الرئيسيةبحث

البراهين الإسلامية في رد الشبهة الفارسية

البراهين الإسلامية
في رد الشبهة الفارسية
  ► فهرس :إسلام ☰  
بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد.

فإن قد وقفت على أوراق كتبها بعض الملحدين يرد فيها بزعمه ما دل عليه الدليل من وجوب إخلاص الدعاء لله وترك مسألة ما سواه من الأنداد والأموات، وكذلك جحد فيها ما قام عليه البرهان ونطق به القرآن من اختصاصه تعالى من علم الغيب، وزعم أن للأولياء والصالحين بعد الممات تصرفا وأنهم يجيبون من قصدهم بالاستغاثة والدعاء (وإعطاء ما اختص به الباري لغيره ورد الشيخ على ذلك).

وهذه الأقوال التي أوردها والشبه التي صدرها يعلم بطلانها وفسادها بالاضطرار من دين الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن غربة الدين وقلة من يعرفه من المنتسبين قد يروج بسببها الباطل والشرك على الأكثرين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).

فإذا كان عدم معرفة الجاهلية سببا لنقض العرى الإسلامية فما ظنك بمن لا يعرف الإسلام ولا الجاهلية كما هو الغالب في هذه الأوقات.

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه ثم أخذ كفا من التراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئ أقوام يدفنون هذا الدين كما دفنت هذه الحصاة ولتسلكن طريق الذين كان من قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل. [1] يشير رضي الله عنه إلى جنس هؤلاء الذين يلقون على عوام الناس وضعفاء البصائر من الشبهات ما يستميلونهم به إلى دعاء غير الله والالتجاء بسواه والاعتماد والتوكل على الأولياء والصالحين، حتى ينسلخ من استجاب لهم من حقائق الملة والدين، ويصير في زمرة الجاهلية والمشركين.

وفي حديث ثوبان: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين). [2]

(رمى أهل التوحيد بالاعتزال جهلا منه)

قال: وقد زعم أن من آمن بإخلاص الدعاء لله وآمن بأنه علام الغيوب وأنكر أن يكون لأحد من الأموات تصرف في ملك الله يصير معتزليا (وقال): وكأن الرجل لا يعرف الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.

فإن أصل الاعتزال هو القول بالمنزلة بين المنزلتين ثم انضاف إلى هذا القول ما كانت عليه المعتزلة من تعطيل الصفات وجحدها والقول في القدر والجبر ونحو ذلك مما هو معروف عنهم

وأصل التسمية أن عمرو بن عبيد وأصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري رحمه الله وأظهروا مخالفته.

هذا أصل الاعتزال في اصطلاح الفقهاء والمتكلمين، والنظار، وهذا هو الذي يطلق عليه عندهم الاعتزال بالمعنى الاصطلاحي.

وأما اعتزال من دعا غير الله والتجأ واعتمد على ذلك الغير لحصول مطلوبه أو دفع مرهوبه فإن اعتزال من فعل هذا و البراءة منه هو دين الإسلام الذي جاء به الرسل الكرام قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.

ولله در الإمام الشافعي رحمه الله حيث يقول:

يا راكبا قف بالمحصب من منى ** واهتف بجانب خيفها والناهضي

إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقلان أني رافضي

وكانت الجاهلية تسمي رسول الله ﷺ الصابيء وتقول "صبأ محمد" لما فارق دينهم وما هم عليه من عبادة الملائكة والصالحين والأوثان وكان أبو جهل يتبع رسول الله ﷺ في الموسم وهو يدعو الناس إلى أن يمنعوه [3] لئلا يبلغ كلام ربه ويقول: لا تطيعون هذا الصابئ، ومعنى الصابئ قريب من معنى المعتزلي.

قال المعترض: فصل ونحمدك يا واجب الوجود، (وقال الراد رحمه الله): هذا القول الذي صدر به رسالته وهذه العبارة لا تعرف في كلام الله الذي لا يضل من اتبعه ولا يشقى ولا في كلام رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام والهدى وإنما أخذها بعض المصنفين عن أهل الكلام. والمناطقة الذين أعرضوا في باب معرفة الله وإثبات وجوده وربوبيته عن الكتاب والسنة وما درج عليه أهل العلم والإيمان من سلف الأمة واعتمدوا في هذا الباب على مجرد الأقيسة الكلامية والمقدمات المنطقية، وأول من عرفت عنه هذه العبارة هو ابن سينا الطبيب المتكلم وخالف سلفه [4] في التعبير بهذا فإنه قسم الوجود إلى واجب وممكن وجعل الممكن مستلزما للواجب لكنه قال: الواجب لا يكون إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوته فسلبه صفات الكمال ونعوت الجلال ونعته هو ومن وافقه بالسلوب التي تقتضي أنه واجب العدم وهؤلاء أصابهم في لفظ واجب الوجود ما أصاب القدرية في القديم والحادث والفلاسفة الذين يسندون الحوادث إلى الفلك يقولون بواجب الوجود، لكنه عندهم علم كل حال واحد في الأزل إلى الأبد يمتنع أن يصدر عنه حادث.

والواجب في هذا الباب و غيره اتباع ما جاء في كتاب الله والتعبير بالعبارة الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة وترك المتشابه من الكلام، ونحن لا ننكر أن العقل يوجب وجود رب قادر قاهر حكيم خلاق رزاق وهذا تقتضيه العقول السليمة وتوجبه الفطر المستقيمة كما دل عليه كتاب الله في غير موضع.

وهؤلاء لا يعنون هذا بل يوافقون ابن سينا وشيعته على سلب الصفات، ومن صح قصده فعليه أن يعبر بالعبارة الشرعية ويختار الوصف الذي اختاره الرب لنفسه والتعبير بالاسم الكريم المتناهي في التنزيه والتقديس [5] المستلزم لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال.

قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال جلا وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحو ذلك كثير مما يدل على تعليق الحمد بهذا الاسم الأقدس الموصوف بجميل الصفات والنعوت وقد يعلق الحمد بغيره سواء كان جملة إسمية أو فعلية وما جاء في كتاب الله أكمل وأتم.

(فصل رمي أهل التوحيد الذين أنكروا الاستغاثة بغير الله بالاعتزال)

قال المعترض: اعلم أن المنكرين للاستمداد من أهل القبور أهل الاعتزال مطلقا وبعض الفقهاء من أهل السنة فيما عدا الأنبياء عليهم السلام وقد ظهرت طائفة أفرطوا في الإنكار فأردت أن أورد في هذه الأوراق شبهاتهم الدائرة على ألسنتهم مع الأجوبة وأورد أدلة لإثبات ما ينفونه (قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله) والجواب عن هذا أن يقال: هذا الكلام يشهد بجهالة قائله وضلاله وإفلاسه من العلم والهدى فإن هذه العبارة لا تصدر عمن عرف الإسلام و التوحيد ولا من عرف الاعتزال والسنة، وما يراد بهما عند أهل العلم، فإن الاستمداد من الأموات ودعائهم هو طلب المدد بما شأنه أن يستمد ويطلب فيدخل تحت هذه العبارة كل مطلوب ومرغوب من أمر الدنيا والآخرة وهذا هو دين المشركين من الكتابيين و الأميين، قال تعالى فيمن دعا الأنبياء والملائكة والصالحين واستمد منهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.

قال طائفة [6] من السلف: نزلت هذه الآية فيمن يدعوا الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا وصالح الجن فأخبرهم تعالى أن هؤلاء المدعوين عبيده كما أن الداعين لهم كذلك يرجون رحمته ويخافون عذابه، ومن كانت هذه حاله وهذا نعته فلا يدعي مع الله ولا يرجى من دونه لأن الدعاء هو العبادة وهي حق الله لا يليق صرفها لغيره لكمال غناه، وعلمه وقدسيته ورحمته وقيوميته وانفراده بالتأثير والتدبير وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق الشرك فإنه تعالى نفى عمن دعاه المشركون أن يكون له من الملك شيء ولو مثقال ذرة ونفى مشاركته ولو قلت ونفى أن يكون له ظهير يعاونه ويؤازره لكمال غناه وعلمه ورحمته وعموم قيوميته ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففي هذا من صرف الوجوه إليه وترك التعلق على غيره كائنا من كان ما لا يخفى على من عقل عن الله، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.

فذكر عجزهم عن خلق الذباب الذي هو من أضعف المخلوقات وأخبر أنه لو سلبهم شيئا لم استطاعوا استنقاذه منه وهذا غاية في الحجة والبيان وتقرير ضعف من دعا مع الله ممن يستمد منه عباد القبور ومن يدعوا الأموات لأن العجز عن خلق الذباب وصف مشترك بين جميع المخلوقات، فدلت هذه الآية الكريمة مع اختصار لفظها على إبطال دعوة كل مخلوق وقررت دليله بذكر العجز عن خلق الذباب واستنقاذ ما سلب فأي شيء يستمد ويطلب ممن هذا حاله؟، فالحمد لله الذي جعل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}.

وطلب الاستمداد دعاء بإجماع أهل اللغة والمفسرين قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فأمر بدعائه وندب عباده إليه، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

ومن دعا الناس إلى الاستمداد من الأموات ودعاءهم فقد شاق الله ورسوله وسعى في صرف الوجوه عن مسألة باريها وفاطرها إلى مسألة مخلوق ضعيف لا يملك ولا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا وكيف يجيز لاستمداد من الأموات؟ [7] والرغبة إليهم من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؟ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} قيل معناها: سلوني أعطكم، وقيل معناها: اعبدوني أثبكم، والقولان متلازمان لأن كل سائل عابد وكل عابد سائل، وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فنفى عنهم الملك لشيء وإن قل كالقطمير الذي هو قشر النواة، وذكر أنهم لا يسمعون دعاءهم [8] وأنهم لو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ما استجابوا لداعيهم، فأي استمداد يبقى بعد هذا لو كانوا يعلمون فكل من سمع هذا وله قلب يعقل به لابد أن يعرف ويستيقن أن هذا غاية في البيان والكشف عن حال من استمد منه المشركون أو زعموا أن له تصرفا أو شفاعة ترجى منه وتطلب، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فأمر عباده بإخلاص الدين له والدعاء، وطلب الاستمداد من أكبر أصول الدين، فمن صرفه لغيره تعالى فهو غير مخلص له الدين لأن الدعاء من أجل العبادات وأفضل الطاعات كما في حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: "الدعاء هو العبادة" [9] وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" [10] وكذلك قوله ﷺ: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين". [11] وبهذا نعلم أن من أجاز صرفه للأموات فهو ممن يجيز دين المشركين وأن يعدل [با]لله رب العالمين. [12]

وذكر البخاري رحمه الله وغيره أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس في خلافته ولم يستمد السقيا من رسول الله ﷺ وكلهم أقره ورضيه ومضت السنة على ذلك سلفا وخلفا ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به عند المسلمين حرف واحد يدل على جواز الاستمداد من الأموات بل لما وقع بعد القرون المفضلة من العامة استمداد الأموات كفرهم أهل العلم والإيمان وأنكروه أشد الإنكار وذكروا أنه فعل عابد الأصنام قال الإمام ابن عقيل في (فنونه): لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وتخليقها وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور، فيها يا مولاي افعل بي كذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا فحكى الإجماع على كفر من فعله.

وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي: قوله أي قول السبكي: المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول ﷺ واجبة، يريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي الحوائج للسائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل من يشاء الجنة، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، وهذا اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول ﷺ فضلا عن الرسول، والأمر أعظم وأطم من ذلك.

وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك وإن أراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم.

وفي شروح الدر المختار الذي هو عمدة الحنفية في هذه الأعصار: التشنيع والتشديد في ما أحدثه العامة عند قبر أحمد البدوي من التعظيم وطلب الحوائج وإرخاء الستور وقال صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات أو كلاهما مستدلين على أن ذلك منهم كرامة، وقالوا: منهم الأبدال ونقباء وأوتاد، ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور وقال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة.

وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} إلى أن قال: (الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم، إلى أن قال: فأما قولهم: (إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات) فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ولله ملك السماوات والأرض ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله تعالى في الآيات كلها: { مِنْ دُونِهِ } أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي، وشيطان تستمد، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: فكيف يتصرف لغيره من لا يمكن أن يتصرف لنفسه؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول: بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". [13]

فجميع ذلك هو ونحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغلطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أوليائه لا قصد لهم فيه ولا تحري ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني.

قال: وأما قولهم يستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمة قوله جل ذكره: {مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.

وقال جل وعلا: {قلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي، قال: الاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوهم كقولهم يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين، كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد من المرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره.

قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال: من اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وقضاء حاجة تأثيرا فقد وقع في واد جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير.

وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشا لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذلك أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وقال أيضا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ}، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره، قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية انتهى باختصار.

ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإجماع المسلمين فكل واحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله ﷺ فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق إتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام الله، وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها.

وأما الإجماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم رسول الله ﷺ في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء" [14] لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.

تنبيه

اعلم أن المشركين الأولين لا يقولون بجواز الاستمداد في كل شيء، وكل مطلوب كما تقتضيه عبارة هذا المعترض لأن الله تعالى حكى عنهم في كتابه أنهم يخلصون الدعاء والطلب في الشدة والضراء كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورًا} وقال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.

وبهذا نعلم أن قول هذا المعترض شر من قول المشركين الأولين والله تعالى المستعان وسيأتي مزيدا لهذا عند الكلام على مسألة التصرف إن شاء الله تعالى، وقوله إن المنكرين للاستمداد مطلقا معتزلة ومن قصره على الأنبياء ليس معتزليا، وأظنه سمع إنكار المعتزلة للكرامات وإثبات بعضهم المعجزات فقط فظن أن هذه هي مسألة الاستمداد، وهذا جهل عظيم وخلط وخيم، بل مسألة الاستمداد من الأموات نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ولم يجزه أحد ممن ينتسب إلى الإسلام لا المعتزلة ولا غيرهم بل كلهم مجمعون على تكفير من فعله كما تقدمت حكاية الإجماع عن شيخ الإسلام وليس هذا من المسائل التي تختلف فيها الأمة سنيهم وبدعيهم بل هذه من أكبر دعائم الملة وأعظم أركان الإسلام لا يخالف فيها من عرف الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام ولكن الرجل غلبت عليه العجمة فلم يفرق بين الاعتزال وبين الشرك الذي هو الاستمداد من غير الله، قال الحسن رحمه الله: دهمتهم العجمة، وقال أبو عمر وابن العلاء لعمر وابن عبيد: لما قال له: إن الله لا يخلف وعده قال له: من العجمة أتيت إن هذا وعيد لا وعد وأنشده:

وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

قال المعترض: الشبهة الأولى أن الموتى لا سماع لهم، لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}. وإذ لا سماع لهم فلا استمداد. وهكذا نقل المعترض، ثم قال: وأجيب على أن الآيتين لا تدلان على نفي السماع من الأموات لأن مبناهما على التشبيه والتمثيل والمراد هنا الكفار حقيقة، ووجه الشبه عدم الانتفاع بالسماع، وعدم الإجابة، فكما أن الأموات لا ينتفعون بسماع ولا يجيبون كذلك الكفار لا ينتفعون بسماع الموعظة، ولا يجيبون للحق فيتبعونه فكأنهم أموات، قال صاحب معالم التنزيل في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي الكفار، وقال القاضي في تفسيره في سورة النمل: إنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم لما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} فإن إسماعهم في هذا الحال أبعد.

ثم ساق حديث قتادة في سماع أهل القليب، وحديثا في سماع الميت كقرع النعال وحديث بريدة، وحديث ابن عباس في التسليم على الموتى. وأطال الكلام بما لا طائل تحته، وكلامه يدل على عدم علم قائله وعدم شعوره بأدلة خصمه، فإن نفي الاستمداد من الموتى ودعائهم عليه من الأدلة ما لا يمكن حصره ولا استقصائه. وعبارته التي ساقها في نفي انتفاع الموتى بالسماع، وبما يتلى عليهم كافية في إبطال الاستمداد من الموتى، وطلبهم، والاستعانة بهم وهذا والله أعلم هو مراد من نفي السماع عنهم ممن حكى قولهم الفارسي وتصدى للرد عليهم، ولا نعلم قائلا ينفي سماع الموتى إلا بهذا المعنى.

وما حكي عن أم المؤمنين في إنكار السماع ثبت رجوعها عنه لما بلغتها الأحاديث المثبتة فإذا عرفت أن نفي السماع يطلق على من لم ينتفع ولا يجيب وعرفت أن هذا هو الوجه في تشبيه من لم ينتفع بسماع آيات الله من الكفار والفساق بالموتى عرفت حينئذ وتبين لك أن عدم انتفاع الأموات بالسماع من أوضح الحجج والبيانات على أن الميت لا يدعى ولا يستمد منه لأنه إذا ثبت أنه لا ينتفع وأنه هو المشبه به بطل استمداده، واستحالة إجابته.

وفي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" فإذا انقطع عمله وكسبه لنفسه وعجز عن ذلك، وحيل بينه وبينه فكيف يمد غيره؟ ويتصرف في شيء من ملك الله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.

واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علما إلا من فقه عن الله قلبه ودق في باب العلم نظره، وفهمه، وأما غليظ الطبع، قليل العلم باللسان فهو بعيد عن إدراك هذا الشأن، فتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}

فإن هذا فيه دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال لا في جميع حالاته كما يشير إليه قول قتادة من أهل القليب، وحال الأموات يختلف اختلافا عظيما.

وللأرواح بعد مفارقة هذا الجسم شأن لا يحيط بتفصيله إلا الله تعالى، وأيضا فالفرق بين القرب والبعد ثابت عند الأئمة [15] القائلين بسماع الموتى، ومن زعم أم الاستمداد منهم جائز لا يفرق بين القريب والبعيد كما هو مشاهد ممن يدعوا الأنبياء والصالحين ويستمد منهم، وأفضل الخلق ﷺ قد ثبت أنه يبلغ صلاة أمته مع البعد عن قبره ولا يسمعه فكيف بغيره؟ والاستمداد من الأموات هو أصل شرك العالم وضلالهم كما ذكر غير واحد في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.

فإن هذه الأسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح فماتوا فعكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم بقصد التشويق إلى العبادة ومحبة الصالحين فلما مات أولئك ونسي العلم قال من بعدهم إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.

وهو كما ترى صريحا في أنهم عبدوا لأجل الاستمداد واستسقاء المطر، وذكر أبو الجوزاء [16] عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال كان اللات رجل يلت السويق للحجاج فعكفوا على قبره انتهى، ولم يقصد هؤلاء سوى الاستمداد بالموتى والصالحين، وطلب جاههم وشفاعتهم، ولو لا ذلك لم تعبد وهذا مطلوب كل مشرك كما قال الفرابي وابن سينا وغيرهما من أكابر المشركين: إن الميت المقرب يفيض على روحه إفاضات فإذا علق الزائر قلبه وهمته به فاض على روح الزائرين من روح المزورين تلك الإفاضات كما ينعكس النور والشعاع من الجسم الصافي في المقابل، وهذا محض الشرك والكفر فإن تعليق القلب والهمة بغير الله والإقبال على سواه تعالى هو عين الشرك الأكبر الذي أنكره القرآن وكفر أهله وأباح دمائهم وأموالهم لأهل التوحيد والإيمان قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} وقال عن شعيب: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} والفرابي وابن سينا من عباد الكواكب ومن الدعاة إلى دين الصابئة المشركين الذين بعث فيهم إبراهيم الخليل كما يعرف ذلك من وقف على كلامه.

تتمة

ما تقدم لك من حكاية قول المشركين واستمدادهم بالموتى والصالحين أخف ضررا وأقل كفرا ممن قال: يستمد من الأولياء والصالحين كما زعمه الفارسي فإن هذا شرك في الربوبية والتدبير وذاك شرك في الألوهية والعبادة فلا تغفل عن غليظ شركهم وعظيم إفكهم.

فصل

قال الفارسي: الشبهة الثانية أن الموتى لا علم لهم بأحوالنا لأن العلم بالغيب مختص به تعالى ليس لغيره لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات مما يدل على نفي الغيب عما سواه تعالى. وإذا كان كذلك فكيف يستمد مما لا علم له بأحوالنا خصوصا بعد الموت؟

قال المعترض: وأجيب بأنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذاته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل عن نفيه من عباده مطلقا بل يجوز أن يحصل لهم مستفادا من الله بأن يخلقه تعالى فيهم بلا سبب أو بالأسباب الخفية كالوحي و الإلهام والرؤيا الصالحة والمشاهدة الحقة كما يدل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.

وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} قال القاضي في تفسيره الأول إلا بما شاء أن يعلم وقال في تفسيره الثاني من رسول بيان لمن، قال: واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء بإطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة الأنبياء عليهم السلام انتهى.

ثم ساق الفارسي ما جاء في مناقب عمر رضي الله عنه أنه رأى سارية من مسافة بعيدة لا يرى ولا يسمع من مثلها في العادة فناداها يا سارية الجبل، ثم قال: إذا علمت أن العلم قد يحصل لعباد الله الصالحين بإعطائه إياه، والعلم صفة للنفس ينعم الله تعالى عليهم بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل لأنها بعد المفارقة تتخلص عن الكدورات البدنية وتنقشع عنهما الظلمات الجسمية، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. فكيف بقوم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى اشتعلت في قلوبهم من كثرة الذكر نار الشوق و المحبة واشتد حبهم يوما فيوما فزادوا حبا على حبهم وشوقا على شوقهم فيصيروا فانين في الله باقين به فبالله يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون ذلك فض الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وإذا كان حالهم في الحياة كما ذكرنا فأي سبب حدث وأزال عنهم كراماتهم؟، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة لا يلحقهم مكروه ولا يفوتهم مأمول، هكذا فسره القاضي في تفسيره ثم ساق الفارسي آثارا تروى منها حديث أنس في عرض أعمال الأحياء على أقاربهم وعشائرهم من الموتى، وحديث أبي أيوب وحديث جابر وحديث النعمان. والمعنى متقارب، ثم ذكر عن المشكاة: إذا قال العبد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم قال الملا قاري(3) في المرقاة في شرح قوله ﷺ: "ولا تجعلوا قبري عيدا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" إنه قال القاضي: وذلك أن النفوس الزاكية القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ةلم يبقى لها حجاب فترى الكل كالمشاهدة بنفسها أو إخبار الملك من السر له وأيضا قال في المرقاة في شرح حديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي فيه من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي": يعني على وجه القول فيه وإلى فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة إلا عند روضته فيسمعها بحضرته ثم قال في شرح آخر الحديث: وأما على ما قدمه الطيب فإنما يفيد حصر العرض والسماع بعد الموت بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليس المر كذلك فإن سائر الأموات أيضا يسمعون السلام والكلام وتعرض عليهم أعمال أقاربهم في بعض الأيام انتهى المقصود من كلامه

والجواب وبالله التوفيق أن يقال:

هذه المسألة بينها الله تعالى في كتابه بيانا شافيا بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ولا تقبل التحريف والتبديل، وتأويل هذا الفارسي لتلك النصوص من جنس تأويل الجهمية لآيات الصفات وأحاديثها، ومن جنس تحريف القرامطة والباطنية لآيات الأمر والنهي والوعد والوعيد ومتى سلط التأويل على أديان الرسل وما جاؤوا به من عند الله لم يبق شيء منها فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الغي بعد الرشاد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية، وقال جل وعلا: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الآية، وقال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية

وقال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.

