الرئيسيةبحث

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/المجلد الخامس/صفحة واحدة



☰ جدول المحتويات

التمهيد المجلد الخامس

حديث سابع وعشرون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة" وقال : "اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين في كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف"

قال أبو عمر: هذا الحديث يتصل من وجوه كثيرة ثابتة منها حديث مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي ﷺ ومن حديثه أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ إلا أنه ليس في حديثه عن أبي الزناد قوله اشتكت النار إلى آخر الحديث.

رواه عن أبي هريرة جماعة منهم همام بن منبه وأبو صالح السمان والأعرج وأبو سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وغيرهم.

وقد رواه عن النبي ﷺ جماعة من الصحابة منهم أبو ذر وأبو موسى الأشعري وهو حديث صحيح مشهور فلا معنى لذكر الأسانيد فيه إذ هو عند مالك متصل كما ذكرنا ومشهور في المسانيد والمصنفات كما وصفنا.

وفيه دليل على أن الظهر يعجل بها في غير الحر ويبرد بها في الحر ومعنى الإبراد التأخير حتى تزول شمس الهاجرة وهذا معنى اختلف الفقهاء فيه.

فأما مذهب مالك في ذلك فذكر إسماعيل بن إسحاق وأبو الفرج عمرو بن محمد أن مذهبه في الظهر وحدها أن يبرد بها وتؤخر في شدة الحر وسائر الصلوات تصلى في أوائل أوقاتها قال أبو الفرج اختار مالك رحمه الله لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله ﷺ : "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة"

قال أبو عمر: الحجة لهذا القول الحديث المذكور في هذا الباب مع ما قدمنا في الباب الذي قبله من فضل الصلاة في أول وقتها وتقدير الآثار في ذلك كأنه ﷺ قال : صلوا الصلوات في أوائل أوقاتها لمن ابتغى الفضل إلا الظهر في شدة الحر فإن الإبراد بها أفضل، وهذا تقدير محتمل واستثناء صحيح إن شاء الله وقد نزع أبو الفرج بأن جبريل صلى بالنبي ﷺ في الوقت المختار في اليوم الأول وصلى به في اليوم الثاني ليعلمه بالسعة في الوقت والرخصة فيه.

وأما ابن القاسم فحكى عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد على ما كتب به عمر إلى عماله وقال ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا إن معنى ذلك مساجد الجماعات وأما المنفرد فأول الوقت أولى به وهو الذي مال إليه أهل النظر من المالكيين البغداديين وتركوا رواية ابن القاسم في المنفرد.

وقال الليث بن سعد تصلى الصلوات كلها الظهر وغيرها في أول الوقت في الشتاء والصيف وهو أفضل.

وكذلك قال الشافعي إلا أنه استثنى فقال إلا أن يكون إمام جماعة ينتاب إليه من المواضع البعيدة فإنه يبرد بالظهر.

وقد روى عنه أن ذلك إنما يكون بالحجاز حيث شدة الحر وكانت المدينة ليس فيها مسجد غير مسجد رسول الله ﷺ وكان ينتاب من بعد.

ومن حجتهم أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر حين تزيغ الشمس وهو حديث متصل ثابت عن عمر رواه مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه وقد لقى عمر وعثمان والحديث المذكور فيه عن عمر إلى عماله : أن صلوا الظهر إذا فاء الفيء ذراعا منقطع رواه مالك عن نافع عن عمر ونافع لم يلق عمر.

وقال العراقيون تصلى الظهر في الشتاء والصيف في أول الوقت واستثنى أصحاب أبي حنيفة شدة الحر فقالوا تؤخر في ذلك حتى يبرد والاختلاف في هذا قريب جدا.

وقد احتج من لم ير الإبراد بالظهر في الحر بحديث خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء فلم يشكنا يقول فلم يعذرنا وتأول من رأى الابراد في قول خباب بن الأرت هذا فلم يشكنا أي لم يحوجنا إلى الشكوى لأنه رخص لنا في الابراد وذكر أبو الفرج أن أحمد بن يحيى ثعلب فسر قوله فلم يشكنا على هذا المعنى أي لم يحوجنا إلى الشكوى.

قرأت على أبي القاسم يعيش بن سعيد بن محمد وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهما قال حدثنا محمد بن غالب التمتام قال حدثنا علي بن ثابت الدهان قال حدثنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب قال شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء فلم يشكنا قال زهير فقلت لأبي إسحاق في تعجيل الظهر قال نعم في تعجيل الظهر.

وحدثنا عبد الوارث ين سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى يعني القطان عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب قال شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء فما أشكانا.

قال أبو عمر: روى هذا الحديث الأعمش عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن خباب والقول عندهم قول الثوري وزهير على ما ذكرنا عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب والله أعلم.

أخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال أخبرني حمزة بن محمد بن العباس الكناني قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرني كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ خرج حين زاغت الشمس فصلى بهم صلاة الظهر.

وفي حديث أبي برزة الأسلمي "أن رسول الله ﷺ كان يصلي الظهر حين تزول الشمس".

وروى جابر عن النبي ﷺ معناه.

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا محمد ابن بكر بن عبد الرزاق قال أخبرنا سليمان بن الأشعث قال : أخبرنا عثمان بن أبي شيبة قال أخبرنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي عن سعيد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال : كان قدر صلاة رسول الله ﷺ الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة. وذكر النسوي عن أبي عبد الرحمن الأذرمي عن عبيدة بن حميد بإسناده مثله سواء.

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عبد الله بن سعيد قال حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال أخبرنا خالد ابن دينار أبو خلدة قال سمعت أنس بن مالك قال : "كان رسول الله ﷺ إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل".

وأخبرنا عبد الله حدثنا عبد الحميد حدثنا الخضر أخبرنا الأثرم قال قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل أي الأوقات أعجب إليك قال أول الأوقات أعجب إلي في الصلوات كلها إلا في صلاتين صلاة العشاء الآخرة وصلاة الظهر في الحر يبرد بها وأما في الشتاء فيعجل بها.

وأما قوله : "فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" فيدل على أن نفسها في الشتاء غير الشتاء ونفسها في الصيف غير الصيف وفي رواية جماعة من الصحابة زيادة في هذا الحديث وذلك قوله فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها أو قال من حرها.

وهذا أيضا ليس على ظاهره وقد فسره الحسن البصري في روايته فقال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فخفف عني قال فخفف عنها وجعل لها كل عام نفسين فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها.

وقوله في هذا الحديث : "زمهرير يهلك شيئا وحر يهلك شيئا" تفسير ما أشكل من ذلك والله أعلم.

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ومما يدلك على أن النار والجنة قد خلقتا ما حدثناه خلف ابن القاسم وعبد الرحمن بن مروان قالا أخبرنا الحسن بن رشيق قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال أخبرنا أبو شرحبيل عيسى بن خالد الحمصي قال أخبرنا أبو اليمان قال أخبرنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية أنه سمع حميد بن عبيد مولى المعلى يقول سمعت ثابتا البناني يحدث عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال لجبريل عليه السلام : "لم أر ميكائل ضاحكا قط فقال ما ضحك ميكائل مذ خلقت النار"

قال وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ابن يونس أبو يعقوب قال أخبرنا داود بن رشيد وعبد الله بن مطيع قالا أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "لما خلق الله الجنة دعا جبريل فأرسله إليها فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحجبت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر فرجع فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ثم أرسله إلى النار فقال اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فذهب ورجع فقال وعزتك لا يدخلها أحد فحجبت بالشهوات ثم قال عد إليها فعاد ثم رجع فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها".

فلهذه الأحاديث وما كان مثلها قال أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا تبيدان لأنهما إذا كانا لا تبيدان حتى تبيد الدنيا ومعلوم أن الدنيا إذا انقرضت بقيام الساعة جاءت الآخرة, والآخرة غير خالية من جهنم كما أنها غير خالية من الجنة لأن الجنة رحمة الله تعالى والنار عذابه يصيب بها من يشاء من عباده.

وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال : "اختصمت النار والجنة فقالت الجنة مالي يدخلني الضعفاء والمساكين وقالت النار ما لي يدخلني الجبارون والمتكبرون فقال الله للجنة أنت رحمتي أصيب بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء" وقد روى هذا المعنى من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ حدث به عن مالك إسحاق بن محمد الفروي.

ومما يدل على أن النار مخلوقة دائمة قول الله عز وجل : {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر : من الآية45-46] الآية وقول رسول الله ﷺ : "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" وهو الذي عليه جماعة أهل السنة والأثر أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان وبالله التوفيق.

وأما قوله في هذا الحديث : "اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا" الحديث فإن قوما حملوه على الحقيقة وأنها أنطقها الذي أنطق كل شيء واحتجوا بقول الله عز وجل : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور : من الآية24] الآية وبقوله : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الاسراء : من الآية44] وبقوله : {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ : من الآية10] أي سبحي معه وقال : {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} [صّ : من الآية18] وبقوله : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [قّ : 30] وما كان من مثل هذا وهو في القرآن كثير حملوا ذلك كله على الحقيقة لا على المجاز وكذلك قالوا في قوله عز وجل : {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان : 12] و {تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك : من الآية8] وما كان مثل هذا كله وقال آخرون في قوله عز وجل : {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} و {تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} هذا تعظيم لشأنها ومثل ذلك قوله عز وجل : {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف : من الآية77]

فأضاف إليه الإرادة مجازا وجعلوا ذلك من باب المجاز والتمثيل في كل ما تقدم ذكره على معنى أن هذه الأشياء لو كانت مما تنطق أو تعقل لكان هذا نطقها وفعلها وذكروا قول حسان بن ثابت :

لو أن اللؤم ينسب كان عبدا ... قبيح الوجه أعور من ثقيف

وسئل المبرد عن قول الملك : {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص : من الآية23] وهم الملائكة لا أزواج لهم فقال نحن طول النهار نفعل مثل هذا نقول ضرب زيد عمرا، وإنما هو تقديركأن المعنى إذا وقع هكذا فكيف الحكم فيه وذكروا قول عدي بن زيد للنعمان أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك قال وما تقول قال تقول :

رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال

ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال

وقول عنترة :

وشكا إلى بعبرة وتحمحم.

وقول الآخر :

شكا إلى جملى طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى

ومثل هذا قول الحارثي :

يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال غيره :

رب قوم غبروا من عيشهم ... في سرور ونعيم وغدق

سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق

وقال آخر :

وعظتك أجداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت

وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور سبت

وأرتك قبرك في القبور ... وأنت حي لم تمت

وقال آخر :

فتكلمت تلك الديار ولم تكن ... تلك الديار تكلم الزوارا

قالت برغمي بأن أهلي كلهم ... وبقيت تكسوني الرياح غبارا

ولو استطعت لما فجعت بساكنى ... والدهر لا يبقى لنا عمارا

والشعر في هذا المعنى كثير جدا ومعناه أن الديار لو كانت ممن يصح لها نطق وقالت لكان هذا قولها وكلامها وكذلك القبور لو كان لها قول في الحقيقة لكان هكذا.

ومثل هذا مما أنشدوا في هذا المعنى قول القائل : قد قالت الأنساع للبطن الحقى.

وقول الآخر : امتلأ الحوض وقال قطنى

وهو كثير ومعناه كله ما ذكرناه فمن حمل قول النار وشكواها على هذا احتج بما وصفنا ومن حمل ذلك على الحقيقة قال جائز أن ينطقها الله كما تنطق الأيدي والجلود والأرجل يوم القيامة وهو الظاهر من قول الله عز وجل : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [قّ : 30] ومن قوله : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الاسراء : من الآية44] الآية و {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل : من الآية18] وقال قوله عز وجل : {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك : من الآية8] أي تتقطع عليهم غيظا كما تقول فلان يتقد عليك غيظا وقال عز وجل : {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان : 12] فأضاف إليها الرؤية والتغيظ إضافة حقيقية وكذلك كل ما في القرآن من مثل ذلك واحتجوا بقول الله عز وجل : {يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام : من الآية57] .

ومن هذا الباب عندهم قوله : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان : من الآية29] و {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم : 90] و {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : من الآية11] {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة : من الآية74] قالوا : وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا كما للجمادات تسبيح وليس كتسبيحنا وللجبال والشجر سجود وليس كسجودنا والاحتجاج لكلا القولين يطول وليس هذا موضع ذكره وحمل كلام الله تعالى وكلام نبيه ﷺ على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق لأنه يقص الحق وقوله الحق تبارك وتعالى علوا كبيرا.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "اشتكت النار إلى ربها فقالت رب آكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها".

وأما قوله : "فيح جهنم" فالفيح سطوع الحر هكذا قال صاحب العين فكأن المعنى والله أعلم شدة الحر المؤذي من حر جهنم ولهيبها أجارنا الله برحمته وعفوه منها.

حديث ثامن وعشرون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" هكذا روى هذا الحديث عن مالك جميع رواة الموطأ عنه ولا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم فإنه وصله وأسنده عن مالك وتابعه على ذلك يحيى بن راشد إن صح عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ.

وقد تابع مالكا على إرساله الثوري وحفص بن ميسرة الصنعاني ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وداود بن قيس الفراء فيما روى عنه القطان ووصل هذا الحديث وأسنده من الثقات على حسب رواية الوليد بن مسلم له عن مالك عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومحمد بن عجلان وسليمان بن بلال ومحمد بن مطرف أبو غسان وهشام بن سعد وداود بن قيس في غير رواية القطان.

والحديث متصل مسند صحيح لا يضره تقصير من قصر به في اتصاله لأن الذين وصلوه حفاظ مقبولة زيادتهم وبالله التوفيق.

فأما رواية الوليد عن مالك في هذا الحديث فحدثنا خلف بن القاسم قال أخبرنا محمد بن عبد الله القاضي قال حدثنا أحمد ابن عمير بن حوط حدثنا محمد بن الوزير بن الحكم السلمي حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليلق الشك وليبن على اليقين وليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كانت وترا شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت شفعا فالسجدتان ترغيم للشيطان" .

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري قال حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال حدثنا محمد بن الوزير بن الحكم السلمي قال حدثنا الوليد بن مسلم قال أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليلغ الشك وليبن على اليقين ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كانت وترا شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت شفعا فالسجدتان ترغيم للشيطان".

وقد تابع الوليد بن مسلم على مثل روايته هذه عن مالك يحيى بن راشد المازني : حدثناه خلف بن القاسم حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا عمر بن شبة حدثنا يحيى بن راشد المازني حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ بهذا الحديث سواء.

قال أبو عمر: هذا الحديث وإن كان الصحيح فيه عن مالك الإرسال فإنه متصل من وجوه ثابتة من حديث من تقبل زيادته.

فمن ذلك رواية ابن أبي سلمة الماجشون حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ببغداد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال أخبرنا بشر بن الوليد قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال : "إذا لم يدر أحدكم كم صلى ثلاثا أو أربعا فليقم فليصل ركعة ثم يسجد بعد ذلك سجدتين وهو جالس فإن كان صلى خمسا شفعتا له صلاته وإن كانت أربعا أرغمت الشيطان" .

وأما حديث ابن عجلان فحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو خالد عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.

وحدثني سعيد بن نصر واللفظ له قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : "إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري أواحدة أم اثنتين أم ثلاثا أم أربعا فليتم ما شك فيه ثم ليسجد سجدتين وهو جالس فإن كانت صلاته ناقصة فقد أتمها والسجدتان ترغيم للشيطان وإن كان أتم صلاته فالركعة والسجدتان نافلة له" .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي قال حدثنا خالد وهو ابن الحارث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ مثله بمعناه.

وأما حديث سليمان بن بلال فأخبرناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا موسى بن داود قال أخبرنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما يستيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان قد صلى خمسا كانت شفعا لصلاته وإن كان صلاهما تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان" .

وكذلك رواه يحيى بن محمد عن زيد بن أسلم أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا يحيى بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : "إذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا فليصل ركعة تامة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس فإن كانت تلك الركعة خامسة شفع بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة كانتا ترغيما للشيطان".

ورواه ابن وهب عن مالك وحفص بن ميسرة وداود بن قيس وهشام بن سعد كلهم عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال ابن وهب إلا أن هشاما بلغ به أبا سعيد الخدري.

قال أبو عمر: هذا حديث متصل صحيح وقد أخطأ فيه الدراوردي عبد العزيز بن محمد وعبد الله بن جعفر بن نجيح فروياه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس والدراوردي صدوق ولكن حفظه ليس بالجيد عندهم وعبد الله بن جعفر هذا هو والد علي بن المديني وقد اجتمع على ضعفه وليس رواية هذين مما يعارض رواية من ذكرنا وبالله توفيقنا.

وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن حديث أبي سعيد في السهو أتذهب إليه قال نعم اذهب إليه قلت إنهم يختلفون في إسناده قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة.

وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم مطرد في أكثر الأحكام وهو أن اليقين لا يزيله الشك وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه وذلك أن الأصل في الظهر أنها فرض بيقين أربع ركعات فإذا أحرم بها ولزمه إتمامها وشك في ذلك فالواجب الذي قد ثبت عليه بيقين لا يخرجه منه إلا يقين فإنه قد أدى ما وجب عليه من ذلك.

وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة واحتجوا لذلك بأعمال الشك في بعض نوازلهم وهذا جهل بين وليس كما ظنوا بل اليقين بأنها أربع فرض عليه إقامتها أوجب عليه إتمامها وهذا واضح والكلام لوضوحه يكاد يستغني عنه.

أخبرنا عبيد بن محمد قال أخبرنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين وأخبرنا قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا أحمد بن عمرو قالا جميعا حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني عياض أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله ﷺ : "إذا صلى أحدكم فلا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فليتحر الصواب ثم ليسجد سجدتي السهو وإذا أتى أحدكم الشيطان في صلاته فقال له إنك أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع بأذنيه صوته أو يجد ريحه بأنفه" . ألا ترى أن رسول الله ﷺ لم ينقله من يقين طهارته إلى شك بل أمره أن يبني على يقينه في ذلك حتى يصح عنده يقين يصير إليه.

والأصل في هذا وفي البناء على اليقين في الصلاة سواء.

إلا أن مالكا رحمه الله قال من شك في الحدث بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء ولم يتابعه على هذا القول أحد من أهل الفقه علمته إلا أصحابه ومن قلدهم في ذلك وقد قال أبو الفرج إن ذلك استحباب واحتياط منه.

وخالف عبد الله بن نافع مالكا في هذه المسألة فقال لا وضوء عليه.

وقال ابن خواز بنداذ اختلفت الرواية عن مالك فيمن توضأ ثم شك هل أحدث أم لا فقد قال عليه الوضوء وقد قال لا وضوء عليه وهو قول سائر الفقهاء.

قال أبو عمر: مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي ومن سلك سبيله البناء على الأصل حدثا كان أو طهارة وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وداود بن علي وأبي جعفر الطبري وقد قال مالك أنه إن عرض له ذلك كثيرا فهو على وضوئه. وأجمع العلماء أن من أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكه لا يفيد فائدة وإن عليه الوضوء فرضا وهذا يدلك على أن الشك عندهم ملغي وأن العمل على اليقين عندهم وهذا أصل كبير في الفقه فتدبره وقف عليه.

قرأت على أبي عثمان سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد قال شكى إلى رسول الله ﷺ الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال رسول الله ﷺ : "لا ينتقل" وربما قال سفيان لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا.

ولا خلاف علمته بين علماء أهل المدينة وسائر فقهاء الأمصار أن أحدا لا يرث أحدا بالشك في حياته وموته.

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الزيادة في الصلاة لا يفسدها ما كانت سهوا أو في إصلاح الصلاة لأن الشاك في صلاته إذا أمر بالبناء على يقينه وممكن أن يكون على اثنتين وهو شك هل صلى واحدة أو اثنتين فغير مأمون عليه أن يزيد في صلاته ركعة وقد أحكمت السنة أن ذلك لا يضره لأنه مأمور به.

فإذا كان ما ذكرنا كما ذكرنا بطل قول من قال أن من زاد في صلاته مثل نصفها ساهيا أن صلاته فاسدة وهذا قول لبعض أصحابنا لا وجه له عند الفقهاء ولا قال به أحد من أيمة الأمصار والصحيح في مذهب مالك غير ذلك وقد صلى رسول الله ﷺ الظهر خمسا ساهيا فسجد لسهوه وحكم الركعة والركعتين في ذلك سواء في القياس والنظر والمعقول ولو كانت الزيادة على غير التعمد والقصد للإفساد مفسدة للصلاة وقد قصد المصلى بذلك إصلاح صلاته أو فعل ذلك ساهيا لأمر الشاك في صلاته الذي لم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا أن يقطع ويستأنف وهذا خلاف ما وردت السنة الثابتة به في البناء على اليقين ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال في الساهي في صلاته أن يقطع ويستأنف وإن كان ذلك قد روى عن بعض الصحابة وعن جماعة من التابعين وإنما ترك الفقهاء ذلك والله أعلم لحديث أبي سعيد هذا ولمثله من الآثار الثابتة عن النبي ﷺ في إصلاح صلاته نحو حديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود فيمن صلى خمسا ساهيا وحديث ابن بحينة وغيره فيمن قام من ركعتين ونحو ذلك من الآثار والله أعلم.

وفي هذا الحديث أيضا أن الساهي في صلاته إذا فعل ما يجب عليه فعله سجد لسهوه وفيه أن سجود السهو في الزيادة قبل السلام وهذا موضع اختلف الفقهاء فيه :

فقال مالك وأصحابه : كل سهوكان نقصانا من الصلاة فالسجود له قبل السلام لحديث ابن بحينة عن النبي ﷺ في قيامه من اثنتين دون أن يجلس فسجد لسهوه ذلك قبل السلام وقد نقص الجلسة الوسطى والتشهد.

قال مالك : وإن كان السهو زيادة فالسجود له بعد السلام على حديث ذي اليدين لأنه ﷺ سها وسلم من ركعتين يومئذ وتكلم ثم انصرف وبنى فزاد سلاما وعملا وكلاما وهو ساه لا يظن أنه في صلاة ثم سجد بعد السلام.

وهذا كله قول أبي ثور وهو الصحيح في هذا الباب من جهة الآثار لأن في قول مالك ومن تابعه على ذلك استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقصان واستعمال الأخبار على وجوهها أولى من ادعاء التناسخ فيها.

ومن جهة النظر الفرق بين النقصان في ذلك وبين الزيادة لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة وأما السجود في الزيادة فإنما ذلك ترغيم للشيطان وذلك ينبغي أن يكون وكان مالك يقول إذا اجتمع زيادة ونقصان من السهو فالسجود لذلك قبل السلام لأنه أملك بمعنى الجبر والإصلاح.

وجملة مذهبه أن من وضع السجود الذي قلنا أنه قبل بعد أو وضع السجود الذي قلنا أنه بعد قبل فلا شيء عليه إلا أنهم أشد استثقالا لمن وضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام وذلك لما رأى وعلم من اختلاف أهل المدينة في ذلك.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري السجود كله في السهو زيادة كان أو نقصانا بعد السلام وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وهو قول داود إلا أن داود لا يرى السجود إلا في خمسة مواضع جاءت فيها الآثار عن النبي ﷺ.

وحجة الكوفيين في ذلك حديث ابن مسعود إذ صلى رسول الله ﷺ خمسا وحديث ذي اليدين وحديث المغيرة بن شعبة أنه قام من اثنتين وسجد فيها كلها بعد السلام وعارضوا حديث ابن بحينة بحديث المغيرة بن شعبة وزعموا أنه أولى لأن فيه زيادة التسليم والسجود بعده ومن حجتهم من جهة النظر إجماع العلماء على أن حكم من سها في صلاته أن لا يسجد في موضع سهوه ولا في حالة تلك وأن حكمه أن يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع السجدتان كل سهو في صلاته ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو فواجب أن تؤخر السجدتان عن السلام أيضا كما تؤخر عن التشهد.

وقال الشافعي والأوزاعي والليث بن سعد : السجود كله في الزيادة والنقصان قبل السلام وهو قول ابن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد.

وقال ابن شهاب كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ السجود قبل السلام والحجة لهم حديث أبي سعيد الخدري المذكور في هذا الباب فيه البناء على اليقين وإلغاء الشك والعلم محيط أن ذاك إن لم يكن زيادة لم يكن نقصانا وأمر رسول الله ﷺ بالسجود في ذلك قبل السلام وقام من ركعتين ولم يجلس وسبح به فتمادى وسجد قبل السلام وهذه الآثار أثبت ما يروى في هذا الباب من جهة النقل وفيها السجود قبل السلام للنقصان وغير النقصان قالوا فعلمنا بهذا أن ليس المعنى في ذلك زيادة ولا نقصان وأن المعنى في ذلك إصلاح الصلاة وإصلاحها لا يكون إلا قبل الفراغ منها وإنما جاز تأخير السجدتين عن جميع الصلاة ماخلا السلام لأن السلام يخرج به من أن تكون السجدتان مصلحتين ألا ترى أن مدرك بعض الصلاة مع الإمام لا يشتغل بالقضاء ويتبع الإمام فيما بقي عليه، حاشا السلام لما ذكرنا ولكل واحد منهم من جهة النظر حجج يطول ذكرها والمعتمد عليه ما ذكرنا.

وسيأتي في باب ابن شهاب عن الأعرج عن ابن بحينة زيادة في هذا المعنى إن شاء الله وكل هؤلاء يقول إن المصلى لو سجد بعد السلام فيما قالوا أن السجود فيه قبل السلام لم يضره شيء ولو سجد قبل السلام فيما فيه السجود بعد السلام لم يكن عليه شيء.

قال أبو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن السجود للسهو قبل السلام أو بعده فقال في مواضع قبل السلام وفي مواضع بعد السلام كما صنع النبي ﷺ إذ سلم من اثنتين سجد بعد السلام على حديث ذي اليدين وإذ سلم من ثلاث سجد بعد السلام على حديث عمران بن حصين وفي التحري بعد السلام على حديث منصور حديث عبد الله وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبنى على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وعبد الرحمن بن عوف قلت له فما كان سواها من السهو قال يسجد فيه كله قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته قال ولولا ما روى عن النبي ﷺ لرأيت السجود كله في السهو قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم ولكني أقول كل ما روي عن النبي ﷺ أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام.

وقال داود : لايسجد لسهو إلا في الخمسة المواضع التي سجد فيها رسول الله ﷺ.

أخبرنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال أخبرنا أحمد بن عمرو قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال جلست إلى عمر بن الخطاب فقال يا ابن عباس هل سمعت عن النبي ﷺ في الرجل إذا نسي صلاته فلم يدر أزاد أم نقص ما أمر به قال قلت أما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله ﷺ فيه شيئا قال لا والله ما سمعت منه فيه شيئا ولا سألته عنه إذ دخل عبد الرحمن بن عوف فقال فيم أنتما فأخبره عمر قال سألت هذا الفتى عن كذا وكذا فلم أجد عنده علما فقال عبد الرحمن بن عوف لكن عندي منه علم لقد سمعت ذلك من رسول الله ﷺ قال عمر فأنت العدل الرضي فماذا سمعت قال سمعت النبي ﷺ يقول : "إذا شك أحدكم في الواحدة والاثنتين فليجعلها واحدة وإذا شك في الاثنتين والثلاث فليجعلها اثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا حتى يكون الوهم في الزيادة ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم" .

واختلف الفقهاء أيضا فيمن شك في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين أم ثلاثا أم أربعا.

فقال مالك والشافعي : يبني على اليقين ولا يجزئه التحري وروي مثل ذلك عن الثوري وبه قال داود والطبري.

وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد الخدري المذكور في هذا الباب وحديث عبد الرحمان بن عوف هذا وحديث ابن عمر وما كان مثلها في البناء على اليقين.

وقال أبو حنيفة : إذا كان ذلك أول ما شك استقبل ولم يتحر وإن لقي ذلك غير مرة تحرى.

وقال الحسن بن حي والثوري في رواية عنه : يتحرى سواء كان ذلك أول مرة أو لم يكن.

وقال الأوزاعي : يتحرى قال وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلى استأنف.

وقال الليث بن سعد : ان كان هذا شيئا يلزمه ولا يزال يشك أجزأه سجدتا السهو عن التحري وعن البناء على اليقين وإن لم يكن شيئا يلزمه استأنفت تلك الركعة بسجدتيها.

وقال أحمد بن حنبل : الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور وبه قال أبو خيثمة زهير بن حرب قال وحديث عبد الرحمن بن عوف إنما فيه البناء على اليقين وبين البناء على اليقين والتحري فرق لأن التحري أن يتحرى أصوب ذاك وأكثره عنده والبناء على اليقين يلغي الشك كله ويبني على يقينه.

قال أبو عمر: قد قال جماعة من أهل العلم منهم داود معنى التحري الرجوع إلى اليقين.

قال أبو عمر: وحجة من قال بالتحري في هذا الباب حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال من شك منكم في صلاته فليتحر الصواب وليبن على أكثر ظنه وهو حديث يرويه أبو عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع من أبيه فيما يقول أهل الحديث وقد يحتمل أن يكون التحري هو البناء على اليقين ومن حمله على ذاك صح له استعمال الخبرين وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك لم يبن على يقينه وقد أحاط العلم أن شعبة من الشك تصحبه إذا لم يبن على يقينه وإن تحرى وحديث ابن مسعود عندي ليس مما يعارض به شيء من الآثار التي ذكرناها في هذا الباب.

وقد قال أحمد بن حنبل فيما حكى الأثرم عنه : حديث التحري ليس يرويه إلا منصور قلت له ليس يرويه إلا منصور؟ قال : لا كلهم يقول : إن النبي ﷺ صلى خمسا قال إلا أن شعبة روى عن الحكم عن أبي وائل عن عبد الله موقوفا نحوه قال إذا شك أحدكم فليتحر.

وأما الليث بن سعد فأحسبه ذهب إلى ظاهر حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ : "إن الشيطان يأتي أحدكم فيلبس عليه" الحديث وسيأتي ذكره والقول فيه في باب ابن شهاب من كتابنا هذا إن شاء الله.

وليس في شيء من الآثار عن النبي ﷺ نعرفه بين أول مرة وغيرها فلا معنى لقول أبي حنيفة في ذلك :

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا أخبرنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عمر بن محمد عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال : "إذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها ثم يسجد سجدتين"

قال أبو عمر: لا يصح رفع هذا الحديث والله أعلم لأن مالكا رواه عن عمر بن محمد عن سالم عن أبيه فوقفه على ابن عمر جعله من قوله وخالف أيضا لفظه والمعنى واحد ولكنه لم يرفعه إلا من لا يوثق به وإسماعيل بن أبي أويس وأخوه وأبوه ضعاف لا يحتج بهم وإنما ذكرناه ليعرف وقد تقدم من الحجة للبناء على اليقين ما فيه كفاية وبالله تعالى التوفيق.

أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر بن الأثرم قال سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن تفسير قول النبي ﷺ : "لا إغرار في صلاة ولا تسليم" فقال : أما أنا فأرى أن لا يخرج منها إلا على يقين لا يخرج منها على غرر حتى يستيقن أنه قد أتمها.

وسيأتي في كيفية التسليم وفي وجوبه في باب ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بن حثمة من كتابنا هذا.

حديث تاسع وعشرون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث على ما رواه يحيى سواء وهو حديث غريب أعني قوله : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" ولا يكاد يوجد.

وزعم أبو بكر البزار أن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم قال وليس بمحفوظ عن النبي ﷺ من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه لا إسناد له غيره إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة قال وأما قوله ﷺ : "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فمحفوظ من طرق كثيرة صحاح

قال أبو عمر: لا وجه لقول البزار إلا معرفة من روى الحديث لا غير.

ولا خلاف بين علماء أهل الأثر والفقه أن الحديث إذا رواه ثقة عن ثقة حتى يتصل بالنبي ﷺ أنه حجة يعمل بها إلا أن ينسخه غيره ومالك بن أنس عند جميعهم حجة فيما نقل وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد وهو من ثقات أشراف أهل المدينة روى عنه مالك بن أنس والثوري وسليمان بن بلال وغيرهم وهو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له وهو ممن تقبل زيادته وبالله التوفيق.

حدثنا إبراهيم بن شاكر ومحمد بن إبراهيم قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب الرقى قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال حدثنا سليمان بن سيف قال حدثنا محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني قال أخبرنا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وحدثني محمد بن إبراهيم ، وإبراهيم بن شاكر قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب قال حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق قال أخبرنا محمد بن الحسن الكرماني المعروف بابن أبي علي قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا حمزة بن المغيرة قال حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "لا تتخذوا قبري وثنا".

