→ المقام الثالث: في حكم الإعادة والقضاء في موارد التقية | التقية المقام الرابع: في ترتب آثار الصحة على العمل الصادر تقية المؤلف: مرتضى الأنصاري |
انتهى |
المقام الرابع: في ترتب آثار الصحة على العمل الصادر تقية لا من حيث الإعادة والقضاء، سواء كان العمل من العبادات كالوضوء من جهة رفع الحدث، أم من المعاملات كالعقود والايقاعات الواقعة على وجه التقية.
فنقول: إن مقتضى القاعدة عدم ترتب الآثار، لما عرفت غير مرة من أن أوامر التقية لا تدل على أزيد من وجوب التحرز عن الضرر، وأما الآثار المترتبة على العمل الواقعي فلا.
نعم، لو دل دليل في العبادات على الإذن من امتثالها على وجه التقية، فقد عرفت أنه يستلزم سقوط الإتيان به ثانياً بذلك العمل.
وأما الآثار الأخر - كرفع الحدث في الوضوء بحيث لا يحتاج المتوضئ تقية إلى وضوء آخر بعد رفع التقية بالنسبة إلى ذلك العمل الذي توضأ له - فإن كان ترتبه متفرعاً على ترتب الامتثال بذلك العمل حكم بترتبه، وهو واضح، أما لو لم يتفرع عليه احتاج إلى دليل آخر.
ويتفرع على ذلك ما يمكن أن يدعى أن رفع الوضوء للحدث السابق عليه من الآثار امتثال الأمر به، بناء على أن الأمر بالوضوء ليس إلا لرفع الحدث، وأما وضوء دائم الحدث فكونه مبيحا لا رافعا من جهة دوام الحدث، لا من جهة قصور الوضوء عن التأثير.
وربما يتوهم أن ما تقدم من الأخبار الواردة في أن كل ما يعمل للتقية فهو جائز وأن كل شئ يضطر إليه للتقية فهو جائز، يدل على ترتب الآثار مطلقاً، بناء على أن معنى الجواز والمنع في كل شئ بحسبه.
فكما أن الجواز والمنع في الأفعال المستقلة في الحكم كشرب النبيذ ونحوه يراد به الإثم والعدم، وفي الأمور الداخلة في العبادات فعلاً أو تركاً يُراد به الإذن والمنع من جهة تحقق الامتثال بتلك العبادات، فكذلك الكلام في المعاملات، بمعنى عدم البأس، وثبوته من جهة ترتب الآثار المقصودة من تلك المعاملة، كما في قول المشهور: تجوز المعاملة الفلانية أو لا تجوز.
وهذا توهم مدفوع بما لا يخفى على المتأمل. ثم لا بأس بذكر بعض الأخبار الواردة مما اشتمل على بعض الفوائد.
منها: ما عن الاحتجاج بسنده عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في بعض احتجاجه على بعض، وفيه: وآمرك أن تستعمل التقية في دينك، فإن الله عز وجل يقول: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه، وفي إظهار البراءة إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلوات المكتوبات إن خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعدائنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وإن إظهار برائتك عند تقيتك لا يقدح فينا، ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها وجاهها الذي به تمكنها وتصون بذلك من عرف من أوليائنا وإخواننا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شاحط بدمك ودماء إخوانك، متعرض لنفسك ولنفسهم للزوال، مذل [لك و]لهم في أيدي أعداء الدين، وقد أمرك الله باعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.
وفيها دلالة على أرجحية اختيار البراءة على العمل، بل تأكد وجوبه. لكن في أخبار كثيرة، بل عن المفيد في الإرشاد: أنه قد استفاض عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " ستعرضون من بعدي على سبي فسبوني، ومن عرض عليه البراءة فليمدد عنقه، فإن برأ مني فلا دنيا له ولا آخرة. وظاهرها حرمة التقية فيها كالدماء، ويمكن حملها على أن المراد الاستمالة والترغيب إلى الرجوع حقيقة عن التشيع إلى النصب.
مضافاً إلى أن المروي في بعض الروايات أن النهي من التبري مكذوب على أمير المؤمنين وأنه لم ينه عنه. ففي موثقة مسعدة بن صدقة: قلت لأبي عبد الله "عليه السلام": إن الناس يروون أن علياً "عليه السلام" قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستُدعون إلى سبي فسبوني، ثم تُدعون إلى البراءة فلا تبرؤا مني، فقال "عليه السلام": ما أكثر ما يكذب الناس على علي "عليه السلام"، ثم قال: إنما قال: ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ﷺ، ولم يقل لا تبرؤا مني. فقال له السائل: أرأيت إن أختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذاك عليه ولا له، إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. فقال النبي ﷺ عندها: يا عمار إن عادوا فعد.
وفي رواية محمد بن مروان قال: قال لي أبو عبد الله "عليه السلام": ما مُنع ميثم رحمه الله من التقية، فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ}.
وفي رواية عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر "عليه السلام": رجلان من أهل الكوفة أخذا، فقيل لهما: ابرءا من أمير المؤمنين، فتبرأ واحد منهما وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي تبرأ وقتل الآخر، فقال "عليه السلام": أما الذي تبرأ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يتبرأ فرجل تعجل إلى الجنة.
وعن كتاب الكشي بسنده إلى يوسف بن عمران الميثمي، قال: سمعت ميثم النهرواني يقول: قال علي بن أبي طالب "عليه السلام": يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرأ منك. قال: إذاً والله يقتلك ويصلبك. قال: قلت: أصبر فإن ذلك في الله قليل. قال "عليه السلام": يا ميثم فإذن تكون معي في روضتي.