فمدح الله تعال نفسه وأثنى عليها بانفراده واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه فإن كمال العلم وإحاطته بجميع المعلومات كلياتها وجزئياتها وصف كمال استحق به تعالى أن يطاع ويتقى ويرجى ويعبد.

وعلم الخلائق أجمعين بالنسبة إلى علمه تعالى كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحار كما في قصة موسى والخضر أنهما لما ركبا في السفينة جاء عصفور فنقر في البحر فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر فمن تقرر هذا لديه وآمن بما دل عليه لم يلتفت إلى تحريف معطل ولا إلى رأي مجادل مبطل.

فقول هذا الفارسي وأمثاله إنها إنما تدل على ثبوت العلم بالغيب له تعالى لذته بذاته بمعنى أنه لا يحصل له من غيره ولا تدل على نفيه من عباده مطلقا قول باطل وتحريف عاطل فإن بعض هذه الآيات صريحة في النفي عن غيره تعالى وإثبات ذلك له تعالى فدلت على أمرين نفي وإثبات وحق وعدل كما دلت عليه كلمة الإخلاص ومن قال: إن المعنى أنه يعلم بنفسه وليس في ذلك نفي عمن سواه تعالى فهو كمن يقول: إن لا إله إلا الله دلت على إثبات إلهيته وليس فيها نفي لإلهية غيره تعالى الله عن قول هؤلاء علوا كبيرا، وهذا التحريف من وحي الشيطان الذي قصد به رد ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، ومن دان به فقد انسلخ من الإسلام والعياذ بالله ولا يمر على سمع الموحد أسذج من هذا التحريف وأشنع منه.

ومن الذي ادعى أن علمه تعالى حاصل له من غيره؟ حتى يقصد رد قوله بهذه الآيات؟ هذا لا يقوله أحد ممن أثبت للعالم صانعا مدبرا وأين قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، من هذا المعنى الذي أورده الفارسي؟ فإن صريح الآية نفي علم مفاتح الغيب عن غيره وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، فيه نفي علمه عن كل من في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى، وهي صريحة في النفي عن غيره كالتي قبلها فكلاهما دل على معنيين: ثبوت علمه بذاته ونفي ذلك عمن سواه، وأبطل شيء قول الفارسي بأنها لا تدل على نفيه عن عباده وكذلك قوله لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الآية صريحة في نفي علم الغيب عن سيد ولد آدم فضلا عن غيره وكذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، تقدم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص فعلم الغيب له لا لسواه.

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هذا يفيد اختصاصه تعالى وانفراده بعلم الغيب لأن السياق لبيان الكمال والمدح والثناء على نفسه تعالى ولو ثبت ذلك لغيره لفات المقصود من السياق وكذلك قول المسيح يشير إلى هذا كما يدل عليه إقحام الضمير بين خبر إن واسمها وكما يفيد التأكيد بإن.

وفي الخبر عن جويرية رضي الله عنها: تغنت بقولها- والصحيح أنها لم تغن ولكن جاريتين تغنتا عندها كما في صحيح البخاري: "وفينا رسول الله يعلم ما في غد" فسمعها رسول الله ﷺ فقال لها: "دعي هذا وقولي غيره" وفي حديث عمر في سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة أن النبي ﷺ قال له في خمس لا يعلمهن إلا الله وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمد رأى ربه فقد كذب ومن زعم أن أحد يعلم الغيب فقد كذب) [17] وما دلت عليه الآيات من الاستثناء في بعضها كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} وقوله جلت قدرته: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية، فهذا يدل على أمرين: تأكد النفي وتحققه، وإخراج بعض الأفراد التي يعلمها من شاء الله كما يعلم بالوحي ونحوه.

والواجب على الناس اتباع ما أنزل الله على محمد ﷺ من الكتاب.

قلنا إن الإلهام وما يراه النائم فيتحقق في اليقظة ليس من قبيل علم الغيب لا من قريب ولا من بعيد وذلك أن الإلهام هو أن يلهم الله المرء التوجه إلى عمل ما ينفعه في الدين والدنيا وإلى الكف عما يضره ويرشده إلى ذلك ويقوي عزمه عليه ويملأ قلبه ثباتا ويقينا ويشرح صدره لذلك العمل المعزوم عليه وينفذه عمليا لما وقر في قلبه كل ذلك يتم من غير علم من المرء نتيجة ذلك العمل المبرم ولكن توجهه هذا موفق لأنه إلهام من عالم الغيب الذي لا يضل ولا ينسى سبحانه وتعالى وهذا التوفيق لا علاقة للمرء بعلم الغيب وكذلك ما يراه النائم.

والحكمة وترك من انتحله المبطلون من رد النصوص بأنواع التحريفات والتأويلات المصادمة لمدلول النصوص، وتأمل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}، كيف تجد تحته من إثبات الحمد والثناء المطلق على نفسه المقدسة بما دلت عليه هاتان الآيتان الكريمتان، [18] ولو قيل بمشاركة غيره في ذلك لفات الحمد المقصود ولما تأتى هذا الثناء بما يشاركه فيه مخلوق ضعيف قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد ﷺ أو كما قال: وقد ذم الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.

وفي الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم خذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: (فمن)؟"

فهذا التحريف إنما عرف عن اليهود، وأن ما جاء من الاستثناء في بعض الآيات كقوله: في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }، وكذلك إخباره ﷺ عن أشياء وقعت فيما مضى، إخباره عن أشياء تقع في أمته فهذا ونحوه أمر جزئي بالنسبة إلى ما اختص الله بعلمه كما مر في حديث موسى وقول الخضر له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر، وهذا بالنسبة إلى علم الله وإن كثر واتسع بالنسبة إلى علوم الخلق فإن ما يحصل لرسول الله من العلوم والمعارف لا نسبة بينه وبين علم الله الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، وهذا الجزئي لا يفيد أن من علمه فقد علم الغيب أو أنه ناسخ للنصوص العامة المطلقة: غاية ما هناك إثبات ما دل عليه استثناء في الآيات كبعض الأفراد الجزئية وهو لا يمنع العموم بل العام باق على عمومه كما لا يخفى على من له أدنى فهم، وبهذا تعلم بطلان دعوى هذا الفارسي وأمثاله أن الأموات يعلمون الغيب فإن هذه الدعوة مصادمة ومصادرة لما مر من النصوص ولأن الغيب اسم يقع على كل ما غاب عن الخلق من العلوم والمعارف، وما كان وما يكون وما لم لكن كيف يكون كما قال العلامة ابن القيم في معنى اسمه العليم شعرا:

وهو العليم أحاط علما بالذي ** في الكون من سر ومن إعلان

وبكل شيء علمه سبحانه ** فهو المحيط وليس ذا نسيان

وكذاك يعلم ما يكون غدا وما ** قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو كان ** كيف يكون ذا إمكان

فمن عرف هذا عرف أنه لا يجوز إطلاق القول بجواز حصول علم الغيب لأحد من الخلق، ومن المستحيل عقلا وشرعا وجود من يعلم كعلم الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، ومن جهل هؤلاء القبوريين إطلاق هذه العبارة الموهومة والترويج على العوام بأن الاستثناء يدل على أن الأولياء يعلمون الغيب، وهذا كما ترى من أعظم الجهل وأقبحه، قال العماد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ}، في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله الكثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام (لا يؤلف تحت الأرض) كذب لا أصل له ولم نره في شيء من الكتب وقد كان ﷺ يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها فلما تبدا له جبريل عليه السلام في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل: وقال في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هذه كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة حتى أنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا بما أطلعه تعالى عليه ولهذا قال: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، وهذا الرسول الملكي والبشري، ثم قال تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}، أي يختصه بمزيد معقبات من الملائكة ليحفظوه من أمر الله ويساوموه على ما معه من وحي الله ولهذا قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}، ثم ذكر الأقوال في مرجع الضمير في قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، قلت: فتأمل سياق الآية فإنه أبدأ الكلام بقول: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ}، فنفى من علمه بقرب ما يوعدون وهو الساعة وذكر بعد هذا علمه تعالى، وأنه لا يظهر عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من رسول ملكي أو بشري، وذكر الحرس والرصد الذين يكونون بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات الذين يحفظونه من أمر الله، ثم قال: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}، فعقد السياق فيه دلالة وبيان للمعنى المراد من الاستثناء وأن ذلك هو وحيه الذي يوحيه إلى رسله من كلامه ورسالته وهي بالنسبة إلى علم الله كنقطة من بحار الدنيا في جنب تلك البحار.

وأعظم من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

فإذا كان هذا الحال بكلامه فما ظنك بعلمه تبارك وتعالى، فمن زعم أن أحدا يعلم جميع الغيب فقد أساء الأدب على الله تعالى وتقدس وما قدروا الله حق قدره.

وكذلك كرامات الأولياء دون ما ثبت للأنبياء بكثير بل لا نسبة بينها وبينه لا في الكمية ولا في الكيفية.

وقول الفارسي نقلا عن البيضاوي واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه يختص الرسول بالملك، والإظهار إنما يكون بغير واسطة، وكرامات الأولياء باطلاعهم على المغيبات إنما يكون تلقيا من الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بواسطة [19] الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، انتهى.

وهذا الكلام فيه نظر ظاهر فإن الرسول أعم من الملكي والبشري وعبارة السلف دالة على ذلك، والإظهار أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها وأكثر الرسل إنما يظهرهم على ذلك بالوسائط كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.

واطلاع الأولياء على شيء من الغيب هو من الإلهام الذي تضمنه الوحي لا يتقيد بالتلقي عن الملك كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فكلام البيضاوي مردود، والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير ادعاء التحدي كما في قصة عمر وقصة آصف وقصة مريم وكما يذكر عن أبي إدريس الخولاني وعن أبي العلاء الحضرمي وأمثالهم.

وذلك ونحوه داخل في عموم قوله تعالى: { إِلَّا بِمَا شَاءَ}، وقد دخل فيه ما يحصل للأنبياء بواسطة وبغير واسطة، وكذلك لا يقال: إن أحدا ثبت له هذا بجميع أنواع الغيب كلية وجزئية لأن ذلك لا يكون إلا لله كما قال عن الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، وقال عن المسيح: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، وقال لنبيه ﷺ {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

ولا عبرة هنا بالمكابرة والدعوى المجردة عن الدليل والبرهان كقول بعض الضالين إن ذلك يتأتى للأولياء على سبيل الكرامة فإن هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سنة بل ولا قاله من يعتد به من هذه الأمة، وإنما يعرف عمن غلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم وكثر في دينه وخبره ريبهم واضطرابهم وعجزت عن معرفة قدره وعظمته وعموم علمه ألبابهم.

