الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الخامس/صفحة واحدة


☰ جدول المحتويات

ذكر غزوة تبوك في رجب 9 هجرية

قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما الْمشْركون نجس فلا يقْربوا الْمسْجد الْحرام بعْد عامهمْ هذا وإنْ خفْتمْ عيْلة فسوْف يغْنيكم الله منْ فضْله إنْ شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤْمنون بالله ولا بالْيوْم الْآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الْحق من الذين أوتوا الْكتاب حتى يعْطوا الْجزْية عنْ يد وهمْ صاغرون } [1].

روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن خبير، وقتادة، والضحاك، وغيرهم أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره.

قالت قريش: لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها؛ فعوضهم الله عن ذلك الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

قلت: فعزم رسول الله ﷺ على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق، لقربهم إلى الإسلام وأهله.

وقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكمْ من الْكفار ولْيجدوا فيكمْ غلْظة واعْلموا أن الله مع الْمتقين } [2].

فلما عزم رسول الله ﷺ على غزو الروم عام تبوك، وكان ذلك في حر شديد، وضيق من الحال، جلى للناس أمرها، ودعى من حوله من أحياء الأعراب للخروج معه، فأوعب معه بشر كثير، كما سيأتي قريبا من ثلاثين ألفا، وتخلف آخرون، فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع، وفضحهم أشد الفضيحة، وأنزل فيهم قرآنا يتلى، وبين أمرهم في سورة براءة، كما قد بينا ذلك مبسوطا في التفسير، وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال.

فقال تعالى: { انْفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأمْوالكمْ وأنْفسكمْ في سبيل الله ذلكمْ خيْر لكمْ إنْ كنْتمْ تعْلمون * لوْ كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكنْ بعدتْ عليْهم الشقة وسيحْلفون بالله لو اسْتطعْنا لخرجْنا معكمْ يهْلكون أنْفسهمْ والله يعْلم إنهمْ لكاذبون } [3]. ثم الآيات بعدها.

ثم قال تعالى: { وما كان الْمؤْمنون لينْفروا كافة فلوْلا نفر منْ كل فرْقة منْهمْ طائفة ليتفقهوا في الدين ولينْذروا قوْمهمْ إذا رجعوا إليْهمْ لعلهمْ يحْذرون } [4].

فقيل: إن هذه ناسخة لتلك.

وقيل: لا، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني: من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.

فذكر الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا كل يحدث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث مالم يحدث بعض:

أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في الحال من الزمان الذي هم عليه.

وكان رسول الله ﷺ قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد المشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد إليه، ليتأهب الناس لذلك أهبته.

فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم.

فقال رسول الله ﷺ ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس - أحد بني سلمة -: «يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟».

فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر.

فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال: «قد أذنت لك».

ففي الجد أنزل الله هذه الآية: { ومنْهمْ منْ يقول ائْذنْ لي ولا تفْتني ألا في الْفتْنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالْكافرين } [5].

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا بالرسول ﷺ فأنزل الله فيهم: { وقالوا لا تنْفروا في الْحر قلْ نار جهنم أشد حرا لوْ كانوا يفْقهون * فلْيضْحكوا قليلا ولْيبْكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكْسبون } [6].

قال ابن هشام: حدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن أبيه، عن جده قال: بلغ رسول الله ﷺ أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا.

فقال الضحاك في ذلك:

كادتْ وبيْت الله نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق

وظلتْ وقدْ طبقتْ كبْس سويْلم * أنوء على رجلي كسيرا ومرفق

سلام عليكمْ لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحْرق

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.

قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم ارض عثمان فإني عنه راض».

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم، عن كثة - مولى عبد الرحمن بن سمرة - قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي ﷺ بألف دينار في ثوبه، حين جهز النبي ﷺ جيش العسرة.

قال: فصبها في حجر النبي ﷺ فجعل النبي ﷺ يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم»

ورواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن واقع عن ضمرة به.

وقال: حسن غريب.

وقاله عبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثني أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سكن بن المغيرة، حدثني الوليد ابن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن حباب السلمي قال: خطب النبي ﷺ فحث على جيش العسرة.

فقال عثمان بن عفان: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها.

قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث.

فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها.

قال: فرأيت رسول الله ﷺ يقول بيده هكذا يحركها.

وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا».

وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد - مولى لآل عثمان - به.

وقال: غريب من هذا الوجه.

ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق، عن سكن بن المغيرة به.

وقال: ثلاث مرات أنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.

قال عبد الرحمن: فأنا شهدت رسول الله ﷺ يقول وهو على المنبر:

«ما ضر عثمان بعدها» - أو قال -: «بعد اليوم».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس قال: سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد ابن أبي وقاص، وعلي والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: «من جهز جيش العسرة غفر الله له» فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا.

قالوا: اللهم نعم!

ورواه النسائي من حديث حصين به.

فصل فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم

قال الله تعالى: { وإذا أنْزلتْ سورة أنْ آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله اسْتأْذنك أولو الطوْل منْهمْ وقالوا ذرْنا نكنْ مع الْقاعدين * رضوا بأنْ يكونوا مع الْخوالف وطبع على قلوبهمْ فهمْ لا يفْقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأمْوالهمْ وأنْفسهمْ وأولئك لهم الْخيْرات وأولئك هم الْمفْلحون * أعد الله لهمْ جنات تجْري منْ تحْتها الْأنْهار خالدين فيها ذلك الْفوْز الْعظيم * وجاء الْمعذرون من الْأعْراب ليؤْذن لهمْ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منْهمْ عذاب أليم * ليْس على الضعفاء ولا على الْمرْضى ولا على الذين لا يجدون ما ينْفقون حرج إذا نصحوا لهي ورسوله ما على الْمحْسنين منْ سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوْك لتحْملهمْ قلْت لا أجد ما أحْملكمْ عليْه تولوْا وأعْينهمْ تفيض من الدمْع حزنا ألا يجدوا ما ينْفقون * إنما السبيل على الذين يسْتأْذنونك وهمْ أغْنياء رضوا بأنْ يكونوا مع الْخوالف وطبع الله على قلوبهمْ فهمْ لا يعْلمون } [7].

قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله ﷺ ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.

قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم.

فمن بني عمرو بن عوفي: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان.

فقال: ما يبكيكما؟

قالا: جئنا رسول الله ﷺ ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي ﷺ.

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد، فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو جسد أو عرض).

ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله ﷺ: «أين المتصدق هذه الليلة؟».

فلم يقم أحد.

ثم قال: «أين المتصدق فليقم».

فقام إليه فأخبره.

فقال رسول الله ﷺ: «أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة».

وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الأشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني، حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله ﷺ أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة غزوة تبوك.

فقلت: يا نبي الله!إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم.

فقال: «والله لا أحملكم على شيء».

ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله ﷺ ومن مخافة أن يكون رسول الله ﷺ قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله ﷺ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟

فأجبته فقال: أجب رسول الله ﷺ يدعوك فلما أتيت رسول الله ﷺ قال: «خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين»

لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال: «انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن».

قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي فقلت: إن رسول الله ﷺ يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم، حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله، حين سألته لكم ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله.

فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت.

قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله ﷺ من منعه إياهم ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.

وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة.

وفي رواية لهما: عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله ﷺ في رهط من الأشعريين ليحملنا.

فقال: «والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»

قال: ثم جيء رسول الله ﷺ بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها.

ثم قلنا: يعقلنا رسول الله ﷺ يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له.

فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم».

ثم قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».

قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة، حتى تخلفوا عن رسول الله ﷺ من غير شك ولا ارتياب.

منهم: كعب بن مالك ابن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.

قلت: أما الثلاثة الأول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى الذين، وهم أنزل الله فيهم: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقتْ عليْهم الْأرْض بما رحبتْ وضاقتْ عليْهمْ أنْفسهمْ وظنوا أنْ لا ملْجأ من الله إلا إليْه ثم تاب عليْهمْ ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }. [8].

وأما أبو خيثمة: فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله ﷺ كما سيأتي.

فصل تخلف عبد الله ابن أبي وأهل الريب عام تبوك

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله ﷺ سفره، وأجمع السير، فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله ابن أبي في طائفة من المنافقين، وأهل الريب.

قال ابن هشام: واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.

قال: وذكر الدراوردي: أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.

قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك، أخذ علي سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله ﷺ وهو نازل بالجرْف، فأخبره بما قالوا.

فقال: «كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».

فرجع علي، ومضى رسول الله ﷺ في سفره.

ثم قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول لعلي هذه المقالة.

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه به.

وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: خلف رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب في غزوة تبوك.

فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان؟

فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي».

وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه.

وعلقه البخاري أيضا من طريق أبي داود عن شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سمعت رسول الله ﷺ يقول له - وخلفه في بعض مغازيه -.

فقال علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟

فقال: «يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة.

زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله ﷺ أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له.

فقال رسول الله ﷺ في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف!والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله ﷺ فهيئا زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ﷺ حتى أدركه حين نزل تبوك.

وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله ﷺ فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك.

قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ﷺ ففعل حتى إذا دنا من رسول الله ﷺ.

قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل.

فقال رسول الله ﷺ: «كن أبا خيثمة».

فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.

فلما بلغ، أقبل فسلم على رسول الله ﷺ.

فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة».

ثم أخبر رسول الله ﷺ الخبر فقال: خيرا ودعا له بخير.

وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط، وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف، فالله أعلم.

قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك:

لما رأيْت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما

وبايعْت باليمْنى يدي لمحمد * فلمْ أكتسب إثما لم أغش محْرما

تركْت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قدْ تحمما

وكنْت إذا شك المنافق أسمحتْ * إلى الدين نفْسي شطره حيْث يمما

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن بريدة، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله ﷺ - إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف.

فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان.

فيقول: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك به غير ذلك فقد أراحكم الله منه».

حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.

فقال: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».

فتلوم أبو ذر بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله ﷺ ماشيا، ونزل رسول الله ﷺ بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق.

فقال رسول الله ﷺ «كن أبا ذر»

فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر.

فقال رسول الله ﷺ: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

قال: فضرب الدهر من ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه.

فقال: إذا مت فاغسلاني، وكفناني من الليل، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.

فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به، حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا؟

فقيل: جنازة أبي ذر.

فاستهل ابن مسعود يبكي وقال: صدق رسول الله ﷺ يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه.

إسناده حسن، ولم يخرجوه.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا: معمر أخبرنا: عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: «الذين اتبعوه في ساعة العسرة».

قال: خرجوا في غزوة تبوك؛ الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حر شديد، فأصابهم في يوم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر.

قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.

فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.

فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا.

فقال: «أو تحب ذلك؟»

قال: نعم!

قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.

إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقد ذكر ابن إسحاق: عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق: ويحك هل بعد هذا من شيء؟!

فقال: سحابة مارة.

وذكر أن ناقة رسول الله ﷺ ضلت فذهبوا في طلبها.

فقال رسول الله ﷺ لعمارة بن حزم الأنصاري، وكان عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها»

فانطلقوا فجاءوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فحدثهم عما جاء رسول الله ﷺ من خبر الرجل.

فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك لزيد بن اللصيت.

وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إن في رحلي لداهية وأنا لا أدري، اخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني.

فقال بعض الناس: إن زيدا تاب.

وقال بعضهم: لم يزل متهما بشرحتى هلك.

قال الحافظ البيهقي: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة، ثم روى من حديث الأعمش.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري - شك الأعمش - قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا، فأكلنا وادهنا.

فقال رسول الله ﷺ: «افعلوا»

فجاء عمر فقال: (يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة).

فقال رسول الله: «نعم!»

فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله ﷺ بالبركة ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم»

فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوها، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة.

فقال رسول الله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها غير شاك فيحجب عن الجنة».

ورواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

ورواه الإمام أحمد من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة به، ولم يذكر غزوة تبوك، بل قال: كان غزوة غزاها.

مروره صلى الله عليه وسلم بمساكن ثمود

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا.

قال رسول الله ﷺ: «لا تشربوا من مياهها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا».

هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا: معمر عن الزهري أخبرني: سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ لما مر بالحجر.

قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» وتقنع بردائه وهو على الرحل.

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه.

وقال مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال، كلاهما عن عبد الله بن دينار.

ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله ﷺ بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم.

فأمرهم رسول الله ﷺ فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا.

فقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم».

وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه، ولم يخرجوه.

وإنما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.

قال البخاري: وتابعه أسامة عن عبيد الله.

ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر النبي ﷺ بالحجر قال:

«لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء، منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله».

قيل: من هو يا رسول الله؟

قال: «هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».

إسناده صحيح ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا: المسعودي عن إسماعيل بن واسط عن محمد ابن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنودي في الناس: الصلاة جامعة.

قال: فأتيت رسول الله ﷺ وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم».

فناداه رجل: نعجب منهم؟

قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا».

إسناده حسن ولم يخرجوه.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله ابن أبي بكر ابن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، أو عن العباس بن سعد: الشك مني أن رسول الله ﷺ حين مر بالحجر ونزلها، استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها.

قال رسول الله ﷺ للناس لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له».

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ﷺ إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه.

وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك فقال: «ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له» ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي.

وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله ﷺ من تبوك.

وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله ﷺ حين رجع إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله ابن أبي بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين لكنه استكتمه إياهما، فلم يحدثني بهما.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد، ثنا عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها.

فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «أخرصوا»

فخرص القوم، وخرص رسول الله ﷺ عشرة أوسق.

وقال رسول الله ﷺ للمرأة: «أحصي ما يخرج منها، حتى أرجع إليك إن شاء الله».

قال: فخرج حتى قدم تبوك.

فقال رسول الله ﷺ: «إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله».

قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة، فقام رجل، فألقته في جبل طيء، ثم جاء رسول الله ملك إيلة، فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا، وكتب له يجيرهم، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القرى.

قال للمرأة: «كم جاءت حديقتك؟»

قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله.

فقال رسول الله: «إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل».

قال: فخرج رسول الله، وخرجنا معه، حتى إذا أوفى على المدينة.

قال: «هذه طابة»

فلما رأى أحدا قال: «هذا أحد يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار»

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني ساعدة، ثم في كل دور الأنصار خير».

وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.

وقال الإمام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتونها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا، حتى آتي».

قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله ﷺ: «هل مسستما من مائها شيئا».

قالا: نعم.

فسبهما وقال لهما: «ما شاء الله أن يقول»

ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.

ثم قال رسول الله ﷺ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا».

أخرجه مسلم من حديث مالك به.

ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى نخلة هناك

روى الإمام أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم يونس بن محمد المؤدب، وحجاج بن محمد ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي الخطاب، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن رسول الله ﷺ عام تبوك خطب الناس، وهو مسند ظهره إلى نخلة.

فقال: «ألا أخبركم بخير الناس، وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدميه، حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه».

ورواه النسائي عن قتيبة عن الليث به.

وقال أبو الخطاب: لا أعرفه.

وروى البيهقي من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، حدثنا مصعب بن عبد الله، عن منظور بن جميل بن سنان، أخبرني أبي، سمعت عقبة بن عامر الجهني: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله ﷺ فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح.

قال: «ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر»

فقال: يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك.

قال: فانتقل رسول الله ﷺ من منزله غير بعيد، ثم صلى، وسار بقية يومه وليلته، فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثاء جهنم، والسكر كي من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغي السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي»

قالها ثلاثا.

ثم قال: «أستغفر الله لي ولكم».

وهذا حديث غريب وفيه نكارة، وفي إسناده ضعف، والله أعلم بالصواب.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، وسليمان ابن داود، قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنه نزل بتبوك، وهو حاج، فإذا رجل مقعد فسألته عن أمره، فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حي: إن رسول الله ﷺ نزل بتبوك إلى نخلة.

فقال: «هذه قبلتنا»

ثم صلى إليها، قال: فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها.

فقال: «قطع صلاتنا قطع الله أثره».

قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.

ثم رواه أبو داود من حديث سعيد عن عبد العزيز التنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال: رأيت بتبوك مقعدا.

فقال: مررت بين يدي رسول الله ﷺ وأنا على حمار، وهو يصلي.

فقال: «اللهم اقطع أثره».

فما مشيت عليها بعد.

وفي رواية: «قطع صلاتنا قطع الله أثره»

الصلاة على معاوية ابن أبي معاوية

روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله ﷺ بتبوك فطلعت الشمس بضياء، ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله.

فقال: «يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بيضاء ونور وشعاع، لم أرها طلعت فيما مضى».

قال: ذلك أن معاوية ابن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه.

قال: «ومم ذاك؟»

قال: بكثرة قراءته { قلْ هو الله أحد } بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟

قال: «نعم!».

قال: فصلى عليه، ثم رجع.

وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا، وقد تكلموا فيه.

ثم قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هاشم بن علي، أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء ابن أبي ميمونة، عن أنس قال: جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية ابن أبي معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه؟

قال: «نعم!».

فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت له.

قال: فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك.

قال: قلت: «يا جبريل بم نال هذه المنزلة من الله؟».

قال: بحبه «قل هو الله أحد» يقرؤها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.

قال عثمان: فسألت أبي أين كان النبي ﷺ؟

قال: بغزوة تبوك بالشام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه، وصلى عليه.

وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.

قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك

قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ﷺ بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ العقد أو قرب.

فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله ﷺ ورسالة رسول الله ﷺ إلى هرقل؟.

قال: بلى، قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلما جاءه كتاب رسول الله ﷺ دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار.

فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم؟

وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب.

والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم فلنتبعه على دينه، أو نعطيه مالنا على أرضنا.

فنخروا نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من براسنهم.

وقالوا: تدعونا إلى نذر أن النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز.

فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم، ولم يكد.

وقال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إلي هرقل كتابا.

فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال؛ انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره، هل به شيء يربيك.

قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء.

فقلت: أين صاحبكم؟

قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره.

ثم قال: «ممن أنت؟».

فقلت: أنا أخو تنوخ.

قال: «هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟».

قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم.

فضحك.

وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، يا أخو تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه، ومخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير».

قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جنب سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره.

قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟

قالوا: معاوية.

فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟

فقال رسول الله ﷺ: «سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار».

قال: فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي.

قال: «إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون».

قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري.

قلت: من صاحب الجائزة؟

قيل لي: عثمان.

ثم قال رسول الله: «أيكم ينزل هذا الرجل؟».

فقال فتى من الأنصار: أنا.

فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس، ناداني رسول الله فقال: «تعال يا أخا تنوخ».

فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، وقال: «ها هنا امض لما أمرت به».

فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف، مثل الحمحمة الضخمة.

هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد.

مصالحته عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك

قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة، فصالح رسول الله ﷺ وأعطاه الجزية.

وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية.

وكتب لهم رسول الله ﷺ كتابا فهو عندهم.

وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله، ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة، وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر».

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا؛ وهذا كتاب جهيم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.

قال يونس عن ابن إسحاق، وكتب لأهل جرباء وأذرح:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله، لأهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين».

قال: وأعطى النبي ﷺ أهل أيلة بردة مع كتابه أمانا لهم.

قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس، عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار.

بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة، كان ملكا عليها، وكان نصرانيا.

وقال رسول الله ﷺ لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر».

فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر.

فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟

قال: لا والله.

قالت: فمن يترك هذا؟

قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له، يقال له: حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم.

فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي ﷺ فأخذته وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله ﷺ قبل قدومه عليه.

قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله ﷺ فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه.

فقال رسول الله ﷺ: «أتعجبون من هذا فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا».

قال ابن إسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله ﷺ حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من بني طيء يقال له: بجير بن بجرة في ذلك:

تبارك سائق البقرات إني * رأيْت الله يهْدي كل هاد

فمنْ يك حائدا عنْ ذي تبوك * فإنا قدْ أمرْنا بالجهاد

وقد حكى البيهقي أن رسول الله ﷺ قال لهذا الشاعر: «لا يفضض الله فاك».

فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.

وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله ﷺ بعث خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة، فذكر نحو ما تقدم.

إلا أنه ذكر أنه ما كره حتى أنزله من الحصن.

وذكر أنه قدم مع أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبي ألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح.

وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة ابن رؤبة بقضية أكيدر دومة أقبل قادما إلى رسول الله ﷺ يصالحه فاجتمعا عند رسول الله ﷺ بتبوك فالله أعلم.

وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل.

وخالد بن الوليد على الأعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم.

فصل

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.

قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب، والراكبين، والثلاثة بواد يقال له: وادي المشقق.

فقال رسول الله ﷺ: «من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه».

قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه.

فلما أتاه رسول الله ﷺ وقف عليه فلم ير فيه شيئا.

فقال: «من سبقنا إلى هذا الماء؟».

فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان.

فقال: «أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه» ثم لعنهم، ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به، ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس، واستقوا حاجتهم منه.

فقال رسول الله ﷺ: «لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه».

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث.

قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها.

قال: فإذا رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول: «أدنيا إلي أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه.

قال: «اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه».

قال: يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.

قال ابن هشام: إنما سمي: ذو البجادين، لأنه كان يريد الإسلام، فمنعه قومه، وضيقوا عليه، حتى خرج من بينهم، وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه بإثنين فائتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، ثم أتى رسول الله ﷺ فسمي ذو البجادين.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب الشجرة يقول:

غزوت مع رسول الله ﷺ غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وألقى الله علي النعاس، وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي ﷺ فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته، ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله: «حس».

فقلت: يا رسول الله استغفر لي.

قال: «سر».

فجعل رسول الله ﷺ يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار، فأخبره به.

فقال وهو يسألني: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم؟».

فحدثته بتخلفهم.

قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟».

قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا.

قال: «بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ».

فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا.

فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.

فقال رسول الله ﷺ: «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار، وغفار وأسلم».

قال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبيرقال: لما قفل رسول الله ﷺ من تبوك إلى المدينة، هم جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله ﷺ عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله، وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ﷺ فأمرهما، فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس.

ثم قال رسول الله ﷺ لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟»

قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.

ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟»

قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تمالئوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك؟

فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟

فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي ﷺ إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده، وهذا هو الأشبه والله أعلم.

ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد، والوساد - يعني: ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني: حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني: عمارا -.

وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم؟

قال: لا ولا أبرئ بعدك أحدا يعني: حتى لا يكون مفشيا سر النبي ﷺ.

قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا.

وقيل: كانوا اثني عشر رجلا.

وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول الله ﷺ ما كان من أمرهم، وبما تمالئوا عليه.

ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم.

قال: وفيهم أنزل الله عز وجل: { وهموا بما لم ينالوا }. [9].

وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة، إذا باثني عشر رجلا قد اعترضوه فيها.

قال: فأنبهت رسول الله ﷺ فصرخ بهم فولوا مدبرين.

فقال لنا رسول الله: «هل عرفتم القوم؟».

قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.

قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟».

قلنا: لا.

قال: «أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها».

قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟.

قال: «لا أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم».

ثم قال: «اللهم ارمهم بالدبيلة».

قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟

قال: «هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك»

وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة قال:

قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي، أرأي رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله؟

فقال: ما عهد إلينا رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله ﷺ أنه قال «في أصحابي إثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».

وفي رواية من وجه آخر عن قتادة: «إن في أمتي إثنى عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم».

قال الحافظ البيهقي: وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثنى عشر، منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله ﷺ يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله ﷺ وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل.

فقال رسول الله ﷺ لحذيفة: «قد قد».

حتى هبط رسول الله ﷺ من الوادي، فلما هبط، ورجع عمار.

قال يا عمار: «هل عرفت القوم؟».

قال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون.

قال: «هل تدري ما أرادوا؟».

قال: الله ورسوله أعلم.

قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».

قال: فسار عمار رجلا من أصحاب النبي ﷺ فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟

قال: أربعة عشر رجلا.

فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر.

قال: فعذر رسول الله ﷺ منهم ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم.

فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

قصة مسجد الضرار

قال الله تعالى: { وآخرون مرْجوْن لأمْر الله إما يعذبهمْ وإما يتوب عليْهمْ والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسْجدا ضرارا وكفْرا وتفْريقا بيْن الْمؤْمنين وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل وليحْلفن إنْ أردْنا إلا الْحسْنى والله يشْهد إنهمْ لكاذبون * لا تقمْ فيه أبدا لمسْجد أسس على التقْوى منْ أول يوْم أحق أنْ تقوم فيه فيه رجال يحبون أنْ يتطهروا والله يحب الْمطهرين * أفمنْ أسس بنْيانه على تقْوى من الله ورضْوان خيْر أمْ منْ أسس بنْيانه على شفا جرف هار فانْهار به في نار جهنم والله لا يهْدي الْقوْم الظالمين * لا يزال بنْيانهم الذي بنوْا ريبة في قلوبهمْ إلا أنْ تقطع قلوبهمْ والله عليم حكيم }. [10].

وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.

وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله ﷺ بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله ﷺ فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله ﷺ من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك.

فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسْجدا ضرارا وكفْرا وتفْريقا بيْن الْمؤْمنين وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل } الآية.

أما قوله: { ضرارا } فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء.

{ وكفرا } بالله لا للإيمان به.

{ وتفريقا } للجماعة عن مسجد قباء.

{ وإرصادا } لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله ﷺ وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.

ولهذا قال تعالى: { وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل }.

ثم قال: { وليحْلفن } أي: الذين بنوه.

{ إنْ أردْنا إلا الْحسْنى } أي: غنما أردنا ببنائه الخير.

قال الله تعالى: { والله يشْهد إنهمْ لكاذبون }.

ثم قال الله تعالى إلى رسوله: { لا تقمْ فيه أبدا }.

فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.

وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله ﷺ لا ينافي ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد الرسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت في الفضل منه وأقوى.

وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.

والمقصود أن رسول الله ﷺ لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.

قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: وهم خذام بن خالد - وفي جنب داره - كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن الأزعر، وعباد بن حنيف - أخو سهل بن حنيف -، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخرج - وهو إلى بني ضبيعة -، وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة -، ووديعة بن ثابت - وهو إلى بني أمية -.

قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله ﷺ خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله ﷺ ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع.

فقال لهم رسول الله ﷺ: «أحسنتم وأصبتم».

وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا: حدثنا.

وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة.

فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم».

فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟

قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر».

تفرد به من هذا الوجه.

قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثني عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد، قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة.

قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه».

ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله ﷺ إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.

ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:

طلع البدْر عليْنا * منْ ثنيات الوداعْ

وجب الشكْر عليْنا * ما دعا لله داعْ

قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمة المدينة من مكة، لا إنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع، عند مقدمة من تبوك، والله أعلم.

فذكرناه ها هنا أيضا.

قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال:

سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك.

قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله ﷺ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حتى تواثبنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفر بعيدا وعددا وعدادا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -.

قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.

فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا.

فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك.

فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟».

فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.

فسكت رسول الله ﷺ.

قال كعب بن مالك قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.

فلما قيل إن رسول الله ﷺ قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء من كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله ﷺ قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب.

ثم قال: «تعال».

فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.

فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك».

فقلت: بلى وإني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله ﷺ: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك».

فقمت، فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني.

فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى ههمت أن أرجع فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟

قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.

فقلت: من هما؟

قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي.

فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما.

ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف.

فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.

فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟

فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته.

فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.

قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير.

فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك.

فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله ﷺ يأتيني.

فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك.

فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟

قال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.

فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله.

فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟

قال: «لا ولكن لا يقربك».

قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك، كما استأذن هلال ابن أمية أن تخدمه.

فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.

قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يباشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ﷺ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.

يقولون: ليهنك توبة الله عليك.

قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله ﷺ جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.

قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ﷺ.

قال رسول الله ﷺ وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».

قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟

قال: «لا بل من عند الله».

وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.

فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.

قال رسول الله ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

وقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين - أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله ﷺ: { لقدْ تاب الله على النبي والْمهاجرين والْأنْصار }، إلى قوله: { وكونوا مع الصادقين }. [11].

فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا.

فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد.

قال الله تعالى: { سيحْلفون بالله لكمْ إذا انْقلبْتمْ إليْهمْ لتعْرضوا عنْهمْ }.

إلى قوله: { فإن الله لا يرْضى عن الْقوْم الْفاسقين }. [12].

قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله، حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه.

فبذلك قال الله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }.

ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم.

وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.

وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري.

وقد سقناه في التفسير من مسند الإمام أحمد، وفيه زيادات يسيرة، ولله الحمد والمنة.

ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء

قال علي بن طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أنْ يتوب عليْهمْ إن الله غفور رحيم } [13].

قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فلما حضروا رجوعه أوسق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد.

فلما مر بهم رسول الله قال: «من هؤلاء؟».

قالوا: أبا لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم، وتعذرهم.

قال: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين».

فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا.

فأنزل الله عز وجل: { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ } الآية.

و { عسى } من الله واجب.

فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم.

فجاؤا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا.

فقال: «ما أمرت أن آخذ أموالكم».

فأنزل الله: { خذْ منْ أمْوالهمْ صدقة تطهرهمْ وتزكيهمْ بها وصل عليْهمْ إن صلاتك سكن لهمْ والله سميع عليم }. [14].

إلى قوله: { وآخرون مرْجوْن لأمْر الله إما يعذبهمْ وإما يتوب عليْهمْ }.

وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجئوا حتى نزل قوله تعالى: { لقدْ تاب الله على النبي والْمهاجرين والْأنْصار..........الذين خلفوا } [15] إلى آخرها.

وكذا رواه عطية بن سعيد العوفي عن ابن عباس بنحوه.

وقد ذكر سعيد بن المسيب، ومجاهد، ومحمد بن إسحاق قصة أبي لبابة، وما كان من أمره يوم بني قريظة، وربط نفسه حتى تيْب عليه، ثم إنه تخلف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضا، حتى تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة.

فقال له رسول الله ﷺ:

«يكفيك من ذلك الثلث».

قال مجاهد وابن إسحاق: فيه نزل { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ } الآية.

قال سعيد بن المسيب: ثم لم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خيرا رضي الله عنه وأرضاه.

قلت: ولعل هؤلاء الثلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه، واقتصروا على أنه كان كالزعيم لهم، كما دل عليه سياق ابن عباس، والله أعلم.

وروى الحافظ البيهقي من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن سليمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال:

«إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان».

حتى عد ستة وثلاثين.

ثم قال: «إن فيكم - أو إن منكم منافقين - فسلوا الله العافية».

قال: فمر عمر برجل متقنع، وقد كان بينه وبينه معرفة، فقال: ما شأنك؟

فأخبره بما قال رسول الله ﷺ، فقال: بعدا لك سائر اليوم.

قلت: كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام:

مأمورون مأجورون: كعلي ابن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، وابن أم مكتوم.

ومعذورون: وهم الضعفاء، والمرضى.

والمقلون: وهم البكاؤن.

وعصاة مذنبون: وهم الثلاثة: أبو لبابة، وأصحابه المذكورون.

وآخرون ملومون مذمومون: وهم المنافقون.

ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك

قال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البختري عبد الله بن شاكر، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عم أبي زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب قال:

سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة بن لام يقول: هاجرت إلى رسول الله ﷺ منصرفه من تبوك، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك!.

فقال رسول الله ﷺ: «قل لا يفضض الله فاك».

فقال:

منْ قبْلها طبْت في الظلال وفي * مسْتودع حيْث يخْصف الورق

ثم هبطْت البلاد لا بشر * أنْت ولا نطْفة ولا علق

بلْ نطفة ترْكب السفين وقدْ * ألْجم نسْرا وأهله الغرق

تنقل منْ صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احْتوى بيْتك المهيْمنْ منْ * خنْدف علْياء تحتها النطق

وأنت لما ولدْت أشْرقت الأرْ * ض فضاءتْ بنورك الأفق

فنحْن في ذلك الضياء وفي الن * ور وسبْل الرشاد يخْترق

ورواه البيهقي من طريق أخرى عن أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي، وهو في جزء له مروي عنه.

قال البيهقي وزاد: ثم قال رسول الله ﷺ: «هذه الحيرة البيضاء رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود».

فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها كما تصف فهي لي؟

قال: «هي لك».

قال: ثم كانت الردة، فما ارتد أحد من طيء، وكنا نقاتل من يلينا من العرب على الإسلام، فكنا نقاتل قيسا وفيها عيينة بن حصن، وكنا نقاتل بني أسد وفيهم طلحة بن خويلد.

وكان خالد بن الوليد يمدحنا وكان فيما قال فينا:

جزى الله عنا طيْئا في ديارها * بمعْترك الأبْطال خيْر جزاء

هموا أهْل رايات السماحة والندى * إذا ما الصبا ألوت بكل خباء

هموا ضربوا قيْسا على الدين بعْدما * أجابوا منادي ظلْمة وعماء

قال: ثم سار خالد إلى مسيلمة الكذاب، فسرنا معه، فلما فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية البصرة، فلقينا هرمز بكاظمة في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد من العجم أعدى للعرب والإسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز، فبرز له فقتله خالد، وكتب بخبره إلى الصديق فنفله سلبه، فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت الفرس إذا شرف فيها الرجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم.

قال: ثم قفلنا على طريق ألطف إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة كما قال رسول الله ﷺ على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت بها.

وقلت: هذه وهبها لي رسول الله ﷺ فدعاني خالد عليها بالبينة، فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري، فسلمها لي، فنزل إلي أخوها عبد المسيح يريد الصلح.

فقال: بعينها.

فقلت: لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم، فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه.

فقيل: لو قلت مائة ألف لدفعها إليك.

فقلت: ما كنت أحسب أن عددا أكثر من عشر مائة.

قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من سنة تسع

تقدم أن رسول الله ﷺ لما ارتحل عن ثقيف سئل أن يدعو عليهم، فدعا لهم بالهداية.

وقد تقدم أن رسول الله ﷺ حين أسلم مالك بن عوف النضري أنعم عليه وأعطاه وجعله أميرا على من أسلم من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتى ألجأهم إلى الدخول في الإسلام.

وتقدم أيضا فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الأحمسي، أنه لم يزل بثقيف حتى أنزلهم من حصنهم على حكم رسول الله ﷺ فأقبل بهم إلى المدينة النبوية بإذن رسول الله ﷺ له في ذلك.

وقال ابن إسحاق: وقدم رسول الله ﷺ المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد من ثقيف، وكان من حديثهم أن رسول الله ﷺ لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام.

فقال له رسول الله - كما يتحدث قومه -: «إنهم قاتلوك».

وعرف رسول الله أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم.

فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محببا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له: أوس بن عوف - أخو بني سالم بن مالك - ويزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب يقال له: وهب بن جابر.

فقيل لعروة: ما ترى في دينك؟

قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ﷺ قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم.

فزعموا أن رسول الله ﷺ قال فيه: «إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه».

وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة، ولكن زعم أن ذلك كان بعد حجة أبي بكر الصديق.

وتابعه أبو بكر البيهقي في ذلك، وهذا بعيد.

والصحيح أن ذلك قبل حجة أبي بكر، كما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة شهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فائتمروا فيما بينهم وذلك عن رأي عمرو بن أمية - أخي بني علاج - فائتمروا بينهم، ثم أجمعوا على أن يرسلوا رجلا منهم، فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، وهم: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وعثمان ابن أبي العاص، وأوس بن عوف - أخو بني سالم -، ونمير بن خرشة بن ربيعة.

وقال موسى بن عقبة: كانوا بضعة عشر رجلا فيهم: كنانة بن عبد ياليل - وهو رئيسهم -، وفيهم: عثمان ابن أبي العاص - وهو أصغر الوفد -.

قال ابن إسحاق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة؛ ألفوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله ﷺ، فلما رآهم ذهب يشتد ليبشر رسول الله بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البيعة والإسلام إن شرط لهم رسول الله شروطا، ويكتبوا كتابا في قومهم.

فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله ﷺ بقدومهم.

ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله ﷺ فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.

ولما قدموا على رسول الله ﷺ ضربت عليهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله، فكان إذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه حتى يأكل خال ابن سعيد قبلهم، وهو الذي كتب لهم كتابهم.

قال: وكان مما اشترطوا على رسول الله ﷺ أن يدع لهم الطاغية ثلاث سنين، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم ليتألفوا سفهاءهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، إلا أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة ليهدماها، وسألوه مع ذلك أن لا يصلوا، وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم.

فقال: «أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه».

فقالوا: سنؤتيكها وإن كانت دناءة.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا محمد بن مسلمة عن حميد، عن الحسن، عن عثمان ابن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله ﷺ فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله ﷺ أن لاتحشروا، ولا يعشروا، ولا يجبوا، ولا يستعمل عليهم غيرهم.

فقال رسول الله ﷺ: «لكم أن لا تحشروا، ولا تجبوا، ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه».

وقال عثمان ابن أبي العاص: يا رسول الله علمني القرآن، واجعلني إمام قومي.

وقد رواه أبو داود من حديث أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن حميد به.

وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح، ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني إبراهيم بن عقيل بن منبه، عن وهب، سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت.

قال: اشترطت على رسول الله ﷺ أن لا صدقة عليها، ولا جهاد.

وأنه سمع رسول الله ﷺ يقول بعد ذلك: «سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا».

قال ابن إسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم كتابهم، أمر عليهم عثمان ابن أبي العاص وكان أحدثهم سنا.

لأن الصديق قال: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن.

وذكر موسى بن عقبة أن وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله خلفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله ﷺ فسأله عن العلم، فاستقرأه القرآن، فإن وجده نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام، وأحبه رسول الله ﷺ حبا شديدا.

قال ابن إسحاق: حدثني سعيد ابن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان ابن أبي العاص قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله ﷺ حين بعثني إلى ثقيف قال:

«يا عثمان تجوز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير، والصغير، والضعيف، وذا الحاجة».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الجريري عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي.

قال: «أنت إمامهم، فاقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا».

رواه أبو داود، والترمذي من حديث حماد بن سلمة به.

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية، عن محمد بن إسحاق كما تقدم.

وروى أحمد عن عفان، عن وهب، وعن معاوية بن عمرو، عن زائدة كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن داود ابن أبي عاصم، عن عثمان ابن أبي العاص أن آخر ما فارقه رسول الله حين استعمله على الطائف، أن قال:

«إذا صليت بقوم فخفف بهم».

حتى وقت لي: { اقْرأْ باسْم ربك الذي خلق } وأشباهها من القرآن.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب قال: حدث عثمان ابن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلى رسول الله ﷺ أن قال:

«إذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة».

ورواه مسلم، عن محمد بن مثنى، وبندار كلاهما، عن محمد بن جعفر، عن عبد ربه.

وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عبد الله بن الحكم أنه سمع عثمان ابن أبي العاص يقول:

استعملني رسول الله ﷺ على الطائف، فكان آخر ما عهد إلي أن قال:

«خفف عن الناس الصلاة».

تفرد به من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا عمرو بن عثمان، حدثني موسى - هو: ابن طلحة - أن عثمان ابن أبي العاص حدثه أن رسول الله ﷺ أمره أن يؤم قومه.

ثم قال: «من أم قوما فليخفف بهم، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء».

ورواه مسلم من حديث عمرو بن عثمان به.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت أشياخا من ثقيف قالوا: حدثنا عثمان ابن أبي العاص أنه قال:

قال لي رسول الله ﷺ «وأم قومك، وإذا أممت قوما، فخفف بهم الصلاة، فإنه يقوم فيها الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذو الحاجة».

وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير أن عثمان قال: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي.

قال: «ذاك شيطان يقال له: خنرب، فإذا أنت حسسْته فتعوذ بالله منه، وأتفل عن يسارك ثلاثا».

قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني.

ورواه مسلم من حديث سعيد الجريري به.

وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان ابن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله ﷺ وجعا يجده في جسده.

فقال له: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل: سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر».

وفي بعض الروايات ففعلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.

وقال أبو عبد الله ابن ماجه: حدثنا محمد بن يسار، ثنا محمد ابن عبد الله الأنصاري، حدثني عيينة بن عبد الرحمن وهو - ابن جوشن -، حدثني أبي عن عثمان ابن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله ﷺ على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله ﷺ فقال:

«ابن أبي العاص؟».

قلت: نعم يا رسول الله.

قال: «ما جاء بك؟».

قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي.

قال: «ذاك الشيطان، أدن».

فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي.

قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي.

وقال: «أخرج عدو الله» فعل ذلك ثلاث مرات.

ثم قال «الحق بعملك».

قال: فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد.

تفرد به ابن ماجه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عيسى بن عبد الله عن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي، عن بعض وفدهم.

قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا، وصمنا مع رسول الله ﷺ ما بقي من شهر رمضان بفطورنا، وسحورنا، فيأتينا بالسحور.

فإنا لنقول: إنا لنرى الفجر قد طلع؟

فيقول: قد تركت رسول الله ﷺ يتسحر لتأخير السحور، ويأتينا بفطرنا وإنا لنقول: ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد.

فيقول: ما جئتكم حتى أكل رسول الله ﷺ ثم يضع يده في الجفنة فيلقم منها.

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله ﷺ في وفد ثقيف قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله ﷺ بني مالك في قبة له، كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه، حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ثم يقول: «لا آسى وكنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندال عليهم، ويدالون علينا».

فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة؟

فقال: «إنه طرئ علي جزئي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه».

قال أوس: سألت أصحاب رسول الله ﷺ كيف يجزئون القرآن؟

فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشر، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.

لفظ أبو داود، قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله ﷺ معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: أدخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم، فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بني معتب دونه خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود.

قال: وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، ويقلن:

لنبْكين دفاعْ * أسْلمها الرضاعْ، لمْ يحْسنوا المصاعْ

قال ابن إسحاق: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفاس: وآها لك، وآها لك، فلما هدمها المغيرة، وأخذ مالها، وحليها، أرسل إلى أبي سفيان فقال: إن رسول الله قد أمرنا أن نقضي عن عروة بن مسعود، وأخيه الأسود بن مسعود، والد قارب بن الأسود دينهما من مال الطاغية، يقضي ذلك عنهما.

قلت: كان الأسود قد مات مشركا، ولكن أمر رسول الله بذلك تأليفا وإكراما لولده قارب بن الأسود رضي الله عنه.

وذكر موسى بن عقبة أن وفد ثقيف كانوا بضعة عشر رجلا، فلما قدموا، أنزلهم رسول الله المسجد ليسمعوا القرآن، فسألوه عن الربا، والزنا، والخمر، فحرم عليهم ذلك كله.

فسألوه عن الربة ما هو صانع بها؟

قال: «اهدموها».

قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها.

فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك، إنما الربة حجر.

فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، ثم قالوا يا رسول الله: تول أنت هدمها، أما نحن فإنا لن نهدمها أبدا.

فقال: سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه على ذلك، واستأذنوه أن يسبقوا رسله إليهم، فلما جاءوا قومهم، تلقوهم فسألوهم ما وراءكم، فأظهروا الحزن وأنهم إنما جاءوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر بالسيف بحكم ما يريد وقد دوخ العرب، قد حرم الربا، والزنا، والخمر، وأمر بهدم الربة، فنفرت ثقيف وقالوا: لا نطيع لهذا أبدا قال: فتأهبوا للقتال، وأعدوا السلاح، فمكثوا على ذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، وأنابوا، وقالوا: ارجعوا إليه فشارطوه على ذلك، وصالحوه عليه.

قالوا: فإنا قد فعلنا ذلك، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه فافهموا القضية، واقبلوا عافية الله.

قالوا: فلم كتمتمونا هذا أولا؟

قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياما، ثم قدم عليهم رسل رسول الله ﷺ، وقد أمر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة، فعمدوا إلى اللات، وقد استكفت ثقيف رجالها، ونساءها، والصبيان، حتى خرج العواتق من الحجال، ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين يعني المعول وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض برجله، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة، وفرحوا.

وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا لأولئك: من شاء منكم فليقترب، فقام المغيرة فقال: والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا، حتى سووها بالأرض، وجعل سادنها يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم، فلما سمع المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفروه حتى أخرجوا ترابها، وجمعوا ماءها، وبناءها، وبهتت عند ذلك ثقيف، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ فقسم أموالها من يومه، وحمدوا الله تعالى على اعتزاز دينه، ونصرة رسوله.

قال ابن إسحاق: وكان كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب لهم:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده لا يعضده من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، وإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمدا وإن هذا أمر النبي محمد.

وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث من أهل مكة مخزومي - حدثني محمد ابن عبد الله بن إنسان - وأثنى عليه خيرا - عن أبيه، عن عروة بن الزبير قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من لية، حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله ﷺ في طرف القرن حذوها فاستقبل محبسا ببصره يعني: واديا ووقف حتى اتفق الناس كلهم، ثم قال: «إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله».

وذلك قبل نزوله الطائف، وحصاره ثقيفا.

وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي.

وقد ذكره ابن حبان في ثقاته.

وقال ابن معين: ليس به بأس، تكلم فيه بعضهم.

وقد ضعف أحمد والبخاري وغيرهما هذا الحديث، وصححه الشافعي وقال بمقتضاه، والله أعلم.

موت عبد الله بن أبي قبحه الله

قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله ﷺ على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله ﷺ «أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود».

فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه؟

وقال الواقدي: مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله ﷺ وهو يجود بنفسه فقال: «قد نهيتك عن حب يهود».

فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه؟

ثم قال: يا رسول الله ليس هذا الحين عتاب هو الموت، فاحضر غسلي، وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفني فيه، وصل علي، واستغفر لي، ففعل ذلك به رسول الله ﷺ.

وروى البيهقي من حديث سالم بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوا مما ذكره الواقدي، فالله أعلم.

وقد قال إسحاق بن راهويه: قلت لأبي أسامة: أحدثكم عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ وسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ﷺ يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوبه فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك الله عنه؟

فقال رسول الله: «إن ربي خيرني فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين».

فقال: إنه منافق أتصلي عليه؟

فأنزل الله عز وجل: { ولا تصل على أحد منْهمْ مات أبدا ولا تقمْ على قبْره إنهمْ كفروا بالله ورسوله }. [16].

فأقر به أبو أسامة وقال: نعم!

وأخرجاه في الصحيحين من حديث أبي أسامة.

وفي رواية للبخاري وغيره، قال عمر: فقلت: يا رسول الله تصلي عليه وقد قال في يوم كذا وكذا، وقال في يوم كذا كذا وكذا!.

فقال: «دعني يا عمر فإني بين خيرتين ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت».

ثم صلى عليه، فأنزل الله عز وجل: { ولا تصل على أحد منْهمْ مات أبدا ولا تقمْ على قبْره } الآية.

قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله ﷺ، والله ورسوله أعلم.

وقال سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: أتى رسول الله ﷺ قبر عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه، أو فخذيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، فالله أعلم.

وفي صحيح البخاري بهذا الإسناد مثله، وعنده أنه إنما ألبسه قميصه مكافأة لما كان كسى العباس قميصا حين قدم المدينة، فلم يجدوا قميصا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أبي.

وقد ذكر البيهقي ها هنا قصة ثعلبة بن حاطب وكيف افتتن بكثرة المال، ومنعه الصدقة، وقد حررنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: { ومنْهمْ منْ عاهد الله لئنْ آتانا منْ فضْله } [17] الآية.

فصل غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام

قال ابن إسحاق: وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله ﷺ.

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يعدد أيام الأنصار مع رسول الله ﷺ ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه، قال ابن هشام: وتروى لابنه عبد الرحمن بن حسان:

ألسْت خير معد كلها نفرا * ومعْشرا إن هموا عموا وإن حصلوا

قوْم هموا شهدوا بدْرا بأجمعهمْ * مع الرسول فما ألوا وما خذلوا

وبايعوه فلمْ ينكث به أحد * منْهمْ ولم يك في إيمانه دخل

ويوْم صبحهمْ في الشعْب من أحد * ضرْب رصينْ كحر النار مشْتعل

ويوم ذي قرد يوْم استثار بهم * على الجياد فما خانوا وما نكلوا

وذا العشيرة جاسوها بخيلهم * مع الرسول عليها البيض والأسل

ويوم ودان أجلوا أهله رقصا * بالخيل حتى نهانا الحزْن والجبل

وليلة طلبوا فيها عدوهم * لله والله يجْزيهمْ بما عملوا

وليلة بحنين جالدوا معه * فيها يعلهم في الحرْب إذ نهلوا

وغزوة يوم نجْد ثم كان لهم * مع الرسول بها الأسلاب والنفل

وغزوة القاع فرقنا العدو به * كما يفرق دون المشْرب الرسل

ويوم بويع كانوا أهل بيعته * على الجلاد فآسوة وما عدلوا

وغزوة الفتْح كانوا في سريته * مرابطين فما طاشوا وما عجلوا

ويوم خيْبر كانوا في كتيبته * يمشون كلهم مستبسل بطل

بالبيض نرْعش في الإيمان عارية * تعوج بالضرب أحيانا وتعتدل

ويوم سار رسول الله محتسبا * إلى تبوك وهم راياته الأول

وساسة الحرب إنْ حرب بدتْ لهم * حتى بدا لهم الإقبال والقفْل

أولئك القوم أنصار النبي وهم * قومي أصير إليهم حين أتصل

ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم * وقتلهم في سبيل الله إذْ قتلوا

أبو بكر الصديق أميرا على الحج

ذكر بعث رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق أميرا على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة

قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله ﷺ في رمضان، كما تقدم بيانه مبسوطا قال: أقام رسول الله ﷺ بقية شهر رمضان، وشوالا، وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت، أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدْتمْ من الْمشْركين * فسيحوا في الْأرْض أرْبعة أشْهر } إلى قوله: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوْم الْحج الْأكْبر أن الله بريء من الْمشْركين ورسوله } إلى آخر القصة.

ثم شرع ابن إسحاق يتكلم على هذه الآيات، وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة.

والمقصود أن رسول الله ﷺ بعث عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق ليكون معه، ويتولى علي بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله ﷺ لكونه ابن عمه من عصبته.

قال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله ﷺ وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر.

فقال «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي»، ثم دعا علي ابن أبي طالب فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته».

فخرج علي ابن أبي طالب على ناقة رسول الله ﷺ العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟

فقال: بل مأمور.

ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي ابن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله ﷺ أجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله ﷺ.

وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقد قال البخاري باب حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها النبي ﷺ قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن في البيت عريان.

وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.

قال حميد: ثم أردف النبي ﷺ بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة.

قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.

وقال البخاري في كتاب الجهاد: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر بمنى؛ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس العمرة الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله ﷺ مشرك.

ورواه مسلم من طريق الزهري به نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرز ابن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب حين بعثه رسول الله ﷺ فقال: ما كنتم تنادون؟

قالوا: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف في البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.

قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي.

وهذا إسناد جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر.

وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح: أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر.

بقي قسم ثالث، وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال: إنه يؤجل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية، والله تعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن سماك، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ بعث براءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي».

فبعث بها مع علي ابن أبي طالب.

وقد رواه الترمذي من حديث حماد بن سلمة وقال: حسن غريب من حديث أنس.

وقد روى عبد الله بن أحمد عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك، عن حلس، عن علي أن رسول الله ﷺ لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة، رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟

قال: «لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك».

وهذا ضعيف الإسناد، ومتنه فيه نكارة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن زيد بن بثيع رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت يوم بعثه رسول الله ﷺ مع أبي بكر في الحجة؟

قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا.

وهكذا رواه الترمذي من حديث سفيان - هو: ابن عيينة - عن أبي إسحاق السبيعي، عن زيد بن بثيع، عن علي به.

وقال: حسن صحيح.

ثم قال: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: عن زيد بن أثيل.

ورواه الثوري عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه عن علي.

قلت: ورواه ابن جرير من حديث معمر عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي ابن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر.

فقال: إن رسول الله ﷺ بعث أبا بكر ابن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته، التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله ﷺ فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضورا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم.

قال علي: فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.

وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير وذكرنا أسانيد الأحاديث، والآثار في ذلك مبسوطا بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

قال الواقدي: وقد كان خرج مع أبي بكر من المدينة ثلثمائة من الصحابة، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله ﷺ بعشرين بدنة، ثم أردفه بعلي فلحقه بالعرج فنادى ببراءة أمام الموسم.

موت النجاشي سنة تسع وموت أم كلثوم بنت رسول الله

كان في هذه السنة - أعني في سنة تسع - من الأمور الحادثة غزوة تبوك في رجب كما تقدم بيانه.

قال الواقدي: وفي رجب منها مات النجاشي صاحب الحبشة، ونعاه رسول الله ﷺ إلى الناس.

وفي شعبان منها - أي من هذه السنة - توفيت أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ، فغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلها نسوة من الأنصار، فيهم: أم عطية.

قلت: وهذا ثابت في الصحيحين، وثبت في الحديث أيضا أنه عليه السلام لما صلى عليها وأراد دفنها قال: لا يدخله أحد قارف الليلة أهله، فامتنع زوجها عثمان لذلك، ودفنها أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه، ويحتمل أنه أراد بهذا الكلام من كان يتولى ذلك ممن يتبرع بالحفر والدفن من الصحابة، كأبي عبيدة، وأبي طلحة ومن شابهم، فقال: «لا يدخل قبرها إلا من لم يقارف أهله من هؤلاء».

إذ يبعد أن عثمان كان عنده غير أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ هذا بعيد، والله أعلم.

وفيها: صالح ملك أيلة، وأهل جرباء، وأذرح، وصاحب دومة الجندل كما تقدم إيضاح ذلك كله في مواضعه.

وفيها: هدم مسجد الضرار الذي بناه جماعة من المنافقين صورة مسجد وهو دار حرب في الباطن، فأمر به عليه السلام فحرق.

وفي رمضان منها: قدم وفد ثقيف فصالحوا عن قومهم، ورجعوا إليهم بالأمان، وكسرت اللات كما تقدم.

وفيها: توفي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، لعنه الله.

في أواخرها وقبله بأشهر: توفي معاوية بن معاوية الليثي - أو المزني - وهو الذي صلى عليه رسول الله ﷺ وهو نازل بتبوك إن صح الخبر في ذلك.

وفيها: حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس عن إذن رسول الله ﷺ له في ذلك.

وفيها: كان قدوم عامة وفود أحياء العرب، ولذلك تسمى: سنة تسع سنة الوفود، وها نحن نعقد لذلك كتابا برأسه اقتداء بالبخاري وغيره.

كتاب الوفود الواردين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال محمد بن إسحاق: لما افتتح رسول الله ﷺ مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى: سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش، لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله ﷺ وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله ﷺ ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا، يضربون إليه من كل وجه.

يقول الله تعالى لنبيه ﷺ: { إذا جاء نصْر الله والْفتْح * ورأيْت الناس يدْخلون في دين الله أفْواجا * فسبحْ بحمْد ربك واسْتغْفرْه إنه كان توابا } [18].

أي: فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا.

وقد قدمنا حديث عمرو بن مسلمة قال: كانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر - أي قومي - بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، وذكر تمام الحديث، وهو في صحيح البخاري.

قلت: وقد ذكر محمد بن إسحاق، ثم الواقدي والبخاري، ثم البيهقي بعدهم من الوفود ما هو متقدم تاريخ قدومهم على سنة تسع، بل وعلى فتح مكة، وقد قال الله تعالى: { لا يسْتوي منْكمْ منْ أنْفق منْ قبْل الْفتْح وقاتل أولئك أعْظم درجة من الذين أنْفقوا منْ بعْد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسْنى } [19].

وتقدم قوله ﷺ: «يوم الفتح لا هجرة، ولكن جهاد ونية».

فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين على زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعد الله خيرا وحسنى، ولكن ليس في ذلك كالسابق في الزمان والفضيلة، والله أعلم.

على أن هؤلاء الأئمة الذين اعتنوا بإيراد الوفود قد تركوا فيما أوردوه أشياء لم يذكروها، ونحن نورد بحمد الله ومنه ما ذكروه، وننبه على ما ينبغي التنبيه عليه من ذلك، ونذكر ما وقع لنا مما أهملوه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قال محمد بن عمر الواقدي: حدثنا كثير بن عبد الله المزني عن أبيه، عن جده قال: كان أول من وفد على رسول الله ﷺ من مضر أربعمائة من مزينة، وذاك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله ﷺ الهجرة في دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم، فارجعوا إلى أموالكم».

فرجعوا إلى بلادهم.

ثم ذكر الواقدي عن هشام بن الكلبي بإسناده: أن أول من قدم من مزينة خزاعي بن عبد نهم ومعه عشرة من قومه، فبايع رسول الله ﷺ على إسلام قومه، فلما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم فتأخروا عنه، فأمر رسول الله ﷺ حسان بن ثابت أن يعرض بخزاعي من غير أن يهجوه، فذكر أبياتا، فلما بلغت خزاعيا شكى ذلك إلى قومه، فجمعوا له، وأسلموا معه، وقدم بهم إلى رسول الله ﷺ فلما كان يوم الفتح دفع رسول الله ﷺ لواء مزينة - وكانوا يومئذ ألفا - إلى خزاعي هذا، قال: وهو أخو عبد الله ذو البجادين.

وقال البخاري رحمه الله (باب وفد بني تميم): حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن أبي صخرة، عن صفوان بن محرز المازني، عن عمران بن حصين قال: أتى نفر من بني تميم إلى النبي ﷺ فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم».

قالوا: يا رسول الله قد بشرتنا فأعطنا، فرؤي ذلك في وجهه.

ثم جاء نفر من اليمن فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم».

قالوا: قبلنا يا رسول الله.

ثم قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبره عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم على النبي ﷺ فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة.

فقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس.

فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.

فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت { ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بيْن يدي الله ورسوله } [20] حتى انقضت.

ورواه البخاري أيضا من غير وجه، عن ابن أبي مليكة بألفاظ أخرى، قد ذكرنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: «لا ترْفعوا أصْواتكمْ فوْق صوْت النبي» [21] الآية.

وقال محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله ﷺ وفود العرب، قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف بني تميم منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر التميمي - أحد بني سعد - وعمرو بن الأهتم، والحتحات بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم.

قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقد كان الأقرع بن حابس، وعيينة شهدا مع رسول الله ﷺ فتح مكة وحنين والطائف، فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم، ولما دخلوا المسجد نادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله ﷺ من صياحهم، فخرج إليهم.

فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

قال: «قد أذنت لخطيبكم، فليقل».

فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق، وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس، ألسنا برؤس الناس، وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكن نخشى من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس.

فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن الخزرج: «قم فأجب الرجل في خطبته».

فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خيرته رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله ﷺ نحن، فنحن أنصار الله وزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.

فقام الزبرقان بن بدر فقال:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن يطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم نصطنع

فننحر الكوم غبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فما ترانا إلى حي نفاخرهم * إلا استفادوا وكانوا الرأس تقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت غائبا فبعث إليه رسول الله ﷺ.

قال: فلما انتهيت إلى رسول الله ﷺ وقام شاعر القوم فقال: ما قال أعرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال، فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت: «قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال».

فقال حسان:

إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته * تقْوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محْدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إنْ كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبْق لأدنى سبْقهم تبع

لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إنْ سابقوا الناس يوما فاز سبْقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطمعون ولا يرديهم طمع

لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم * وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحلية في أرساعها فدع

خذْ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم * شرا يخاض عليه السم والسلع

أكْرم بقوم رسول الله شيعتهمْ * إذا تفاوتت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم * إن جد في الناس جد القول أو شمعوا

وقال ابن هشام: أخبرني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم أن الزبرقان لما قدم على رسول الله ﷺ في وفد بني تميم قام فقال:

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا * إذا اختلفوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس في كل موطن * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وإن لنا المرْباع في كل غارة * تغير بنجد أو بأرض الأعاجم

قال: فقام حسان فأجابه فقال:

هل المجد إلا السؤدد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبي محمدا * على أنف راض من معد وراغم

بحي حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

نصرناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا * وطبْنا له نفسا بفيء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه بالمرهفات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبي الخير من آل هاشم

بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلْتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول من بين ظئْر وخادم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * أموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم

قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلا من أصواتنا.

قال: فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله ﷺ فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في رحالهم، وكان أصغرهم سنا.

فقال قيس بن عاصم - وكان يبغض عمرو بن الأهتم -: يا رسول الله إنه كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله ﷺ مثل ما أعطى القوم.

قال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك يهجوه:

ظللت مفترش الهلباء تشتمني * عند الرسول فلم تصدقْ ولم تصب

سدناكم سؤددا رهْوا وسؤددكم * باد نواجذه مقْع على الذنب

وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق يعقوب بن سفيان، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير الحنظلي قال: قدم على رسول الله ﷺ الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو بن الاهتم: «أخبرني عن الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه» وأراه كان قد عرف قيسا.

قال: فقال: مطاع في أذنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره.

فقال الزبرقان: قد قال ما قال وهو يعلم أني أفضل مما قال.

قال: فقال عمرو: والله ما علمتك إلا زبر المروءة، ضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال.

ثم قال: يا رسول الله قد صدقت فيها جميعا أرضاني، فقلت بأحسن ما أعلم فيه، وأسخطني فقلت بأسوء ما أعلم.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «إن من البيان سحرا».

وهذا مرسل من هذا الوجه.

قال البيهقي: وقد روي من وجه آخر موصولا.

أنبأنا أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي، ثنا محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عثمان البغدادي، ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن العلاف ببغداد، حدثنا علي بن حرب الطائي، أنبأنا أبو سعد ابن الهيثم بن محفوظ عن أبي المقوم يحيى بن يزيد الأنصاري، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله ﷺ قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر الزبرقان، فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك - يعني: عمرو بن الأهتم -.

قال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه.

فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد.

فقال عمرو بن الأهتم: أنا أحسدك، فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى، والأخرى جميعا.

فقال رسول الله ﷺ: «إن من البيان لسحرا».

وهذا إسناد غريب جدا.

وقد ذكر الواقدي سبب قدومهم وهو أنه كانوا قد جهزوا السلاح على خزاعة، فبعث إليهم رسول الله ﷺ عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا، فقدم رؤساءهم بسبب أسراهم.

ويقال: قدم منهم تسعين - أو ثمانين - رجلا في ذلك منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورباح بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، فدخلوا المسجد وقد أذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله ﷺ ليخرج إليهم فجعل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل.

ثم ذكر الواقدي خطيبهم وشاعرهم وأنه عليه الصلاة والسلام أجازهم على كل رجل اثني عشر أوقية ونشا، إلا عمرو بن الأهتم، فإنما أعطي خمس أواق لحداثة سنه والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: { إن الذين ينادونك منْ وراء الْحجرات أكْثرهمْ لا يعْقلون * ولوْ أنهمْ صبروا حتى تخْرج إليْهمْ لكان خيْرا لهمْ والله غفور رحيم }. [22].

قال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء، في قوله: { إن الذين ينادونك منْ وراء الْحجرات }.

قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد إن حمدي زين وذمي شين.

فقال: «ذاك الله عز وجل».

وهذا إسناد جيد متصل.

وقد روى عن الحسن البصري وقتادة مرسلا عنهما، وقد وقع تسمية هذا الرجل.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد يا محمد.

وفي رواية: يا رسول الله فلم يجبه.

فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين وإن ذمي لشين.

فقال: «ذاك الله عز وجل»

حديث في فضل بني تميم

قال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله ﷺ يقولها فيهم: «هم أشد أمتي على الدجال» وكانت فيهم سبية عند عائشة فقال: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» وجاءت صدقاتهم فقال: «هذه صدقات قوم - أو قومي - ».

وهكذا رواه مسلم عن زهير بن حرب به.

وهذا الحديث يرد على قتادة ما ذكره صاحب الحماسة وغيره من شعر من ذمهم حيث يقول:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا * ولو سلكتْ طرق الرشاد لضلت

ولو أن بوغوثا على ظهر قملة * رأته تميم من بعيد لولت

وفد بني عبد القيس

ثم قال البخاري: بعد وفد بني تميم، باب وفد عبد القيس، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا قرة عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينتبذ لي فيها فأشربه حلوا في جر، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح؟.

فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله ﷺ فقال: «مرحبا بالقوم غير خزايا ولا الندامى».

فقال: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فحدثنا بجميل من الأمر أن عملنا به دخلنا الجنة، وندعوا به من وراءنا.

قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله هل تدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت».

وهكذا وراه مسلم من حديث قرة بن خالد عن أبي حمزة، وله طرق في الصحيحين عن أبي جمرة.

وقال أبوداود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن أبي حمزة سمعت ابن عباس يقول: إن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله ﷺ قال: «ممن القوم؟»

قالوا: من ربيعة.

قال: «مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى».

فقالوا: يا رسول الله إنا حي من ربيعة، وإنا نأتيك شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصلْ ندعوا إليه من وراءنا وندخل به الجنة.

فقال رسول الله ﷺ: «آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم: بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت» - وربما قال: «والمقير» - فاحفظوهن، وادعوا إليهن من وراءكم».

وقد أخرجاه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه.

وقد رواه مسلم من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد بحديث قصتهم بمثل هذا السياق، وعنده أن رسول الله ﷺ قال لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل، الحلم، والأناة».

وفي رواية «يحبهما الله ورسوله».

فقال: يا رسول الله تخلقتهما أم جبلني الله عليهما؟

فقال: «جبلك الله عليهما».

فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا مطر بن عبد الرحمن سمعت هند بنت الوزاع أنها سمعت الوزاع يقول: أتيت رسول الله ﷺ والأشج المنذر بن عامر - أو عامر بن المنذر - ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إلى رسول الله ﷺ فلما رأوا رسول الله ﷺ وثبوا من رواحلهم، فأتوا رسول الله ﷺ فقبلوا يده، ثم نزل الأشج فعقل راحلته، وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى رسول الله ﷺ فقال: «يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله: الحلم والأناة».

فقال: يا رسول الله أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟

فقال: «بل جبلك الله عليهما».

قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله.

فقال الوازع: يا رسول الله إن معي خالا لي مصابا، فادع الله له.

فقال: «أين هو، آتيني به».

قال: فصنعت مثل ما صنع الأشج ألبسته ثوبيه، وأتيته، فأخذ من ورائه يرفعها حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال: «أخرج عدو الله»، فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح.

وروى الحافظ البيهقي من طريق هود بن عبد الله بن سعد أنه سمع جده مزيدة العبدي قال: بينما رسول الله ﷺ يحدث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فتوجه نحوهم، فتلقى ثلاثة عشر راكبا فقال: من القوم؟

فقالوا: من بني عبد القيس.

قال: فما أقدمكم هذه البلاد التجارة؟

قالوا: لا.

قال: أما إن النبي ﷺ قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشوا معه حتى أتوا النبي ﷺ فقال عمر للقوم: وهذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم، فمنهم من مشى، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى، حتى أتوا رسول الله ﷺ فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الأشج في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله ﷺ فقبلها.

فقال النبي ﷺ: «إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله» قال: جبل جبلت، أم تخلقا مني؟

قال: «بل جبل».

فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.

وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ الجارود بن عمرو بن حنش أخو عبد القيس.

قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبد القيس وكان نصرانيا.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن قال: فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ كلمه، فعرض عليه الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟

فقال رسول الله ﷺ: «نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه».

قال: فأسلم، وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله ﷺ الحملان.

فقال: «والله ما عندي ما أحملكم عليه».

قال: يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوالا من ضوال الناس أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟

قال: «لا إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار».

قال: فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صلبا على دينه حتى هلك، وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر قام الجارود، فتشهد شهادة الحق، ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.

وقد كان رسول الله ﷺ بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي فأسلم، فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله ﷺ قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرا لرسول الله ﷺ على البحرين.

ولهذا روى البخاري من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: أول جمعة جمعت في مسجد رسول الله ﷺ في مسجد عبد القيس بجوانا من البحرين.

وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ أخر الركعتين بعد الظهر بسبب وفد عبد القيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها.

قلت: لكن في سياق ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة، لقولهم: وبيننا وبينك هذا الحي من مضر لا نصل إليك إلا في شهر حرام، والله أعلم.

قصة ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب

قال البخاري: باب وفد بني حنيفة: وقصة ثمامة بن أثال، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد ابن أبي سعيد، سمع أبا هريرة قال: بعث النبي ﷺ خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي ﷺ فقال: «ما عندك يا ثمامة»؟

قال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد.

ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟»

فقال: عندي ما قلت لك.

فقال: أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟

فبشره رسول الله ﷺ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟

قال: لا!ولكن أسلمت مع محمد ﷺ ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ﷺ.

وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، كلهم عن قتيبة، عن الليث به.

وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر، وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق، فربط بسارية من سواري المسجد.

ثم في ذكره مع الوفود سنة تسع نظر آخر، وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح، لأن أهل مكة عيروه بالإسلام، وقالوا: أصبوت، فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعد، والله أعلم.

ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة، وهو أشبه، ولكن ذكرناه ها هنا إتباعا للبخاري رحمه الله.

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن عبد الله ابن أبي الحسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله ﷺ فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدم في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله ﷺ ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله ﷺ قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال له: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني» ثم انصرف عنه.

قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله ﷺ «إنك الذي رأيت فيه ما أريت» فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: الأسود العنسي، والآخر: مسيلمة».

ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر عن هشام بن أمية أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة».

ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن صالح، عن ابن عبيدة، عن نشيط - وكان في موضع آخر اسمه عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث، وكان تحته الحارث بن كريز وهي: أم عبد الله بن الحارث بن كريز، فأتاه رسول الله ﷺ ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له: خطيب رسول الله ﷺ وفي يد رسول الله ﷺ قضيب فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك.

فقال رسول الله ﷺ: «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عني».

فانصرف رسول الله ﷺ.

قال عبيد الله بن عبد الله: سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله ﷺ الذي ذكر.

فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: «بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان».

فقال عبيد الله: أحدهما: العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذاب.

وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله ﷺ وفد بني حنيفة فيهم: مسيلمة بن ثمامة ابن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزول بن حنيفة، ويكنى: أبا ثمامة، وقيل: أبا هارون، وكان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له: رحمان اليمامة، وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.

قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.

قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ثم من بني النجار فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله ﷺ تستره بالثياب ورسول الله ﷺ جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله ﷺ: «لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه».

قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا، وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله ﷺ وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركابنا يحفظها لنا.

قال: فأمر له رسول الله ﷺ بمثل ما أمر به للقوم وقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا» أي: لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله ﷺ قال: ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ وجاؤا مسيلمة بما أعطاه رسول الله ﷺ فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.

وقال: إني قد أشركت في الأمر معه وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه؛ ثم جعل يسجع لهم السجعات ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة.

وهو مع هذا يشهد لرسول الله ﷺ بأنه نبي فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.

وذكر السهيلي وغيره: أن الرحال بن عنفوة - واسمه نهار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله ﷺ مدة وقد مر عليه رسول الله ﷺ وهو جالس مع أبي هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: «أحدكم ضرسه في النار مثل أحد»

فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله ﷺ أشركه في الأمر معه وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه يوم اليمامة من القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه، فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة، وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما سيأتي.

قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له: حجير وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم سجاح، وكانت تكنى: أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذنها: زهير بن عمرو، وقيل: جنبة بن طارق ويقال: إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم، وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله ﷺ:

من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله؛ سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر، ولكن قريشا قوم لا يعتدون.

فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.

فكتب إليه رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».

قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني: ورود هذا الكتاب.

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: «وأنتما تقولان مثل ما يقول».

قالا: نعم!.

فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله ﷺ فقال لهما: «أتشهدان أني رسول الله».

فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله.

فقال رسول الله ﷺ: «آمنت بالله ورسله ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما».

قال عبد الله بن مسعود: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.

قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.

قال الحافظ البيهقي: أما أسامة بن أثال فإنه أسلم، وقد مضى الحديث في إسلامه.

وأما ابن النواحة فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه.

فأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرؤن قراءة ما أنزلها الله على محمد ﷺ والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.

قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتي بهم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة.

قال: فأمر به عبد الله فقتل ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.

وقال الواقدي: كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال ابن عنفوة، وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومرة خبزا وسمنا، ومرة تمرا ينزلهم، فلما قدموا المسجد أسلموا، وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم لما ذكروا أنه في رحالهم.

فقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا».

فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن الأمر لي من بعده وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.

قال الواقدي: وقد كان رسول الله بعث معهم بأدواة فيها فضل طهوره وأمرهم أن يهدموا بيعتهم، وينضحوا هذا الماء مكانه، ويتخذوه مسجدا، ففعلوا.

وسيأتي ذكر مقتل الأسود العنسي في آخر حياة رسول الله ﷺ، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.

وفد أهل نجران

قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين ثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.

قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا.

فقال: «لا يبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين».

فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ وقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح.

فلما قام قال رسول الله ﷺ: «هذا أمين هذه الأمة».

وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن سلمة بن يشوع، عن أبيه، عن جده قال يونس: وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله ﷺ كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان؛ «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران أسلم أنتم، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام».

فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه قطع به وذعر به ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة - وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأتهم، ولا السيد ولا العاقب - فدفع الأسقف كتاب رسول الله ﷺ إلى شرحبيل فقرأه.

فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟

فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك.

فقال له الأسقف: تنح فاجلس.

فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي.

فقال له مثل قول شرحبيل.

فقال له الأسقف: تنح فاجلس.

فتنحى فجلس ناحيته وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه.

فقال له مثل قول شرحبيل، وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحيته، فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران و المسموح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلوا إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله ﷺ.

قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله ﷺ فسلموا فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس.

فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن!إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع؟

فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودوا إليه.

ففعلوا فسلموا فرد سلامهم.

ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم».

ثم ساءلهم وسائلوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.

فقال رسول الله ﷺ: «ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى».

فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية: { إن مثل عيسى عنْد الله كمثل آدم خلقه منْ تراب ثم قال له كنْ فيكون * الْحق منْ ربك فلا تكنْ من الْممْترين * فمنْ حاجك فيه منْ بعْد ما جاءك من الْعلْم فقلْ تعالوْا ندْع أبْناءنا وأبْناءكمْ ونساءنا ونساءكمْ وأنْفسنا وأنْفسكمْ ثم نبْتهلْ فنجْعلْ لعْنة الله على الْكاذبين }. [23].

فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله ﷺ الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة.

فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا، ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا متقويا فكنا أول العرب طعن في عيبته، ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بحائجة، وإنا أدنى العرب منهم جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك.

فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟.

فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.

فقالا له: أنت وذاك.

قال: فتلقى شرحبيل رسول الله ﷺ فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك.

فقال: «وما هو؟».

فقال: حكمك اليوم إلى الليل، وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز.

فقال رسول الله ﷺ: «لعل وراءك أحد يثرب عليك؟».

فقال شرحبيل: سل صاحبي.

فقالا: ما ترد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل.

فقال رسول الله ﷺ: «كافر» أو قال: «جاحد موفق».

فرجع رسول الله ﷺ فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي الأمي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة من حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة».

وذكر تمام الشروط إلى أن شهد أبو سفيان ابن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة، وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله ﷺ إلى الأسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر، غير أنه لا يكنى عن رسول الله ﷺ.

فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا.

فقال له بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتي رسول الله ﷺ فضرب وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه، أو رضينا بصوته، أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا.

فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مولي الأسقف ظهره وارتجز يقول:

إليك تغدو وضينها * معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

حتى أتى رسول الله ﷺ فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك، قال: ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله ﷺ وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا، وأن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم.

فقال الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة.

قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله ﷺ، منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء، وقعب، وعصا.

فأقام مدة عند رسول الله ﷺ يسمع الوحي، ثم رجع إلى قومه ولم يقدر له الإسلام، ووعد أنه سيعود، فلم يقدر له حتى توفي رسول الله ﷺ، وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله ﷺ ومعه السيد والعاقب، ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقف هذا الكتاب، ولأساقفة نجران بعده:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا، ما أصلحوا ونصحوا، عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين».

وكتب المغيرة بن شعبة.

وذكر محمد بن إسحاق أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا، يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، وهم العاقب واسمه: عبد المسيح، والسيد: وهو الأتهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم، وهم العاقب وكان أمير القوم، وذا رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان ثمالهم، وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم، وخيرهم، وكان رجل من العرب من بكر بن وائل، ولكن دخل في دين النصرانية، فعظمته الروم، وشرفوه، وبنوا له الكنائس، ومولوه، وخدموه، لما يعرفون من صلابته في دينهم، وكان مع ذلك يعرف أمر رسول الله ﷺ ولكن صده الشرف والجاه من اتباع الحق.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان عن ابن البيلماني، عن كرز بن علقمة قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، والسيد، وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم، وصاحب مدارستهم، وكانوا قد شرفوه فيهم، ومولوه، وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة.

فقال كرز: تعس الأبعد - يريد رسول الله ﷺ.

فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.

فقال له كرز: ولم يا أخي.

فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره.

فقال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا.

فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.

قال: فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.

وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر، فقاموا يصلون إلى المشرق.

فقال رسول الله ﷺ: «دعوهم».

فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة، والسيد، والعاقب، حتى نزل فيهم صدر من سورة آل عمران، والمباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا أن يرسل معهم أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، كما تقدم في رواية البخاري، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنة.

وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ وفد بني عامر بن الطفيل، وأربد بن مقيس بن جزء بن جعفر بن خالد، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله ﷺ وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.

قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟

ثم قال لأربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك، فأعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني.

قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده».

قال: يا محمد خالني.

قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالني.

قال: «لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له».

فلما أبى عليه رسول الله ﷺ.

قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

فلما ولى قال رسول الله ﷺ: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل».

فلما خرجوا من عند رسول الله ﷺ.

قال عامر بن الطفيل لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.

قال: لا أبالك، لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلْت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟

وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول؟

قال ابن هشام: ويقال: أغدة كغدة الإبل، وموت في بيت سلولية.

وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن موءلة عن أبيها، عن جدها موءلة بن جميل قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله ﷺ فقال له: «يا عامر أسلم».

فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.

قال: «لا».

ثم قال: «أسلم».

فقال: أسلم على أن لي الوبر، ولك المدر.

قال: «لا».

فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم اكفني عامرا، واهد قومه).

فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها: سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا.

وذكر الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في (الإستيعاب في أسماء الصحابة) موءلة هذا فقال: هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله ﷺ هو ابن عشرين سنة، فأسلم وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى عنه ابنه عبد العزيز، وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية.

قال الزبير بن بكار: حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت: حدثني أبي عن أبيه، عن موءلة أنه أتى رسول الله ﷺ فأسلم وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول الله ﷺ ومسح يمينه، وساق إبله إلى رسول الله ﷺ فصدقها بنت لبون، ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله ﷺ، وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.

قلت: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي، قد ذكراها بعد الفتح، وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة، وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة، حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم.

قال الأوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله ﷺ يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله».

فبعث الله عليه الطاعون.

وروي عن همام، عن إسحاق ابن عبد الله، عن أنس في قصة ابن ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله ﷺ فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر، وألف شقراء.

قال: فطعن في بيت امرأة.

فقال: غدة كغدة البعير، وموت في بيت امرأة من بني فلان، إئتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه.

قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين رأوه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: وما وراءك يا أربد؟

قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.

قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه، فقال لبيد يبكي أربد:

ما أنْ تعدي المنون من أحد * لا والد مشْفق ولا ولد

أخْشى على أرْبد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد

فعْين هلا بكيت أربد إذْ * قمْنا وقام النساء في كبد

إنْ يشْغبوا لا يبال شغْبهم * أو يقْصدوا في الحكوم يقْتصد

حلْو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الأحْشاء والكبد

وعين هلا بكيْت أربد إذْ * ألْوتْ رياح الشتاء بالعضد

وأصْبحتْ لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد

أشْجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد

لا تبلغ العينْ كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد

الباعث النوْح في مآتمه * مثْل الظباء الأبكار بالجرد

فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد

والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعدْ يعد

يعْفو على الجهْد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد

كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد

إنْ يغبطوا يهبطوا وإن أمروا *يوما فهم للهلاك والنفد

وقد روى ابن إسحاق: عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لأمه أربد بن قيس، تركناها إختصارا واكتفاء بما أوردناه، والله الموفق للصواب.

قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد: { الله يعْلم ما تحْمل كل أنْثى وما تغيض الْأرْحام وما تزْداد وكل شيْء عنْده بمقْدار * عالم الْغيْب والشهادة الْكبير الْمتعال * سواء منْكمْ منْ أسر الْقوْل ومنْ جهر به ومنْ هو مسْتخْف بالليْل وسارب بالنهار * له معقبات منْ بيْن يديْه ومنْ خلْفه يحْفظونه منْ أمْر الله } [24].

يعني: محمدا ﷺ ثم ذكر أربد وقتله.

فقال الله تعالى: { وإذا أراد الله بقوْم سوءا فلا مرد له وما لهمْ منْ دونه منْ وال * هو الذي يريكم الْبرْق خوْفا وطمعا وينْشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعْد بحمْده والْملائكة منْ خيفته ويرْسل الصواعق فيصيب بها منْ يشاء وهمْ يجادلون في الله وهو شديد الْمحال }. [25].

قلت: وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد، ولله الحمد والمنة.

وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن، وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله ﷺ فانتهيا إليه، وهو جالس فجلسا بين يديه.

فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت.

فقال رسول الله ﷺ: «مالك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم».

قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك.

فقال رسول الله ﷺ: «ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل».

قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، إجعل لي الوبر ولك المدر.

قال رسول الله ﷺ: «لا».

فلما قفا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

فقال رسول الله ﷺ: «يمنعك الله».

فلما خرج أربد وعامر.

قال عامر: يا أربد أنا أشغل محمدا بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية.

قال أربد: أفعل، فأقبلا راجعين إليه.

فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله ﷺ فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله يكلمه، وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله ﷺ فرأى أربد وما يصنع، فانصرف عنهما، فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله ﷺ حتى إذا كانا بالحرة، حرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير.

فقالا: اشخصا يا عدوا الله لعنكما الله.

فقال عامر: من هذا يا سعد؟

قال: أسيد بن حضير الكتائب، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية، يرغب عن أن يموت في بيتها، ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا.

فأنزل الله فيهما { الله يعْلم ما تحْمل كل أنْثى وما تغيض الْأرْحام } إلى قوله له: { له معقبات منْ بيْن يديْه ومنْ خلْفه } يعني: محمدا ﷺ.

ثم ذكر أربد وما قتله به فقال: { ويرْسل الصواعق فيصيب بها منْ يشاء } الآية.

وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر، وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه، والله أعلم.

وقد تقدم وفود الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه على رسول الله ﷺ بمكة وإسلامه، وكيف جعل الله له نورا بين عينيه، ثم سأل الله فحوله له إلى طرف سوطه، وبسطنا ذلك هنالك، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقي وغيره.

قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا على قومه

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب، عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله ﷺ فقدم إليه، وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله ﷺ جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله ﷺ في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟

فقال رسول الله ﷺ «أنا ابن عبد المطلب».

فقال: يا محمد.

قال: «نعم».

قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك.

قال: «لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك».

فقال: أنشدك إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟

قال: «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟

قال: «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟

قال: «نعم!».

قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة، فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها، كما يشهده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعا.

قال: فقال رسول الله ﷺ: «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة».

قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم أن قال: بئست اللات والعزى.

فقالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.

فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران، ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه.

قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم، وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.

قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق فذكره.

وقد روى هذا الحديث أبو داود من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه.

وفي هذا السياق ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح، لأن العزى خربها خالد بن الوليد أيام الفتح.

وقد قال الواقدي: حدثني أبو بكر ابن عبد الله ابن أبي سبرة عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس ضمام بن ثعلبة، وكان جلدا أشعر ذا غديرتين وافدا إلى رسول الله ﷺ فأقبل حتى وقف على رسول الله ﷺ فسأله فأغلظ في المسئلة، سأله عمن أرسله، وبما أرسله؟ وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله ﷺ في ذلك كله، فرجع إلى قومه مسلما، قد خلع الأنداد، فأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما، وبنو المساجد وأذنوا بالصلاة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان - يعني: ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس ابن مالك قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك.

قال: «صدق!».

قال: فمن خلق السموات؟

قال: «الله».

قال: فمن خلق الأرض؟

قال: «الله».

قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟

قال: «الله».

قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

قال: «صدق».

قال: ثم ولى، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا، ولا أنقص عليهن شيئا.

فقال النبي ﷺ: «إن صدق ليدخلن الجنة».

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بأسانيد وألفاظ كثيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقد رواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة.

وعلقه البخاري من طريقه، وأخرجه من وجه آخر بنحوه.

فقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله ﷺ جلوس في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟.

ورسول الله متكئ بين ظهرانيهم.

قال: فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ.

فقال الرجل: يا ابن عبد المطلب.

فقال رسول الله ﷺ: «قد أجبتك».

فقال الرجل: يا محمد إني سائلك فمشتد عليك المسألة، فلا تجد علي في نفسك.

فقال: «سل ما بدا لك».

فقال الرجل: أسألك بربك، ورب من كان قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم نعم!».

قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟

فقال رسول الله ﷺ: «نعم!».

قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني يعد بن بكر.

وقد رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري به.

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن الليث به.

والعجب أن النسائي رواه من طريق آخر عن الليث، قال: حدثني ابن عجلان، وغيره من أصحابنا عن سعيد المقبري، عن شريك، عن أنس بن مالك فذكره.

وقد رواه النسائي أيضا من حديث عبيد الله العمري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فلعله عن سعيد المقبري من الوجهين جميعا.

فصل إسلام ضماد الأزدي وقومه

وقد قدمنا ما وراه الإمام أحمد عن يحيى بن آدم، عن حفص بن غياث، عن داود ابن ابي هند، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قدوم ضماد الأزدي على رسول الله ﷺ بمكة قبل الهجرة وإسلامه، وإسلام قومه، كما ذكرنا مبسوطا بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.

وفد طيء مع زيد الخيل رضي الله عنه

وهو زيد بن مهلل بن زيد بن منهب، أبو مكنف الطائي، وكان من أحسن العرب وأطولهم رجلا وسمي زيد الخيل لخمسة أفراس كن له.

وقال السهيلي: ولهن أسماء لا يحضرني الآن حفظها.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ وفد طيء، وفيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله ﷺ الإسلام، فأسلموا فحسن إسلامهم.

وقال رسول الله ﷺ كما: «حدثني من لا أتهم من رجال طيء، ما ذكر رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ الذي فيه»، ثم سماه رسول الله ﷺ زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسول الله ﷺ راجعا إلى قومه.

فقال رسول الله ﷺ: «إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال».

وقد سماها رسول الله ﷺ باسم غير الحمى، وغير أم ملدم - لم يثبته - قال: فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له: فردة أصابته الحمى فمات بها، ولما أحس بالموت قال:

أمرتحل قومي المشارق غدْوة * وأترك في بيت بفردة منْجد

ألا رب يوم لو مرضْت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد

قال: ولما مات عمدت امرأته بجهلها، وقلة عقلها، ودينها، إلى ما كان معه من الكتب فحرقتها بالنار.

قلت: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد أن علي ابن أبي طالب بعث إلى رسول الله ﷺ من اليمن بذهبية في تربتها، فقسمها رسول الله ﷺ بين أربعة، زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والأقرع بن حابس، وعتبة بن بدر. الحديث.

وسيأتي ذكره في بعث علي إلى اليمن، إن شاء الله تعالى.

قصة عدي بن حاتم الطائي

قال البخاري في (الصحيح): وفد طيء وحديث عدي بن حاتم: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر بن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟

قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا.

فقال عدي: لا أبالي إذا.

وقال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول: فيما بلغني ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله ﷺ حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءا شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله ﷺ كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم أنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.

قال: قلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله ﷺ فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله ﷺ في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله ﷺ هربي إلى الشام.

قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها، فمر بها رسول الله ﷺ فقامت إليه وكانت امرأة جزلة.

فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.

قال: «ومن وافدك؟»

قالت: عدي بن حاتم.

قال: «الفار من الله ورسوله».

قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس.

قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه.

قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.

فقال ﷺ: «قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني»

فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل لي: علي ابن أبي طالب.

قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك.

قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت.

قال: ثم نزلت فأقامت عندي.

فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت.

قال: قلت: والله إن هذا الرأي.

قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله ﷺ المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟»

فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله ﷺ وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها.

قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.

قال: ثم مضى بي رسول الله ﷺ حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي.

فقال: «اجلس على هذه».

قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها.

قال: «بل أنت».

فجلست وجلس رسول الله ﷺ بالأرض.

قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.

ثم قال: «إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا».

قال: قلت: بلى!

قال: «أولم تكن تسير في قومك بالمرباع!».

قال: قلت: بلى.

قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك».

قال: قلت: أجل!والله.

قال: «وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل».

ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه إنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم».

قال: فأسلمت.

قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا إسناد، وله شواهد من وجوه أخر.

فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول الله ﷺ وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناسا، فلما أتوا بهم رسول الله ﷺ، قال: فصفوا له.

قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمن علي من الله عليك.

فقال: «ومن وافدك؟».

قالت: عدي بن حاتم.

قال: «الذي فر من الله ورسوله؟».

قالت: فمن علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه - ترى أنه علي -.

قال: سليه حملانا قال: فسألته، فأمر لها.

قال عدي: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، وقالت: إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.

قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم منه فعرفت أنه ليس ملك كسرى، ولا قيصر.

فقال له: «يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل».

فأسلمت فرأيت وجهه استبشر.

وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى».

قال: ثم سألوه، فحمد الله أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة»..

قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: «بتمرة، بشق تمرة وإن أحدكم لاقى الله فقائل، ما أقول ألم أجعلك سميعا بصيرا، ألم أجعل لك مالا وولدا، فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمة لينة إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصرنكم الله وليعطينكم أو ليفتحن عليكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها».

وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس، كلاهما عن سماك ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل قال: قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه منك.

قال: نعم!لما بلغني خروج رسول الله ﷺ كرهت خروجه كراهية شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية: حتى قدمت على قيصر -.

قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهيتي لخروجه.

قال: قلت: والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرني، وإن كان صادقا علمت.

قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس: عدي بن حاتم؟ فدخلت على رسول الله ﷺ.

فقال لي: «يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا».

قال: قلت: إني علي دين.

قال: «أنا أعلم بدينك منك».

فقلت: أنت تعلم بديني مني؟.

قال: «نعم ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟».

قلت: بلى!.

قال: «هذا لا يحل لك في دينك».

قال: نعم!فلم يعد أن قالها فتواضعت لها.

قال: «أما أني أعلم الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟».

قلت: لم أرها وقد سمعت بها.

قال: «فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز».

قال: قلت: كنوز ابن هرمز؟.

قال: «نعم!كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».

قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج!من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله قد قالها.

ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن رجل، وقال حماد وهشام عن محمد ابن أبي عبيدة، ولم يذكر عن رجل.

قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم، وهو إلى جنبي ولا أسأله.

قال: فأتيته فسألته.

فقال: نعم!فذكر الحديث.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبانا أبو عمرو الأديب أنبانا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل، أنبأنا إسرائيل، أنبأنا سعد الطائي، أنبأنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي ﷺ إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.

قال: «يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة».

قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.

قال: «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل».

قال: قلت في نفسي: فإن ذعار طيء - الذين سعروا البلاد -.

«ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».

قلت: كسرى بن هرمز؟

قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بيه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم».

قال عدي: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة».

قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم ﷺ.

وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم عن النضر بن شميل به بطوله.

وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة، عن عدي به.

ورواه الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة عن سعد أبي مجاهد الطائي به.

وممن روى هذه القصة عن عدي عامر بن شرحبيل الشعبي فذكر نحوه.

وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها.

وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة.

وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».

ولفظ مسلم: «من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل».

طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.

وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر ابن محمد بن عبد الله بن يوسف، ثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، ثنا ضرار بن صرد، ثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال: قال علي ابن أبي طالب: يا سبحان الله!ما أزهد كثيرا من الناس في خير، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.

فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من رسول الله ﷺ.

قال: نعم!وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيء وقفت جارية حمراء لعساء، ذلفاء، عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.

قال: فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله ﷺ يجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها.

فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء.

فقال رسول الله ﷺ: «يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق».

فقام أبو بردة ابن نيار فقال: يا رسول الله تحب مكارم الأخلاق؟

فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق».

هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جدا، عزيز المخرج.

وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها، وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم، والإحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق بالإيمان، وهو ممن لم يقل يوما من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

وقد زعم الواقدي أن رسول الله ﷺ بعث علي ابن أبي طالب في ربيع الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيء، فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدي بن حاتم، وجاء معه بسيفين كانا في بيت الصنم، يقال لأحدهما: الرسوب، والآخر: المخذم، كان الحارث ابن أبي سمر قد نذرهما لذلك الصنم.

قصة دوس والطفيل بن عمرو

حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان عن ابن ذكوان هو - عبد الله بن زياد - عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله ﷺ فقال: إن دوسا قد هلكت، وعصت، وأبت، فادع الله عليهم.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم أهد دوسا، وأت بهم».

انفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل عن قيس، عن أبي هريرة قال: لما قدمت على النبي ﷺ قلت في الطريق:

يا ليلة منْ طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجتْ

وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي ﷺ وبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال لي النبي ﷺ: «يا أبا هريرة هذا غلامك».

فقلت: هو حر لوجه الله عز وجل، فأعتقته.

انفرد به البخاري من حديث إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، وهذا الذي ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو، فقد كان قبل الهجرة، ثم إن قدر قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح، لأن دوسا قدموا ومعهم أبو هريرة، وكان قدوم أبي هريرة ورسول الله ﷺ محاصر خيبر، ثم ارتحل أبو هريرة حتى قدم على رسول الله ﷺ خيبر بعد الفتح، فرضخ لهم شيئا من الغنيمة، وقد قدمنا ذلك كله مطولا في مواضعه.

قدوم الأشعريين وأهل اليمن

ثم روى من حديث شعبة عن سليمان بن مهران الأعمش، عن ذكوان أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم».

ورواه مسلم من حديث شعبة.

ثم رواه البخاري: عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقة يمان، والحكمة يمانية».

ثم روى عن إسماعيل، عن سليمان، عن ثور، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «الإيمان يمان، والفتنة هاهنا، ها هنا يطلع قرن الشيطان».

ورواه مسلم عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

ثم روى البخاري من حديث شعبة عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «الإيمان هاهنا»، وأشار بيده إلى اليمن «والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل من حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة، ومضر».

وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم، من حديث إسماعيل ابن ابي خالد، عن قيس ابن ابي حازم، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو.

ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد، ثنا صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله ﷺ فقال: «أبشروا يا بني تميم».

فقالوا: أما إذ بشرتنا، فأعطنا، فتغير وجه رسول الله ﷺ، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى، إذ لم يقبلها بنو تميم».

فقالوا: قبلنا يا رسول الله.

وقد رواه الترمذي، والنسائي من حديث الثوري به.

وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن، وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بني تميم وإن كان متأخرا قدومهم، لا يلزم من هذا أن يكون مقارنا لقدوم الأشعريين، بل الأشعريين متقدم وفدهم على هذا، فإنهم قدموا صحبة أبي موسى الأشعري، في صحبة جعفر ابن أبي طالب وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول الله ﷺ خيبر، كما قدمناه مبسوطا في موضعه.

وتقدم قوله ﷺ: «والله ما أدري بأيهما أسر، أبقدوم جعفر، أو بفتح خيبر». والله سبحانه وتعالى أعلم.

قصة عمان والبحرين

حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، سمع محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله ﷺ: «لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا» ثلاثا.

فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله ﷺ، فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى من كان له عند النبي ﷺ دين، أو عدة، فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله ﷺ قال: «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا، وهكذا ثلاثا».

قال: فأعرض عني، قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني.

فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، فأما أن تعطني، وإما أن تبخل عني.

قال: قلت: تبخل عني؟

قال: وأي داء أدوأ من البخل؟

قالها: ثلاثا، ما منعتك من مرة، إلا وأنا أريد أن أعطيك.

وهكذا رواه البخاري هاهنا، وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة به.

ثم قال البخاري بعده: وعن عمرو، عن محمد بن علي سمعت جابر بن عبد لله يقول: جئته فقال لي أبو بكر: عدها، فعددتها، فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين.

وقد رواه البخاري أيضا، عن علي بن المديني، عن سفيان هو - ابن عيينة -، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي أبي جعفر الباقر، عن جابر، كروايته له، عن قتيبة.

ورواه أيضا هو ومسلم من طرق أخر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر بنحوه.

وفي رواية أخرى له: أنه أمره فحثى بيديه من دراهم فعدها، فإذا هي خمسمائة، فأضعفها له مرتين - يعني: فكان جملة ما أعطاه ألفا وخمسمائة درهم -.

وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة، ومباعدا لهم إلى رسول الله ﷺ وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل الإسلام، أصابت همدان من قومه حتى أثخنوهم، وكان ذلك في يوم يقال له: الردم، وكان الذي قاد همدان إليهم الأجدع بن مالك.

قال ابن هشام: ويقال مالك بن خريم الهمداني.

قال ابن إسحاق: فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم:

مررْن على لفات وهن خوص * ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكنْ * منايانا وطعمة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال * تكز صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا

إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى في الأولى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤنا

فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقي الكرام إذا بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الأولينا

قال ابن إسحاق: ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله ﷺ مفارقا ملوك كندة قال:

لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها

قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله ﷺ قال له - فيما بلغني -: «يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم».

فقال: يا رسول الله من ذا الذي يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك؟

فقال له رسول الله ﷺ: «أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا».

واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله ﷺ.

قدوم عمرو بن معد يكرب في أناس من زبيد

قال ابن إسحاق: وقد كان عمرو بن معدي كرب قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله ﷺ: يا قيس إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له: محمد قد خرج بالحجاز يقال: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لن يخفى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه، فركب عمرو بن معدي كرب حتى قدم على رسول الله ﷺ فأسلم وصدقه وآمن به.

فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وقال: خالفني وترك أمري ورأيي.

فقال عمرو بن معدي كرب في ذلك:

أمرتك يوم ذي صن * عاء أمرا باديا رشده

أمرتك باتقاء الله وال * معروف تتعده

خرجت من المنى مثل ال * حمير غره وتده

تمناني على فرس * عليه جالسا أسده

علي مفاضة كالنن * هي أخلص ماءه جدده

ترد الرمح منثني ال * سنان عوائرا قصده

فلو لاقيتني للقي * ت ليثا فوقه لبده

تلاقى شنبثا شثن ال * براثن ناشرا كتده

يسامي القرن إنْ قرْن * تيممه فيعتضده

فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده

فيدمغه فيحطمه * فيمخضه فيزدرده

ظلوم الشرك فيما أح * رزتْ أنيابه ويده

قال ابن إسحاق: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله ﷺ ارتد عمرو بن معدي كرب فيمن ارتد وهجا فروة بن مسيك فقال:

وجدنا ملك فروة شر ملك * حمار ساف منخره بثفر

وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر

قلت: ثم رجع إلى الإسلام، وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، والشعراء المجيدين، توفي سنة إحدى وعشرين بعد ما شهد فتح نهاوند.

وقيل: بل شهد القادسية وقتل يومئذ.

قال أبو عمر ابن عبد البر: وكان وفوده إلى رسول الله ﷺ سنة تسع، وقيل: سنة عشر فيما ذكره ابن إسحاق والواقدي.

قلت: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، فالله أعلم.

قال يونس عن ابن إسحاق: وقد قيل: إن عمرو بن معدي كرب لم يأت النبي ﷺ وقد قال في ذلك:

إنني بالنبي موقنة نف * سي وإن لم أر النبي عيانا

سيد العالمين طرا وأدنا * هم إلى الله حين بان مكانا

جاء بالناموس من لدن الله و * كان الأمين فيه المعانا

حكمة بعد حكمة وضياء * فاهتدينا بنورها من عمانا

وركبنا السبيل حين ركبن * اه جديدا بكرهنا ورضانا

وعبدنا الإله حقا وكنا * للجهالات نعبد الأوثانا

وائتلفنا به وكنا عدوا * فرجعنا به معا إخوانا

فعليه السلام والسلام منا * حيث كنا من البلاد وكانا

إن نكن لم نر النبي فإنا * قد تبعنا سبيله إيمانا

قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله ﷺ الأشعث بن قيس في وفد كندة، فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبا من كندة فدخلوا على رسول الله ﷺ مسجده قد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة، قد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله ﷺ قال لهم: «ألم تسلموا».

قالوا: بلى!

قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟

قال: فشقوه منها فألقوه.

ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار.

قال: فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث».

وكانا تاجرين، إذ شاعا في العرب فسئلا ممن أنتما؟

قالا: نحن بنو آكل المرار - يعني: ينسبان إلى كندة - ليعزا في تلك البلاد، لأن كندة كانوا ملوكا، فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول عباس وربيعة نحن بنو آكل المرار، وهو الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي - ويقال ابن كندة - ثم قال رسول الله ﷺ لهم: «لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا».

فقال لهم الأشعث بن قيس: والله يا معشر كندة لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته بثمانين.

وقد روي هذا الحديث متصلا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة، حدثني عقيل بن طلحة، وقال عفان في حديثه، أنبأنا عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ في وفد كندة - قال عفان -: لا يروني أفضلهم، قال: قلت: يا رسول الله أنا ابن عم إنكم منا، قال: فقال رسول الله ﷺ: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نفقوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا».

قال: وقال الأشعث: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.

وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، وعن محمد بن يحيى، عن سليمان بن حرب، وعن هارون بن حيان، عن عبد العزيز بن المغيرة، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، حدثنا الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله ﷺ في وفد كندة، فقال لي: «هل لك من ولد»؟

قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة جمد ولوددت أن مكانه شبع القوم.

قال: «لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين، وأجرا إذا قبضوا، ثم لئن قلت ذاك إنهم لمجبنه محزنة، إنهم لمجنبة محزنة».

تفرد به أحمد، وهو حديث حسن جيد الإسناد.

قدوم أعشى بن مازن على النبي صلى الله عليه وسلم

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني العباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا أبو سلمة عبيد بن عبد الرحمن الحنفي قال: حدثني الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف بن نهصل الحرمازي، حدثني أبي أمين، عن أبيه ذروة، عن أبيه نضلة أن رجلا منهم يقال له: الأعشى واسمه عبد الله الأعور، كانت عنده امرأة يقال لها: معاذة، خرج في رجل يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له: مطرف بن نهشل بن كعب بن قميثع بن ذلف بن أهضم بن عبد الله بن الحرماز فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته، وأخبر أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرف بن نهشل، فأتاه فقال: يا ابن عم أعندك امرأتي فادفعها إلي.

قال ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك.

قال: وكان مطرف أعز منه.

قال: فخرج الأعشى حتى أتى النبي ﷺ فعاذ به فأنشأ يقول:

يا سيد الناس وديان العرب * إليك أشكو ذرْبة من الذرب

كالذئْبة العنساء في ظل السربْ * خرجت أبْغيها الطعام في رجبْ

فخلفتني بنزاع وهربْ * أخلفت الوعد ولطتْ بالذنبْ

وقد فتني بين عصر مؤتشبْ * وهن شر غالب لمن غلبْ

فقال النبي ﷺ عند ذلك: «وهن شر غالب لمن غلب»، فشكى إليه امرأته وما صنعت به، وإنها عند رجل منهم يقال له: مطرف بن نهشل.

فكتب له النبي ﷺ: «إلى مطرف انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه».

فأتاه كتاب النبي ﷺ فقرئ عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب النبي ﷺ فيك فأنا دافعك إليه.

فقالت: خذ لي عليه العهد والميثاق، وذمة نبيه أن لا يعاقبني فيما صنعت.

فأخذ لها ذلك عليه، ودفعها مطرف إليه، فأنشأ يقول:

لعمرك ما حبي معاذة بالذي * يغيره الواشي ولا قدم العهد

ولا سوء ما جاءتْ به إذْ أزالها * غواة الرجال إذْ يناجونها بعدي

قدوم صرد بن عبد الله الأزدي في نفر من قومه ثم وفود أهل جرش بعدهم

قال ابن إسحاق: وقدم صرد بن عبد الله الأزدي على رسول الله ﷺ في وفد من الأزد فأسلم وحسن إسلامه، وأمره رسول الله ﷺ على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فذهب فحاصر جرش وبها قبائل من اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم حين سمعوا بمسيره إليهم فأقام عليهم قريبا من شهر، فامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم حتى إذا كان قريبا من جبل يقال له: شكر فظنوا أنه قد ولى عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه فعطف عليهم فقتلهم قتلا شديدا، وقد كان أهل جرش بعثوا منهم رجلين إلى رسول الله ﷺ إلى المدينة فبينما هم عنده بعد العصر، إذ قال: «بأي بلاد الله شكر؟».

فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له: كشر، وكذلك تسميه أهل جرش.

فقال: «إنه ليس بكشر، ولكنه شكر».

قالا: فما شأنه يا رسول الله؟

فقال: «إن بدن الله لتنحر عنده الآن».

قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر، أو إلى عثمان فقال لهما: ويحكما إن رسول الله ﷺ الآن لينعى إليكما قومكما، فقوما إليه فاسألاه أن يدعو الله فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك.

فقال: «اللهم ارفع عنهم».

فرجعا فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أخبر عنهم رسول الله ﷺ، وجاء وفد أهل جرش بمن بقي منهم حتى قدموا على رسول الله ﷺ فأسلموا وحسن إسلامهم، وحمى لهم حول قريتهم.

قدوم رسول ملوك حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله كتاب ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم مقدمه من تبوك.

وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، قيل: ذي رعين، ومعافر، وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله ﷺ:

«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله النبي إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل: ذي رعين، ومعافر، وهمدان؛ أما بعد ذلكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو فإنه قد وقع نبأ رسولكم منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغاني خمس الله، وسهم النبي ﷺ وصفيه وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء وعلى ما سقي الغرب نصف العشر، وأن في الإبل في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى، حر أو عبد دينار واف، من قيمة المعافري أو عرضه ثيابا.

فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فانه عدو لله ولرسوله، أما بعد فإن رسول الله محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذ أتاك رسلي فأوصيكم بهم خيرا:

معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن إلا راضيا، أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير وآمرك بحمير خيرا ولا تخونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب فآمركم به خيرا، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم فآمركم بهم خيرا، فإنهم منظور إليهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا عمارة عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن مالك ذي يزن أهدى إلى رسول الله ﷺ حلة قد أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرا وثلاثة وثلاثين ناقة.

ورواه أبو داود عن عمرو بن عون الواسطي، عن عمارة بن زاذان الصيدلاني، عن ثابت البناني، عن أنس به.

وقد رواه الحافظ البيهقي ها هنا - حديث كتاب عمرو بن حزم - فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله ابن أبي بكر عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: هذا كتاب رسول الله ﷺ عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابا وعهدا وأمره فيه أمره، فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره: بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوه والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وأن ينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله حرم الظلم ونهى عنه.

فقال تعالى: { ألا لعْنة الله على الظالمين * الذين يصدون عنْ سبيل الله } [26].

وأن يبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه وما أمره الله به، والحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة، وأن ينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا فيخالف بين طرفيه عاتقيه، وينهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء، ولا ينقض شعر رأسه إذا عفى في قفاه، وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعى إلى العشائر والقبائل فليعطفوا فيه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمرهم الله عز وجل، وأمروا بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود، وأن يغلس الصبح وأن يهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مبدرة، والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل، وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي بها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار فيما سقى المغل، وفيما سقت السماء العشر، وما سقى الغرب فنصف العشر، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي عشرين أربع شياه، وفي أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد فهو خير له، ومن أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه فدان دين الإسلام، فإنه من المؤمنين له مالهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها، وعلى كل حالم ذكر وأنثى حر أو عبد دينار واف أو عرضه من الثياب، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله ورسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله والمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

قال الحافظ البيهقي: وقد روى سليمان بن داود عن الزهري، عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده هذا الحديث موصولا بزيادات كثيرة، ونقصان عن بعض ما ذكرناه في الزكاة، والديات وغير ذلك.

قلت: ومن هذا الوجه رواه الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي في سننه مطولا.

وأبو داود في كتاب المراسيل، وقد ذكرت ذلك بأسانيده وألفاظه في السنن ولله الحمد والمنة.

وسنذكر بعد الوفود بعث النبي ﷺ الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس، وأخذ صدقاتهم وأخماسهم معاذ بن جبل، وأبو موسى، وخالد بن الوليد، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

قدوم جرير بن عبد الله البجلي وإسلامه

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو قطن، حدثني يونس عن المغيرة بن شبل قال: قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ثم دخلت فإذا رسول الله ﷺ يخطب فرماني الناس بالحدق.

فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكرني رسول الله ﷺ، قال: نعم!ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، وقال: «يدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن إلا أن على وجهه مسحة ملك»

قال جرير: فحمدت الله عز وجل على ما أبلاني.

قال أبو قطن: فقلت له: سمعته منه أو سمعته من المغيرة بن شبل.

قال: نعم!

ثم رواه الإمام أحمد عن أبي نعيم وإسحاق بن يوسف.

وأخرجه النسائي من حديث الفضل بن موسى ثلاثتهم عن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي، عن المغيرة بن شبل، - ويقال: ابن شبيل - عن عوف البجلي الكوفي، عن جرير بن عبد الله وليس له عنه غيره.

وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بقصته «يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك» الحديث.

وهذا على شرط الصحيحين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن جرير قال: ما حجبني رسول الله ﷺ منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي.

وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم عنه.

وفي الصحيحين زيادة: وشكوت إلى رسول الله ﷺ أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده على صدري.

وقال: «اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا».

ورواه النسائي عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، عن قيس عنه، وزاد فيه - «يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك» - فذكر نحو ما تقدم.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمر وعثمان بن أحمد السماك، حدثنا الحسن بن سلام السواق، حدثنا محمد بن مقاتل الخراساني، حدثنا حصين بن عمر الأحمسي، حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد - أو قيس ابن أبي حازم - عن جرير بن عبد الله قال: بعث إلي رسول الله ﷺ فأتيته فقال: «يا جرير لأي شيء جئت؟».

قلت: أسلم على يديك يا رسول الله.

قال: فألقى علي كساء ثم أقبل علي أصحابه فقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه».

ثم قال: «يا جرير أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة».

ففعلت ذلك، فكان بعد ذلك لا يراني إلا تبسم في وجهي.

هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث إسماعيل ابن أبي خالد به.

وهو في الصحيحين من حديث زياد بن علاثة، عن جرير به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا زائدة، ثنا عاصم عن سفيان - يعني: أبا وائل - عن جرير قال: قلت: يا رسول الله اشترط علي فأنت أعلم بالشرط.

قال: «أبايعك على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من الشرك».

ورواه النسائي من حديث شعبة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن جرير.

وفي طريق أخرى عن الأعمش، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي نخيلة، عن جرير به، فالله أعلم.

ورواه أيضا عن محمد بن قدامة، عن جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، والشعبي، عن جرير به.

ورواه عن جرير عبد الله بن عميرة.

رواه أحمد منفردا به، وابنه عبيد الله بن جرير، أحمد أيضا منفردا به، وأبو جميلة، وصوابه (نخيلة).

ورواه أحمد والنسائي.

ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن رجل، عن جرير فذكره.

والظاهر أن هذا الرجل هو أبو نخيلة البجلي، والله أعلم.

وقد ذكرنا بعث النبي ﷺ له حين أسلم إلى ذي الخلصة، بيت كان يعبده خثعم وبجيلة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية يضاهون به الكعبة التي بمكة، ويقولون للتي ببكة: الكعبة الشامية، ولبيتهم الكعبة اليمانية، فقال له: رسول الله ﷺ: «ألا تريحني من ذي الخلصة».

فحينئذ شكى إلى النبي ﷺ أنه لا يثبت على الخيل، فضرب بيده الكريمة على صدره حتى أثرت فيه، وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا».

فلم يسقط بعد ذلك عن فرس، ونفر إلى ذي الخلصة في خمسين ومائة راكب من قومه من أحمس، فخرب ذلك البيت وحرقه، حتى تركه مثل الجمل الأجرب، وبعث إلى النبي ﷺ بشيرا يقال له: أبو أرطاة، فبشره بذلك، فبرك رسول الله ﷺ على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

والحديث مبسوط في الصحيحين، وغيرهما كما قدمناه بعد الفتح استطرادا بعد ذكر تخريب بيت العزى على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه.

والظاهر أن إسلام جرير رضي الله عنه كان متأخرا عن الفتح بمقدار جيد، فإن الإمام أحمد قال: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة بن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: إنما أسلمت بعد ما أنزلت المائدة، وأنا رأيت رسول الله ﷺ يمسح بعد ما أسلمت.

تفرد به أحمد وهو إسناد جيد، اللهم إلا أن يكون منقطعا بين مجاهد وبينه.

وثبت في الصحيحين أن أصحاب عبد الله بن مسعود كان يعجبهم حديث جرير في مسح الخف، لأن إسلام جرير إنما كان بعد نزول المائدة، وسيأتي في حجة الوداع أن رسول الله ﷺ قال له: «استنصت الناس يا جرير» وإنما أمره بذلك لأنه كان صبيا وكان ذا شكل عظيم، كانت نعله طولها ذراع، وكان من أحسن الناس وجها، وكان مع هذا من أغض الناس طرفا، ولهذا روينا في الحديث الصحيح عنه أنه قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة.

فقال: «أطرق بصرك».

وفادة وائل بن حجر أحد ملوك اليمن

وفادة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمي ابن هنيد أحد ملوك اليمن على رسول الله ﷺ.

قال أبو عمر ابن عبد البر: كان أحد أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم، ويقال: أن رسول الله ﷺ بشر أصحابه قبل قدومه به، وقال: «يأتيكم بقية أبناء الملوك».

فلما دخل رحب به وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه، وقال: «اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده».

واستعمله على الأقيال من حضرموت، وكتب معه ثلاث كتب؛ منها كتاب إلى المهاجر ابن أبي أمية، وكتاب إلى الأقيال، والعياهلة، وأقطعه أرضا، وأرسل معه معاوية ابن أبي سفيان فخرج معه راجلا فشكى إليه حر الرمضاء، فقال: «انتعل ظل الناقة».

فقال: وما يغني عني ذلك لو جعلتني ردفا.

فقال له وائل: اسكت فلست من أرادف الملوك.

ثم عاش وائل بن حجر حتى وفد على معاوية وهو أمير المؤمنين فعرفه معاوية فرحب به، وقربه وأدناه، وأذكره الحديث، وعرض عليه جائزة سنية فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها من هو أحوج إليها مني.

وأورد الحافظ البيهقي بعض هذا، وأشار إلى أن البخاري في (التاريخ) روى في ذلك شيئا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، أنبأنا شعبة عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه أن رسول الله ﷺ أقطعه أرضا، قال: وأرسل معي معاوية أن أعطيها إياه - أو قال: أعلمها إياه -، قال: فقال معاوية: أردفني خلفك.

فقلت: لا تكون من أرداف الملوك.

قال: فقال: أعطني نعلك.

فقلت: انتعل ظل الناقة.

قال: فلما استخلف معاوية أتيته فأقعدني معه على السرير، فذكرني الحديث - قال سماك -: فقال: وددت أني كنت حملته بين يدي.

وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث شعبة، وقال الترمذي: صحيح.

وفادة لقيط بن عامر المنتفق أبي رزين العقيلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال عبد الله بن الإمام أحمد: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث بذلك عني.

قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، حدثني عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري القبائي من بني عمرو بن عوف، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم: وحدثنيه أبي الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيطا خرج وافدا إلى رسول الله ﷺ ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.

قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله ﷺ المدينة، انسلاخ رجب فأتينا رسول الله ﷺ فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لأسمعنكم ألا فهل من امرئ بعثه قومه».

فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه، أو حديث صاحبه، أو يلهيه الضلال ألا إني مسئول هل بلغت ألا فاسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا أجلسوا.

قال: فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله ما عندك من علم الغيب؟

فضحك لعمر الله وهز رأسه، وعلم أني أبتغي لسقطه.

فقال: «ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله» وأشار بيده.

قلت: وما هي؟

قال: «علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمون، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مسنتين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قريب».

قال لقيط: قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا - وعلم يوم الساعة -.

قلنا: يا رسول علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم، فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد، من مذحج التي تربوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها.

قال: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عز وجل يطوف بالأرض وقد خلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من عند رأسه، فيستوي جالسا فيقول: ربك عز وجل مهيم؟ لما كان فيه فيقول: يا رب أمس اليوم - فلعهده بالحياة يتحسبه حديثا بأهله».

قلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح، والبلى، والسباع؟

فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحي أبدا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شرية واحدة، فلعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه، وينظر إليكم».

قال: قلت: يا رسول الله وكيف ونحن ملء الأرض، وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه.

فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما، ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما».

قلت: يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟

قال: «تعرضون عليه بادية له صحائفكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قلبكم بها، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأما المسلم فتدع على وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم، وينصرف على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك عز وجل: أوانه فتطلعون على حوض الرسول على أطماء، والله ناهلة عليها ما رأيتها قط، فلعمر إلهك لا يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول، والأذى وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا».

قال: قلت: يا رسول الله فيم نبصر؟

قال: «مثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال».

قال: قلت: يا رسول الله فيم نجزي من سيآتنا وحسناتنا؟

قال: «الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو».

قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة وإما النار.

قال: «لعمر إلهك إن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما، وإن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».

قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة.

قال: «على أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس، ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن وفاكهة، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة».

قلت: يا رسول الله ولنا فيها أزواج، أو منهن مصلحات.

قال: «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذونكم غير أن لا توالد».

قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النبي ﷺ.

قلت: يا رسول الله علام أبايعك.

فبسط النبي يده وقال: «على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشرك، وأن لا تشرك بالله إلها غيره».

قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض النبي ﷺ يده وبسط أصابعه وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه.

قال: قلت: تحل منها حيث شئنا ولا يجني منها امرؤ إلا على نفسه.

فبسط يده وقال: «وذلك لك تحل حيث شئت ولا تجني عليك إلا نفسك».

قال: فانصرفنا عنه.

ثم قال: «إن هذين من لعمر إلهك أتقى الناس في الأولى والآخرة».

فقال له كعب بن الحدارية أحد بني كلاب منهم: يا رسول الله بنو المنتفق أهل ذلك منهم؟

قال: فانصرفنا وأقبلت عليه - وذكر تمام الحديث إلى أن قال - فقلت: يا رسول الله هل لأحد ممن مضى خير في جاهليته.

قال: فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار.

قال: فلكأنه وقع حر بين جلدتي وجهي ولحمي مما قال، لأني على رؤس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله، ثم إذا الأخرى أجمل.

فقلت: يا رسول الله وأهلك؟

قال: «وأهلي لعمر الله، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك، وبطنك في النار».

قال: قلت: يا رسول الله ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وقد كانوا يحسبون أنهم مصلحون.

قال: «ذلك بأن الله يبعث في آخر كل سبع أمم - يعني: نبيا - فمن عصى نبيه كان من الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين».

هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة.

وقد أخرجه البيهقي في (كتاب البعث والنشور).

وعبد الحق الإشبيلي في (العاقبة).

والقرطبي في كتاب (التذكرة في أحوال الآخرة).

وسيأتي في كتاب البعث والنشور إن شاء الله تعالى.

وفادة زياد بن الحارث رضي الله عنه

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو أحمد الأسداباذي بها، أنبأنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، حدثني زياد بن نعيم الحضرمي، سمعت زياد بن الحارث الصدائي يحدث قال: أتيت رسول الله ﷺ فبايعته على الإسلام، فأخبرت أنه قد بعث جيشا إلى قومي.

فقلت: يا رسول الله أردد الجيش وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم.

فقال لي: «اذهب فردهم».

فقلت: يا رسول الله!إن راحلتي قد كلت، فبعث رسول الله ﷺ رجلا فردهم.

قال الصدائي: وكتبت إليهم كتابا فقدم وفدهم بإسلامهم.

فقال لي رسول الله ﷺ: «يا أخا صداء!إنك لمطاع في قومك».

فقلت: بل هو الله هداهم للإسلام.

فقال: «أفلا أومرك عليهم».

قلت: بلى يا رسول الله.

قال: فكتب لي كتابا أمرني.

فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم.

قال: «نعم!».

فكتب لي كتابا آخر.

قال الصدائي: وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول الله ﷺ منزلا فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم، ويقولون: أخذنا بشيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية.

فقال رسول الله: «أوفعل ذلك؟».

قالوا: نعم!.

فالتفت رسول الله ﷺ إلى أصحابه وأنا فيهم فقال: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن».

قال الصدائي: فدخل قوله في نفسي ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله أعطني.

فقال رسول الله ﷺ: «من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن».

فقال السائل: أعطني من الصدقة.

فقال رسول الله: «إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك».

قال الصدائي: فدخل ذلك في نفسي أني غني، وإني سألته من الصدقة.

قال: ثم إن رسول الله اعتشى من أول الليل فلزمته وكنت قريبا، فكان أصحابه ينقطعون عنه، ويستأخرون منه ولم يبق معه أحد غيري، فلما كان أوان صلاة الصبح أمرني فأذنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله؟

فجعل ينظر ناحية المشرق إلى الفجر، ويقول: «لا» حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز، ثم انصرف إلي وهو متلاحق أصحابه، فقال: «هل من ماء يا أخا صداء؟».

قلت: لا إلا شيء قليل لا يكفيك.

فقال: «اجعله في إناء ثم ائتني به».

ففعلت فوضع كفه في الماء قال: فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور.

فقال رسول الله ﷺ: «لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي من له حاجة في الماء».

فناديت فيهم فأخذ من أراد منهم شيئا، ثم قام رسول الله ﷺ إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم.

فقال له رسول الله: «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم».

قال الصدائي: فأقمت، فلما قضى رسول الله الصلاة أتيته بالكتابين، فقلت: يا رسول الله أعفني من هذين.

فقال: «ما بدا لك؟».

فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» وأنا أومن بالله وبرسوله.

وسمعتك تقول للسائل: «من سأل الناس عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في البطن» وسألتك وأنا غني.

فقال: «هو ذاك، فإن شئت فأقبل وإن شئت فدع».

فقلت: أدع.

فقال لي رسول الله: «فدلني على رجل أؤمره عليكم».

فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمره عليهم.

ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، فقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق!

فدعا سبع حصيات فعركهن بيده ودعا فيهن.

ثم قال: «اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة واحدة، واذكروا الله».

قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعني: البئر -.

وهذا الحديث له شواهد في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وقد ذكر الواقدي أن رسول الله ﷺ كان بعث بعد عمرة الجعرانة قيس بن سعد بن عبادة في أربعمائة إلى بلاد صداء فيوطئها، فبعثوا رجلا منهم فقال: جئتك لترد عن قومي الجيش وأنا لك بهم، ثم قدم وفدهم خمسة عشر رجلا، ثم رأى منهم حجة الوداع مائة رجل.

ثم روى الواقدي عن الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي قصته في الأذان.

وفادة الحارث بن حسان البكري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله ﷺ فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها.

فقالت: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟.

قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله ﷺ.

فقلت: ما شأن الناس؟

قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.

قال: فجلست فدخل منزله، أو قال: رحله، فاستأذنت عليه، فأذن لي فدخلت فسلمت.

فقال: «هل كان بينكم وبين تميم شيء؟».

قلت: نعم!وكانت الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت.

فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت.

وقالت: يا رسول الله أين يضطر مضرك؟.

قال: قلت: إن مثلي ما قال الأول معزى حملت حتفها حملت هذه، ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد.

قالت هي: وما وافد عاد؟ وهي أعلم بالحديث منه ولكن تستطعمه.

قلت: إن عاد قحطوا، فبعثوا وفدا لهم يقال له: قيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا.

قال: فلما بلغني أنه أرسل عليهم الريح إلا بقدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا.

قال - أبو وائل وصدق -: وكانت المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا يكن كوافد عاد.

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي المنذر سلام بن سليمان به.

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم ابن أبي النجود، عن الحارث البكري، ولم يذكر أبا وائل.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث.

والصواب عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث كما تقدم.

وفادة عبد الرحمن ابن أبي عقيل مع قومه

قال أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي، أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، أنبانا علي بن الجعد عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا أبو خالد يزيد الأسدي، ثنا عون ابن أبي جحيفة، عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي، عن عبد الرحمن ابن أبي عقيل قال: انطلقت في وفد إلى رسول الله ﷺ فأتيناه فأنخنا بالباب، فما في الناس رجل أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فلما دخلنا وخرجنا فما في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه. قال: فقال قائل منا: يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان؟

قال: فضحك رسول الله ﷺ ثم قال: «فلعل صاحبك عند الله أفضل من ملك سليمان، إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة».

قدوم طارق بن عبيد الله وأصحابه

روى الحافظ البيهقي من طريق أبي خباب الكلبي عن جامع بن شداد المحاربي، حدثني رجل من قومي يقال له: طارق بن عبد الله قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وهو يقول: يا أيها الناس إنه كذاب.

فقلت: من هذا؟

فقالوا: هذا غلام من بني هاشم يزعم أنه رسول الله.

قال: قلت: من هذا الذي يفعل به هذا؟

قالوا: هذا عمه عبد العزى.

قال: فلما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلت: لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه، إذا رجل في طمرين فسلم علينا وقال: من أين أقبل القوم؟

قلنا: من الربذة.

قال: وأين تريدون؟

قلنا: نريد هذه المدينة.

قال: ما حاجتكم منها؟

قلنا: نمتار من تمرها.

قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم.

فقال: أتبيعوني جملكم هذا؟

قلنا: نعم!بكذا وكذا صاعا من تمر.

قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئا، وأخذ بخطام الجمل وانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها.

قلنا: ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن يعرف، ولا أخذنا له ثمنا.

قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم، إذ أقبل الرجل فقال: أنا رسول الله إليكم، هذا تمركم فكلوا، واشبعوا، واكتالوا، واستوفوا، فأكلنا، وشبعنا، واكتلنا، واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فدخلنا المسجد فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من خطبته وهو يقول: «تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك».

إذ أقبل رجل من بني يربوع أو قال: رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية، فقال: «إن أبا لا يجني على ولد، ثلاث مرات».

وقد روى النسائي فضل الصدقة منه عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد ابن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق بن عبد الله المحاربي ببعضه.

ورواه الحافظ البيهقي أيضا عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن يزيد بن زياد، عن جامع بن طارق بطوله، كما تقدم وقال فيه: فقالت الظعينة: لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.

قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان

قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ثم النفاثي إلى رسول الله ﷺ رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم.

فقال في محبسه ذلك:

طرقتْ سليمى موهنا أصحابي * والروم بين الباب والقروان

صد الخيال وساءه ما قدْ رأى * وهممْت أنْ أغْفى وقدْ أبْكاني

لا تكْحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدين للإتيان

ولقدْ علمت أبا كبيشة أنني * وسط الأعزة لا يحص لساني

فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت ليعرفن مكاني

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان

قال: فلما أجمعت الروم على صلبه على ماء لهم يقال له: عفرى بفلسطين قال:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها * مشذبه أطرافها بالمناجل

قال: وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:

بلغ سراة المسْلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي

قال: ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه.

قدوم تميم الداري على رسول الله صلى الله عليه وسلم

في خروج النبي ﷺ وإيمان من آمن به

أخبرنا: أبو عبد الله سهل بن محمد بن نصرويه المروزي بنيسابور، أنبانا أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن القاضي، أنبأنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبير، أنبأنا وهب بن جرير، حدثنا أبي سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: قدم على رسول الله ﷺ تميم الداري، فأخبر رسول الله ﷺ أنه ركب البحر فتاهت به سفينته، فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء، فلقي إنسانا يجر شعره فقال له: من أنت؟

قال: أنا الجساسة.

قالوا: فأخبرنا.

قال: لا أخبركم، ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد فقال: من أنتم؟

قلنا: ناس من العرب.

قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟

قلنا: قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه.

قال: ذلك خير لهم.

قال: أفلا تخبروني عن عين زعر ما فعلت.

فأخبرناه عنها، فوثب وثبة كاد أن يخرج من وراء الجدار ثم قال: ما فعل نخل بيسان هل أطعم بعد.

فأخبرناه: أنه قد أطعم، فوثب مثلها، ثم قال: أما لوقد أذن لي في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة.

قالت: فأخرجه رسول الله ﷺ فحدث الناس فقال: «هذه طيبة، وذاك الدجال».

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن فاطمة بنت قيس.

وقد أورد له الإمام أحمد شاهدا من رواية أبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين.

وسيأتي هذا الحديث بطرقه وألفاظه في كتاب الفتن.

وذكر الواقدي وفد الدارين من لخم وكانوا عشرة.

وفد بني أسد

وهكذا ذكر الواقدي: أنه قدم على رسول الله ﷺ في أول سنة تسع وفد بني أسد وكانوا عشرة؛ منهم: ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ونفادة بن عبد الله بن خلف، فقال له رئيسهم حضرمي بن عامر: يا رسول الله أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء، ولم تبعث إلينا بعثا، فنزل فيهم: { يمنون عليْك أنْ أسْلموا قلْ لا تمنوا علي إسْلامكمْ بل الله يمن عليْكمْ أنْ هداكمْ للْإيمان إنْ كنْتمْ صادقين } [27].

وكان فيهم قبيلة يقال لهم: بنو الرتية، فغير اسمهم فقال: «أنتم بنو الرشدة» وقد استهدى رسول الله ﷺ من نفادة بن عبد الله بن خلف ناقة تكون جيدة للركوب وللحلب من غير أن يكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له فجاء بها، فأمره رسول الله ﷺ بحلبها فشرب منها وسقاه سؤره، ثم قال: «اللهم بارك فيها وفيمن منحها».

فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها.

فقال: «وفيمن جاء بها».

وفد بني عبس

ذكر الواقدي: أنهم كانوا تسعة نفر وسماهم الواقدي.

فقال لهم النبي ﷺ: «أنا عاشركم» وأمر طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء وجعل شعارهم: يا عشرة، وذكر أن رسول الله ﷺ سألهم عن خالد بن سنان العبسي - الذي قدمنا ترجمته في أيام الجاهلية - فذكروا أنه لا عقب له، وذكر أن رسول الله ﷺ بعثهم يرصدون عيرا لقريش قدمت من الشام، وهذا يقتضي تقدم وفادتهم على الفتح، والله أعلم.

وفد بني فزارة

قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمر الجمحي، عن أبي وجزة السعدي قال: لما رجع رسول الله من تبوك وكان سنة تسعة قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا؛ فيهم: خارجة بن حصن، والحارث بن قيس بن حصن وهو أصغرهم، على ركاب عجاف فجاؤا مقرين بالإسلام.

وسألهم رسول الله عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جناتنا، وغرث عيالنا، فادع الله لنا، فصعد رسول الله المنبر ودعا فقال: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء».

قال: فمطرت فما رأوا السماء سبتا، فصعد رسول الله المنبر فدعا فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر» فانجابت السماء عن المدينة انجياب الثوب.

وفد بني مرة

قال الواقدي: إنهم قدموا سنة تسع عند مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر رجلا؛ منهم: الحارث بن عوف، فأجازهم عليه السلام بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف اثنتي عشر أوقية، وذكروا بأن بلادهم مجدبة، فدعا لهم فقال: «اللهم اسقهم الغيث».

فلما رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مطرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله ﷺ.

وفد بني ثعلبة

قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه قال: لما قدم رسول الله ﷺ من الجعرانة سنة ثمان قدمنا عليه أربعة نفر، فقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، وهم يقرون بالإسلام، فأمر لنا بضيافة، وأقمنا أياما ثم جئناه لنودعه.

فقال لبلال: «أجزهم كما تجيز للوفد» فجاء ببقر من فضة فأعطى كل رجل منا خمس أواق، وقال: ليس عندنا دراهم، وانصرفنا إلى بلادنا.

وفد بني محارب

قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح عن أبي وجزة السعدي قال: قدم وفد محارب سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر؛ فيهم: سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء، وعشاء، فأسلموا وقالوا: نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد في تلك المواسم أفظ ولا أغلظ على رسول الله منهم، وكان في الوفد رجل منهم فعرفه رسول الله ﷺ فقال: الحمد لله الذي أبقاني حتى صدقت بك.

فقال رسول الله ﷺ: «إن هذه القلوب بيد الله عز وجل». ومسح رسول الله وجه خزيمة بن سواء فصارت غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى بلادهم.

وفد بني كلاب

ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلا؛ منهم: لبيد بن ربيعة الشاعر، وجبار بن سلمى، وكان بينه وبين كعب بن مالك خلة فرحب به وأكرمه وأهدى إليه، وجاؤا معه إلى رسول الله ﷺ فسلموا عليه بسلام الإسلام، وذكروا له أن الضحاك بن سفيان الكلابي سار فيهم بكتاب الله، وسنة رسوله التي أمره الله بها، ودعاهم إلى الله فاستجابوا له، وأخذ صدقاتهم من أغنيائهم، فصرفها على فقرائهم.

وفد بني رؤاس من كلاب

ثم ذكر الواقدي: أن رجلا يقال له: عمرو بن مالك بن قيس بن بجيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قدم على رسول الله ﷺ فأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الله.

فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا، فذكر مقتلة كانت بينهم وأن عمرو بن مالك هذا قتل رجلا من بني عقيل، قال: فشددت يدي في غل، وأتيت رسول الله ﷺ وبلغه ما صنعت.

فقال: «لئن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده».

فلما جئت سلمت، فلم يرد علي السلام، وأعرض فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن يساره فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه فقلت: يا رسول الله إن الرب عز وجل ليرتضي فيرضى، فارض عني، رضي الله عنك.

قال: «قد رضيت».

وفد بني عقيل بن كعب

ذكر الواقدي: أنهم قدموا على رسول الله ﷺ فأقطعهم العقيق - عقيق بنى عقيل - وهي أرض فيها نخيل وعيون، وكتب بذلك كتابا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرفا، وأنسا، أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وسمعوا وطاعوا، ولم يعطهم حقا لمسلم» فكان الكتاب في يد مطرف.

قال: وقدم عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وهو أبو رزين - فأعطاه ماء يقال له: النظيم، وبايعه على قومه، وقد قدمنا قدومه، وقصته، وحديثه بطوله، ولله الحمد والمنة.

وفد بني قشير بن كعب

وذلك قبل حجة الوداع، وقبل حنين، فذكر فيهم: قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير فأسلم، فأعطاه رسول الله ﷺ وكساه بردا، وأمره أن يلي صدقات قومه، فقال قرة حين رجع:

حباها رسول الله إذْ نزلت به * وأمكنها من نائل غير منفد

فأضْحتْ بروض الخضر وهي حثيثة * وقد أنجحت حاجاتها من محمد

عليها فتى لا يردف الذم رحله * يروى لأمر العاجز المتردد

وفد بني البكاء

ذكر أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثين رجلا؛ فيهم: معاوية بن ثور بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له: بشر، فقال: يا رسول الله إني أتبرك بمسك وقد كبرت، وابني هذا بر بي، فامسح وجهه، فمسح رسول الله ﷺ وجهه، وأعطاه أعنزا عفرا، وبرك عليهن فكانوا لا يصيبهم بعد ذلك قحط ولا سنة.

وقال محمد بن بشر بن معاوية في ذلك:

وأبي الذي مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير والبركات

أعطاه أحمد إذْ أتاه أعنزا * عفرا نواحل لسن باللحيات

يملأن وفد الحي كل عشية * ويعود ذاك الملئ بالغدوات

بوركْن من منح وبورك مانحا * وعليه مني ما حييت صلاتي

وفد كنانة

روى الواقدي بأسانيده: أن واثلة بن الأسقع الليثي قدم على رسول الله ﷺ وهو يتجهز إلى تبوك، فصلى معه الصبح، ثم رجع إلى قومه فدعاهم وأخبرهم عن رسول الله ﷺ، فقال أبوه: والله لا أحملك أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت، وجهزته حتى سار مع رسول الله ﷺ إلى تبوك، وهو راكب على بعير لكعب بن عجرة، وبعثه رسول الله ﷺ مع خالد إلى أكيدر دومة، فلما رجعوا عرض واثلة على كعب بن عجرة ما كان شارطه عليه من سهم الغنيمة.

فقال له كعب: إنما حملتك لله عز وجل.

وفد أشجع

ذكر الواقدي: أنهم قدموا عام الخندق، وهم مائة رجل، ورئيسهم: مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سلع، فخرج إليهم رسول الله وأمر لهم بأحمال التمر.

ويقال: بل قدموا بعد ما فرغ من بني قريظة، وكانوا سبع مائة رجل فوادعهم، ورجعوا ثم أسلموا بعد ذلك.

وفد باهلة

قدم رئيسهم: مطرف بن الكاهن بعد الفتح فأسلم، وأخذ لقومه أمانا، وكتب له كتابا فيه الفرائض، وشرائع الإسلام، كتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفد بني سليم

قال: وقدم على رسول الله ﷺ رجل من بني سليم يقال له: قيس بن نشبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سليم فقال: سمعت ترجمة الروم، وهيمنة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكهان، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم فأطيعوني، وخذوا بنصيبكم منه.

فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم فلقوا رسول الله ﷺ بقديد، وهم سبع مائة، ويقال: كانوا ألفا، وفيهم: العباس بن مرداس، وجماعة من أعيانهم فأسلموا، وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدما، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح، والطائف، وحنينا.

وقد كان راشد بن عبد ربه السلمي يعبد صنما، فرآه يوما وثعلبان يبولان عليه فقال:

أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد زل من بالتْ عليه الثعالب

ثم شد عليه فكسره، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأسلم.

وقال له رسول الله ﷺ: «ما اسمك»؟

قال: غاوي بن عبد العزى.

فقال: «بل أنت راشد بن عبد ربه»، وأقطعه موضعا يقال له: رهاط، فيه عين تجري يقال لها: عين الرسول، وقال: «هو خير بني سليم» وعقد له على قومه، وشهد الفتح وما بعدها.

وفد بني هلال بن عامر

وذكر في وفدهم: عبد عوف بن أصرم فأسلم، وسماه رسول الله ﷺ عبد الله.

وقبيصة بن مخارق الذي له حديث في الصدقات، وذكر في وفد بني هلال: زياد بن عبد الله بن مالك بن نجير بن الهدم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر، فلما دخل المدينة يمم منزل خالته ميمونة بنت الحارث، فدخل عليها، فلما دخل رسول الله ﷺ منزله رآه فغضب ورجع، فقالت: يا رسول الله إنه ابن أختي، فدخل ثم خرج إلى المسجد ومعه زياد فصلى الظهر، ثم أدنا زيادا فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول: ما زلنا نتعرف البركة في وجه زياد.

وقال الشاعر لعلي بن زياد:

إنْ الذي مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير عند المسجد

أعْني زيادا لا أريد سواءه * من عابر أو متهم أو منجد

ما زال ذاك النور في عرنينه * حتى تبوأ بيته في ملحد

وفد بني بكر بن وائل

ذكر الواقدي: أنهم لما قدموا سألوا رسول الله ﷺ عن قس بن ساعدة.

فقال: ليس ذاك منكم، ذاك رجل من إياد تحنف في الجاهلية فوافى عكاظ، والناس مجتمعون فكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه.

قال: وكان في الوفد بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد، وحسان بن خوط.