قال أبو بكر البزار : وحديث سهيل هذا إنما يجيء من هذا الطريق لم يحدث به إلا ابن عيينة عن حمزة بن المغيرة عن سهيل.

قال أبو عمر: ذكره أبو جعفر العقيلي في التاريخ الكبير عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن الحميدي عن ابن عيينة عن حمزة بن المغيرة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بلفظ حديث مالك ومعناه.

أخبرناه عبد الله بن محمد بن يوسف إجازة قال أخبرنا يوسف بن أحمد الصيدلاني إجازة قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي قال أخبرنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

قال العقيلي : وحدثنا محمد بن إدريس قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال أخبرنا حمزة بن المغيرة المخزومي مولى آل جعدة بن هبيرة وكان من سراة الموالي.

قال أبو عمر: الوثن الصنم وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن صنما كان أو غير صنم وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله ﷺ على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم كانوا إذا مات لهم نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم فقال ﷺ : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه ويسجد نحوه ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك" ، وكان رسول الله ﷺ يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها وذلك الشرك الأكبر فكان النبي ﷺ يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.

وكان ﷺ يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار وكان يخاف على أمته اتباعهم ألا ترى إلى قوله ﷺ على جهة التعيير والتوبيخ : "لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل حتى إن أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه".

وقد احتج بعض من لا يرى الصلاة في المقبرة بهذا الحديث ولا حجة له فيه.

أخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال أخبرنا عيسى بن مسكين قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال حدثنا ابن نمير قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن نساء النبي ﷺ تذاكرن عنده في مرضه كنيسة رأينها بأرض الحبشة فقال رسول الله ﷺ : "أولئك قوم إذا مات الرجل الصالح عندهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله".

أخبرنا قاسم بن محمد قال أخبرنا خالد بن سعد قال أخبرنا أحمد بن عمرو بن منصور قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا شيبان عن هلال بن حميد عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" . قالت : ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي عليه أن يتخذ مسجدا.

حديث موفى ثلاثين لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال انظرا ماذا يقول لعواده فإن هو إذا جاؤوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول لعبدي على أن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدل له لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيئاته".

هكذا رواه جماعة الرواة عن مالك مرسلا وقد أسنده عباد بن كثير عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري :

أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال أخبرنا ابن وضاح قال أخبرنا إبراهيم بن موسى قال حدثنا عبد الله بن الوليد عن عباد بن كثير عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "إذا أصاب الله عبدا بالبلاء بعث الله إليه ملكين فقال انظروا ماذا يقول لعواده فإن قال لهم خيرا فأنا أبدله بلحمه خيرا من لحمه وبدمه خيرا من دمه وإن أنا توفيته فله الجنة وإن أنا أطلقته من وثاقه فليستأنف العمل".

قال أبو عمر: هو عباد بن كثير الثقفي كان رجلا فاضلا عابدا وليس بالقوي يعد في أهل مكة وكان انتقل إليها من البصرة وأظن أصله من الحجاز كان ابن عيينة يمنع من ذكره إلا بخير.

وقال ابن معين : هو ضعيف الحديث وقال البخاري فيه نظر وذكر عبد الرزاق عن أبي مطيع قال كان عباد بن كثير عندنا ثقة قال وأخرج من قبره بعد ثلاثين سنة فلم يفقد منه إلا شعيرات فدلنا ذلك على فضله.

وعند عطاء بن يسار أيضا حديث يشبه هذا في معناه :

حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد قال حدثني محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال : "ما أصاب المرء من وصب ولا نصب ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من خطاياه".

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال أخبرنا وهب بن مسرة قال أخبرنا ابن وضاح قال أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ : "ما من أحد من المسلمين يبتلى في جسده إلا أمر الله عز وجل الحفظة فقال اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما كان مشدودا في وثاقي".

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا فسبحان المبتدئ بالنعم المتفضل بالإحسان لا يستحق عليه شيء ورحمته وسعت كل شيء لا شريك له.

حديث حاد وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه أخبره قال كان رسول الله ﷺ في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله ﷺ بيده أن أخرج كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع قال رسول الله ﷺ : "أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان".

قوله في هذا الحديث : "ثائر الرأس" يعني أن شعره مرتفع شعث غير مرجل وأصل الكلمة في اللغة الظهور والخبال ومنه أخذ الثائر والثورة.

ولا خلاف عن مالك أن هذا الحديث مرسل وقد يتصل معناه من حديث جابر وغيره. وفيه إباحة اتخاذ الشعر والوفرات والجمم لأنه لم يأمره بحلقه وفيه الحض على ترجيل شعر الرأس واللحية وكراهية إهمال ذلك والغفلة عنه حتى يتشعث ويسمج.

وهذا عندي أصل في إباحة التزين والتنظف كله ما لم يتشبه الرجل في ذلك بالنساء وإنما استثنيت ذلك لقول رسول الله ﷺ : "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال". وهذا على العموم إلا أن يخصه عنه شيء ﷺ فالتزين والتنظف مباح بهذا الحديث وغيره ما لم يكن إسرافا وتنعما وتشبها بالجبارين يدلك على ذلك قوله ﷺ : "البذاذة من الإيمان". وقد جاء عنه ﷺ أنه نهى عن الترجل إلا غبا من حديث البصريين ومعناه والله أعلم على ما ذكرت.

وأما قوله في الحديث : "كأنه شيطان" فهو محمول على المعروف من كلام العرب لأنها كانت تشبه ما استقبحت بالشيطان وإن كان لا يرى لما أوقع الله في نفوسهم من كراهية طلعته ومن هذا المعنى قوله عز وجل في شجرة الزقوم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات : 65] .

وأما الحديث المتصل في معنى هذا الحديث فحدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد وحدثنا قاسم بن محمد قال أخبرنا خالد بن سعد قالا جميعا حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا بحر بن نصر قال أخبرنا بشر بن بكر قال حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : "أتانا رسول الله ﷺ زائرا في منزلنا فرأى رجلا شعثا فقال : "أما كان هذا يجد ما يسكن به رأسه" ورأى رجلا عليه ثيابا وسخة فقال : "أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه".

وحدثنا محمد بن عبد الله قال حدقنا محمد بن معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد بن حبيب كاتب الأوزاعي قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا حسان بن عطية قال حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : "أتانا رسول الله ﷺ زائرا في رحالنا" فذكره إلى آخره سواء.

وذكره البزار قال حدثنا أبو سعيد وعثمان عبد الله بن سعيد وصالح بن معاذ قالا حدثنا وكيع بن الجراح قال حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا مثله.

وروى هذا الحديث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن محمد بن المنكدر عن جابر وذلك خطأ والصواب ما ذكرنا عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن ابن المنكدر والله أعلم.

أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن هشام بن حسان عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال : "نهى رسول الله ﷺ عن الترجل إلا غبا".

ومن حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله ﷺ كان ينهاهم عن كثير من الرفاهية ويأمرهم بالاحتفاء أحيانا.

وروى ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "من كان له شعر فليكرمه". وهذا المعنى في حديث الحجازيين كثير وبالله التوفيق.

حديث ثان وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات قالوا : وما المبشرات يا رسول الله؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

هكذا روى هذا الحديث جميع الرواة عن مالك فيما علمت مرسلا.

وفيه أنه لا نبي بعده ﷺ وهو تفسير قوله عليه السلام : "لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله" وهو حديث يروى من حديث المغيرة بن شعبة فإن صح كان معنى الاستثناء فيه الرؤيا الصالحة على ما في هذا الحديث وما كان مثله وحسبك بقول الله عز وجل : {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب : من الآية40] وقوله عليه السلام : "أنا العاقب الذي لا نبي بعدي".

وحديث عطاء بن يسار المذكور في هذا الباب يتصل معناه من وجوه ثابتة من حديث ابن عباس وحذيفة وابن عمر وعائشة وأم كرز الخزاعية :

حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمان القرشي قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي قال حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري قال حدثنا ابن أبي عمر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان بن سحيم عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال : "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له".

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان بن سحيم عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس عن أبيه عن ابن عباس قال كشف رسول الله ﷺ الستارة في مرضه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ثم قال : ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم".

هكذا رواه الحميدي وابن أبي شيبة وغيرهما عن ابن عيينة سواء.

وفي حديث مالك : "يراها الرجل الصالح أو ترى له" فظاهره أن لا تكون الرؤيا من النبوة جزءا من ستة وأربعين إلا على ذلك الشرط للرجل الصالح أو منه.

وفي حديث ابن عباس يراها المسلم ولم يقل صالحا ولا طالحا وفي بعض ألفاظه : "يراها العبد" وهذا أوسع أيضا.

وقوله في حديث مالك : "أو ترى له" عمومه من الصالح وغيره والله أعلم وقد تقدم القول في الرؤيا في باب إسحاق بن أبي طلحة من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا.

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الترمذي محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز الكعبية قالت سمعت النبي ﷺ يقول : "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات".

قال أبو عمر: أحاديث هذا الباب كلها صحاح ثابتة في معنى حديث مالك وقد روى عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ في تأويل قول الله عز وجل : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : من الآية64] حديثا يدخل في معنى هذا الباب قرأته على أبي عثمان سعيد بن نصر وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو يعني ابن دينار عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر قال سألت أبا الدرداء عن قول الله عز وجل : {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس : من الآية64-63] فقال ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله ﷺ عنها غيرك إلا رجل واحد سألت رسول الله ﷺ عنها فقال : "ما سألني عنها أحد منذ نزلت غيرك هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" قال سفيان ثم لقيت عبد العزيز بن رفيع فحدثنيه عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال سفيان ثم لقيت محمد بن المنكدر! فحدثنيه عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ.

قال أبو عمر: هذا حديث حسن في التفسير المرفوع صحيح من نقل أهل المدينة.

وقد رواه الأعمش عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر قال سألت أبا الدرداء فذكره سواء.

هكذا رواه أبو معاوية وعلي بن مسهر ووكيع بن الجراح عن الأعمش وروى من حديث جابر بن عبد الله وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاصي وطلحة بن عبيد الله عن النبي ﷺ نحو حديث أبي الدرداء هذا سواء بمعناه وعلى ذلك أكثر أهل التفسير في معنى هذه الآية وهو أولى ما اعتقده العالم في تأويل قول الله عز وجل : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.

"وروى عن الحسن والزهري وقتادة أنها البشارة عند الموت ولا خلاف بينهم أن قوله : {فِي الْآخِرَةِ} : الجنة.

حديث ثالث وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة" فقال رجل : يا رسول الله لا تخبرنا فسكت رسول الله ﷺ ثم عاد رسول الله ﷺ فقال مثل مقالته الأولى فقال له الرجل لا تخبرنا يا رسول الله فسكت رسول الله ﷺ ثم قال رسول الله ﷺ مثل ذلك أيضا فقال الرجل لا تخبرنا يا رسول الله ثم قال رسول الله ﷺ مثل ذلك أيضا ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى فأسكته رجل إلى جنبه فقال رسول الله ﷺ : "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة : ما بين لحييه وما بين رجليه ما بين لحييه وما بين رجليه ما بين لحييه وما بين رجليه".

هكذا قال يحيى في هذا الحديث لا تخبرنا على لفظ النهي ثلاث مرات وأعاد الكلام أربع مرات وتابعه ابن القاسم وغيره على لفظ لا تخبرنا على النهي إلا أن إعادة الكلام عنده ثلاث مرات.

وقال القعنبي : ألا تخبرنا على لفظ العرض والإغراء والحث والقصة عنده معادة ثلاث مرات أيضا وكلهم قال ما بين لحييه وما بين رجليه ثلاث مرات.

وأما ابن بكير فليس عنده هذا الحديث في الموطأ ولا عنده من الأربعة الأبواب المتصلة إلا باب ما يكره من الكلام فيه أورد أحاديث الأبواب الأربعة إلا هذا الحديث.

ولا أعلم عن مالك خلافا في إرسال هذا الحديث وقد روى معناه متصلا من طرق حسان عن جابر وعن سهل بن سعد، وعن أبي موسى وعن أبي هريرة إلا أن لفظ أبي هريرة : "إن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان البطن والفرج ".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال حدثنا عمر بن علي عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ قال : "من يتكفل لي بما بين لحييه وما بين رجليه وأضمن له الجنة".

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الوليد بن شجاع قال حدثني المغيرة بن سقلاب قال أخبرنا معقل يعني ابن عبيد الله العبسي عن عمرو بن دينار عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : "من ضمن لي ما بين لحييه ورجليه ضمنت له الجنة" .

وحدثنا أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ قراءة مني عليه قال حدثنا محمد بن جعفر بن سليمان غندر قال حدثنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا عاصم بن علي بن عمر بن علي مقدم قال حدثني أبي عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي ﷺ قال : "من ضمن لي ما بين لحييه ورجليه ضمنت له الجنة".

وحدثني أبو القاسم قال أخبرنا محمد بن جعفر بن سليمان بن دران غندر قال حدثنا أحمد بن علي ومحمد بن أبي بكر بن سليمان قالا حدثنا الوليد بن شجاع قال حدثنا المغيرة بن سقلاب قال حدثنا معقل بن عبيد الله عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ : "من ضمن لي ما بين لحييه ورجليه ضمنت له الجنة".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد ابن إسحاق الحضرمي قال حدثنا خالد بن الحرث قال حدثنا محمد بن عجلان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه".

حدثنا أحمد بن قاسم وأحمد بن محمد قالا حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا الحسن بن علي العدوي قال حدثني خراش بن عبد الله قال حدثني مولاي أنس بن مالك قال خرج رسول الله ﷺ على أصحابه فقال : "من ضمن لي اثنتين ضمنت له الجنة" قال أبو هريرة : فداك أبي وأمي يا رسول الله أنا أضمنها، ما هما فقال رسول الله ﷺ : "من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنة"

قال أبو عمر: معلوم أنه أراد بقوله : "ما بين لحييه" : اللسان و"ما بين رجليه" : الفرج والله أعلم ولذلك أردف مالك حديثه في هذا الباب بحديثه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه فقال له عمر مه غفر الله لك فقال أبو بكر إن هذا أوردني الموارد وفي اللسان في معنى هذا الباب آثار كثيرة منها مرفوعة ومنها من قول السلف وقد ذكر ابن المبارك وغيره في ذلك أبوابا.

وجدت في أصل سماع أبي بخطه رحمه الله أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال حدثنا نصر بن مرزوق قال أخبرنا أسد بن موسى قال حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أنه سأل رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ الصلاة بعد الصلاة المفروضة؟ قال : "لا" ، ونعم ما هي قال : فالصوم بعد صوم رمضان؟ قال : "لا" ونعم ما هو قال : فالصدقة بعد الصدقة المفروضة؟ قال : "لا" ونعم ما هي قال يا رسول الله فأي الأعمال أفضل؟ قال : فأخرج رسول الله ﷺ لسانه ثم وضع عليه إصبعه فاسترجع معاذ وقال يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول كله ويكتب علينا قال : فضرب رسول الله ﷺ منكب معاذ وقال : "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم".

ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى من النظم المحكم قول نصر بن أحمد :

لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... وكل امرئ ما بين فكيه مقتل

وكم فاتح أبواب شر لنفسه ... إذا لم يكن قفل على فيه مقفل

في أبيات قد ذكرتها في كتاب العلم في بابها.

وسيأتي في باب سعيد المقبري عند قوله ﷺ : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" ما فيه كفاية في فضل الصمت إن شاء الله.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مسلم قال حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال أيمن امرئ وأشأمه ما بين لحييه وقال ابن مسعود : أعظم الخطايا اللسان الكذوب.

وفي هذا الحديث من الفقه أن الكبائر أكثر ما تكون والله أعلم من الفم والفرج ووجدنا الكفر وشرب الخمر وأكل الربا وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم ظلما من الفم واللسان ووجدنا الزنا من الفرج.

وأحسب أن المراد من الحديث أنه من اتقى لسانه وما يأتي من القذف والغيبة والسب كان أحرى أن يتقي القتل ومن اتقى شرب الخمر كان حريا باتقاء بيعها ومن اتقى أكل الربا لم يعمل به لأن البغية من العمل به التصرف في أكله فهذا وجه في تخصيص الجارحتين المذكورتين في هذا الحديث وضمان الجنة لمن وقى شرهما وهذا التأويل على نحو قول عمر رضي الله عنه في الصلاة : "ومن ضيعها كان لما سواها أضيع ومن حفظها حفظ دينه" فكان قوله ﷺ من اتقى الغيبة وقول الزور واتقى الزنا مع غلبة شهوة النساء على القلوب كان للقتل أهيب وأشد توقيا والله أعلم.

ويحتمل أن يكون ذلك منه ﷺ خطابا لقوم بأعيانهم اتقى عليهم من اللسان والفرج ما لم يتق عليهم من سائر الجوارح.

ويحتمل أيضا أن يكون قوله ذلك معه كلام لم يسمعه الناقل كأنه قال من عافاه الله ووقاه كذا وكذا وشر ما بين لحييه ورجليه ولج الجنة فسمع الناقل بعض الحديث ولم يسمع بعضا فنقل ما سمع وإنما حملنا على تخريج هذه الوجوه لإجماع الأمة أن من أحصن فرجه عن الزنا ومنع لسانه من كل سوء، ولم يتق ما سوى ذلك من القتل والظلم أنه لا يضمن له الجنة وهو إن مات عندنا في مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عذبه إذا مات مسلما.

وقوله ﷺ : "اتقوا الموبقات المهلكات" يعني الكبائر أعم من هذا الحديث قال الله عز وجل {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء : 31] والمدخل الكريم الجنة.

وقد اختلف العلماء في الكبائر فأما ما أتى منها في الأحاديث المرفوعة عن النبي ﷺ وهو المفزع عند التنازع فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة البغدادي قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا أيوب بن عتبة قال حدثني طيلسة بن علي قال أتيت ابن عمر عشية عرفة وهو تحت ظل أراك وهو يصب على رأسه الماء فسألته عن الكبائر فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : "هن تسع قلت : وما هن؟ قال : "الإشراك بالله وقذف المحصنة قال : قلت : قبل الدم قال : نعم وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرم قبلتكم أحياء وأمواتا".

قال أبو عمر: طيلسة هذا يعرف بطيلسة بن مياس ومياس لقب وهو طيلسة بن علي الحنفي يقال فيه طيلسة وطيسلة وقد روى هذا الحديث يحيى بن أبي كثير وزياد بن مخراق عن طيلسة عن ابن عمر مرفوعا فهذا حديث ابن عمر.

وروى ابن مسعود أن النبي ﷺ سئل أي الكبائر أعظم فقال : "أن تشرك بالله وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك وأن تزاني حليلة جارك".

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك عن النبي ﷺ : "الكبائر الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين" ولفظ حديث أنس "أكبر الكبائر".

وروى أبو بكرة عن النبي ﷺ مثل ذلك وزاد وشهادة الزور وروى الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال ما الكبائر يا رسول الله؟ قال : "الإشراك بالله" قال : ثم ماذا؟ قال : "ثم عقوق الوالدين" قال : ثم ماذا؟ قال : "ثم اليمين الغموس" قال : وما اليمين الغموس؟ قال : "الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب".

وعن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال : "شرب الخمر من الكبائر".

وعنه أيضا عن النبي ﷺ أنه قال : "من الكبائر أن يسب الرجل والديه". يعني يستسب لهما وهو يدخل في باب العقوق.

وحديث عمران بن حصين قال قال رسول الله ﷺ : "ما تعدون الكبائر فيكم؟ قلنا الشرك بالله والزنا والسرقة وشرب الخمر قال : "هن كبائر وفيهن عقوبات ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا بلى قال : "شهادة الزور".

وفي حديث خريم بن فاتك قال صلى رسول الله ﷺ صلاة الصبح يوما فلما انصرف قام قائما فقال : "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات" ثم تلا {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج : من الآية30] .

وروى ابن المبارك عن سفيان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول : "عدلت شهادة الزور بالشرك بالله" ثم قرأ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج : من الآية30]

وروى عن محارب بن دثار قال سمعت ابن عمر يقول سمعت النبي ﷺ يقول : "شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار".

قال أبو عمر: الفرار من الزحف مذكور في حديث ابن عمر المذكور وفي حديث ابن عباس وفي حديث أبي أيوب الأنصاري وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني كلها عن النبي ﷺ وفي حديث أبي أيوب ومنع ابن السبيل، ولا أحفظه في غيره وذكر ابن وهب قال أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "اتقوا السبع الموبقات قلنا وما هي قال : الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والزنا وأكل الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور وقذف المحصنات" وحديث عبد الله بن أنيس عن النبي ﷺ مثله في السبع الكبائر إلا أنه ذكر فيهن العقوق ولم يذكر قذف المحصنات.

فهذا ما في الآثار المرفوعة من الكبائر عن النبي ﷺ وهو يخرج في التفسير المرفوع وهي مشهورة عند أهل العلم بالحديث تركت ذكر أسانيدها خشية الإطالة وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة : من الآية44] و {الظَّالِمُونَ} [المائدة : من الآية45] و {الْفَاسِقُونَ} [المائدة : من الآية47] .

نزلت في أهل الكتاب قال حذيفة وابن عباس وهي عامة فينا قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاوس وعطاء وقال الله عز وجل : {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن : 15] والقاسط الظالم الجائر.

فالذي حصل في الآثار المذكورة عن النبي ﷺ من ذكر الكبائر ستة عشر ذنبا الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير الحق وعقوق الوالدين المسلمين وقذف المحصنة وشهادة الزور والسحر والفرار من الزحف والزنى وأكل الربا وشرب الخمر والسرقة واليمين المغموس وأكل مال اليتيم ظلما والإلحاد بالبيت الحرام ومنع ابن السبيل والجور في الحكم عمدا ومن جعل الاستسباب للأبوين من باب العقوق كانت سبعة عشر عصمنا الله من جميعها برحمته.

وقد روى عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : "الضرار في الوصية من الكبائر" هكذا رواه عمر بن المغيرة مرفوعا ورواه الثوري وزهير بن معاوية وأبو معاوية ومندل بن علي وعبيدة بن حميد كلهم عن داود ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا قال : "الضرار في الوصية من الكبائر" ثم قرأ : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة : من الآية229] الآية.

ومن حديث بريدة الأسلمي أن رسول الله ﷺ قال : "إن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل" وهذا حديث ليس بالقوي ذكره البزار عن عمرو بن مالك عن عمر بن علي المقدمي عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وليس له غير هذا الإسناد وليس مما يحتج به.

وقد روى حنش بن قيس الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ : "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ومن شهد شهادة فاجتاح بها مال مسلم فقد تبوأ مقعده من النار ومن شرب شرابا حتى يذهب عقله الذي رزقه الله فقد أتى بابا من أبواب الكبائر". وهذا حديث وإن كان في إسناده من لا يحتج بمثله أيضا من أجل حنش هذا فإن معناه صحيح من وجوه.

وقد روى شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : "الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله فهذه الكبائر من وقاه الله إياها وعصمه منها ضمنت له الجنة"

ما أدى فرائضه فإنهن الحسنات المذهبات للسيئات ألا ترى أن من اجتنب كبائر ما نهي عنه كفرت سيئاته الصغائر بالوضوء والصلاة والصيام ومن مات على هذا زحزح عن النار وأدخل الجنة وفاز مضمون له ذلك ومن أتى كبيرة من الكبائر ثم تاب عنها بالندم عليها والاستغفار منها وترك العودة إليها كان كمن لم يأتها قط والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

على هذا الترتيب في الصغائر والكبائر وكفارة الذنوب جاء معنى كتاب الله وسنة رسوله عند جماعة العلماء بالكتاب والسنة ومن أتى كبيرة ومات على غير توبة منها فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.

فعلى ما ذكرنا ووصفنا خرج قولنا أن الأحاديث في اجتناب الكبائر أعم من حديث هذا الباب في قوله : "من وقى ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة" والله الموفق للصواب لا شريك له.

وقد جاء عن النبي ﷺ أنه تكفل بالجنة لمن جاء بخصال ست ذكرها أخبرنا خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن مطرف حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا يونس ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن يسار عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال : "تكفلوا لي ستا أتكفل لكم بالجنة قالوا وما هي يا رسول الله قال : إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا اؤتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم".

وأما رواية من روى في حديث مالك هذا لا تخبرنا على لفظ النهي فيحتمل عندي وجهين أحدهما أن يكون قائل ذلك قاله على معنى استنباطها واستخراجها أن يتركهم وذلك على وجه التعليم والإدراك بالفكرة لها أو يكون رجلا منافقا قال ذلك القول زهادة في سماع ذلك من رسول الله ﷺ ورغبة عنه وكانوا قوما قد نهاه الله عن قتلهم بما أظهروه من الإيمان والله أعلم أي ذلك كان وكيف كان.

وأما رواية من روى ألا تخبرنا فهي بينة في الاستفهام على وجه العرض والإغراء والحث كأنها لا التي للتبرئة دخل عليها ألف الاستفهام فصار معناها ما ذكرنا.

وأما تكريره ﷺ قوله : "ما بين لحييه وما بين رجليه" ثلاث مرات فيحتمل أن يكون جوابا لتكرير قوله : "من وقاه الله شر اثنتين" قال ذلك ثلاثا أيضا ويحتمل أن يكون على ما روى عنه أنه كان إذا تكلم بكلمة كررها ثلاثا وفي هذا رخصة لمن كرر الكلام يريد به التأكيد والبيان ولا أريد لأحد إذا كرر كلمة يريد تأكيدها أن يكررها أكثر من ثلاث وبالله التوفيق.

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم ابن شعبان وحدثناه خلف بن القاسم قال حدثنا الحسن ابن رشيق قالا حدثنا علي بن سعيد بن بشير حدثنا عبد الواحد بن غياث قال حدثنا فضال بن جبير قال سمعت أبا أمامة الباهلي صاحب رسول الله ﷺ يأثر حديثا سمعه من رسول الله ﷺ أنه كان يقول : "أكفلوا لي بست خصال أكفل لكم بالجنة إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا اؤتمن فلا يخن واملكوا ألسنتكم وكفوا أيديكم واحفظوا فروجكم" واللفظ لحديث خلف.

حديث رابع وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده عمر فقال له رسول الله ﷺ : "لم رددته؟ فقال : يا رسول الله أليس أخبرتنا أن خيرا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئا فقال رسول الله ﷺ : "إنما ذلك عن المسألة فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله" فقال عمر بن الخطاب : أما والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته.

قال أبو عمر: لا خلاف علمته بين رواة الموطأ عن مالك في إرسال هذا

الحديث هكذا وهو حديث يتصل من وجوه ثابتة عن النبي ﷺ من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر ومن غير ما وجه عن عمر.

وفيه أن يهدي الكبير إلى الصغير والجليل إلى من هو دونه وأن يهدي القليل المال إلى من هو أكثر منه مالا وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يرد الهدية إذا علم طيب مكسبها لأن قوله ﷺ لعمر : "لم رددته" كان إنكارا منه لفعله وفيه استعمال العموم في الأخبار والأوامر ألا ترى أن عمر استعمل ما سمع من النبي ﷺ قوله : "خير لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا" على عمومه ولم توجب عنده اللغة في الخطاب غير ذلك ولم ينكر ذلك عليه رسول الله ﷺ بل بين له مراده منه وفيه أن العموم جائز عليه التخصيص وفيه كراهية السؤال على كل حال.

وقد قدمنا ذكر الآثار فيمن تحل له المسألة ومن لا تحل له في كتابنا هذا فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا

وقد يحتمل أن يكون قوله في هذا الحديث : "بعث رسول الله ﷺ إلى عمر بعطاء" أي مما كان يقسمه من الفيء على سبيل الأعطية وهو بعيد لأن أول من فرض الأعطية عمر بن الخطاب ويستحيل أيضا أن يرد نصيبه من الفيء ويقول فيه ذلك القول لمن تدبره.

والوجه عندي أنها عطية على وجه الهبة والهدية والصلة والله تعالى أعلم.

وفي الحديث أيضا أن الواجب قبول كل رزق يسوقه الله عز وجل إلى العبد على أي حال كان ما لم يكن حراما بينا.

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى حدثنا علي بن محمد حدثنا أحمد بن داود حدثنا سحنون بن سعيد حدثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحرث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله ﷺ كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء فيقول له عمر أعطه يا رسول الله من هو أفقر إليه مني فقال له رسول الله ﷺ : "خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك". قال سالم : فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه وفيه ما كان عليه عمر رحمه الله من البدار إلى طاعة رسول الله ﷺ التي فيها طاعة الله ألا ترى إلى قوله : "والله لا أسأل أحدا ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته" . وهكذا يلزم من جهل شيئا الانقياد إلى العلم واستعماله.

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول أرسل إلى رسول الله ﷺ بمال فرددته فلما جئته قال : "ما حملك على أن ترد ما أرسلت به إليك قال : قلت : يا رسول الله قلت لي أن خيرا لك أن لا تأخذ من الناس قال إنما ذلك أن تسأل الناس وما جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله".

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن منصور قال حدثنا الحكم بن نافع قال حدثنا شعيب عن الزهري قال حدثني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال سمعت عمر بن الخطاب يقول كان رسول الله ﷺ يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالا فقلت أعطه أفقر إليه مني فقال : "خذه فتموله وتصدق به وما جاءك من هذا المال غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك".

أخبرني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال قال حدثنا البهلول بن راشد عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول كان رسول الله ﷺ يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالا فقلت أعطه من هو أفقر إليه مني فقال رسول الله ﷺ : "خذه وما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه".

وعند ابن شهاب في هذا الحديث إسناد آخر عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزيز عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ سواء.

روى هذا الحديث بهذا الإسناد عنه جماعة من أصحابه منهم الزبيدي ومعمر وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة ويقولون أن ابن عيينة إنما سمعه من معمر وعنه يرويه وقيل لمالك الحديث الذي أتى : "ما جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله" أفيه رخصة؟ قال : نعم، قيل : فمن أعطى شيئا ووصل به ؟

قال : تركه أحب إلي وأفضل إن كان له عنه غنى إلا أن يخاف على نفسه الجوع وهو محتاج فلا أرى به بأسا.

وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة قال ما أحد من الناس يهدي إلي هدية إلا قبلتها وأما أن أسأل فلم أكن لأسأل.

أخبرني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي ﷺ : "ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف" أي الإشراف أراد فقال أن تستشرفه وتقول لعله يبعث إلي بقلبك قيل له وإن لم يتعرض قال نعم إنما هو بالقلب قيل له هذا شديد قال وإن كان شديدا فهو هكذا قيل له فإن كان رجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت عسى أن يبعث إلي شيئا فقال هذا إشراف فأما إذا جاءك أن تحسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف

قلت له : فلو عرض بقلبه لو بعث إليه فبعث إليه أيلزمه أن يرده قال لا أدري ما يلزمه ولكن له حينئذ أن يرده قلت له وليس عليه واجب أن يرده قال لا ثم قال إن الشأن أنه إذا جاءه من غير مسألة ولا إشراف كان عليه أن يأخذ بقول النبي ﷺ : "فليقبله" قال فحينئذ ينبغي له أن يأخذ ويضيق عليه إذا كان من غير إشراف ولا مسألة أن يرد فإذا كان فيه إشراف فله أن يرد ولا يلزمه أن يأخذ وإن أخذه فهو جائز ولو سأل لم يكن له أن يأخذ وضاق عليه ذلك بالمسألة إذا لم تحل له.

قال أبو عمر: الإشراف في اللغة : رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه وأن يهش الإنسان ويتعرض.

وما قاله أحمد بن حنبل رحمه الله في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد لأن الله تبارك وتعالى تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة وما اعتقد القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به وخطرات النفوس متجاوز عنها بإجماع والحمد لله.

حدثنا خلف بن القاسم الحافظ أخبرنا سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ حدثنا عبد الوهاب بن سعد الحمراوي حدثنا أحمد بن أبي يحيى الحضرمي حدثنا صالح بن محمد السلولي حدثنا خالد بن نجيح عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال : "الهدية رزق من رزق الله فمن أهدي له فليقبله ولا يرده وليعطه خيرا منه وليكافئ".