وأما قول الفارسي: العلم صفة للنفس أنعم الله بها وهي باقية بعد مفارقة البدن فيجوز أن يكون حاصلا لهم بعدها على وجه أتم وأكمل إلى آخر عباراته.

فيقال: هذا من عجائب جهلهم فإن الذي خلق الروح وصورها وعلمها وقبضها وخلصها من الكدورات البدنية وقشع عنها الظلمة الجسمانية هو الذي أخبرنا أن {عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية، وأنه لا يعلم من في السموات وأرض إلا الله، وهو القائل لنبيه ﷺ: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، وهو المخبر عن الملائكة الذين خلصوا من الكدورات وخلقوا من النور، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وهو المخبر عن عبده ورسوله المسيح بن مريم عليه السلام أنه يقول يوم العرض الأكبر: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وهو جل ذكره القائل: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية، فسبحان الله ما أجهل من زعم علم الغيب لغيره تعالى من حي أو ميت وما أضله عن سواء السبيل، كيف يعارضون النصوص بهذا الكلام المموه المزخرف ويعتمدون عليه؟ وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم؟ ويقال لهذا: قد تقدم من الآيات والأحاديث ما يدل على أن الحي لا يعلم جميع الغيب وأن علمه وإن عظم قدره بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما يأخذه العصفور في منقاره من البحر وإذا كانت هذه حاله في الحياة فكيف بحاله بعد الممات وإطلاعه على بعض الجزئيات لا يدل على علمه بجميع المغيبات، وأيضا فالذي ذكره الفارسي لا ينتج الدعوى لأنها وإن تخلصت من الظلمات الجسمانية والكدورات البدنية فلم تخلص من التبعات الكسبية وما اجترحته في الحيلة الدنيوية، وإن تخلصت على وجه الكمال فهي مشغولة بما هي فيه من العالم الأخروي واللذة الحاصلة بالنعيم والجنة والكرامة، وعالم الأرواح عالم عظيم وحالها فيه حال لا يدرك بمجرد العقل والقياس وإنما يعرف بالنصوص الواردة في ذلك والدالة عليه.

وأما قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إلى آخر ما قال من ذكرهم الله واشتعال نار الشوق والمحبة في قلوبهم وأنهم يصيرون فانين في الله باقين به، به يسمعون وبه يبصرون ونحو ذلك، فمن احتج بهذا على أنهم يعلمون الغيب فهو كمن يحتج بهذا على أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون ويدعون لذلك، ويقال لهذا المشبه: متى ثبت أن الله أعطى أحدا من خلقه علم الغيب كليه وجزئيه في حياته أو بعد مماته ومن الذي أثبت هذا؟ حتى يقال: إن ذلك باق لهم لا يغير مع أن بعض التغير وجنسه يحصل بالموت كالتغير من الحياة إلى الممات ومن الوجود إلى الفناء، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}، وطرد كلام الفارسي أن يقال: إنهم باقون لأن الله لا يغير نعمته عليهم، هذا لو فرض ثبوت ذلك في حال الحياة فكيف ذلك، قد ردته النصوص والبراهين وكونهم يذكرون الله قياما وقعودا ويفنون به عما سواه ويسمعون به ويبصرون ويبطشون فهذا يفيد تحقيق التوحيد ون أعمالهم وحركاتهم خالصة لله وقعت بالله ولله فهم قد حققوا معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وهذا هو محض الإسلام وجزيل الفضل والإنعام.

وأصحاب هذه الأحوال وهذه المقامات تبقى كرامتهم في الدار الآخرة بمعنى إثابتهم وعلو درجتهم ولذتهم بما حصلوه من حقائق المعارف ولطائف الكرامة وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يدل على هذا كما ذكره البيضاوي ونقله عنه الفارسي لكنه وضعه في غير موضعه واستدل به على غير ما سيق له فإن المعنى الذي دل عليه كلام السلف أنهم لا خوف عليهم مما أمامهم يقدمون عليه ولا يحزنون على شيء مما خلفوه وهذا لا دليل فيه على أن أحدا يعلم الغيب، ثم ساق الفارسي آثارا تروى في عرض بعض أعمال الأحياء على أقاربهم وعشائرهم، من الموتى كحديث أبي أيوب وحديث جابر وحديث النعمان والمعنى متقارب، وهذا لا يدل على الدعوى بوجه من الوجوه لأنه من جنس اطلاع الحي على بعض الجزئيات، والكلام والبحث إنما هو في الكل والجميع لا في بعض الجزئيات وليس هذا الجزئي ثابتا لكل أحد من الأموات فإن الأحاديث لا عموم فيها ولا تدل عليه بل هي خاصة باطلاع البعض على بعض الأعمال لا كلها.

وأما فقر العبد وحاجته ومصلحته ومفسدته، وغير ذلك، وظاهر أمره وباطنه وشاهده وغائبه فلا يعلمه إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ومن العجب استدلال هؤلاء بما هو حجة عليهم لا لهم فإن هذه الأحاديث فيها أنه يعرض على الميت عمل قريبه وولده وإذا كان يعرض عليه فعلمه قاصر على نفس المعروض لا يتعداه إلى غيره وإذا اختص بالقريب ففيه التنبيه على أنه لا يعلم عمل غير قريبه وإذا اختص بالعمل دل أنه لا يعلم غيره من عموم الأحوال، فالأحاديث والقرآن حجة عليهم لا لهم والحمد لله.

وأما كلام الملا قاري في شرح قوله ﷺ: "لا تجعلوا قبري عيدا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، قال نقلا عن القاضي: وذلك أن النفوس الزكية القدسية إذا تجردت عن العوائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلى ولم يبق لها حجاب فترى الكل كالمشاهد بنفسها أو بإخبار الملك من السر له فلعل هذا مبني على كلام ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة القائلين بأن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال [20] على النفس المستعدة الفاضلة الزكية فتصورت تلك المعاني وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه وربما قوي هذا الوهم حتى يراها أشكالات نورانية تخاطبه وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق واتصالها بالمعارفات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.

(وأقوال هؤلاء دخلت على كثير من الناس) إما باطني ملحد أو جاهل لا يدري أصول الأقوال ومذاهب الناس كشارح المشارق، وإذا كان هذا قولهم في النبوة وأنها مكتسبة على هذا الوجه فلا يبعد أن يقولوا بأن الأرواح إذا تجردت أدركت علم الغيب وصار الكل لها كالمشاهدة، فنعوذ بالله من زيغ الزائغين وضلال الضالين وتحريف الملحدين وانتحال المبطلين، والذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ أن الروح إذا تجردت عن الجسم حال موته يعرج بها فإن كانت روحا طيبة فتحت لها أبواب السماء وعرج بها إلى الله تعالى ثم تكون طائرا يعلق في شجر الجنة وأرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة، هذا الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله يعرف ذلك من عرفه من أهل العلم والإيمان.

وأما هذه الأقوال المبتدعة التي لم تصدر عن معصوم بل ربما صدرت عمن لا يحكم بإسلامه كابن سينا وأمثاله من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام وهم من أبعد الخلق عنه وقد يقولها من يحسن الظن بهؤلاء ممن يخفى عليه حالهم ولا دراية له بأقوال الخلق ومذاهبهم، والعصمة والسلامة في الاعتصام بحبل الله الذي هو كتابه ومتابعة نبيه ﷺ، وما عدا ذلك أو خالفه فلسنا منه في شيء.

قال الفارسي: الشبهة الثالثة أن الأنبياء لا تصرف لهم يعني لا قدرة لهم على إيصال الخيرات ودفع المضرات في الحياة لقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وإن كان حالهم هذا في الحياة فما ظنك بهم أو بغيرهم في الممات.

قال الفارسي: أجيب بأن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء، وقال صاحب معالم التنزيل: إلا ما شاء الله أن أملك فالآيتان ونحوهما تدل على أن ثبوت القدرة الكاملة لله تعالى بذاته لا من غيره ولا تدل على النفي مطلقا بل يجوز أن تكون حاصلة لعباده مفاضا منه ويجوز أن يكون للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى بأن يجعلهم متصرفين مدبرين بإذنه ويستجاب لهم دعائهم وتقبل شفاعتهم وينفذ لهم تصرفاتهم، والمدبر المتصرف حقيقة هو الله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى وأكمل وأجلى.

والجواب عن هذا الكلام أن يقال: إن التصرف لفظ عام وعبارة مطلقة يدخل فيها التدبير والتغيير وسائر أنواع الإيجاد والإحداث والإبداع والتأثير والتسخير وغير ذلك من أفعال الربوبية التي تختص به تعالى وكذلك الأسباب العادية التي تقع في عموم الخلق.

والأول هو الذي قصده بقوله: ودعوى حصول هذا لمخلوق مصادمة ومصادرة لنصوص الكتاب العزيز المصدق وفتح لباب الإلحاد والشرك المحقق فإن هذا الأصل أعني اختصاصه سبحانه بالخلق والإبداع والتدبير والتصريف هو أكثر أصول الإسلام وجلها وقاعدته العظمى التي تدور عليها جميع الأحكام وجميع القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا الأصل ويقرره وقد احتج به تعالى على وجوب عبادته وطاعته وأنه الإله الحق دون ما سواه.

وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فأثنى على نفسه بعموم ربوبيته المتضمنة لخلقه وتدبيره وإلهيته، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وتأمل هاتين الآيتين كيف استدل فيهما بفعله وتدبيره وخلقه وتصريفه على وجوب عبادته وتحريم اتخاذ الأنداد له وخص ما ذكر في الآية (الأخيرة) لأنه أصل يندرج تحته ما سواه من الجزئيات ولأنه مشاهد محسوس يدركه كل أحد حتى البليد الذي لا يدرك سوى الحسيات ولما في ذلك من بديع الصنع والإتقان وظهور القدرة والشأن فجعل الأرض فراشا والسماء بناءا مع عظمهما وسعتهما وما أودع فيهما من الآيات عجائب المخلوقات وأنواع التدبيرات الكليات والجزئيات ما يدل على انفراده تعالى واختصاصه بهذا الأصل العظيم.

وفي ذلك من إنزال المطر من السماء على التصريف المخصوص والتدبير المتقن المحكم وجعله أصلا لمادة أرزاق المخلوقات على اختلاف أجناسها وأنواعها وتباين أصنافها وأشكالها ما يدل على أن الله هو المنفرد بالتصريف والتدبير وحده لا شريك له فبطل بنص هذه الآية وعمومها ما زعمه هذا الملحد.