فقال رجل من ولد حسان:

أنا وحسان بن خوط وأبي * رسول بكر كلها إلى النبي

وفد بني تغلب

ذكر أنهم كانوا ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث فصالح رسول الله ﷺ النصارى على أن لا يضيعوا أولادهم في النصرانية، وأجاز المسلمين منهم.

وفادات أهل اليمن: وفد تجيب

ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثة عشر رجلا، فأجازهم أكثر ما أجاز غيرهم، وأن غلاما منهم قال له رسول الله ﷺ: «ما حاجتك؟».

فقال: يا رسول الله أدع الله يغفر لي ويرحمني ويجعل غنائي في قلبي.

فقال: «اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه».

فكان بعد ذلك من أزهد الناس.

وفد خولان

ذكر أنهم كانوا عشرة، وأنهم قدموا في شعبان سنة عشر، وسألهم رسول الله ﷺ عن صنمهم الذي كان يقال له: عم أنس.

فقالوا: أبدلناه خيرا منه، ولو قد رجعنا لهدمناه، وتعلموا القرآن والسنن فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله.

وفد جعفي

ذكر أنهم كانوا يحرمون أكل القلب، فلما أسلم وفدهم أمرهم رسول الله ﷺ بأكل القلب، وأمر به فشوي وناوله رئيسهم وقال: «لا يتم إيمانكم حتى تأكلوه» فأخذه ويده ترعد فأكله وقال:

على أني أكلت القلب كرها * وترعد حين مسته بناني

فصل في قدوم الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر أبو نعيم في كتاب (معرفة الصحابة) والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد ابن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن مرثد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي، عن سويد بن الحارث قال: وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله ﷺ، فلما دخلنا عليه وكلمناه فأعجبه ما رأى من سمتنا وزينا.

فقال: «ما أنتم»؟

قلنا: مؤمنون.

فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم».

قلنا: خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا.

فقال رسول الله ﷺ: «ما الخمسة التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟».

قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.

قال: «وما الخمسة التي أمرتكم أن تعملوا بها؟».

قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

فقال: «وما الخمسة الذي تخلقتم بها في الجاهلية؟».

قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.

فقال رسول الله ﷺ: «حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء».

ثم قال: «وأنا أريدكم خمسا فيتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا مالا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون».

فانصرف القوم من عند رسول الله ﷺ وحفظوا وصيته، وعملوا بها.

وفد كندة

وأنهم كانوا بضعة عشر راكبا عليهم الأشعث بن قيس، وأنه أجازهم بعشر أواق، وأجاز الأشعث اثنتي عشرة أوقية، وقد تقدم.

وفد الصدف

قدموا في بضعة عشر راكبا فصادفوا رسول الله ﷺ يخطب على المنبر، فجلسوا ولم يسلموا فقال: «أمسلمون أنتم؟».

قالوا: نعم!

قال: «فهلا سلمتم».

فقاموا قياما فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

فقال: «وعليكم السلام اجلسوا».

فجلسوا وسألوا رسول الله ﷺ عن أوقات الصلوات.

وفد خشين

قال: وقدم أبو ثعلبة الخشني، ورسول الله يجهز إلى خيبر فشهد معه خيبر، ثم قدم بعد ذلك بضعة عشر رجلا منهم فأسلموا.

وفد بني سعد

ثم ذكر وفد بني سعد هذيم، وبلي وبهراء، وبني عذرة، وسلامان، وجهينة، وبني كلب، والجرميين.

وقد تقدم حديث عمرو بن سلمة الجرمي في صحيح البخاري.

وذكر: وفد الأزد، وغسان، والحارث بن كعب، وهمدان، وسعد العشيرة، وقيس، ووفد الداريين، والرهاويين، وبني عامر، والمسجع، وبجيلة، وخثعم، وحضرموت.

وذكر فيهم: وائل بن حجر، وذكر فيهم الملوك الأربعة: حميدا، ومخوسا، ومشرجا، وأبضعه.

وقد ورد في مسند أحمد: لعنهم مع أختهم العمردة.

وتكلم الواقدي كلاما فيه طول.

وذكر وفد أزد عمان، وغافق، وبارق، وثمالة، والحدار، وأسلم، وجذام، ومهرة، وحمير، ونجران، وحيسان، وبسط الكلام على هذه القبائل بطول جدا.

وقد قدمنا بعض ما يتعلق بذلك وفيما أوردناه كفاية، والله أعلم.

ثم قال الواقدي:

وفد السباع

حدثني: شعيب بن عبادة عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنظب قال: بينا رسول الله ﷺ جالس بالمدينة في أصحابه أقبل ذئب، فوقف بين يديه فعوى.

فقال رسول الله ﷺ: «هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحذرتم منه، فما أخذ فهو رزقه».

قالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا له بشيء، فأومأ إليه النبي ﷺ بأصابعه الثلاث أي: خالسهم فولى وله عسلان.

وهذا مرسل من هذا الوجه.

ويشبه هذا الذئب الذئب الذي ذكر في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبانا القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه.

فقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي.

فقال: يا عجبا، ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس.

فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد رسول الله ﷺ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق.

قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزاواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله ﷺ فأخبره، فأمر رسول الله ﷺ فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للأعرابي: «أخبرهم»، فأخبرهم.

فقال رسول الله ﷺ: «صدق والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وتكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده».

وقد رواه الترمذي: عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل به.

وقال: حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل به، وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث.

وثقه يحيى وابن مهدي.

قلت: وقد رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب - هو ابن أبي حمزة - حدثني عبد الله ابن أبي الحسين، حدثني مهران، أنبأنا أبو سعيد الخدري حدثه، فذكر هذه القصة بطولها بأبسط من هذا السياق.

ثم رواه أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا عبد الحميد بن بهرام، ثنا شهر قال: وحدث أبو سعيد فذكره.

وهذا السياق أشبه، والله أعلم.

وهو إسناد على شرط أهل السنن، ولم يخرجوه.

فصل ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة

وقد تقدم ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة، وقد تقصينا الكلام في ذلك عند قوله تعالى في سورة الأحقاف: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن»، فذكرنا ما ورد من الأحاديث في ذلك والآثار، وأوردنا حديث سواد بن قارب الذي كان كاهنا فأسلم، وما رواه عن رئيه الذي كان يأتيه بالخبر حين أسلم الرئي، حين قال له:

عجبت للجن وأنجاسها * وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمن الجن كأرجاسها

فانهضْ إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها

ثم قوله:

عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس قدامها كأذنابها

فانهضْ إلى الصفوة منْ هاشم * واسم بعينيك إلى بابها

ثم قوله: عجبت للجن وتخبارها * وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس ذوو الشر كأخيارها

فانهضْ إلى الصفوة منْ هاشم * ما مؤمنوا الجن ككفارها

وهذا وأمثاله مما يدل على تكرار وفود الجن إلى مكة، وقد قررنا ذلك هنالك بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق.

وقد أورد الحافظ أبو بكر البيهقي ها هنا حديثا غريبا جدا، بل منكرا أو موضوعا ولكن مخرجه عزيز، أحببنا أن نورده كما أورده، والعجب منه فإنه قال في (دلائل النبوة) باب ماروي في قدوم هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس على النبي ﷺ وإسلامه:

أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن داود العلوي رحمه الله، أنبأنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل القاري المروزي، ثنا عبد الله بن حماد الآملي، ثنا محمد ابن أبي معشر، أخبرني أبي عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: بينا نحن قعود مع النبي ﷺ على جبل من جبال تهامة، إذ أقبل شيخ بيده عصا فسلم على النبي ﷺ، فرد عليه السلام، ثم قال: «نغمة جن وغمغمتهم، من أنت؟»

قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس.

فقال النبي ﷺ: «فما بينك وبين إبليس إلا أبوان، فكم أتى لك من الدهر؟»

قال: قد أفنيت الدنيا عمرها إلا قليلا ليال قتل قابيل هابيل كنت غلاما ابن أعوام، أفهم الكلام وأمر بالآكام، وآمر بإفساد الطعام وقطيعة الأرحام.

فقال رسول الله ﷺ: «بئس عمل الشيخ المتوسم، والشاب المتلوم».

قال: ذرني من الترداد إني تائب إلى الله عز وجل، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني.

وقال: لا جرم إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

قال: قلت: يا نوح إني كنت ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم، فهل تجد لي عندك توبة؟

قال: يا هام هم بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة، إني قرأت فيما أنزل الله علي أنه ليس من عبد تاب إلى الله بالغ أمره ما بلغ إلا تاب الله عليه، قم فتوضأ واسجد لله سجدتين.

قال: ففعلت من ساعتي ما أمرني به، فناداني ارفع رأسك، فقد نزلت توبتك من السماء، فخررت لله ساجدا.

قال: وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني.

فقال: لاجرم إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

قال: وكنت مع صالح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني.

وقال: أنا على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

وكنت أزور يعقوب، وكنت مع يوسف في المكان الأمين، وكنت ألقى إلياس في الأودية وأنا ألقاه الآن، وإني لقيت موسى بن عمران فعلمني من التوراة.

وقال: إن لقيت عيسى بن مريم فأقره مني السلام، وإني لقيت عيسى بن مريم فأقرأته عن موسى السلام.

وإن عيسى قال: إن لقيت محمدا ﷺ فأقرئه مني السلام، فأرسل رسول الله ﷺ عينيه فبكى.

ثم قال: «وعلى عيسى السلام ما دامت الدنيا، وعليك السلام يا هام بأدائك الأمانة».

قال: يا رسول الله إفعل بي ما فعل بي موسى إنه علمني من التوراة.

قال: فعلمه رسول الله ﷺ «إذا وقعت الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، والمعوذتين، وقل هو الله أحد».

وقال: «ارفع إلينا حاجتك يا هامة، ولا تدع زيارتنا».

قال عمر: فقبض رسول الله ﷺ ولم يعد إلينا، فلا ندري الآن أحي هو أم ميت؟

ثم قال البيهقي: ابن أبي معشر هذا قد روى عنه الكبار إلا أن أهل العلم بالحديث يضعفونه، وقد روي هذا الحديث من وجه آخر هو أقوى منه، والله أعلم.

سنة عشر من الهجرة باب بعث رسول الله خالد بن الوليد

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران؛ وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم.

فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتاب الله وسنة نبيه ﷺ كما أمره رسول الله إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله ﷺ:

بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله، وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي ﷺ حتى يكتب إلي رسول الله ﷺ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فكتب إليه رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل، وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».

فأقبل خالد إلى رسول الله ﷺ، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم: قيس بن الحصين ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبيد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي، فلما قدموا على رسول الله ﷺ ورآهم، قال: «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟»

قيل: يا رسول الله هؤلاء بنوالحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله ﷺ سلموا عليه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله.

فقال رسول الله ﷺ: «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله».

ثم قال: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا».

فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية ثم الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله!نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرات.

فقال رسول الله ﷺ: «لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رؤسكم تحت أقدامكم».

فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا.

قال: «فمن حمدتم؟»

قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله.

فقال رسول الله ﷺ: «صدقتم».

ثم قال: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟».

قالوا: لم نك نغلب أحدا.

قال: «بلى قدكنتم تغلبون من قاتلكم».

قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، إنا كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم.

قال: «صدقتم».

ثم أمر عليهم قيس بن الحصين.

قال ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى قومهم، في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة، قال: ثم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره أمره.

ثم أورده ابن إسحاق، وقد قدمناه في وفد ملوك حمير من طريق البيهقي، وقد رواه النسائي نظير ما ساقه محمد بن إسحاق بغير إسناد.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى أهل اليمن

قال البخاري (باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع): حدثنا موسى، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك، عن أبي بردة قال: بعث النبي ﷺ أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال: واليمن مخلافان ثم قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا».

وفي رواية «وتطاوعا ولا تختلفا».

وانطلق كل واحد منهما إلى عمله قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه فإذا هو جالس وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيم هذا؟

قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه.

قال: لا أنزل حتى يقتل.

قال: إنما جيء به لذلك فانزل.

قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل ثم نزل.

فقال: يا عبد الله كيف تقرأ القرآن؟

قال: أتفوقه تفوقا.

قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟

قال: أنام أول الليل فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.

ثم قال البخاري: ثنا إسحاق، ثنا خالد عن الشيباني، عن سعيد ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله ﷺ بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: ما هي؟

قال: البتع، والمزر.

فقلت لأبي بردة: ما التبع؟

قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير.

فقال: «كل مسكر حرام».

رواه جرير، وعبد الواحد عن الشيباني، عن أبي بردة.

ورواه مسلم من حديث سعيد ابن أبي بردة.

وقال البخاري: حدثنا حبان، أنبأنا عبد الله عن زكريا ابن أبي إسحاق، عن يحيى بن عبد الله ابن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد عن عاصم بن حميد الكسوني، عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله ﷺ يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر مسجدي هذا وقبري».

فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله ﷺ، ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال: «إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا».

ثم رواه: عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، أن معاذ لما بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن، خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري».

فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله ﷺ.

فقال: «لا تبك يا معاذ للبكاء أوان، البكاء من الشيطان».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدثني أبو زياد يحيى بن عبيد الغساني عن يزيد بن قطيب، عن معاذ أنه كان يقول: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن فقال: «لعلك أن تمر بقبري ومسجدي، فقد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم يقاتلون على الحق مرتين، فقاتل بمن أطاعك منهم من عصاك، ثم يفيئون إلى الإسلام حتى تبادر المرأة زوجها، والولد والده، والأخ أخاه، فأنزل بين الحيين السكون والسكاسك».

وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذا رضي الله عنه لا يجتمع بالنبي ﷺ بعد ذلك وكذلك وقع فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاته عليه السلام بعد أحد وثمانين يوما من يوم الحج الأكبر.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن معاذ أنه لما رجع من اليمن قال: يا رسول الله رأيت رجالا باليمن يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك؟

قال: «لو كنت آمر بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وقد رواه أحمد: عن ابن نمير، عن الأعمش، سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن جبل قال: أقبل معاذ من اليمن فقال: يا رسول الله إني رأيت رجالا، فذكر معناه، فقصد دار على رجل منهم.

ومثله لا يحتج به، لا سيما وقد خالفه غيره ممن يعتد به، فقالوا: لما قدم معاذ من الشام.

كذلك رواه أحمد: ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن ابن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: «مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله».

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أن رسول الله ﷺ قال: «يا معاذ اتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».

قال وكيع: وجدته في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول.

وقال سفيان بن مرة: عن معاذ.

ثم قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن ليث، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أنه قال: يا رسول الله أوصني.

فقال: «اتق الله حيثما كنت».

قال: زدني.

قال: «اتبع السيئة الحسنة تمحها».

قال: زدني.

قال: «خالق الناس بخلق حسن».

وقد رواه الترمذي في جامعه: عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وقال: حسن.

قال شيخنا في (الأطراف) وتابعه فضيل بن سليمان: عن ليث ابن أبي سليم، عن الأعمش، عن حبيب به.

وقال أحمد: ثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: أوصاني رسول الله ﷺ بعشر كلمات.

قال: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن بالمعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأحبهم في الله عز وجل».

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا بقية عن السري بن ينعم، عن شريح، عن مسروق، عن معاذ بن جبل أن رسول الله ﷺ لما بعثه إلى اليمن قال: «إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين».

وقال أحمد: ثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا أبو بكر - يعني: ابن عياش - ثنا عاصم عن أبي وائل، عن معاذ قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا، وأمرني فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر.

وقد رواه أبو داود من حديث أبي معاوية.

والنسائي من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش كذلك.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ.

وقال أحمد: ثنا معاوية عن عمرو، وهارون بن معروف قالا: ثنا عبد الله بن وهب عن حيوة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سلمة بن أسامة، عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال: بعثني رسول الله ﷺ أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا.

قال هارون: والتبيع الجذع أو جذعة، ومن كل أربعين مسنة، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين، وما بين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك وقلت لهم: أسأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فقدمت فأخبرت النبي ﷺ، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة، ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسننات أو أربعة أتباع.

قال: وأمرني رسول الله ﷺ أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذع.

وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها، وهذا من أفراد أحمد.

وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول الله ﷺ.

والصحيح: أنه لم ير النبي ﷺ بعد ذلك، كما تقدم في الحديث.

وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن أبي بن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابا جميلا سمحا من خير شباب قومه لا يسأل شيئا إلا أعطاه، حتى كان عليه دين أغلق ماله، فكلم رسول الله في أن يكلم غرماءه ففعل فلم يضعوا له شيئا، فلو ترك لأحد بكلام أحد لترك لمعاذ بكلام رسول الله ﷺ، قال: فدعاه رسول الله، فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه.

قال: فقام معاذ ولا مال له.

قال: فلما حج رسول الله بعث معاذا إلى اليمن.

قال: فكان أول من تجر في هذا المال معاذ.

قال: فقدم على أبي بكر الصديق من اليمن وقد توفي رسول الله، فجاء عمر فقال: هل لك أن تعطيني فتدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فاقبله.

قال: فقال معاذ: لم أدفعه إليه وإنما بعثني رسول الله ليجيرني، فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبي بكر، فقال: أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه، ودع له.

فقال أبو بكر: ما كنت لأفعل، وإنما بعثه رسول الله ليجبره، فلست آخذا منه شيئا.

قال: فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر، فقال: ما أرى إلا فاعل الذي قلت، إني رأيتني البارحة في النوم - فيما يحسب عبد الرزاق - قال: أجر إلى النار، وأنت آخذ بحجزتي.

قال: فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به، حتى جاءه بسوطه وحلف له أنه لم يكتمه شيئا.

قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: هو لك، لا آخذ منه شيئا.

وقد رواه أبو ثور عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك فذكره إلا أنه قال: حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه رسول الله ﷺ على طائفة من اليمن أميرا، فمكث حتى قبض رسول الله، ثم قدم في خلافة أبي بكر، وخرج إلى الشام.

قال البيهقي: وقد قدمنا أن رسول الله ﷺ استخلفه بمكة مع عتاب بن أسيد ليعلم أهلها، وأنه شهد غزوة تبوك؛ فالأشبه أن بعثه إلى اليمن كان بعد ذلك، والله أعلم.

ثم ذكر البيهقي لقصة منام معاذ شاهدا من طريق الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله، وأنه كان من جملة ما جاء به عبيد، فأتى بهم أبا بكر فلما رد الجميع عليه رجع بهم، ثم قام يصلي فقاموا كلهم يصلون معه، فلما انصرف قال: لمن صليتم؟

قالوا: لله.

قال: فأنتم عتقاء، فأعتقهم.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، عن معاذ، أن رسول الله ﷺ حين بعثه إلى اليمن.

قال: «كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟»

قال: أقضي بما في كتاب الله.

قال «فإن لم يكن في كتاب الله؟»

قال: فسنة رسول الله ﷺ.

قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟»

قال: أجتهد وإني لا آلو.

قال: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله».

وقد رواه أحمد عن وكيع، عن عفان، عن شعبة بإسناده ولفظه.

وأخرجه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة به.

وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.

وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين عن عياذ بن بشر، عن عبد الرحمن، عن معاذ به نحوه.

وقد روى الإمام أحمد عن محمد بن جعفر، ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو ابن أبي حكيم، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن معمر، عن أبي الأسود الدئلي قال: كان معاذ باليمن، فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخا مسلما.

فقال معاذ: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الإسلام يزيد ولا ينقص» فورثه.

ورواه أبو داود من حديث ابن بريدة به، وقد حكى هذا المذهب عن معاوية ابن أبي سفيان.

ورواه عن يحيى بن معمر القاضي وطائفة من السلف، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، وخالفهم الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم محتجين بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر».

والمقصود: أن معاذ رضي الله عنه كان قاضيا للنبي ﷺ باليمن، وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع الصدقات، كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم، وقد كان بارزا للناس يصلي بهم الصلوات الخمس.

كما قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة عن حبيب ابن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون أن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ { واتخذ الله إبْراهيم خليلا } [28].

فقال رجل من القوم: لقد قرت عين إبراهيم، انفرد به البخاري.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وخالد إلى اليمن

بعث رسول الله ﷺ علي وخالد إلى اليمن قبل حجة الوداع

حدثنا أحمد بن عثمان، ثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق، حدثني أبي عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب قال: بعثنا رسول الله ﷺ مع خالد بن الوليد إلى اليمن قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه قال: «مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل».

فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذات عدد.

انفرد به البخاري من هذا الوجه.

ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ثنا روح بن عبادة، ثنا علي بن سويد بن منجوف عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي ﷺ عليا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟

فلما قدمنا على النبي ﷺ ذكرت ذلك له.

فقال: «يا بريدة أتبغض عليا؟»

فقلت: نعم.

فقال: «لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك».

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال: انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجلز، وابنا بريدة، فقال عبد الله بن بريدة: حدثني أبو بريدة قال: أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا قال: فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب إلى رسول الله ﷺ أبعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي.

قال: فخمس، وقسم، فخرج ورأسه يقطر.

فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟

فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في أهل بيت النبي ﷺ، ثم صارت في آل علي ووقعت بها.

قال: فكتب الرجل إلى نبي الله ﷺ.

فقلت: ابعثني فبعثني مصدقا، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق قال: فأمسك يدي والكتاب فقال: «أتبغض عليا؟»

قال: قلت: نعم.

قال: «فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة».

قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبي ﷺ أحب إلي من علي.

قال عبد الله بن بريدة: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي ﷺ في هذا الحديث غير أبي بريدة.

تفرد به بهذا السياق عبد الجليل بن عطية الفقيه أبو صالح البصري، وثقه ابن معين وابن حبان.

وقال البخاري: إنما يهم في الشيء.

وقال محمد بن إسحاق: ثنا أبان بن صالح عن عبد الله بن نيار الأسلمي، عن خاله عمرو بن شاس الأسلمي، وكان من أصحاب الحديبية، قال: كنت مع علي ابن أبي طالب في خيله التي بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن فجفاني علي بعض الجفاء، فوجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوما ورسول الله جالس فلما رآني أنظر إلى عينيه، نظر إلي حتى جلست إليه فلما جلست إليه قال: «إنه والله يا عمرو بن شاس لقد آذيتني».

فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله والإسلام أن أوذي رسول الله.

فقال: «من آذى عليا فقد آذاني».

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل بن سنان، عن عبد الله بن نيار، عن خاله عمرو بن شاس، فذكره بمعناه.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو إسحاق المولى، ثنا عبيدة ابن أبي السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام.

قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله ﷺ بعث علي ابن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا، إلا رجلا كان ممن يمم مع خالد فأحب أن يعقب مع علي، فليعقب معه.

قال البراء: فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا علي، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله ﷺ بإسلامها، فلما قرأ رسول الله ﷺ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان».

قال البيهقي: رواه البخاري مختصرا من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو الحسين محمد بن الحسين محمد بن الفضل القطان، أنبأنا أبو سهل ابن زياد القطان، حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: بعث رسول الله علي ابن أبي طالب إلى اليمن.

قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللا فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين.

قال: فلما فرغ علي وانطفق من اليمن راجعا أمر علينا إنسانا، وأسرع هو وأدرك الحج فلما قضى حجته، قال له النبي ﷺ: «ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم».

قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه، فقلت: أما أن الله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق.

قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله ﷺ أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجا من عند رسول الله ﷺ فلما رآني وقف معي ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال: متى قدمت؟

فقلت: قدمت البارحة.

فرجع معي إلى رسول الله ﷺ فدخل وقال: هذا سعد بن مالك ابن الشهيد.

فقال: «إئذن له».

فدخلت فحييت رسول الله وحياني، وأقبل علي وسألني عن نفسي وأهلي وأحفى المسألة.

فقلت: يا رسول الله ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق.

فاتئد رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنا في وسط كلامي ضرب رسول الله على فخذي، وكنت منه قريبا وقال: «يا سعد بن مالك ابن الشهيد مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أحسن في سبيل الله».

قال: فقلت في نفسي: - ثكلتك أمك سعد بن مالك - ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ولا أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدا، سرا ولا علانية.

وهذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وقد قال يونس: عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله ابن أبي عمر، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: إنما وجد جيش علي ابن أبي طالب الذين كانوا معه باليمن لأنهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلا وتعجل إلى رسول الله ﷺ قال: فعمد الرجل فكسى كل رجل حلة، فلما دنوا خرج عليهم علي يستلقيهم فإذا عليهم الحلل، قال علي: ما هذا؟

قالوا: كسانا فلان.

قال: فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء فنزع الحلل منهم، فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله؛ وإنما بعث عليه إلى جزية موضوعة.

قلت: هذا السياق أقرب من سياق البيهقي، وذلك أن عليا سبقهم لأجل الحج وساق معه هديا، وأهل بإهلال النبي ﷺ فأمره أن يمكث حراما.

وفي رواية: البراء بن عازب أنه قال له: أني سقت الهدي وقرنت.

والمقصود: أن عليا لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعلي معذور فيما فعل، لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك و الله أعلم لما رجع رسول الله ﷺ من حجته، وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة فمر بغد يرخم قام في الناس خطيبا فبرأ ساحة علي، ورفع من قدره، ونبه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس، وسيأتي هذا مفصلا في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.

وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثني عبد الرحمن ابن أبي نعم، سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي ابن أبي طالب إلى النبي ﷺ من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها.

قال: فقسمها بين أربعة؛ بين: عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع: إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل.

فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء.

فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء».

قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله!

فقال: «ويلك أولست أحق الناس أن يتقي الله؟»

قال: ثم ولى الرجل.

قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟

قال: «لا لعله أن يكون يصلي».

قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.

فقال رسول الله ﷺ: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم».

قال: ثم نظر إليه وهو مقف.

فقال: «إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».

وقد رواه البخاري في مواضع أخر من كتابه.

ومسلم في (كتاب الزكاة) من صحيحه، من طرق متعددة إلى عمارة بن القعقاع به.

ثم قال الإمام أحمد: ثنا يحيى عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن وأنا حديث السن، قال: فقلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء.

قال: «إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك».

قال: فما شككت في قضاء بين اثنين.

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن سماك، عن حنش، عن علي قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء.

قال: فوضع يده على صدري وقال: «اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك».

قال: فما اختلف عليقضاء بعد - أو ما أشكل علي قضاء بعد -.

ورواه أحمد أيضا وأبو داود من طرق عن شريك، والترمذي من حديث زائدة، كلاهما عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر.

وقيل: ابن ربيعة الكناني الكوفي عن علي به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم: أن نفرا وطئوا امرأة في طهر، فقال علي: لاثنين أتطيبان نفسا لذا؟

فقالا: لا، فأقبل على الآخرين.

فقال: أتطيبان نفسا لذا؟

فقالا: لا.

فقال: أنتم شركاء متشاكسون.

فقال: إني مقرع بينكم فأيكم قرع أغرمته ثلثي الدية، وألزمته الولد.

قال: فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «لا أعلم إلا ما قال علي».

وقال أحمد: ثنا شريح بن النعمان، ثنا هشيم، أنبأنا الأجلح عن الشعبي، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم: أن عليا أتى في ثلاثة نفر إذ كان في اليمن، اشتركوا في ولد فأقرع بينهم، فضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية، وجعل الولد له.

قال زيد بن أرقم: فأتيت النبي ﷺ فأخبرته بقضاء علي، فضحك حتى بدت نواجذه.

ورواه أبو داود عن مسدد، عن يحيى القطان.

والنسائي عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، كلاهما عن الأجلح بن عبد الله، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل.

وقال النسائي في رواية عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال: كنت عند النبي ﷺ فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر أتوا عليا يختصمون في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فذكر نحو ما تقدم وقال: فضحك النبي ﷺ.

وقد روياه أعني أبا داود، والنسائي، من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن أبي الخليل، أو ابن الخليل، عن علي قوله: فأرسله ولم يرفعه.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، فذكر نحو ما تقدم.

وأخرجه أبو داود والنسائي جميعا عن حنش بن أصرم.

وابن ماجه عن إسحاق ابن منصور، كلاهما عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم به.

قال شيخنا في الأطراف: لعل عبد خير هذا هو (عبد الله بن الخليل)، ولكن لم يضبط الراوي اسمه.

قلت: فعلى هذا يقوى الحديث، وإن كان غيره كان أجود لمتابعته له، لكن الأجلح بن عبد الله الكندي فيه كلام ما، وقد ذهب إلى القول بالقرعة في الأنساب الإمام أحمد، وهو من أفراده.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو سعيد، ثنا إسرائيل، ثنا سماك عن حنش، عن علي قال: بعثني رسول الله إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق آخر بآخر حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تعبية ذلك فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله ﷺ حي، إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض حتى تأتوا النبي ﷺ فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول: الربع، لأنه هلك، والثاني: ثلث الدية، والثالث: نصف الدية، والرابع: الدية، فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي ﷺ وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال: «أنا أحكم بينكم».

فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن عليا قضى علينا فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله ﷺ.

ثم، رواه الإمام أحمد أيضا عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش، عن علي فذكره.

كتاب حجة الوداع في سنة عشر

ويقال لها: حجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع.

لأنه عليه الصلاة والسلام ودع الناس فيها ولم يحج بعدها.

وسميت: حجة الإسلام، لأنه عليه السلام لم يحج من المدينة غيرها، ولكن حج قبل الهجرة مرات قبل النبوة وبعدها، وقد قيل: إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة ست، وقيل: قبل الهجرة، وهو غريب.

وسميت حجة البلاغ، لأنه عليه السلام بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وفعلا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه عليه السلام، فلما بين لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه، أنزل الله عز وجل عليه وهو واقف بعرفة: { الْيوْم أكْملْت لكمْ دينكمْ وأتْممْت عليْكمْ نعْمتي ورضيت لكم الْإسْلام دينا } [29].

وسيأتي إيضاح لهذا كله.

والمقصود: ذكر حجته عليه السلام كيف كانت، فإن النقلة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا جدا، بحسب ما وصل إلى كل منهم من العلم، وتفاوتوا في ذلك تفاوتا كثيرا، لا سيما من بعد الصحابة رضي الله عنهم ونحن نورد بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ما ذكره الأئمة في كتبهم من هذه الروايات، ونجمع بينهما جمعا يثلج قلب من تأمله وأنعم النظر فيه، وجمع بين طريقتي الحديث وفهم معانيه، إن شاء الله، وبالله الثقة، وعليه التكلان.

وقد اعتنى الناس بحجة رسول الله ﷺ اعتناء كثيرا من قدماء الأئمة ومتأخريهم، وقد صنف العلامة أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله مجلدا في حجة الوداع، أجاد في أكثره، ووقع له فيه أوهام سننبه عليها في مواضعها، وبالله المستعان.

باب بيان أنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة

وأنه اعتمر قبلها ثلاث عمر

كما رواه البخاري ومسلم عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن أنس قال: اعتمر رسول الله ﷺ أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي في حجته الحديث.

وقد رواه يونس بن بكير عن عمر بن ذر، عن مجاهد، عن أبي هريرة مثله. وقال سعد بن منصور عن الداروردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عمر: عمرة في شوال، وعمرتين في ذي القعدة.

وكذا رواه ابن بكير عن مالك، عن هشام بن عروة.

وروى الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله اعتمر ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة.

وقال أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني: العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة: من الجعرانة، والرابعة: التي مع حجته.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث داود العطار، وحسنه الترمذي.

وقد تقدم هذا الفصل عند عمرة الجعرانة، وسيأتي في فصل من قال: إنه عليه السلام حج قارنا، وبالله المستعان.

فالأولى من هذه العمر: عمرة الحديبية التي صد عنها.

ثم بعدها: عمرة القضاء، ويقال: عمرة القصاص، ويقال: عمرة القضية.

ثم بعدها: عمرة الجعرانة مرجعه من الطائف حين قسم غنائم حنين، وقد قدمنا ذلك كله في مواضعه.

والرابعة: عمرته مع حجة، وسنبين اختلاف الناس في عمرته هذه مع الحجة هل كان متمتعا بأن أوقع العمرة، قبل الحجة وحل منها، أو منعه من الإحلال منها سوقه الهدي، أو كان قارنا لها مع الحجة، كما نذكره من الأحاديث الدالة على ذلك، أو كان مفردا لها عن الحجة بأن أوقعها بعد قضاء الحجة.

قال: وهذا هو الذي يقول من يقوله: بالإفراد، كما هو المشهور عن الشافعي، وسيأتي بيان هذا عند ذكرنا إحرامه ﷺ كيف كان مفردا، أومتمتعا، أوقارنا.

قال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، حدثني زيد بن أرقم أن النبي ﷺ غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة.

قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى.

وقد رواه مسلم من حديث زهير، وأخرجاه من حديث شعبة، زاد البخاري وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن زيد به.

وهذا الذي قال أبو إسحاق من أنه عليه السلام حج بمكة حجة أخرى، أي: أراد أنه لم يقع منه بمكة إلا حجة واحدة ما هو ظاهر لفظه فهو بعيد، فإنه عليه السلام كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو الناس إلى الله، ويقول: «من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل» حتى قيض الله جماعة الأنصار يلقونه ليلة العقبة، أي: عشية يوم النحر عند جمرة العقبة ثلاث سنين متتاليات، حتى إذا كانوا آخر سنة بايعوه ليلة العقبة الثانية، وهي: ثالث اجتماعه لهم به، ثم كانت بعدها الهجرة إلى المدينة كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه، والله أعلم.

وفي حديث جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: أقام رسول الله ﷺ بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج، فاجتمع بالمدينة بشر كثير، فخرج رسول الله ﷺ لخمس بقين من ذي القعدة، أو لأربع، فلما كان بذي الحليفة صلى ثم استوى على راحلته، فلما أخذت به في البيداء لبى وأهللنا لا ننوي إلا الحج.

وسيأتي الحديث بطوله، وهو في صحيح مسلم.

وهذا لفظ البيهقي، من طريق أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن طهمان، عن جعفر بن محمد به.

باب خروجه عليه السلام من المدينة لحجة الوداع

بعد ما استعمل عليها أبا دجانة سماك بن حرشة الساعدي، ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري.

قال محمد بن إسحاق: فلما دخل على رسول الله ﷺ ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج، وأمرالناس بالجهاز له، فحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: خرج رسول الله ﷺ إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وهذا إسناد جيد.

وروى الإمام مالك في موطائه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة.

ورواه الإمام أحمد عن عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها.

وهو ثابت في الصحيحين، وسنن النسائي، وابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، الحديث بطوله، كما سيأتي.

وقال البخاري: حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، أخبرني كريب عن ابن عباس قال: انطلق النبي ﷺ من المدينة بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، ولم ينه عن شيء من الأردية، ولا الأرز إلا المزعفرة التي تردع الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لخمس خلون من ذي الحجة.

تفرد به البخاري.

فقوله: وذلك لخمس بقين من ذي القعدة إن أراد به صبيحة يومه بذي الحليفة، صح قول ابن حزم في دعواه، أنه ﷺ خرج من المدينة يوم الخميس، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة، وأصبح بها يوم الجمعة، وهو اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة.