قال أبو عمر: المكافأة الاستواء والاعتدال ومنه قوله : "شاتان مكافأتان" أي معتدلتان أو مثلان والله أعلم.

أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن سليمان الحريري قال حدثنا إسماعيل بن موسى الحاسب قال حدثنا محمود بن غيلان قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا همام عن قتادة عن عبد الملك عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "من عرض له شيء من الرزق من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه".

أخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ قال حدثنا أحمد بن الحجاج قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال أخبرني معقل بن عبيد الله قال حدثني عطاء بن أبي رباح قال قال أبو الدرداء إذا أخوك أعطاك شيئا فاقبله منه فإن كانت لك فيه حاجة فاستمتع به وإن كنت غنيا عنه فتصدق به ولا تنفس على أخيك أن يأجره الله فيك.

قال أبو بكر وأخبرنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم أنه حدثه عن ابن أبي شريح عن عبد الله بن عمرو قال ما يمنع أحدكم إذا أتاه الله برزق لم يسأله ولم يستشرف له أن يقبله إن كان غنيا أجر في أخيه وإن كان محتاجا كان رزقا قسمه الله له.

قال وحدثنا علي بن بحر قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عثمان بن حيان قال سمعت أبا الدرداء يقول إن أحدكم يقول اللهم ارزقني وقد علم أن الله لا يخلق له دينارا ولا درهما وإنما يرزق بعضكم من بعض فإذا أعطى أحدكم شيئا فليقبله فإن كان عنه غنيا فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه وإن كان إليه فقيرا فليستعن به على حاجته ولا يرد على الله رزقه الذي رزقه.

قرأت على خلف بن أحمد أن أحمد بن مطرف حدثهم قال حدثنا محمد بن عمر بن لبابة وأيوب بن سليمان أبو صالح قالا حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني أن رسول الله ﷺ قال : "من جاءه من أخيه معروف من غير سؤال ولا إشراف نفس فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه".

وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن قال حدثنا سعيد بن أيوب وحيوة بن شريح عن أبي الأسود أنه أخبرهما أن بكير بن الأشج أخبره أن بسر بن سعيد أخبره عن خالد بن عدي الجهني،

قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه".

وروى الليث بن سعد هذا الحديث عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي ورواية أبي الأسود أصح إن شاء الله وبالله التوفيق.

حديث خامس وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال : "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني".

هكذا رواه مالك مرسلا وتابعه على إرساله ابن عيينة وإسماعيل بن أمية.

ورواه الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال حدثني الليث عن النبي ﷺ فذكره.

ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ.

فأما رواية ابن عيينة فحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال قال رسول الله ﷺ : "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة رجل اشتراها بماله أو رجل أهديت له أو لعامل عليها أو لغارم أو لغاز في سبيل الله".

وأما رواية إسماعيل بن أمية فرواها ابن علية عن إسماعيل بن أمية عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي ﷺ بلفظ حديث مالك حرفا بحرف.

وأما رواية معمر فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش ابن سعيد قالا حدثنا قاسم ابن أصبغ قال حدثنا محمد بن غالب قال أخبرني أحمد بن عبد الله بن صالح يعني الكوفي قال حدثني أحمد بن صالح يعني المصري قال حدثنا عبد الرزاق بن همام بن نافع قال حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لرجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني".

وحدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا عبد الرزاق فذكر بإسناده مثله سواء

وفي هذا الحديث من الفقه ما يدخل في تفسير قول الله عز وجل : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة : من الآية60] الآية وتفسير لقول رسول الله ﷺ : "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" وقوله هذا عموم مخصوص بقوله في هذا الحديث : "إلا لخمسة".

وأجمع العلماء أن الصدقة المفروضة لا تحل لأحد من الأغنياء غير من ذكر في هذا الحديث من الخمسة الموصوفين فيه وكان ابن القاسم يقول : لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله وإنما يجوز ذلك للفقير قال وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يفي بها ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني قال وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غائب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا واستقرض فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله.

هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم وزعم أن ابن نافع وغيره خالفا في ذلك.

وذكر ابن أبي زيد وغيره عن ابن القاسم أنه قال في الزكاة يعطي منها الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده.

روى ابن وهب عن مالك أنه يعطي منها الغزاة ومن لزم مواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء وذكر عيسى بن دينار في تفسير هذا الحديث قال تحل الصدقة لغاز في سبيل الله قد احتاج في غزوته وغاب عنه غناه ووفره قال ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم قال عيسى وتحل لعامل عليها وهو الذي يجمعها للمساكين من عند أرباب المواشي والأموال فهذا يعطى منها على قدر سعيه لا على قدر ما جمع من الصدقات والعشور ولا ينظر إلى الثمن وليس الثمن بفريضة وإنما له قدر اجتهاده وعمله قال وتحل لغارم غرما قد فدحه وذهب بماله إذا لم يكن غرمه في فساد ولا دينه في فساد مثل أن يستدين في نكاح أو حج أو غير ذلك من وجوه الصلاح والمباح قال وأما غارم لم يفدحه الغرم ولم يحتج وقد بقي له من ماله ما يكفيه فإنه لا حق له في الصدقات قال وتحل لرجل اشتراها بماله ولرجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى المسكين للغني.

وأما الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وسائر أهل العلم فيما علمت فإنهم قالوا جائز للغازي في سبيل الله إذا ذهبت نفقته وماله غائب عنه أن يأخذ من الصدقة ما يبلغه قالوا والمحتمل بحمالة في صلاح وبر والمتدائن في غير فساد كلاهما يجوز له أداء دينه من الصدقة وإن كان الحميل غنيا فإنه جائز له أخذ الصدقة إذا وجب عليه أداء ما تحمل به وكان ذلك يجحف بماله.

واحتج من ذهب إلى هذا الحديث بحديث قبيصة بن المخارق وبظاهر حديث زيد بن أسلم هذا.

فأما حديث قبيصة فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب قال حدثني كنانة بن نعيم عن قبيصة بن المخارق قال تحملت بحمالة فأتيت النبي ﷺ أسأله فيها فقال : "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال لي رسول الله ﷺ يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أصابت فلانا الفاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش فما سواهن يا قبيصة من المسألة فسحت".

فقوله : "رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك" دليل على أنه غني لأن الفقير ليس عليه أن يمسك عن السؤال مع فقره ودليل آخر وهو عطفه ذكر الذي ذهب ماله وذكر الفقير ذي الفاقة على ذكر صاحب الحمالة فدل على أنه لم يذهب ماله ولم تصبه فاقة والله أعلم.

وأجمع العلماء على أن الصدقة تحل لمن عمل عليها وإن كان غنيا وكذلك المشتري لها بماله والذي تهدى إليه على ما جاء في هذا الحديث وكذلك سائر من ذكر فيه والله أعلم.

وظاهر هذا الخبر يقتضي أن الصدقة تحل لهؤلاء الخمسة في حال غناهم ولو لم يجز لهم أخذها إلا مع الحاجة والفقر لما كان للاستثناء وجه لأن الله قد أباحها للفقراء والمساكين إباحة مطلقة وحق الاستثناء أن يكون مخرجا من الجملة ما دخل في عمومها هذا هو الوجه والله أعلم.

روينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال كنت جالسا عند عبد الله بن عمر فجاءته امرأة فقالت يا أبا عبد الرحمن إن زوجي توفي وأوصى بمال في سبيل الله قال هو في سبيل الله كما قال قلت إنك لم تزدها إلا غما قد سألتك فأخبرها فأقبل علي فقال يا ابن أبي نعم أتأمرني أن آمرها أن تدفعه إلى هذه الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل قال فقلت فتأمرها بماذا قال آمرها أن تنفقه على أهل الخير وعلى حجاج بيت الله أولئك وفد الرحمن ليسوا كوفد الشيطان يكررها ثلاثا قلت وما وفد الشيطان قال قوم يأتون هؤلاء الأمراء فيمشون إليهم بالنميمة والكذب فيعطون عليها العطايا ويجازون عليها بالجوائز.

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن من جاز له أخذ الصدقة وحلت له أنه يتصرف فيها ويملكها ويصنع فيها ما شاء من بيع وهبة وغير ذلك مما أحب ولذلك ما يطيب أكلها لمن اشتراها ولمن أهديت إليه وقد تقدم القول في معنى هدية المسكين من الصدقة للغني في باب ربيعة في قصة لحم بريرة إذ قال رسول الله ﷺ : "هو عليها صدقة وهو لنا هدية".

حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا محمد بن إسحاق بن شيبويه السجستي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أن النبي ﷺ دخل عليها فقال : "أعندك شيء؟ فقالت لا إلا رجل شاة تصدق به على امرأة فأهدته لنا فقال النبي ﷺ قربيه فقد بلغت محلها".

ومعنى قوله هذا والله أعلم أي قد بلغت حالا تحل لنا فيها إذ هي هدية أهداها من يملكها وأن كان أصلها صدقة فلا تضر لأنها ليست بصدقة من المهدي.

ويحتمل أن يكون أراد بلغت موضعها الذي قدر الله أن تؤكل فيه فهو محلها وهو من الوجه الأول أنها بلغت حالا حل له فيها أكلها.

ويحتمل أن يكون أراد قد بلغت الحاجة محلها فنحن نأكل الرجل وغير الرجل لحاجتنا إلى ذلك والله أعلم بما أراد بقوله ذلك.

حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد بن السباق عن جويرية بنت الحارث قالت دخل على رسول الله ﷺ ذات يوم فقال : "هل عندكن شيء قلت لا إلا عظم أعطيته مولاة لنا من الصدقة قال : قربيه فقد بلغت محلها" .

وروى ابن علية عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت بعث إلى النبي ﷺ شاة من الصدقة فبعثت إلى عائشة منها بشيء فلما خرج رسول الله ﷺ إلى عائشة قال : "هل عندكم من شيء؟ قالت : لا إلا أن أم عطية بعثت إلينا من شاتها التي بعثتم بها إليها فقال إنها قد بلغت محلها". كذا قال ابن علية وخالفه أبو شهاب فقال فيه عن أم عطية قالت بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة وذكره.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أحمد بن عبد الله عن أبي شهاب عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت بعثت إلى نسيبة الأنصارية بشاة فأرسلت إلى عائشة منها فقال رسول الله ﷺ : "هل عندكم شيء فقالت لا إلا ما أرسلت به نسيبة من تلك الشاة قال هات فقد بلغت محلها".

حديث سادس وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا قبل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدا شديدا فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك فدخلت على أم سلمة زوج النبي ﷺ فذكرت ذلك لها فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم فرجعت فأخبرت زوجها بذلك فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله ﷺ يحل الله لرسوله ما شاء ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ : "ما لهذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة فقال : "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك فقالت قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله ﷺ يحل الله لرسوله ما شاء فغضب رسول الله ﷺ وقال : "والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده".

هذا الحديث مرسل عند جميع رواة الموطأ عن مالك وهذا المعنى أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم صحيح من حديث عائشة وحديث أم سلمة وحديث حفصة يروي عنهن كلهن وعن غيرهن عن النبي ﷺ من وجوه ثابتة وقد ذكر منها مالك حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : "أن كان رسول الله ﷺ ليقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم تضحك" عطف به على حديث زيد بن أسلم هذا في الموطأ ونحن نذكر ما روى في ذلك من حديث عائشة عن النبي ﷺ، في باب بلاغات مالك لأنه بلغه أن عائشة كانت إذا ذكرت أن رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم تقول : "وأيكم أملك لنفسه من رسول الله ﷺ" ونذكر هاهنا ما روى في ذلك من حديث أم سلمة خاصة دون غيرها من الآثار إذ هي التي رفع عنها هذا الحديث هاهنا وبالله العون.

وفي هذا الحديث من الفقه أن القبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره شابا كان أو شيخا على عموم الحديث وظاهره لأن رسول الله ﷺ لم يقل للمرأة هل زوجك شاب أم شيخ ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه رسول الله ﷺ لأنه المبين عن الله مراده من عباده وأظن أن الذي فرق بين الشيخ والشاب في القبلة للصائم ذهب إلى قول عائشة في حديثها في هذا الباب وأيكم أملك لأربه من رسول الله ﷺ أي أملك لنفسه وشهوته من رسول الله ﷺ وبهذا أيضا احتج من كرهها وسيأتي هذا الحديث في باب بلاغات مالك ويأتي القول فيها هناك إن شاء الله وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعروة بن الزبير وقد روى عن ابن مسعود أنه قال يقضي يوما مكانه وكره مالك القبلة للصائم في رمضان للشيخ والشاب ذهب فيها إلى ما رواه عن ابن عمر أنه كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ولما رواه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير ولم يذهب فيها إلى ما رواه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه رخص فيها للشيخ وكرهها للشاب.

وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن إبراهيم ابن الحداد وحدثنا زكريا بن يحيى السجزي وجعفر بن محمد الفريابي قالا حدثنا قتيبة قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن ابن عباس في القبلة للصائم قال أن عروق الخصيتين معلقة بالأنف فإذا وجد الريح تحرك وإذا تحرك دعا إلى ما هو أكثر من ذلك والشيخ أملك لأربه وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عاصم بن سليمان عن أبي مجلز قال جاء رجل إلى ابن عباس شيخ يسأله عن القبلة وهو صائم فرخص له فجاءه شاب فنهاه.

قال وأخبرنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال سمعت ابن عباس يقول لا بأس بها إذا لم يكن معها غيرها يعني القبلة قال وأخبرنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن القبلة للصائم فقال هي دليل إلى غيرها والاعتزال أكيس.

قال أبو عمر: كل من كرهها فإنما كرهها خوفا أن تحدث شيئا يكون رفثا كإنزال الماء الدافق أو خروج المنى وشبه ذلك مما لا يجوز للصائم وقد قال ﷺ : "من كان صائما فلا يرفث" فدخل فيه رفث القول وغشيان النساء وما دعا إلى ذلك وأشباهه ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن القبلة للصائم فقيل له أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم فقال من ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله ﷺ قال الزهري وأخبرني من سمع أصحاب رسول الله ﷺ يتناهون عن القبلة صياما ويقولون أنها تدعو إلى أكثر منها

قال أبو عمر: لا أرى معنى حديث ابن المسيب في هذا الباب يتعدى إلى غيرها لم يتعرض لها ورويت الرخصة في القبلة للصائم عن عمر بن الخطاب ولا يصح ذلك عنه ورويت عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عباس أيضا وعائشة وبه قال عطاء والشعبي والحسن وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا بأس بالقبلة إذا كان يأمن على نفسه قالوا فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة وهو قول الثوري والحسن بن حي والشافعي فيمن قبل فأمنى أن عليه القضاء وليس عليه كفارة قال ابن علية لا تفسد القبلة الصوم إلا أن ينزل الماء الدافق ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري وابن علية والأوزاعي وقال أحمد من قبل فأمذى أو أمنى، فعليه القضاء ولا كفارة عنده إلا على من جامع فأولج ناسيا أو عامدا وسيأتي ذكر كفارةالمفطر في رمضان بجماع أو أكل في باب ابن شهاب عن حميد إن شاء الله عز وجل.

وقال مالك : لا أحب للصائم أن يقبل فإن قبل في رمضان فأنزل فعليه القضاء والكفارة وإن قبل فأمذى فعليه القضاء ولا كفارة وقال ابن خواز بنداد القضاء على من قبل فأمذى عندنا مستحب ليس بواجب وفيه من الفقه أيضا إيجاب العمل بخبر الواحد الثقة ذكرا كان أو أنثى وعلى ذلك جماعة أهل الفقه والحديث أهل السنة ومن خالف ذلك فهو عند الجميع مبتدع والدليل على ما قلنا من العمل بخبر الواحد من هذا الحديث قول رسول الله ﷺ لأم سلمة : "ألا أخبرتيها"

فأوضح بذلك أن خبر أم سلمة يجب العمل به وكذلك خبر المرأة لزوجها ولو كان خبر أم سلمة لا يلزم المرأة وخبر المرأة لا يلزم زوجها لما قال رسول الله ﷺ لأم سلمة "ألا أخبرتيها" لأنها كانت تقول وكيف كنت أخبرها عنك وحدي وأي فائدة في نقلي عنك وحدي أو كيف تنقل المرأة الخبر وحدها إلى زوجها وهذا بين في إيجاب العمل بخبر الواحد وقبوله ممن جاء به إذا كان عدلا والحجة في إثبات خبر الواحد والعمل به قائمة من الكتاب والسنة ودلائل الإجماع والقياس

وليس هذا موضع ذكرها وقد أفردنا لذلك كتابا تقصينا فيه الحجة على المخالفين والحمد لله وإنما قصدنا في كتابنا هذا لتخريج ما في الأخبار من المعاني وقد علمنا أن الناظر فيه ليس ممن يخالفنا في قبول خبر الواحد وبالله التوفيق وفيه أن فعل رسول الله ﷺ كله يحسن التأسي به فيه على كل حال إلا أن يخبر رسول الله ﷺ أنه له خاصة أو ينطق القرآن بذلك وإلا فالاقتداء به أقل أحواله أن يكون مندوبا إليه في جميع أقواله ومن أهل العلم من رأى أن جميع أفعاله واجب الاقتداء بها كوجوب أوامره وقد بينا الحجة فيما اختلف فيه من ذلك في غير هذا الكتاب والدليل على أن أفعاله كلها يحسن التأسي به فيها قول الله عز وجل : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : من الآية21]

فهذا على الإطلاق إلا أن يقوم الدليل على خصوص شيء منه فيجب التسليم له ألا ترى أن الموهوبة لما كانت له خالصة نطق القرآن بأنها خالصة له من دون المؤمنين وقال ﷺ في الوصال : "إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فأخبر بموضع الخصوص على أن من العلماء من لم يجعل الوصال خصوصا له وجعله من باب الرفق والتيسير على أمته وسنبين القول في ذلك في كتابنا هذا عند ذكر ذلك الحديث إن شاء الله.

قال الله عز وجل : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى : من الآية52-53] وقال ﷺ : "خذوا عني مناسككم" وقال : "صلوا كما رأيتموني أصلي".

وقال عبد الله بن عمر : "إن الله بعث إلينا محمدا ﷺ ونحن لا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل".

وفي غضب رسول الله ﷺ وقوله : "والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده" دليل على أن الخصوص لا يجوز ادعاؤه عليه بوجه من الوجوه إلا بدليل مجتمع عليه وقال ﷺ : "إنما بعثت معلما مبشرا وبعثت رحمة مهداة" صلوات الله وسلامه عليه، فلا يجوز ادعاء الخصوص عليه في شيء إلا فيما بان به خصوصه في القرآن أو السنة الثابتة أو الإجماع لأنه قد أمرنا باتباعه والتأسي به والإقتداء بأفعاله والطاعة له أمرا مطلقا وغير جائز عليه أن يخص بشيء فيسكت لأمته عنه ويترك بيانه لها وهي مأمورة باتباعه هذا ما لا يظنه ذو لب مسلم بالنبي ﷺ.

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا عيسى بن المغيرة عن أبي مودود عن نافع قال رأيت ابن عمر إذا ذهب إلى قبور الشهداء على ناقته ردها هكذا وهكذا فقيل له في ذلك فقال إني رأيت رسول الله ﷺ في هذه الطريق على ناقته فلعل خفي يقع على خفه وهذا غاية في الإقتداء والتأسي برسول الله ﷺ.

وحدثني أحمد بن فتح بن عبد الله قال حدثنا الحسين بن عبد الله بن الخضر قال حدثنا أبو العلاء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي قال حدثنا محمد قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت رخص رسول الله ﷺ في بعض الأمر فرغب عن ذلك بعض أصحابه فقام رسول الله ﷺ خطيبا فقال : "مالي أرخص في الأمر فيرغب عن ذلك أناس والله إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية". وذكر البخاري حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون فقالوا إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول : "إن أتقاكم لله وأعلمكم بالله أنا ".

قال البخاري : وحدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".

وأما الأحاديث عن أم سلمة في هذا الباب فأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني يحيى بن سعيد عن طلحة بن يحيى قال حدثني عبد الله بن فروخ "أن امرأة سألت أم سلمة فقالت إن زوجي يقبلني وهو صائم وأنا صائمة فما ترين فقالت كان رسول الله ﷺ يقبلني وهو صائم وأنا صائمة".

وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن طلحة بن يحيى عن عبد الله ابن فروخ عن أم سلمة قالت : "كان رسول الله ﷺ يقبلني وهو صائم وأنا صائمة". وعبد الله بن فروخ هذا كوفي مولى آل طلحة بن عبيد الله وقيل مولى عمر بن الخطاب وهو تابعي ليس به بأس وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثنا أحمد بن جعفر ابن حمدان بن مالك قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عفان قال حدثنا همام قال سمعنا من يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن زينب ابنة أم سلمة حدثته قالت حدثتني أمي "أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم".

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا ابن حمدان قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الملك بن عمرو وعبد الصمد بن عبد الوارث قالا حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي ﷺ مثله.

وقرأت على أبي عثمان سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته أن أم سلمة حدثتها "أن رسول الله ﷺ كان يقبلها وهو صائم" ورواه الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن عائشة والقول قول من ذكرنا وقد رواه الحسن ابن موسى الأشيب عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عمر بن عبد العزيز عن عروة بن الزبير عن عائشة.

وهذا عندي ان لم يكن إسنادا آخر فهو خطأ وما رواه هشام وهمام ومحمد بن سابق عن شيبان صحيح وهشام الدستوائي أثبت من روى عن يحيى ابن أبي كثير وقد تابعه همام وغيره وروايته لهذا الحديث أولى من رواية من خالفه بالصواب والله تعالى أعلم.

وقد روى عن أم سلمة أيضا في هذا الحديث غير هذا وذلك ما حدثناه خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا موسى بن علي ابن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عبد الله بن عمرو بن العاص أرسله إلى أم سلمة هل كان رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم فإن قالت لا فقل لها إن عائشة تحدث أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم قال أبو قيس فجيئتها فقالت أحر أم مملوك فقلت بل مملوك فقالت أدنه فدنوت فقلت إن عبد الله بن عمرو أرسلني إليك أسألك هل كان رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم فقالت لا فقلت إن عائشة تحدث أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم فقالت لعله لم يتمالك عنها حبا.

وهذا حديث متصل ولكنه ليس يجيء إلا بهذا الإسناد وليس بالقوي وهو منكر على أصل ما ذكرنا عن أم سلمة وقد رواه عن موسى بن علي عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن يزيد المقري كما رواه عبد الله بن صالح سواء وما انفرد به موسى بن علي فليس بحجة والأحاديث المذكورة عن أبي سلمة معارضة له وهي أحسن مجيئا وأظهر تواترا وأثبت نقلا منه وأما الأحاديث في هذا الباب عن عائشة فأسانيدها لا مطعن لأحد فيها وستراها في باب بلاغات مالك إن شاء الله وإسناد حديث حفصة في ذلك أحسن وبالله التوفيق.

حديث سابع وثلاثون لزيد بن أسلم

مرسل يتصل من وجوه ثابتة

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه قال رسول الله ﷺ : "التمر بالتمر مثلا بمثل فقيل له إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين فقال رسول الله ﷺ أدعوه لي فدعي له فقال رسول الله ﷺ أتأخذ الصاع بالصاعين فقال يا رسول الله لا يبيعونني الجنيب بالجمع صاعا بصاع فقال رسول الله ﷺ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا".

هكذا رواه في الموطأ مرسلا ومعناه عند مالك متصل من حديثه عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا عن النبي ﷺ والحديث ثابت محفوظ عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد

ومن حديث بلال أيضا وغيرهم وقد رواه داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ.

وفيه من الفقه، أن التمر كله جنس واحد رديئه وطيبه ورفيعه ووضيعه لا يجوز التفاضل في شيء منه ويدخل في معنى التمر بالتمر كل ما كان في معناه وكذلك التفاضل لا يجوز في الجنس الواحد من المأكولات المدخرات وهذا ومثله أصل في الربا وقد ذكرنا أصول الفقهاء في ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا فأغنى عن الإعادة ها هنا.

فالجنس الواحد من المأكولات يدخله الربا من وجهين لا يجوز بعضه ببعض متفاضلا ولا بعضه ببعض نسيئة هذا إذا كان مأكولا مدخرا عند مالك وأصحابه وعند الشافعي سواء كان المأكول مدخرا أو لا يدخر مثله القول فيه ما ذكرنا فأما النسيئة في بعض ذلك ببعض فمجتمع على تحريمه والتمر والبر دخل في معناهما كل ما يؤكل مما كان مثلهما وقد لخصنا هذا في غير هذا الموضع.

وسيأتي ذكر أصول الفقهاء فيما يدخله الربا مجودا في باب ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان إن شاء الله.

وفيه أن من لم يعلم بتحريم الشيء فلا حرج عليه حتى يعلم إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله من علم الخاصة قال عز وجل : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : من الآية15] والبيع إذا وقع محرما أو على ما لا يجوز فمفسوخ مردود وإن جهله فاعله قال ﷺ من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد أي مردود فإن أدرك المبيع بعينه رد وإن فات رد مثله في المكيل والموزون ويفسخ البيع بين المتبايعين فيه وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا فالقيمة فيه عند مالك أعدل وعند الشافعي وأبي حنيفة المثل أيضا في كل شيء إلا أن يعدم فينصرف فيه إلى القيمة.

وفي اتفاق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا مفسوخ أبدا دليل واضح على أن بيع عامل رسول الله ﷺ الصاعين بالصاع في هذا الحديث كان قبل نزول آية الربا وقبل أن يتقدم إليهم رسول الله ﷺ بالنهي عن التفاضل في ذلك ولهذا سأله عن فعله ليعلمه بما أحدث إليه فيه من حكمه ولذلك لم يأمر بفسخ مالم تتقدم العبارة فيه والله أعلم.

وقد روى أن رسول الله ﷺ أمر برد هذا البيع وذلك محفوظ من حديث بلال ومن حديث أبي سعيد الخدري أيضا روى منصور وقيس بن الربيع عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب عن بلال قال كان عندي مزود من تمر دون قد تغير فابتعت تمرا أجود منه في السوق بنصف كيله بعته صاعين بصاع وأتيت به النبي ﷺ فقال : "من أين لك هذا فحدثته بما صنعت فقال : "هذا الربا بعينه انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير ثم اشتر من هذا التمر ثم ائتني به ففعلت فقال النبي ﷺ : التمر بالتمر مثلا بمثل والحنطة بالحنطة مثلا بمثل والذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن فما كان من فضل فهو الربا فإذا اختلف فخذوا واحدا بعشرة".

وفيه تثبيت الوكالة لأن خيبر كان الأمر فيها إليه وعامله إنما تصرف في ذلك بالوكالة ويوضح لك ذلك حديث بلال المذكور في هذا الباب وحديث أبي سعيد وغيره.

حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله ﷺ بعث أخا بني عدي بن النجار إلى خيبر فقدم عليه بتمر جنيب يعني طيبا فقال رسول الله ﷺ : "أكل تمر خيبر هكذا قال لا يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة من الجمع فقال رسول الله ﷺ : لا تفعل ولكن بع هذا واشتر من ثمنه هذا وكذلك الميزان".

وبإسناده عن عبد العزيز بن محمد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي ﷺ مثله أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قسم فينا رسول الله ﷺ طعاما من التمر مختلفا بعضه أفضل من بعض قال فذهبنا نتزايد فيه بيننا فنهانا رسول الله ﷺ عن ذلك إلا كيلا بكيل يدا بيد وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال أتى رسول الله ﷺ رجل بصاع من تمر وأنا شاهد عنده فقال : "من أين لك هذا هذا أطيب من تمرنا قال أعطيت صاعين وأخذت صاعا من هذا فقال رسول الله ﷺ : أربيت ولكن بع من تمرك بسلعة ثم ابتع بها ما شئت من التمر".

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال كنا نرزق تمر الجميع على عهد رسول الله ﷺ فكنا نبتاع صاعا بصاعين فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال : "لا صاعي تمر بصاع ولا صاعي حنطة بصاع ولا درهما بدرهمين". حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار أبو محمد قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسروق عن بلال قال كان عندي مد من تمر رسول الله ﷺ فوجدت تمرا خيرا منه فاشتريت صاعا بصاعين فقال : "رده ورد علينا تمرنا".

قال أبو عمر: الحكم فيما يوزن إذا كان مما يؤكل أو يشرب كالحكم فيما يكال مما يؤكل أو يشرب سواء لقول رسول الله ﷺ في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأبي سعيد المذكور في هذا الباب : "وكذلك الميزان" وهو أمر مجتمع عليه لا حاجة بنا إلى الكلام فيه فما وزن من المؤكولات كلها جرى الربا فيها إذا كانت من جنس واحد في وجهي التفاضل والنسيئة فالتفاضل في الموزون الازدياد في الوزن كما أن التفاضل في المكيل الازدياد في الكيل وإذا اختلفت الأجناس وكانت موزونة مؤكولة مطعومة فلا ربا فيها إلا في النسيئة كالذهب والورق والبر والفول وما كان مثل ذلك كله سواء إلا عند من جعل العلة في الربا الكيل والوزن على ما قدمنا من اختلاف العلماء فيما سلف من كتابنا هذا وعلى ما يأتي من ذكر اختلافهم فيما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.

حديث ثامن وثلاثون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا من الأنصار من بني حارثة كان يرعى لقحة بأحد فأصابها الموت فذكاها بشظاظ فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال : "ليس بها بأس فكلوها".

هكذا رواه جماعة رواة الموطأ مرسلا ومعناه متصل من وجوه ثابتة عن النبي ﷺ ولا أعلم أحدا أسنده عن زيد بن أسلم إلا جرير بن حازم عن أيوب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.

ذكره البزار قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا حبان بن هلال قال حدثنا جرير بن حازم عن أيوب وذكره أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في تاريخه قال حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش قال حدثنا حبان بن هلال قال حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا أيوب عن زيد بن أسلم فلقيت زيد بن أسلم فحدثني عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال كانت لرجل من الأنصار ناقة ترعى في قبل أحد فنحرها بوتد فقلت لزيد وتد من حديد أو خشب قال لا بل من خشب وأتى النبي ﷺ فسأله فأمره بأكلها

قال أبو عمر: واللقحة الناقة ذات اللبن وقد تقدم تفسير ذلك فيما سلف من كتابنا هذا والشظاظ العود الحديد الطرف كذا قال أهل اللغة وقال يعقوب بن جعفر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار في هذا الحديث فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فأخذ وتدا فوجأ به في لبتها حتى أهراق دمها ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فأمره بأكلها فعلى هذا الحديث الشظاظ الوتد وذلك كله معنى متقارب وقال ابن حبيب الشظاظ هو العود الذي يجمع به بين عروتي الغرارتين على ظهر الدابة واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت : "بحال العروتين من الشظاظ"

قال أبو عمر: وقال عنترة :

إذا ضربوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد شظاظها

قال الخليل : الظررة والظرر حجر له حد قال والشظاظ خشبة عقفاء محدودة الطرف والليط قشر القصب والتذكية بالشظاظ إنما تكون فيما ينحر لا فيما يذبح والناقة الشأن فيها النحر وهو ذكاتها و الشظاظ لا يمكن به الذبح لأنه كطرف السنان وقد يمكن الذبح بفلقة العود لأن لها جانبا رقيقا وذلك يسمى الشطير وفلقة الحجر الرقيقة التي يمكن الذكاة بها تسمى الظرر وهذان يذبح بهما ولا يمكن النحر بهما وأما القصبة فيمكن بها الذبح والنحر وفلقة القصبة تسمى الليطة وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكى.

قال أبو عمر: وفي هذا الحديث إباحة تذكية ما نزل به الموت من الحيوان المباح أكله كانت البهيمة في حال ترجي حياتها أو لا ترجى إذا كانت حية في وقت الذكاة لأن رسول الله ﷺ لم يسأل مذكيها عن حالها ولم ينكر عليه بل قال : "ليس بها بأس فكلوها" وقد قيل له أصابها الموت فعلى ظاهر هذا الحديث إذا سلم موضع الذكاة من الآفة وكانت الحياة موجودة في المذكى جاز تذكيته.

أخبرني خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا المفضل بن محمد قال حدثنا علي بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال سألت مالكا عن المتردية والمفروسة تدرك ذكاتها وهي تتحرك قال لا بأس إذا لم يكن قطع رأسها أو قال وسمعت مالكا يقول ما بين المنحر إلى المذبح لم تؤكل.

