرأي والنقل والسماع لابد له منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ألا ترى أن قوله تعالى : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} . معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولا يدري بماذا ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم وأنفسهم فهذا من الحذف والإضمار ؛ وأمثال هذا في القرآن كثير وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه والله أعلم.
قال ابن عطية : وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبني على مذهبه ويقتفي طريقه فلعل متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطيء فيه ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي ملكية قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير حرف من القرآن فقال : "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى ".
قال ابن عطية : وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القرآن وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمّله وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من المحفوظ عن علي. وقال ابن عباس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب. وكان علي رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه وكان ابن عباس يقول نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عباس وقال عنه على رضي الله عنه ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ويتلوه عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبدالله بن عمرو بن العاص وكل ما أخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم وعن عامر بن واثلة قال شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته : سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا أنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل نزلت أم في جبل فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ وذكر الحديث وعن المنهال بن عمرو قال قال عبدالله بن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطي لأتيته فقال له رجل : أما لقيت علي بن أبي طالب ؟ فقال : بلى ، قد لقيته. وعن مسروق قال : وجدت أصحاب محمد ﷺ مثل الإخاذ يروي الواحد والإخاذ يروي الاثنين والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم وإن عبدالله بن مسعود من تلك الآخاذ. ذكر هذه المناقب أبو بكر الأنباري في كتاب الرد وقال الإخاذ عند العرب : الموضع الذي يحبس الماء كالغدير قال أبو بكر : حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا سلام عن زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : " أرحم أمتي بها أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وأبو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء - أو قال البطحاء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر" .
قال ابن عطية : ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية ويتلوهم عكرمة والضحاك وإن كان لم يلق ابن عباس وإنما أخذ عن ابن جبير. وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر .
قلت : وقال يحيى بن معين : الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح : كل ما حدثتك كذب وقال حبيب بن أبي ثابت كنا نسميه الدروغ زن : يعني أبا صالح مولى أم هانىء والدروغ زن هو الكتاب بلغة الفرس ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف كما قال ﷺ : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" . خرجه أبو عمرو وغيره قال الخطيب أبو بكر أحمد بن علي البغدادي وهذه شهادة من رسول الله ﷺ بأنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف والانتحال للباطل ورد تأويل الأبله الجاهل وأنه يجب الرجوع إليهم والمعول في أمر الدين عليهم رضي الله عنهم.
قال ابن عطية : وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن أبي طلحة والبخاري وغيرهم ثم إن محمد بن جرير رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير وقرب البعيد منها وشفي في الإسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو إسحاق الزجاج وأبو علي الفارسي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو العباس المهدوي متقن التأليف وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله ونضر وجوههم.
باب تبيين الكتاب بالسنة ، وما جاء في ذلك
قال الله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفرض طاعته في غير آية من كتابه وقرنها بطاعته عز وجل وقال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} . ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهى المحرم فقال ايتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي قال فقرأ عليه {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وعن هشام بن حجير قال : كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر فقال ابن عباس : اتركهما ؛ فقال إنما نهي عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس : قد نهى رسول الله ﷺ عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر لأن الله تعالى قال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله ﷺ أنه قال : " ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".
قال الخطابي : قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما- أن معناه أنه أوتي من الوحي غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو.
والثاني- أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن وقوله يوشك رجل شبعان الحديث يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد تضمنت بيان الكتاب قال فتحيروا وضلوا قال والأريكة السرير ويقال : إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة قال : وإنما أراد بالأريكة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لم يطلبوا العلم من مظانه وقوله إلا أن يستغنى عنها صاحبها معناه أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها كقوله : {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} معناه تركهم الله استغناء عنهم. وقوله : فله أن يعقبهم بمثل قراه هذا هو حال المضطر الذي لا يجد طعاما ويخاف التلف على نفسه فله أن يأخذ من ما لهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه ويعقبهم يروى مشددا ومخففا من المعاقبة ومنه قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي فكانت الغلبة لكم فغنمتم منهم وكذلك لهذا أن يغنم من أموالهم بقدر قراه. قال : وفي الحديث دلالة على أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب فإنه مهما ثبت عن رسول الله ﷺ كان حجة بنفسه قال فأما ما رواه بعضهم أنه قال إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن لم يوافقه فردوه فإنه حديث باطل لا أصل له.
ثم البيان منه ﷺ على ضربين : بيان لمجمل في الكتاب كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وما الذي تؤخذ منه من الأموال وبيانه لمناسك الحج قال ﷺ إذ حج بالناس : " خذوا عني مناسككم" . وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي" . أخرجه البخاري وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل : إنك رجل أحمق أتجد الظهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة! ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله مفسرا! إن كتاب الله تعالى أبهم هذا وإن السنة تفسر هذا.
وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان الوحي ينزل على رسول الله ﷺ ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك. وروى سعيد بن منصور حدثنا عيسى ابن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال قال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة قال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن هذا الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه.
وبيان آخر وهو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب والقضاء باليمين مع الشاهد وغير ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ ، وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه
ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود وأبي : أن رسول الله ﷺ كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمنا القرآن والعمل جميعا. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء ابن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها وفي موطأ مالك أنه بلغه أن عبد الله ابن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمى أسماء من روي عن مالك عن مرداس بن محمد أبي بلال الأشعري قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال : تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا وذكر أبو بكر الأنباري حدثني محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا عبيد الله بن موسى عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو عن زياد بن مخراق قال قال عبدالله بن مسعود : إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم بن المهاجر عن أبيه عن مجاهد عن ابن عمر قال : كان الفاضل من أصحاب رسول الله ﷺ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن وإن آخر هذه الأمة يقرءون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. حدثني حسن بن عبد الوهاب أبو محمد بن أبي العنبر حدثنا أبو بكر بن حماد المقريء قال سمعت خلف بن هشام البزاز يقول ما أظن القرآن إلا همام في أيدينا وذلك إنا روينا أن عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة فلما حفظها نحر جزورا شكرا لله. وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا فما أحسب القرآن إلا عارية في أيدينا. وقال أهل العلم بالحديث لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه دون معرفته وفهمه فيكون قد أتعب نفسه أن يظفر بطائل وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الليالي والأيام. وممن ورد عنه ذلك من حفاظ الحديث شعبة وابن علية ومعمر قال معمر : سمعت الزهري يقول : من طلب العلم جملة فاته جملة وإنما يدرك العلم حديثا وحديثين والله أعلم. وقال معاذ بن جبل : اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعلموا. وقال ابن عبد البر : وروي عن النبي ﷺ مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد وفيه زيادة : أن العلماء همتهم الدراية وأن السفهاء همتهم الرواية. وروي موقوفا وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا ؛ وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة الغراء :
إن العلوم إن جلت محاسنها ... فتاجُها ما به الإيمان قد وجبا
هو الكتاب العزيز الله يحفظه ... وبعد ذلك علم فرج الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه ... نور النبوة سن الشرع والأدبا
وبعد هذا علوم لا إنتهاء لها ... فاختر لنفسك يامن آثرا لطلبا
والعلم كنز تجده في معادنه ... يأيها الطالب ابحث وانظرالكتبا
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت ... كل العلوم تدبره تر العجبا
واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن ... مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا
من ذاق طعما لعلم الدين سر به ... إذا تزيد منه قال واطربا
باب معنى قول النبي ﷺ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه
روى مسلم عن أبي بن كعب : أن النبي ﷺ كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال : " إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال : "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاء الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا ". وروى الترمذي عنه قال لقي رسول الله ﷺ جبريل فقال : " يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ". قال هذا : حديث صحيح وثبت في الأمهات البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم وسيأتي بكماله في آخر الباب مبينا إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان السبتي نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال :
الأول- وهو الذي أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبدالله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم : أن المراد سبعة أوجه في المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم قال الطحاوي : وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال : جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال اقرأ على حرف ؛ فقال ميكائيل : استزده فقال اقرأ على حرفين فقال ميكائيل : استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف فقال : اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل . وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} : للذين آمنوا أمهلونا للذين آمنوا أخرونا للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} : مروا فيه سعوا فيه وفي البخاري ومسلم قال الزهري : إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام.
