الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة


ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة


استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك ويلتحق به الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب له بالديار المصرية، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي، ووزيره القاضي ابن الخصيب، ونائب الشام بدمشق الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، والقضاة والخطيب وبقية الأشراف وناظر الجيش والمحتسب هم المذكورون في العام الماضي. والوزير ابن قروينة وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي وهو أحد موقعي الدست الأربعة. وشاد الأوقاف الأمير ناصر الدين بن فضل الله، وحاجب الحجاب اليوسفي، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جنهار، ومتولي البلد ناصر الدين، ونقيب النقباء ابن الشجاعي.

وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الأمير على نائب حماة منها فدخل دمشق مجتازا إلى الديار المصرية ونزل في القصر الأبلق ثم تحول إلى دار دويداره يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين.

وتردد الناس إليه للسلام عليه، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه، فسار إلى الديار المصرية.

وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن، وناظر في إيمان فرعون وادعى عليه بدعاوي لانتصاره لفرعون لعنه الله، وصدق ذلك باعترافه أولا ثم بمناظرته في ذلك ثانيا وثالثا، وهو شيخ كبير جاهل عامي ذا نص لا يقيم دليلا ولا يحسنه، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق، وأحيط به ورأى بأس الله، وعاين عذابه الأليم، فقال حين الغرق إذا {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] .

قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 91] .

فاعتقد هذا العامي أن هذا الإيمان الذي صدر من فرعون والحالة هذه ينفعه، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84-86] .

وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} قال قد أجيبت دعوتكما الآية [يونس: 96-97] .

ثم حضر في يوم آخر وهو مصمم على ضلاله فضرب بالسياط، فأظهر التوبة ثم أعيد إلى السجن في زنجير، ثم أحضر يوما ثالثا وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر فنودي عليه في البلد ثم أطلق.

وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفا كله ولكن كان تحت السحاب، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء صلّى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء، وقرأ في الأولى بسورة العنكبوت وفي الأخرى بسورة يس، ثم صعد المنبر فخطب ثم نزل بعد العشاء.

وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والأمن، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الأيام من آخر هذا الشهر والأمر على حاله، وهذا شيء لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال انهال في طريق النهر.

ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر، ومسك أمير الحاج شركتمر المارداني الذي كان مقيما بمكة شرفها الله تعالى، وحماها من الأوغاد، فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر من ساعة وصوله إلى دمشق، فقيد وسير إلى الديار المصرية على البريد، وبلغنا أن الأمير سند أمير مكة غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر وكبسهم وقتل من حواشيهم وأخذ خيولهم، وأنهم ساروا جرائد بغير شيء مسلوبين إلى الديار المصرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي أول شوال اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثيرة المستنقعات من فيض النيل عندهم، على خلاف المعتاد، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الألفين، فأما المرض فكثير جدا، وغلت الأسعار لقلة من يتعاطى الأشغال، وغلا السكر والأمياه والفاكهة جدا، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد وحصل له تشويش أيضا، ثم عوفي بحمد الله.

وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجاف رسول صاحب العراق لخطبة بنت السلطان، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد، وأعطاهم مستحقا سلطانيا، وأطلق لهم من التحف والخلع والأموال شيئا كثيرا، ورسم الرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريبا من الطواويس، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة وهو حاجب الحجاب، والدولة والأعيان.

وقرأت في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر كتابا ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات، وأحضره معه وشاهده الحاضرون، وشاهده كاتب الكتاب، فإذا هو شكل سوي له على كل كتف رأس بوجه مستدير، والوجهان إلى ناحية واحدة فسبحان الخلاق العليم.

وبلغنا أنه في هذا الشهر سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر، وكانت مستجدة على صفة غريبة، وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة، فلما سقطت أهلكت خلقا كثيرا من الصناع بالمدرسة والمارة والصبيان الذين في مكتب المدرسة، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شيء سوى ستة.

وكان جملة من هلك بسببها نحو بإسطبل نفس، وقيل أكثر وقيل أقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة لإصلاحها وإزالة ما فيها من الأشجار والمؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر، وكان سلخه، وخرج معه جميع الجيش من الأمراء وأصحابه، وأجناد الحلقة برمتهم لم يتأخر منهم أحد، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المرج والغوطة وغير ذلك، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل وقد نظفوها من الغل والدغل والغش.

واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزا من صدقة تربة امرأة ملك الأمراء تنكز عند باب الخواصين، فتضاربوا فيما بينهم فعمدوا إلى رجل منهم فخنقوه خنقا شديدا، وأخذوا منه جرابا فيه نحو من أربعة آلاف درهم. وشيء الذهب وذهبوا على حمية، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم، واشتكى أمره إلى متولي البلد فلم يظفر بهم إلى الآن، وقد أخبرني الذي أخذوا منه أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة، وألف درهم بندقية ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير. كذا قال لي إن كان صادقا.

وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الأولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي للشيخ علي بن البنا، وقد كان يتكلم في الجامع الأموي على العوام، وهو جالس على الأرض شيء من الوعظيات وما أشبهها من صدره، فكأنه تعرض في غضون كلامه لأبي حنيفة رحمه الله، فأحضر فاستتيب من ذلك، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس وسجنه، وبلغني أنه حكم بإسلامه وأطلقه من يومه.

وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتعسف، وهو مصري يسمع الحديث ويقرؤه، ويتكلم بشيء من الوعظيات والرقائق، وضرب أمثال، وقد مال إليه كثير من العوام واستحلوه، وكلامه قريب إلى مفهومهم، وربما أضحك في كلامه، وحاضرته وهو مطبوع قريب إلى الفهم، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الأشياء التي لا تنبغي أن تذكر، والله الموفق.

ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه فتكلم على عادته فتطلبه القاضي المذكور فيقال إن المذكور تعنت انتهى والله أعلم.

سلطنة الملك المنصور صلاح الدين محمد

ابن الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي وزوال دولة عمه الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون.

لما كثر طمعه وتزايد شرهه، وساءت سيرته إلى رعيته، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله، واشترى منه قرايا كثيرة ومدنا أيضا ورساتيق، وشق ذلك على الناس جدا، ولم يتجاسر أحد من القضاة ولا الولاة ولا العلماء ولا الصلحاء على الإنكار عليه، ولا الهجوم عليه، ولا النصيحة له بما هو المصلحة له وللمسلمين، انتقم الله منه فسلط عليه جنده وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه.

لما قطع من أرزاقهم ومعاليمهم وجوامكهم وأخبازهم، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته، فقلت الأمراء والأجناء والمقدمون والكتاب والموقعون، ومس الناس الضرر وتعدى على جوامكهم وأولادهم ومن يلوذ بهم، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه وهو الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي.

وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولا في الوطاقات، فهزم السلطان بعد كل حساب، وقد قتل من الفريقين طائفة، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل، كلا ولا وزر، ولن ينجي حذر من قدر، فبات الجيش بكماله محدقا بالقلعة، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك.

فلما برز مسك واعتقل ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور، وكان آخر العهد به، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، فاتفقت الآراء واجتمعت الكلمة وانعقدت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي.

وخطب الخطباء وضربت السكة، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف، هذا وهو ابن ثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة، ومن الناس من قال: ست عشرة، ورسم في عود الأمور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها، وأمر بإحضار طاز وطاشتمر القاسمي من سجن إسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكا.

وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين بزلارشاد التربخاناة أحد أمراء الطبلخانات بمصر صبيحة يوم الأربعاء سادس عشر الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وطلبلخانات الأمراء على أبوابهم، وزين البلد بكماله، وأخذت البيعة له صبيحة يومه بدار السعادة وخلع عن نائب السلطنة تشريف هائل، وفرح أكثر الأمراء والجند والعامة ولله الأمر، وله الحكم.

قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} الآية [آل عمران: 26] .

ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب:

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل النعيم من ملك * قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبدا * ليس بفانٍ ولا بمشترك

وروي عن سليمان بن عبد الملك بن مروان أنه خرج يوما لصلاة الجمعة، وكان سوي الخلق حسنه، وقد لبس حلة خضراء، وهو شاب ممتلئ شبابا، وينظر في أعطافه ولباسه، فأعجبه ذلك من نفسه، فلم بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه فأنشدته:

أنت نعم لو كنت تبقى * غير أن لا حياة للإنسانِ

ليس فيما علمت فيك عيـ * ـب يذكر غير أنك فانِ

فصعد المنبر الذي في جامع دمشق وخطب الناس، وكان جهوري الصوت يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر، فضعف صوته قليلا قليلا حتى لم يسمعه أهل المقصورة، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها، وقال: كيف أنشدتيني تينك البيتين؟ فقالت: ما أنشدتك شيئا.

فقال: الله أكبر نعيت والله إلي نفسي.

فأوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

وقدم نائب طرابلس المعزول عليلا والأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب دمشق وكانا مقيمان بطرابلس جميعا، في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين منه، فدخلا دار السعادة فلم يحتفل بهما نائب السلطنة.

وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحا بدرابزيناته وتبييضا لجدرانه ومحراب فيه، وجعل له شبابيك في الدرابزينات، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب، وذكروا أن شخصا رأى مناما فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه.

وفيه: نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك، وقد كان أسسها أولا علم الدين بن هلال، فلما صودر أخذت منه وجعلت مضافة إلى السلطان، فبنوا فوق الأساسات وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها، وبابا قبليا، ومحرابا وبركة وعراقية، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود، وكملوا عاليها بالأجر، وجاءت في غاية الحسن، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتبا للأيتام فلم يتم أمرها حتى قتل كما ذكرنا.

واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجيء من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة قد ماتت أمهم، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة، فتجيء إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها، تكرر هذا منها مرارا، وأخبرني في المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك.

وفي العشر الأوسط من جمادى الآخرة نادى منادٍ من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد أن النساء يمشين في تستر ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهم، ولا يظهرن زينة ولا يدا، فامتثلن ذلك ولله الحمد والمنة.

وقدم أمير العرب جبار بن مهنا في أبهة هائلة، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق، وهو قاصد إلى الأبواب الشريفة.