أما السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات والأرزاق فبطريق التخصيص والعموم وما عداهما فبطريق الفحوى والأولى وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن فيها من الرد على من قال بأن أرواح المشايخ تتصرف ما لا تتسع لبسطه هذه الفتاوى، ولكن نشير إلى ذلك إشارة فإن إعطاء الملك ونزعه والعز والذل يدخل تحتها من أفراد الكائنات والجزئيات في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله وفي قوله، (بيدك الخير) ما يدل على أن جميع الخير كليه وجزئيه بيده سبحانه لا بيد غيره كما يفيده الجار والمجرور فأي فرد يخرج عن هذا؟ ويبقى للمشايخ وغيرهم وفي قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ما يدل على أنه المختص بتصريف الأعصار والدهور ليس لأحد معه شركة، وفي قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ما يدل على أنه المختص بإخراج الأشياء وإيجادها فيخرج الضد من الضد والجنس من الجنس والمُشاكل من المشاكل، وقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه اختصاصه بالتصرف في أرزاق عباده الباطنة والظاهرة وأن مصدر ذلك مشيئته النافذة فأي شيء يبقى بعد هذا للأنبياء والمشايخ؟ لو كانوا يعلمون؟ وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهذه الآية الشريفة عامة لكل تدبير وتصريف في الدنيا والآخرة من جميع الخيرات وسائر الرحمات فهو الذي يمن بذلك ويفتحه لمن يشاء من عباده وما يمسك فلا وجود لمرسل له من بعده، وقوله تعالى وهو العزيز الحكيم فيه تنبيه على مورد التدبير والتصريف ومصدرهما وأنه اختص بذلك لأنه المتفرد بالعزة والحكمة كما يعلم من تعريف الجزئيين، وإذا اختص به ولم يتصف به غيره فبأي شيء يتصرف ذلك الغير ويدبر؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فأمر عباده جل ذكره أن يذكروا هذه النعمة العظيمة وهي اختصاصه وتفرده بخلقهم ورزقهم من السماء والأرض.

والرزق والخلق يدخل تحتهما كل تدبير وتصريف من الأمور الباطنة والظاهرة ولذلك قال بعده هذا: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فاستدل بربوبيته وعمومها وعلى إلهيته ووجوب عبادته وطاعته ثم قال: (فأنى تؤفكون) إنكارا عليهم فيما صنعوه من الإعراض عن عبادته والاعتراف بإلهيته مع قيام برهانها الأكبر ودليلها الأعظم وهو ما ذكر في صدر الآية وهو سبحانه كثيرا ما يستدل بربوبيته وخالقيته ورازقيته على ألهيته وعبادته كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال جلت قدرته: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}، فلو قيل: بأن غيره يتصرف لكان هدما لهذا الأصل وإبطالا لهذا البرهان، وقال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.

انظر إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تقرير بعض أفراد ربوبيته تعالى لخليله إبراهيم أفضل الرسل بعد نبينا عليهما الصلاة والسلام من خلقه وهدايته واختصاصه تعالى بإطعامه وإسقائه وما معنى إقحام ضمير الفصل في هذه الجملة دون غيرها من الجمل وكذلك شفاؤه إذا مرض واختصاصه بإماتته و إحيائه بعد الموت وتعليق الطمع به تعالى وحده في مغفرة خطيئته يوم الدين، هذا الكلام صدر عن خليله أعلم العالمين به مستدلا به على إلهيته تعالى وحده والبراءة مما عبد من دونه من الأنداد والآلهة على اختلافها وتنوعها وحكاه الله تعالى عنه مثنيا عليه به مقررا له راضيا به عنه فهذا حال أنبياء الله وأوليائه عليهم الصلاة والسلام، فليت شعري ماذا يقول الملحدون في مثل هذه الآيات الكريمة؟ وسيأتيك إبطال تأويله الفاسد الذي مر في حكاية كلامه آنفا وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون} إلى قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن في هذه الآيات من تقرير الاختصاص بالتدبير والتصريف في الكليات والجزئيات مع اختلاف أنواعها والاستدلال بذلك عل إلهيته وحده لا شريك له ما لا يتسع لتقريره هذا الموضع واللبيب يدرك ذلك بمجرد تلاوة هذه الآيات وكذلك الحال في قوله في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}، وكذلك قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ففي هذه الآية أعظم دليل وأقوى حجة على إبطال من زعم أن أرواح الأنبياء والمشايخ تصرفا وتدبيرا وذلك من وجوه ظاهرة متعددة في الآية، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

فقف عند هذه الآية وتدبر فيها من العلوم والمعارف فإنها أصل عظيم وبرهان ظاهر مستقيم يكفي من أراد الله هدايته، قال بعض السلف وهو ابن سميط: دلنا ربنا على نفسه بهذه الآية يشير إلى أن أفعاله شاهدة بربوبيته وألهيته دالة على ذلك ولو لم يكن في هذه الآية إلا قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} لكان كفيفا في رد قول هؤلاء الملاحدة وقال تعالى لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جل شأنه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وألا للاستغراق [21] المفيد لعدم خروج فرد من الأفراد لسواه وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقال تعال لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وقال جلت قدرته: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} فهذه الآيات تقطع أصول شجرة الشرك والإلحاد وترد مذهب أهله القائلين بأن لأرواح المشايخ تصرفا وتدبيرا في الكون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر الغفاري عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" الحديث

وفي حديث التنزل الإلهي إذا بقي ثلث الليل أن الله تعالى يقول: "لا أسأل عن عبادي غيري". ويروى: أن الله أوحى إلى داود أنه لا يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له فرجا ومخرجا ولا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك [22]

قال الشيخ رحمه الله: وقول المعترض في الجواب عن الآيتين إن المراد نفي المالكية الاستقلالية والقدرة الذاتية الكاملة عن غيره تعالى لا مطلقا كما يدل عليه الاستثناء إلى آخره:

فالجواب أن هذه الشبهة إنما نشأت من الجهل بمعاني كلام الله وباللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم فإن قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} عام لكل فرد من الأفراد وجزئي من الجزئيات لا يخرج عنه شيء وإن قل لا على سبيل الاستقلال ولا غيره وكذلك فيه نفي القدرة العامة المطلقة ولم يقل أحد من الخلق بإثبات الملك المستقل والقدرة الذاتية لغير الله تعالى إلى من عطل الصانع ولم يثبت للعالم ربا مدبرا، والآية سيقت لخطاب من يعترف بالربوبية ويثبت الصانع ولا يقول بالملك الاستقلالي ككفار العرب المقرين بالربوبية المشركين في العبادة والإلهية.

وعبارات المفسرين تدل على هذا أنه في نفي جميع أنواع الملك وإن لم يكن استقلالا والعربي يدرك ذلك بذوقه وعربيته ولا يحتاج فيه إلى برهان وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية، فإنها دلت نصا على انتفاء وجود كاشف لما يمسه الله به مكن الضر وعلى انتفاء راد ومانع لما أراده الله تعالى به من خير وفضل، وهذا أعم من أن يكون بطريق القدرة الذاتية أو بغير ذلك كما هو صريح الآية، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر تدل على اختصاصه تعالى بالأمر والتدبير والنفع و الضر وإنما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس.

وقوله: يجوز للنفوس الكاملة تصرف في العالم من جهته تعالى إن أراد أن ذلك يحصل بغير الأسباب العادية كما يدعيه هو وأمثاله لأرواح المشايخ والصالحين فهذا كذب وتجويز للشرك والباطل والضلال، وقد تقدم رده وإن أراد الأسباب العادية في الحياة الدنيوية كالذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والإنس والجن فهذا النوع لا يطلق عليه إن جعلهم متصرفين مدبرين

وهذا جهل عظيم ومع هذا فلا يجوز أن يطلب منهم كل شيء ويقصدوا بما لا يقدر عليه إلا الله، وأما قوله: والأنبياء والأولياء في صدور التصرفات والكرامات عنهم في الظاهر مظاهر لتصرفاته تعالى كالمرآة المجلوة المتصلة إذا استنارت من الشمس صارت منورة للأجسام المظلمة، فهذه العبارة تمويه وترويج للباطل، وحقيقتها أن العباد يتصرفون في العالم ويدبرون أمره وتصدر الأمور عنهم لأنهم مظاهر، والقائلون بأن الخلق مظاهر لذاته هم أهل الحلول المعطلة لوجود الصانع وربوبيته ومباينته لمخلوقاته وهم من أكفر خلق الله وأضلهم سبيلا فإنهم يعبدون كل ما استحسنوه ومالت نفوسهم إليه لظنهم أنه من مظاهر الحق.

والقائلون بأن لأرواح الأولياء في صدور التصرفات عنهم مظاهر لتصرفاته تعالى فيهم مشابهة قوية للحلولية ولعل هذه العبارة إنما أخذت عنهم يبين ذلك أنهم إن أراد الأسباب العادية الحسية فهذا لا يختص بالأنبياء والأولياء وإن أراد ما هو أعم من ذلك من الأمور الباطنية والتدبير بالقوة المؤثرة فهو شبيه بالقول الأول مشتق منه {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

وقوله: ويجوز أن تكون حالهم بعد مفارقة أرواحهم عن الأبدان في التصرفات كحالهم قبلها بل أتم وأصفى: فجوابه أن حالهم قبل المفارقة حال عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موت ولا حياة ولا نشورا كما قال تعالى لنبيه ﷺ: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} وقال له أيضا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

فإذا كانت هذه حاله ﷺ فما ظنك بغيره من سائر الخلق وإذا اتحدت الحالة بعد المفارقة وقبلها فليس فيه حجة للمعترض لأنه لا يملك ولا يتصرف لا في حياته ولا في مماته هذا إن سلم أن الحال مستوية في الحياة وبعد الممات والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها، ويكفي للمؤمن قوله ﷺ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وأن الأسباب العادية الحسية تزول بالموت فكيف بغيرها؟ وإذا كان لا يملك لنفسه شيئا وعمله قد اقطع فكيف يتصرف ويدبر ويستمد منه وتطلب منه الحوائج؟ إن هذا لهو الضلال المبين والجهل الواضح المستبين وقد تقدم في الحديث أن نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة فإذا كانت في الجنة تعلف بأشجارها فأي دليل دل على أنها تدبر وتتصرف وتتجاوز هذه الحالة التي ذكرها النبي ﷺ إلى التدبير والتصريف؟ ولقد كنا غنيين عن رد هذا القول لظهور بطلانه وضلال قائله ولكن غلبة الجهل على الجمهور دعت إلى الجواب.

وأما ما نقله عن البيضاوي، واعتمده من أن أرواح الأولياء تتصرف فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأخذ العلم من محله وذلك أن البيضاوي قال في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} إنها صفات ملائكة الموت فإنها تنزع أرواح الكفار من أبدانهم (بشدة) وتنشط أرواح المؤمنين أي تخرجها برفق ويسبحون في الإخراج ويستبقون بالأرواح إلى مقرها وما أعد لها وتدبر ذلك الأمر المعد هذا هو الذي قدم وأيد وهو الموافق لعبارات السلف، والمحققون من المفسرين جزموا بأنها صفات الملائكة واقتصروا عليه ولم يذكروا سواه وما وقفت على قول أحد حكى هذا الذي ذكر عن البيضاوي سوى البيضاوي مع أنه قدم سواه وأخره بل قدم عليه القول بأن هذه صفات للنجوم وذكر وجهه فإن كان قول البيضاوي حجة فقد قدم على هذا أنها صفات للنجوم.

وعلى قول هذا المعترض واحتجاجه بعبارة البيضاوي يطلب من النجوم ويستمد منها ويقال بأنها تتصرف لأن البيضاوي ذكر أنها من المدبرات أمرا بل يرجع حينئذ إلى عبادة النجوم وما كانت عليه الصابئة في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام وكذلك قال في تفسيره أو صفات أنفس الغزاة أو صفات خيلهم وعلى هذا يطلب منهم ومن خيلهم ويستمد لأنها من المدبرات أمرا سبحان الله ما أجهل هذا الرجل وأقل علمه بدين الإسلام الذي اتفقت عليه دعوة الرسل بل ما أجهله بتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون من سائر الأمم الذين آمنوا بربوبية الله وأشركوا في عبادته.