واختلف العلماء في قول الله عز وجل : {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة : من الآية3] فقال قوم : هذا الاستثناء راجع على كل ما أدرك ذكاته مما ينخنق ويوقذ ويتردى وينطح وأكيلة السبع فمتى أدرك شيئا من هذه المذكورات وفيه حياة كانت الذكاة عاملة فيه لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له وممن روى عنه هذا المعنى علي بن أبي طالب وأبو هريرة وابن عباس وجماعة من التابعين ومن فقهاء المسلمين روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال سألت ابن عباس عن ذئب عدا علي شاة حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل وروى حماد بن سلمة عن قتادة وحميد عن الحسن أنه قال فيما أكل السبع إذا كانت تطرف بعينها أو تركض برجلها أو تمصع بذنبها فذك وكل وذكر ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن أشعث عن الحسن في قوله : {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} قال الحسن : أي هذه الخمس أدركت ذكاته فكل فقلت يا أبا سعيد كيف أعرف ذلك قال إذا طرفت بعينها أو ضربت برجلها وعن قتادة والضحاك بن مزاحم مثل ذلك وإلى هذا ذهب ابن حبيب وذكره عن أصحاب مالك عنه قال ابن حبيب إذا كانت الذبيحة تطرف فهي ذكية ولو طرفت بأحد أطرافها بعين أو رجل أو ذئب أو يد مع مجرى النفس فهي ذكية قال وهكذا فسره لي أصحاب مالك عنه وذكر ابن عبد الحكم عن مالك نحوه.

وقال الليث بن سعد إذا كانت حية وقد أخرج السبع جوفها اختلفا إلا ما بان منها وهو قوله ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي وقد تقدم هذا من قول ابن عباس وقال المزني عن الشافعي في السبع إذا شق بطن شاة واستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها قال المزني وأحفظ له قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردى إلى ما لا حياة معه قال المزني وهو قول المدنيين قال وهو عندي أقيس على أصل الشافعي لأن قوله في صيدالبر إذا لم يبلغ منه السلاح مبلغ الذبح وأمكنت ذكاته فلم يذكه أنه لا يأكله قال وفي هذا دليل أنه لو بلغ ما يبلغ الذبح أكله قال المزني ودليل آخر من قوله أيضا قال في كتاب الدماء لو قطع حلقوم رجل ومريئه أو قطع حشوته فأبانها من جوفه أو صيره في حال المذبوح ثم ضرب آخر عنقه فالأول قاتل دون الآخر قال ففي هذا من قوله دلالة على ما وصفت لك أنه أصح في القياس من قوله الآخر.

قال أبو عمر: أكثر أصحاب الشافعي على قوله الآخر على خلاف ما اختار المزني واحتج منهم أبو القاسم القزويني بقول الله تعالى بعد ذكر المنخنقة وما ذكر معها إلى قوله {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة : من الآية3] قال فمعنى الآية أكل المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إذا ذكى وفيه الحياة كان التردي وأكل السبع بلغ منها ما فيه البقاء أو ما لا بقاء معه إذا كان فيها من الحياة ما يعلم به أنها لم تمت قال والزاعم أن المتردية وما أكل السبع وفيها الحياة إذا ذكيت تؤكل في حال دون حال مدع على الكتاب ما لم يأت به الكتاب.

قال أبو عمر: وهذا أيضا مذهب أبي حنيفة في هذه الآية وفي كل ما تدرك ذكاته وفيه الحياة ما كانت الحياة فإنه ذكى ومتى ذكيت وأدركت قبل أن تموت أكلت عنده قال الطحاوي وروى عن أبي يوسف في الإملاء إذا بلغ بها ذلك حالا لا تعيش من مثله لم تؤكل قال وذكر ابن سماعة عن محمد أنه قال إذا بلغ بها ذلك حالا لا تعيش معه اليوم ونحوه والساعتين والثلاث ونحوها فذكاها حلت وإن كانت لا تبقى إلا بقاء المذبوح لم تؤكل وإن ذبحت قال واحتج محمد ابن الحسن بأن عمر بن الخطاب كانت جراحاته متلفة وصحت عهوده وأوامره ولو قتله قاتل كان عليه القود وإلى هذا ذهب الطحاوي وزعم أنهم لم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أنها تذكى وأنها لو صارت في حال النزوع والاضطراب للموت أنه لا ذكاة فيها فكذاك القياس ينبغي أن يكون حكم المتردية ونحوها وقال الأوزاعي إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت.

قال أبو عمر: وذهب قوم من العلماء إلى أن الاستثناء في قوله عز وجل : {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} منقطع مما قبله غير عائد على شيء من المذكورات قالوا وذلك مشهور من كلام العرب يجعلون إلا بمعنى لكن ومن ذلك قوله الله عز وجل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء : من الآية92] يريد وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة ثم قال إلا خطأ أي لكن أن قتله خطأ.

فالاستثناء هاهنا ليس من الأول وهذا مذهب الخليل وسيبويه والفراء كلهم يجعلون إلا هاهنا بمعنى لكن وأنشد بعضهم لأبي خراش :

أمسى سقام خلاء لا أنيس به ... إلا السباع ومر الريح بالغرف

أراد إلا يكون به السباع أو لكن به السباع وطرد الريح وسقام واد لهذيل.

ومثل هذا أيضا قول الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس

أراد لكن بها اليعافير وبها العيس وليس بها أنيس مع هذا.

وقال متمم بن نويرة :

وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ظل إلا أن تعد من النخل

يريد لكن تعد من النخل.

وقد يكون قوله : "لا أنيس به إلا السباع" وليس بها أنيس ولا اليعافير فتكون إلا بمعنى الواو كما قيل في قوله الله عز وجل : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة : من الآية150] أي ولا الذين ظلموا وكما قال الشاعر :

ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروان

أي إلا دار الـخـلـيفة ودار مروان. هذا كلـه قد قـيل كما وصفنا فـي معنى ما ذكرنا، وحقـيقة إلا أن تـحمل علـى صريح الاستثناء، إما متصلاً ردًا للأول علـى الآخر، مخرجًا لـه من جملته، وإما منقطعًا قد فصل الأول من الآخر، كما قال النابغة :

وما بالربع من أحد إلا الأواري..........لايا ما أبـينها

ومن هذا الباب أيضًا وهو كثـير جدًا ومن أبدعه قول جرير :

من البـيض لـم تظعن بعيدًا ولـم تطأ...........علـى الأرض إلا ذيل برد مرجل

فكأنه قال : لـم تطأ علـى الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد والترجيل : وشيء فـي حاشية البرد. وقد قـيل فـي معنى قولـه عز وجل {إلا الذين ظلـموا منهم} [2 البقرة150] أي لكن الذين ظلـموا منهم فإنهم يحاجونكم، وقـيل : إلا علـى الذين ظلـموا. فعلـى هذا يكون معنى الآية، أن اللـه عز وجل حرم الـميتة والدم ولـحم الـخنزير.

والـميتة ها هنا التـي تموت حتف أنفها، وحرم التـي تموت منـخنقة وموقوذة ومتردية ومنطوحة وأكيلة السبع، فعم بهذا أجناس الـميتة التـي كانوا يأكلون، وأحل لـهم ما ذكوا من بهيمة الأنعام. فكأنه قال ـ بعد أن ذكر ما حرم من الـميتات ولـحم الـخنزير ـ : لكن ما ذكيتم وذبحتم من بهيمة الأنعام، فحل لكم.

هذا معنى قولـه عندهم، وإلـى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي وجماعة الـمالكيـين البغداديـين، وهو أحد قولـي الشافعي، ويروى نـحو هذا الـمذهب عن زيد بن ثابت، ذكره مالك فـي موطئه. وذكر حماد بن سلـمة عن يوسف بن سعد عن يزيد مولـى عقـيل بن أبـي طالب قال : كانت لـي عناق كريمة فكرهت أن أذبحها فلـم ألبث أن تردت، فأمررت الشفرة علـى أوداجها فركضت برجلـها، فسألت زيد بن ثابت فقال : إن الـميت لـيتـحرك بعد موته فلا تأكلـها.

قال أبو عمر: يزيد مولـى عقـيل هذا هو أبو مرة مولـى عقـيل بن أبـي طالب، وهذا الـخبر قد رواه مالك عن يحيى بن سعيد عن أبـي مرة مولـى عقـيل بن أبـي طالب بمعنى واحد وألفاظ مختلفة، ولا أعلـم أحدًا من الصحابة روى عنه مثل قول زيد بن ثابت هذا واللـه أعلـم. وقد خالفه أبو هريرة وابن عباس، وعلـى قولـهما أكثر الناس. وقال مـحمد بن مسلـمة إذا قطع السبع حلقوم الشاة أو قسم صلبها أو شق بطنها فأخرج معاها أو قطع عنقها، لـم تذك. وفـي سائر ذلك كلـه تذكى إذا كان فـيها حياة. وقال غيره من أصحابنا : تذكى التـي شق بطنها، نـحو قول ابن حبـيب.

واختلف أصحاب داود فـي هذا الاستثناء أيضًا علـى قولـين : فذهب منهم قوم أنه منقطع كما وصفنا. وذهب منهم آخرون إلـى أن الاستثناء متصل بما قبلـه عائد علـيه، مخرج لـجملة ما ذكي من الـمذكورات إذا كانت فـيه حياة من جملة الـمـحرمات فـي الآية.

وما ذهب إلـيه إسماعيل فـي ذكر الـمتردية وما ذكر معها يروى عن قتادة، وعن الضحاك ابن مزاحم، إلا أنهما قالا بتذكية ما أدركت فـيه حياة. من ذلك : روى سعيد بن أبـي عروبة ومعمر عن قتادة فـي قول اللـه عز وجل {حرمت علـيكم الـميتة} الآية. [5 الـمائدة3] قال : كان أهل الـجاهلـية يخنقون الشاة حتـى إذا ماتت أكلوها والـموقوذة كان أهل الـجاهلـية يضربونها بالعصا، حتـى إذا ماتت أكلوها والـمتردية كانت تتردى فـي البئر فتموت فـيأكلونها والنطيحة كبشان يتناطحان فـيموت أحدهما فـيأكلونه، وما أكل السبع، كان أهل الـجاهلـية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقـي. فقال اللـه تعالـى : {إلا ما ذكيتم} [5 الـمائدة] فكل ما ذكر اللـه ها هنا ـ ما خلا الـخنزير ـ إذا أدركت منه عينا تطرف، أو ذنبًا يتـحرك، أو قائمة تركض فذكيته فقد أحل اللـه لك ذلك.

وعن الضحاك بن مزاحم مثل قول قتادة هذا كلـه سواء قال الضحاك : فإن لـم تطرف لـه عين ولـم تتـحرك لـه قائمة ولا ذنب، فهي ميتة. وروى الشعبـي عن الـحارث عن علـي قال : إذا أدركت ذكاة الـموقوذة والـمتردية والنطيحة وهي تـحرك يدًا أو رجلاً فكلـها. وهو قول الشعبـي وإبراهيم وعطاء وطاوس ولـم يصرح إسماعيل برد هذا ونكب عنه.

قال أبو عمر: قول علـي وابن عباس وأبـي هريرة والتابعين الذين ذكرنا قولـهم، ومن تابعهم من فقهاء الأمصار أولـى ما قـيل به فـي هذا الباب، وهو ظاهر الكتاب. وفـي الـمستـخرجة لـمالك وابن القاسم : إن ما فـيه الـحياة وإن كان لا يعيش ولا يرجى لـه بالعيش يذكى ويؤكل. أخبرنا أحمد بن مـحمد وعبـيد بن مـحمد قالا : حدثنا الـحسن بن سلـمة قال : حدثنا ابن الـجارود قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : سمعت إسحاق بن راهويه قال : وأما الشاة يعدو علـيها الذئب فـيبقر بطنها ويخرج الـمصارين حتـى يعلـم أنه لا يعيش مثلـها، فإن السنة فـي ذلك ما وصف ابن عباس، لأنه وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالـم، وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلـى هل يعيش مثلـها. وكذلك الـمريضة التـي لا يشك أنه مرض موت، جائز ذكاتها إذا أدركت فـيها حياة، وما دام الروح فـيها فلـه أن يذكيها. قال إسحاق : ومن قال خلاف هذا، فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلـماء.

قال أبو عمر: يعضد ذلك حديث زيد بن أسلـم الـمذكور فـيه : فأصابها الـموت وباللـه التوفـيق.

وهو حديث حسن، أخرجه أبو داود وغيره. وفـيه أيضًا من الفقه أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج فهو من آلات الذكاة، وجائز أن يذكى به، ما خلا السن والعظم وعلـى هذا تواترت الآثار وقال به فقهاء الأمصار. علـى ما نبـينه إن شاء اللـه تعالـى.

أخبرنـي سعيد بن نصر ـ قراءة منـي علـيه ـ أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبـي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن عاصم عن الشعبـي عن مـحمد بن صيفـي قال : ذبحت أرنبـين بمروة فأتـيت بهما النبـي ﷺ، فأمرنـي بأكلـهما ـ كذا قال أبو الأحوص وقال حماد بن سلـمة وعبد الواحد بن زياد عن عاصم عن الشعبـي عن مـحمد بن صفوان أو صفوان بن مـحمد : اصطدت أرنبـين فذبحتهما بمروة ـ وذكر الـحديث.

وقال حماد ابن سلـمة أيضًا، عن داود عن الشعبـي عن صفوان بن مـحمد، ولـم يشك. وأخبرنا عبد اللـه بن مـحمد بن عبد الـمؤمن قال : أخبرنا مـحمد بن بكر قال : أبو داود قال : حدثنا مـحمد بن إسماعيل قال : حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن مري ابن قطري عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول اللـه أرأيت إن أصاب أحدنا صيدًا ولـيس معه سكين أيذبح بالـمروة وشق العصا؟ فقال أنزل الدم بما شئت، واذكر اسم اللـه. والـمروة : فلقة الـحجر.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع عن أبـيه عن جده رافع بن خديج قال : أتـيت رسول اللـه ﷺ فقلت : يا رسول اللـه إنا نلقـى العدو غدًا، ولـيس معنا مدي؟ فقال رسول اللـه ﷺ : «ما أنهر الدم وذكر اسم اللـه علـيه فكلوا ما لـم يكن سن أو ظفر وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم، وأما الظفر فمدي الـحبشة» وذكر الـحديث. فإذا جازت التذكية بغير الـحديد، جازت بكل شيء إلا أن يجتمع علـى شيء فـيكون مخصوصًا.

وعلـى هذا مذهب مالك وأصحابه وأبـي حنـيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه. والسن والظفر الـمنهي عن التذكية بهما عندهم هما غير الـمنزوعين لأن ذلك يصير خنقا وكذلك قال ابن عباس ـ رضي اللـه عنه ـ : ذلك الـخنق. فأما السن والظفر الـمنزوعان إذا فريا الأوداج، فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم علـى كل حال : منزوعة وغير منزوعة، منهم : إبراهيم والـحسن بن حي واللـيث بن سعد. وروي ذلك أيضًا عن الشافعي. وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج الـمذكور فـي هذا الباب، وباللـه التوفـيق.

حديث تاسع وثلاثون لزيد بن أسلـم ـ مرسل

مالك عن زيد بن أسلـم عن عطاء بن يسار أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ، نَهى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِـيبُ جَمِيعًا .

هكذا رواه مالك بإسناده هذا مرسلاً لا خلاف عنه فـي ذلك فـيما علـمت. وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد بن أسلـم عن عطاء بن يسار عن أبـي هريرة أن رسول الله ﷺ ـ مثله.

ذكره البزار قال : حدثنا مـحمد بن سهل بن عسكر، وسلـمة بن شبـيب، قالا : حدثنا عبد الرزاق وهو حديث يروى متصلاً من وجوه صحاح كثـيرة، منها : حديث ابن عباس وجابر وأبـي قتادة وأبـي سعيد وأنس وأبـي هريرة. فأما حديث أبـي قتادة فسنذكره فـي باب ما رواه مالك عن الثقة عنده إن شاء الله فـي باب الاشربة، لأنه حديث أبـي قتادة خاصة.

وأما حديث ابن عباس فـي هذا الباب، فحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مـحمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبـي شيبة قال : حدثنا مـحمد بن فضيل عن حبـيب بن أبـي عمرة عن سعيد بن جبـير عن ابن عباس قال : نهى رسول الله ﷺ عن الدباء، والـحنتم، والـمزفت، والنقـير، وأن يخـلط البلـح والزهو.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الـخشنـي قال : حدثنا مـحمد بن إسحاق الصاغانـي قال : حدثنـي أحمد بن حنبل قال : حدثنـي بهز بن أسد أبو الأسود العمي قال : حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبـي قال : «الـمزات حرام» ـ يعنـي خـلـيط البسر والتمر.

وأما حديث جابر فحدثنـي إسماعيل بن عبد الرحمن بن علـي القرشي ـ رحمه الله قال : حدثنا أبو الـحسين مـحمد بن العباس بن يحيى الـحلبـي قال : حدثنا أبو عروبة الـحسين ابن مـحمد الـحرانـي بحران قال : حدثنا الـمغيرة بن عبد الرحمن قال : حدثنا مسكين قال : حدثنا مهدي بن ميمون عن مطر الوراق عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله ﷺ أن يخـلط البسر والتمر يعنـي فـي النبـيذ.

وحدثنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الـحارث بن أبـي أسامة قال : حدثنا عاصم بن علـي قال : حدثنا لـيث بن سعد عن عطاء بن أبـي رباح وأبـي الزبـير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن ينبذ الزبـيب والتمر جميعًا، ونهى أن ينبذ البسر والرطب جميعًا.

وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا مـحمد بن العباس بن يحيى الـحلبـي قال : حدثنا أبو بكر بن فروخ قال : حدثنا زهير بن مـحمد بن نمير قال : حدثنا معاوية بن عمرو ومسلـم بن إبراهيم قالا : حدثنا جرير بن حازم عن عطاء بن أبـي رباح قال زهير : وحدثنا أحمد بن يونس وعاصم بن علـي وموسى بن داود قالوا جميعًا : حدثنا اللـيث بن سعد عن عطاء وأبـي الزبـير جميعًا. قال زهير : وأخبرنا موسى بن داود قال : حدثنا همام عن عطاء قال : حدثنا عبد الله بن مـحمد بن إسماعيل بن عبـيد قال : حدثنا مهدي بن ميمون قال : حدثنا مطر الوراق عن عطاء قال : وأخبرنا موسى بن داود قال : حدثنا ابن لهيعة عن عطاء وأبـي الزبـير. قال : وأخبرنا اللاحقـي قال : حدثنا حماد ابن سلـمة عن أبـي الزبـير عن جابر بن عبد الله أن النبـي نهى أن يخـلط الزبـيب والتمر والبسر والتمر. وفـي حديث بعضهم : والرطب، والـمعنى واحد. وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال : حدثنا إبراهيم بن غالب التمار وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن علـي قال : حدثنا مـحمد بن القاسم بن شعبان قالا : حدثنا مـحمد بن الربـيع بن سليمان قال : حدثنا يوسف بن سعيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله ﷺ نهى أن ينبذ التمر والزبـيب، والبسر والرطب جميعًا.

ورواه ابن وهب عن اللـيث بن سعد وجرير بن حازم عن عطاء عن جابر. وابن وهب أيضًا عن عمرو بن الـحارث واللـيث بن سعد عن أبـي الزبـير عن جابر عن النبـي مثله. وأما حديث أبـي سعيد فحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا مـحمد بن القاسم بن شعبان قال : حدثنا مـحمد بن العباس بن أسلـم قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا شعبة عن أبـي سلـمة عن أبـي نضرة عن أبـي سعيد أن النبـي نهى عن البسر والتمر والزبـيب والتمر أن يخـلطا. قال : وحدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا شعبة قال : سمعت سليمان التـيمي يحدث عن أبـي نضرة عن أبـي سعيد الـخدري عن النبـي مثله حرفًا بحرف. وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا مـحمد بن القاسم بن شعبان قال : حدثنا مـحمد بن العباس بن أسلـم قال : حدثنا إبراهيم بنن مرزوق قال : حدثنا عمر بن حبـيب.

قال : حدثنا سليمان التـيمي عن أبـي نضرة عن أبـي سعيد قال : نهى رسول الله ﷺ أن يخـلط الزبـيب والتمر والبسر والتمر وعن الـجر أن ينبذ فـيه. وأما حديث أنس فحدثنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الـحارث بن أبـي أسامة قال : حدثنا عفان قال : حدثنا همام قال : حدثنا قتادة عن أنس أن النبـي نهى أن ينبذ البسر والتمر جميعًا.

وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا مـحمد بن القاسم قال : حدثنا علـي بن سعيد قال : حدثنا الـحسن بن علـي النـيسابوري وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مـحمد بن شاذان قال : حدثنا مـحمد بن مقاتل الـمروزي قالا : حدثنا عبد الله بن الـمبارك قال : حدثنا وفاء بن أياس عن الـمختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال : نهى رسول الله ﷺ أن يجمع الشيئين ينبذهما مـما ينبغي أحدهما علـى صاحبه. قال : وسألته عن الفضيخ، فنهانـي عنه قال : وكان يكره الـمذنب من البسر مخافة أن يكونا شيئين، فكنا نقطعه منهما.

وأما حديث أبـي هريرة فحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مـحمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبـي شيبة قال : حدثنا مـحمد بن مصعب عن الأوزاعي عن يحيى بن أبـي سلـمة عن أبـي هريرة عن النبـي قال : «لا تـجمعوا بـين الزهو والرطب، والتمر والزبـيب، وانبذوا كل واحد منهما علـى حدته».

وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا مـحمد بن القاسم بن شعبان قال : حدثنا مـحمد بن العباس بن أسلـم قال : حدثنا إبراهيم بن أبـي داود البُرُلسي قال : أخبرنا عمرو بن أبـي سلـمة قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنـي أبو كثـير السحيمي، قال : أخبرنـي أبو هريرة، قال : قال رسول الله ﷺ : «لا تـخـلطوا التمر والبسر جميعًا تنبذونهما، ولا تـخـلطوا الزبـيب والتمر تنبذونهما، وانبذوا كل واحد منهما علـى حدته».

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مـحمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الـحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا مـحمد بن إسحاق قال : أخبرنـي معبد بن كعب بن مالك عن أمه ـ وكانت قد صلت القبلتـين ـ قالت : سمعت رسول الله ﷺ ينهي عن الـخـلـيطين : التمر والزبـيب أن ينبذا، وربما قال : «انبذوا كل واحد منهما علـى حدته».

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الترمذي قال : حدثنا سعيد بن أبـي مريم قال : حدثنا عبد الـجبار بن عمر عن ابن أبـي فروة عن مـحمد بن يوسف عن أبـيه عن أم مغيث أنها حدثته أنها سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن الـخـلـيطين قلنا يا رسول الله وما الـخـلـيطان؟ قال : «التمر والزبـيب وكل مسكر حرام».

قال أبو عمر: الأحاديث فـي هذا الباب صحاح متواترة تلقاها العلـماء بالقبول لكنهم اختلفوا فـي معناها : فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلـى القول بظاهرها وعمومها ونهوا عن الـخـلـيطين جملة واحدة قال مالك لـما ذكر حديث النهي عن أن ينبذ البسر والرطب جميعًا والزهو والرطب جميعًا. قال : وعلـى هذا أدركت أهل العلـم ببلدنا

وقال الشافعي نهى رسول الله ﷺ عن الـخـلـيطين فلا يجوزان علـى حال. ولا يجمع عند مالك والشافعي بـين شرابـين سواء نبذ كل واحد منهما علـى حدة، أو جمع شيئان فنبذا جميعًا.

وقال أبو حنـيفة : لا بأس بشرب الـخـلـيطين من الأشربة : البسر والتمر، والزبـيب والتمر، وكل ما لو طبخ أو نبذ علـى الانفراد حل، فكذلك إذا طبخ أو نبذ مع غيره. وروي عن ابن عمر وإبراهيم مثل ذلك ـ فـيما قال أبو جعفر الطحاوي، وهو قول أبـي يوسف الآخر، قال : وقال مـحمد بن الـحسن أكره الـمعتق من التمر والزبـيب. والنهي عند أبـي حنـيفة فـي الأحاديث الـمذكورة فـي هذا الباب، إنما هو من باب السرف لضيق ما كانوا فـيه من العيش.

وروى الـمُعَافَـى عن الثوري أنه كره من النبـيذ الـخـلـيط والسلافة والـمعتق. وقال اللـيث : لا أرى بأسًا أن يخـلط نبـيذ التمر ونبـيذ الزبـيب ثم يشربا جميعًا وإنما جاء النهي فـي كراهية أن ينبذا جميعًا ثم يشربان، لأن أحدهما يشد صاحبه.

وأما ما ذكره الطحاوي عن ابن عمر فقد روينا عنه خلاف ذلك. حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن مـحمد عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : نهي أن ينبذ الزهو والرطب جميعًا والبسر والتمر جميعًا.

حديث موفى أربعين لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ سئل عن الغبيراء فقال : "لا خير فيها ونهى عنها" قال مالك : وسألت زيد بن أسلم عن الغبيراء فقال : هي الأسكركة.

هكذا رواه أكثر رواة الموطأ مرسلا وما علمت أحدا أسنده عن مالك إلا ابن وهب وحديث ابن وهب في ذلك حدثناه إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا غير واحد عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس عن النبي ﷺ أنه سئل عن الغبيراء فذكره سواء.

قال أبو إسحاق بن شعبان : وحدثناه أحمد بن محمد عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك مثله.

هكذا قال ابن شعبان والذي في الموطأ لابن القاسم في هذا الحديث الإرسال كرواية يحيى وغيره.

والأسكركة : نبيذ الأرز، وقيل : نبيذ الذرة، وقد تقدم قولنا في تحريم المسكر في باب إسحاق بن أبي طلحة من كتابنا هذا موضحا مستوعبا.

وقوله ﷺ : "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام" يدخل فيه الغبيراء وغيرها وبالله التوفيق. حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ : "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وقال : "إن الله ورسوله حرما الخمر والميسر والكوبة والغبيراء".

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن صفوان ابن محرز المازني قال سمعت أبا موسى يخطب على هذا المنبر وهو يقول ألا إن خمر أهل المدينة البسر والتمر وخمر أهل فارس العنب وخمر أهل اليمن البتع وهو العسل وخمر أهل الحبشة الأسكركة وهو الأرز.

آخر مراسيل عطاء بن يسار والحمد لله وحده.

حديث حاد وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

يستند ويتصل من وجوه ثابتة من حديث مالك وغيره.

مالك عن زيد بن أسلم أنه قال قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله ﷺ : "إن من البيان لسحرا" أو "إن بعض البيان لسحر".

هكذا رواه يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وما أظن أرسله عن مالك غيره وقد وصله جماعة عن مالك منهم القعنبي وابن وهب وابن القاسم وابن بكير وابن نافع ومطرف والتنيسي رووه كلهم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ وهو الصواب وسماع زيد بن أسلم من ابن عمر صحيح وقد تقدم القول في ذلك في كتابنا هذا في أول باب زيد ابن أسلم.

حدثنا أبو محمد بن عبد الله بن محمد الجهني قال حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله ﷺ : "إن من البيان لسحرا" أو "إن بعض البيان لسحر".

ورواه القطان أيضا عن مالك هكذا مسندا حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال قدم رجلان فخطبا فعجب الناس من بيانهما فقال رسول الله ﷺ : "إن من البيان لسحرا". وهكذا رواه الثوري وابن عينية! وزهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر إلا أن في روايتهم فخطبا أو خطب أحدهما وقد روي عن النبي ﷺ قوله : "إن من البيان لسحرا" من وجوه غير هذا من حديث عمار وغيره واختلف في المعنى المقصود إليه بهذا الخبر فقيل قصد به إلى ذم البلاغة إذ شبهت بالسحر والسحر محرم مذموم وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق والتفيهق والتشدق وقد جاء في الثرثارين المتفيهقين ما جاء من الذم وإلى هذا المعنى ذهب طائفة من أصحاب مالك واستدلوا على ذلك بإدخال مالك له في موطئه في باب ما يكره من الكلام وأبى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله ﷺ : "إن من البيان لسحرا" مدحا وثناء وتفضيلا للبيان وإطراء وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر ولفظه على ما نورده في هذا الباب إن شاء الله.

روى علي بن حرب الموصلي عن أبي سعيد الهيثم بن محفوظ عن أبي المقوم يحيى بن ثعلبة الأنصاري عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال اجتمع عند النبي ﷺ قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم ففخر الزبرقان فقال : يا رسول الله أنا سيد تميم المطاع فيهم والمجاب منهم آخذ لهم بحقوقهم وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم فقال عمرو وإنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أدانيه فقال الزبرقان والله لقد كذب يا رسول الله وما يمنعه أن يتكلم إلا الحسد فقال عمرو أنا أحسدك فوالله لبئيس الخال حديث المال أحمق الوالد مبغض في العشيرة والله يا رسول الله ما كذبت فيما قلت أولا ولقد صدقت فيما قلت آخرا رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما وجدت ولقد صدقت في الأمرين جميعا فقال النبي ﷺ : "إن من البيان لسحرا".

وروى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال قدم على رسول الله ﷺ الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم فقال رسول الله ﷺ لعمرو : "أخبرني عن الزبرقان فقال : هو مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره قال الزبرقان هو والله يا رسول الله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقته في الأولى وما كذبته في الأخرى أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله ﷺ : "إن من البيان لسحرا".

وذكر جماعة من أهل الأخبار منهم المدائني وغيره أن رسول الله ﷺ قال لعمرو بن الأهتم أخبرني عن الزبرقان بن بدر فقال هو مطاع في أدانيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني فقال عمرو أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الآخرة رضيت فقلت أحسن ما علمت وسخطت فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله ﷺ : "إن من البيان لسحرا" وفي هذا دليل على مدح البيان وفضل البلاغة والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها وفيه المجاز والاستعارة الحسنة لأن البيان ليس بسحر على الحقيقة.

وفيه الإفراط في المدح لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر وأصل لفظة السحر عند العرب الاستمالة وكل من استمالك فقد سحرك وقد ذهب هذا القول منه ﷺ مثلا سائرا في الناس إذا سمعوا كلاما يعجبهم قالوا إن من البيان لسحرا ويقولون في مثل هذا أيضا هذا السحر الحلال ونحو ذلك قد صار هذا مثلا أيضا وروي أن سائلا سأل عمر بن عبد العزيز حاجة بكلام أعجبه فقال عمر هذا والله السحر الحلال وقال ابن الرومي عفا الله عنه في هذا المعنى فأحسن :

وحديثها السحر الحلال لو أنها ... لم تجن قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز

شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للسامعين وعقلة المستوفز

ومن هذا ما أنشدني يوسف بن هارون في قصيدة له :

نطقت بسحر بعدها غير أنه ... من السحر ما لم يختلف في حلاله

كذاك ابن سيرين بنفثة يوسف ... تكلم في الرؤيا بمثل مقاله

وفي هذا الحديث ما يدل على أن التعجب من الإحسان والبيان موجود في طباع ذوي العقول والبلاغة وكان ﷺ قد أوتي جوامع الكلم إلا أنه بإنصافه كان يعرف لكل ذي فضل فضله.

وفي هذا ما يدل على أن أبصر الناس بالشيء أشدهم فرحا بالجيد منه ما لم يكن حسودا وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب والتفيهق فقد روي في الثرثارين المتفيهقين أنهم أبغض الناس إلى الله ورسوله.

وهذا والله أعلم إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل وتحسينه بلفظه ويريد إقامته في صورة الحق فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ وأما قول الحق فحسن جميل على كل حال كان فيه إطناب أو لم يكن إذا لم يتجاوز الحق وإن كنت أحب أوساط الأمور فإن ذلك أعدلها والذي اتفق العلماء باللغة في مدحه من البلاغة والإيجاز والاختصار وإدراك المعاني الجسيمة بالألفاظ اليسيرة ويقال إن الرجلين اللذين خطبا أو أحدهما عند رسول الله ﷺ المذكورين في هذا الحديث عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر.

قال أبو عمر: أما قوله لزمر فالزمر القليل أراد قليل المروءة والعطن الفناء وقوله ضيق العطن كناية عن البخل.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا ابن إدريس عن مالك بن مغول قال كان زيد بن إياس يقول للشعبي يا مبطل الحاجات يعني أنه يشغل جلساءه عن حوائجهم بحسن حديثه.

حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سعيد المهراني قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا العتبي عمن حدثه قال كان الشعبي إذا سمع حديثا ورده فكأنه زاد فيه من تحسينه للفظه فسمع يوما حديثا وقد سمعه معه جليس له يقال له رزين فرده الشعبي وحسنه فقال له رزين اتق الله يا أبا عمرو ليس هكذا الحديث فقال له الشعبي يا رزين ما كان أحوجك إلى محدرج شديد الجلد لين المهزة عظيم الثمرة أخذ ما بين مغرز عنق إلى عجب ذنب يوضع منك في مثل ذلك فتكثر له رقصاتك من غير جذل فلم يدر ما قال له فقال وما ذاك قال شيء لنا فيه أرب ولك فيه أدب.

ومن أحسن ما قيل في مدح البلاغة من النظم قول حسان بن ثابت في ابن عباس :

صموت إذا ما الصمت زين أهله ... وفتاق أبكار الكلام المختم

وعى ما وعى القرآن من كل حكمة ... ونيطت له الآداب باللحم والدم

وقال ثعلب : لا أعرف في حسن صفة الكلام أحسن من هذين البيتين وهما لعدي بن الحرث التيمي :

كأن كلام الناس جمع عنده ... فيأخذ من أطرافه يتخير

فلم يرض إلا كل بكر ثقيلة ... تكاد بيانا من دم الجوف تقطر

قال أبو عمر: البيتان اللذان قبلهما خير منهما ولحسان أيضا في ابن عباس رضي الله عنه ويروى للحطيئة :

إذا قال لم يترك مقالا لقائل... بمنتظمات لا ترى بينها فصلا

يقول مقالا لا يقولون مثله ... كنحت الصفا لم يبق في غاية فضلا

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي أربة في القول جدا ولا هزلا

في أبيات له.

ولغيره فيه أيضا :

إذا قال لم يترك صوابا ولم يقف ... بعي ولم يثن اللسان على هجر

وقال بكر بن سوادة في خالد بن صفوان :

عليم بتنزيل الكلام ملقن ... ذكور لما سداه أول أولا

ترى خطباء الناس يوم ارتجاله... كأنهم الكروان عاين أجدلا

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال حدثنا سعيد بن محمد قال حدثنا أبو تميلة قال حدثنا أبو جعفر النحوى عبد الله بن ثابت قال حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا وإن من الشعر حكما وإن من القول عيالا" فقال صعصعة بن صوحان صدق رسول الله ﷺ أما قوله : "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق فهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق

وأما قوله : "إن من العلم جهلا" فتكلف العالم إلى علمه مالا يعمله فيجهله ذلك وأما قوله : "إن من الشعر حكما" فهي هذه المواعظ التي يتعظ بها الناس

وأما قوله : "إن من القول عيالا" فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده.

قال أبو عمر: قوله ﷺ إن من الشعر حكما أراد حكمة وذلك نحو قوله عز وجل : {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام : من الآية89] يعني الحكمة والنبوة وهذا أعرف وأشهر من أن يحتاج إلى شاهد وبالله التوفيق.

حديث ثان وأربعون لزيد بن أسلم منقطع في رواية يحيى

وهو مسند صحيح من رواية القعنبي وغيره

مالك عن زيد ين أسلم أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله ﷺ عن الكلالة فقال رسول الله ﷺ : "يكفيك من ذلك الآية التي نزلت في الصيف في سورة النساء".

هكذا رواه يحيى مرسلا وتابعه أكثر الرواة على إرساله ووصله القعنبي وابن القاسم على اختلاف عنه فقالا فيه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب.

ورواه ابن وهب ومطرف وابن بكير وأبو المصعب ومصعب ومعن وابن عفير كما رواه يحيى لم يقولوا عن أبيه وقد تقدم القول في رواية أسلم عن مولاه أنها محمولة عند أهل العلم على الإتصال وقد رواه الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر كما قال يحيى وغيره.

حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا أحمد بن محمد المكي قال حدثنا علي بن عبد العزيز وحدثنا قال حدثنا بكر بن علاء القاضي قال حدثنا أحمد بن موسى الشامي قالا جميعا حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله ﷺ عن الكلالة فقال رسول الله ﷺ : "يكفيك من ذلك الآية التي نزلت في الصيف في آخر سورة النساء". هكذا قال القعنبي وقد روى هذا الحديث مسندا من حديث البراء بن عازب وسنذكره إن شاء الله.

وفي هذا الحديث دليل على أن العالم إذا سئل عما فيه خبر في الكتاب أو في السنة ويكون دليل ذلك الخطاب بينا أن له أن يحيل السائل عليه ويكله إلى فهمه فيه إذا كان السائل ممن يصلح لهذا ونزل تلك المنزلة.

وفيه دليل على استعمال عموم اللفظ وظاهره ما لم يرد شيء يخصه.

واختلف الناس في معنى الكلالة فأما أهل اللغة فقال ابن الأنباري وغيره قوله كلالة هو أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد قالوا وقيل هي مصدر من تكلله النسب أي أحاط به ومنه سمى الإكليل وهو منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها ومنه الإكليل وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس سمي بذلك لإحاطته بالرأس فجرى لفظ الكلالة مجرى الشجاعة والسماحة والأب والابن طرفا الرجل فإذا ذهبا تكلله النسب أي أحاط به ومنه قيل روضة مكللة إذا حفت بالنور وقال بعضهم : هي اسم للمصيبة في تكلل النسب وأنشدوا :

مسكنه روضة مكللة ... عم بها الأيهقان والذرق

يعني نبتين وقال الخليل كل الرجل كلالة إذا لم يكن له ولد وكلل إذا ذهب وروضة مكللة بالنور أي محفوفة به وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة يورث كلالة مصدر من تكلله النسب أي أحاط به وتعطف عليه قال أبو عبيدة ومن قرأ يورث كلالة فهم العصبة الرجال الورثة وذكر إسماعيل القاضي كلام أبي عبيدة هذا إلى آخره ثم قال ويشبه أن تكون اللغة تحتمل هذا كله يعني ما ذكره عن العلماء من قولهم الكلالة من لا ولد له ولا والد إلى سائر ما ذكر مما سنذكر أكثره في هذا الباب ثم قال إسماعيل فأريد بالآية التي في أول سورة النساء من لا أب له ولا جد وأريد بالآية التي في آخر سورة النساء من لا ولد له وإنما أوجب قول من قال في الكلالة في أول سورة النساء أنه من لا ولد له ولا والد لأن الجد في هذا الموضع يمنع الإخوة للأم كما منعهم الأب ولم يوجب هذا أن الجد يقوم مقام الأب مع الإخوة من الأب لأن البنت قد منعت الإخوة من الأم كما منعهم الأب والجد لا يقوم مقام الأب مع الإخوة من الأب وقد يقوم الوارث مقام الوارث في منع بعض الوارثين ولا يقوم مقامه في منع كل ما يمنعه الآخر قال وحدثنا أبو المصعب قال قال مالك كل من ترك ولدا ذكرا أو ابن ابن ذكر فإنه لم يورث كلالة وإن ترك ابنة أو ابنتين فإن البنتين ليستا بكلالة والذي ورث معهما كلالة.

قال أبو عمر: الكلالة في هذا الموضع عند العلماء بلسان العرب ومعاني كتاب الله تعالى هم المتكللون من الورثة برحم الميت ممن لم يلد الميت ولا ولده الميت وذلك أنهم حوالي الميت وليسوا بآبائه ولا بأبنائه الذين خرج منهم وخرجوا منه فهم الإخوة للأب والأم وللأم ثم بعدهم سائر العصبة يجرون مجراهم ولذلك قال العلماء الكلالة من لا ولد له ولا والد.

وأما ذكر أبي عبيدة الأخ هاهنا مع الأب والإبن في شرط الكلالة حيث قال هو كل من لم يرثه أب ولا ابن ولا أخ، فذكر الأخ في ذلك غلط لا وجه له ولم يذكره في شرط الكلالة غيره إلا أن لقوله وجها ضعيفا يخرج على معنى من معاني توريث الجد مع الإخوة وهو مع ذلك بعيد في تأويل قول الله تعالى في الكلالة وسنبين خطأ قوله ذلك في هذا الباب بعد ذكر الآثار المرفوعة وأقاويل الصحابة فيه إن شاء الله.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله قول الله عز وجل : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء : من الآية176] قال : "تجزيك آية الصيف يقول لأنها نزلت في الصيف" قال أبو بكر بن عياض فقلت لأبي إسحاق : هو الرجل يموت ولا يدع ولدا ولا والدا قال كذلك ظن الناس وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول آخر آية نزلت آية الكلالة وآخر سورة نزلت سورة براة.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة قال سمعت محمد بن المنكدر يقول سمعت جابر بن عبد الله يقول دخل عليّ النبي ﷺ وأنا مريض فتوضأ فصبه علي فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فنزلت آية الفرائض.

قال أبو عمر: قالوا ولم يكن لجابر يومئذ ولد ولا والد لأن والده قتل يوم أحد ونزلت آية الكلالة بعد ذلك.

وأخبرنا أحمد بن محمد وسعيد بن نصر قالا حدثنا وهب بن مسرة وقال سعيد حدثنا قاسم بن أصبغ قالا حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر سمع جابرا يقول مرضت فجاءني رسول الله ﷺ يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فقلت يا رسول الله كيف أقضي في مالي كيف أصنع فلم يجبني حتى نزلت آية الكلالة وروى أشعث عن أبي الزبير عن جابر أنه قال اشتكيت وعندي سبع أخوات لي فدخل على رسول الله ﷺ فقال : "يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا فإن الله قد أنزل وبين لأخواتك" فجعل لهن الثلثين فكان جابر يقول في نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء : من الآية176] وروى هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر أنه حدثه قال اشتكيت فذكر مثله إلى آخره سواء.

حدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا إسحاق يعني ابن الطباع قال حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل رسول الله ﷺ عن الكلالة فأمهلت حتى لبس ثيابه ثم سألته فأمله عليها في كتف وقال : "من أمرك بهذا؟ أعمر؟ ما أظنه فهمها أو لم تكفه الآية التي نزلت في الصيف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فأتته حفصة بالكتف فجعل عمر يقرأ حتى انتهى إلى قوله : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء : من الآية176] فقال اللهم من فهمها فإني لم أفهمها".

وروى عبد الأعلى عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال نزلت آية الكلالة على رسول الله ﷺ وهو في مسير له فالتفت فإذا هو بحذيفة إلى جنبه فلقنه إياها فنظر حذيفة فإذا عمر فلقنه إياها فلما كان في خلافة عمر ونظر في الكلالة لقي حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة لقننيها النبي ﷺ فلقنتك كما لقنني والله لا أزيدك على هذا أبدا.

قال أبو عمر: طعن قوم من الملحدين على عمر رضي الله عنه في هذه القصة ونسبوه إلى قلة الفهم فأوضحوا جهلهم وكشفوا قلة فهمهم وسرحوا عن بدعتهم وقد عرف المسلمون موضع فطنة عمر وفهمه وذكائه حتى لقد كان يسبق التنزيل بفطنته فينزل القرآن على ظنه ومراده وهذا محفوظ معلوم عنه في غير ما قصة منها نزول آية الحجاب وآية فداء الأسرى وآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة : من الآية125] .

وآية تحريم الخمر وغير ذلك مما يطول ذكره ولا يجهل فضائله وموضعه من العلم إلا من سفه نفسه ولعمري إن في هذا الخبر عنه في الكلالة ما يزيد في فضله ويوضح عن فهمه ومنزلته عند رسول الله ﷺ لأنه لو لم يكن عند رسول الله ﷺ ممن يقوم باستخراج التأويل واستنباط المعاني من التنزيل لما رد رسول الله ﷺ هذا ومثله إلى نظره واستنباطه وإلى بصره واستخراجه ولما قال له يكفيك آية الصيف ولو كان عنده ممن لا يدرك استخراج التأويل من ظاهر التنزيل لما كفته عنده الآية ولبين له ما يحتاج من ذلك إليه وأوضح له ما أشكل عليه إذ كان بيانه واجبا لازما له ﷺ وروى يحيى بن آدم عن شريك عن حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد.

وعن شريك أيضا عن مجالد عن عامر الشعبي قالا : كان عمر بن الخطاب يرى الرأي فينزل به القرآن.

حدثني عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فقال إني لا أدع بعدي شيئا أهم من الكلالة وما راجعت رسول الله ﷺ في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء منذ صاحبته ما أغلظ لي في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : "يا عمر أما تكفيك آية الصيف التي أنزلت في سورة النساء". وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال قال عمر لأن أكون سألت النبي ﷺ عن ثلاث أحب إلى من كذا عن الكلالة وذكر باقي الحديث.

وأخبرنا خلف بن القاسم قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي قال حدثنا محمد بن علي بن زيد قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أبو حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول على منبر المدينة وددت أن رسول الله ﷺ لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا ننتهي إليه في الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وذكر حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن عمر أنه قال لابن عباس وسعيد بن زيد وابن عمر حين طعن اعلموا أنه من أدرك وفاتي من سبى العرب من مال الله فهو حر وأعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا وأعلموا أني لم أستخلف أحدا وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عاصم بن سليمان عن الشعبي قال كان عمر يقول : الكلالة من لا ولد له فلما طعن قال إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر أرى الكلالة ما عدا الولد والوالد. وروى عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبيد السلولي عن ابن عباس قال : الكلالة ما خلا الولد والوالد وروى عن ابن المديني وغيره عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أخبرني الحسن بن محمد قال سألت ابن عباس عن الكلالة فقال : "ما عدا الولد والوالد" قلت : إن الله يقول : {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء : من الآية176] فغضب وانتهرني.

وروى يزيد بن هارون قال أخبرنا عاصم الأحول عن الشعبي قال سئل أبو بكر عن الكلالة فقال أني سأقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراها ما خلا الولد والوالد فلما استخلف عمر قال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر.

وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال قال عمر وعبد الله ثلاث لأن يكون النبي ﷺ بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا رواه وكيع عن سفيان بإسناده ولم يذكر فيه عبد الله.

حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا : الكلالة من لا ولد له ولا والد وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات وليس له ولد ولا والد قال يحيى وحدثنا عبد الرحيم عن محمد بن سالم عن الشعبي قال : الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة وغيرهم من العصبة كذلك قال علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل قالوا : الكلالة من ليس له ولد ولا والد وذكر ابن أبي حاتم عن موسى بن الأهوازي عن أبي هشام الرفاعي قال : سمعت يحيى بن آدم يقول قد اختلفوا في الكلالة وصار المجتمع عليه ما خلا الولد والوالد.

قال أبو عمر: قد فسر مالك الكلالة في موطئه تفسيرا حسنا فقال : الأمر المجتمع عليه الذي لا خلاف فيه والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن الكلالة على وجهين أما الآية التي في سورة النساء التي قال الله عز وجل فيها : {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء : من الآية12] فهذه الكلالة التي لا يرث الإخوة للأم فيها حتى لا يكون ولد ولا والد قال مالك وأما الآية التي في آخر سورة النساء {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء : 176] قال فهذه الكلالة التي يكون فيها الإخوة عصبة إذا لم يكن ولد فيرثون مع الجد في الكلالة قال والجد يرث مع الإخوة لأنه أولى بالميراث منهم وذلك أنه يرث مع ذكور بني المتوفى السدس ولا يرث الإخوة معهم شيئا قال وكيف لا يأخذ مع الإخوة وهو يحجب بنى الأم عن الميراث وبنو الأم يأخذون مع الإخوة الثلث.

قال أبو عمر: ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين ولم يذكر في كلا الموضعين وارثاً غير الإخوة فأما الآية التي في صدر سورة النساء قوله : {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء : من الآية12] فقد أجمع العلماء أن الإخوة في هذه الآية عنى بهم الإخوة للأم ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا.

وقد روى عن بعض الصحابة أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم فدل هذا مع ما ذكرنا من إجماعهم على أن المراد في هذه الآية الإخوة للأم خاصة.

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا إبراهيم بن عبد الله قال اخبرنا هشيم قال أخبرنا يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن قائف قال سمعت سعدا يقرأ {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ "من أمه"}. ورواه شعبة عن يعلى بن عطاء مثله بإسناده سواء وأما الآية التي في آخر سورة النساء قوله تعالى : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء : من الآية176] الآية إلى قوله : {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء : من الآية176] فلم يختلف علماء المسلمين قديما وحديثا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في هذه الآية هم اخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه ودلت الآيتان جميعا أن الإخوة كلهم كلالة وأنهم إذا ورثوا المتوفى فإنه يورث كلالة وهذا ما لا خلاف فيه ولهذا والله أعلم قال من قال من الصحابة أن من وراثه من عدا الوالد والولد كلالة لأن الإخوة إذا كانوا كلالة كان من هو أبعد منهم أولى أن يسمى كلالة.

وقد اختلف الناس في المسمى بالكلالة أهو الميت الذي لا ولد له ولا والد أم ورثته فقال أكثر المدنيين والكوفيين الكلالة الورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد وقال البصريون الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد وروى ذلك عن ابن عباس وقال أبو زيد الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا والد والحي الذي ليس بولد الميت ولا والد وهو يرثه هذا يورث بالكلالة وهذا يرث بالكلالة.

وروي عن عمر بن الخطاب روايتان إحداهما أن الكلالة من لا ولد له ولا والد والأخرى من لا ولد له خاصة وقد ذكرنا ذلك.

وروى عن عطاء قول شاذ قال أن الكلالة المال.

وقد قرأ بعض الكوفيين يورث كلالة بكسر الراء وتشديدها وقرأ الحسن وأيوب يورث بكسر الراء وتخفيفها على اختلاف عنهما وعلى هاتين الروايتين لا تكون الكلالة إلا الورثة والمال كذلك حكى أصحاب المعاني.

فمن قرأ يورث بفتح الراء قال هو الميت يورث كلالة وجعل نصب الكلالة على المصدر كما تقدم لأبي عبيد وغيره.

ومن قرأ يورث كلالة بكسر الراء جعل الكلالة الورثة ومن حجة من قال بهذا القول مع هذه القراءة حديث جابر الذي تقدم ذكره قوله لا يرثني إلا كلالة.

وقال الطبري : الصواب أن الكلالة هم الذي يرثون الميت من عدا ولده ووالده لصحة حديث جابر أنه قال : قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة وقد روى عن سعد بن أبي وقاص في حديث الوصية بالثلث نحو هذا اللفظ ولا يصح وقرأ جمهور القراء يورث بفتح الراء والله الموفق للصواب.

حديث ثالث وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أنه قال : "عرس رسول الله ﷺ ليلة بطريق مكة ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس فاستيقظ القوم وقد فزعوا فأمرهم رسول الله ﷺ أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال إن هذا واد به شيطان فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ثم أمرهم رسول الله ﷺ أن ينزلوا وأن يتوضأوا وأمر بلالا أن ينادي بالصلاة أو يقيم فصلى رسول الله ﷺ بالناس ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم فقال يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في هذا فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلها كما كان يصليها في وقتها ثم التفت رسول الله ﷺ إلى أبي بكر فقال إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ثم دعا رسول الله ﷺ بلالا فأخبر بلال رسول الله ﷺ مثل الذي أخبر رسول الله أبا بكر فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله".

هكذا هذا الحديث في الموطآت لم يسنده عن زيد أحد من رواة الموطأ وقد جاء معناه متصلا مسندا من وجوه صحاح ثابتة في نومه ﷺ عن صلاة الصبح في سفره روى ذلك جماعة من الصحابة وأظنها قصة لم تعرض له إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار والله أعلم إلا أن بعضها فيه مرجعه من خيبر كذا قال ابن شهاب عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا وهو أقوى ما يروى في ذلك وهو الصحيح إن شاء الله وقول زيد بن ثابت حديثه هذا بطريق مكة ليس بمخالف لأن طريق خيبر وطريق مكة من المدينة يشبه أن يكون واحدا وربما جعلته القوافل واحدا وحديث زيد بن أسلم هذا مرسل وليس مما يعارض حديث ابن شهاب وفي حديث ابن مسعود : "من يوقظنا فقلت أنا أوقظكم" وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال لأنه لم يقل له أيقظنا ويحتمل أن لا يجيبه إلى ذلك ويأمر بلالا وقال ابن مسعود في هذا الحديث زمن الحديبية وهو زمن واحد في عام واحد لأنه منصرفه من الحديبية مضى إلى خيبر من عامه ذلك ففتحها الله عليه وفي الحديبية نزلت : {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح : من الآية20] يعني خيبر وكذلك قسمها رسول الله ﷺ على أهل الحديبية وروى خالد بن سمير عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة في هذا الحديث أنه كان في جيش الأمراء وهذا وهم عند الجميع لأن جيش الأمراء كان في غزاة مؤتة وكانت سرية لم يشهدها رسول الله ﷺ كان الأمير عليها زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة وفيها قتلوا رحمهم الله.

وقد روى هذا الحديث ثابت البناني وسليمان التيمي عن عبد الله بن رباح على غير ما رواه خالد بن سمير وما قالوه فهو عند العلماء الصواب دون ما قاله خالد بن سمير وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت غزوة تبوك وهذا لا يصح والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة،

وقوله مرسل ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سعد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار أنها غزوة تبوك "وأن النبي ﷺ أمر بلالا فأذن في مضجعه ذلك بالأولى ثم مشوا قليلا ثم أقام فصلوا الصبح". وسنذكر في هذا الباب جميع هذه الآثار إن شاء الله ونومه ﷺ في ذلك الوقت عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس أمر خارج والله أعلم عن عادته وطباعه وطباع الأنبياء قبله وأظن الأنبياء مخصوصين بأن تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم على ما روى عنه ﷺ وإنما كان نومه ذلك ليكون سنة والله أعلم وليعلم المؤمنون كيف حكم من نام عن الصلاة أو نسيها حتى يخرج وقتها وهو من باب قوله عليه السلام إني لأنسى أو أنسى لأسن والذي كانت عليه جبلته وعادته ﷺ أن لا يخامر النوم قلبه ولا يخالط نفسه وإنما كانت تنام عينه وقد ثبت عنه أنه قال : "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" وهذا على العموم لأنه جاء عنه ﷺ : "إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا". ولا يجوز أن يكون مخصوصا بذلك لأنها خصلة لم يعدها في الست التي أوتيها ولم يؤتها أحد قبله من الأنبياء فلما أراد الله منه ما أراد ليبين لأمته ﷺ قبض روحه وروح من معه في نومهم ذلك وصرفها إليهم بعد طلوع الشمس ليبين لهم مراده على لسان رسوله ﷺ وعلى هذا التأويل جماعة أهل الفقه والأثر وهو واضح والمخالف فيه مبتدع وللكلام عليه موضع غير هذا وبالله تعالى التوفيق.

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا الحسن بن الخضر الأسيوطي وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قالا جميعا حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال أخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة أم المؤمنين كيف كانت صلاة رسول الله ﷺ في رمضان فذكر الحديث وفيه قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال : "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". وأما قوله في هذا الحديث : "عرس رسول الله ﷺ" فلا خلاف علمته بين أهل اللغة أن التعريس نزول المسافرين في آخر الليل ولا يقال لمن نزل أول الليل عرس وأما قوله : "يهدئه كما يهدأ الصبي" فمعناه يسكنه ويعلله حتى نام وروى أهل الحديث هذه اللفظة بترك الهمز وأصلها الهمز عندأهل اللغة قال إبراهيم بن هرمة :

خود تعاطيك بعد رقدتها ... إذا تلاقى العيون مهدؤها

ومنه الحديث : "إياكم والسمر بعد هدأة الرجل". وفي فزع أصحاب رسول الله ﷺ حين انتبهوا لما فاتهم من صلاتهم أوضح الدلائل على ما كان القوم عليه من الوجل والإشفاق والخوف لربهم وأظنهم والله أعلم لم يكونوا علموا أن القلم مرفوع عن النائم وأن الإثم عنه ساقط لأنهم بعث إليهم وهم لا يعلمون شيئا فعرفهم رسول الله ﷺ أن الإثم عن النائم والناسي ساقط وأن الصلاة غير ساقطة وأنه يلزمه فعلها متى ما انتبه وذكرها وقد ظن بعض الناس أن فزعهم كان لخوف عدوهم وليس في شيء من الآثار ما يدل على ذلك ولا يعرف أهل السير أن منصرفه من خيبر أو من الحديبية كان انصراف خائف.

وفي هذا الحديث لمن تدبره ما يبين به تأويلنا لأن فيه ثم انصرف رسول الله ﷺ إليهم وقد رأى من فزعهم فقال : "يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا". الحديث فأنسهم رسول الله ﷺ وأخبرهم أن من نام عن الصلاة أو نسيها قضاها إذا انتبه أو ذكر وقال لهم عند ذلك في حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة لمن لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وقد قام رسول الله ﷺ حين كسفت الشمس إلى الصلاة فزعا يجر ثوبه رواه أبو بكرة وغيره وذلك خوف لربه وشفقة من قيام الساعة.

وأما خروجه ﷺ من ذلك الوادي وتركه الصلاة فيه فاختلف العلماء في ذلك فذهب أكثر أهل الحجاز وجماعة من أهل العراق إلى أن العلة فيه ما بينه رسول الله ﷺ بقوله إن هذا واد به شيطان ألا ترى إلى قوله عليه السلام أن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي فأمرهم رسول الله ﷺ بالركوب والإسراع والخروج من ذلك الوادي لأنه واد به شيطان تشاؤما بذلك الوادي أو لما شاء الله مما هو أعلم به وقد روى أنه قال في هذا الحديث : "اخرجوا عن هذا الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة" ذكره معمر عن الزهري في حديثه.

ويحتمل أن يكون من باب نهيه عن الصلاة في معاطن الإبل وقوله أنها خلقت من جن والله أعلم ومن هذا قول علي : "نهاني رسول الله ﷺ أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة". ومن هذا الباب أيضا كراهيتهم للصلاة في موضع الخسف لقوله ﷺ حين مر بالحجر من ثمود : "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم" . وقد روى أن رسول الله ﷺ لما أتى وادي ثمود أمر الناس فأسرعوا وقال : "هذا واد ملعون" وروي عنه أنه أمر بالعجين فطرح فهذا كله باب واحد لا تدري علته حقيقة فوجب أن يكون خصوصا مردودا إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها وبالله تعالى التوفيق.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : العلة في خروجه من ذلك الوادي أنه انتبه والشمس طالعة وذلك وقت من سنته أن لا تجوز الصلاة فيه لا نافلة ولا فريضة عندهم لنهي رسول الله ﷺ عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وذلك عندهم على الفرض والنفل على حسب نهيه عن صيام يوم الفطر والأضحى فلا يجوز لأحد أن يصوم فيه فرضا ولا نفلا واحتجوا بأشياء يطول ذكرها منها حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان رسول الله ﷺ يقول : "إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب" . قالوا وهذا على الفريضة وغيرها. وقد ذكرنا قولهم هذا وذكرنا الحجة عليهم فيما ذهبوا إليه من ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا.

وقد روينا عن النبي ﷺ أنه لم ينتبه ذلك اليوم إلا والشمس لها حرارة ولا يكون للشمس حرارة إلا وقد ارتفعت وجازت الصلاة عند الجميع فبطل تأويلهم هذا إن شاء الله وسنذكر هذا الخبر وغيره من شكله في هذا الباب بعون الله.

وتأولوا في قوله ﷺ : "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" أن ذلك إعلام منه بأنها غير ساقطة عن النائم والناسي لا أنها تصلى في وقت الطلوع والغروب والحجة عليهم فيما ذهبوا إليه من هذا التأويل قوله ﷺ : "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" . ومعلوم أن ظاهر هذا الحديث يبيح الصلاة المفروضة عند طلوع الشمس وعند غروبها وهذا نص يقطع الارتياب في هذا الباب وقد تقدم من قولنا فيه ما يغني عن إعادته ها هنا وجاء عن عطاء بن أبي رباح أنه ﷺ صلى في موضعه ذلك ركعتي الفجر ذكر عبد الرزاق قال أخبرني ابن جريج عن عطاء أن النبي ﷺ بينما هو في بعض أسفاره فساروا ليلتهم حتى إذا كانوا في آخر الليل نزلوا للتعريس فقال النبي ﷺ : "من يوقظنا للصبح؟ فقال بلال : أنا فتوسد بلال ذراعه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس فقام النبي ﷺ فتوضأ وركع ركعتين في معرسه ثم سار ساعة ثم صلى الصبح قال ابن جريج فقلت لعطاء أي سفر هو قال لا أدري" ؟

قال أبو عمر: في قول عطاء هذا ما يدل على أن النبي ﷺ لم يؤخر صلاة الصبح يومئذ ولم يخرج من ذلك الوادي لما زعم العراقيون من أنه انتبه في وقت لا تجوز فيه الصلاة ألا ترى أنه صلى ركعتي الفجر ثم مشى ساعة ولا خلاف أن الوقت الذي تجوز فيه النافلة فالفريضة أحرى أن تجوز فيه واختلف القائلون بالقول الأول فقال منهم قائلون من نام عن الصلاة في سفره ثم انتبه لزمه الزوال عن ذلك الموضع وإن كان واديا خرج عنه لقوله ﷺ : "إن الشيطان أتى بلالا وقوله اركبوا واخرجوا من هذا الوادي فإنه واد به شيطان". قالوا فكل موضع يصيب المسافرين أو غيرهم فيه مثل ما أصاب أصحاب رسول الله ﷺ معه عليه السلام في ذلك الموضع من النوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها فواجب الخروج عنه وإقامة الصلاة في غيره لأنه موضع شيطان وموضع ملعون ونزعوا بنحو ما قدمنا ذكره من العلل وقال منهم آخرون أما ذلك الوادي وحده إن علم وعرض فيه مثل ذلك العارض فواجب الخروج منه على ما صنع رسول الله ﷺ يومئذ وأما سائر المواضع فلا وذلك الموضع وحده مخصوص بذلك لأن الله عز وجل يقول : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه : من الآية14] وقال ﷺ : "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". وهذا على عمومه لم يخص موضعا من موضع إلا ما جاء في ذلك الوادي خاصة.

وقال آخرون كل من انتبه إلى صلاة من نوم أو ذكر بعد نسيان فواجب عليه أن يقيم صلاته بأعجل ما يمكنه ويصليها كما أمر في كل موضع واديا كان أو غير واد إذا كان الموضع طاهرا وسواء ذلك الوادي وغيره لأن ذلك كان خصوصا له ﷺ وكان يعلم من حضور الشيطان في الموضع ما لا يعلم غيره وقد جاء عنه ﷺ أنه قال : "جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا" ولم يخص ذلك الوادي من غيره.

حدثنا الحسين بن يعقوب قال حدثنا سعيد بن فحلون قال حدثنا يوسف بن يحيى قال حدثنا عبد الملك بن حبيب قال سمعت مطرفا وابن الماجشون يقولان لا يلزم الناس أن يقتادوا شيئا إذا استيقظوا في أسفارهم وقد طلعت الشمس لأنهم لا يعلمون من ذلك ما علم رسول الله ﷺ قالا ومن ابتلى بمثل ذلك في ذلك الوادي أو غيره صلى فيه ولم يخرج منه.

قال أبو عمر: القول المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان وموضع ملعون، لا يجوز أن تقام فيه الصلاة لأنا لا نعرف الموضع الذي ينفك عن الشياطين ولا الموضع الذي تحضره الشياطين وكل ما روى في هذا المعنى من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وفي الحمام وفي أعطان الإبل والخروج من ذلك الوادي وغير ذلك مما في هذا المعنى مما قد تقدم ذكرنا له كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع بعموم قوله ﷺ : "جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا" وقوله هذا ﷺ مخبرا أن ذلك من فضائله ومما خص به وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص قال ﷺ : "أوتيت خمسا". وقد روى ست وقد روى ثلاث وأربع وهي تنتهي إلى أزيد من سبع قال فيهن : "لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينما أنا نائم أوتيت بمفاتيح كنوز الأرض فوضعت بين يدي وأعطيت الكوثر وهو خير كثير وعدنيه ربي وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم من شرب منه لم يظمأ أبدا وختم بي النبيئون".

وهذه المعاني رواها جماعة من الصحابة وبعضهم يذكر بعضها ويذكر بعضهم ما لم يذكر الآخرون وهي صحاح كلها وإن لم تجتمع بإسناد واحد فهي في أسانيد صحيحة ثابتة وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا وكذلك روى عنه ﷺ أنه قال : "كنت عبدا قبل أن أكون نبيا ونبيا قبل أن أكون رسولا وقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم" ثم نزلت { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : من الآية2] .