وفي أواخر رجب قدم الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق، وعلى مقدمة رأس الميمنة، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة، مثل مكس الحداية والخزل المرددن الحلب والطبابي. وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف، وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت، وهذا حسن جدا، وكذلك منع التحجر في بيع البلح المختص به، وبيع مثل بقية الناس من غير طرحان فرخص على الناس في هذه السنة جدا، حتى قيل إنه بيع القنطار بعشرة، وما حولها.

وفي شهر شعبان قدم الأمير جبار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق وتلقاه نائب السلطنة وأكرم كل منهما الآخر، ثم ترحل بعد أيام قلائل، وقدم الأمراء الذين كانوا بحبس الإسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه، وفيهم الأمير شهاب الدين بن صبح وسيف الدين طيدمر الحاجب، وطيبرف ومقدم ألف، وعمرشاه، وهذا ونائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر أعزه الله يبطل المكوسات شيئا بعد شيء مما فيه مضرة بالمسلمين.

وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك، آمين انتهى.

تنبيه على واقعة غريبة وإتقان عجيب

نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر فيما بلغنا في نفسه عتب على أتابك الديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الحاصكي مدبر الدولة بها.

وقد توسم وتوهم منه أنه يسعى في صرفه عن الشام، وفي نفس نائبنا قوة وصرامة شديدة، فتنسم منه ببعض الآباء عن طاعة يلبغا، مع استمراره على طاعة السلطان، وأنه إن اتفق عزل من قبل يلبغا أنه لا يسمع ولا يطيع. فعمل أعمالا واتفق في غضون هذا الحال موت نائب القلعة المنصورة بدمشق وهو الأمير سيف الدين برناق الناصري، فأرسل نائب السلطنة من أصحابه وحاشيته من يتسلم القلعة برمتها، ودخل هو بنفسه إليها، وطلب الأمير زين الدين زبالة الذي كان فقيها ثم نائبها وهو من أخبر الناس بها وبخطاتها وحواصلها، فدار معه فيها وأراه حصونها وبروجها ومفاتحها وأغلاقها ودورها وقصورها وعددها وبركتها، وما هو معد فيها ولها.

وتعجب الناس من هذا الاتفاق في هذا الحال، حيث لم يتفق ذلك لأحد من النواب قبله قط، وفتح الباب الذي هو تجاه دار السعادة وجعل نائب السلطنة يدخل منه إلى القلعة ويخرج بخدمه وحشمه وأبهته يكشف أمرها وينظر في مصالحها أيده الله.

ولما كان يوم السبت خامس عشر شعبان ركب في الموكب على العادة واستدعى الأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب الشام، وهو في منزله كالمعتقل فيه، لا يركب ولا يراه أحد، فأحضره إليه وركب معه.

وكذلك الأمراء الذين قدموا من الديار المصرية: طبترق، وهو أحد أمراء الألوف وطيدمر الحاجب، كان، وأما ابن صبح وعمرشاه فإنهما كانا قد سافرا يوم الجمعة عشية النهار، والمقصود أنه سيرهم وجميع الأمراء بسوق الخيل.

ونزل بهم كلهم إلى دار السعادة فتعاهدوا وتعاقدوا واتفقوا على أن يكونوا كلهم كتفا واحدا، وعصبة واحدة على مخالفة من أرادهم بسوء وأنهم يد على من سواهم ممن أراد عزل أحد منهم أو قتله، وأن من قاتلهم قاتلوه. وأن السلطان هو ابن أستاذهم الملك المنصور بن حاجي بن الناصر بن المنصور قلاوون، فطاوعوا كلهم لنائب السلطنة على ما أراد من ذلك، وحلفوا له وخرجوا من عنده على هذا الحلف، وقام نائب السلطنة على عادته في عظمة هائلة، وأبهة كثيرة، والمسؤول من الله حسن العاقبة.

وفي صبيحة يوم الأحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الأمراء المكس الذي يؤخذ من الملح وأبطل مكس الأفراح، وأبطل أن لا تغني امرأة لرجال، ولا رجل لنساء، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصف مجانيق على أعالي بروج القلعة، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الأربع، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة.

ثم نصب آخر وآخر حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الأبرجة، وأخرج منها القلعية وأسكنها خلقا من الأكراد والتركمان وغيرهم من الرجال الأنجاد، ونقل إليها من الغلات والأطعمة والأمتعة وآلات الحرب شيئا كثيرا، واستعد للحصار إن حوصر فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع، بما يفوت الحصر.

ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى.

وجاءتني فتيا صورتها: ما تقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاما فأحسن إليه وأعطاه وقدمه، ثم إنه وثب على سيده فقتله وأخذ ماله ومنع ورثته منه، وتصرف في المملكة، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله، فهل له الامتناع منه؟ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدا أم لا؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال؟ أفتونا مأجورين.

فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير: إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهو أعلم بنيته في الذي يقصده، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقة، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والأمراء عليه، فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولا، ثم بعد ذلك بقية المفتيين بطريقه، والله الموفق للصواب.

هذا وقد اجتمع على الأمير نائب السلطنة جميع أمراء الشام، حتى قيل إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميرا، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة، وينزلون معه إلى دار السعادة، ويمد لهم الأسمطة ويأكل معهم.