وأما ما نقله عن الشافعي أنه قال: الدعاء عند قبر الكاظم ترياق مجرب فهذا حال أهل الجهل والضلال يعتمدون الأكاذيب ويحرفون النقل الصحيح ومن عرف الشافعي وعرف علمه ومذهبه عرف أن هذا من أوضح الكذب وأظهره ولا يشك في ذلك إلا جاهل فإن الشافعي منع من استقبال القبر الشريف قبر رسول الله ﷺ عند الدعاء وأمر باستقبال القبلة عند ذلك، كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية بل حكى الإجماع عليه وهو من أعلم الناس بأقوال العلماء ومذاهبهم وحكاه غير واحد من أهل العلم كابن القيم الجوزية. والشافعي رحمه الله من أشد الناس متابعة للسنة ونهيا عن البدع فكيف يجيز ما دلت الأحاديث على المنع منه كحديث علي بن الحسين عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث كنتم"، والعيد اسم لما يعتاد مجيئه والتردد إليه لدعاء أو سلام، ووجه الدلالة من هذا أنه ﷺ منع من تحري الدعاء واعتياده عند أشرف القبور وأفضلها منبها على ما دونه بطريق الأولى وذكر العلقمي عن الشافعي أنه قال: أكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده وبهذا تعلم فقه الرجل ودينه، وهذه العبارة، وهي قولهم: الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب قد تنازعها عباد القبور والمتبركون بها فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعباد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد وعطلت المساجد وبنيت القبور وأرخيت الستور على التوابيت مضاهاة لبيت الله والله نسأل وإليه نرغب أن ينصر دينه ويظهره على سائر الأديان ويقيم له أنصارا وأعوانا يدعون إليه ويجاهدون فيه.

وأما قوله: قال حجة الإسلام محمد الغزالي: كل من يستمد به في الحياة يستمد به بعد الوفاة، فالجواب: أن هذا من جنس ما قبله نقل غير صحيح عن قائل غير معصوم لا يحتج به بإجماع المسلمين، وقول الناقل قال حجة الإسلام مجرد تمويه وتخييل، وحجة حجة الإسلام في كلام الله وكلام رسوله ﷺ وما عدا ذلك فيؤخذ منه ويترك كما قال مالك وبقوله يقول علماء الإسلام: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله ﷺ، وأبو حامد قد دخل في الفلسفة واعتنى بكتب الفلاسفة ودخل عليه من الشر بسبب ذلك مالا يحصيه إلا الله ومن تأمل كتبه وكلامه في الإحياء وفي غيره عرف ذلك إن كان ممن له ممارسة في العلوم الشرعية قال الفقيه ابن العربي المالكي: دخل شيخنا أبو حامد في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن الخروج. هذا كلام تلميذه وهو من أعرف الناس به، هذا إن صح النقل وما أظن هذا ثبت عنه.

وأما قوله: قال بعض من المشايخ العظام: رأيت أربعة أشخاص من الأولياء يتصرفون في قبورهم كما تصرفوا في حياتهم أو أزيد الشيخ عبد القادر وعن اثنين آخرين إلى آخره.

فالجواب أن مشايخ الضلال وجهلة الصوفية الذين لا دراية لهم بدين الله وشرعه قد يصدر منهم هذا ونحوه بل قد حكي عن بعضهم القول باتحاد الخالق والمخلوق والقول بحلول الخالق في خلقه والقول بتعطيل الصفات الثبوتية وكل هذه الأقوال حكيت واشتهرت وخلدت في الدفاتر عن أشياخ يعتقد كثير من الناس أنهم أهل معرفة وتحقيق وأنهم من المشايخ العظام.

ومن بنى دينه على هذا رجع إلى ما عليه النصارى من تقديم أقوال أحبارهم ورهبانهم على ما بأيديهم من كتب الله وعندهم من هذا النوع شيء كثير وحكايات معروفة، وقد عاب الله ذلك عليهم وفرهم به، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وقد فسر ﷺ هذه العبادة بطاعتهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله كما في حديث عدي بن حاتم وهو حديث صحيح مشهور اعتمده المفسرون وأهل الحديث، وقد رأينا بمصر من يقول: بأن البدوي وزينب والدسوقي يتصرفون وبعضهم يزيد إلى سبعة وبعضهم إلى سبعين، وكل هذه من أقوال عباد القبور، وقد أبطلها القرآن وسائر الكتب السماوية وما جاءت به النبوات بل بطلانه معلوم بالضرورة من دين الإسلام.

وأما قول ابن زروق: إن إمداد الميت أقوى من إمداد الحي لأنه في بساط أقرب الحق وحضوره، فهذا القول كما سبق قول عمن لا يرتضي ولا يؤخذ بقوله ولا يهتدي ونحن لا نمنع أن أقوال الضالين في هذا المعنى كثير ولكن ليست بشيء، ومعنا أصل عظيم لا يضل من اتبعه ولا يشقى وهو كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، وقرب العبد من الحق وحضوره لا يفيد هذا فإن جميع الخلق قريب بالنسبة إلى علم الحق وخواصه لهم قرب خاص بالنسبة إلى الحفظ والإعانة والنصرة والتأييد والتسديد، والملائكة لهم قرب أخص والأرواح الطيبة كذلك، ومع هذا فقد قيل لأفضلهم وسيدهم (ليس لك من الأمر شيء)(إن عليك إلا البلاغ) وتقدم ما فيه كفاية لأهل الحق.

وأما علم الأرواح بالزائرين وأحوالهم فلا دليل فيه لأن كونه يعلم الزائر ويرد عليه سلامه لا يدل على أنه يعلم حاله مطلقا ويتصرف ويدبر الأمر هذا لا مناسبة بينه وبين ما قبله بوجه من الوجوه وأي تلازم بينهما؟ وقد يعرف الكافر من يزوره وهو فيما هو فيه من العذاب.

وأما قوله: هكذا في شرح المشكاة فقد تقدم أن الحجة ليست في قول مثل هذا.

وأما قوله: وليت شعري ما أراد المنكرون للاستمداد إن أرادوا أن الأولياء لا تصرف لهم أصلا (لا) في الحياة ولا في الممات فهو بعينه مذهب أهل الاعتزال، والجواب أن يقال: قد تقدم أن الرجل لا يعرف معنى الاعتزال، ويسمي المؤمنين الذين يعتزلون الشرك وأهله ويجتنبون الأقوال المكفرة الشركية معتزلة لجهله بالاعتزال. والقول بأن الأولياء لا تصرف لهم أصلا لا في الحياة ولا في الممات بغير الأسباب العادية الحسية هو مذهب أهل الإسلام قاطبة الذين اعتزلوا الشرك وأهله.

وقوله: وإن أرادوا أن لا تصرف لهم حقيقة في الحالتين بل المتصرف والمؤثر حقيقة هو الله تعالى، وينسب إليهم مجازا فهو بعينه اعتقادنا، والجواب أن يقال: لا تصرف لأحد من الخلق بدون الأسباب العادية لا حقيقة ولا مجازا، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كما تقدم من الآيات والأحاديث.

وأما الأسباب العادية الحسية فهي تضاف إلى العبد حقيقة بمعنى أنها صدرت منه وقامت به وحصلت بمشيئته وكسبه ولا يمنع من إطلاق هذه الأفعال حقيقة عليه وإن كان الله هو الخالق له ولعمله كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.

ومن قال: لا تضاف إليه هذه الأفعال إلا مجازا فهو من جنس قول المجبرة ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن كسب العبد وأفعاله الحسية تضاف إليه حقيقة، وأما أفعال الله التي ليست من جنس أسباب العباد ولا في قدرتهم فهذه لا تضاف إلى العبد أصلا لا حقيقة ولا مجازا. ولكن المعترض خلط هنا ولم يميز وقوله: إن أرادوا أنه لا تصرف ولا كرامة لهم بعد الوفاة أصلا بناء على أنه لا حياة لهم فهذا مع ما فيه من إنكار عذاب القبر باطل لما ذكرناه من السماع والعلم لهم ولا شك أنهما يتفرعان على الحياة، فالجواب: يعلم مما تقدم وهذا كله حشو وتكرير ليس تجديا للدليل هو مجرد تكرير الدعوى ولا يخفى أن الملحدين وعباد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة وأن من نفاه فقد نفى الكرامة، وهذا المعترض زاد في التمويه بقوله: بناء على أنه لا حياة لهم وأن هذا يلزم منه إنكار عذاب القبر، وكل هذا تشبيه وترويج للباطل وتمويه على الجهال. وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" [23]

وكذلك يثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان كما في قصة آصف صاحب سليمان عليه السلام وكما في قصة أصحاب الكهف وكما تقدم في قصة عمر رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه من غير فعل من ذاك الولي.

وقول هذا الجاهل: إن ذلك بناء على أنه لا حياة لهم فهذا جهل عظيم وخلط ذميم، فالمسلمون متفقون على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإن أريد بالحياة تنعم الأرواح والأجساد وعذابها وإحساسها ونحو ذلك كما ورد فهذا ثابت لا شك فيه لكنه لا يسمى حياة(2) وإنما يطلق اسم الحياة على غير الأموات، والحياة البرزخية الثابتة للشهداء ونحوهم مقيدة لا مطلقة.

وعلى كل فهذا الفارسي لم يفرق بين الحياة وبين الإحساس بالألم والعذاب ولذلك استشكل وأثبت حياة البرزخ للكفار والفساق كما ثبت للشهداء وأمثالهم وزعم أن نفي التصرف في والتدبير عن الميت نفي للحياة يلزم منه نفي الإحساس. وإن أريد أن لهم حياة مساوية للحياة الدنيوية الحسية، وإن حال البرزخ كحال الدنيا، فهذا كذب بحت ومكابرة للعقل والحس بل ولكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وقال جلت قدرته: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} والآيات في هذا كثيرة.

وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" وقد تقدم الحديث.

فأي فائدة لخلط هذا المعترض وتشبيهه مع وجود هذه النصوص؟ وما أظن أنه فعل هذا إلا لقصد الخديعة والتمويه على الجهال أو هو من أصحاب الجهل المركب الذين وصف الله أعمالهم بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

وما نقله عن القاضي في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} يؤيد ما قلناه ويرد على من قال: إن الروح عرض يفنى بفناء البدن.

وأما قوله: وإن أرادوا وقالوا بكرامتهم تصرفاتهم في النشأة الأولى وأما بعد مفارقة الأرواح لا تصرف لهم ولا كرامة وعليهم البيان، فنقول: قد تقدم البيان، والفرق بين التصرف المثبت وهو ما جرت به العادة من أعمال العباد وكسبهم وتقدم الكلام على الكرامة وأنها ليست كما يظنه الجاهلون أنهم ينفعون ويضرون ويتصرفون وتقدم من الأدلة ما فيه الكفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له.

ومن عجائب جهله أنه يقول: ليس لهم دليل على هذا لا في الكتاب ولا في السنة وأقوال السلف انتهى.