وسمع رجلا يقول له يا خير البرية فقال ذلك إبراهيم وقال : "لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى" وقال : "السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" ثم قال بعد ذلك كله : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".

ففضائله ﷺ لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله فمن هاهنا قلنا أنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان وجائز فيها الزيادة وبقوله ﷺ : "جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا" أجزنا الصلاة في المقبرة وفي الحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس لأنه عموم فضيلة لا يجوز عليها الخصوص ولو صح عنه عليه السلام أنه قال : "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". فكيف وفي إسناد هذا الخبر من الضعف ما يمنع الاحتجاج به فلو صح لكان معناه أن يكون متقدما لقوله : "جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا" ، ويكون هذا القول متأخرا عنه فيكون زيادة فيما فضله الله به ﷺ.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال قال رسول الله ﷺ : "فضلنا على الناس بثلاث جعلت الأرض كلها لنا مسجدا وجعلت تربتها طهورا" وذكر الحديث.

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قراءة عليه وأنا أسمع أن سعيد بن عثمان حدثهم قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار هو أبو الحكم قال حدثنا يزيد الفقير قال حدثنا جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ : "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة". وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". قال وحدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة قال قال رسول الله ﷺ : "فضلت بأربع جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وذكر الحديث.

وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي سمع أباه سمع أبا ذر قال قال لي رسول الله ﷺ : "حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد". مختصرا وعن الأعمش أيضا عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر عن النبي ﷺ مثله وروى عن النبي ﷺ أنه قال : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" في تعديد فضائله ﷺ من وجوه كثيرة من حديث علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأبي موسى وحذيفة وهي آثار كلها صحاح ثابتة كرهت ذكرها بأسانيدها خشية الإطالة وقد ذكرها كلها أو أكثرها أبو بكر بن أبي شيبة في أول كتاب الفضائل من مصنفه وأما حديث المقبرة فرواه ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أزهر فمرة قال عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري عن علي بن أبي طالب ومرة قال عن ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بن أبي طالب قال نهاني حبي ﷺ أن أصلى في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة وهذا إسناد ضعيف مجتمع على ضعفه وهو مع هذا منقطع غير متصل بعلي رضي الله عنه وعمار والحجاج، ويحيى مجهولون لا يعرفون بغير هذا وابن لهيعة ويحيى بن أزهر ضعيفان لا يحتج بهما ولا بمثلهما وأبو صالح هذا هو سعيد بن عبد الرحمن الغفاري مصري ليس بمشهور أيضا ولا يصح له سماع من علي.

وفي هذا الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد رواه أبو نعيم الفضل بن ذكين قال حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال خرجنا مع علي إلى الحرورية فلما جاوزنا سورا وقع بأرض بابل قلنا يا أمير المؤمنين أمسيت الصلاة الصلاة فأبى أن يكلم أحدا قالوا يا أمير المؤمنين أليس قد أمسيت قال بلى ولكني لا أصلي في أرض خسف الله بها والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة قاله ابن معين وغيره وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي رضي الله عنه وفي النهي عن الصلاة في المقبرة حديث آخر أيضا رواه عبد الواحد بن زياد عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام".

وهذا الحديث رواه ابن عيينة عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة وليس مثله مما يحتج به ولو ثبت كان الوجه فيه ما ذكرنا ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنيين أن المقبرة المذكورة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة وهذا قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح ولا له مدخل في القياس ولا في المعقول ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر واحتج قائل هذا القول بما رواه ابن وهب قال أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال : "لا يصلى في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة ومحجة الطريق والحمام ومعاطن الإبل وفوق بيت الله عز وجل" .

وهذا حديث انفرد به زيد بن جبيرة، وأنكروه عليه ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا من رواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث فكتب إليه عبد الله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل ذكره الحلواني عن سعيد بن أبي مريم عن الليث فصح بهذا وشبهه أن الحديث منكر لا يجوز أن يحتج عند أهل العلم بمثله على أنه ليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها.

وأما حديث أبي سعيد الخدري ففيه من العلة ما وصفنا وليس فيه إلا المقبرة والحمام بالألف جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه ولا يخلو تخصيص من خصص مقبرة المشركين من أحد وجهين إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر لأن كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك وقد جل رسول الله ﷺ أن يتكلم بما لا معنى له أو يكون من أجل أنها بقعة سخط فلو كان كذلك ما كان رسول الله ﷺ ليبني مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبني عليها وقد أجاز العلماء الصلاة في الكنيسة إذا بسط فيها ثوب طاهر ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة لأنها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها وليس كذلك المقبرة وقد وردت السنة بإباحة اتخاذ البيع والكنائس مساجد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس أنه كان يكره أن يصلي في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل وروى أيوب وعبيد الله بن عمر وغيرهما عن نافع عن أسلم مولى عمر أن عمر لما قدم الشام صنع له رجل من عظماء النصارى طعاما ودعاه فقال عمر إنا لا ندخل كنائسكم ولا نصلي فيها من أجل ما فيها من الصور والتماثيل فلم يكره عمر ولا ابن عباس ذلك إلا من أجل ما فيها من التماثيل وحكى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم وعن الثوري عن جابر عن الشعبي قالا لا بأس بالصلاة في البيعة.

وأما جثث الموتى فقد اختلف فيها العلماء فمنهم من جعلها كلها سواء ويتحفظ عند غسل الميت من أن يطير إليه شيء من الماء ومنهم من حمل قول ابن مسعود : "لا تنجسوا من موتاكم" على أن جثث المؤمنين خاصة طاهرة وليس هذا موضع القول في هذه المسألة

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا رجاء بن المرجى قال حدثنا أبو همام قال حدثنا سعيد بن السائب عن محمد بن عبد الله بن عياض عن عثمان بن أبي العاصي أن النبي ﷺ أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.

وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي.

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هناد بن السري عن ملازم بن عمرو قال حدثني عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي والمعنى واحد وحديث هناد أتم قال خرجنا وفدا إلى النبي ﷺ فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا فذكر الحديث وفيه : " فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا" مختصرا.

وأجمع العلماء على أن التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة في موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة وقد كره جماعة من الفقهاء الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين للأحاديث المعلولة التي ذكرنا ولحديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا". ولحديث واثلة بن الأسقع عن أبي مرثد الغنوي عن النبي ﷺ أنه قال : "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها".

وهذان حديثان ثابتان من جهة الإسناد ولا حجة فيهما لأنهما محتملان للتأويل ولا يجوز أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا وممن كره الصلاة في المقبرة الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأصحابهم وقال الثوري إن صلى في المقبرة لم يعد وقال الشافعي إن صلى أحد في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة أجزأه ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكينا من خطل القول الذي لا يشتغل بمثله ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر لأن من كره الصلاة في المقبرة كرهها في كل مقبرة على ظاهر الحديث وعمومه ومن أباح الصلاة فيها دفع ذلك بما ذكرنا من التأويل والاعتلال وقد بنى رسول الله ﷺ مسجده في مقبرة المشركين حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري.

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قالا جميعا حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك المعنى واحد واللفظ متقارب قال : "قدم رسول الله ﷺ المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام فيها أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدين بسوفهم قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان رسول الله ﷺ يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا فقالوا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل قال أنس فكان فيه ما أقول لكم كانت فيه قبور المشركين وخرب ونخل فأمر النبي ﷺ بقبور المشركين فنبشت وبالنخل فقطع وبالخرب فسويت فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه حجارة وجعلوا ينقلون الصخر ويرتجزون والنبي ﷺ معهم ويقولون :

اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة"

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي التياح عن أنس بن مالك.

وذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي التياح عن أنس قال : "كان موضع مسجد رسول الله ﷺ حائطا لبني النجار فيه خرب ونخل وقبور المشركين فقال رسول الله ﷺ ثامنوني فيه فقالوا لا نلتمس به ثمنا إلا عند الله فأمر رسول الله ﷺ بالنخل فقطع وبالخرب فسوى وبقبور المشركين فنبشت قال وكان رسول الله ﷺ يصلي حيث أدركته الصلاة وفي مرابض الغنم".

فهذا رسول الله ﷺ قد بنى مسجده في موضع مقبرة المشركين ولو جاز أن يخص من المقابر مقبرة لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة لأن الألف واللام في المقبرة والحمام إشارة إلى الجنس لا إلى المعهود ولو كان بين مقبرة المسلمين والكفار فرق لبينه رسول الله ﷺ ولم يهمله لأنه بعث مبينا لمراد الله من عباده والقوم عرب لا يعرفون من الخطاب إلا استعمال عمومه ما لم يكن الخصوص والاستثناء يصحبه فلو أراد مقبرة دون مقبرة لوصفها ونعتها ولم يحل على لفظ المقبرة جملة لأن كل ما وقع عليه اسم مقبرة يدخل تحت قوله المقبرة هذا هو المعروف من حقيقة الخطاب وبالله التوفيق. ولو ساغ لجاهل أن يقول مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول حمام كذا لأن في الحديث إلا المقبرة والحمام وكذلك قوله : "المزبلة والمجزرة ومحجة الطريق" غير جائز أن يقال مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا لأن التحكم في دين الله غير سائغ والحمد لله.

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا العباس بن الوليد بن نصر النرسي قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ "نهى أن يصلى على القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه" قال موسى بن هارون قوله أن يصلى على القبر وهم وإنما هو أن يصلى إلى القبر وفي حديث زيد بن أسلم هذا ثم أمرهم رسول الله ﷺ أن ينزلوا ويتوضؤا وأمر بلالا أن يؤذن أو يقيم.

هكذا رواه يحيى على الشك وتابعه قوم واختلفت الآثار في ذلك على ما نذكره في هذا الباب إن شاء الله وأكثرها فيها أنه أذن وأقام وكذلك في أكثرها أنه صلى ركعتي الفجر وأمرهم أن يصلوها ثم صلى بهم الصبح ولم يذكر في بعضها أنه صلى ركعتي الفجر وهذا موضع قد تنازع فيه العلماء ومن ذكر شيئا وحفظه فهو حجة على من لم يذكر.

فأما اختلافهم في الأذان والإقامة للصلوات الفوائت فإن مالكا والأوزاعي والشافعي وأصحابهم قالوا فيمن فاتته صلاة أو صلوات حتى خرج وقتها أنه يقيم لكل واحدة إقامة ولا يؤذن وقال الثوري : ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : من فاتته صلاة واحدة صلاها بأذان وإقامة فإن لم يفعل فصلاته تامة وقال محمد بن الحسن إذا فاتته صلوات فإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل النبي ﷺ يوم الخندق فحسن وإن أذن وأقام لكل صلاة فحسن ولم يذكر خلافا وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود بن علي يؤذن ويقيم لكل صلاة فائتة على ما روى عن النبي ﷺ إذ نام عن الصلاة.

قال أبو عمر: حجة من قال إنه يقيم لكل صلاة فائتة ولا يؤذن لها أن رسول الله ﷺ حبس يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل ثم أقام لكل صلاة ولم يؤذن روى هذا الخبر عن النبي ﷺ أبو سعيد الخدري وابن مسعود فأما حديث أبي سعيد فحدثناه أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال حدثنا الشافعي قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم قال حدثنا عمار بن عبد الجبار الخراساني قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان هوى من اليل حتى كفينا وذلك قول الله عز وجل : {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب : من الآية25] قال فدعا رسول الله ﷺ بلالا فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة : من الآية239] المعنى واحد.

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هناد بن السري عن هشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال قال عبد الله : "إن المشركين شغلوا النبي ﷺ عن أربع صلوات في الخندق فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء هكذا قال هشيم في هذا الحديث فأذن ثم أقام فصلى الظهر فذكر الأذان للظهر وحدها وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم سواء وخالفه هشام الدستوائي فقال فيه فأمر بلالا فأقام فصلى الظهر لم يذكر أذانا للظهر ولا لغيرها وإنما ذكر الإقامة وحدها فيها كلها قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد البرقي القاضي قال حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال كنا مع رسول الله ﷺ فحبسنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأمر رسول الله ﷺ بلالا فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ثم طاف علينا فقال ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم".

وهكذا رواه ابن المبارك عن هشام الدستوائي بإسناده سواء وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن هشام الدستوائي بإسناده مثله ذكر ذلك أحمد بن شعيب وغيره واحتج من قال يؤذن ويقيم للفوائت بأنه ذكر في هذا الحديث وفي حديث أبي سعيد الخدري قبله ثم أقام فصلى العشاء قال والعشاء كانت مفعولة في وقتها ولم يذكر فيها أذانا وهي غير فائتة فعلم أن مراده إقامتها بما بنبغي أن يقام لها من الأذان والإقامة

وروى من حديث عمران بن حصين وغيره أن النبي ﷺ حين فاتته صلاة الفجر في السفر صلاها بأذان وإقامة وأما صلاة ركعتي الفجر لمن نام عن صلاة الصبح فلم ينتبه لها إلا بعد طلوع الشمس فإن مالكا قال يبدأ بالمكتوبة ولم يعرف ما ذكر عن رسول الله ﷺ في ركعتي الفجر أنه ركعها يوم نام عن صلاة الصبح في سفره قبل أن يصلي الصبح ذكر أبو قرة في سماعه من مالك قال قال مالك فيمن نام عن الصبح حتى طلعت الشمس أنه لا يركع ركعتي الفجر ولا يبدأ بشيء قبل الفريضة قال وقال مالك : لم يبلغنا أن النبي ﷺ صلى ركعتي الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس وقال ابن وهب سئل مالك هل كان رسول الله ﷺ حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ركع ركعتي الفجر قال ما علمت قال أبو عمر: ليس في رواية مالك رحمه الله لا في حديث زيد بن أسلم هذا ولا في حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ ركع يومئذ ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح وإنما صار في ذلك إلى ما روى وعليه جمهور أصحابه إلا أشهب وعلي بن زياد فإنهما قالا يركع ركعتي الفجر قبل أن يصلي الصبح قالا وقد بلغنا ذلك عن النبي ﷺ يومئذ

وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والحسن بن حي وهو قول جماعة أصحاب الحديث وإليه ذهب أحمد وأبو ثور وداود لما روى في ذلك عن النبي ﷺ من حديث عمران بن حصين وغيره وقد كان يجب على أصل مالك أن يركعهما قبل أن يصلي الصبح لأن قوله فيمن أتى مسجدا قد صلى فيه لا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في سعة من الوقت وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وداود إذا كان في الوقت سعة

وقال الثوري : ابدأ بالمكتوبة ثم تطوع بما شئت وقال الحسن بن حي يبدأ بالفريضة ولا يتطوع حتى يخلو من الفريضة قال فإن كانت الظهر فرغ منها ثم من الركعتين بعدها ثم يصلي الأربع التي لم يصلها قبل الظهر.

وقال الليث بن سعد كل واجب من صلاة فريضة أو صلاة نذر أو صيام أنه يبدأ بالواجب قبل النفل وقد روى عنه خلاف هذا من رواية ابن وهب أيضا قال ابن وهب سمعت الليث بن سعد يقول في الذي يدرك الإمام في قيام رمضان ولم يصل العشاء أنه يدخل معهم ويصلي بصلاتهم فإذا فرغ صلى العشاء قال وإن علم أنهم في القيام قبل أن يدخل في المسجد فوجد مكانا طاهرا فليصل العشاء ثم ليدخل معهم في القيام.

قال أبو عمر: ويجيء على ما قدمنا من قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وداود فيمن أتى المسجد وقد صلى أهله وفي الوقت سعة أنه لا بأس أن يتطوع قبل المكتوبة مثل

قول الليث فيمن أدرك القوم في قيام رمضان سواء إلا أنه لا ينبغي له أن يوتر معهم وإن أوتر معهم لزمه إعادة الوتر بعد صلاة العشاء ووتره قبل صلاة العشاء كلا وتر لأنه قبل وقته.

وأما قوله في الحديث : إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا"، فإن العلماء اختلفوا في الروح والنفس هل هما شيء واحد أو شيئان لأنه قد جاء في الحديث : "أن الله قبض أرواحنا"

وجاء في حديث سعيد بن المسيب قول بلال : "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك" فقال جماعة من أهل العلم الروح والنفس شيء واحد ومن حجتهم قوله الله عز وجل : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر : الآية42] فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير في هذه الآية أنهما قالا تقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا تتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ذكره بقي بن مخلد عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير.

وذكره أيضا عن يحيى بن رجاء عن موسى بن أعين عن مطرف عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعنى حديثهما واحد وهذا يدل على أن النفس والروح شيء

واحد لأنهم فسروا الآية وقد جاءت بلفظ يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها فقالوا يقبض الأرواح كما رأيت وذلك واضح في أن النفس والروح سواء.

ويشهد بصحة ذلك قول رسول الله ﷺ في هذا الحديث : "إن الله قبض أرواحنا" ولم ينكر على بلال قوله : "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك" فالقرآن والسنة يشيران إلى معنى واحد بلفظ النفس مرة وبلفظ الروح أخرى.

وقال آخرون : النفس غير الروح واحتجوا بأن النفس مخاطبة منهية مأمورة واستدلوا بقول الله عز وجل : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر : 27-28] الآية وقوله : {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر : من الآية56] ومثل هذا في القرآن كثير قالوا والروح لم تخاطب ولم تؤمر ولم تنه في شيء من القرآن ولم يلحقها شيء من التوبيخ كما لحق النفس في غير آية من كتاب الله عز وجل.

وتأولوا في قول بلال أي أخذ بنفسي من النوم ما أخذ بنفسك وذكر سنيد عن حجاج عن ابن جريج في قول الله عز وجل : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر : من الآية42] الآية قال في جوف الإنسان روح ونفس بينهما في الجوف مثل شعاع الشمس فإذا توفى الله النفس كان الروح في جوف الإنسان فإذا أمسك الله نفسه أخرج الروح من جوفه فإن لم يمته أرسل الله نفسه فرجعت إلى مكانها قبل أن يستيقظ قال ابن جريج وأخبرت عن ابن عباس نحو هذا الخبر وذكر عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه أنه حكى عن التوراة في خلق آدم عليه السلام قال الله عز وجل : "حين خلقت آدم ركبت جسده من رطب ويابس وسخن وبارد وذلك لأني خلقته من تراب وماء ثم جعلت فيه نفسا وروحا فيبوسة كل جسد خلقته من التراب ورطوبته من قبل الماء وحرارته من قبل النفس وبرودته من قبل الروح ومن النفس حدته وشهوته ولهوه ولعبه وضحكه وسفهه وخداعه وعنفه وخرقه ومن الروح حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وفهمه وتكرمه وصدقه وصبره".

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا المسيب بن واضح قال حدثنا الحكم بن محمد الظفري عن إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال أن أنفس الآدميين كأنفس الدواب التي تشتهي وتدعو إلى الشر ومسكن النفس البطن إلا أن الإنسان فضل بالروح ومسكنه الدماغ فبه يستحيي الإنسان وهو يدعو إلى الخير ويأمر به ثم نفخ وهب على يده فقال هذا بارد وهو من الروح ثم تنهد على يده فقال هذا حار وهو من النفس ومثلهما كمثل الرجل وزوجته فإذا انحدر الروح إلى النفس والتقيا نام الإنسان فإذا استيقظ رجع الروح إلى مكانه ويعتبر ذلك بأنك إذا كنت نائما فاستيقظت كان كل شيء يبدر إلى رأسك وذكر أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان أن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد صاحب مالك قال النفس جسد مجسد كخلق الإنسان والروح كالماء الجاري قال واحتج بقول الله عز وجل : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر : من الآية42] الآية

وقال ألا ترى أن النائم قد توفى الله نفسه وروح صاعد ونازل وأنفاسه قيام والنفس تسرح في كل واد وترى ما تراه من الرؤيا فإذا أذن الله في ردها إلى الجسد عادت واستيقظ بعودتها جميع أعضاء الجسد والبصر وغيرهما من الأعضاء قال فالنفس غير الروح والروح كالماء الجاري في الجنان فإذا أراد الله إفساد ذلك البستان منع الماء الجاري فيه فماتت حياته فكذلك الإنسان قال أبو إسحاق هذا معنى قول ابن القاسم وإن لم يكن نسق لفظه قال أبو إسحاق وقال عبيد الله بن أبي جعفر : إذا حمل الميت على السرير كانت نفسه بيد ملك من الملائكة يسير بها معه فإذا وضع للصلاة عليه وقف فإذا حمل إلى قبره سار معه فإذا ألحد وووري في التراب أعاد الله نفسه حتى يخاطبه الملكان فإذا وليا عنه منصرفين اختلع الملك نفسه فرمى بها إلى حيث أمر وهذا الملك من أعوان ملك الموت قال أبو إسحاق هذا معنى قول عبيد الله بن أبي جعفر وقد قاله معه غيره.

قال أبو عمر: قد قالت العلماء بما وصفنا والله أعلم بالصحيح من ذلك وما احتج به القوم فليس حجة واضحة ولا هو مما يقطع بصحته لأنه ليس فيه خبر صحيح يقطع العذر ويوجب الحجة ولا هو مما يدرك بقياس ولا استنباط بل العقول تنحسر وتعجز عن علم ذلك وقد قال جماعة من العلماء في قول الله عز وجل : {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء : 85] أنه هذا الروح المشار إليه في هذا الباب بالذكر روح الحياة وقال غيرهم أنه ملك من الملائكة يقوم صفا وتقوم الملائكة صفا فكيف يتعاطى علم شيء استأثر الله به ولم يطلع عليه رسوله ﷺ وقد قيل في الروح المذكور في هذه الآية أنه جبريل عليه السلام وقيل هم خلق من خلق الله وقيل غير ذلك وكذلك اختلف في الذين عنوا بقوله : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} فقيل أراد اليهود السائلين عن الروح لأنهم زعموا أن في التوراة علم كل شيء فأنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان : من الآية27] الآية يقول ما أوتيتم في التوراة والإنجيل يا أهل الكتاب من العلم إلا قليلا وقيل بل عنى بالآية أمة محمد ﷺ والناس كلهم.

قال أبو عمر: لو كان الأمر على النظر والقياس والاستنباط في معنى الروح من حديث الموطأ لقلنا إن النظر يشهد للقول الأول وهو الذي تدل عليه الآثار والله أعلم.

وقد تضع العرب النفس موضع الروح والروح موضع النفس فيقولون خرجت نفسه وفاضت نفسه وخرجت روحه إما لأنهما شيء واحد أو لأنهما شيآن متصلان لا يقوم أحدهما دون الآخر وقد يسمون الجسد نفسا ويسمون الدم جسدا قال النابغة : "وما أريق على الأنصاب من جسد"- يريد من دم

وقال ذو الرمة فجعل الجسد نفسا :

يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار

ويقال للنفس نسمة أيضا على عتق نسمة أي نفس.

وقال ﷺ : "إنما نسمة المؤمن طائر" يعني روحه وسنذكر هذا الخبر في حديث ابن شهاب إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق. وفي هذا الحديث فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلها كما كان يصليها في وقتها وهذا إنما فيه إيجاب إقامة الصلاة وأنها غير ساقطة عمن نام أو نسي ولم يخص وقتا من وقت فالبدار إليها أولى إلا أن في حديث ابن المسيب وحديث أنس وغيره أن رسول الله ﷺ قال : "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه : من الآية14] " وفي هذا وجوب صلاتها عند الذكر لها والانتباه إليها أي وقت كان وهو موضع اختلاف وقد ذكرناه واستوعبنا القول فيه في باب زيد بن أسلم وسيأتي منه ذكر في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب من كتابنا هذا لأن ذلك الموضع أولى بذكر ذلك لقوله فيه "فليصلها إذا ذكرها" وإنما في حديث زيد هذا "فليصلها كما كان يصليها" وبالله توفيقنا.

وفي أخبار رسول الله ﷺ أبا بكر بما عرض لبلال في نومه ذلك علم من أعلام نبوته ﷺ.

وفيه ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من صريح الإيمان والبدار إلى تصديق رسول الله ﷺ والفرح بكل ما يأتي منه وهو الصديق حقا من أمته رحمة الله عليه.

وأما الآثار المروية في هذا الباب فرواها جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن مسعود وأبو قتادة وابن عباس وجبير بن مطعم وعمرو بن أمية وعمران بن حصين وأبو مريم السلولي وأبو جحيفة السوائي وذو مخبر الحبشي فأما حديث أبي هريرة فنذكر منه هاهنا ما يشبه حديثنا ويكون في معناه ونذكر من قطعه ومن وصله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة إذا ذكرناه في باب ابن شهاب إن شاء الله.

فمن حديث أبي هريرة ما حدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي الجصاص قال حدثنا أحمد بن الفرج أبو عتبة الحجازي بحمص قال حدثنا أيوب بن سويد قال أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال : "لما قفل رسول الله ﷺ من خيبر عرس بنا ذات ليلة ثم قال أيكم يكلألنا الفجر الليلة فقال بلال أنا يا رسول الله قال اكلأه لنا يا بلال ولا تكن لكعا قال بلال فنام النبي ﷺ ونام أصحابه فعمدت إلى حجفة لي استندت إليها فجعلت أراعي الفجر فبعث الله على النوم فلم أستيقظ إلا لحر الشمس بين كتفي فقمت فزعا فقلت الصلاة عباد الله فانتبه النبي ﷺ وانتبه الناس وقال لي يا بلال ألم أقل لك اكلأ لنا الفجر فقلت يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فقال رسول الله ﷺ إن أرواحكم كانت بيد الله عز وجل حبسها إذ شاء وأطلقها إذ شاء اقتادوا من هذا الوادي فإنه واد ملعون به الشيطان قال فخرجنا من الوادي ثم أمر بلالا فأذن وتوضأ النبي ﷺ وتوضأ أصحابه ثم صلوا فقام إليه رجل فقال يا رسول الله أنصلي هذه الصلاة من غد للوقت فقال النبي ﷺ لا إن الله لا ينهاكم عن الربا ويرضاه منكم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غيرها إن الله عز وجل يقول : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه : من الآية14] .

وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يحيى عن يزيد بن كيسان قال حدثني أبو حازم عن أبي هريرة قال : "عرسنا مع النبي ﷺ فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال رسول الله ﷺ يأخذ كل إنسان برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان قال ففعلنا فدعا بالماء فتوضأ ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة". وأما حديث ابن مسعود فحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المثنى وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن جامع بن شداد قال سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال : "أقبلنا مع رسول الله ﷺ زمن الحديبية قال فقال النبي ﷺ من يكلؤنا فقال بلال أنا فناموا حتى طلعت الشمس فاستيقظ النبي ﷺ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون قال ففعلنا قال وكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي".

وأما حديث أبي قتادة فحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم بن بشير قال حدثنا حصين قال حدثنا عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أبي قتادة قال : "سرنا مع رسول الله ﷺ ونحن في سفر ذات ليلة فقلنا يا رسول الله لو عرست بنا قال إني أخاف أن تناموا عن الصلاة فمن يوقظنا للصلاة فقال بلال أنا يا رسول الله قال فعرس القوم واستند بلال إلى راحلته فغلبته عيناه واستيقظ رسول الله ﷺ وقد طلع حاجب الشمس فقال يا بلال أين ما قلت لنا قال يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ألقيت على نومة مثلها قال فقال إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء ثم أمرهم رسول الله ﷺ فانتشروا لحاجتهم وتوضؤا وارتفعت الشمس فصلى بهم الفجر".

وذكره البخاري عن عمران بن ميسرة عن محمد بن فضيل عن حصين بإسناده مثله وفي حديثه زيادة : "يا بلال قم فأذن للناس بالصلاة فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى".

وأما حديث ابن عباس فحدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا ابن الأصبهاني قال حدثنا عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم بن سلمة عن مسروق عن ابن عباس قال : "كان رسول الله ﷺ في سفر، فعرسوا من الليل فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس فأمر بلالا فأذن ثم صلى ركعتين". قال ابن عباس فما يسرني بها الدنيا وما فيها يعني الرخصة.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن غالب قال حدثنا حرمي بن حفص قال حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي قال حدثني أبي عن ابن عباس : "أنهم كانوا مع النبي ﷺ في سفر فغفلوا عن صلاة الغداة حتى طلعت الشمس فأمر النبي ﷺ مؤذنا فأذن كما كان يؤذن كل يوم فصلى ركعتي الفجر كما كان يصلي كل يوم ثم صلى بهم الغداة كما كان يصلي كل يوم".

وأما حديث جبير بن مطعم فحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم قال حدثنا يحيى بن حسان قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال في سفر له : "من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الصبح فقال بلال أنا فاستقبل مطلع الشمس فضرب على آذانهم حتى أيقظهم حر الشمس فقاموا فقال توضؤا ثم أذن بلال فصلى ركعتين وصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر".

وأما حديث أبي مريم فرواه علي بن المديني وغيره عن جرير عن عطاء بن السائب عن أبيه عن يزيد بن أبي مريم عن أبيه فقال : "نام رسول الله ﷺ عن الصبح فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس فلما استيقظ أمر المؤذن فأذن وصلى ركعتين ثم أمره فأقام فصلى الفجر".

وأما حديث عمرو بن أمية فحدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال حدثنا حيوة بن شريح قال أخبرنا عياش بن عياش أن كليب بن صبح حدثه أن الزبرقان حدثه عن عمه عمرو بن أمية الضمري قال : "كنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فنام ولم يصل الصبح حتى طلعت الشمس فلم يستيقظ رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه حتى أذاهم حر الشمس فأمر رسول الله ﷺ أن يتنحوا عن ذلك المكان ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى رسول الله ﷺ ركعتي الفجر وأمر أصحابه فصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى رسول الله ﷺ". وذكره أبو داود عن عباس العنبري وأحمد بن صالح المصري جميعا عن عبد الله بن يزيد أبي عبد الرحمن المقرئ بإسناده نحو معناه وذكر الأذان وركعتي الفجر.

وأما حديث عمران بن حصين فحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى قال حدثنا هشام عن الحسن عن عمران بن حصين قال : "أسرينا مع رسول الله ﷺ في غزاة فلما كان من آخر السحر عرسنا فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل يثب دهشا فزعا فقال رسول الله ﷺ اركبوا فركب وركبنا فسار حتى ارتفعت الشمس ثم نزل فأمر بلالا فأذن وقضى القوم من حاجاتهم وتوضؤا وصلينا الركعتين قبل الغداة ثم أقام فصلى بنا فقلنا يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد فقال لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم

حدثنا سعيد ابن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن عن عمران بن حصين قال أسرينا مع رسول الله ﷺ ليلة ثم عرس بنا من آخر الليل قال فاستيقظنا وقد طلعت الشمس قال فجعل الرجل منا يثور إلى طهوره دهشا فازعا فقال النبي ﷺ ارتحلوا فارتحلنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزلنا فقضينا من حوائجنا وتوضأنا ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين ثم أمر بلالا فأقام فصلى بنا النبي ﷺ فقلنا يا رسول الله أنقضيها لميقاتها من الغد فقال لا ينهاكم الله عز وجل عن الربا ويأخذه منكم".

وحدثنا عبد الوارث وأحمد بن قاسم قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا روح قال حدثنا هشام عن الحسن عن عمران بن حصين قال : "سرنا مع رسول الله ﷺ في غزاة أو قال في سرية" ثم ذكر نحوه وذكره أبو داود عن وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن الحسن عن عمران عن النبي ﷺ وذكر إسماعيل أيضا عن ابن المديني عن عبد الوهاب الثقفي عن يونس عن الحسن عن عمران مثله.

وأما حديث أبي جحيفة السوائي فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد ابن زهير قال حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا عبد الجبار بن العباس الهمداني عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : "كان رسول الله ﷺ في سفره الذي ناموا فيه عن الصلاة حتى طلعت الشمس فقال إنكم كنتم أمواتا فرد الله عليكم أرواحكم من نام عن صلاة فليصلها إذا استيقظ ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكر".

وأما حديث ذي مخبر فذكره أبو داود وغيره وهو يدور على جرير بن عثمان الرحبي اختلف عليه فيه فقوم قالوا عنه عن صليح الرحبي كذا قال أبو المغيرة، وقوم قالوا عنه عن يزيد بن صليح وقال آخرون عنه عن يزيد بن صالح.

والحديث شامي مشهور بمعنى ما تقدم من الآثار سواء قرأت على عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم ابن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا حجاج الباهلي قال حدثنا قتادة عن أنس قال سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يرقد عن الصلاة أو يغفل عنها قال : "كفارتها أن يصليها إذا ذكرها".