وجاء الخبر بأن الأمير منجك الطرجاقسي المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة، فأرسل له جبريل ثم عاد فأخبر بالموافقة، وأنه قد استحوذ إلى غزة ونائبه، وقد جمع وحشد واستخدم طوائف، ومسك على الجادة فلا يدع أحدا يمر إلا أن يفتش ما معه، لاحتمال إيصال كتب من ها هنا إلى ها هنا.

ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جدا، والأمن حاصل هناك، فلا يخاف أحده وكذلك بدمشق وضواحيها، لا يهاج أحد ولا يتعدى أحد على أحد، ولا ينهب أحد لأحد شيئا ولله الحمد.

غير أن بعض أهل البساتين توهموا وركبوا إلى المدينة وتحولوا، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم، وأقاموا بها على وجل، ذلك لما رأوا المجانيق الستة منصوبة على رؤوس قلال الأبراج التي للقلعة.

ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الأربعة والأمراء كلهم وكتبوا مكتوبا سطره بينهم كاتب السر، أنهم راضون بالسلطان كارهون ليلبغا، وأنهم لا يريدونه ولا يوافقون على تصرفه في المملكة، وشهد عليهم القضاة بذلك، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للأمير طيبغا الطويل، نظير يلبغا بالديار المصرية، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين.

فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة استدمر الذي كان نائب الشام مددا للأمير منجك في ألفين، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف، ليلة الثلاثاء الثامن من رمضان كما سيأتي.

وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، ودفن من الغد بالريدانية، وقد كتب الكثير وصنف وجمع، وكانت عنده كتب كثيرة رحمه الله.

وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شيء عليهم من القند والفولاذ والزجاج مما هو في حواصل يلبغا، فامتنعوا من ذلك خوفا من استعادته منهم على تقدير، فضرب بعضهم، منهم شهاب الدين بن الصواف بين يدي الحاجب، وشاد الدواوين، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ففرج الله بذلك.

وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين منهم عراق ثم ابن صبح ثم ابن طرغية، ودخل نائب طرابلس الأمير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء عاشر رمضان، فتلقاه ملك الأمراء سيف الدين بيدمر إلى الأقصر.

ودخلا معا في أبهة عظيمة، فنزل تومان في القصر الأبلق، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق، وقد ملئت حرسا شديدا ونائب السلطنة في غاية التحفظ.

ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الأمراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي، ومنجك ومن معه هنالك، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

فأجابه إلى ذلك وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم، فخرج السبق وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث، فاستوحش الناس من ذلك، والله يحسن العاقبة.

خروج ملك الأمراء بيدمر من دمشق إلى غزة

صلى الجمعة بالمقصورة الثاني عشر من رمضان نائب السلطنة، ونائب طرابلس، ثم اجتمعا بالخطبة في مقصورة الخطابة، ثم راح لدار السعادة ثم خرج طلبه في تجمل هائل على ما ذكر بعد العصر، وخرج معهم فاستعرضهم ثم عاد إلى دار السعادة فبات إلى أن صلّى الصبح، ثم ركب خلف الجيش هو ونائب طرابلس، وخرج عامة من بقي من الجيش من الأمراء وبقية الحلقة، وسلمهم الله.

وكذلك خرج القضاة، وكذا كاتب السر ووكيل بيت المال وغيرهم من كتاب الدست، وأصبح الناس يوم السبت وليس أحد من الجند بدمشق، سوى نائب الغيبة الأمير سيف الدين بن حمزة التركماني، وقريبه والي البر، ومتولي البلد الأمير بدر الدين صدقة بن أوحد، ومحتسب البلد ونواب القضاة والقلعة على حالها، والمجانيق منصوبة كما هي.

ولما كان صبح يوم الأحد رجع القضاة بكرة ثم رجع ملك الأمراء في أثناء النهار هو وتومان تمر، وهم كلهم في لبس وأسلحة تامة، وكل منهما خائف من الآخر أن يمكسه، فدخل هذا دار السعادة وراح الآخر إلى القصر الأبلق.

ولما كان بعد العصر قدم منجك واستدمر كان نائب السلطنة بدمشق، وهما مغلولان قد كسرهما من كان قدم على منجك من العساكر التي جهزها بيدمر إلى منجك وقوة له على المصريين.

وكان ذلك على يدي الأمير سيف الدين تمر حاجب الحجاب ويعرف بالمهمندار، قال لمنجك: كلنا في خدمة من بمصر، ونحن لا نطيعك على نصرة بيدمر، فتقاولا ثم تقاتلا فهزم منجك وذهب تمر ومنجك ومن كان معهما كابن صبح وطيدمر.

ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين خامس عشر لم يوجد لتومان تمر وطبترق ولا أحد من أمراء دمشق عين ولا أثر، قد ذهبوا كلهم إلى طاعة صاحب مصر، ولم يبق بدمشق من أمرائها سوى ابن قراسنقر من الأمراء المتقدمين، وسوى بيدمر ومنجك واستدمر.