قال الطحاوي : إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات ولو رام ذلك لم يتهيأ إلا بمشقة عظيمة فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله ﷺ فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها قال ابن عبدالبر : فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.
روى أبو داود عن أبي قال قال رسول الله ﷺ : " يا أبيّ إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل على حرفين فقيل لي على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" . وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وذكر من كلام ابن مسعود نحوه قال القاضي ابن الطيب : وإذا ثبتت هذه الرواية يريد حديث أبي حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف.
القول الثاني- قال قوم : هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها يمنها ونزارها لأن رسول الله ﷺ لم يجهل شيئا منها وكان قد أوتي جوامع الكلم وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوزان وبعضه بلغة اليمن قال الخطابي : على أن في القرآن ما قد قريء بسبعة أوجه وهو قوله : {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} . وقوله : {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وذكر وجوها كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كله وإلى هذا القول بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية. قال أبو عبيد : وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض وذكر حديث ابن شهاب عن أنس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف : ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش فإنه نزل بلغتهم. ذكره البخاري وذكر حديث ابن عباس قال : نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة قيل : وكيف ذلك ؟ قال لأن الدار واحدة قال أبو عبيد : يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيب رضي الله عنه : معنى قول عثمان فإنه نزل بلسان قريش يريد معظمه وأكثره ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بلغة قريش فقط إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش وقد قال الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ولم يقل قريشيا ؛ وهذا يدل على أنه منزل بجميع (لسان العرب) وليس لأحد أن يقول : إنه أراد قريشا من العرب دون غيرها ، كما أنه ليس له أن يقول : أراد لغة عدنان دون قحطان أو ربيعة دون مضر لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا.
وقال ابن عبدالبر : قول من قال إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله أعلم ؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز وقال ابن عطية : معنى قول النبي ﷺ أنزل القرآن على سبعة أحرف أي فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش ومرة هذيل ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ ألا ترى أن (فطر) معناه عند غير قريش : ابتداء [خلق الشيء وعمله] فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس ؛ حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها ؛ قال ابن عباس : ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى : {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . وقال أيضا : ما كنت أدري معنى قوله تعالى : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك. وكذلك قال عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي على تنقص لهم وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي ﷺ يقرأ في الصلاة : {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر إلى غير ذلك من الأمثلة.
القول الثالث- أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر قاله قوم واحتجوا بقول عثمان نزل القرآن بلغة مضر وقالوا : جائز أن يكون منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل ومنها لتيم ومنها لضبة ومنها لقيس قالوا : هذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب ؛ وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر وقالوا : في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} جعل ربش تحتش سريا وأما تمتمة تميم فيقولون في الناس النات وفي أكياس أكيات قالوا وهذه لغات يرغب عن القرآن بها ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.
وقال آخرون : أما إبدال الهمزة عينا وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء وقد قرأ به الجلة واحتجوا بقراءة ابن مسعود : {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ذكرها أبو داود وبقول ذي الرمة :
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا طائل يريد إلا أنها
القول الرابع- ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال : تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل : {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وأطهر {وَيَضِيقُ صَدْرِي} ويضيق. ومنها ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل : {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف مثل قوله : {نُنْشِزُهَا} وننشرها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وكالصوف المنفوش.
ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل : {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود. ومنها بالتقديم والتأخير كقوله : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت [سكرة] الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان مثل قوله : {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى. وقوله : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين وقوله : فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم.
القول الخامس- أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وأمثال قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأن هذا لا يسمى أحرفا وأيضا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي ﷺ ثم قال : ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك. وقد قيل : إن المراد بقوله عليه السلام انزل القرآن على سبعة أحرف القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة لأنها كلها صحت عن رسول الله ﷺ وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه على ما يأتي.
فصل قال كثير من علمائنا كالداودي وابن صفرة وغيرهما
هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ذكره ابن النحاس وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى فالتزمه طريقة ورواه وأقرأ به واشتهر عنه وعرف به ونسب إليه فقيل حرف نافع وحرف ابن كثير ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ولا أنكره بل سوغه وحوزه وكل واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختياران أو أكثر وكل صحيح وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا في ذلك مصنفات فاستمر الإجماع على الصواب وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب وعلى هذا الأئمة المتقدمون والفضلاء المحققون كالقاضي أبي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما قال ابن عطية : ومضت الأعصار والأمصار على قراءات السبعة وبها يصلى لأنها ثبتت بالإجماع وأما شاذ القراءات فلا يصلي به لأنه لم يجمع الناس عليه أما أن المروي منه عن الصحابة رضي الله عنهم وعن علماء التابعين فلا يعتقد فيه إلا أنهم رووه وأما ما يؤثر على أبي السمال ومن قارنه فإنه لا يوثق به قال غيره. أما شاذ القراءة عن المصاحف المتواترة فليست بقرآن ولا يعمل بها على أنها منه وأحسن محاملها أن تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه كقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فأما لو صرح الراوي بسماعها من رسول الله ﷺ فاختلف العلماء بذلك على قولين النفي والإثبات وجه النفي أن الراوي لم يروه في معرض الخبر بل في معرض القرآن ولم يثبت فلا يثبت والوجه الثاني : أنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فقد ثبت كونه سنة وذلك يوجب العمل كسائر أخبار الآحاد.
فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام
قال ابن عطية : أباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف السبعة وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز وجودة الوصف ولم تقع الإباحة في قوله عليه السلام : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي ﷺ ليوسع بها على أمته فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان وقراءة هشام بن حكيم لها وإلا فكيف يستقيم أن يقول النبي ﷺ في كل قراءة منهما وقد اختلفا : هكذا أقرأني جبريل هل ذلك إلا أنه أقرأه مرة بهذه ومرة بهذه وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} فقيل له إنما نقرأ وأقوم قيلا فقال أنس وأصوب قيلا وأقوم قيلا وأهيأ واحد فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي ﷺ وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى أنصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله ﷺ : "أرسله ، أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله ﷺ : "هكذا أنزلت" ثم قال لي "اقرأ" فقرأت فقال : "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر".
قلت : وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله ﷺ فقلت : " إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما النبي ﷺ فقرأ فحسن النبي ﷺ شانهما فسقط في نفسي من التكذيب". ولا إذا كنت في الجاهلية فلما رأى النبي ﷺ ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا فقال لي : " يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم أغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام ".
قول أبي رضي الله عنه : فسقط في نفسي معناه اعترتني حيرة ودهشة أي أصابته نزعة من الشيطان ليشوش عليه حاله ويكدر عليه وقته فإنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيما في نفسه وإلا فأي شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ولم يلزم ذلك والحمد لله في النسخ الذي هو أعظم فكيف بالقراءة! ولما رأى النبي ﷺ ما أصابه من ذلك الخاطر نبهه بأن ضربه في صدره فأعقب ذلك بأن انشرح صدره وتنور باطنه حتى آل به الكشف والشرح إلى حالة المعاينة ولما ظهر له قبح ذلك الخاطر خاف من الله تعالى وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى فكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبي ﷺ- حين سألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : " وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام عليه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
باب ذكر جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها
وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي ﷺ
كان القرآن في مدة النبي ﷺ متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك قال الأصمعي : اللخاف حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة والظرر حجر له حد كحد السكين والجمع ظرار ؛ مثل رطب ورطاب وربع ورباع وظران أيضا مثل صرد وصردان فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه ، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأبي وابن مسعود وزيد فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد رضي الله عنه روى البخاري عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر : فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ فقال هو والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد : وعنده عمر جالس لا يتكلم فقال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فأجمعه فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ فقال أبو بكر : هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن ثم أبي بكر حتى توفاه الله ثم عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر. وقال الليث : حدثني عبدالرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة الأنصاري وقال أبو ثابت : حدثنا إبراهيم وقال مع خزيمة أو أبي خزيمة : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
وقال الترمذي في حديثه عنه : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . قال حديث حسن صحيح.
وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال : لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة (الأحزاب) كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري -الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين- {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} . وقال الترمذي عنه : فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها.
قلت : فسقطت الآية الأولى من آخر (براءة) في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي ؛ وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب وحكى الطبري : أن آية براءة سقطت في الجمع الأخير والأول أصح والله أعلم. فإن قيل : فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه قيل له : إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك على ما يأتي وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ماذكره حذيفة رضي الله عنه. وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية كل طائفة بما روي لها فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا فأشفق حذيفة مما رأى منهم فلما قدم حذيفة المدينة -فيما ذكر البخاري والترمذي- دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك قال : فيما إذا ؟ قال : في كتاب الله إني حضرة هذه الغزوة ، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ما تقدم وقال : إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.
قلت : وهذا أدل دليل على بطلان من قال : إن المراد بالأحرف السبعة قراءات القراء السبعة لأن الحق لا يختلف فيه ، وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب أن عثمان قال : ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول قراءتي خير من قراءتك وقراءتي أفضل من قرائتك وهذا شبيه بالكفر قلنا : ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين قال : الرأي عندي ؟ أن يجتمع الناس على قراءة فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا قلنا : الرأي رأيك يا أمير المؤمنين فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي ﷺ واطراح ما سواها واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا ؛ رحمة الله عليه وعليهم أجمعين وقال الطبري فيما روي : أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده وهذا ضعيف. وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما أصح. وقال الطبري أيضا : إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير وهذا صحيح.
وقال ابن شهاب : وأخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال : يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل ،
والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبدالله ابن مسعود : يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز وجل يقول : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالقوا الله بالمصاحف ، خرجه الترمذي. وسيأتي الكلام في هذا في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى.
قال أبو بكر الأنباري : ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبدالله بن مسعود في جمع القرآن وعبدالله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبدالله إذ وعاه كله ورسول الله ﷺ حي والذي حفظ منه عبدالله في حياة رسول الله ﷺ نيف وسبعون سورة ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول ﷺ فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله ﷺ حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار ولاختيار ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبدالله بن مسعود لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمه عليه لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنها كان زيد أحفظ منهما للقرآن وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب قال أبو بكر : وما بدا من عبدالله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب ولا يعمل به ولا يؤخذ به ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله ﷺ وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم فالشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبدالله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله ﷺ وقد قال بعض الأئمة : مات عبدالله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال يزيد بن هارون : المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم فقيل له : فقول عبدالله بن مسعود فيهما فقال لا خلاف بين المسلمين في أن عبدالله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله.
قلت : هذا فيه نظر وسيأتي وروى إسماعيل بن إسحاق وغيره قال حماد : أظنه عن أنس بن مالك قال : كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول الله ﷺ فلان بن فلان فعسى أن يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به فيقال كيف أقرأك رسول الله ﷺ آية كذا وكذا فيكتبون كما يقال قال ابن شهاب : واختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد : التابوه وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع اعترافهم إلى عثمان فقال اكتبوه بالتاء ؛ فإنه نزل بلسان قريش أخرجه البخاري والترمذي. قال ابن عطية : قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء فأثبتوا بالتاء وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر ونسخ منها عثمان نسخا قال غيره : قيل سبعة وقيل أربعة وهو الأكثر ووجه بها إلى الآفاق فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات فاتخذها قراء الأمصار معتد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة قال ابن عطية : ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق تروى منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ورواية منقوطة أحسن.
وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول : يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملا منا أصحاب محمد ﷺ وعن عمير بن سعيد قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان قال أبو الحسن بن بطال : وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض روى معمر عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان يحرق إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى ؛ وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة : جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك.