حديث رابع وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله ﷺ فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال رسول الله ﷺ : "لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها".

قال أبو عمر: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث مسندا بهذا اللفظ أن رجلا سأل رسول الله ﷺ هكذا ومعناه صحيح ثابت وقد ذكرنا الآثار في ذاك مستوعبة في باب ربيعة وفي هذا الحديث تفسير لقول الله عز وجل : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة : من الآية222] وقد ذكرنا اختلاف العلماء في مباشرة الحائض ومتى توطأ بعد طهرها قبل غسلها أو بعده وسائر أحكامها في ذلك في حديث ربيعة من كتابنا هذا فلا معنى لإعادته ها هنا.

حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال أخبرنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : "كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت فأمرهم رسول الله ﷺ أن يواكلوهن ويباشروهن ويجامعوهن في البيوت وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا النكاح فقالت اليهود ما يدع رسول الله ﷺ شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه فقام أسيد بن حضير وعباد بن بشر فأخبرا رسول الله ﷺ وقالا : ألا نجامعوهن في المحيض فتمعر وجه رسول الله ﷺ تمعرا شديدا حتى ظننا أنه قد غضب عليهما فقاما فاستقبل رسول الله ﷺ هدية لبن فبعث في آثارهما فردهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يغضب عليهما".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حفص بن غياث عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عن خالته ميمونة بنت الحرث "أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها أن تتزر ثم يباشرها وهي حائض".

قال أبو عمر: هذا الحديث إذا رتب مع الذي قبله دلا على أن شد الإزار على الحائض معناه لقطع الذريعة والاحتياط والله أعلم وقد أوضحنا هذا المعنى في باب ربيعة والحمد لله رب العالمين.

حديث خامس وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله ﷺ أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فزعم زيد أن رسول الله ﷺ قال لهما : "أيكما أطب؟ فقالا : أو في الطب خير يا رسول الله فزعم زيد أن رسول الله ﷺ قال أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء".

هكذا هذا الحديث في الموطأ منقطعا عن زيد بن أسلم عند جماعة رواته فيما علمت وقد روى عاصم بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قوله : "أيكما أطب". وأما "أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء" فقد روي عن النبي ﷺ في هذا المعنى بغير هذا اللفظ آثار مسندة صحاح سنذكرها في آخر هذا الباب إن شاء الله وفي هذا الحديث إباحة التعالج لأن رسول الله ﷺ لم ينكر ذلك عليهم وفيه إتيان المتطبب إلى صاحب العلة وفيه بيان أن الله عز وجل هو الممرض والشافي وأنه لا يكون في ملكه إلا ما شاء وأنه أنزل الداء والدواء وقدره وقضى به. وكذلك ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يرقي ويقول : "اشف أنت الشافي يا رب لا شفاء إلا شفاؤك اشف شفاء لا يغادر سقما" . وهذا يصحح لك أن المعالجة إنما هي لتطيب نفس العليل ويأنس بالعلاج ورجاء أن يكون من أسباب الشفاء كالتسبب لطلب الرزق الذي قد فرغ منه

وفي قوله ﷺ : "أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء" ، دليل على أن البرء ليس في وسع مخلوق أن يعجله قبل أن ينزل ويقدر وقته وحينه وقد رأينا المنتسبين إلى علم الطب يعالج أحدهم رجلين وهو يزعم أن علتهما واحدة في زمن واحد وسن واحد وبلد واحد وربما كانا أخوين توأمين غذاؤهما واحد فعالجهما بعلاج واحد فيفيق أحدهما ويموت الآخر أو تطول علته ثم يفيق عند الأمد المقدور له.

واختلف العلماء في هذا الباب فذهبت منهم طائفة إلى كراهية الرقى والمعالجة قالوا الواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله تعالى وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه وعلما بأن الرقية لا تنفعه وأن تركها لا يضره إذ قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة فلا تزيد هذه بالرقي والعلاجات ولا تنقص تلك بترك السعي والاحتيالات لكل صنف من ذلك زمن قد علمه الله ووقت قد قدره قبل أن يخلق الخلق فلو حرص الخلق على تقليل أيام المرض وزمن الداء أو على تكثير أيام الصحة ما قدروا على ذلك قال الله عز وجل : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . [الحديد : من الآية22]

واحتجوا بما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم ابن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ : "عرضت علي الأمم" فذكر الحديث وفيه ويدخل الجنة أيضا من امتك سبعون ألفا بغير حساب ثم دخل رسول الله ﷺ ولم يبين لهم فأفاض القوم فقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم وأولادنا الذين ولدوا في الإسلام فسمع ذلك رسول الله ﷺ فقال : "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".

وبه عن أبي بكر قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا شيبان عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود قال تحدثنا عند رسول الله ﷺ ذات ليلة فقال النبي ﷺ : "سبعون ألفا يدخلون الجنة لا حساب عليهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".

واحتجوا أيضا بحديث سعيد بن أبي سعيد مولى المهري عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".

وبما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم ابن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا عاصم عن زر عن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال : "عرضت علي الأمم في الموسم فرأيت أمتي فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم قد ملؤا السهل والجبل قال يا محمد إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال اللهم اجعله منهم ثم قام آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة" وروى عمران بن حصين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ مثل هذا في حديث طويل ذكره.

قال أبو عمر: فلهذه الفضيلة ذهب بعض أهل العلم إلى كراهية الرقى والاكتواء.

والآثار بهذا كثيرة ثابتة عن النبي ﷺ وممن ذهب إلى هذا داود بن علي وجماعة من أهل الفقه والأثر ومن حجتهم أيضا قول ابن مسعود ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرني عاصم بن بهدلة عن أبي وائل الأسدي عن ابن مسعود أنه قال : "أن المرأة إذا حملت تصعدت النطفة تحت كل شعرة وبشرة أربعين يوما ثم تستقر في الرحم علقة أربعين يوما ثم مضغة أربعين يوما ثم يبعث الله إليه الملك فيقول أي رب ذكر أم أنثى فيأمر الله عز وجل بما شاء ويكتب الملك ثم يقول الملك أي رب شقي أم سعيد فيأمر الله عز وجل بما شاء ويكتب الملك ثم يكتب رزقه وأثره وأجله وعمله وأين يموت وأنتم تعلقون التمائم على أبنائكم من العين" وقد روى نحو هذا المعنى مرفوعا عن النبي ﷺ من وجوه ثابتة كثيرة من حديث ابن مسعود وغيره.

وذكر أيضا من ذهب إلى هذا المذهب عبد الله بن محمد بن يوسف أخبرنا أبو اليسر بشر بن عبد الله البغدادي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن عبد الرحمن القاضي الأنطاكي حدثنا حبشي بن عمرو بن الربيع بن طارق واسمه طاهر يعني اسم حبشي قال حدثني أبي قال أخبرنا السري بن يحيى من أهل البصرة عن أبي شجاع عن أبي ظبية أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان ما تشتكي قال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة ربي قال ألا أدعو لك الطبيب قال الطبيب أمرضني قال ألا نأمر لك بعطائك قال حبسته عني في حياتي فلا حاجة لي به عند موتي قال له عثمان لكن يكون لبناتك قال أتخشى على بناتي الفاقة إني لأرجو أن لا تصيبهم فاقة أبدا إني قد أمرت بناتي بقراءة الواقعة كل ليلة فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول : "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا". وذكر من ذهب إلى هذا قول أبي الدرداء حين مرض فقيل له ألا ندعو لك طبيبا فقال رآني الطبيب قيل له ما قال لك قال إني فعال لما أريد.

ذكر وكيع قال حدثنا ابن هلال عن معاوية بن قرة قال مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا له ندعو لك الطبيب فقال هو أضجعني وذكر ابن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن عبد الملك بن عمير قال قيل للربيع بن خيثم في مرض ألا ندعو لك الطبيب فقال انظروني ثم تفكر فقال : إن عادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا فذكر من حرصهم على الدنيا ورغبتهم فيها وقال قد كان فيهم المرضى وكان منهم الأطباء فلا المداوي بقي ولا المداوى هلك الناعت والمنعوت له والله لا تدعو لي طبيبا وممن كره الرقى سعيد بن جبير ذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا أبو شهاب قال دخلت على سعيد بن جبير وهو نازل بالمروة وكانت تأخذه شقيقة بصداع فقال له رجل ألا آتيك بمن يرقيك من الصداع فقال لا حاجة لي بالرقى.

وروى سنيد عن هشيم عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أنه كان عنده يوما فقال : "أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة فقال أبو حصين أما إني لم أكن في صلاة وذلك أني لدغتني عقرب قال فكيف صنعت قلت استرقيت قال وما حملك على ذلك قلت حديث حدثني الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال لا رقية إلا من عين أو حمة فقال سعيد بن جبير وذا حسن من انتهى إلى ما سمع فقد أحسن لكن ابن عباس حدثني أن رسول الله ﷺ قال : "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون". مختصر.

وذكر أبو بكر قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن أنه كان يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل.

ومن حجة من ذهب إلى كراهية ذلك أيضا ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا هشام بن عبد الملك قال حدثنا المبارك بن فضالة قال حدثنا الحسن عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى في عضده حلقة فقال : "ما هذه؟ قال من الواهنة فقال : ما تزيدك إلا وهنا انبذها عنك فإنك إن مت وهي عليك وكلت إليها".

وما حدثنا عبد الوارث أيضا قال حدثنا قاسم قال حدثنا الحسن بن سلام قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد قال حدثنا العقار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه حديثا فلم احفظه فمكثت بعد ذلك فأمرت حسان بن أبي وجرة أن يسأله فأخبرني أنه سأله فقال سمعت أبي يقول قال رسول الله ﷺ : "ما توكل من استرقى أو اكتوى".

وبحديث عبد الله بن عمرو سمع رسول الله ﷺ يقول : " ما أبالي ما أتيت أو ما ارتكبت إن أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي" . وعن الحسن قال سألت أنسا عن النشرة ؟

فقال ذكروا عن النبي ﷺ أنها من الشيطان وهذه كلها آثار لينة ولها وجوه محتملة وعن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ "نهى عن الكي". فهذا أكثر ما نزع به الكارهون للرقى والتداوي والمعالجة وذكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل عن الكي فقال ما أدري وكأنه كرهه وذكر حديث عمران ابن حصين نهينا عن الكي قال وسمعته يكره الحقنة إلا أن تكون ضرورة لا بد منها.

وذهب آخرون من العلماء إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي وقالوا إن من سنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيهم ﷺ الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر وإلى الاسترقاء وقراءة القرآن والذكر والدعاء.

واحتجوا بالآثار المروية عن النبي ﷺ في إباحة التداوي والاسترقاء منها قوله : "تداووا عباد الله ولا تداووا بحرام فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء" .

وبقوله عليه السلام : "الشفاء في ثلاثة في شربة عسل أو شرطة محجم أو كية نار وما أحب أن أكتوي" .

وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال : "إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة" . ومن حديث سمرة أن رسول الله ﷺ قال : "خير ما يتداوى به الحجامة" ومن حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ احتجم واستعط وأعطى الحجام أجره". وروى عنه أنه قال : "إن كان دواء يبلغ الداء فالحجامة تبلغه". وقال عليه السلام : "ما خلق الله داء إلا خلق له دواء إلا الموت والهرم" .

وقال ﷺ في الحبة السوداء : "شفاء من كل داء إلا السام" يعني الموت رواه ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة وقال ﷺ : "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" . ورقى رسول الله ﷺ نفسه ورقى أصحابه وأمرهم بالرقية وأباح الأكل بالرقية وكان يعوذ الحسن والحسين ويسترقي لهما وكذلك جاء عنه في ابني جعفر وأمر عامر بن ربيعة بالاغتسال لسهيل بن حنيف من العين وكان يقول : "من قال أعوذ بعزة الله وقدرته كشف عنه كذا" ومن قال : "أعوذ بكلمات الله التامات لم يضره شيء"

ونحو هذا من الحديث وقال رسول الله ﷺ لأسماء بنت عميس : "بم كنت تستمشين؟ قالت : بالشبرم قال : حار جار؟ قالت : ثم استمشيت بالسنا فقال ﷺ لو كان شيء يشفي من الموت كان السنا" . وأجاز ﷺ اللدود والسعوط والمشي والحجامة والعلق وقال إبراهيم النخعي كانوا لايرون بالاستشفاء بأسا وإنما كرهوا منه ما كرهوا مخافة أن يضعفهم وقال عطاء لا بأس أن يستشفي المجذوم وغير المجذوم وقد سئل رسول الله ﷺ فقيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها أترد من قدر الله فقال : "هي من قدر الله". وقال : "في عجوة العالية شفاء إذا بكره على الريق". وقال : "من تصبح سبع تمرات من عجوة من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" . وكوى رسول الله ﷺ أسعد بن بزرارة وروى أنه قطع من أبي بن كعب عرقا وكواه وهو حديث غريب رواه أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر وذكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل عن قطع العرق فقال لا بأس بذلك عمران بن حصين قطع عرقا وأسيد بن حضير قطع عرق النساء وأبي بن كعب قطع عرقا فيما قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر.

وذكر ابن وهب قال حدثني عمرو بن محمد وعبد الله بن عمرو ومالك بن أنس ويونس بن يزيد أن نافعا أخبرهم أن عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة ورقى من العقرب قال وحدثني عمرو بن الحرث عن عبد ربه بن سعيد عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا دعا طبيبا يعالج أهله اشترط عليه أن لا يداوي بشيء مما حرم الله. واكتوى ابن عمر وغيره من السلف حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى حدثنا محمد بن أيوب الرقي حدثنا أحمد بن عمرو البزار حدثنا مهنأ بن يحيى قال حدثنا بقية قال حدثنا شعبة عن ابن عون عن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق وقال مالك لا بأس بذلك.

قال أبو عمر: وروى عن رسول الله ﷺ أنه قال : "خير أكحالكم الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر".

واكتوى ابن عمر وغيره من السلف فمن زعم أنه لا معنى للرقى والاستعاذة ومنع من التداوي والمعالجة ونحو ذلك مما يلتمس به العافية من الله فقد خرج من عرف المسلمين عدا طريقهم قالوا ولو كان الأمر كما ذهب إليه من كره التداوي والرقي ما قطع الناس أيديهم وأرجلهم وغير ذلك من أعضائهم للعلاج وما افتصدوا ولا احتجموا وهذا عروة بن الزبير قد قطع ساقه قالوا وقد يحتمل أن يكون قول النبي ﷺ : "إنهم لا يسترقون ولا يكتوون" أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه منهي عنه أو يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله ولا من ذكره. وقد جاء عن أبي بكر الصديق كراهية الرقية بغير كتاب الله وعلى ذلك العلماء وأباح لليهودية أن ترقى عائشة بكتاب الله.

قال أبو عمر: هذا كله قد نزع به أو ببعضه من قصد إلى الرد على القول الأول والذي أقول به أنه قد كان من خيار هذه الأمة وسلفها وعلمائها قوم يصبرون على الأمراض حتى يكشفها الله ومعهم الأطباء فلم يعابوا بترك المعالجة ولو كانت المعالجة سنة من السنن الواجبة لكان الذم قد لحق من ترك الاسترقاء والتداوي وهذا لا نعلم أحدا قاله ولكان أهل البادية والمواضع النائية عن الأطباء قد دخل عليهم النقص في دينهم لتركهم ذلك وإنما التداوي والله أعلم إباحة على ما قدمنا لميل النفوس إليه وسكونها نحوه {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد : من الآية38] لا أنه سنة ولا أنه واجب ولا أن العلم بذلك علم موثوق به لا يخالف بل هو خطر وتجربة موقوفة على القدر والله نسأله العصمة والتوفيق وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء

أخبرنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا سعدان بن نصر قال حدثنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي أو عن أبي قلابة قال : "لما قدم رسول الله ﷺ خيبر قدم والثمرة خضرة قال فأسرع الناس فيها فحموا فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يحدرون عليهم بين أذان الفجر ويذكروا اسم الله عز وجل قال ففعلوا فكأنما نشطوا من عقال أو قال من عقل".

وقد رخصوا أن يداوي الرجال عند الاضطرار النساء على سبيل السترة والاحتياط أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال سألت أحمد بن حنبل أو سئل وأنا أسمع عن المرأة يداويها الرجل في مثل الكسر وشبهه قال نعم قد رخص في ذلك عدة من التابعين.

قال أبو بكر حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال سألت عطاء بن أبي رباح عن امرأة منا في رأسها سلعة لا يستطيع النساء أن يداوينها قال يخرق في خمارها قدر السلعة ثم يداويها الرجال قال وحدثنا أبو جعفر النفيلي قال حدثنا مسكين بن بكر عن شعبة عن يونس بن عبيد عن هشام بن عروة قال خرج في عنق أختي خراج فدعا عروة الطبيب فأمره أن يقور الموضع ثم يعالجها قال وحدثنا حفص بن عمر قال حدثنا همام قال حدثنا ثابت بن ذروة قال سألت جابر بن زيد عن المرأة ينكسر منها العضو أجبره قال نعم قال وحدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام قال حدثنا قتادة عن جابر بن زيد في المرأة ينكسر فخذها فلا يجدون امرأة تجبرها فقال يجبرها رجل ويسترها قال

وأخبرنا حفص بن عمر قال حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخر عن امرأته فيلتمس من يداويه قال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع.

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى حدثنا علي بن محمد حدثنا أحمد بن داود حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب قال أخبرني عقبة بن نافع عن ربيعة أنه قال لا بأس أن يعالج المريض بلبن الشاة السوداء والبقرة السوداء ولبن المرأة أول بطن لا نرى بذلك كله بأسا وقال زيد بن البشير سمن البقرة السوداء التي لا بياض فيها يجلو البصر.

وأما الآثار التي رويت مسندة في معنى حديث زيد بن أسلم هذا فحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن علي قال حدثنا علي بن حرب الطائي.

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى قالا جميعا حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة قال سمعت أسامة بن شريك قال شهدت الأعاريب يسألون رسول الله ﷺ هل علينا جناح في كذا وكذا فقال : "عباد الله قد وضع الحرج إلا امرأ اقترض من عرض أخيه شيئا فذلك الذي حرج وهلك قالوا يا رسول الله هل علينا حرج أن نتداوى فقال تداووا عباد الله فإن الله لم ينزل داء إلا وقد أنزل له دواء وقال مرة شفاء إلا الهرم قالوا فما خير ما أعطى الرجل يا رسول الله قال خلق حسن ". ورواه شعبة وزهير بن معاوية وزيد بن أبي أنيسة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك عن النبي ﷺ مثله سواء.

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحداد قال حدثنا سليمان بن حذلم الدمشقي قال حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال حدثنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم الخثعمي عن أبي عمران الأنصاري عن أبي الدرداء عن رسول الله ﷺ قال : "إن الله عز وجل خلق الداء وخلق الدواء فتداووا ولا تداووا بحرام" . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان إملاء قال حدثنا قاسم بن أصبغ إملاء قال حدثنا علي بن عبد العزيز إملاء في المسجد الحرام قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثني شبيب بن شيبة قال سمعت عطاء يحدث في المسجد الحرام عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال : "ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام قيل يا رسول الله وما السام قال الموت" .

قال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث شبيب بن شيبة عن عطاء عن أبي سعيد وخالفه عمر بن أبي حسين فرواه عن عطاء عن أبي هريرة حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير عن عمر بن سعيد بن أبي حسين قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" . ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس

وقد يحتمل أن يكون عند عطاء عنهم أخبرني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا طلحة عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : "يا أيها الناس تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له شفاء إلا السام والسام الموت" .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الهيثم أبو الأحوص قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثني ابن وهب قال أخبرني ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء أو شفاء الشك من أبي الأحوص إذا أصيب الدواء الذي هو شفاء الداء" .

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حرب بن ميمون قال سمعت عمران العمى قال سمعت أنس بن مالك يقول : أن رسول الله ﷺ قال : "إن الله عز وجل حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا" .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ حدثنا المقرئ حدثنا المسعودي عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ : "إن الله لم ينزل داء إلا وقد وضع له شفاء إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر" .

وحدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عطاء بن السائب قال دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي أعوده فأراد غلام له أن يداويه فنهيته فقال دعه فإني سمعت عبد الله بن مسعود يخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال : "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء" وربما قال سفيان شفاء علمه من علمه وجهله من

جهله". رواه وكيع عن سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن ابن مسعود موقوفا من قوله والله الموفق للصواب.

حديث سادس وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال : "يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم .

لا خلاف بين رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث هكذا وفي هذا الباب حديث علي بن أبي طالب مسند وسنذكره فيه إن شاء الله وزعم البزار أن فيه عن أبي هريرة.

وهو حديث بين المعنى مستغن عن التأويل إلا أن الفقهاء اختلفوا في القول به فقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول أهل المدينة إذا سلم رجل على جماعة من الرجال فرد عليه واحد منهم أجزأ عنهم وشبهه الشافعي رحمه الله بصلاة الجماعة والتفقه في دين الله وغسل الموتى

ودفنهم والصلاة عليهم وبالسفر إلى أرض العدو لقتالهم قال هذه كلها فروض على الكفاية إذا قام بشيء منها بعض القوم أجزأ عن غيرهم.

قال أبو عمر: الحجة في فرض رد السلام قول الله عز وجل : {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء : من الآية86] والحجة في أن هذا الفرض لا يتعين في هذه المسألة حديث زيد بن أسلم هذا وقال أبو جعفر الأزدي الطحاوي حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف أنه كان ينكر الحديث الذي روى عن النبي ﷺ أنه قال : "إذا رد السلام بعض القوم أجزأ عن الجميع" .

وقال لا يجزئ إلا أن يردوا جميعا. قال أبو جعفر ولا نعلم في هذا الباب شيئا روى عن النبي ﷺ غير حديث مالك عن زيد بن أسلم وشيء روى فيه عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن رسول الله ﷺ وكلا الوجهين لا يحتج به قال وحديث زيد بن أسلم إنما فيه إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم قال وإنما هو ابتداء السلام وابتداء السلام خلاف رد السلام لأن السلام المبتدأ تطوع ورده فريضة قال وليس هو من الفروض التي على الكفاية لأنه لو كان مع القوم نصراني فرد النصراني دون أحد من المسلمين لم يسقط ذلك عنهم فرض السلام فدل على أن فرض السلام من الفروض المتعينة التي تلزم كل إنسان بنفسه.

قال أبو عمر: أما قوله : إن حديث زيد بن أسلم هذا معناه الابتداء فغير مسلم له ما ادعاه من ذلك وظاهر الحديث يدل على خلاف ما تأول فيه وذلك قوله أجزأ عنهم لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب عليهم والابتداء بالسلام ليس بواجب عند الجميع ولكنه سنة وخير وأدب والرد واجب عند جميعهم فاستبان بقوله أجزأ عنهم أنه أراد بالحديث الرد والله أعلم هذا وجه الحديث فبطل ما تأول الطحاوي وصح ما ذهب إليه فقهاء الحجاز وأما قوله فإنه لا يروى في هذا غير حديث زيد بن أسلم وحديث أبي النضر وهما منقطعان فليس كما قال عندنا وقد روينا بإسناد متصل من حديث علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي ومن قال بقولهم

حدثنا خلف بن القاسم الحافظ قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال حدثنا سعيد بن خالد قال حدثني عبد الله بن الفضل عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله ﷺ : "يجزئ من الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم ويجزئ عن القعود أن يرد أحدهم .

ففي هذا الحديث بيان موضع الخلاف وقطع التنازع لأنه سوى بين الابتداء والرد وجعل ذلك على الكفاية وهو حديث حسن لا معارض له وسعيد بن خالد هذا هو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم وقد ضعفه جماعة منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكراً لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد على أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع بينهما الأعرج في غير ما حديث فالله أعلم وسائر الإسناد أشهر من أن يحتاج إلى ذكرهم وذكر أبو داود هذا الخبر عن الحسن الحلواني عن عبد الملك بن إبراهيم الجدي عن سعيد بن خالد الخزاعي بإسناده مثله.

وقد روى ابن جريج هذا الخبر عن زيد بن أسلم بهذا المعنى مكشوفا حدثنيه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا عيسى بن يونس عن ابن جريج عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله ﷺ : "إذا مر القوم على المجلس فسلم منهم رجل أجزأ ذلك عنهم وإذا رد من أهل المجلس رجل أجزأ ذلك عنهم" .

قال أبو عمر: روى في هذا الباب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ ولا يصح بهذا المعنى فيه شيء غير ما ذكرنا والله أعلم حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم حدثنا الحرث بن أبي أسامة حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج قال : حدثنا الوليد أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله ﷺ : "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والماشيان أيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" . وبهذا الإسناد عن ابن جريج قال أخبرني زياد أن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ : "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير" .

ومعنى قوله : "أجزأ" في الابتداء أي أجزأ في السنة المندوب إليها كما يقال من أتى الوليمة أجزأه التبريك والدعاء إذا كان صائما وإنما قلنا هذا بدليل إجماعهم على أن الابتداء بالسلام سنة وأن الرد فرض على ما ذكرنا من اختلافهم في تعيينه وكفايته والابتداء ليس كذلك عند جميعهم أخبرنا عبد الرحمن حدثنا علي حدثنا أحمد حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب قال حدثني جرير بن حازم عن سليمان بن مهران عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : "السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه في الأرض فافشوه بينكم فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب".

قال وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبد الله بن أبي زكرياء فحبستني دابتي تبول ثم أدركته ولم أسلم فقال ألا تسلم فقلت إنما كنت معك آنفا فقال وإن لقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يتسايرون فتفرق بينهم الشجرة فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض وقال ابن عباس وابن عمر انتهى السلام إلى البركة كما ذكر الله عز وجل عن صالح عباده : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود : من الآية73] وكانا يكرهان أن يزيد أحد في السلام على قوله وبركاته والله الموفق للصواب.

حديث سابع وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال : "أعطوا السائل وإن جاء على فرس" .

لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافا بين رواة مالك وليس في هذا اللفظ مسند يحتج به فيما علمت.

وفيه من الفقه الحض على الصدقة وفيه أن الفرس إذا كان صاحبه محتاجا إليه لا غنى به عنه لضعفه عن التصرف في معاشه على رجليه فإن ملكه للفرس لا يخرجه عن حد الفقر ولا يدخله في حكم الأغنياء الذين لا تحل لهم الصدقة.

وقد أطلق رسول الله ﷺ إعطاءه وإن جاء على فرس ولم يقل من صدقة التطوع دون الصدقة الواجبة فجائز أن يعطى من كل صدقة.

ومحمل الدار التي لا غنى لصاحبها عن سكناها ولا فضل له فيها عما يحتاج إليه منها والخادم الذي لا غنى به عنه محمل الفرس وهذا قول جمهور فقهاء الأمصار وقد تقدم القول في ذلك في باب حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن الأسدي من كتابنا هذا فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.

ويحتمل أن يكون ﷺ أراد بقوله في هذا الحديث الحض على إعطاء السائل وأن لا يرد كائنا من كان إذا رضي لنفسه بالسؤال إذ الأغلب من هذه الحال أنها لا تكون إلا عن حاجة ندباً إلى نوافل الخير وصدقة التطوع وفعل البر والإحسان بكل مستضعف إذا لم يعلم أنه غني مستكثر بالسؤال مع ما كان منه ﷺ من التغليط في المسألة وكراهيتها وقد تقدم هذا المعنى مجودا فلا وجه للإكثار فيه.

وقد روي معنى هذا الحديث مسندا عن النبي ﷺ من حديث الحسين بن علي حدثنا عبد الوارث ابن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا وكيع عن سفيان عن مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين عن أبيها قال قال رسول الله ﷺ : "للسائل حق وإن جاء على فرس" .

وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثنا محمد ابن علي بن الحسن بمرو قال حدثنا محمد بن يعقوب قال حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال حدثنا عبد الله بن عبد الملك عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال : "لولا أن السوال يكذبون ما أفلح من ردهم" .

وقد روى عمر بن راشد عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال دخل رسول الله ﷺ على بلال فوقف بالباب سائل فرده فقال رسول الله ﷺ : "لو صدق السائل ما أفلح من رده" وهذا حديث منكر لا أصل له في حديث مالك ولا يصح عنه.

ومما يشبه هذا المعنى حديث موضوع أيضا على مالك وضعه محمد بن عبد الله ويقال ابن عبد الرحمن بن بجير، عن أبيه عن مالك حدثنا خلف بن قاسم حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي حدثنا أبي والعقيلي قالا أخبرنا محمد بن عبد الله بن بجير بن يسار حدثنا أبي حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال : "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يعلم به فيتصدق عليه قيل يا رسول الله فما هؤلاء الذين يغشون بيوتنا قال أولئك الغناة قيل وما الغناة قال الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يتوضئون لصلاة ولا يرون لأحد عليهم حقا ويرون حقهم على الناس واجبا وإذا قام الناس في جمعة أو فطر أو أضحى يسألون الله من فضله قاموا يسألون الناس مما في أيديهم" .

ومما وضع أيضا على مالك مما يدخل في هذا الباب ما حدثناه خلف بن قاسم حدثنا محمد بن أحمد بن كامل حدثنا عبيد الله بن محمد بن حسين الدمياطي حدثنا موسى ابن محمد بن عطاء حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "هدية الله إلى المؤمن السائل على بابه" . ورواه أيضا سعيد بن موسى عن مالك بإسناده مثله وموسى بن محمد وسعيد بن موسى متروكان والحديث موضوع. "وحسبنا الله ونعم الوكيل".

حديث ثامن وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال : "إذا تزوج أحدكم المرأة أو اشترى الجارية فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة وإذا اشترى البعير فليأخذ بذروة سنامه وليستعذ بالله من الشيطان" .

وهذا أيضا مرسل عند جميع الرواة للموطأ والله أعلم ومعناه يستند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي ومن حديث أبي لاس الخزاعي وقد رواه عنبسة بن عبد الرحمن عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي ﷺ وعنبسة ضعيف لا يحتج به وفيه إباحة النكاح والبيع والشراء وفيه أن الدعاء كله ترجى إجابته.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول : "إذا أفاد أحدكم دابة أو امرأة أو خادما أو بعيرا فليضع يده على ناصيته وليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه فأما البعير فإنه يأخذ بذروة سنامه ثم ليقل مثل ذلك" .

حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا الحسن بن علي بن داود قال حدثنا أبو غسان عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عجلان عن أبيه محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال : "إذا تزوج أحدكم المرأة أو ابتاع الجارية أو البعير أو الدابة فليأخذ بناصيتها ثم ليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن وشر ما جبلتها عليه" .

وكذلك رواه حاتم بن إسماعيل وأبو غسان محمد بن مطرف عن ابن عجلان بإسناده ومعناه ورواه ابن لهيعة أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ مثله وذكر أسد بن موسى حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام قال : "إذا ابتاع أحدكم الوصيف أو الوصيفة أو الدابة أو تزوج المرأة فليأخذ بناصيتها ويقول اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه" .

وحدثنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال حملنا رسول الله ﷺ على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج فقلنا يا رسول الله ما نرى أن تحملنا قال : "ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان فاذكروا الله عليها إذا ركبتموها كما أمركم الله ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله" .

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هشيم بن بشير عن يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل المزني قال قال رسول الله ﷺ : "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين" .

حديث تاسع وأربعون لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال : "من غير دينه فاضربوا عنقه" .

هكذا رواه جماعة رواة الموطأ مرسلا ولا يصح فيه عن مالك غير هذا الحديث المرسل عن زيد بن أسلم وقد روى فيه عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال : "من بدل دينه فاقتلوه" . وهو منكر عندي والله أعلم. والحديث معروف ثابت مسند صحيح من حديث ابن عباس حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا سعيد بن السكن قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : أتى علي بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا ما أحرقتهم لقول رسول الله ﷺ : "لا تعذبوا بعذاب الله" . ولقتلتهم لقول رسول الله ﷺ : "من بدل دينه فاقتلوه" .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عكرمة أن عليا أحرق ناسا ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال لم أكن لأحرقهم بالنار لأن رسول الله ﷺ قال : "لا تعذبوا بعذاب الله" . وكنت قاتلهم لقول رسول الله ﷺ : "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك عليا فقال ويح أم ابن عباس.