وإن أراد ابن عباس بقوله: وذلك لخمس من ذي القعدة يوم انطلاقه عليه السلام من المدينة، بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، كما قالت عائشة وجابر: أنهم خرجوا من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، بعد قول ابن حزم، وتعذر المصير إليه، وتعين القول بغيره، ولم ينطبق ذلك إلا على يوم الجمعة، إن كان شهر ذي القعدة كاملا، ولا يجوز أن يكون خروجه عليه السلام من المدينة كان يوم الجمعة.

لما روى البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: صلى رسول الله ﷺ ونحن معه الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله عز وجل، وسبح، ثم أهل بحج وعمرة.

وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة بن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن محمد يعني: ابن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

ورواه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري به.

وأخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنذر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس به.

وقال أحمد: ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جريج عن محمد بن المنذر، عن أنس قال: صلى بنا رسول الله ﷺ بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل.

وقال أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن المنذر التيمي عن أنس بن مالك الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله ﷺ الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين، آمنا لا يخاف في حجة الوداع.

تفرد به أحمد، من هذين الوجهين الآخرين، وهما على شرط الصحيح، وهذه ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعا، ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس، لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع، فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة لبقي في الشهر ست ليال قطعا، ليلة الجمعة والسبت، والأحد والإثنين، والثلاثاء والأربعاء، فهذه ست ليال.

وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر: أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة، وتعذر أنه يوم الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن الراوي أن الشهر يكون تاما فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الأربعاء، واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس.

ويؤيده ما وقع في رواية جابر: لخمس بقين أو أربع، وهذا التقرير على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه، والله أعلم.

باب صفة خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة للحج

قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله هو: ابن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله ﷺ كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وأن رسول الله ﷺ كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: وجدت في كتابي عن عمرو بن مالك، عن يزيد بن زريع، عن هشام، عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة، عن أنس: أن النبي ﷺ حج على رحل رث وتحته قطيفة وقال: «حجة لا رياء فيها، ولا سمعة».

وقد علقه البخاري في صحيحه فقال: وقال محمد ابن أبي بكر المقدمي: حدثنا يزيد بن زريع عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة قال: حج أنس على رحل رث ولم يكن شحيحا، وحدث أن رسول الله ﷺ حج على رحل، وكانت زاملته.

هكذا ذكره البزار والبخاري معلقا، مقطوع الإسناد من أوله.

وقد أسنده الحافظ البيهقي في سننه فقال: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا يزيد بن زريع فذكره.

وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من وجه آخر عن أنس بن مالك فقال: حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال:

حج رسول الله ﷺ على رحل رث وقطيفة تساوي - أو لا تساوي - أربعة دراهم فقال: «اللهم حجة لا رياء فيها».

وقد رواه الترمذي في (الشمائل) من حديث أبي داود الطيالسي.

وسفيان الثوري وابن ماجه من حديث وكيع بن الجراح، ثلاثتهم عن الربيع بن صبيح به وهو إسناد ضعيف، من جهة يزيد بن أبان الرقاشي فإنه غير مقبول الرواية عند الأئمة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: صدرت مع ابن عمر، فمرت بنا رفقة يمانية ورحالهم الأدم، وخطم إبلهم الخرز.

فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت العام برسول الله ﷺ وأصحابه إذا قدموا في حجة الوداع، فلينظر إلى هذه الرفقة.

ورواه أبو داود عن هناد، عن وكيع، عن إسحاق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن ابن عمر.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو طاهر الفقية، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن، وأبو سعيد ابن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس - هو الأصم -، أنبأنا محمد بن عبد الله بن الحكم، أنبانا سعيد بن بشير القرشي، حدثنا عبد الله بن حكيم الكناني - رجل من أهل اليمن من مواليهم - عن بشر بن قدامة الضبابي قال: أبصرت عيناي حبيبي رسول الله ﷺ واقفا بعرفات مع الناس على ناقة، له حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية، وهو يقول: «اللهم اجعلها حجة غير رياء ولا منا ولا سمعة».

والناس يقولون: هذا رسول الله ﷺ.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، ثنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع النبي ﷺ حجاجا حتى أدركنا بالعرج، نزل رسول الله ﷺ فجلست عائشة إلى جنب رسول الله ﷺ وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول الله ﷺ وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره فقال: أين بعيرك؟.

فقال: أضللته البارحة.

فقال أبو بكر: بعير واحد تضله، فطفق يضربه، ورسول الله ﷺ يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع».

وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد العزيز ابن أبي رزمة.

وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عبد الله بن إدريس به.

فأما الحديث الذي رواه أبو بكر البزار في مسنده قائلا: حدثنا إسماعيل بن حفص، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا حمزة الزيات عن حمران بن أعين، عن أبي الطفيل، عن أبي سعيد قال: حج النبي ﷺ وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، قد ربطوا أوساطهم، ومشيهم خلط الهرولة.

فإنه حديث منكر، ضعيف الإسناد، وحمزة بن حبيب الزيات ضعيف، وشيخ متروك الحديث.

وقد قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه وإن كان إسناده حسنا عندنا، ومعناه: أنهم كانوا في عمرة، إن ثبت الحديث لأنه عليه السلام إنما حج حجة واحدة وكان راكبا، وبعض أصحابه مشاة.

قلت: ولم يعتمر النبي ﷺ في شيء من عمره ماشيا لا في الحديبية، ولا في القضاء، ولا الجعرانة، ولا في حجة الوداع، وأحواله عليه السلام أشهر وأعرف من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله والله أعلم.

تقدم أنه عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا، ثم ركب منها إلى الحليفة وهي وادي العقيق فصلى بها العصر ركعتين، فدل على أنه جاء الحليفة نهارا في وقت العصر، فصلى بها العصر قصرا، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم صلى بها المغرب والعشاء، وبات بها حتى أصبح، فصلى بأصحابه وأخبرهم أنه جاءه الوحي من الليل بما يعتمده في الإحرام.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي ﷺ أنه أتى في المعرس من ذي الحليفة، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث موسى بن عقبة به.

وقال البخاري: حدثنا الحميدي، ثنا الوليد وبشر بن بكر قالا: ثنا الأوزاعي، ثنا يحيى، حدثني عكرمه أنه سمع ابن عباس أنه سمع ابن عمر يقول: سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

تفرد به دون مسلم.

فالظاهر: أنه أمره عليه السلام بالصلاة في وادي العقيق، هو أمر بالإقامة به إلى أن يصلي صلاة الظهر، لأن الأمر إنما جاءه في الليل، وأخبرهم بعد صلاة الصبح فلم يبق إلا صلاة الظهر فأمر أن يصليها هنالك، وأن يوقع الإحرام بعدها.

ولهذا قال: «أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

وقد احتج به على الأمر بالقرآن في الحج، وهو من أقوى الأدلة على ذلك كما سيأتي بيانه قريبا.

والمقصود: أنه عليه السلام أمر بالإقامة بوادي العقيق إلى صلاة الظهر، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فأقام هنالك وطاف على نسائه في تلك الصبيحة وكن تسع نسوة، وكلهن خرج معه، ولم يزل هنالك حتى صلى الظهر، كما سيأتي في حديث أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أشعر بدنته، ثم ركب فأهل، وهو عند مسلم.

وهكذا قال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أشعث - هو ابن عبد الملك - عن الحسن، عن أنس أن رسول الله ﷺ صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا شرف البيداء أهل.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والنسائي عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن أشعث بمعناه.

وعن أحمد بن الأزهر عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث أتم منه.

وهذا فيه رد على ابن حزم حيث زعم أن ذلك في صدر النهار، وله أن يعتضد بما رواه البخاري: من طريق أيوب عن رجل، عن أنس أن رسول الله بات بذي الحليفة حتى أصبح، فصلى الصبح ثم ركب راحلته، حتى إذا استوت به البيداء أهل بعمرة وحج.

ولكن في إسناده رجل مبهم، والظاهر أنه أبو قلابة والله أعلم.

قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، ثنا خالد - يعني: ابن الحارث - ثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، سمعت أبي يحدث عن عائشة أنها قالت: كنت أطيب رسول الله ﷺ ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا.

وقد رواه البخاري من حديث شعبة، وأخرجاه من حديث أبي عوانة، زاد مسلم ومسعر، وسفيان ابن سعيد الثوري أربعتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر به.

وفي رواية لمسلم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال: سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما.

قال: ما أحب أني أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي القطران أحب إلي من أن أفعل ذلك.

فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله عند إحرامه، ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما.

وهذا اللفظ الذي رواه مسلم يقتضي أنه كان ﷺ يتطيب قبل أن يطوف على نسائه، ليكون ذلك أطيب لنفسه وأحب إليهن، ثم لما اغتسل من الجنابة وللإحرام تطيب أيضا للإحرام طيبا آخر.

كما رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أنه رأى رسول الله ﷺ تجرد لإهلاله واغتسل.

وقال الترمذي: حسن غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، أنبأنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، ودهنه بشيء من زيت غير كثير.

الحديث تفرد به أحمد.

وقال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عثمان بن عروة: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول: طيبت رسول الله ﷺ لحرمه ولحله.

قلت لها: بأي طيب؟

قال: بأطيب الطيب.

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة.

وأخرجه البخاري من حديث وهب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان، عن أبيه عروة، عن عائشة به.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله ﷺ لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت.

وقال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أنبأنا محمد ابن أبي بكر، أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبرانه عن عائشة قالت: طيبت رسول الله بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.

وروى مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: طيبت رسول الله ﷺ بيدي هاتين لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت.

وقال مسلم: حدثني أحمد بن منيع، ويعقوب الدورقي قالا: ثنا هشيم، أنبأنا منصور عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب النبي ﷺ قبل أن يحرم ويحل، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك.

وقال مسلم: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: ثنا وكيع ثنا الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله ﷺ وهو يلبي.

ثم رواه مسلم من حديث الثوري وغيره عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم.

ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري، ومسلم من حديث الأعمش كلاهما عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنها.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم بن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.

وقال أبو داود الطيالسي: أنبأنا أشعث عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في أصول شعر رسول الله ﷺ وهو محرم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي ﷺ بعد أيام وهو محرم.

وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عطاء بن السائب عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: رأيت الطيب في مفرق رسول الله بعد ثالثة، وهو محرم.

فهذه الأحاديث دالة على أنه عليه السلام تطيب بعد الغسل، إذ لو كان الطيب قبل الغسل لذهب به الغسل ولما بقي له أثر، ولا سيما بعد ثلاثة أيام من يوم الإحرام.

وقد ذهب طائفة من السلف منهم: ابن عمر، إلى كراهة التطيب عند الإحرام، وقد روينا هذا الحديث من طريق ابن عمر عن عائشة فقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسين ابن بشران - ببغداد - أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا عبد الرحمن ابن أبي العمر، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة أنها قالت: طيبت رسول الله ﷺ بالغالية الجيدة عند إحرامه.

وهذا إسناد غريب عزيز المخرج.

ثم إنه عليه السلام لبد رأسه ليكون أحفظ لما فيه من الطيب، وأصون له من استقرار التراب والغبار.

قال مالك عن نافع عن ابن عمر: أن حفصة زوج النبي ﷺ قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتى أنحر».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، وله طرق كثيرة عن نافع.

قال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا يحيى، ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا عبد الأعلى، ثنا محمد بن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ لبد رأسه بالعسل.

وهذا إسناد جيد.

ثم أنه عليه السلام أشعر الهدي وقلده، وكان معه بذي الحليفة.

قال الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهجدي من ذي الحليفة.

وسيأتي الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين، والكلام عليه إن شاء الله.

وقال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما أتى ذا الحليفة دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن قتادة.

وهذا يدل على أنه عليه السلام تعاطى هذا الإشعار والتقليد بيده الكريمة في هذه البدنة، وتولى إشعار بقية الهدي وتقليده غيره، فإنه قد كان هدْي كثير، إما مائة بدنة أو أقل منها بقليل، وقد ذبح بيده الكريمة ثلاثا وستين بدنة، وأعطى عليا فذبح ما غبر.

وفي حديث جابر أن عليا قدم من اليمن ببدن للنبي ﷺ.

وفي سياق ابن إسحاق أنه عليه السلام أشرك عليا في بدنه والله أعلم.

وذكر غيره أنه ذبح هو وعلي يوم النحر مائة بدنة.

فعلى هذا يكون قد ساقها معه من ذي الحليفة، وقد يكون اشترى بعضها بعد ذلك وهو محرم.

باب بيان الموضع الذي أهل منه عليه السلام

واختلاف الناقلين لذلك وترجيح الحق في ذلك

تقدم الحديث الذي رواه البخاري من حديث الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر سمعت رسول الله ﷺ بوادي العقيق يقول: «أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

وقال البخاري - باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة -: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا موسى بن عقبة سمعت سالم بن عبد الله، وحدثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أباه يقول: ما أهل رسول الله ﷺ إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة -.

وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن موسى بن عقبة.

وفي رواية لمسلم عن موسى بن عقبة، عن سالم ونافع، وحمزة بن عبد الله بن عمر، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمر، فذكره وزاد فقال: لبيك.

وفي رواية لهما من طريق مالك عن موسى بن عقبة عن سالم قال: قال عبد الله بن عمر: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله ﷺ أهل رسول الله من عند المسجد.

وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، كما يأتي في الشق الآخر.

وهو ما أخرجاه في الصحيحين: من طريق مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر فذكر حديثا فيه أن عبد الله قال: وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله ﷺ يهل حتى تنبعث به راحلته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله ﷺ في إهلال رسول الله ﷺ حين أوجب.

فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله ﷺ حجة واحدة فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله ﷺ حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه قوم فحفظوا عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل.

فقالوا: إنما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله حين علا شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء، فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أنه أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه.

وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن عبد السلام بن حرب، عن خصيف به نحوه.

وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرف أحد رواه غير عبد السلام كذا قال، وقد تقدم رواية الإمام أحمد له من طريق محمد ابن إسحاق عنه.

وكذلك رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن القطيعي، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه ثم قال: خصيف الجزري غير قوي.

وقد رواه الواقدي بإسناد له عن ابن عباس.

قال البيهقي: إلا أنه لا ينفع متابعة الواقدي، والأحاديث التي وردت في ذلك عن عمر وغيره مسانيدها قوية ثابتة، والله تعالى أعلم.

قلت: فلو صح هذا الحديث، لكان فيه جمع لما بين الأحاديث من الاختلاف، وبسط لعذر من نقل خلاف الواقع، ولكن في إسناده ضعف، ثم قد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما تقدم عنهما، كما سننبه عليه ونبينه.

وهكذا ذكر من قال: أنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته.

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام بن يوسف، أنبأنا ابن جريج، حدثني محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال: صلى النبي ﷺ بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل.

وقد رواه البخاري و مسلم وأهل السنن من طرق عن محمد بن المنكدر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس.

وثابت في الصحيحين من حديث مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته.

وأخرجا في الصحيحين من رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله كان يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة.

وقال البخاري - باب من أهل حين استوت به راحلته -: حدثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، أخبرني صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر قال: أهل النبي ﷺ حين استوت به راحلته قائمة.

وقد رواه مسلم والنسائي من حديث ابن جريج به.

وقال مسلم: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة.

انفرد به مسلم من هذا الوجه.

وأخرجاه من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه.

ثم قال البخاري - باب الإهلال مستقبل القبلة -: قال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذ صلى الغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم، ثم يمسك حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله ﷺ فعل ذلك.

ثم قال: تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل.

وقد علق البخاري أيضا هذا الحديث في (كتاب الحج) عن محمد بن عيسى، عن حماد بن زيد، وأسنده فيه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن إسماعيل - هو ابن علية -.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل، وعن أبي الربيع الزهراني وغيره عن حماد بن زيد، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي تميمة السختياني به.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن علية به.

ثم قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع، ثنا فليح عن نافع قال: كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي، ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يفعل.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وروى مسلم عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله ﷺ فيها، والله ما أهل رسول الله ﷺ إلا عند الشجرة حين قام به بعيره.

وهذا الحديث يجمع بين رواية ابن عمر الأولى وهذه الروايات عنه، وهو أن الإحرام كان من عند المسجد، ولكن بعد ما ركب راحلته واستوت به على البيداء - يعني: الأرض - وذلك قبل أن يصل إلى المكان المعروف بالبيداء.

ثم قال البخاري في موضع آخر: حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، حدثني كريب عن عبد الله بن عباس قال: انطلق النبي ﷺ من المدينة بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، وله ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس، إلا المزعفرة التي تردع على الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنه، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بدنه لأنه قلدها، لم تزل بأعلا مكة عند الحجون وهو مهل بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال والطيب والثياب.

انفرد به البخاري.

وقد روى الإمام أحمد عن بهز بن أسد وحجاج، وروح بن عبادة، وعفان بن مسلم، كلهم عن شعبة قال: أخبرني قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج الأجرد، وهو مسلم بن عبد الله البصري عن ابن عباس.

قال: صلى رسول الله ﷺ الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين، ثم دعا براحلته فلما استوت على البيداء أهل بالحج.

ورواه أيضا عن هشيم: أنبأنا أصحابنا منهم شعبة فذكر نحوه.

ثم رواه الإمام أحمد أيضا عن روح وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، كلهم عن هشام الدستوائي عن قتادة به نحوه.

ومن هذا الوجه رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن في كتبهم.

فهذه الطرق عن ابن عباس من أنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته أصح وأثبت من رواية خصيف الجزري عن سعيد بن جبير عنه، والله أعلم.

وهكذا الرواية المثبتة المفسرة أنه أهل حين استوت به الراحلة مقدمة على الأخرى لاحتمال أنه أحرم من عند المسجد حين استوت به راحلته، ويكون رواية ركوبه الراحلة فيها زيادة علم على الأخرى والله أعلم.

ورواية أنس في ذلك سالمة عن المعارض، وهكذا رواية جابر بن عبد الله في صحيح مسلم من طريق جعفر الصادق عن أبيه، عن أبي الحسين زين العابدين، عن جابر في حديثه الطويل الذي سيأتي، أن رسول الله ﷺ أهل حين استوت به راحلته سالمة عن المعارض والله أعلم.

وروى البخاري: من طريق الأوزاعي سمعت عطاء، عن جابر بن عبد الله أن إهلال رسول الله ﷺ من ذي الحليفة حين استوت به راحلته.

فأما الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، عن عائشة بنت سعد قالت: قال سعد: كان رسول الله ﷺ إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته وإذا أخذ طريقا أخرى، أهل إذا علا على شرف البيداء.

فرواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن إسحاق، وفيه غرابة ونكارة والله أعلم.

فهذه الطرق كلها دالة على القطع أو الظن الغالب أنه عليه السلام أحرم بعد الصلاة، وبعد ما ركب راحلته، وابتدأت به السير.

زاد ابن عمر في روايته: وهو مستقبل القبلة.

باب بسط البيان لما أحرم به عليه السلام في حجته هذه

من الإفراد والتمتع أو القران

رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أفرد الحج.

ورواه مسلم عن إسماعيل، عن أبي أويس ويحيى بن يحيى عن مالك.

ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني المنكدر بن محمد عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أفرد الحج.

وقال الإمام أحمد: ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، وعن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أفرد الحج.

تفرد به أحمد من هذه الوجوه عنها.

وقال الإمام أحمد: حدثني عبد الأعلى بن حماد قال: قرأت على مالك بن أنس عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أفرد الحج.

وقال: حدثنا روح، ثنا مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - وكان يتيما في حجر عروة - عن عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أفرد الحج.

ورواه ابن ماجه عن أبي مصعب، عن مالك كذلك.

ورواه النسائي عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله أهل بالحج.

وقال أحمد أيضا: ثنا عبد الرحمن عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله بالحج؛ فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، والقعيني وإسماعيل ابن أبي أويس عن مالك.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك به.

وقال أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أهل رسول الله ﷺ بالحج وأهل ناس بالحج والعمرة، وأهل ناس بالعمرة.

ورواه مسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به نحوه.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد عن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ أمر الناس في حجة الوداع فقال: «من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل».

وأفرد رسول الله ﷺ الحج ولم يعتمر.

فإنه حديث غريب جدا، تفرد به أحمد بن حنبل، وإسناده لا بأس به، ولكن لفظه فيه نكارة شديدة، وهو قوله: «فلم يعتمر» فإن أريد بهذا أنه لم يعتمر مع الحج ولا قبله هو قول من ذهب إلى الإفراد.

وإن أريد أنه لم يعتمر بالكلية لا قبل الحج ولا معه ولا بعده، فهذا مما لا أعلم أحدا من العلماء قال به؛ ثم هو مخالف لما صح عن عائشة وغيرها من أنه ﷺ اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته.

وسيأتي تقرير هذا في فصل القران مستقصى، والله أعلم.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد قائلا في مسنده: حدثنا روح، ثنا صالح ابن أبي الأخضر، ثنا ابن شهاب أن عروة أخبره أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: أهل رسول الله بالحج والعمرة في حجة الوداع، وساق معه الهدي، وأهل ناس بالعمرة وساقوا الهدي، وأهل ناس بالعمرة ولم يسوقوا هديا.

قالت عائشة: وكنت ممن أهل بالعمرة ولم أسق هديا، فلما قدم رسول الله ﷺ قال: «من كان منكم أهل بالعمرة فساق معه الهدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، ولا يحل منه شيء حرم منه حتى يقضي حجه وينحر هديه يوم النحر، ومن كان منكم أهل بالعمرة ولم يسق معه هديا فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم ليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله».

قالت عائشة: فقدم رسول الله الحج الذي خاف فوته، وأخر العمرة.

فهو حديث من أفراد الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه نكارة، ولبعضه شاهد في الصحيح، وصالح ابن أبي الأخضر ليس من علية أصحاب الزهري، لا سيما إذا خالفه غيره كما ههنا في بعض ألفاظ سياقه هذا.

وقوله: «فقدم الحج الذي يخاف فوته، وأخر العمرة» لا يلتئم مع أول الحديث أهل بالحج والعمرة، فإن أراد أنه أهل بهما في الجملة، وقدم أفعال الحج، ثم بعد فراغه أهل بالعمرة، كما يقوله من ذهب إلى الإفراد، فهو مما نحن فيه ههنا.

وإن أراد أنه أخر العمرة بالكلية بعد إحرامه بها، فهذا لا أعلم أحدا من العلماء صار إليه.

وإن أراد أنه المقضي بأفعال الحج عن أفعال العمرة ودخلت العمرة في الحج، فهذا قول من ذهب إلى القران، وهم يؤولون قول من روى أنه عليه الصلاة والسلام أفرد الحج - أي: أفرد أفعال الحج - وإن كان قد نوى معه العمرة، قالوا: لأنه قد روى القرآن كل من روى الإفراد، كما سيأتي بيانه، والله تعالى أعلم.

رواية جابر بن عبد الله في الإفراد: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أهل رسول الله ﷺ في حجته بالحج.

إسناده جيد على شرط مسلم.

ورواه البيهقي عن الحاكم، وغيره عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: أهل رسول الله في حجته بالحج ليس معه عمرة.

وهذه الزيادة غريبة جدا، ورواية الإمام أحمد بن حنبل أحفظ، والله أعلم.

وفي صحيح مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: أهللنا بالحج لسنا نعرف العمرة.

وقد روى ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن الداروردي وحاتم بن إسماعيل، كلاهما عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله ﷺ أفرد الحج، وهذا إسناد جيد.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا حبيب - يعني: المعلم - عن عطاء، حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ أهل هو وأصحابه بالحج ليس مع أحد منهم هدي إلا النبي ﷺ وطلحة، وذكر تمام الحديث.

وهو في صحيح البخاري بطوله كما سيأتي، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب رواية عبد الله بن عمر للإفراد.

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن محمد، ثنا عباد - يعني: ابن عباد -، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: أهللنا مع النبي ﷺ بالحج مفردا.

ورواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عون، عن عباد بن عباد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ أهل بالحج مفردا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا الحسن بن عبد العزيز، ومحمد بن مسكين قالا: ثنا بشر بن بكر، ثنا سعيد بن عبد العزيز بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ أهل بالحج يعني: - مفردا - إسناده جيد، ولم يخرجوه.

رواية ابن عباس للإفراد: روى الحافظ البيهقي من حديث روح بن عبادة عن شعبة، عن أيوب، عن أبي العالية البراء، عن ابن عباس أنه قال: أهل رسول الله ﷺ بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة، فصلى بنا الصبح بالبطحاء ثم قال: «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها»

ثم قال: رواه مسلم عن إبراهيم بن دينار، عن ابن روح، وتقدم من رواية قتادة عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أتى ببدنة فأشعر صفحة سنامها الأيمن، ثم أتى براحلته فركبها، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج، وهو في صحيح مسلم أيضا.

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو بكر ابن عياش، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر فجرد، ومع عمر فجرد، ومع عثمان فجرد.

تابعه الثوري عن أبي حصين، وهذا إنما ذكرناه ههنا لأن الظاهر: أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما يفعلون هذا عن توقيف، والمراد بالتجريد ههنا: الإفراد، والله أعلم.

وقال الدارقطني: ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا علي بن محمد بن معاوية الرزاز، ثنا عبد الله بن نافع عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي ﷺ استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج، ثم حج النبي ﷺ سنة عشر فأفرد الحج، ثم توفي رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر، فبعث عمر فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج، وتوفي أبو بكر واستخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج، ثم حج فأفرد الحج، ثم حصر. عثمان فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج.

في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، لكن قال الحافظ البيهقي: له شاهد بإسناد صحيح.

ذكر ما قاله أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا

قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهل فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدا رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله ﷺ مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله».

وطاف رسول الله ﷺ حين قدم مكة استلم الحجر أول شيء، ثم خب ثلاثة أشواط من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، وفعل مثل ما فعل رسول الله ﷺ من أهدى فساق الهدي من الناس.

قال الإمام أحمد: وحدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، عن رسول الله ﷺ في تمتعه بالعمرة إلى الحج، وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله، عن رسول الله ﷺ.

وقد روى هذا الحديث البخاري عن يحيى بن بكير.

ومسلم وأبو داود عن عبد الملك بن شعيب، عن الليث، عن أبيه.

والنسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، عن حجين بن المثنى، ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله.

وهذا الحديث من المشكلات على كل من الأقوال الثلاثة.

أما قول الإفراد: ففي هذا إثبات عمرة، إما قبل الحج أو معه.

وأما على قول التمتع الخاص: فلأنه ذكر أنه لم يحل من إحرامه بعد ما طاف بالصفا والمروة، وليس هذا شأن المتمتع.

ومن زعم أنه إنما منعه من التحلل سوق الهدي، كما قد يفهم من حديث ابن عمر عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك؟

فقال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتى أنحر».

فقولهم بعيد لأن الأحاديث الواردة في إثبات القران ترد هذا القول، وتأبى كونه عليه السلام إنما أهل أولا بعمرة، ثم بعد سعيه بالصفا والمروة أهل بالحج.

فإن هذا على هذه الصفة لم ينقله أحد بإسناد صحيح، بل ولا حسن ولا ضعيف.

وقوله في هذا الحديث: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، إن أريد بذلك التمتع الخاص، وهو الذي يحل منه بعد السعي، فليس كذلك فإن في سياق الحديث ما يرده ثم في إثبات العمرة القارنة لحجه عليه السلام ما يأباه، وإن أريد به التمتع العام دخل في القران وهو المراد.

وقوله: وبدأ رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، إن أريد به بدأ بلفظ العمرة على لفظ الحج بأن قال: «لبيك اللهم عمرة وحجا» فهذا سهل ولا ينافي القرآن.

وإن أريد به أنه أهل بالعمرة أولا ثم أدخل عليها الحج متراخ، ولكن قبل الطواف قد صار قارنا أيضا، وإن أريد به أنه أهل بالعمرة ثم فرغ من أفعالها تحلل أو لم يتحلل بسوق الهدي، كما زعمه زاعمون، ولكنه أهل بحج بعد قضاء مناسك العمرة وقبل خروجه إلى منى، فهذا لم ينقله أحد من الصحابة كما قدمنا.

ومن ادعاه من الناس فقوله مردود لعدم نقله، ومخالفته الأحاديث الواردة في إثبات القران كما سيأتي.

بل والأحاديث الواردة في الإفراد كما سبق والله أعلم والظاهر والله أعلم.

و الظاهر و الله أعلم: أن حديث الليث هذا عن عقيل، عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر يروى من الطريق الأخرى عن ابن عمر حين أفرد الحج، ومن محاصرة الحجاج لابن الزبير فقيل له: أن الناس كائن بينهم شيء فلو أخرت الحج عامك هذا.

فقال: إذا أفعل كما فعل النبي ﷺ يعني: زمن حصر عام الحديبية، فأحرم بعمرة من ذي الحليفة، ثم لما علا شرف البيداء قال: ما أرى أمرهما إلا واحدا، فأهل بحج معها، فاعتقد الراوي أن رسول الله ﷺ هكذا فعل سواء، بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فرووه كذلك.

وفيه نظر لما سنبينه، وبيان هذا في الحديث الذي رواه عبد الله بن وهب، أخبرني مالك بن أنس وغيره أن نافعا حدثهم أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنع رسول الله ﷺ فخرج فأهل بالعمرة، وسار حتى إذا ظهر على ظاهر البيداء التفت إلى أصحابه فقال: «ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة».

فخرج حتى جاء البيت فطاف به، وطاف بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه، وأرى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى.

وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث مالك.

وأخرجاه من حديث عبيد الله عن نافع به.

ورواه عبد الرزاق عن عبيد الله، وعبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع به نحوه.

وفيه ثم قال في آخره: هكذا فعل رسول الله ﷺ.

وفيما رواه البخاري حيث قال: حدثنا قتيبة، ثنا ليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير.

فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك.

قال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة.

ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: «ما أرى من شأن الحج والعمرة إلا واحدا، أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي».

فأهدى هديا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.

وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله ﷺ.

وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن علية عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر دخل عليه ابنه عبد الله بن عبد الله، وظهره في المدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت.

قال: قد خرج رسول الله ﷺ فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله ﷺ، فقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ إني أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا، ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا.

وهكذا رواه البخاري عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني، عن نافع به.

ورواه مسلم من حديثهما عن أيوب به.

فقد اقتدى ابن عمر رضي الله عنه برسول الله ﷺ في التحلل عند حصر العدو والاكتفاء بطواف واحد عن الحج والعمرة، وذلك لأنه كان قد أحرم أولا بعمرة ليكون متمتعا، فخشي أن يكون حصر، فجمعهما وأدخل الحج قبل العمرة قبل الطواف، فصار قارنا.

وقال: ما أرى أمرهما إلا واحدا - يعني: لا فرق بين أن يحصر الإنسان عن الحج أو العمرة أو عنهما - فلما قدم مكة اكتفى عنهما بطوافه الأول، كما صرح به في السياق الأول الذي أفردناه.

وهو قوله: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.

قال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله ﷺ يعني: أنه اكتفى عن الحج والعمرة بطواف واحد - يعني: بين الصفا والمروة - وفي هذا دلالة على أن ابن عمر روى القران.

ولهذا روى النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف طوافا واحدا.

ثم رواه النسائي عن علي بن ميمون الرقي، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عمر، أربعتهم عن نافع أن ابن عمر أتى ذا الحليفة فأهل بعمرة، فخشي أن يصد عن البيت.

فذكر تمام الحديث من إدخاله الحج على العمرة، وصيرورته قارنا.

والمقصود: أن بعض الرواة لما سمع قول ابن عمر: إذا أصنع كما صنع رسول الله ﷺ.

وقوله: كذلك فعل رسول الله ﷺ اعتقد أن رسول الله ﷺ بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فأدخله عليها قبل الطواف، فرواه بمعنى ما فهم.

ولم يرد ابن عمر ذلك، وإنما أراد ما ذكرناه والله أعلم بالصواب، ثم بتقدير أن يكون أهل بالعمرة أولا، ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، فإنه يصير قارنا لا متمتعا التمتع الخاص، فيكون فيه دلالة لمن ذهب إلى أفضلية التمتع، والله تعالى أعلم.

وأما الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا همام عن قتادة، حدثني مطرف عن عمران قال: تمتعنا على عهد النبي ﷺ ونزل القران قال رجل برأيه ما شاء.

فقد رواه مسلم عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام، عن قتادة به.

والمراد به: المتعة التي أعم من القران، والتمتع الخاص، ويدل على ذلك ما رواه مسلم: من حديث شعبة وسعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن مطرف، عن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن الحصين أن رسول الله ﷺ جمع بين حج وعمرة - وذكر تمام الحديث -.

وأكثر السلف يطلقون المتعة على القران كما قال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة.

فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله ﷺ فلما رأى ذلك علي ابن أبي طالب أهل بهما جميعا.

ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن الحكم بن عيينة، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم عنهما به.

وقال علي: ما كنت لأدع سنة رسول الله ﷺ بقول أحد من الناس.

ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق عنهما فقال له علي: ولقد علمت إنما تمتعنا مع رسول الله ﷺ؟

قال: أجل!ولكنا كنا خائفين.

وأما الحديث الذي رواه مسلم: من حديث غندر عن شعبة، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن مسلم بن مخراق القري سمع ابن عباس يقول: أهل رسول الله ﷺ بعمرة، وأهل أصحابه بحج، فلم يحل رسول الله ﷺ ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم.

فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وروح بن عبادة عن شعبة، عن مسلم القري، عن ابن عباس قال: أهل رسول الله ﷺ بالحج - وفي رواية أبي داود - أهل رسول الله وأصحابه بالحج، فمن كان منهم لم يكن له متعة هدي حل، ومن كان معه هدي لم يحل الحديث.

فإن صححنا الروايتين جاء القران.

وإن توقفنا في كل منهما وقف الدليل.

وإن رجحنا رواية مسلم في صحيحه في رواية العمرة.

فقد تقدم عن ابن عباس أنه روى الإفراد وهو الإحرام بالحج، فتكون هذه زيادة على الحج فيجيء القول بالقران، لا سيما وسيأتي عن ابن عباس ما يدل على ذلك.

وروى مسلم: من حديث غندر ومعاذ بن معاذ عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله قال: «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

وروى البخاري عن آدم ابن أبي إياس، ومسلم من حديث غندر كلاهما، عن شعبة، عن أبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول: حج مبرور، ومتعة متقبلة.

فأخبرت ابن عباس فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه.

والمراد بالمتعة ههنا: القران.

وقال القعيني وغيره عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية ابن أبي سفيان يذكر التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله.

فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.

فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها.

فقال سعد: قد صنعها رسول الله ﷺ وصنعناها معه.

ورواه الترمذي، والنسائي عن قتيبة، عن مالك.

وقال الترمذى: صحيح.

وقال عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك كلاهما، عن سليمان التيمي، حدثني غنيم بن قيس سألت سعد ابن أبي وقاص عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

قال: فعلتها مع رسول الله ﷺ وهذا يومئذ كافر في العرش - يعني: مكة - ويعني به: معاوية -.

ورواه مسلم من حديث شعبة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد، ومروان الفزاري أربعتهم عن سليمان التيمي سمعت غنيم بن قيس، سألت سعدا عن المتعة.

فقال: قد فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش.

وفي رواية يحيى بن سعيد - يعني: معاوية -.