والقلعة قد هيئت والمجانيق منصوبة على حالها، والناس في خوف شديد من دخول بيدمر إلى القلعة، فيحصل بعد ذلك عند قدوم الجيش المصري حصار وتعب ومشقة على الناس، والله يحسن العاقبة.

ولما كان في أثناء نهار الاثنين سادس عشره دقت البشائر في القلعة وأظهر أن يلبغا الخاصكي قد نفاه السلطان إلى الشام، ثم ضربت وقت الغرب ثم بعد العشاء في صبيحة يوم الثلاثاء أيضا.

وفي كل ذلك يركب الأمراء الثلاثة منجك وبيدمر واستدمر ملبسين، ويخرجون إلى خارج البلد، ثم يعودون، والناس فيما يقال ما بين مصدق ومكذب، ولكن قد شرع إلى تستير القلعة وتهيئ الحصار فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم تبين أن هذه البشائر لا حقيقة لها، فاهتم في عمل ستائر القلعة وحمل الزلط والأحجار إليها، الأغنام والحواصل، وقد وردت الأخبار بأن الركاب الشريف السلطاني وصحبته يلبغا في جميع جيش مصر قد عدا غزة.

فعند ذلك خرج الصاحب وكاتب السر والقاضي الشافعي وناظر الجيش ونقباؤه ومتولي البلد وتوجهوا تلقاء حماة لتلقي الأمير على الذي قد جاءه تقليد دمشق، وبقي البلد شاغرا عن حاكم فيها سوى المحتسب وبعض القضاة، والناس كغنم لا راعي لهم.

ومع هذا الأحوال صالحة والأمور ساكنة، لا يعدو أحد على أحد فيما بلغنا، هذا وبيدمر ومنجك واستدمر في تحصين القلعة وتحصيل العدد والأقوات فيها، والله غالب على أمره أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة الستائر تعمل فوق الأبرجة.

وصلى الأمير بيدمر صلاة الجمعة تاسع عشر الشهر في الشباك الكمالي، في مشهد عثمان، وصلّى عنده منجك إلى جانبه داخل موضع القضاة، وليس هناك أحد من الحجبة ولا النقباء.

وليس في البلد أحد من المباشرين بالكلية، ولا من الجند إلا القليل، وكلهم قد سافروا إلى ناحية السلطان، والمباشرون إلى ناحية حماة لتلقي الأمير على نائب الشام المحروس، ثم عاد إلى القلعة ولم يحضر الصلاة استدمر، لأنه قيل كان منقطعا أو قد صلّى في القلعة.

وفي يوم السبت العشرين من الشهر وصل البريد من جهة السلطان من أبناء الرسول إلى نائب دمشق يستعلم طاعته أو مخالفته، وبعث عليه فيما اعتمده من استحوذ على القلعة ويخطب فيها، وادخار الآلات والأطعمات فيها، وعدم المجانيق والستائر عليها، وكيف تصرف في الأموال السلطانية تصرف الملك والملوك.

فتنصل ملك الأمراء من ذلك، وذكر أنه إنما أرصد في القلعة جنادتها وأنه لم يدخلها، وأن أبوابها مفتوحة، وهي قلعة السلطان.

وإنما له غريم بينه وبينه الشرع والقضاة الأربعة - يعني بذلك يلبغا - وكتب الجواب وأرسله صحبة البريدي وهو كتكلدي مملوك بقطبة الدويدار، وأرسل في صحبته الأمير صارم الدين أحد أمراء العشرات من يوم ذلك.

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان تصبح أبواب البلد مغلقة إلى قريب الظهر، وليس ثم مفتوح سوى باب النصر والفرج، والناس في حصر شديد وانزعاج، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولكن قد اقترب وصول السلطان والعساكر المنصورة.

وفي صبيحة الأربعاء أصبح الحال كما كان وأزيد، ونزل الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي بقبة يلبغا، وامتد طلبه من سيف داريا إلى القبة المذكورة في أبهة عظيمة، وهيئة حسنة، وتأخر الركاب الشريف بتأخره عن الصميين بعد، ودخل بيدمر في هذا اليوم إلى القلعة وتحصن بها.

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين منه استمرت الأبواب كلها مغلقة سوى باب النصر والفرج، وضاق النطاق وانحصر الناس جدا، وقطع المصريون نهر بانياس والفرع الداخل إليها وإلى دار السعادة من القنوات.

واحتاجوا لذلك أن يقطعوا القنوات ليسدوا الفرع المذكور، فانزعج أهل البلد لذلك وملأوا ما في بيوتهم من برك المدراس، وبيعت القربة بدرهم، والحق بنصف.

ثم أرسلت القنوات وقت العصر من يومئذ ولله الحمد والمنة، فانشرح الناس لذلك، وأصبح الصباح يوم الجمعة والأبواب مغلقة ولم يفتح باب النصر والفرج إلى بعد طلوع الشمس بزمان.

فأرسل يلبغا من جهته أربعة أمراء وهم الأمير زين الدين زبالة الذي كان نائب القلعة، والملك صلاح الدين بن الكامل، والشيخ علي الذي كان نائب الرحبة من جهة بيدمر، وأمير آخر، فدخلوا البلد وكسروا أقفال أبواب البلد، وفتحوا الأبواب، فلما رأى بيدمر ذلك أرسل مفاتيح البلد إليهم انتهى.