قال أبو عمر: روي من وجوه أن عليا إنما حرقهم بالنار بعد ضرب أعناقهم وسنذكر بعض الأخبار بذلك في آخر هذا الباب إن شاء الله.

وفقه هذا الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك وإنما اختلفوا في استتابته فطائفة منهم قالت لا يستتاب على ظاهر هذا الحديث ويقتل وطائفة منهم قالت يستتاب بساعة واحدة ومرة واحدة ووقتا واحدا وقال آخرون يستتاب شهرا وقال آخرون يستتاب ثلاثا على ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ولم يستتب ابن مسعود وابن النواحة وحده لقول رسول الله ﷺ : "لولا أنك رسول لقتلتك" . قال له : وأنت اليوم لست برسول واستتاب غيره.

روى مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عمر عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل من مغربة خبر قال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فماذا فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني.

أخبرنا خلف بن القاسم قال حدثنا ابن أبي العقيب قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد ابن خالد قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه قال قدم وفد أهل البصرة على عمر فأخبروه بفتح تستر فحمد الله ثم قال هل حدث فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه فقتلناه قال ويلكم أعجزتم أن تطبقوا عليه بيتا ثلاثا ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني.

وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن أنس بن مالك أن نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام يوم تستر ولحقوا بالمشركين فلما فتحت قتلوا في القتال قال فأتيت عمر بفتحها فقال ما فعل النفر من بكر بن وائل فعرضت في حديث لأشغله عن ذكرهم فقال ما فعل النفر من بكر بن وائل قلت قتلوا قال لأن أكون كنت أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء قلت وهل كان سبيلهم إلا القتل ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين قال كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه فإن فعلوا قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن.

وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني أن عليا أتى بالمستورد العجلي وقد ارتد عن الإسلام فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله وروى عبادة عن العلاء أبي محمد أن عليا أخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام فعرض عليه الإسلام شهرا فأبى فأمر بقتله.

ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد فدل ذلك على أن معنى الحديث والله أعلم من بدل دينه وأقام على تبديله فاقتلوه وأما أقاويل الفقهاء فروى ابن القاسم عن مالك قال يعرض على المرتد الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل قال وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما تقتل الزنادقة قال وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك ويقتل الزنادقة ولا يستتابون والقدرية يستتابون قال فقيل لمالك كيف يستتابون قال يقال لهم أتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وقال ابن وهب عن مالك ليس في استتابة أمر من جماعة الناس.

أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثنا الحسن بن سلمة حدثنا عبد الله بن الجارود قال حدثنا إسحاق بن قال سمعت أحمد بن حنبل يقول المرتد يستتاب ثلاثا والمرتدة تستتاب ثلاثا والزنديق لا يستتاب قال إسحاق وقال لي إسحاق بن راهويه كما قال أحمد سواء.

قال أبو عمر: هذا مذهب مالك سواء وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق جميعا فمن لم يتب منهما قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي ﷺ لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال الشافعي ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكر قتل فإن أقر أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره والمشهور من قول أبي حنيفة وأصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب وهو قول ابن علية قالوا ومن قتله قبل أن يستتاب فقد أساء ولا ضمان عليه وقد روى محمد بن الحسن في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والزنديق عندهم والمرتد سواء إلا أن أبا يوسف لما رأى ما يصنع الزنادقة وأنهم يعودون بعد الإستتابة قال أرى إذا أتيت بزنديق أمرت بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله لم أقتله وخليته.

وقال الليث بن سعد وطائفة معه لا يستتاب من ولد في الإسلام ثم ارتد إذا شهد عليه ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الحسن يستتاب المرتد مائة مرة وقد روى عنه أنه يقتل دون استتابة وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة كان يقول يقتل المرتد ولا يستتاب ويحتج بحديث معاذ مع أبي موسى الأشعري وقد ذكرناه في آخر هذا الباب.

قال أبو عمر: ظاهر هذا الحديث يشهد لما ذهب إليه الليث بن سعد إلا أنه عم كل من بدل دينه سواء ولد في الإسلام أو لم يولد والحديث عندي فيه مضمر وذلك لما صنعه الصحابة رضي الله عنهم من الاستتابة لأنهم لم يكونوا يجهلون معنى الحديث فكأنّ معنى الحديث والله أعلم من بدل دينه فاقتلوه إن لم يتب وقال مالك رحمه الله إنما عنى بهذا الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر وأما من خرج من اليهودية أو النصرانية أو من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث وعلى قول مالك هذا جماعة الفقهاء إلا أن الشافعي رحمه الله قال إذا كان المبدل لدينه من أهل الذمة كان للإمام أن يخرجه من بلده ويلحقه بأرض الحرب وجاز له استحلال ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد له هكذا حكاه المزني وغيره من أصحابه عنه وهو المعروف من مذهبه وحكى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن الذمي إذا خرج من دين إلى دين كان للإمام قتله بظاهر الحديث والمشهور عنه ما قدمنا ذكره من رواية المزني والربيع وغيرهما عنه وقالت فرقة إذا ارتد استتيب فإن تاب قبل منه ثم إن ارتد فكذلك إلى الرابعة ثم يقتل ولا يستتاب وروي عن الحسن أنه يقتل إلا أن يتوب قبل أن يرفع إلى الإمام وإن لم يتب حتى يصير إلى الإمام قتل وكانت توبته بينه وبين الله جعله حدا من الحدود ولا يسع الإمام إلا أن يقيمه.

واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا من أنثى ومن تصلح للواحد والاثنين والجمع والذكر والأنثى وقال : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان". فعم كل من كفر بعد إيمانه.

وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا تقتل المرتدة وهو قول ابن شبرمة وإليه ذهب ابن علية وقال ابن شبرمة إن تنصرت المسلمة فتزوجها نصراني جاز وحجة من قال لا تقتل المرتدة أن ابن عباس روى هذا الحديث وقال لا تقتل المرتدة ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله وقول ابن عباس في ذلك رواه الثوري وأبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس وروى قتادة عن خلاص عن علي مثله وهو قول الحسن وعطاء ومن حجتهم أن رسول الله ﷺ "نهى عن قتل النساء والولدان" وأن أبا بكر رضي الله عنه سبى نساء أهل الردة وقالوا معنى قوله ﷺ : "من بدل دينه فاقتلوه" إنما هو على كل من كان حكمه إذا قدر عليه القتل على كفره والمرأة ليس حكمها القتل على كفرها وإنما حكمها السبي والاسترقاق فلا تدخل في تأويل هذا الحديث لنهيه ﷺ عن قتل النساء والولدان وسيأتي القول في هذا الحديث في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.

وروى ابن المبارك عن معمر عن الزهري في المرتدة قال تقتل وقال قتادة تسبى لأن أبا بكر قتل أهل الردة وسبى نساءهم قال معمر كانت دار شرك أخبرنا خلف بن القاسم حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد حدثنا عبد الله بن أحمد ابن عبد السلام حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا يعقوب ابن محمد الزهري حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن مجاهد بن سعيد عن عامر الشعبي قال ارتدت بنو عامر وقتلوا من كان فيهم من عمال رسول الله ﷺ وحرقوهم بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد رضي الله عنهما أن يقتل بني عامر ويحرقهم بالنار.

ولما ارتد الفجأة واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بعث إليه أبو بكر الصديق الزبير بن العوام في ثلاثين فارسا وبيته ليلا فأخذه فقدم به على أبي بكر فقال أبو بكر أخرجوه إلى البقيع يعني إلى المصلى فأحرقوه بالنار فأخرجوه إلى المصلى فأحرقوه.

وزعم بعض أهل السير أنه رفع عليه أنه كان ينكح كما تنكح المرأة ذكر ذلك كله يعقوب بن محمد الزهري في كتاب الردة قال وحدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن داود ابن بكر عن محمد بن المنكدر أن خالدا كتب إلى أبي بكر يذكر أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فاستشار فيه أبو بكر فكان علي من أشدهم فيه قولا فقال إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار فأجمع رأيهم على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه قال وحدثني معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن عياض بن عبد الله قال لما استشارهم أبو بكر قالوا نرى أن ترجمه فقال علي أرى أن تحرقوه فإن العرب تأنف من المثلة ولا تأنف من الحدود فحرقوه.

وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب في ردة أسد وغطفان يوم بزاخة قال فاقتتلوا يعني هم والمسلمون قتالا شديدا وقتل المسلمون من العدو بشرا كثيرا وأسروا منهم أسارى فأمر خالد بالحظيرة أن تبنى ثم أوقد تحتها نارا عظيمة فألقى الأسارى فيها وروى شيبان عن قتادة عن أنس قال قاتل أبو بكر أهل الردة فقتل وسبى وحرق.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب قال حدثنا عكرمة قال لما بلغ ابن عباس أن عليا أحرق المرتدين يعني الزنادقة قال لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله ﷺ : "من بدل دينه فاقتلوه" ولم أحرقهم لقول رسول الله ﷺ : "لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله" . قال سفيان فقال عمار الدهني وكان في المجلس مجلس عمرو بن دينار وأيوب يحدث بهذا الحديث أن عليا لم يحرقهم بالنار إنما حفر لهم أسرابا فكان يدخن عليهم منها حتى قتلهم فقال عمرو بن دينار أما سمعت قائلهم وهو يقول :

لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ... فذاك الموت نقداً غير دين

وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن هذا الشعر للنجاشي قاله إذ لحق بمعاوية فارا في حين ضرب على له في الخمر مائة جلدة.

قال أبو عمر: قد روينا من وجوه أن عليا إنما أحرقهم بعد قتلهم ذكر العقيلي قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا شبابة وذكره أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني محمد بن حاتم قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا خارجة بن مصعب عن سلام بن أبي القاسم عن عثمان بن أبي عثمان الأنصاري قال جاء ناس من الشيعة إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين أنت هو قال من أنا قالوا أنت هو قال ويلكم من أنا قالوا أنت ربنا قال ويلكم ارجعوا فتوبوا فأبوا فضرب أعناقهم ثم قال يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض اخدودا فأحرقهم

بالنار ثم قال :

لما رأيت الأمر أمرا منكراً ... أججت ناري ودعوت قنبرا

قال أبو عمر: روى عثمان بن عفان وسهل بن حنيف وعبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعائشة وجماعة من الصحابة عن النبي ﷺ أنه قال : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس" فالقتل بالردة على ما ذكرنا لا خلاف بين المسلمين فيه ولا اختلفت الرواية والسنة عن النبي ﷺ فيه وإنما وقع الاختلاف في الاستتابة وفيما ذكرنا من المرتدة.

قال أبو عمر: احتج من قال يقتل المرتد إذا ارتد ثالثة أو رابعة بقول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء : من الآية137] الآية والقياس أن من ولد على الفطرة أحق أن يستتاب لأنه لا يعرف غير الإسلام واحتج من لم ير استتابة المرتد وقال يقتل على ظاهر هذا الحديث دون استتابة بحديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ استعمله على اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل فقدم معاذ فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد فقال : "ما شأن هذا فقال هذا كان يهوديا فأسلم ثم ارتد وراجع دينه دين السوء فقال معاذ لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله فقال له أبو موسى اجلس فقال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال فأمر به فقتل".

رواه يحيى القطان عن قرة بن خالد عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى وروى من وجوه عن أبي موسى إلا أن بعضهم قال فيه أنه قد كان استتيب قبل ذلك أياما.

واحتج من رأى الاستتابة بهذا الحديث وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال كان عبد الله بن سعد يكتب لرسول الله ﷺ فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله ﷺ أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله ﷺ

وأما ميراث المرتد فقد اختلف العلماء فيه والصحيح عندنا أن ميراثه في بيت المال لا يرثه أحد من ورثته لقول رسول الله ﷺ : "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" وسنبين ذلك ونذكر أقاويل السلف فيه عند ذكرنا حديث ابن شهاب عن علي بن حسين في كتابنا هذا إن شاء الله والله المستعان.

حديث موفى خمسين لزيد بن أسلم مرسل

مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله ﷺ فدعا له رسول الله ﷺ بسوط فأتي بسوط مكسور فقال : "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : "دون هذا" فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله ﷺ فجلد ثم قال : "أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورة شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" .

هكذا روى هذا الحديث مرسلا جماعة الرواة للموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي ﷺ مثله سواء.

وذكر ابن وهب في موطئه عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت عبيد الله بن مقسم يقول سمعت كريبا مولى ابن عباس يحدث أو يحدث عنه أنه قال أتى رجل إلى النبي ﷺ فاعترف على نفسه بالزنا ولم يكن الرجل أحصن فأخذ رسول الله ﷺ سوطا فوجد رأسه شديدا فرده ثم أخذ سوطا آخر فوجد رأسه لينا فأمر رجلا من القوم فجلده مائة جلدة ثم قام على المنبر فقال : "أيها الناس اتقوا الله واستتروا بستر الله وقال أنظروا ما كره الله لكم أو قال احذروا ما حذركم الله من الأعمال فاجتنبوه فإنه ما نؤتى به من امرئ" . قال ابن وهب معناه نقيم عليه كتاب الله وقد ذكرنا الآثار المسندة في الاعتراف بالزنا التي جاءت في معنى هذا الحديث في باب مراسيل ابن شهاب من كتابنا هذا.

وأما قوله فيه : "بسوط لم تقطع ثمرته"، فإنه أراد لم يمتهن ولم يلن والثمرة الطرف وإذا ركب كثيرا بالسوط ذهب طرفه تقول العرب ثمرة السوط وذباب السيف قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير :

ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار

عليجين لم تقطع ثمارهما ... قد طالما سجدا للشمس والنار

ثمارهما يعني القلفة وكذلك قال صاحب العين.

وفي هذا الحديث من الفقه أن من اعترف بالزنا مرة واحدة لزمه الحد إذا كان بالغا عاقلا مميزا ولم ينصرف عن إقراره ذلك ولا رجع عنه وهذا قول مالك والشافعي وأصحابهما وبه قال عثمان البتي وإليه ذهب أبو جعفر الطبري ومن حجتهم أن هذا الحديث ليس فيه أكثر من ذكر اعترافه والاعتراف إذا أطلق فإنه يلزم كل ما وقع عليه اسم اعتراف مرة كان أو أكثر من ذلك ولا وجه لقول من قال : إن الاعتراف كالشهادة وأنه لا يلزم فيه أقل من أربع مرات في الزنا وفي السرقة مرتين لإجماعهم على أنه يلزم في غير الحدود الإقرار مرة واحدة وسنذكر اختلافهم في هذه المسألة في باب مراسيل ابن شهاب إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث أيضا أن الحد على الزاني الجلد بالسوط وذلك إذا كان بكرا لم يحصن عند جماعة فقهاء الأمصار وعلماء المسلمين.

ومعنى قول الله عز وجل : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور : من الآية2] معناه الأبكار دون من قد أحصن وأما المحصن فجلده الرجم إلا عند الخوارج ولا يعدهم العلماء خلافا لجهلهم وخروجهم عن جماعة المسلمين

وقد رجم رسول الله ﷺ المحصنين فممن رجم ماعز الأسلمي والغامدية، والجهنية، والتي بعث إليها أنيسا ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة ورجم بالشام وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل ليس لك ذلك للذي في بطنها فإنه ليس لك عليه سبيل وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع علي في المجنونة الحبلى ورجم علي شراحة الهمدانية ورجم أيضا في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا وهذا كله مشهور عند العلماء إلا أنهم اختلفوا في جلد المحصن مع الرجم فقالت فرقة يجلد ويرجم وقال الجمهور يرجم ولا جلد عليه. وسنذكر ذلك في حديث ابن شهاب عن عبيد الله عند قوله ﷺ لأنيس الأسلمي وائت المرأة فإن اعترفت فارجمها من كتابنا هذا إن شاء الله.

وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن الاعتراف بما يوجب الحد يقوم مقام الشهادة على ما ذكرنا وهذا ما لا خلاف فيه إلا ما قدمنا ذكره من العدد في الإقرار.

واختلف الفقهاء في رجوع المقر بالحد بعد إقراره قبل أن يقام عليه الحد فقال مالك يقبل رجوعه عن الإقرار بالزنا والسرقة وشرب الخمر ويغرم للمسروق منه ما سرق إن ادعاه وهو قول الثوري والشافعي وأبي حنيفة والحسن بن حي.

وقد روى عن مالك أنه إذا ضرب أكثر الحد ثم انصرف أتم عليه وروى أبو يوسف عن ابن أبي ليلى أنه أنه لا يقبل رجوعه وروى عنه الليث أنه يقبل وقال عثمان البتي لا يقبل رجوعه وقال الأوزاعي في رجل اعترف على نفسه بالزنا أربع مرات وهو محصن ثم ندم وأنكر أن يكون أتى ذلك أنه يضرب حد الفرية على نفسه فإن اعترف بسرقة أو شرب خمر أو قتل ثم أنكر عاقبه السلطان دون الحد.

قال أبو عمر: الصحيح أنه لا يجلد إذا رجع عن إقراره لأنه محال أن يقام عليه حد وهو منكر له بغير بينة ألا ترى أن الشهود لو رجعوا عن شهادتهم قبل إقامة الحد عليه لم يقم وكذلك لا يتم عليه إذا ابتدئ به لأنه كل جلدة قائمة بنفسها فغير جائز أن يقام عليه شيء منها بعد رجوعه كرجوع الشهود سواء وليس الإقرار بحد الله وحق لا يطالب به آدمي كالإقرار بالمال للآدميين لأن الإقرار بالحد توبة لم تعرف إلا من قبله فإن نزع عنها كان كمن لم يأت بها والكلام في هذا واضح وبالله التوفيق.

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن الحدود لا تقام إلا بسوط قد لان وأما قوله : "لم تقطع ثمرته" فهذا من الاستعارة أراد أنه لم يمتهن، وقوله : "قد ركب به" يعني نالته المهنة ولينته.

واختلف الفقهاء في أشد الحدود ضربا فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد : الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح ضرب بين ضربين وقال أبو حنيفة وأصحابه التعزير أشد الضرب وضرب الزنا أشد من الضرب في الخمر وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف وقال الثوري ضرب الزنا أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب وقال الحسن بن حي ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف وعن الحسن البصري مثله وزاد ضرب الشارب أشد من ضرب التعزير وقال عطاء بن أبي رباح حد الزنا أشد من حد الفرية وحد الفرية والخمر واحد.

واحتج من جعل الضرب في الحدود كلها واحدا سواء بورود التوقيف فيها على عدد الجلدات ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له فوجبت التسوية في ذلك لأن مثل هذا لا يؤخذ قياسا وإنما هي عقوبات ورد فيها توقيف عدد دون كيفية شدة وتخفيف في نوع الضرب فالوجه فيها التسوية لأن من فرق احتاج إلى دليل ولا دليل معه في ذلك إلا التحكم.

ومن حجة من قال إن الزنا أشد ضربا من القذف والقذف أشد من الخمر لأن الزنا أكثر عددا في الجلدات فاستحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية لأن الله قد قصر بالعدد فيه عن عدد الزنا وكذلك الخمر لم يثبت فيه حد إلا بالاجتهاد وسبيل مسائل الاجتهاد أن لا تقوى قوة مسائل التوقيف.

ومن حجة من لم يبلغ بالتعزير الحد في العدد ولا في الإيجاع عدم النص فيه وإن عرض المسلم ودمه محظوران محرمان لا يحلان إلا بيقين لا شك فيه مع ما روى عن النبي ﷺ أنه قال : "لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله" . رواه أبو بردة الأنصاري عن النبي ﷺ من حديث بكير بن وعثمان عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر عن أبي بردة الأنصاري.

وذكر عبد الرزاق عن قيس بن ربيع قال حدثني أبو حصين عن حبيب بن صهبان قال سمعت عمر يقول : ظهور المسلمين حمى الله لا يحل لأحد أن يجرحها إلا في حد قال ولقد رأيته يقيد من نفسه.

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن أيوب عن أبيه عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث أنه قال لا يبلغ بالعقوبة الحدود وعن ابن جريج أيضا عن عمر بن عبد العزيز نحوه.

واحتج من رأى التعزير أشد الحدود ضربا بما حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل شقيق ابن سلمة الأسدي قال كان رجل له على أم سلمة دين فكتب إليها كتابا يحرج عليها فأمر به عمر بن الخطاب أن يجلد ثلاثين جلدة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم قال سفيان لأنها أمه ولا ينبغي للرجل أن يضيق على أمه ونحو هذا.

وبما رواه شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد قال أتى عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها اضربوها حدها ولا تخرقوا عليها جلدها قال فهذان الحديثان يدلان على أن عمر رضي الله عنه كان يرى الضرب في التعزير أشد منه في الزنى قالوا وكذلك لا محالة سائر الحدود

قال أبو عمر: من قال أن الحدود كلها سواء إلا في العدد جعل قوله : {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور : من الآية2] في إسقاط الحد لا في صفة الضرب وضرب الزنى أخف عندهم فإنهم يقولون ضرباً غير مبرح جلدا ولا سوطا فوق سوط. واحتج من قال ضرب القذف أشد الضرب بما أخبرني به أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن عمر قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال لما جلد أبو بكرة أمرت جدتي أم كلثوم بنت عقبة بشاة فسلخت ثم ألبس مسكها قال فهل ذلك إلا من ضرب شديد؟

هكذا قال جدتي وإنما هي أم إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف جدة سعد بن إبراهيم حدثنا خلف بن قاسم حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان حدثنا الحسين بن محمد بن الضحاك حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده قال لما جلد أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحتها ثم جعلت جلدها على ظهره وما ذاك إلا من ضرب شديد وكان أبي يرى أن ضرب القذف شديد.

وعن علي بن أبي طالب أنه قال لقنبر في العبد الذي أقر عنده بالزنى : اضربه كذا وكذا ولا تنهك.

قال أبو عمر: فيما روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما في هذا الباب من صفة ضرب الزاني دليل على أن قوله عز وجل : {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور : من الآية2] الآية إنما أريد به أن لا تعطل الحدود وأن لا يأخذ الحكام رأفة على الزناة فيعطلوا حدود الله ولا يحدوهم وهذا قول جماعة أهل التفسير وممن قال ذلك الحسن ومجاهد وعطاء، وعكرمة وزيد بن أسلم وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا في الضرب والجلد.

وذكر إسماعيل القاضي قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن عبد الله أو عبد الله بن عبد الله يعني ابن عمر قال ضرب ابن عمر جارية له أحدثت فجعل يضرب رجليها وأحسبه قال ظهرها فقلت {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فقال يا بني وأخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها أما أنا فقد أوجعت حيث أضرب.

وذكره وكيع عن نافع بن عمر الجمحي بإسناده مثله قال إسماعيل وحدثنا نصر بن علي قال حدثنا عبد الملك ابن الصباح عن عمران بن حديد قال سألت أبا مجلز عن الرأفة فقلت إنا لنرجمهم إذا نزل ذلك بهم قال ليس بذاك إنما الرأفة ترك الحدود إذا رفعت إلى السلطان حدثني قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل قال أدركت عمر جلد رجلا فقال للجلاد لا ترني إبطك.

وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن محمد الباهلي قال حدثنا سليمان بن عمر وهو الأقطع قال حدثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول : كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين حتى يلين ثم يضرب به قلنا لأنس في زمن من كان هذا؟ قال في زمن عمر بن الخطاب.

واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود فقال مالك الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر قال وكذلك التعزير لا يضرب إلا في الظهر عندنا وقال الشافعي وأصحابه يتقي الوجه والفرج ويضرب سائر الأعضاء وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل قول الشافعي أنه كان يقول اتقوا وجهه ومذاكيره.

وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تضرب الأعضاء كلها في الحدود إلا الفرج والوجه والرأس وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا وروى عن عمر وابن عمر أنهما قالا لا يضرب الرأس

قال ابن عمر : لم نؤمر أن نضرب الرأس وروى سفيان عن عاصم عن أبي عثمان أن عمر رضي الله عنه أتي برجل في حد فقال للجلاد اضرب ولا تر إبطك وأعط كل عضو حقه.

ومن حجة مالك أن العمل عندهم بالمدينة لا يخفى لأن الحدود تقام أبدا وليس مثل ذلك يجهل وبنحو ذلك من العمل يسوغ الاحتجاج لكل فرقة لأنه شيء لا ينفك منه إلا ما روى كل واحد من الأثر عن السلف فيميل باختياره إليه.

واختلفوا في كيفية ضرب الرجال والنساء فقال مالك الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما يضربان قاعدين ويجرد الرجل في جميع الحدود ويترك على المرأة ما يسترها وينزع عنها ما يقيها من الضرب وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا يمد ويضرب قائما والمرأة قاعدة وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائماً غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه المحشو والفرو وقال الشافعي إن كان مده صلاحا مد.

ومن الحجة لمالك ما أدرك عليه الناس ومن الحجة للثوري حديث ابن عمر في رجم النبي ﷺ اليهوديين وفيه : "لقد رأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة". وهذا يدل على أن الرجل كان قائما والمرأة قاعدة وضرب أبو هريرة رجلا في القذف قائما وما جاء عن عمر وعلي في ضرب الأعضاء يدل على القيام والله أعلم.

وكل ما ذكرناه من المسائل في هذا الباب فإنها كلها قائمة المعنى في هذا الحديث حديث زيد بن أسلم هذا، يصلح ذكرها عنده وفيه أيضا ما يدل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة وواجب ذلك عليه أيضا في غيره ما لم يكن سلطانا يقيم الحدود وفي الستر على المسلم آثار كثيرة صحاح نذكر منها هاهنا ما يوافق معنى هذا الحديث وسائرها نذكرها عند قوله ﷺ في حديث يحيى بن سعيد : "يا هزال لو سترته بردائك كان خيرا لك إن شاء الله" .

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "من نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" .

قال أبو عمر: فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره، فستره على نفسه كذلك أو أفضل والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة والندم على ما صنع فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله وقد حدثنا خلف بن القسم حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان حدثنا أحمد بن محمد بن سلام حدثنا محمد بن علي الشقيقي قال سمعت أبي قال أخبرنا عبد الله بن المبارك قال أخبرنا مالك بن مغول عن العلاء بن بدر قال إن الله لا يهلك أمة وهم يستترون بالذنوب.

حدثني محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الأوزاعي قال أخبرني عثمان بن أبي سودة قال حدثني من سمع عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إن الله ليستر العبد من الذنب ما لم يخرقه قالوا وكيف يخرقه يا رسول الله قال يحدث به الناس" .

حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا عبيد الله بن محمد العمري قال حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب عن سالم ابن عبد الله قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول : "كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل عملا لا يرضاه الله بالليل ثم يتحدث به بالنهار" .

وذكر الحديث وحدثني أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف قال حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى بن إياس بن البكير أن صفوان بن سليم حدثه عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال : "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا نفحات الله عز وجل فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم" .

وحدثني قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا إبراهيم بن الهيثم بن المهلب الجزري أبو إسحاق إملاء قال حدثنا أبو اليمان قال حدثنا سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن أبي ذر قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : "أقسم على أربع قسما مبرورا والخامسة لو أقسمت عليها لبررت لا يعمل عبد خطيئة تبلغ ما بلغت ثم يتوب إلى الله إلا تاب الله عليه ولا يحب أحد لقاء الله إلا أحب الله لقاءه ولا يتولى الله عبد في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة ولا يحب عبد قوما إلا جعله الله معهم يوم القيامة والخامسة لو أقسمت عليها لبررت لا يستر الله عورة عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" .

حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي بمصر قال حدثنا أبو عمران موسى بن سهل البصري قال حدثنا عبد الواحد بن غياث قال حدثنا فضال بن جبير عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله ﷺ : "ثلاث لو حلفت عليهن لبررت والرابعة لو حلفت عليها لرجوت أن لا إثم لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له ولا يتولى الله عبد فيوليه إلى غيره ولا يحب عبد قوما إلا بعثه الله فيهم أو قال معهم ولا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه عند المعاد .

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عفان قال حدثنا همام قال سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال حدثنا شيبة الحضرمي أنه شهد عروة يحدث عمر بن عبد العزيز عن عائشة أن النبي ﷺ قال : "ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال قال حدثنا بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي إدريس قال : "لا يهتك الله ستر عبد في قلبه مثقال ذرة من خير" .

وأما قوله في حديث زيد بن أسلم المذكور في هذا الباب : "فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله". فإنه أراد والله أعلم بعد أمره بالاستتار بالذنب أنه من أقر عنده فلا شفاعة حينئذ له ولا عفو عنه ومن هذا وشبهه قام الدليل على أن الحدود إذا بلغت السلطان لم يجز أن يتشفع فيها ولا أن تترك إقامتها ألا ترى إلى قوله ﷺ في حديث صفوان بن أمية : "فهلا قبل أن تأتيني به" . وقول الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.

حديث أحد وخمسون لزيد بن أسلم

مالك أنه سمع زيد بن أسلم يقول ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يستجاب له وإما أن يدخر له وإما أن يكفر عنه.

قال أبو عمر: ذكرنا هذا الخبر في كتابنا هذا وإن كان في رواية مالك من قول زيد بن أسلم لأنه خبر محفوظ عن النبي ﷺ ولأن مثله يستحيل أن يكون رأيا واجتهادا وإنما هو توقيف ومثله لا يقال بالرأي.

حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ببغداد وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل بمصر قالا حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثنا شيبان قال أخبرنا علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "ما من مسلم يدعو دعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يؤخرها له في الآخرة وإما أن يكف عنه من الشر مثلها قالوا إذا نكثر قال الله أكثر ".

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن علي بن علي قال سمعت أبا المتوكل الناجي قال قال أبو سعيد الخدري قال نبي الله ﷺ : "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم فذكره حرفا بحرف إلى آخره إلا أنه قال يكفر عنه من السوء مثلها قالوا إذا نكثر يا رسول الله قال الله أكثر" . وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا جعفر بن سليمان قال حدثنا علي بن علي بن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ : "إن دعوة المسلم لا ترد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن تعجل له في الدنيا وأما أن تدخر له في الآخرة وأما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا" .

حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا أبو محمد إسماعيل بن محمد بن محفوظ الدمشقي بالرملة قال حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القرشي قال حدثنا عبد الله بن ثابت القرشي قال حدثنا سعد بن الصلت عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي ﷺ قال : "دعاء المسلم بين إحدى ثلاث إما أن يعطي مسألته التي سأل أو يرفع بها درجة أو يحط بها عنه خطيئة ما لم يدع بقطيعة رحم أو مأثم أو يستعجل"

قال أبو عمر: هذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله عز وجل : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : من الآية60] فهذا كله من الاستجابة وقد قالوا : كرم الله لا تنقضي حكمته ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة قال الله عز وجل {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون : من الآية71] .

وفي الحديث المأثور : "إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه" . وقال الأوزاعي : يقال أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه وعن أبي هريرة وغيره : "إن الله لا يقبل أو لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" . وقال سفيان قال محمد بن المنكدر قال لي عمر بن عبد العزيز عليك دين قلت نعم قال ففتح لك فيه في الدعاء قلت نعم قال لقد بارك الله لك في هذا الدين وروى أبو هريرة وأنس عن النبي ﷺ أنه قال : "إذا دعا أحدكم فليعزم وليعظم الرغبة ولا يقل إن شئت فإن الله لا مكره له ولا يتعاظمه شيء ولا يزال العبد يستجاب له ما لم يستعجل" وقد ذكرنا هذا المعنى بزيادة في معنى الدعاء في باب ابن شهاب عن أبي عبيد والحمد لله.

حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا ابن وهب قال حدثني أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت : "ما من عبد يدعو الله بدعوة فتذهب حتى يعجل له في الدنيا أو يدخرها له في الآخرة إذا هو لم يعجل أو يقنط" قال عروة : فقلت : يا أمتاه وكيف عجلته وقنوطه؟ قالت : يقول : قد سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب قال ابن قسيط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول : "ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب برجاء حتى يعجلها له في الدنيا أو يدخرها له في الآخرة".

وحدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا محمد بن جرير حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا مروان بن معاوية عن عمر بن حمزة عن محمد بن كعب القرظي يرفعه قال : "من دعا دعوة أخطأت باطلا أو حراما أعطى إحدى ثلاث كفرت عنه خطيئته أو كتبت له حسنة أو أعطى الذي سأل".