وهذا كله من باب إطلاق التمتع على ما هو أعم من التمتع الخاص، وهو الإحرام بالعمرة والفراغ منها ثم الإحرام بالحج ومن القران، بل كلام سعد فيه دلالة على إطلاق التمتع على الاعتمار في أشهر الحج، وذلك أنهم اعتمروا ومعاوية بعد كافر بمكة قبل الحج إما عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء وهو الأشبه، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية أسلم مع أبيه ليلة الفتح، وروينا أنه قصر من شعر النبي ﷺ بمشقص في بعض عمره، وهي عمرة الجعرانة لا محالة، والله أعلم.

ذكر حجة من ذهب إلى أنه عليه السلام كان قارنا

رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تقدم ما رواه البخاري من حديث أبي عمرو الأوزاعي، سمعت يحيى ابن أبي كثير عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ بوادي العقيق يقول: «أتاني آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة».

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقبري ببغداد، أنبأنا أحمد بن سليمان قال: قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع، حدثنا أبو زيد الهروي، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى ابن أبي كثير، ثنا عكرمة، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ «أتاني جبرائيل عليه السلام وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين، وقل عمرة في حجة، فقد دخلت العمرة في الحجة إلى يوم القيامة».

ثم قال البيهقي: رواه البخاري عن أبي زيد الهروي.

وقال الإمام أحمد: ثنا هاشم، ثنا يسار عن أبي وائل: أن رجلا كان نصرانيا يقال له: الصبى بن معبد، فأراد الجهاد.

فقيل له: إبدأ بالحج، فأتى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا، ففعل، فبينما هو يلبي إذ مر بزيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة.

فقال أحدهما لصاحبه: لهذا أضل من بعير أهله، فسمعهما الصبي فكبر ذلك عليه، فلما قدم أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له.

فقال له عمر: هديت لسنة نبيك ﷺ.

قال: وسمعته مرة أخرى يقول: وفقت لسنة نبيك ﷺ.

وقد رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن شقيق، عن أبي وائل، عن الصبى بن معبد، عن عمر بن الخطاب فذكره.

وقال: إنهما لم يقولا شيئا، هديت لسنة نبيك ﷺ.

ورواه عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي وائل به.

ورواه أيضا عن غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي وائل، وعن سفيان بن عيينة، عن عبدة بن عبدة ابن أبي لبابة، عن أبى وائل قال: قال الصبى بن معبد: كنت رجلا نصرانيا فأسلمت، فأهللت بحج وعمرة، فسمعني زيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة وأنا أهل بهما.

فقالا: لهذا أضل من بعير أهله.

فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل، فقدمت على عمر فأخبرته، فأقبل عليهما فلامهما، وأقبل علي فقال: هديت لسنة النبي ﷺ.

قال عبدة: قال أبو وائل: كثيرا ما ذهبت أنا ومسروق إلى الصبى بن معبد نسأله عنه.

وهذه أسانيد جيده على شرط الصحيح.

وقد رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجه من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة به.

وقال النسائي في كتاب الحج من سننه: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، ثنا أبي عن جمرة السكري، عن مطرف، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: والله إني لأنهاك عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، وقد فعلها النبي ﷺ. إسناد جيد.

رواية أميري المؤمنين: عثمان وعلي رضي الله عنهما.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، وكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة.

فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله ﷺ تنهى عنه.

فقال عثمان: دعنا منك.

هكذا رواه الإمام أحمد مختصرا.

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة.

فقال علي: ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله ﷺ فلما رأى ذلك علي ابن أبي طالب أهل بهما جميعا.

وهكذا لفظ البخاري.

وقال البخاري: ثنا محمد بن يسار، ثنا غندر عن شعبة، عن الحكم، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي ﷺ لقول أحد.

ورواه النسائي من حديث شعبة به.

ومن حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن علي بن الحسين به.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن قتادة قال: قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وعلي يأمر بها.

فقال عثمان لعلي: إنك لكذا وكذا.

ثم قال علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله ﷺ.

قال: أجل، ولكنا كنا خائفين.

ورواه مسلم من حديث شعبة.

فهذا اعتراف من عثمان رضي الله عنه بما رواه علي رضي الله عنهما ومعلوم أن عليا رضي الله عنه أحرم عام حجة الوداع بإهلال كإهلال النبي ﷺ وكان قد ساق الهدي، وأمره عليه السلام أن يمكث حراما، وأشركه النبي ﷺ في هديه كما سيأتي بيانه.

وروى مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن المقداد بن الأسود دخل على علي ابن أبي طالب بالسقيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا، فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي وعلى يده أمر الدقيق والخبط - ما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه - حتى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟

فقال عثمان: ذلك رأيي.

فخرج علي مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا.

وقد قال أبو داود في سننه: ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج، ثنا يونس عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنت مع علي حين أمره رسول الله ﷺ على اليمن، فذكر الحديث في قدوم علي.

قال علي: فقال لي رسول الله ﷺ: «كيف صنعت؟».

قال: قلت: إنما أهللت بإهلال النبي ﷺ قال: «إني قد سقت الهدي وقرنت».

وقد رواه النسائي من حديث يحيى بن معين بإسناده، وهو على شرط الشيخين.

وعلله الحافظ البيهقي بأنه لم يذكر هذا اللفظ في سياق حديث جابر الطويل، وهذا التعليل فيه نظر، لأنه قد روى القران من حديث جابر بن عبد الله كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وروى ابن حبان في صحيحه عن علي ابن أبي طالب قال: خرج رسول الله ﷺ من المدينة، وخرجت أنا من اليمن وقلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي.

فقال النبي ﷺ: «فإني أهللت بالحج والعمرة جميعا».

رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد رواه عنه جماعة من التابعين، ونحن نوردهم مرتبين على حروف المعجم.

بكر بن عبد الله المزني عنه قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا حميد الطويل، أنبانا بكر بن عبد الله المزني قال: سمعت أنس بن مالك يحدث قال: سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة جميعا، فحدثت بذلك ابن عمر.

فقال: لبي بالحج وحده.

فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر.

فقال: ما تعدونا إلا صبيانا سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لبيك عمرة وحجا».

ورواه البخاري عن مسدد، عن بشر بن الفضل، عن حميد به.

وأخرجه مسلم عن شريح بن يونس، عن هشيم به، وعن أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله المزني به.

ثابت البناني عن أنس: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى، عن ثابت، عن أنس أن النبي ﷺ قال: «لبيك بعمرة وحجة معا».

تفرد به من هذا الوجه الحسن البصري عنه.

قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا أشعث عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ وأصحابه قدموا مكة وقد لبوا بحج وعمرة، فأمرهم رسول الله ﷺ بعد ما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة أن يحلوا، وأن يجعلوها عمرة، فكأن القوم هابوا ذلك، فقال رسول الله ﷺ: «لولا أني سقت هديا لأحللت»، فأحل القوم وتمتعوا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا الحسن بن قزعة، ثنا سفيان بن حبيب، ثنا أشعث عن الحسن، عن أنس أن النبي ﷺ أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، أمرهم رسول الله ﷺ أن يحلوا، فهابوا ذلك فقال رسول الله ﷺ: «أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت» فحلوا حتى حلوا على النساء.

ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الحسن إلا الأشعث بن عبد الملك.

حميد بن تيرويه الطويل عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حميد سمعت أنسا سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لبيك بحج وعمرة وحج».

هذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ولا أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، لكن رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن يحيى ابن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد أنهم سمعوا أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله ﷺ أهل بهما جميعا «لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن يسر، ثنا عبد الله، أنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: ساق رسول الله ﷺ بدنا كثيرة وقال: «لبيك بعمرة وحج» وإني لعند فخذ ناقته اليسرى.

تفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا.

حميد بن هلال العدوي البصري عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، وحدثناه سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن أيوب، عن أبي قلابة، وحميد بن هلال عن أنس قال: إني ردف أبي طلحة وإن ركبته لتمس ركبة رسول الله ﷺ وهو يلبي بالحج والعمرة.

وهذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح، ولم يخرجوه، وقد تأوله البزار على أن الذي كان يلبي بالحج والعمرة أبو طلحة قال: ولم ينكر عليه النبي ﷺ.

وهذا التأويل فيه نظر ولا حاجة إليه لمجيء ذلك من طرق عن أنس كما مضى، وكما سيأتي، ثم عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى، وهو في هذه الصورة أقوى دلالة، والله أعلم.

وسيأتي في رواية سالم ابن أبي الجعد عن أنس صريح الرد على هذا التأويل.

زيد بن أسلم عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: روى سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ أهل بحج وعمرة، حدثناه الحسن بن عبد العزيز الجروي، ومحمد بن مسكين قالا: حدثنا بشر بن بكر عن سعيد بن عبد العزيز، عن زيد بن أسلم، عن أنس.

قلت: هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح، ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي بأبسط من هذا السياق فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني أبي، ثنا شعيب بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم وغيره، أن رجلا أتى ابن عمر فقال: بم أهل رسول الله ﷺ؟

قال ابن عمر: أهل بالحج.

فانصرف ثم أتاه من العام المقبل فقال: بم أهل رسول الله؟

قال: ألم تأتني عام أول!

قال: بلى ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن.

قال ابن عمر: إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله ﷺ يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج.

سالم ابن أبي الجعد الغطفاني الكوفي عنه قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن منصور، عن سالم ابن أبي الجعد، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي ﷺ أنه جمع بين الحج والعمرة فقال: «لبيك بعمرة وحجة معا».

حسن ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، ثنا عثمان بن المغيرة عن سالم ابن أبي الجعد، عن سعد مولى الحسن بن علي قال: خرجنا مع علي فأتينا ذا الحليفة.

فقال علي: إني أريد أن أجمع بين الحج والعمرة فمن أراد ذلك فليقل كما أقول، ثم لبى قال: «لبيك بحجة وعمرة معا».

قال: وقال سالم: وقد أخبرني أنس بن مالك قال: والله أن رجلي لتمس رجل رسول الله ﷺ وإنه ليهل بهما جميعا.

وهذا أيضا إسناد جيد من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وهذا السياق يرد على الحافظ البزار ما تأول به حديث حميد بن هلال عن أنس كما تقدم، والله أعلم.

سليمان بن طرخان التيمي عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، ثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أنس بن مالك قال: سمعت النبي ﷺ يلبي بهما جميعا.

ثم قال البزار: لم يروه عن التيمي إلا ابنه المعتمر، ولم يسمعه إلا من يحيى بن حبيب العربي عنه.

قلت: وهو على شرط الصحيح، ولم يخرجوه.

سويد بن حجير عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي قزعة سويد بن حجير، عن أنس بن مالك قال: كنت رديف أبي طلحة، فكانت ركبة أبي طلحة تكاد أن تصيب ركبة رسول الله ﷺ فكان رسول الله ﷺ يهل بهما.

وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد، ولم يخرجوه، وفيه رد على الحافظ البزار صريح.

عبد الله بن زيد أبو قلابة الجرمي عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: كنت رديف أبي طلحة وهو يساير النبي ﷺ قال: فإن رجلي لتمس غرز النبي ﷺ فسمعته يلبي بالحج والعمرة معا.

وقد رواه البخاري من طرق عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: صلى ﷺ الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب راحلته حتى استوت به على البيداء، حمد الله وسبح وكبر، وأهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما جميعا.

وفي رواية له: كنت رديف أبي طلحة وأنهم ليصرخون بهما جميعا الحج والعمرة.

وفي رواية له عن أيوب، عن رجل، عن أنس قال: ثم بات حتى أصبح فصلى الصبح، ثم ركب راحلته حتى إذا استوت به البيداء أهل بعمرة وحج.

عبد العزيز بن صهيب: تقدمت روايته عنه مع رواية حميد الطويل عنه عند مسلم.

علي بن زيد بن جدعان عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا علي بن حكيم عن شريك، عن علي بن زيد، عن أنس أن رسول الله ﷺ لبى بهما جميعا.

هذا غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد من أصحاب السنن، وهو على شرطهم.

قتادة بن دعامة السدوسي عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، وعبد الصمد المعني قالا: أخبرنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك، قلت: كم حج النبي ﷺ؟

قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات: عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث همام بن يحيى به.

مصعب بن سليم الزبيري مولاهم عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا مصعب بن سليم سمعت أنس بن مالك يقول: أهل رسول الله ﷺ بحجة وعمرة.

تفرد به أحمد.

يحيى بن إسحاق الحضرمي عنه: قال الإمام أحمد: ثنا هشيم، أنبأنا يحيى بن إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطويل عن أنس أنهم سمعوه يقول: سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول: «لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا».

وقد تقدم أن مسلما رواه عن يحيى بن يحيى، عن هشيم به.

وقال الإمام أحمد أيضا: ثنا عبد الأعلى عن يحيى، عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة قال: فسمعته يقول: «لبيك عمرة وحجا».

أبو الصيقل عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، ثنا زهير، وحدثنا أحمد بن عبد الملك، ثنا زهير عن أبي إسحاق، عن أبي أسماء الصيقل، عن أنس بن مالك قال: خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله ﷺ أن نجعلها عمرة.

وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكني سقت الهدي وقرنت الحج بالعمرة».

ورواه النسائي عن هناد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي أسماء الصقيل، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله ﷺ يلبي بهما.

أبو قدامة الحنفي: ويقال: إن اسمه محمد بن عبيد عن أنس، قال الإمام أحمد: ثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة عن يونس بن عبيد، عن أبي قدامة الحنفي قال: قلت لأنس: بأي شيء كان رسول الله ﷺ يلبي؟

فقال: سمعته سبع مرات يلبي بعمرة وحجة.

تفرد به الإمام أحمد، وهو إسناد جيد قوي، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

وروى ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ قرن بين الحج والعمرة، وقرن القوم معه.

وقد أورد الحافظ البيهقي بعض هذه الطرق عن أنس بن مالك، ثم شرع يعلل ذلك بكلام فيه نظر.

وحاصله: أنه قال: والاشتباه وقع لأنس لا لمن دونه، ويحتمل أن يكون سمعه رسول الله ﷺ يعلم غيره كيف يهل بالقران، لا أنه يهل بهما عن نفسه، والله أعلم.

قال: وقد روي ذلك عن غير أنس بن مالك، وفي ثبوته نظر.

قلت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من النظر الظاهر لمن تأمله، وربما أنه كان ترك هذا الكلام أولى منه، إذ فيه تطرق احتمال إلى حفظ الصحابي مع تواتره عنه كما رأيت آنفا، وفتح هذا يفضي إلى محذور كبير، والله تعالى أعلم.

حديث البراء بن عازب في القران قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشران، أنبأنا علي بن محمد المصري، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، ثنا يزيد بن هارون، أنبأنا زكريا ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة.

فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر بعمرته التي حج معها.

قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ.

قلت: سيأتي بإسناد صحيح إلى عائشة نحوه.

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: حدثنا أبو بكر ابن أبي داود، ومحمد بن جعفر بن رميس، والقاسم بن إسماعيل أبو عبيد، وعثمان بن جعفر اللبان، وغيرهم قالوا: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: حج النبي ﷺ ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة قرن معها عمرة.

وقد روى هذا الحديث الترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن سعيد الثوري به.

وأما الترمذي فرواه عن عبد الله ابن أبي زياد، عن زيد بن حباب، عن سفيان به، ثم قال: غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ورأيت عبد الله بن عبد الرحمن - يعني: الرازي - روى هذا الحديث في كتبه، عن عبد الله ابن أبي زياد، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه، ورأيته لا يعده محفوظا.

قال: وإنما روي عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن مجاهد مرسلا، وفي (السنن الكبير للبيهقي) قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ، وإنما روي هذا عن الثوري مرسلا.

قال البخاري: وكان زيد بن الحباب إذا روى خطأ ربما غلط في الشيء.

وأما ابن ماجه فرواه عن القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، عن عبد الله بن داود الخريبي، عن سفيان به.

وهذه طريق لم يقف عليها الترمذي ولا البيهقي، وربما ولا البخاري، حيث تكلم في زيد ابن الحباب ظانا أنه انفرد به، وليس كذلك والله أعلم.

طريق أخرى عن جابر قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا أبو معاوية عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله ﷺ قرن الحج والعمرة، وطاف لهما طوافا واحدا.

ثم قال: هذا حديث حسن.

وفي نسخة صحيح رواه ابن حبان في صحيحه، عن جابر قال: لم يطف النبي ﷺ إلا طوافا واحدا لحجه ولعمرته.

قلت: حجاج هذا هو: ابن أرطأة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ولكن قد روي من وجه آخر عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أيضا.

كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا مقدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى بن مقدم عن عبد الرحمن بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله ﷺ قدم فقرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي وقال رسول الله ﷺ: «من لم يقلد الهدي فليجعلها عمرة».

ثم قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، انفرد بهذه الطريق البزار في مسنده، وإسنادها غريبة جدا، وليست في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه، والله أعلم.

رواية أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا حجاج - هو: ابن أرطأة - عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس قال: أخبرني أبو طلحة أن رسول الله ﷺ جمع بين الحج والعمرة.

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن أبي معاوية بإسناده، ولفظه: أن رسول الله ﷺ قرن بين الحج والعمرة.

الحجاج بن أرطأة فيه ضعف، والله أعلم.

رواية سراقة بن مالك بن جعشم قال الإمام أحمد: حدثنا مكي بن إبراهيم، ثنا داود - يعني: ابن سويد - سمعت عبد الملك الزراد يقول: سمعت النزال بن سبرة صاحب علي يقول: سمعت سراقة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: وقرن رسول الله ﷺ في حجة الوداع.

رواية سعد ابن أبي وقاص عن النبي ﷺ أنه تمتع بالحج إلى العمرة وهو القران.

قال الإمام مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية ابن أبي سفيان يذكر التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله.

فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.

فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها.

فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.

ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن مالك به.

وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا سليمان - يعني: التيمي -، حدثني غنيم قال: سألت ابن أبي وقاص عن المتعة.

فقال: فعلناها وهذا كافر بالعرش - يعني: معاوية - هكذا رواه مختصرا.

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن سعيد الثوري، وشعبة، ومروان الفزاري، ويحيى بن سعيد القطان، أربعتهم عن سليمان بن طرخان التيمي سمعت غنيم بن قيس، سألت سعد ابن أبي وقاص عن المتعة؟

فقال: قد فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش.

قال يحيى بن سعيد في روايته - يعني: معاوية -.

ورواه عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك، كلاهما عن سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس سألت سعدا عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال: فعلتها مع رسول الله ﷺ وهذا يومئذ كافر بالعرش - يعني: مكة، ويعني به: معاوية.

وهذا الحديث الثاني أصح إسنادا، وإنما ذكرناه اعتضادا لا اعتمادا، والأول صحيح الإسناد، وهذا أصرح في المقصود من هذا، والله أعلم.

رواية عبد الله ابن أبي أوفى: قال الطبراني: حدثنا سعيد بن محمد بن المغيرة المصري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا يزيد بن عطاء عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عبد الله ابن أبي أوفى قال: إنما جمع رسول الله ﷺ بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لم يكن حاجا بعد ذلك العام.

رواية عبد الله بن عباس في ذلك: قال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني: القطان - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله ﷺ أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.

وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من طرق عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

وقال الترمذي: حسن غريب.

ورواه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة مرسلا.

ورواه الحافظ البيهقي من طريق أبي الحسن علي بن عبد العزيز البغوي عن الحسن بن الربيع، وشهاب بن عباد، كلاهما عن داود بن عبد الرحمن العطار فذكره.

وقال: الرابعة التي قرنها مع حجته، ثم قال أبو الحسن علي بن عبد العزيز: ليس أحد يقول في هذا الحديث عن ابن عباس إلا داود ابن عبد الرحمن، ثم حكى البيهقي عن البخاري أنه قال: داود بن عبد الرحمن صدوق إلا أنه ربما يهم في الشيء، وقد تقدم ما رواه البخاري من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول بوادي العقيق: «أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

فلعل هذا مستند ابن عباس فيما حكاه، والله أعلم.

رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قد تقدم فيما رواه البخاري ومسلم من طريق الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه قال: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج.

وذكر تمام الحديث في عدم إحلاله بعد السعي، فعلم كما قررناه أولا أنه عليه السلام لم يكن متمتعا التمتع الخاص، وإنما كان قارنا، لأنه حكى أنه عليه السلام لم يكن متمتعا، اكتفى بطواف واحد بين الصفا والمروة عن حجة وعمرته، وهذا شأن القارن على مذهب الجمهور كما سيأتي بيانه، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو خيثمة، ثنا يحيى بن يمان عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ طاف طوافا واحدا لإقرانه لم يحل بينهما، واشترى من الطريق - يعني: الهدي -.

وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات؛ إلا أن يحيى بن يمان وإن كان من رجال مسلم في أحاديثه عن الثوري نكارة شديدة، والله أعلم.

ومما يرجح أن ابن عمر أراد بالإفراد الذي رواه إفراد أفعال الحج، لا الإفراد الخاص الذي يصير إليه أصحاب الشافعي، وهو الحج في الاعتمار بعده في بقية ذي الحجة قول الشافعي: أنبأنا مالك عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر أنه قال: لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة.

رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد - يعني: الزبيري -، حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله ﷺ إنما قرن خشية أن يصد عن البيت وقال: «إن لم يكن حجة فعمرة».

وهذا حديث غريب سندا ومتنا، تفرد بروايته الإمام أحمد.

وقد قال أحمد في يونس بن الحارث الثقفي: هذا كان مضطرب الحديث، وضعفه، وكذا ضعفه يحيى بن معين في رواية عنه والنسائي.

وأما من حيث المتن فقوله: إنما قرن رسول الله ﷺ خشية أن يصد عن البيت، فمن الذي كان يصده عليه السلام عن البيت وقد أطد الله له الإسلام وفتح البلد الحرام، وقد نودي برحاب منى أيام الموسم في العام الماضي أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، وقد كان معه عليه السلام في حجة الوداع قريب من أربعين ألفا فقوله: خشية أن يصد عن البيت، وما هذا بأعجب من قول أمير المؤمنين عثمان لعلي ابن أبي طالب حين قال له علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله ﷺ.

فقال: أجل ولكنا كنا خائفين.

ولست أدري علام يحمل هذا الخوف من أي جهة كان؟

إلا أنه تضمن رواية الصحابي لما رواه وحمله على معنى ظنه، فما رواه صحيح مقبول، وما اعتقده ليس بمعصوم فيه، فهو موقوف عليه، وليس بحجة على غيره، ولا يلزم منه رد الحديث الذي رواه، هكذا قول عبد الله بن عمرو لو صح السند إليه، والله أعلم.

رواية عمران بن حصين رضي الله عنه: قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة عن حميد بن هلال سمعت مطرقا قال: قال لي عمران بن حصين: إني محدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله ﷺ قد جمع بين حجته وعمرته، ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن فيه يحرمه، وأنه كان يسلم علي، فلما اكتويت أمسك عني، فلما تركته عاد إلي.

وقد رواه مسلم عن محمد بن المثنى.

ومحمد بن يسار عن غندر، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه.

والنسائي عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، ثلاثتهم عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، عن عمران به.

ورواه مسلم من حديث شعبة، وسعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن الحصين أن رسول الله ﷺ جمع بين حج وعمرة - الحديث -.

قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: حديث شعبة عن حميد بن هلال، عن مطرف صحيح، وأما حديثه عن قتادة، عن مطرف فإنما رواه عن شعبة كذلك بقية بن الوليد، وقد رواه غندر وغيره عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة.

قلت: وقد رواه أيضا النسائي في سننه عن عمرو بن علي الفلاس، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، وفي نسخة عن سعيد بدل شعبة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن الحصين فذكره، والله أعلم.

وثبت في الصحيحين من حديث همام عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن الحصين قال: تمتعنا على عهد رسول الله ﷺ ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات رسول الله ﷺ.

رواية الهرماس بن زياد الباهلي: قال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن عمران بن علي أبو محمد من أهل الري وكان أصله أصبهاني، حدثنا يحيى بن الضريس، حدثنا عكرمة بن عمار عن الهرماس قال: كنت ردف أبي، فرأيت النبي ﷺ وهو على بعير له وهو يقول: «لبيك بحجة وعمرة معا».

وهذا على شرط السنن ولم يخرجوه.

رواية حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة أنها قالت للنبي ﷺ مالك لم تحل من عمرتك؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر».

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك وعبيد الله بن عمر، زاد البخاري: وموسى بن عقبة، زاد مسلم: وابن جريج، كلهم عن نافع، عن ابن عمر به، وفي لفظهما أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟

فقال: «إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر».

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا شعيب ابن أبي حمزة قال: قال نافع: كان عبد الله بن عمر يقول: أخبرتنا حفصة زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، فقالت له فلانة: ما يمنعك أن تحل؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلست أحل حتى أنحر هديي».

وقال أحمد أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن أبي إسحاق، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر، عن حفصة بنت عمر أنها قالت: لما أمر رسول الله ﷺ نساءه أن يحللن بعمرة.

قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟

قال: «إني أهديت ولبدت فلا أحل حتى أنحر هديي».

ثم رواه أحمد عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة فذكره.

فهذا الحديث فيه أن رسول الله ﷺ كان متلبسا بعمرة ولم يحل منها، وقد علم بما تقدم من أحاديث الإفراد أنه كان قد أهل بحج أيضا، فدل مجموع ذلك أنه قارن مع ما سلف من رواية من صرح بذلك، والله أعلم.

رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي ﷺ: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعا».

فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، ودعي العمرة، ففعلت، فلما قضيت الحج، أرسلني رسول الله ﷺ مع عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال: «هذه مكان عمرتك».

قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.

وكذلك رواه مسلم من حديث مالك عن الزهري فذكره.

ثم رواه عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي.

فقال رسول الله ﷺ: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته لا يحل حتى يحل منهما جميعا» - وذكر تمام الحديث كما تقدم -.

والمقصود من إيراد هذا الحديث ههنا قوله ﷺ: «من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة» ومعلوم أنه عليه السلام قد كان معه هدي، فهو أول وأولى من ائتمر بهذا، لأن المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه على الصحيح، وأيضا فإنها قالت: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا - يعني: بين الصفا والمروة -.

وقد روى مسلم عنها أن رسول الله ﷺ إنما طاف بين الصفا والمروة طوافا واحدا، فعلم من هذا أنه كان قد جمع بين الحج والعمرة.

وقد روى مسلم من حديث حماد بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: فكان الهدي مع النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وذوي اليسار، وأيضا فإنها ذكرت: أن رسول الله ﷺ لم يتحلل من النسكين فلم يكن متمتعا، وذكرت أنها سألت رسول الله ﷺ أن يعمرها من التنعيم.

وقالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج، فبعثها مع أخيها عبد الرحمن ابن أبي بكر فأعمرها من التنعيم، ولم يذكر أنه عليه السلام اعتمر بعد حجته فلم يكن مفردا، فعلم أنه كان قارنا لأنه كان باتفاق الناس قد اعتمر في حجة الوداع، والله أعلم.

وقد تقدم ما رواه الحافظ البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن زكريا ابن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب أنه قال: اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عمر، كلهن في ذي القعدة.

فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر، بعمرته التي حج معها.

وقال البيهقي في الخلافيات: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا أبو محمد ابن حبان الأصبهاني، أنبأنا إبراهيم بن شريك، أنبأنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق عن مجاهد قال: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله ﷺ؟

فقال: مرتين.

فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله ﷺ اعتمر ثلاثا سوى العمرة التي قرنها مع حجة الوداع.

ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا بأس به، لكن فيه إرسال - مجاهد لم يسمع من عائشة في قول بعض المحدثين -.

قلت: كان شعبة ينكره، وأما البخاري ومسلم فإنهما أثبتاه، والله أعلم.

وقد روى من حديث القاسم بن عبد الرحمن ابن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وغير واحد، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان معه الهدي عام حجة الوداع، وفي إعمارها من التنعيم ومصادقتها له منهبطا على أهل مكة وبيتوته بالمحصب، حتى صلى الصبح بمكة ثم رجع إلى المدينة، وهذا كله مما يدل على أنه عليه السلام لم يعتمر بعد حجته تلك، ولم أعلم أحد من الصحابة نقله، ومعلوم أنه لم يتحلل بين النسكين ولا روى أحد أنه عليه السلام بعد طوافه بالبيت، وسعيه بين الصفا والمروة حلق وقصر ولا تحلل، بل استمر على إحرامه باتفاق، ولم ينقل أنه أهل بحج لما سار إلى منى، فعلم أنه لم يكن متمتعا، وقد اتفقوا على أنه عليه السلام اعتمر عام حجة الوداع، فلم يتحلل بين النسكين، ولا أنشأ إحراما للحج، ولا اعتمر بعد الحج، فلزم القران، وهذا مما يعسر الجواب عنه، والله أعلم.

وأيضا فإن رواية القران مثبتة لما سكت عنه أو نفاه من روى الإفراد والتمتع، فهي مقدمة عليها، كما هو مقرر في علم الأصول، وعن أبي عمران أنه حج مع مواليه قال: فأتيت أم سلمة فقلت: يا أم المؤمنين إني لم أحج قط فأيهما أبدأ بالعمرة أم بالحج؟

قالت: إبدأ بأيهما شئت.

قال: ثم أتيت صفية أم المؤمنين فسألتها.

فقالت لي: مثل ما قالت لي.

ثم جئت أم سلمة فأخبرتها بقول صفية، فقالت لي أم سلمة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يا آل محمد من حج منكم فليهل بعمرة في حجة».

رواه ابن حبان في صحيحه، وقد رواه ابن حزم في حجة الوداع من حديث الليث بن سعد عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أسلم، عن أبي عمران، عن أم سلمة به.

اختلاف جماعة من الصحابة في صفة حج رسول الله

إن قيل قد رويتم عن جماعة من الصحابة أنه عليه السلام أفرد الحج، ثم رويتم عن هؤلاء بأعيانهم وعن غيرهم أنه جمع بين الحج والعمرة، فما الجمع من ذلك؟

فالجواب: أن رواية من روى أنه أفرد الحج محمولة على أنه أفرد أفعال الحج، ودخلت العمرة فيه نية وفعلا ووقتا، وهذا يدل على أنه اكتفى بطواف الحج وسعيه عنه وعنها، كما هو مذهب الجمهور في القارن، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله حيث ذهب إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، اعتمد على ما روي في ذلك عن علي ابن أبي طالب، وفي الإسناد إليه نظر.

وأما من روى التمتع، ثم روى القران فقد قدمنا الجواب عن ذلك، بأن التمتع في كلام السلف أعم من التمتع الخاص والقران، بل ويطلقونه على الاعتمار في أشهر الحج وإن لم يكن معه حج، كما قال سعد ابن أبي وقاص تمتعنا مع رسول الله ﷺ، وهذا يعني: معاوية - يومئذ كافر بالعرش - يعني: بمكة - وإنما يريد بهذا إحدى العمرتين، إما الحديبية، أو القضاء، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية قد أسلم لأنها كانت بعد الفتح، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر، وهذا بين واضح، والله أعلم.

فصل عدم نهي النبي عليه السلام عن حج التمتع والقران

إن قيل: فما جوابها عن الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي، واسمه صفوان بن خالد أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله ﷺ: أتعملون أن رسول الله ﷺ نهى عن صفف النمور؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: وأنا أشهد.

قال: أتعلمون أن رسول الله ﷺ نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول الله ﷺ نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟

قالوا: اللهم لا!

قال: والله إنها لمعهن.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا همام عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي قال: كنت في ملاء من أصحاب رسول الله ﷺ عند معاوية فقال معاوية: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله نهى عن جلود النمور أن يركب عليها؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن لباس الذهب إلا مقطعا!

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة!

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني: متعة الحج -.

قالوا: اللهم لا!

وقال أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي أنه شهد معاوية وعنده جمع من أصحاب النبي ﷺ فقال لهم معاوية: أتعلمون أن رسول الله نهى عن ركوب جلود النمور؟

قالوا: نعم!

قال: تعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الحرير؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول الله نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعملون أن رسول الله نهى عن جمع بين حج وعمرة؟

قالوا: اللهم لا!

قال: فوالله إنها لمعهن.

وكذا رواه حماد بن سلمة عن قتادة، وزاد: ولكنكم نسيتم.

وكذا رواه أشعث بن نزار، وسعيد ابن أبي عروبة، وهمام عن قتادة بأصله.

ورواه مطر الوراق، وبهيس بن فهدان عن أبي سيح في متعة الحج.

فقد رواه أبو داود، والنسائي من طرق عن أبي سيح الهنائي به.

وهو حديث جيد الإسناد.

ويستغرب منه رواية معاوية رضي الله عنه النهي عن الجمع بين الحج والعمرة، ولعل أصل الحديث النهي عن المتعة، فاعتقد الراوي أنها متعة الحج، وإنما هي: متعة النساء، ولم يكن عند أولئك الصحابة رواية في النهي عنها، أو لعل النهي عن الإقران في التمر، كما في حديث ابن عمر، فاعتقد الراوي أن المراد القران في الحج وليس كذلك أو لعل معاوية رضي الله عنه.

قال: إنما قال: أتعلمون أنه نهي عن كذا، فبناه بما لم يسم فاعله، فصرح الراوي بالرفع إلى النبي ﷺ ووهم في ذلك، فإن الذي كان ينهى عن متعة الحج، إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن نهيه عن ذلك على وجه التحريم والحتم كما قدمنا، وإنما كان ينهى عنها لتفرد عن الحج بسفر آخر ليكثر زيارة البيت، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يهابونه كثيرا، فلا يتجاسرون على مخالفته غالبا وكان ابنه عبد الله يخالفه، فيقال له: إن أباك كان ينهى عنها.

فيقول: لقد خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء، قد فعلها رسول الله ﷺ أفسنة رسول الله تتبع أم سنة عمر بن الخطاب.

وكذلك كان عثمان بن عفان رضي الله عنه ينهى عنها، وخالفه علي بن أبي طالب كما تقدم.

وقال: لا أدع سنة رسول الله ﷺ لقول أحد من الناس.

وقال عمران بن حصين: تمتعنا مع رسول الله ﷺ ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها رسول الله ﷺ حتى مات.

أخرجاه في الصحيحين.

وفي صحيح مسلم عن سعد: أنه أنكر على معاوية إنكاره المتعة وقال: قد فعلناها مع رسول الله ﷺ، وهذا يومئذ كافر بالعرش - يعني: معاوية - أنه كان حين فعلوها مع رسول الله ﷺ كافرا بمكة يومئذ.

قلت: وقد تقدم أنه عليه السلام حج قارنا بما ذكرناه من الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يكن بين حجة الوداع وبين وفاة رسول الله ﷺ أحد وثمانون يوما، وقد شهد الحجة ما ينيف عن أربعين ألف صحابي قولا منه وفعلا، فلو كان قد نهى عن القران في الحج الذي شهده منه الناس لم ينفرد به واحد من الصحابة، ويرده عليه جماعة منهم ممن سمع منه ولم يسمع.

فهذا كله مما يدل على أن هذا هكذا ليس محفوظا عن معاوية رضي الله عنه والله أعلم.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم خراساني، عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي ﷺ أتى عمر بن الخطاب، فشهد أنه سمع رسول الله ﷺ في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج.

وهذا الإسناد لا يخلو عن نظر.

ثم أن كان هذا الصحابي عن معاوية فقد تقدم الكلام على ذلك، ولكن في هذا النهي عن المتعة لا القران.