وصول السلطان الملك المنصور إلى المصطبة غربي عقبة سجورا

كان ذلك في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان في جحافل عظيمة كالجبال، فنزل عند المصطبة المنسوبة إلى عم ابنته الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، وجاءت الأمراء ونواب البلاد لتقبيل يده والأرض بين يديه، كنائب حلب، ونائب حماة، وهو الأمير علاء الدين المارداني، وقد عين لنيابة دمشق، وكتب بتقليده بذلك، وأرسل إليه وهو بحماة.

فلما كان يوم السبت السابع والعشرين منه خلع على الأمير علاء الدين علي المرداني بنيابة دمشق، وأعيد إليها عودا على بدء، ثم هذه الكرة الثالثة، وقبّل يد السلطان وركب عن يمينه، وخرج أهل البلد لتهنئته، هذا والقلعة محصنة بيد بيدمر، وقد دخلها ليلة الجمعة واحتمى بها، هو ومنجك واستدمر ومن معه من الأعوان بها، ولسان حال القدر يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] .

ولما كان يوم الأحد طلب قضاة القضاة وأرسلوا إلى بيدمر وذويه بالقلعة ليصالحوه على شيء ميسور يشترطونه، وكان ما ستذكره انتهى والله تعالى أعلم.

سبب خروج بيدمر من القلعة وصفة ذلك

لما كان يوم الأحد الثامن والعشرين منه أرسل قضاة القضاة ومعهم الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ سراج الدين الهندي الحنفي، قاضي العسكر المصري للحنفية، إلى بيدمر ومن معه ليتكلموا معهم في الصلح لينزلوا على ما يشترطون قبل أن يشرعوا في الحصار والمجانيق التي قد استدعى بها من صفد وبعلبك.

واحضر من رجال النقاعين نحو من ستة آلاف رامٍ فلما اجتمع به القضاة ومن معهم وأخبروه عن السلطان وأعيان الأمراء بأنهم قد كتبوا له أمانا إن أناب إلى المصالحة، فطلب أن يكون بأهله ببيت المقدس، وطلب أن يعطى منجك كذا بناحية بلاد سيس ليسترزق هنالك.

وطلب استدمر أن يكون بشمقدارا للأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي فرجع القضاة إلى السلطان ومعهم الأمير زين الدين جبريل الحاجب كان، فأخبروا السلطان والأمراء بذلك، فأجيبوا إليه، وخلع السلطان والأمراء على جبريل خلعا فرجع في خدمة القضاة ومعهم الأمير استبغا بن الأيوبكري، فدخلوا القلعة وباتوا هنالك كلهم، وانتقل الأمير بيدمر بأهله وأثاثه إلى داره بالمطرزين.

فلما أصبح يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرج الأمراء الثلاثة من القلعة ومعهم جبريل، فدخل القضاة وسلموا القلعة بما فيها من الحواصل إلى الأمير استبغا بن الأيوبكري انتهى.

دخول السلطان محمد بن الملك أمير حاج بن الملك محمد ابن الملك قلاوون إلى دمشق في جيشه وأمرائه

لما كان صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة رجع القضاة إلى الوطاق الشريف، وفي صحبتهم الأمراء الذين كانوا بالقلعة، وقد أعطوا الأمان من جهة السلطان ومن معهم وذويهم، فدخل القضاة وحُجب الأمراء المذكورون.

فخلع على القضاة الأربعة وانصرفوا راجعين مجبورين، وأما الأمراء المذكورون فإنهم أركبوا على خيل ضعيفة، وخلف كل واحد منهم وساقي أخذ بوسطه قبل، وفي يد كل واحد من الوساقية خنجر كبير مسلول لئلا يستنقذه منه أحد فيقتله بها، فدخل جهرة بين الناس ليروهم ذلتهم التي قد لبستهم، وقد أحدق الناس بالطريق من كل جانب.

فقام كثير من الناس، الله أعلم بعدتهم، إلا أنهم قد يقاربون المائة ألف أو يزيدون عليها، فرأى الناس منظرا فظيعا، فدخل بهم الوساقية إلى الميدان الأخضر الذي فيه القصر، فاجلسوا هنالك وهم ستة نفر: الثلاثة النواب وجبريل وابن استدمر وسادس، وظن كل منهم أن يفعل بهم فاقرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأرسلت الجيوش داخلة إلى دمشق أطلابا في تجمل عظيم، ولبس الحرب بنهر النصر وخيول وأسلحة ورماح، ثم دخل السلطان في آخر ذلك كله بعد العصر بزمن، وعليه من أنواع الملابس قباز بخاري، والقبة والطبر يحملهما على رأسه الأمير سيف الدين تومان تمر، الذي كان نائب طرابلس، والأمراء مشاة بين يديه، والبسط تحت قدمي فرسه، والبشائر تضرب خلفه فدخل القلعة المنصورة المنصورية لا البدرية.