والجاهل يخفى عليه الحق ولو كان واضحا في نفسه

ثم قال المعترض: من الشبهات التي تدور على ألسنة المنكرين أن العبد لا بد له أن لا يستعين بغيره تعالى ففي الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن معناها نخصك بالعبادة والاستعانة فكما يجب على العباد تخصيصه تعالى بالعبادة كذلك يجب عليهم تخصيصه بالاستعانة فلا يعبدوا إلا إياه ولا يستعينوا إلا به تعالى، هكذا زعم هذا المعترض أن هذه شبهة وكذب في ذلك فإن هذا هو الحق الذي نطق به القرآن في مواضع وجاءت به السنة وعلم وجوبه بالضرورة من دين الإسلام وبالفطر المستقيمة، لكن هؤلاء اجتاحتهم الشياطين وصرفتهم عن أصل الفطرة فصاروا في شك وريب نسأل الله الثبات على دينه.

قال المعترض: ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه ذكر منها أن الفاتحة مقروءة على ألسنة العباد تعلما للسلوك والوصول أي ينبغي أن يحمدوا الله ويذكروه بالصفات الجليلة مع الحضور والإخلاص ونفي الخواطر والوساوس مجتهدين في دفعها حتى تندفع بالكلية ولا يبقى في ملاحظتهم إلا الله فحينئذ يستحقون أن يخاطبوا الله ويقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وقصد هذا أن تخصيصه بالاستعانة في حال السلوك والخطاب وعدم وجود السوي وارتفاع الوسائط، ومراده أن في غير تلك الأحوال تباح الاستعانة بغير الله وتجوز فنعوذ بالله من الجهل المعمي.

ويقال لهذا: إن الله تعالى ذم المشركين وكفرهم مع إخلاص الدعاء والاستعانة به في حال ارتقاع الوسائط والسوي لإشراكهم في حال وجود ذلك كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورًا} وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، ويقال هذه الآية دلت على أصلين عظيمين ألا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به، كما قال تعالى عن شعيب: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، ونحو هذه الآيات التي فيها الجمع بين التوكل والاعتماد والعبادة والإنابة. وإذا كان التوكل والاعتماد في العبادات وغيرها شرط في حصول الإيمان كما في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}.

فالاستعانة به في نيل المطلوب ودفع المرهوب أصل وشرط في حصول الإيمان المطلق لما بينها وبين التوكل من التلازم فتسلم أن الفاتحة فيها التعليم للسلوك والوصول وهذا هو دين الإسلام ومعرفة سلوك الصراط والوصول إلى الله هو أصل الدين الذي يجب التزامه، ومتى جاز للعبد أن يخرج عن هذا السلوك وطلب هذا الوصول في حال من الأحوال؟ حتى يقال: إن هذا مخصوص فإن العبد كلف بطريق السلوك وطلب الوصول إلى الممات كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ومتى بقي في قلب العبد ملاحظة واستعانة بالوسائط فهو على درجتين إما أن يلاحظ ما جرت به الأسباب العادية مما هو في طاقة الخلق وقدرتهم فالاعتماد على هذا والتعلق به ينقص الإيمان الكامل وتنحط به درجة العبد لكن لا يخرج به عن الإسلام إذا كان أصل اعتماده وتوكله على الله لا على غيره.

وأما ملاحظة السوي والوسائط في غير الأسباب العادية كالذين يلاحظون أرواح الأنبياء والأولياء ويرجونهم ويستمدون منهم هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يجامع أصل الإيمان ولا يطابق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والبراءة من هذا ونفيه هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى جنته ومرضاته.

وعبارة البيضاوي التي نقل هذا عنه تدل على هذا وتقرره لأنه ذكر أن الله تعالى خوطب بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بما تقدم من الصفات التي اختص بها، فلهذا خوطب بذلك أيا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص والترجي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكان المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغائب حاضرا إلى آخر عبارته. وأراد بهذا توجيه الالتفات إلى الخطاب من الغيبة وهو صريح في أن العبد يطلب منه هذا ويجب عليه لأن تخلف المدلول إخلال بهذا الواجب ونقض لهذا العهد.

وقول الجاهل: إن هذا تعليم بطريق السلوك والسلوك مبدأ ومنتهى ففي المبدأ ذكر الله عبادته وطاعته وفي الانتهاء فناء عما سواه وعن فنائه فلم يبقى إلا الله وجميع الأشياء الكونية يردها العارف الواصل إن أراد بهذا الكلام ونحوه. إن هذا خاص بأناس أهل السلوك وأرباب الطرائق، وإن غيرهم من الخلق وسائر المسلمين لا يجب عليهم تخصيصه بالعبادة والاستعانة فهذا جهل يضحك منه العقلاء ولم يقل هذا أحد ممن يعرف ما يخرج من بين شفتيه إلا أن يكون مكذبا متلاعبا. وكلام المفسرين وأهل العلم يرد ما قال هذا المعترض، ويدل على ما قاله المسلمون من وجوب عبادته تعالى وحده ووجوب الاستعانة به وحده في هذه الآية وعلى زعم هذا يقال في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، إن العبادة تخصه تعالى في حال دون حال لأن هذا مقام تعليم لطريق السلوك وفيه فناء عن السوي، وهذا انسلاخ من الدين وتكذيب لنص الكتاب المبين. وأما قوله: فلأن حق العابد أن لا يلاحظ وقت العبادة غير معبوده فالاستعانة لغيره تعالى فيها ممنوعة ولكن لا تدل على أن الاستعانة ممنوعة مطلقا كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيقال: هذا كلام قريب مما قبله إلا أنه خص الاستعانة به تعالى في حال العبادة وعلى كلامه أن في غير العبادة يجوز أن يستعين بغيره ويستمد منه سواه تعالى.

وهذا القول فيه حل لربقة العبودية وخروج عن الأحكام الشرعية ومنع لكتاب الله أن يعمل به إلا في حال دون حال وما رأيت من عباد القبور من بلغ جهله إلى هذه الغاية وتصرف في كلام الله بمقتضى رأيه ومذهبه، وأين هذا عن معنى الحصر والاختصاص المستفاد من تقديم المعمول على العامل وأين هو عن العموم اللفظي الذي اعتبر أهل العلم والتأويل بل تعرفه العامة من المسلمين وتقر به.

وأما قوله: كيف والمؤمنون يتعاونون بعضهم بعضا- فهذا من غباوته فإن التعاون بين المؤمنين لا يدل على أنهم يتعاونون فيما هو من خصائص الربوبية بالقدرة والتأثيرات الباطنية وإنما ذلك خاص بالأسباب العادية والفعال المشاهدة الحسية ومن لم يفرق بين هذا وما قبله فهو ممن طبع الله على قلبه.

وما ذكره من الحصن الحصين من طلب الإعانة إذا انفلتت الدابة ليس هو من جنس الاستعانة الشركية فيما لا يقدر عليه إلا الله بل هو من جنس الأسباب العادية لأنهم حاضروه فخاطبهم من جنس خطاب الحي الحاضر وأين هذا؟ من الاستعانة من أصحاب القبور من الأولياء والمشايخ.

وقال المعترض: وقد يجاب عن هذه الشبهة بأن الاستعانة طلب المعونة وهي بالأسباب التي يسهل بها الفعل وتقرب الفاعل وبالأسباب التي يتوقف عليها الفعل المسمى بالاستطاعة، فمرجع الاستعانة هنا طلب التوفيق والهداية ولا شك أنهما فعلان لله مختصان به انتهى كلامه.

والجواب: أن هذا الرجل لا يدري ما يقول، فإن عبارته متناقضة، فأولها فيه جعل الاستعانة بالأسباب التي يتوقف عليها الفعل والأسباب التي يسهل الفعل وهذا عام، وفي آخرها قال: ومرجع الاستعانة هنا إلى طلب التوفيق والهداية وهي أخص من الأسباب التي يتوقف عليها الفعل والتي تسهله فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب وليس بين السبب والمسبب تلازم أصلا ومراده بهذا الكلام المختلف أن: التوفيق والهداية مختصان بالله وما عداهما فمستعان به غيره ويستمد ممن سواه تعالى الله عن هذا القول وأي دليل؟ دل على أن المقصود بالآية نوع من الاستعانة خاص دون سائر الأنواع ثم من جهله ساق بعد هذا الكلام عبارة البيضاوي فيها تقسيم المعونة إلى ضرورية وغير ضرورية وهي حجة عليه فإن البيضاوي أدخل جميع الأقسام في الآية وبين أن هداية الصراط المستقيم هي الإعانة المطلوبة وهذا عام في كل ما يستعان به تعالى عليه من أمر الدنيا والآخرة فإن الصراط المستقيم لا يخرج عنه إلا أفعال المغضوب عليهم والضالين فهو لفظ عام يدخل تحته من المقصود والإرادات والأعمال الباطنة والظاهرة والغايات والوسائل كل ما أريد به وجهه تعالى وكان صوابا على المنهاج المحمدي وعبارة البيضاوي ترد قول هذا المعترض وتشهد لما قلناه ولكنه نظر إلى ما فيه من التقسيم فظن أن ذلك حجة له وهو عليه.

وأما قوله: فأن قيل ما معنى الاستمداد والاستعانة من الأنبياء والأولياء قلنا معناه الذي نريد به التوسل بهم إلى الله في المهمات فقط بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه وأتوسل بهذا العبد المقرب المكرم عندك أن تعطيني كذا وكذا بلطفك وكرمك.

فيقال لهذا: هذا الكلام ينافي ما قبله وما بعده لأنك صرحت أولا بأنه يستمد منهم ويستعان بهم ويقصدون في الحوائج ويعلمون الغيب ويتصرفون ويدبرون، ولا يصلح تفسير هذا بأن المراد أن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك حاجتي هذه بهذا العبد ونحو هذا الكلام، فإن الأول صريح في سؤال العباد وليس فيه تعرض لسؤال الله بهم والقولان متنافيان.

فإما أن يكون الرجل مصابا في عقله أو قصد التمويه والمغالطة والشقشقة ترويجا على العوام وهي مما يزري عند ذوي الأفهام، ويقال أيضا: قولك بعد هذه العبارة: أو يقول: يا عبد الله يا ولي الله اشفع لي صريح في منافاة هذا ويطابق الأول من بعض الوجوه ولكنه يخالفه من حيث أنك هنا ذكرت الشفاعة وفي الأول جزمت بالتصريف والتدبير، والشافع لا يكون متصرفا مدبرا وإنما ينال بجاهه عند المتصرف المدبر إذا تبين هذا- وأن الرجل مخلط- فاعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع ومسألة الخلق مالا يقدر عليه إلا الله نوع آخر. فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم ولم يجزها أحد ممن يعتمد به ويقتدى به كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أهل العلم والحديث إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي ﷺ خاصة وقيده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي ﷺ وقال: ادع الله يا محمد أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ويصلي ويدعو الله وفي دعائه أسألك بنبيك محمد، قال ابن عبد السلام: إن صح الحديث فيجوز بالنبي ﷺ خاصة والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.

وجمهور الناس من أهل العلم يقولون: معنى الحديث إن صح: التوسل بدعائه ﷺ في حياته كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وفي غيره، وأما بعد وفاته ﷺ فليس من هديهم وطريقتهم أن يسألوا الله به، بل لما قحطوا زمن عمر استسقى وتوسل بدعاء العباس كما تقدم، وبالجملة فهذه المسألة نوع ولا يخرج الإنسان عن مسألة الله وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله. كما هو صريح كلام هذا المعترض.

وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي. ولو قال: يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم. وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى: يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله.

وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك. وإذا سألهم معتقدا تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم وهو صريح كلام هذا المعترض فيما تقدم لكنه مخاتل موسوس.

وقوله: وأما ما يريد به العوام فمع اعتقاد التأثير ممنوع بل شرك وكذلك السؤال من الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى، وبعض أفعالهم عند زيارة القبور فهو حرام قطعيا. وأما التوسل بالوجه الذي بينً فهو جائز بالأخبار والآثار فيقال: أي فرق بين ما ذكرته من أن أرواح الأولياء تتصرف وتدبر وتعلم الغيب ويستعان بها وبين ما ذكرته عن العوام؟ بأن قلت: إن العوام يعتقدون أنها تفعل وتؤثر بغير إذن الله وأنها مستقلة بالربوبية فهذا لا يقوله أحد ممن يعترف بأن الله رب كل شيء. وإن قصدت أنه يقولون إنها مفوضة وتأثر وتتصرف وتعلم فهذا عين قولك سواء بسواء ولا فرق بينك وبينهم.

وإنما ذكرك اعتقاد العوام هنا مجرد تلبيس، وكل من نظر في كلامك عرف أنه هو الذي نسبته إلى اعتقاد العوام وقوله: وكذلك السؤال عن الأنبياء والأولياء أمورا مختصة بالله تعالى إن أراد به غير الأسباب العادية فهذا هو الذي فيه النزاع وهو عين كلامه أن أرواح الأولياء تتصرف ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المهمات وهذا مختص بالله وقد زعمه لغيره، وإن أراد به الأسباب العادية تطلب من غيره تعالى كسؤال المخلوق ما يقدر عليه من دفع العدو أو تعليم ما يعلمه من العلم وما في وسعه من الإطعام والصدقة والدعاء ونحو ذلك فهذا لا يمنع منه، والكلام إنما هو في النوع الأول الذي وقع النزاع فيه.

وأما حديث عثمان بن حنيف وحديث ابن الجوزي وحديث أنس فهذه الأحاديث حجة عليه لا له لأنه ليس فيها استمداد من المخلوق والاستغاثة به بل فيها الاستمداد من ولي المدد ومالكه سبحانه.

واستسقاء عمر ومعاوية بالعباس ويزيد حجة لأهل الحق القائلين أنه لا يستسقى بالأموات ولا يستعان بهم لأن بالمدينة وغيرها من الأنبياء والشهداء والسابقين الأولين من هو أفضل من العباس ومن يزيد بن الأسود ولا استسقى بهم أحد زمن الصحابة ولا في القرون المفضلة فدل على أن ذلك ليس من دين أهل الإسلام وأنه من أبطل الباطلين والسنة أولى بالاتباع وأحق، ثم إن هذا المعترض أتى في آخر كلامه بشبهة سامجة تخالف ما تقدم فقال: إذا تقرر أن أعمالنا تعرض عليهم بواسطة الملائكة أو بواسطتهم فيجوز أن يكون نداؤنا لهم والتوسل بهم يعرض عليهم فيدعوا لنا بالخير ويشفعوا فيشفعوا، والجواب أن يقال: أين الداعي والشافع؟ من المدبر المتصرف؟ وقد تقدم لك وتكرر أنك تقول: بأنهم يدبرون ويتصرفون ويمدون فما بالك رجعت القهقرة وجعلتهم داعين شافعين، والشفيع إنما يشفع بجاهه وكرامته عند من يفعل ولا فعل له هو بنفسه فلا أدري أي المذهبين تختار وأي الطريقتين أرجح عندك.

أما الطريقة الأولى فطريقة من أشرك في الربوبية وزعم أن ثم مدبرين وفاعلين ومتصرفين.

والطريقة الثانية فطريقة مشركي العرب ومن ضاهاهم وشابههم من عباد القبور الذين يعتقدون أنهم إذا سألوهم وتعلقوا عليهم نالوا بجاههم وشفاعتهم، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وبعض الجهال يظن أنه إذا قال: أنا أريد شفاعتهم وجاههم وأعتقد أن الله هو المؤثر أن ينجوا بهذا من الشرك ويكون مسلما وقد عرفت مما تقدم أن هذا هو الذي كانت عليه العرب في زمانه ﷺ وأنهم لم يعتقدوا التدبير والتأثير لغر الله تعالى، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} والآيات في هذا كثيرة فيها أنهم يعترفون لله بالتدبير والتصريف ولكنهم قصدوا من آلهتهم مجرد الجاه والشفاعة وقول هذا قد علم مما ذكرنا أن قول القائل: يا شيخ عبد القادر شيئا لله استمداد منه جائر. فيقال له: تقدم لك أنك تقول: إن الذي نريد التوسل بهم إلى الله بأن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بعبدك وتقدم قولك: بأنهم يدعون لنا ويشفعون.

وهذه العبارة الأخيرة صريحة في طلب عبد القادر بنفسه وهذا هو الذي تريدون وهو الذي انطوت عليه الضمائر ولكنكم تارة تصرحون وتارة تكتمون وتظهرون عيره وعلى كل فأنتم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك كما نعت الله بذلك إخوانكم الأولين.

وأما حكاية اليافعي في تكملة روض الرياحين وأن رجلا استغاث بعبد القادر فأغيث ورأى عند ذلك رجلا عليه ثياب شديدة البياض ونحو هذا الكلام فهذا ليس من أدلة أهل الإسلام ولا يثبت به بإجماعهم حكم من الأحكام ويحتمل أن هذا المستغيث رأى خيالا أو جانا فتوهمه عبد القادر وليس كذلك [ إلا ] هذا إن صح النقل ولا يمكن تصحيح مثل هذه الحكايات، ولو لم يكن من الموانع إلا جهالة الراوي لدين الإسلام وعدم معرفته بصحيح الأحكام، والحكاية عن الشيخ عبد القادر أنه يقول: من استغاث بي في كربة ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه ومن توسل بي إلى الله في حاجة قضية له ومن صلى ركعتين ثم يخطوا إلى جهة العراق إحدى عشر خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنه تقضى.

وهذا الكلام البشع الخبيث نسبه إلى هذا الشيخ الموحد خطأ عظيم وزلل وخيم وقد ابتلي رحمه الله تعالى بمن يعتقد فيه نوعا من الإلهية ويجعله ندا لرب العالمين كما ابتلي بهذا علي بن أبي طالب وابنه الحسين وغيرهم من سادات المؤمنين، وكل من عرف عبد القادر ووقف على كلامه الذي نقله الثقات عنه يجزم ببراءته من هذا وسلامته من هذه الشركيات والخرافات التي ينزه عنها العاقل فضلا عن العالم الفاضل.

وعند النصارى وأشباههم من هذه الحكايات ما يملأ الدفاتر. وكانت العرب في الجاهلية تعج على عبادة اللات والعزى ومناة ونحو ذلك بمثل هذه الحكايات الضالة والأقاويل الباطلة بل ربما سمع بعضهم الخطاب من نفس معبوده: قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

وقد خرج الطبراني بسنده أنه كان بالمدينة منافق يؤذي المسلمين فقالوا قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق فقال لهم ﷺ: "لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل"، فمنع من إطلاق هذا اللفظ حتى في الأسباب العادية سدا للذريعة الشركية وهو سيد ولد آدم ﷺ ويروى عن أبي عبد الله القرشي أحد مشايخ الطريقة أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وعن ذي النون استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ولعبد القادر في كتابه (فتوح الغيب) ما هو قريب من هذا الكلام وهذه هي حال أولياء الله وعباده الصالحين يأمرون الخلق بما يوجب صرف قلوبهم ووجوههم إلى الله وحده لا شريك له والإنابة إليه والاعتماد عليه، كما قال عن إمامهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} وقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} فكيف يقول غير الرسول ﷺ استغيثوا بي ومن استغاث بي فرجت عنه سبحان الله ما أجهل أعداء الله وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص وأن العباد لا يرغبون إلا إليه وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه" [24] وفيه من حديث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"، [25] وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

فلأي شيء يستغاث بغيره؟ ألكون غيره أعلم وأرحم وأحكم ولماذا؟ تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق وصلى الله على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا غفر الله لكاتبها ولمؤلفها ولوالديهما والمسلمين آمين.

الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات الطيبات وتزداد بشكره العطايا والبركات وتنال الرغبات والخيرات وتدفع بالالتجاء إليه البليات والمضرات لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ولا حول ولا قوة إلا به لا إله إلا هو رب الأرض والسموات وما بينهما ورب البريات.

هامش

  1. رواه ابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها، 162.
  2. رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.
  3. (في الأصل ليبيغ لعل الصواب لئلا يبلغ كلام ربه).
  4. والمراد إمامه الوثني أرسطوكما قرره عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين).
  5. في الأصل (والقدس).
  6. المقصود ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة كما ذكره ابن كثير في تفسيره، وروى البخاري عن ابن مسعود أن ناسا من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم.
  7. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الأحقاف الآية 5.
  8. في الأصل دعاءه.
  9. رواه الأربعة وصححه الترمذي.
  10. رواه الترمذي.
  11. رواه الحاكم وصححه
  12. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) أي يسوون معبوداتهم الباطلة بخالق السماوات. وقال عن أهل النار: { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
  13. رواه مسلم
  14. رواه مسلم.
  15. في الأصل عند الأمة.
  16. في الأصل: وذكر أبو الجوزي.
  17. متفق عليه
  18. في الأصل (هذه).
  19. في الأصل توسط الأنبياء.
  20. قال ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين: إن الفلاسفة يقولون: إن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة بـ(اللوح المحفوظ) كما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه، وهذا فاسد فإن اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ، واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفلكية تحت العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها. ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء إما عن معرفة بأن هذا قولهم وإما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخه الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد ذلك في كلام ابن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم يقولون: إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريدية من اللوح المحفوظ أو أنه يعلم كل ولي كان ويكون لله من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ، وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل، والمقصود هنا أنهم يقولون إن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن إما بالنوم وإما بالرياضة وإما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الأرضية ثم ذلك العلم العقلي قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صورة مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا أحس أشياء بالظاهر ثم تخيلها فإنها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك ترتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهر وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن، وما يراه النائم في منامه والمرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي ﷺ لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم. قيل: هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كأرسطو وأصحابه ولا جمهورهم وإنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا الكلام باطل ولم يتبع فيه سلفه، وثانيا أنه مبني على أصول فاسدة كثيرة الأصل، الأول: أنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول، الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل ثم استفهم شيخ الإسلام ابن تيمية هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال؟ الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فإنه لو سلم لهم ما يذكرونه من أصول فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل م تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه أمر كلي لكنه بزعمهم دائم الفيض فإذا استدعت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض، وذلك الفيض لا يكون علما بجزئي فإنه لا جزئي فيه فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية؟ وكلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فإن العقل إن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل اهـ كتاب الرد على المنطقيين ص 474-478.
  21. لعل المقصود (وال للاستغراق المفيد الخ).
  22. رواه أحمد من رواية وهب بن منبه بلفظ آخر قال الله عز وجل في بعض كتبه: "بعزتي أنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفى بي لعبد مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب قبل أن يدعني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه".
  23. رواه البخاري ومسلم
  24. رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة مرفوعا.
  25. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.