فصل في فعل عثمان رضي الله عنه
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وفي فعل عثمان رضي الله عنه رد على الحلولية والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات وأن القراءة والتلاوة قديمة وأن الإيمان قديم والروح قديم وقد أجمعت الأمة وكل أمة من النصارى واليهود والبراهمة بل كل ملحد وموحد أن القديم لا يفعل ولا تتعلق به قدرة قادر بوجه ولا بسبب ولا يجوز العدم على القديم وأن القديم لا يصير محدثا والمحدث لا يصير قديما وأن القديم ما لا أول لوجوده وأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن وهذه الطائفة خرقت إجماع العقلاء من أهل الملل وغيرهم فقالوا : يجوز أن يصير المحدث قديما وأن العبد إذا قرأ كلام الله تعالى فعل كلاما لله قديما وكذلك إذا نحت حروفا من الآجر والخشب أو صاغ أحرفا من الذهب والفضة أو نسج ثوبا فنقش عليه آية من كتاب الله فقد فعل هؤلاء كلام الله قديما وصار كلامه منسوجا قديما ومنحوتا قديما ومصوغا قديما فيقال لهم : ما تقولون في كلام الله تعالى أيجوز أن يذاب ويمحى ويحرق فإن قالوا : نعم فارقوا الدين وإن قالوا : لا قيل لهم : فما قولكم في حروف مصورة آية من كتاب الله تعالى من شمع أو ذهب أو خشب أو كاغد فوقعت في النار فذابت واحترقت فهل تقولون إن كلام الله احترق فإن قالوا : نعم تركوا قولهم وإن قالوا : لا قيل لهم أليس قلتم إن هذه الكتابة كلام الله وقد احترقت وقلتم إن هذه الأحرف كلامه وقد ذابت فإن قالوا : احترقت الحروف وكلامه تعالى باق رجعوا إلى الحق والصواب ودانوا بالجواب ؛ وهو الذي قاله النبي ﷺ منبها على ما يقول أهل الحق : " ولو كان القرآن في إهاب ثم وقع في النار ما احترق" . وقال عز وجل " أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان" . الحديث أخرجه مسلم. فثبت بهذا أن كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف والكلام في هذه المسألة يطول وتتميمها في كتب الأصول وقد بيناها في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
فصل وقد طعن الرافضة قبحهم الله تعالى- في القرآن
وقالوا : إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة براءة وقوله : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فالجواب أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أولا فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده. جواب ثان إنما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي ﷺ فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي ﷺ قال : معناه المهلب وذكر أن خزيمة غير أبي خزيمة وأن أبا خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة معروف من الأنصار وقد عرف أنس وقال نحن ورثناه والتي في الأحزاب وجدت مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس وقال ابن عبدالبر : أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه وهو مشهور بكنيته وهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وتوفي في خلافة عثمان بن عفان وهو أخو مسعود بن أوس قال ابن شهاب : عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت وجدت آخر التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري وهو هذا وليس بينه وبين الحارث بن خزيمة أبي خزيمة نسب إلا اجتماعهما في الأنصار أحدهما أوسي والآخر خزرجي وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك قال : جمع القرآن على عهد النبي ﷺ أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قلت : لأنس من أبو زيد ؟ قال أحد عمومتي وفي البخاري أيضا عن أنس قال : مات النبي ﷺ ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد وأبو زيد ؛ قال : ونحن ورثناه. وفي أخرى قال : مات أبو زيد ولم يترك عقبا وكان بدريا واسم أبي زيد سعد بن عبيد. قال ابن الطيب رضي الله عنه : لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي ﷺ ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلي وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبدالله بن عمرو بن العاص فقول أنس : لم يجمع غير أربعة يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من في رسول الله ﷺ غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي ﷺ لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول ﷺ لهم.
قلت : لم يذكر القاضي عبدالله بن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما فيما رأيت وهما ممن جمع القرآن روى جرير عن عبدالله بن يزيد الصهباني عن كميل قال قال عمر بن الخطاب : كنت مع رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر ومن شاء الله فمررنا بعبدالله بن مسعود وهو يصلي فقال رسول الله ﷺ : " من هذا الذي يقرأ القرآن فقيل له هذا عبدالله بن أم عبد فقال إن عبدالله يقرأ القرآن غضا كما أنزل" . الحديث قال بعض العلماء : معنى قوله غضا كما أنزل أي إنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص لرسول الله ﷺ في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان وقد روى وكيع وجماعة معه عن الأعمش عن أبي ظبيان قال قال لي عبدالله بن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد فقال لي : بل هي الآخرة إن رسول الله ﷺ " كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله ﷺ عرضه عليه مرتين ".فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة" .
قلت : هذه الأخبار تدل على أن عبدالله جمع القرآن في حياة رسول الله ﷺ خلاف ما تقدم والله أعلم. وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) حدثنا محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي إسحاق قال قال عبدالله بن مسعود : قرأت من في رسول الله ﷺ اثنتين وسبعين سورة أو ثلاثا وسبعين سورة وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . قال أبو إسحاق : وتعلم عبدالله بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري.
قلت : فإن صح هذا صح الإجماع الذي ذكره يزيد بن هارون فلذلك لم يذكره القاضي أبو بكر بن الطيب مع من جمع القرآن وحفظه في حياة النبي ﷺ والله أعلم.
قال أبو بكر الأنباري : حدثني إبراهيم بن موسى الخوزي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال : سألت الأسود ما كان عبدالله يصنع بسورة الأعراف ؟ فقال : ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة قال وقد قال بعض أهل العلم : مات عبدالله بن مسعود رحمة الله عليه قبل أن يتعلم المعوذتين فلهذه العلة لم توجد في مصحفه هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب ثم ذكر المعوذتين إن شاء الله تعالى.
قال أبو بكر : والحديث الذي حدثناه إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عمر بن هارون الخرساني عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن كعب القرظي قال : كان ممن ختم القرآن ورسول الله ﷺ حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود حديث ليس بصحيح عند أهل العلم إنما هو مقصور على محمد بن كعب فهو مقطوع لا يؤخذ به ولا يعول عليه.
قلت : قوله عليه السلام : " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد " . يدل على صحته ومما يبين لك ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كل منهم عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى عليه وسلم لم يستثن من جملة القرآن شيئا فأسند عاصم قراءته إلى علي وابن مسعود وأسند ابن كثير قراءته إلى أبي وكذلك أبو عمرو بن العلاء أسند قراءته إلى أبي وأما عبد الله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى عثمان وهؤلاء كلهم يقولون قرأنا على رسول الله ﷺ وأسانيد هذه القراءات متصلة ورجالها ثقات قاله الخطابي.
باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه
قال ابن الطيب : إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكي على المدني ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد ومنهم من جعل في أوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف ومصحف أبي كان أوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد قال القاضي أبو بكر بن الطيب : فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة (براءة) وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي ﷺ ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة هذا أصح ما قيل في ذلك وسيأتي. وذكر ابن وهب في جامعه قال سمعت سليمان بن بلال يقول. سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال ربيعة : قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على العلم بذلك فهذا مما ننتهي إليه ولا نسأل عنه وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله ﷺ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال قوم من أهل العلم : إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان على توقيف من النبي ﷺ وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير وأن رسول الله ﷺ رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال : سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله ﷺ وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبي ﷺ في عشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والآية جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله ﷺ على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والكلمات ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله ﷺ أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول ضعوا هذه السور موضع كذا وكذا من القرآن وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال : آخر ما نزل من القرآن {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} . قال أبو بكر بن عياش : وأخطأ أبو إسحاق لأن محمد بن السائب حدثنا عن أبي السائب عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . فقال : " جبريل للنبي عليهما السلام يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة ". قال أبو الحسن بن بطال : ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة ولا يعلم أن أحدا منهم قال إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها : لا يضرك أية قرأت قبل وقد كان النبي ﷺ يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا وقالا ذلك منكوس القلب فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها.
ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها : " وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ". تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور.
قال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال : نزل بالمدينة من القرآن البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والرعد ، والنحل ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والصف ، والجمعة ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، و { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} إلى رأس العشر ، و { إِذَا زُلْزِلَتِ} و { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } هؤلاء السور نزلن بالمدينة وسائر القرآن نزل بمكة.
قال أبو بكر : فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد ﷺ ما حكاه عن ربه تعالى. وقد قيل : إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو فقدوه من القرآن لقالوا ما باله عري من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلي من نظامنا. قال عبيد بن الأبرص :
أن بدلت منهم وحوشا ... وغيرت حالها الخطوب
عيناك دمعها سروب ... كأن شأنيهما شعيب
أراد عيناك دمعها سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا فقدم المؤخر وأخر المقدم ومعنى سروب منصب على وجه الأرض ومنه السارب للذاهب على وجهه في الأرض قال الشاعر :
أني سربت وكنت غير سروب
وقوله : شأنيهما الشأن واحد الشئون وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها يجيء الدمع. شعيب : متفرق.
فصل وأما شكل المصحف ونقطه
فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه وأمر وهو والي العراق الحسن ويحي بن يعمر بذلك وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات.
وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ؛ وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر.
فصل وأما وضع الأعشار
قال ابن عطية : مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل : إن الحجاج فعل ذلك وذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف وأنه كان يحكه وعن مجاهد أن كره التعشير والطيب في المصحف. وقال أشهب : سمعت مالكا وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان فكره ذلك. وقال تعشير المصحف بالحبر لا بأس به وسئل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية قال : إني أكره ذلك في أمهات المصاحف أن يكتب فيها شيء أو يشكل فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب : ثم أخرج إلينا مصحفا لجده كتبه إذ كتب عثمان المصاحف فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر ورأيته معجوم الآي بالحبر وقال قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا وقال يحيى بن أبي كثير : كان القرآن مجردا في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا : لا بأس به هو نور له ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم وعن أبي حمزة قال : رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا فقال لي امحه فإن عبد الله بن مسعود قال : لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه وعن أبي بكر السراج قال قلت لأبي رزين : أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا ؛ قال : إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن.
قال الدّاني رضي الله عنه : وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورءوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم قادهم إلى عمله الاجتهاد وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرهما ؛ على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك واستعماله في الأمهات وغيرها والحرج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله.
فصل وأما عدد حروفه وأجزائه
فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال : أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو قال : وكنت فيهم ، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا قال : فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن فإذا هو الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الفاء قال فأخبروني بأثلاثه فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من طسم الشعراء والثلث الثالث مابقي من القرآن قال : فأخبروني بأسباعه على الحروف فإذا أول سبع في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} في الدال والسبع الثاني في الأعراف {أُولَئِكَ حَبِطَتْ} في التاء والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُهَا دَائِمٌ} في الألف من آخر أكلها والسبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} في الألف والسبع الخامس في الأحزاب { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} في الهاء والسبع السادس في الفتح {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في الواو والسبع السابع ما بقي من القرآن قال سلام أبو محمد : علمناه في أربعة أشهر وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا فأول ربعه خاتمة الأنعام والربع الثاني في الكهف وليتلطف والربع الثالث خاتمة الزمر والربع الرابع ما بقي من القرآن وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني من أراد الوقوف عليه وجده هناك فصل وأما عدد آي القرآن في المدني الأول فقال محمد بن عيسى : جميع عدد آي القرآن في المدني الأول ستة آلاف آية. قال أبو عمرو : وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة ولم يسموا في ذلك أحدا بعينه يسندونه إليه.
وأما المدني الأخير فهو في قول إسماعيل بن جعفر ستة آلاف آية ومائتا آية وأربع عشرة آية وقال الفضل : عدد آي القرآن في قول المكيين ستة آلاف آية ومائتا آية وتسع عشرة آية. قال محمد بن عيسى : عدد آي القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات وهو العدد الذي رواه سليم والكسائي عن حمزة وأسنده الكسائي إلى على رضي الله عنه. قال محمد : وجميع عدد آي القرآن في عدد البصريين ستة آلاف ومائتان وأربع آيات وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري ستة آلاف ومائتان وست وعشرون في رواية ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون نقص آية قال ابن ذكوان : فظننت أن يحي لم يعد { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال أبو عمرو : فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا.
وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان : جميع كلمات القرآن- في قول عطاء بن يسار- سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة وحروفه ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا.
قلت : هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا. وقال عبدالله بن كثير عن مجاهد قال : هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا عن الحمداني من عدّ حروفه.
باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف
معنى السورة في (كلام العرب) الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة قال النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل : سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور. وقيل : سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده كسور البناء ؛ كله بغير همز وقيل : سميت بذلك لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول السرب للبقية سؤر وجاء في أسآر الناس أي بقاياهم فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانضمام ما قبلها. وقيل : سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة سورة وجمع سورة سور بفتح الواو وقال الشاعر :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويجوز أن يجمع على سورات وسورات وأما الآية فهي العلامة بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله أي هي بائنة من أختها ومنفردة. وتقول العرب : بيني وبين فلان آية ؛ أي علامة ومن ذلك قوله تعالى : {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} وقال النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وقيل : سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه كما يقال خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم. قال برج بن مسهر الطائي :
خرجنا من النقبين لاحي مثلنا ... بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقيل : سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها واختلف النحويون في أصل آية فقال سيبويه : أيية على فعلة مثل أكمة وشجرة فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي : أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتباسها بالجمع. وقال الفراء : أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة للتشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياء. وأنشد أبو زيد :
لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه
وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات أي الحروف وأطول الكلم في كتاب الله عز وجل ما بلغ عشرة أحرف نحو قوله تعالى : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} و { أَنُلْزِمُكُمُوهَا} وشبههما ؛ فأما قوله : {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فهو عشرة أحرف في الرسم وأحد عشر في اللفظ وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ولا ولك وله وما أشبه ذلك ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة مثل همزة الاستفهام وواو العطف إلا أنه لا ينطق به مفردا وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى : {وَالْفَجْرِ} {وَالضُّحَى} {وَالْعَصْرِ} وكذلك {الم} و {المص} و {طه} و {يس} و {حم} في قول الكوفيين وذلك في فواتح السور فأما في حشوهن فلا. قال أبو عمرو الداني : ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله : في الرحمن {مُدْهَامَّتَانِ} لا غير. وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان وذلك في قوله : {حم عسق} على قول الكوفيين لا غير. وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامة والكلام القائم بنفسه وإن كان أكثر أو أقل قال عز وجل : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} قيل : إنما يعني بالكلمة ها هنا قوله تبارك وتعالى : {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} . إلى آخر الآيتين وقال عز وجل : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال مجاهد : لا إله إلا الله وقال النبي ﷺ : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" . وقد تسمي العرب القصيدة بأسرها والقصة كلها كلمة فيقولون قال قس في كلمته كذا أي في خطبته وقال زهير : في كلمته كذا أي في قصيدته وقال فلان في كلمته يعني في رسالته فتسمي جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان بسبب منه مجازا واتساعا.
وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز قال أبو عمرو الداني : فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو ص و ق و ن حرفا أو كلمة ؟ قلت : كلمة لا حرفا وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها فلذلك سميت كلمات لا حروفا قال أبو عمرو : وقد يكون الحرف في غير هذا المذهب والوجه. قال الله عز وجل : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي على وجه ومذهب ومن ذلك قول النبي ﷺ : " أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي سبعة أوجه من اللغات والله أعلم.
باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أولا
لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط واختلفوا هل وقع فيه غير أعلام مفردة من غير كلام العرب فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه وأن القرآن عربي صريح وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم وذهب بعضهم إلى وجودها فيه وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه فالمشكاة الكوة ونشأ قام من الليل ومنه {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} و {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين. {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي الأسد كله بلسان الحبشة والغساق البارد المنتن بلسان الترك والقسطاس الميزان بلغة الروم والسجيل الحجارة والطين بلسان الفرس والطور الجبل واليم البحر بالسريانية والتنور وجه الأرض بالعجمية قال ابن عطية : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام ، وكسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرى مجرى العربي الصحيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره كما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك قال ابن عطية : وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.
قال غيره : والأول أصح وقوله هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ليس بأولى من العكس فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أولا فإن كان الأول فهي من كلامهم إذ لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة. فإن قيل : ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه قلنا ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم والله أعلم.
باب ذكر نكت في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها
المعجزة واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها وشرائطها خمسة فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة.
فالشرط الأول من شروطها أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه لو أتى آت في زمان يصح فيه مجيء الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أن يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزة له ولا دالا على صدقه لقدرة الخلق على مثله وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر وانشقاق القمر وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر.
والشرط الثاني هو أن تخرق العادة وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعي للرسالة آيتي مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها لم يكن فيما ادعاه معجزة لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلا الله فلم تفعل من أجله وقد كان قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه ودعواه في دلالتها على نبوته كدعوى غيره فبان أنه لا وجه له يدل على صدقه والذي يستشهد به الرسول عليه السلام له وجه يدل على صدقه وذلك أن يقول الدليل على صدقي أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي على الرسالة فيقلب هذه العصا ثعبانا ويشق الحجر ويخرج من وسطه ناقة أو ينبع الماء من بين أصابعي كما ينبعه من العين أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات التي ينفرد بها جبار الأرض والسموات فتقوم له هذه العلامات مقام قول الرب سبحانه لو أسمعنا كلامه العزيز وقال صدق أنا بعثته ومثال هذه المسألة ولله ولرسوله المثل الأعلى ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل من أفعاله وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي فإذا سمع الملك كلامه لهم ودعواه فيهم ثم عمل ما استشهد به على صدقه قام ذلك مقام قوله لو قال صدق فيما ادعاه علي فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلا هو وخرق به العادة على يد الرسول قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى لو أسمعناه وقال صدق عبدي في دعوة الرسالة وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا.
والشرط الثالث هو أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل فيقول آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا أو يحرك الأرض عند قولي لها تزلزلي فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدى به.
الشرط الرابع هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة : آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي للرسالة لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء فما فعل الله سبحانه من هذا كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب.
والشرط الخامس من شروط المعجزة ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة فإن تم الأمر المتحدى به المستشهد به على النبوة على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة فهي معجزة دالة على نبوة من ظهرت على يده فإن أقام الله تعالى من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به يعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيا وخرج عن كونه معجزا ولم يدل على صدقه ولهذا قال المولى سبحانه : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} وقال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} كأنه يقول : إن ادعيتم أن هذا القرآن من نظم محمد ﷺ وعمله فاعملوا عشر سور من جنس نظمه فإذا عجزتم بأسركم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من نظمه ولا من عمله لا يقال إن المعجزات المقيدة بالشروط الخمسة لا تظهر إلا على أيدي الصادقين وهذا المسيح الدجال فيما رويتم عن نبيكم ﷺ يظهر على يديه من الآيات العظام والأمور الجسام ما هو معروف مشهور فإنا نقول ذلك يدعي الرسالة وهذا يدعي الربوبية وبينهما من الفرقان ما بين البصراء والعميان وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق إلى بعض غير ممتنعة ولا مستحيلة فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة.
ودلت الأدلة العقلية أيضا على أن المسيح الدجال فيه التصوير والتغيير من حال إلى حال وثبت أن هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئا أو يشبه شيء ليس كمثله شيء هو السميع البصير.
فصل إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين
الأول- ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي ﷺ والثاني- ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب وهذه صفة نقل القرآن ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالأدلة والمعجزات والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه ويسمعونه لكثرة العدد ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد ﷺ ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان كالبصرة والشام والعراق وخرسان والمدينة ومكة وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة فالقرآن معجزة نبينا ﷺ الباقية بعده إلى يوم القيامة ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه أو دخلها التبديل والتغيير كالتوراة والإنجيل.
ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة :
منها : النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال : يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله ﷺ : {حم} فصلت على ما يأتي بيانه هنالك. فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ومنها : الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
ومنها : الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلى آخرها وقوله سبحانه : {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخر السورة وكذلك قوله سبحانه : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار : فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ولا أن يقول ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء قال ابن الحصار : وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة ، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار وهي أقصر صورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين أحدهما : الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله.
ومنها : التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
ومنها : الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه قال القاضي ابن الطيب : ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى المتعلم منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
ومنها : الوفاء بالوعد ، المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد الله سبحانه وينقسم إلى أخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام وإخراج الذين أخرجوه من وطنه وإلى وعد مقيد بشرط كقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} { َومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} و{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك.
ومنها : الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك : ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي الله عنه : إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح وكان عمر يفعل ذلك فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وقال : {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين أو من أوقفه عليها رب العالمين فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه.
ومنها : ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
ومنها : الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
ومنها : التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف قال الله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
قلت : فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم ، ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرفة عند التحدي بمثله وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن وذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله وهذا فاسد لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين : أحدهما- أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني- أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
قال ابن عطية : وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة فلما جاء محمد ﷺ صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد.
ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره ذكر في آية واحدة أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهو قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء ونهي عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وأنبأ سبحانه عن الموت وحسرة الفوت والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين وتردي المجرمين والتحذير من الاغترار بالدنيا ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وأنبا أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين وعواقب المهلكين في شطر آية وذلك في قوله تعالى : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} إلى قوله تعالى : { َقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي ﷺ تقوله أنزل الله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن.
فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول الله ﷺ مع ما أوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله ﷺ في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطا عن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام : " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . فأين ذلك من قوله عز وجل : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وقوله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة ؛ فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره ؛ فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام والفصاحة في زمن محمد ﷺ.
باب التنبيه عن أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره
لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال قد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم ومقاصدهم في ارتكابها فمن قوم من الزنادقة مثل المغيرة بن سعيد الكوفي ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة وغيرهما وضعوا أحاديث وحدثوا بها ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس فمما رواه محمد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله ﷺ : " أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي إلا ما شاء الله" . فزاد هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة.
قلت : وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب التمهيد ولم يتكلم عليه بل تأول الاستثناء على الرؤيا فالله أعلم. ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوى يدعون الناس إليه قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب إن هذه الأحاديث دين فانظروا ممن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
ومنهم جماعة الحديث حسبة كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال كما روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي ومحمد بن عكاشة الكرماني وأحمد بن عبد الله الجويباري وغيرهم قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في كتاب علوم الحديث له : وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ في فضل القرآن سورة سورة وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه وإن أثر الوضع عليه لبين وقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم.
ومنهم : قوم من السؤال والمكدين يقفون في الأسواق والمساجد فيضعون على رسول الله ﷺ أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا أنبأنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله ﷺ : " من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه مرجان" وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا فقال والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه فقال له يحيى من حدثك بهذا الحديث فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقال أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله ﷺ فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال له : أنت يحيى بن معين قال نعم قال لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة فقال له يحيى : وكيف علمت أني أحمق قال كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا قال فوضع أحمد كمه على وجهه وقال دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله ﷺ ومن يجري مجراهم يذكر أن الرشيد كان يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البختري القاضي فقال روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : "لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح" فزاد أو جناح وهي لفظة وضعها للرشيد فأعطاه جائزة سنية فلما خرج قال الرشيد والله لقد علمت أنه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل له وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله ﷺ فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته فلا يكتب العلماء حديثه بحال قلت فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من المصنفات التي تداولها العلماء ورواها الأئمة الفقهاء لكان لهم في ذلك غنية وخرجوا عن تحذيره ﷺ حيث قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . الحديث فتخويفه ﷺ أمته بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه فحذار مما وضعه أعداء الدين وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك وأعظمهم ضررا أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم فضلوا وأضلوا .
باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان
لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد ﷺ معجزة له على نحو ما تقدم وأنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف معلومة على الاضطرار سوره وآياته مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته فلا يحتاج في تعريفه بحد ولا في حصره بعد فمن ادعى زيادة عليه أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع وبهت الناس ورد ما جاء به الرسول ﷺ من القرآن المنزل عليه ورد قوله تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وأبطل آية رسوله عليه السلام لأنه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية وخرج عن أن يكون معجزا فالقائل بأن القرآن فيه زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول وكان كمن قال : الصلوات المفروضات خمسون صلاة وتزوج تسع من النساء حلال وفرض الله أياما مع شهر رمضان إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين فإذا رد هذا الإجماع كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته ما يوجبه الحق والإنصات والديانة وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين حتى نبع في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها ويثبت أسسها وينمي فرعها ويحرسها من معايب أولي الجنف والجور ومكايد أهل العداوة والكفر فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه باتفاق أصحاب رسول الله ﷺ على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيتها فمنها والعصر ونوائب الدهر فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين ونوائب الدهر ومنها حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فادعى هذا الإنسان أنه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذكر مما يدعى حروفا كثيرة وادعى أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه فقرأ في صلاة الفرض والناس يسمعون (الله الواحد الصمد) فأسقط من القرآن (قل هو) وغير لفظ أحد وادّعى أن هذا هو الصواب والذي عليه الناس هو الباطل والمحال وقرأ في صلاة الفرض قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون وطعن في قراءة المسلمين.