ورأى ما قد أرصد بها من المجانيق والأسلحة، فاشتد حنقه على بيدمر وأصحابه كثيرا، ونزل الطارمة، وجلس على سرير المملكة ووقف الأمراء والنواب بين يديه، ورجع الحق إلى نصابه، وقد كان بين دخوله ودخول عمه الصالح صالح في أول يوم من رمضان، وهذا في التاسع والعشرين منه، وقد قيل إنه سلخه والله أعلم. وشرع الناس في الزينة.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سلخ الشهر نقل الأمراء المغضوب عليهم الذين ضلّ سعيهم فيما كانوا أبرموه من ضمير سوء للمسلمين إلى القلعة فأنزلوا في أبراجها مهانين مفرقا بينهم، بعد ما كانوا بها آمنين حاكمين، أصبحوا معتقلين مهانين خائفين، فجاروا بعد ما كانوا رؤساء، وأصبحوا بعد عزهم أذلاء.

ونقبت أصحاب هؤلاء ونودي عليهم في البلد، ووعد من دل على أحد منهم بمال جزيل، وولاية إمرة بحسب ذلك، ورسم في هذا اليوم على الرئيس أمين الدين ابن القلانسي كاتب السر، وطلب منه ألف ألف درهم، وسلم إلى الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة، وقد أعيد إليها وأُعطي تقدمة ابن قراسنقر، وأمره أن يعاقبه إلى أن يزن هذا المبلغ.

وصلّى السلطان وأمراؤه بالميدان الأخضر صلاة العيد، ضرب له خام عظيم وصلى به خطيبا القاضي تاج الدين الساوي الشافعي، قاضي العسكر المنصورة للشافعية.

ودخل الأمراء مع السلطان للقلعة من باب المدرسة، ومد لهم سماطا هائلا أكلوا منه ثم رجعوا إلى دورهم وقصورهم، وحمل الطبر في هذا اليوم على رأس السلطان الأمير على نائب دمشق، وخلع عليه خلعة هائلة.

وفي هذا اليوم مسك الأمير تومان تمر الذي كان نائب طرابلس، ثم قدم على بيدمر، فكان معه، ثم قفل إلى المصريين واعتذر إليهم فعذروه فيما يبدو للناس.

ودخل وهو حامل الخبز على رأس السلطان يوم الدخول، ثم ولوه نيابة حمص، فصغروه وحقروه، ثم لما استمر ذاهبا إليها فكان عند القابون أرسلوا إليه فأمسكوه وردوه، وطلب منه المائة ألف التي كان قبضها من بيدمر، ثم ردوه إلى نيابة حمص.

وفي يوم الخميس اشتهر الخبر بأن طائفة من الجيش بمصر من طواشية وخاصكية ملكوا عليهم حسين الناصر، ثم اختلفوا فيما بينهم واقتتلوا، وأن الأمر قد انفصل ورد حسين للمحل الذي كان معتقلا فيه، وأطفأ الله شر هذه الطائفة ولله الحمد.

وفي آخر هذا اليوم لبس القاضي ناصر الدين بن يعقوب خلعة كتابة السر الشريفية، والمدرستين، ومشيخة الشيوخ عوضا عن الرئيس علاء الدين بن القلانسي، عزل وصودر، وراح الناس لتهنئته بالعود إلى وظيفته كما كان.

وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث شوال مسك جماعة من الأمراء الشاميين منهم الحاجبان صلاح الدين وحسام الدين والمهمندار ابن أخي الحاجب الكبير، تمر، وناصر الدين بن الملك صلاح الدين بن الكامل، وابن حمزة والطرخاني واثنان أخوان وهما طيبغا زفر وبلجات، كلهم طبلخانات، وأخرجوا خير وتمر حاجب الحجاب، وكذلك الحجوبية أيضا لقاربي أحد أمراء مصر.

وفي يوم الثلاثاء سابع شوال مسك ستة عشر أميرا من أمراء العرب بالقلعة المنصورة، منهم عمر بن موسى بن مهنا الملقب المصمع، الذي كان أمير العرب في وقت، ومعيقل بن فضل بن مهنا وآخرون، وذكروا أن سبب ذلك أن طائفة من آل فضل عرضوا للأمير سيف الدين الأحمدي الذي استاقوه على حلب، وأخذوا منه شيئا من بعض الأمتعة، وكادت الحرب تقع بينهم.

وفي ليلة الخميس بعد المغرب حمل تسعة عشر أميرا من الأتراك والعرب على البريد مقيدين في الأغلال أيضا إلى الديار المصرية، منهم بيدمر، ومنجك، واستدمر، وجبريل، وصلاح الدين الحاجب، وحسام الدين أيضا، وبلجك وغيرهم. ومعهم نحو من مائتي فارس ملبسين بالسلاح متوكلين بحفظهم، وساروا بهم نحو الديار المصرية، وأمروا جماعة من البطالين منهم أولاد لاقوش، وأطلق الرئيس أمين الدين بن القلانسي من المصادرة والترسيم بالقلعة، بعد ما وزن بعض ما طلب منه، وصار إلى منزله، وهنأه الناس.