وادعى أن المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيرة منها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فادعى أن الحكمة والعزة لا يشاكلان المغفرة وأن الصواب وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وترامى به الغي في هذا وأشكاله حتى ادعى أن المسلمين يصحفون {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} والصواب الذي لم يغير عنده وكان عبدا لله وجيها وحتى قرأ في صلاة مفترضة على ما أخبرنا جماعة سمعوه وشهدوه لا تحرك به لسانك إن علينا جمعه وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به وحكى لنا آخرون عن آخرين أنهم سمعوه يقرأ ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة وروى هؤلاء أيضا لنا عنه قال هذا صراط علي مستقيم وأخبرونا أنه أدخل في آية من القرآن ما لا يضاهي فصاحة رسول الله ﷺ ولا يدخل في لسان قومه الذين قال الله عز وجل فيهم : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فقرأ أليس قلت للناس في موضع أأنت قلت للناس وهذا لا يعرف في نحو المعربين ولا يحمل على مذاهب النحويين لأن العرب لم تقل ليس قمت فأما لست قمت بالتاء فشاذ قبيح خبيث رديء لأن ليس لا تجحد الفعل الماضي ولم يوجد مثل هذا إلا في قولهم أليس قد خلق الله مثلهم وهو لغة شاذة لا يحمل كتاب الله عليها وادعى أن عثمان رضي الله عنه لما أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب لأن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب كانا أولى بذلك من زيد لقول النبي ﷺ : " أقرأ أمتي أبي بن كعب" . ولقوله عليه السلام : " من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد" . وقال هذا القائل لي أن أخالف مصحف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلا فقرأ إن هذين فأصدق وأكون وبشر عبادي الذين بفتح الياء فما أتاني الله بفتح الياء والذي في المصحف { ِإنْ هَذَانِ} بالألف {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بغير واو { فَبَشِّرْ عِبَادِ} { فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} بغير ياءين في الموضعين وكما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرءوا {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} بإثبات نونين يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم وفي المصحف نون واحدة وكما خالف حمزة المصحف فقرأ أتمدون بمال بنون واحدة ووقف على الياء وفي المصحف نونان ولا ياء بعدهما وكما خالف حمزة أيضا المصحف فقرأ ألا إن ثمودا كفروا ربهم بغير تنوين وإثبات الألف يوجب التنوين وكل هذا الذي شنع به على القراء ما يلزمهم به خلاف للمصحف قلت قد أشرنا إلى العد فيما تقدم مما اختلف فيه المصاحف وسيأتي بيان هذه المواضع في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى قال أبو بكر : وذكر هذا الإنسان أن أبي بن كعب هو الذي قرأ كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها وذلك باطل لأن عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد ومجاهد قرأ على ابن عباس وابن عباس قرأ القرآن على أبي بن كعب {حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ} في رواية وقرأ أبي القرآن على رسول الله ﷺ وهذا الإسناد متصل بالرسول عليه السلام نقله أهل العدالة والصيانة وإذا صح عن رسول الله ﷺ أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه وقال يحيى بن المبارك اليزيدي : قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء وقرأ أبو عمرو على مجاهد وقرأ مجاهد على ابن عباس وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب وقرأ أبي على النبي ﷺ وليس فيها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيه عليه السلام فليس بكافر ولا آثم حدثني أبي نبأنا نصر بن داود الصاغاني نبأنا أبو عبيد قال : ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الذي عليه الإجماع من الحروف التي يعرف أسانيدها الخاصة دون العامة فيما نقلوا فيه عن أبي وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ؛ وعن ابن عباس : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ". ومما يحكون عن عمر بن الخطاب أنه قرأ : " غير المغضوب عليهم وغير الضالين ". مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم على أن الصلاة بها تحل ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان لأنها حروف لو جحدها جاحد أنها من القرآن لم يكن كافرا والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له لو أنكر بعضه منكر كان كافرا حكمه حكم المرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وقال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عوراه ووضحت فضائحه قال أبو عبيد : وقد حدثت عن يزيد بن زريع عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال : طعن قوم على عثمان رحمه الله بحمقهم جمع القرآن ثم قرءوا بما نسخ قال أبو عبيد : يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم كما أثبت الذي أثبت بعلم قال أبو بكر : وفي قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} دلالة على كفر هذا الإنسان لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان فإذا قرأ قاريء : " تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف " فقد كذب على الله جل وعلا وقوله ما لم يقل وبدل كتابه وحرفه وحاول ما قد حفظه منه ومنع من اختلاطه به وفي هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرا الإسلام وينسبونه إلى قوم كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام وبثباته تقام الصلوات وتؤدى الزكوات وتتحرى المتعبدات وفي قول الله تعالى : {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . دلالة على بدعة هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر لأن معنى أحكمت آياته منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها أو ينقصوا منها أو يعارضوها بمثلها وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا. فقال في القرآن هجرا وذكر عليا في مكان لو سمعه يذكره فيه لأمضى عليه الحد وحكم عليه بالقتل وأسقط من كلام الله " قل هو " وغير" أحد " فقرأ : الله الواحد الصمد وإسقاط ما أسقط نفي له وكفر ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله وأبطل معنى الآية ؛ لأن أهل التفسير قالوا : نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله ﷺ صف لنا ربك أمن ذهب أم من نحاس أم من صفر فقال الله جل وعز ردا عليهم : " قل هو الله أحد " ففي هو دلالة على موضع الرد ومكان الجواب فإذا سقط بطل معنى الآية ووضح الافتراء على الله عز وجل والتكذيب لرسول الله ﷺ ويقال لهذا الإنسان : ومن ينتحل نصرته أخبرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا من كان قبلنا من أسلافنا سواه هل هو مشتمل على جميع القرآن من أوله إلى آخره صحيح الألفاظ والمعاني عار على الفساد والخلل أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين من أهل ملتنا فإن أجابوا بأن القرآن الذي معنا مشتمل على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها من كل زلل وخلل فقد قضوا على أنفسهم بالكفر حين زادوا فيه فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم فأي زيادة في القرآن أوضح من هذه وكيف تخلط بالقرآن وقد حرسه الله منها ومنع كل مفتر ومبطل من أن يلحق به مثلها وإذا تؤملت وبحث عن معناها وجدت فاسدة غير صحيحة لا تشاكل كلام الباريء تعالى ولا تخلط به ولاتوافق معناه وذلك أن بعدها لا يأكله إلا الخاطئون فكيف يؤكل الشراب والذي أتى به قبلها فليس له اليوم ها هنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} فهذا متناقض يفسد بعضه بعضا لأن الشراب لا يؤكل ولا تقول العرب : أكلت الماء لكنهم يقولون شربته وذقته وطعمته ومعناه فيما أنزل الله تبارك وتعالى على الصحة في القرآن الذي من خالف حرفا منه كفر ولا طعام إلا من غسلين لا يأكل الغسلين إلا الخاطئون أو لا يأكل الطعام إلا الخاطئون والغسلين : ما يخرج من أجوافهم من الشحم وما يتعلق به من الصديد وغيره فهذا طعام يؤكل عند البلية والنقمة والشراب محال أن يؤكل. فإن ادعى هذا الإنسان أن هذا الباطل الذي زاده من قوله من عين تجري من تحت الجحيم ليس بعدها لا يأكله إلا الخاطئون ونفي هذه الآية من القرآن لتصح له زيادته فقد كفر لما جحد آية من القرآن وحسبك بهذا كله ردا لقوله وخزيا لمقاله وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا إنما ذلك على جهة البيان والتفسير لا أن ذلك قرآنا يتلى وكذلك ما نسخ لفظه وحكمه أو لفظه دون حكمه ليس بقرآن على ما يأتي بيانه عند قوله تعالى ما ننسخ من آية إن شاء الله تعالى.