خروج السلطان من دمشق قاصدا مصر

ولما كان يوم الجمعة عاشر شهر شوال خرج طلب يلبغا الخاصكي صبيحته في تجمل عظيم لم ير الناس في هذه المدد مثله، من نجائب وجنائب ومماليك وعظمة هائلة، وكانت عامة الأطلاب قد تقدمت قبله بيوم، وحضر السلطان إلى الجامع الأموي قبل أذان الظهر، فصلى في مشهد عثمان ومن معه من أمراء المصريين، ونائب الشام. وخرج من فوره من باب النصر ذاهبا نحو الكسوة والناس في الطرقات والأسطحة على العادة، وكانت الزينة قد بقي أكثرها في الصاغة والخواصين وباب البريد إلى هذا اليوم، فاستمرت نحو العشرة أيام.

وفي يوم السبت حادي عشر شوال خلع على الشيخ علاء الدين الأنصاري بإعادة الحسبة إليه وعزل عماد الدين بن السيرجي، وخرج المحمل يوم الخميس سادس عشر شوال على العادة، والأمير مصطفى البيري.

وتوفي يوم الخميس ويوم الجمعة أربعة أمراء بدمشق، وهم طشتمر وفر وطيبغا الفيل، ونوروز أحد مقدمي الألوف، وتمر المهمندار، وقد كان مقدم ألف، وحاجب الحجاب وعمل نيابة غزة في وقت، ثم تعصب عليه المصريون فعزلوه عن الإمرة.

وكان مريضا فاستمر مريضا إلى أن توفي يوم الجمعة، ودفن يوم السبت بتربته التي أنشأها بالصوفية، لكنه لم يدفن فيها بل على بابها كأنه مودع أو ندم على بنائها فوق قبور المسلمين رحمه الله.

وتوفي الأمير ناصر الدين بن لاقوش يوم الاثنين العشرين من شوال ودفن بالقبيبات، وقد ناب ببعلبك وبحمص، ثم قطع خبره هو وأخوه كحلن ونفوا عن البلد إلى بلدان شتى.

ثم رضي عنهم الأمير يلبغا وأعاد عليهم أخبارا بطبلخانات، فلما لبث ناصر الدين إلا يسيرا حتى توفي إلى رحمة الله تعالى، وقد أثر آثارا حسنة كثيرة منها عند عقبة الرمانة خان مليح نافع، وله ببعلبك جامع وحمام وخان وغير ذلك، وله من العمر ست وخمسون سنة.

وفي يوم الأحد السادس والعشرين منه درّس القاضي نور الدين محمد بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء الشافعي بالمدرسة الأتابكية، نزل له عنها والده بتوقيع سلطاني، وحضر عنده القضاة والأعيان، وأخذ في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] .

وفي هذا اليوم درّس القاضي نجم الدين أحمد بن عثمان النابلسي الشافعي المعروف بابن الجابي بالمدرسة العصرونية استنزل له عنها القاضي أمين الدين بن القلانسي في مصادراته.

وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من شوال درّس القاضي ولي الدين عبد الله بن القاضي بهاء الدين أبي البقاء بالمدرستين الرواحية ثم القيمرية، نزل له عنهما والده المذكور بتوقيع سلطاني، وحضر عنده فيهما القضاة والأعيان.

وفي صبيحة يوم الخميس سلخ شوال شهر الشيخ أسد ابن الشيخ الكردي على جمل وطيف به في حواضر البلد ونودي عليه: هذا جزاء من يخامر على السلطان ويفسد ثواب السلطان.

ثم أنزل عن الجمل وحمل على حمار وطيف به في البلد ونودي عليه بذلك، ثم ألزم السجن وطلب منه مال جزيل وقد كان المذكور من أعوان بيدمر المتقدم ذكره وأنصاره، وكان هو المتسلم للقلعة في أيامه.

وفي صبيحة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة خلع على قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح بقضاء العسكر الذي كان متوفرا عن علاء الدين بن شمرنوخ، وهنأه الناس بذلك وركب البغلة بالزناري مضافا إلى ما بيده من نيابة الحكم والتدريس.

وفي يوم الاثنين ثامن عشره أعيد تدريس الركنية بالصالحية إلى قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي، استرجعها بمرسوم شريف سلطاني، من يد القاضي عماد الدين بن العز، وخلع على الكفري، وذهب الناس إليه للتهنئة بالمدرسة المذكورة.

وفي شهر ذي الحجة أشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني والقيسي طائفة، وأن عين حيتا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت، وقطع أشجارها ودمرت بالكلية.

وفي صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة لم تفتح أبواب دمشق إلى ما بعد طلوع الشمس، فأنكر الناس ذلك، وكان سببه الاحتياط على أمير يقال له كسبغا، كان يريد الهرب إلى بلاد الشرق، فاحتيط عليه حتى أمسكوه.

وفي ليلة الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة قدم الأمير سيف الدين طاز من القدس فنزل بالقصر الأبلق، وقد عمي من الكحل حين كان مسجونا بالإسكندرية، فأطلق كما ذكرنا، ونزل ببيت المقدس مدة.

ثم جاءه تقليد بأنه يكون ظرخانا ينزل حيث شاء من بلاد السلطان، غير أنه لا يدخل ديار مصر، فجاء فنزل بالقصر الأبلق، وجاء الناس إليه على طبقاتهم - نائب السلطنة فمن دونه - يسلمون عليه وهو لا يبصر شيئا، وهو على عزم أن يشتري أو يستكري له دارا بدمشق يسكنها.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767