وإن كان في غيره فهو مشكل في الجملة لكن لا على القران، والله أعلم.

ذكر مستند من قال: أنه عليه الصلاة والسلام أطلق الإحرام ولم يعين حجا، ولا عمرة أولا.

ثم بعد ذلك صرفه إلى معين، وقد حكى عن الشافعي أنه الأفضل إلا أنه قول ضعيف.

قال الشافعي رحمه الله: أنبأنا سفيان، أنبأنا ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة، وهشام بن حجير سمعوا طاوسا يقول: خرج رسول الله ﷺ من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم من أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة.

وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولكن لبدت رأسي وسقت هديي، فليس لي محل إلا محل هديي».

فقام إليه سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله اقض لنا قضاء كأنما ولدوا اليوم، أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟.

فقال رسول الله ﷺ: «بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: فدخل علي من اليمن فسأله النبي ﷺ: «بم أهللت؟».

فقال أحدهما: لبيك إهلال النبي ﷺ.

وقال الآخر: لبيك حجة النبي ﷺ.

وهذا مرسل طاوس وفيه غرابة.

وقاعدة الشافعي رحمه الله: أنه لا يقبل المرسل بمجرده حتى يعتضد بغيره.

اللهم إلا أن يكون عن كبار التابعين كما عول عليه كلامه في الرسالة، لأن الغالب أنهم لا يرسلون إلا عن الصحابة، والله أعلم.

وهذا المرسل ليس من هذا القبيل بل هو مخالف للأحاديث المتقدمة كلها: أحاديث الإفراد، وأحاديث التمتع، وأحاديث القران، وهي مسندة صحيحة كما تقدم، فهي مقدمة عليه ولأنها مثبتة أمرا نفاه هذا المرسل، والمثبت مقدم على النافي لو تكافئا، فكيف والمسند صحيح، والمرسل من حيث لا ينهض حجة لانقطاع سنده، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا محاضر، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ لا نذكر حجا ولا عمرة، فلما قدمنا أمرنا أن نحل، فلما كانت ليلة النفر حاضت صفية بنت حيي.

فقال النبي ﷺ: «حلقى عقرى».

ما أراها إلا حابستكم.

قال: «هل كنت طفت يوم النحر؟».

قالت: نعم!

قال: «فانفري».

قالت: قلت: يا رسول الله إني لم أكن أهللت.

قال: «فاعتمري من التنعيم».

قال: فخرج معها أخوها.

قالت: فلقينا مدلجا.

فقال: موعدكن كذا وكذا.

هكذا رواه البيهقي.

وقد رواه البخاري عن محمد قيل: هو ابن يحيى الذهلي، عن محاضر بن المورع به إلا أنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ لا نذكر إلا الحج.

وهذا أشبه بأحاديثها المتقدمة، لكن روى مسلم عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ لا نذكر حجا ولا عمرة.

وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث منصور عن إبراهيم، عن الأسود، عنها قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ ولا نرى إلا أنه الحج.

وهذا أصح وأثبت والله أعلم.

وفي رواية لها من هذا الوجه: خرجنا نلبي ولا نذكر حجا ولا عمرة، وهو محمول على أنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية، وإن كانوا قد سموه حال الإحرام، كما في حديث أنس سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لبيك اللهم حجا وعمرة».

وقال أنس: وسمعتهم يصرخون بهما جميعا.

فأما الحديث الذي رواه مسلم من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة، عن جابر وأبي سعيد الخدري قالا: قدمنا مع رسول الله ﷺ ونحن نصرخ بالحج صراخا.

فإنه حديث مشكل على هذا، والله أعلم.

ذكر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله ﷺ «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك».

وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: «لبيك لك وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل».

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف.

ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به.

وقال مسلم: حدثنا محمد بن عباد، ثنا حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع مولى عبد الله بن عمرو، وحمزة بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك».

قالوا: وكان عبد الله يقول: هذه تلبية رسول الله.

قال نافع: وكان عبد الله يزيد مع هذا: لبيك لبيك لبيك، وسعديك والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله، أخبرني نافع عن ابن عمر قال: تلقفت التلبية من في رسول الله ﷺ فذكر بمثل حديثهم.

حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يهل ملبيا يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» لا يزيد على هؤلاء الكلمات.

وإن عبد الله بن عمر يقول: كان رسول الله ﷺ يركع بذي الحليفة ركعتين، فإذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهل بهؤلاء الكلمات.

وقال عبد الله بن عمر: كان عمر بن الخطاب يهل بإهلال النبي ﷺ من هؤلاء الكلمات وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

هذا لفظ مسلم.

وفي حديث جابر من التلبية كما في حديث ابن عمر، وسيأتي مطولا قريبا رواه مسلم منفردا به.

وقال البخاري بعد إيراده من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر ما تقدم: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية، عن عائشة قالت: إني لأعلم كيف كان النبي ﷺ يلبي: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك».

تابعه أبو معاوية عن الأعمش.

وقال شعبة: أخبرنا سليمان سمعت خيثمة عن أبي عطية، سمعت عائشة.

تفرد به البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية الوادي، عن عائشة فذكر مثل ما رواه البخاري سواء.

ورواه أحمد عن أبي معاوية، وعبد الله بن نمير عن الأعمش، كما ذكره البخاري سواء.

ورواه أيضا عن محمد بن جعفر، وروح بن عبادة عن شعبة، عن سليمان بن مهران الأعمش به، كما ذكره البخاري.

وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة سواء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية قال: قالت عائشة: إني لأعلم كيف كان رسول الله ﷺ يلبي قال: ثم سمعتها تلبي فقالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك.

فزاد في هذا السياق وحده: والملك لا شريك لك.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة، أن عبد الله بن الفضل حدثه عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أنه قال: كان من تلبية رسول الله ﷺ: «لبيك إله الحق».

وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة.

وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع عن عبد العزيز به.

قال النسائي: ولا أعلم أحدا أسنده عن عبد الله ابن الفضل إلا عبد العزيز.

ورواه إسماعيل بن أمية مرسلا.

وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج عن مجاهد أنه قال: كان النبي ﷺ يظهر من التلبية: لبيك اللهم لبيك - فذكر التلبية -.

قال: حتى إذا كان ذات يوم، والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها: لبيك إن العيش عيش الآخرة.

قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك يوم عرفة.

هذا مرسل من هذا الوجه.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد يوسف بن محمد بن محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا محبوب بن الحسن، ثنا داود عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خطب بعرفات فلما قال: «لبيك اللهم لبيك».

قال: «إنما الخير خير الآخرة».

وهذا إسناد غريب، وإسناده على شرط السنن ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أسامة بن زيد، حدثني عبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: «أمرني جبرائيل برفع الصوت في الإهلال، فإنه من شعائر الحج».

تفرد به أحمد.

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ فذكره.

وقد قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي لبيد، عن المطلب بن حنطب، عن خلاد، عن السائب عن، زيد بن خالد قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج.

وكذا رواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن الثوري به.

وكذلك رواه شعبة، وموسى بن عقبة عن عبد الله ابن أبي لبيد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سليمان، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله ﷺ: «جاءني جبرائيل فقال: يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج».

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في كتابه (الأطراف): وقد رواه معاوية عن هشام وقبيصة، عن سفيان الثوري، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن زيد بن خالد به.

وقال أحمد: ثنا سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك ابن أبي بكر بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب بن خلاد، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: «أتاني جبرائيل فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال».

وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وحدثنا روح، ثنا مالك - يعني: ابن أنس - عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «أتاني جبرائيل فأمرني أن آمر أصحابي - أو من معي - أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أو بالإهلال يريد أحدهما».

وكذلك رواه الشافعي عن مالك، ورواه أبو داود عن القعنبي، عن مالك به.

ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث ابن جريج.

والترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر به.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحافظ البيهقي: ورواه ابن جريج قال: كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر فذكره، ولم يذكر أبا خلاد في إسناده.

قال: والصحيح رواية مالك وسفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن النبي ﷺ كذلك قال البخاري وغيره كذا قال.

وقد قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا السائب بن خلاد بن سويد أبي سهلة الأنصاري، ثنا محمد بن بكر، أنبأنا ابن جريج، وثنا روح، ثنا ابن جريج قال: كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه السائب بن خلاد أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «أتاني جبرائيل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإهلال».

وقال ورح: بالتلبية أو الإهلال، قال: لا أدري أينا، وهل أنا أو عبد الله أو خلاد في الإهلال أو التلبية.

هذا لفظ أحمد في مسنده، وكذلك ذكره شيخنا في أطرافه عن ابن جريج كرواية مالك وسفيان بن عيينة، فالله أعلم.

فصل في التلبية

في إيراد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجة رسول الله ﷺ وهو وحده منسك مستقل، رأينا أن إيراده ههنا أنسب لتضمنه التلبية وغيرها كما سلف، وما سيأتي فنورد طرقه وألفاظه ثم نتبعه بشواهده من الأحاديث الواردة في معناه، وبالله المستعان.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا جعفر بن محمد، حدثني أبي قال: أتينا جابر بن عبد الله وهو في بني سلمة - فسألناه عن حجة رسول الله ﷺ، فحدثنا أن رسول الله ﷺ مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج في هذا العام قال: فنزل المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ﷺ ويفعل ما يفعل، فخرج رسول الله ﷺ لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة نفست أسماء بنت عميس بمحمد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله ﷺ كيف أصنع؟

قال: «اغتسلي ثم استثفري بثوب، ثم أهلي».

فخرج رسول الله ﷺ حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ولبى الناس، والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي ﷺ يسمع فلم يقل لهم شيئا، فنظرت مد بصري بين يدي رسول الله ﷺ من راكب وماش، ومن خلفه كذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، قال جابر: ورسول الله ﷺ بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملناه، فخرجنا لا ننوي إلا الحج، حتى إذا أتينا الكعبة فاستلم نبي الله ﷺ الحجر الأسود، ثم رمل ثلاثة ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } [30].

قال أحمد: وقال أبو عبد الله - يعني: - جعفر - فقرأ فيهما بالتوحيد، وقل يا أيها الكافرون، ثم استلم الحجر وخرج إلى الصفا، ثم قرأ { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } [31].

ثم قال: «نبدأ بما بدأ الله به» فرقي على الصفا حتى إذا نظر إلى البيت كبر ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده وصدق وعده، وهزم - أو غلب - الأحزاب وحده» ثم دعا، ثم رجع إلى هذا الكلام، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى، حتى إذا أتى المروة فرقي عليها حتى نظر إلى البيت فقال عليها كما قال على الصفا، فلما كان السابع عند المروة قال: «يا أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة» فحل الناس كلهم.

فقال سراقة بن مالك بن جعثم - وهو في أسفل الوادي -: يا رسول الله ألعامنا هذا، أم للأبد؟

فشبك رسول الله ﷺ أصابعه فقال: «للأبد ثلاث مرات» ثم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: وقدم علي من اليمن بهدي وساق رسول الله ﷺ معه هدي من المدينة هديا، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أمرني به أبي.

قال: قال علي بالكوفة: قال جعفر: قال: إلى هذا الحرف لم يذكره جابر، فذهبت محرشا استفتي رسول الله ﷺ في الذي ذكرت فاطمة.

قلت: إن فاطمة لبست ثيابا صبيغا واكتحلت وقالت: أمرني أبي.

قال: «صدقت صدقت، أنا أمرتها به».

وقال جابر: وقال لعلي: «بم أهللت»؟

قال: قلت: اللهم إني أهل لما أهل به رسولك قال: ومعي الهدي.

قال: «فلا تحل».

قال: وكان جماعة الهدي الذي أتى به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله ﷺ مائة، فنحر رسول الله ﷺ بيده ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.

ثم قال رسول الله ﷺ: «قد نحرت ههنا، ومنى كلها منحر»، ووقف بعرفة فقال: «وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» ووقف بالمزدلفة وقال: «وقفت ههنا والمزدلفة كلها موقف».

هكذا أورد الإمام أحمد هذا الحديث وقد اختصر آخره جدا.

ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في المناسك من صحيحه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله فذكره.

وقد أعلمنا على الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم إلى قوله عليه السلام لعلي: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟»

قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ﷺ.

قال علي: فإن معي الهدي.

قال: «فلا تحل».

قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله ﷺ مائة.

قال: فحل الناس كلهم، وقصروا إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله ﷺ فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر، فضربت له بنمرة، فسار رسول الله ﷺ ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله ﷺ حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، ورباء الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وأديت.

فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات».

ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله ﷺ حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق القصواء الزمام، حتى أن رأسها لتصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة»، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب، والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله ﷺ حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله ﷺ مرت ظعن بجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله ﷺ يده على وجه الفضل، فحول الفضل يده إلى الشق الآخر، فحول رسول الله ﷺ يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى إذا أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقعها، ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يستقون على زمزم.

فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه.

ثم رواه مسلم عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر فذكره بنحوه، وذكر قصة أبي سيارة، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عرى، وأن رسول الله ﷺ قال: «نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف».

وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلي، وعثمان ابن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بنحو من رواية مسلم، وقد رمزنا لبعض زياداته عليه.

ورواه أبو داود أيضا والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر به.

ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد ببعضه، عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه.

ذكرالأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته

قال البخاري باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضيع التي صلى فيها النبي ﷺ: حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي قال: ثنا فضيل بن سليمان قال: ثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة.

وحدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالما فلا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.

قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض قال: ثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق، أو في حج، أو عمرة هبط من بطن واد فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس، ثم حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله ﷺ ثم يصلي فدحى السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي ﷺ صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي ﷺ، يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك، وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثم مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح، وأن عبد الله حدثه أن النبي ﷺ: كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضى من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها، فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق في ساقها كثب كثيرة، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي ﷺ صلى طرف تلعة من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله ﷺ نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلى إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن.

وأن عبد الله ابن عمر حدثة أن رسول الله ﷺ: كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة ليس بين منزل رسول الله ﷺ وبين الطريق إلا رمية بحجر، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي طوى ويبيت حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله ﷺ ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة وأن عبد الله حدثه: أن رسول الله ﷺ استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي ﷺ أسفل منه على الأكمة السوداء تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.

تفرد به البخاري رحمه الله بهذا الحديث بطوله وسياقه، إلا أن مسلما روى منه عند قوله في آخره.

وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن رسول الله ﷺ كان ينزل بذي طوى إلى آخر الحديث، عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر فذكره.

وقد رواه الإمام أحمد بطوله عن أبي قرة موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر به نحوه.

وهذه الأماكن لا يعرف اليوم كثيرا منها أو أكثرها، لأنه قد غير أسماء أكثر هذه البقاع اليوم عند هؤلاء الأعراب الذين هناك، فإن الجهل قد غلب على أكثرهم، وإنما أوردها البخاري رحمه الله في كتابه لعل أحدا يهتدي إليها بالتأمل والتفرس والتوسم، أو لعل أكثرها أو كثيرا منها كان معلوما في زمان البخاري، والله تعالى أعلم.

باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة شرفها الله عز وجل

قال البخاري: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن عبد الله، حدثني نافع عن ابن عمر قال: بات النبي ﷺ بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله.

ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به، وزاد: حتى صلى الصبح، أو قال: حتى أصبح.

وقال مسلم: ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي ﷺ أنه فعله.

ورواه البخاري: من حديث حماد بن زيد، عن أيوب به.

ولهما من طريق أخرى عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى.

وذكره وتقدم آنفا ما أخرجاه من طريق موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يبيت بذي طوى حتى يصبح، فيصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله ﷺ عند أكمة غليظة، وأن رسول الله ﷺ استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله ﷺ أسفل منه على الأكمة السوداء، يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم يصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة - أخرجاه في الصحيحين -.

وحاصل هذا كله أنه عليه السلام لما انتهى في مسيره إلى ذي طوى وهو قريب من مكة متاخم للحرم أمسك عن التلبية، لأنه قد وصل إلى المقصود، وبات بذلك المكان حتى أصبح فصلى هنالك الصبح في المكان الذي وصفوه بين فرضتي الجبل الطويل هنالك، ومن تأمل هذه الأماكن المشار إليها بعين البصيرة عرفها معرفة جيدة، وتعين له المكان الذي صلى فيه رسول الله ﷺ، ثم اغتسل صلوات الله وسلامه عليه لأجل دخول مكة، ثم ركب ودخلها نهارا جهرة علانية من الثنية العليا التي بالبطحاء.

ويقال: كذا ليراه الناس، ويشرف عليهم، وكذلك دخل منها يوم الفتح كما ذكرناه.

قال مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دخل مكة من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى.

أخرجاه في الصحيحين من حديثه.

ولهما من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دخل مكة من الثنية العليا التي في البطحاء، وخرج من الثنية السفلى.

ولهما أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مثل ذلك.

لما وقع بصره عليه السلام على البيت، قال ما رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي ﷺ كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه، فمن حجه واعتمره تشريفا، وتكريما، وتعظيما، وبرا».

قال الحافظ البيهقي: هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول قال: كان النبي ﷺ إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من حجه، أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا».

وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «ترفع الأيدي في الصلاة، واذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين، وعلى الميت».

قال الحافظ البيهقي: وقد رواه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر مرة موقوفا عليهما، ومرة مرفوعا إلى النبي ﷺ دون ذكر الميت.

قال: وابن أبي ليلى هذا غير قوي، ثم إنه عليه السلام دخل المسجد من باب بني شيبة.

قال الحافظ البيهقي: روينا عن ابن جريج، عن عطاء ابن أبي رباح قال: يدخل المحرم من حيث شاء قال: ودخل النبي ﷺ من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا.

ثم قال البيهقي: وهذا مرسل جيد، وقد استدل البيهقي على استحباب دخول المسجد من باب بني شيبة، بما رواه من طريق أبي داود الطيالسي: ثنا حماد بن سلمة وقيس بن سلام، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله ﷺ من باب بني شيبة، فأمر رسول الله ﷺ بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله ﷺ فوضعه، وقد ذكرنا هذا مبسوطا في باب بناء الكعبة قبل البعثة.

وفي الاستدلال على استحباب الدخول من باب بني شيبة بهذا نظر، والله أعلم.

صفة طوافه صلوات الله وسلامه عليه

قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن محمد عن محمد بن عبد الرحمن قال: ذكرت لعروة قال: أخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي ﷺ أنه توضأ ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر مثله، ثم حججت مع أبي الزبير فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها، والزبير، وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا.

هذا لفظه، وقد رواه في موضع آخر عن أحمد بن عيسى، ومسلم عن هارون بن سعيد، ثلاثتهم عن ابن وهب به.

وقولها: ثم لم تكن عمرة، يدل على أنه عليه السلام لم يتحلل بين النسكين، ثم كان أول ما ابتدأ به عليه السلام استلام الحجر الأسود قبل الطواف، كما قال جابر: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا.

وقال البخاري: ثنا محمد ابن كثير، ثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله.

وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن أبي نمير، جميعا عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك، ما قبلتك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، وأبو معاوية قالا: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم بن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر أتى الحجر فقال: أما والله لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك، ما قبلتك، ثم دنا فقبله.

فهذا السياق يقتضي أنه قال ما قال ثم قبله بعد ذلك؛ بخلاف سياق صاحبي الصحيح، فالله أعلم.

وقال أحمد: ثنا وكيع ويحيى، واللفظ لوكيع عن هشام، عن أبيه أن عمر بن الخطاب أتى الحجر فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، وقال: ثم قبله.

وهذا منقطع بين عروة بن الزبير، وبين عمر.

وقال البخاري أيضا: ثنا سعيد ابن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر ابن أبي كثير، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ استلمك ما استلمتك، فاستلمه.

ثم قال: وما لنا والرمل، إنما كنا راءينا به المشركين، ولقد أهلكهم الله.

ثم قال: شيء صنعه رسول الله ﷺ فلا نحب أن نتركه.

وهذا يدل على أن الاستلام تأخر عن القول.

وقال البخاري: ثنا أحمد بن سنان، ثنا يزيد بن هارون، ثنا ورقاء، ثنا زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال: لولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.

وقال مسلم بن الحجاج: ثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس - هو: ابن يزيد الأيلي - وعمرو - هو: ابن دينار -، وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو عن ابن شهاب، عن سالم أن أباه حدثه أنه قال: قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال: أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.

زاد هارون في روايته: قال عمرو: وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم - يعني: عن عمر به -.

وهذا صريح في أن التقبيل يقدم على القول، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر ثم قال: قد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ قبلك ما قبلتك.

هكذا رواه الإمام أحمد.

وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن محمد ابن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر وقال: إني لأقبلك، وإني لأعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك.

ثم قال مسلم: ثنا خلف ابن هشام، والمقدمي، وأبو كامل، وقتيبة، كلهم عن حماد قال خلف: ثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني: عمر - يقبل الحجر ويقول: والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.

وفي رواية المقدمي، وأبي كامل: رأيت الأصلع، وهذا من أفراد مسلم دون البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس به.

ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن عاصم الأحول به.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت أبا القاسم ﷺ بك حفيا.

ثم رواه أحمد عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وزاد: فقبله والتزمه.

وهكذا رواه مسلم من حديث عبد الرحمن بن مهدي بلا زيادة، ومن حديث وكيع بهذه الزيادة: قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله بك حفيا.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أكب على الركن وقال: إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي ﷺ قبلك واستلمك، ما استلمتك ولا قبلتك { لقدْ كان لكمْ في رسول الله أسْوة حسنة } [32].

وهذا اسناد جيد قوي ولم يخرجوه.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا جعفر بن عثمان القرشي - من أهل مكة - قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله، وسجد عليه.

وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله، وسجد عليه.

ثم قال عمر: لو لم أر النبي ﷺ قبله ما قبلته.

وهذا أيضا إسناد حسن، ولم يخرجه إلا النسائي عن عمرة بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن حنظلة ابن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر، فذكر نحوه.

وقد روى هذا الحديث عن عمر الإمام أحمد أيضا، من حديث يعلى بن أمية عنه.

وأبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق هشام بن حشيش بن الأشقر عن عمر.

وقد أوردنا ذلك كله بطرقه وألفاظه، وعزوه، وعلله في الكتاب الذي جمعناه في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة.

وبالجملة فهذا الحديث مروي من طرق متعددة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي تفيد القطع عند أكثر من أئمة هذا الشأن، وليس في هذه الروايات أنه عليه السلام سجد على الحجر، إلا ما أشعر به رواية أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان وليست صريحة في الرفع.

ولكن رواه الحافظ البيهقي من طريق أبي عاصم النبيل، ثنا جعفر بن عبد الله قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه.

ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله وسجد عليه.

وقال ابن عباس: رأيت عمر قبله وسجد عليه.

ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل هكذا، ففعلت.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا الطبراني، أنبأنا أبو الزنباع، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا يحيى بن يمان، ثنا سفيان ابن أبي حسين عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله ﷺ سجد على الحجر.

قال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا يحيى بن يمان.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا حماد عن الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر.

قال: رأيت رسول الله ﷺ يستلمه ويقبله.

قال: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت؟

قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله ﷺ يستلمه ويقبله.

تفرد به دون مسلم.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما تركت استلام هذين الركنين في شدة ولا رخاء، منذ رأيت رسول الله ﷺ يستلمها.

فقلت لنافع: أكان ابن عمر يمشي بين الركنين؟

قال: إنما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه.

وروى أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة.

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا ليث عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: لم أر النبي ﷺ يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وقتيبة عن الليث بن سعد به.

وفي رواية عنه أنه قال: ما أرى النبي ﷺ ترك استلام الركنين الشاميين إلا أنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم.

وقال البخاري: وقال محمد بن بكر: أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أنه قال: ومن يتقي شيئا من البيت، وكان معاوية يستلم الأركان.

فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم هذان الركنان.

فقال له: ليس من البيت شيء مهجورا.

وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن.

انفرد بروايته البخاري رحمه الله تعالى.

وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن قتادة بن دعامة حدثه: أن أبا الطفيل البكري حدثه: أنه سمع ابن عباس يقول: لم أر رسول الله ﷺ يستلم غير الركنين اليمانيين.

انفرد به مسلم.

فالذي رواه ابن عمر موافق لما قاله ابن عباس، أنه لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم، لأن قريشا قصرت بهم النفقة فأخرجوا الحجر من البيت حين بنوه كما تقدم بيانه.

وود النبي ﷺ أن لو بناه فتممه على قواعد إبراهيم، ولكن خشي من حداثة عهد الناس بالجاهلية فتنكره قلوبهم، فلما كانت إمرة عبد الله بن الزبير هدم الكعبة وبناها على ما أشار إليه ﷺ، كما أخبرته خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، فإن كان ابن الزبير استلم الأركان كلها بعد بنائه إياها على قواعد إبراهيم فحسن جدا، وهو والله المظنون به.

وقال أبو داود: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه.

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن يحيى.

وقال النسائي: ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول بين الركن اليماني والحجر: { ربنا آتنا في الدنْيا حسنة وفي الْآخرة حسنة وقنا عذاب النار } [33].

ورواه أبو داود عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج به.

وقال الترمذي: ثنا محمود بن غيلان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما قدم النبي ﷺ مكة دخل المسجد فاستلم الحجر، ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم أتى المقام فقال: { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } [34]. فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا أظنه قال: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله }.

هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.

وهكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم.

ورواه الطبراني عن النسائي، وغيره، عن عبد الأعلى بن واصل، عن يحيى بن آدم به.

ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه

قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أشواط من السبع.

ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب به.

وقال البخاري: ثنا محمد بن سلام، ثنا شريح بن النعمان، ثنا فليح عن نافع، عن ابن عمر قال: سعى النبي ﷺ ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة. - تابعه الليث -.

حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ. انفرد به البخاري.

وقد روى النسائي عن محمد وعبد الرحمن ابني عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر به.

وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، ثنا موسى بن عقبة عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ كان اذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة.

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.

وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.

ورواه مسلم من حديث عبيد الله بن عمر.

قال مسلم: أنبأنا عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: رمل رسول الله ﷺ من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا.

ثم رواه من حديث سليم بن أخضر عن عبيد الله بنحوه.

وقال مسلم أيضا: حدثني أبو طاهر، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وابن جريج عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر.

وقال عمر بن الخطاب: فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطد الله الإسلام ونفى الكفر، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نفعله مع رسول الله ﷺ.

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عنه.

وهكذا كله رد على ابن عباس، ومن تابعه من أن المرسل ليس بسنة، لأن رسول الله إنما فعله لما قدم هو وأصحابه صبيحة رابعة - يعني: في عمرة القضاء -.

وقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا خشية الإبقاء عليهم.

وهذا ثابت عنه في الصحيحين، وتصريحه لعذر سببه في صحيح مسلم أظهر، فكان ابن عباس ينكر وقوع الرمل في حجة الوداع.

وقد صح بالنقل الثابت كما تقدم بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحجر إلى الحجر، ولم يمش ما بين الركنين اليمانيين لزوال تلك العلة المشار إليها، وهي الضعف.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس أنهم رملوا في عمرة الجعرانة واضطبعوا، وهو رد عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لأنها بعد الفتح كما تقدم.

رواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت واضطبعوا، ووضعوا أرديتهم تحت آباطهم وعلى عواتقهم.

ورواه أبو داود من حديث حماد بنحوه.

ومن حديث عبد الله بن خثيم عن أبي الطفيل، عن ابن عباس به.

فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن يعلى بن أمية، عن أمية قال: رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالبيت مضطبعا.

رواه الترمذي من حديث الثوري وقال: حسن صحيح.

وقال أبو داود: ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه قال: طاف رسول الله مضطبعا برداء أخضر.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن الثوري، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه أن النبي ﷺ لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع، ببرد له أخضر.

وقال جابر في حديثه المتقدم: حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } [35].

فجعل المقام بينه وبين البيت، فذكر أنه صلى ركعتين قرأ فيهما: { قلْ هو الله أحد }، و { قلْ ياأيها الْكافرون }.

فإن قيل: فهل كان عليه السلام في هذا الطواف راكبا أو ماشيا؟.

فالجواب: أنه قد ورد نقلان، قد يظن أنهما متعارضان، ونحن نذكرهما، ونشير إلى التوفيق بينهما، ورفع اللبس عند من يتوهم فيهما تعارضا، وبالله التوفيق وعليه الاستعانة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا: ثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ على بعيره في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن.

وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن ابن وهب.

قال البخاري: تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري، عن عمه، وهذه المتابعة غريبة جدا.

وقال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه.

وقد رواه الترمذي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبد الوارث، كلاهما عن خالد بن مهران الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله ﷺ على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه.

وقال: حسن صحيح.

ثم قال البخاري: ثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ بالبيت على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده، وكبر.

تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء، وقد أسند هذا التعليق ها هنا في كتاب الطواف عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان به.

وروى مسلم عن الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ طاف في حجة الوداع حول الكعبة على بعير، يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.

فهذا إثبات أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير، ولكن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف:

الأول: طواف القدوم.

والثاني: طواف الإفاضة وهو طواف الفرض، وكان يوم النحر.

والثالث: طواف الوداع.

فلعل ركوبه ﷺ كان في أحد الآخرين أو في كليهما.

فأما الأول: وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه، وقد نص الشافعي على هذا كله، والله أعلم وأحكم.

والدليل على ذلك: ما قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (السنن الكبير): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق هو ابن يسار رحمه الله عن أبي جعفر وهو محمد بن علي بن الحسين، عن جابر بن عبد الله قال: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي ﷺ باب المسجد، فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا حتى فرغ، فلما فرغ قبل الحجر ووضع يده عليه، ومسح بهما وجهه. وهذا إسناد جيد.

فأما ما رواه أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين.

تفرد به يزيد ابن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم لم يذكر أنه في حجة الوداع، ولا ذكر أنه في الطواف الأول من حجة الوداع، ولم يذكر ابن عباس في الحديث الصحيح عنه عند مسلم، وكذا جابر أن النبي ﷺ ركب في طوافه لضعفه، وإنما ذكر لكثرة الناس وغشيانهم له، وكان لا يحب أن يضربوا بين يديه، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله.

ثم هذا التقبيل الثاني الذي ذكره ابن إسحاق في روايته بعد الطواف، وبعد ركعتيه أيضا، ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر.

قال فيه بعد ذكر صلاة ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه.

وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وابن نمير جميعا عن أبي خالد قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبيد الله، عن نافع قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده قال: وما تركته منذ رأيت رسول الله ﷺ يفعله.

فهذا يحتمل: أنه رأى رسول الله ﷺ في بعض الطوافات، أو في آخر استلام فعل هذا لما ذكرنا.

أو أن ابن عمر لم يصل إلى الحجر لضعف كان به، أو لئلا يزاحم غيره فيحصل لغيره أذى به.

وقد قال رسول الله ﷺ لوالده ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن أبي يعفور العبدي قال: سمعت شيخا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله ﷺ قال: «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر».

وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مبهم لم يسم.

والظاهر: أنه ثقة جليل، فقد رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي، واسمه: وقدان سمعت رجلا من خزاعة حين قتل ابن الزبير، وكان أميرا على مكة يقول: قال رسول الله لعمر: «يا أبا حفص إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فكبر وامض».

قال سفيان بن عيينة - هو عبد الرحمن بن الحارث -: كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها حين قتل ابن الزبير.

قلت: وقد كان عبد الرحمن هذا جليلا نبيلا كبير القدر، وكان أحد النفر الأربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التي نفذها إلى الآفاق، ووقع ما فعله الاجماع والاتفاق.

ذكر طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة

روى مسلم في صحيحه عن جابر في حديثه الطويل المتقدم بعد ذكره طوافه عليه السلام بالبيت سبعا، وصلاته عند المقام ركعتين قال: ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله به».

فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».

ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فرقي عليها حتى نظر إلى البيت، فقال عليها كما قال على الصفا.

وقال الإمام أحمد: ثنا عمر بن هارون البلخي أبو حفص، ثنا ابن جريج عن بعض بني يعلى بن أمية، عن أبيه قال: رأيت النبي ﷺ مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد له نجراني.

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن، ثنا عطية عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: دخلت دار حصين في نسوة من قريش، والنبي ﷺ يطوف بين الصفا والمروة قالت: وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه: «اسعوا إن الله كتب عليكم السعي».

وقال أحمد أيضا: ثنا شريح، ثنا عبد الله بن المؤمل، ثنا عطاء ابن أبي رباح عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت النبي ﷺ يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يكور به إزاره وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي».

تفرد به أحمد.

وقد رواه أحمد أيضا عن عبد الرزاق، عن معمر، عن واصل مولى أبي عيينة، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي ﷺ بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا».

وهذه المرأة هي: حبيبة بنت أبي تجراة، المصرح بذكرها في الإسنادين الأولين.

وعن أم ولد شيبة بن عثمان أنها أبصرت النبي ﷺ وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهو يقول: «لا يقطع الأبطح إلا شدا». رواه النسائي.

والمراد بالسعي هاهنا هو: الذهاب من الصفا إلى المروة ومنها إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الهرولة والإسراع، فإن الله لم يكتبه علينا حتما، بل لو مشى الانسان على هينة في السبع الطوافات بينهما، ولم يرمل في المسير، أجزأه ذلك عند جماعة العلماء لا نعرف بينهم اختلافا في ذلك.

وقد نقله الترمذي رحمه الله عن أهل العلم.

ثم قال: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جهمان قال: رأيت ابن عمر يمشي في المسعى فقلت: أتمشي في السعي بين الصفا والمروة؟

فقال: لئن سعيت فقد رأيت رسول الله ﷺ يسعى، ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله ﷺ يمشي، وأنا شيخ كبير.

ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.

وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا.

وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب عن كثير بن جهمان السلمي الكوفي، عن ابن عمر.

فقول ابن عمر: أنه شاهد الحالين منه ﷺ يحتمل شيئين:

أحدهما: أنه رآه يسعى في وقت ماشيالم يمزجه برمل فيه بالكلية.

والثاني: أنه رآه يسعى في بعض الطريق، ويمشي في بعضه، وهذا له قوة لأنه قد روى البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.

وتقدم في حديث جابر أنه عليه السلام نزل من الصفا، فلما انصبت قدماه في الوادي، رمل حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة.

وهذا هو الذي تستحبه العلماء قاطبة أن الساعي بين الصفا والمروة، - وتقدم في حديث جابر - يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوافه في بطن المسيل الذي بينهما، وحددوا ذلك بما بين الأميال الخضر فواحد مفرد من ناحية الصفا مما يلي المسجد، واثنان مجتمعان من ناحية المروة مما يلي المسجد أيضا.

وقال بعض العلماء: ما بين هذه الأميال اليوم أوسع من بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله ﷺ، فالله أعلم.

وأما قول محمد بن حزم في الكتاب الذي جمعه في حجة الوداع: ثم خرج عليه السلام إلى الصفا فقرأ: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله به، فطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعير يخب ثلاثا، ويمشي أربعا، فإنه لم يتابع على هذا القول، ولم يتفوه به أحد قبله من أنه عليه السلام خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ومشى أربعا، ثم مع هذا الغلط الفاحش لم يذكر عليه دليلا بالكلية، بل لما انتهى إلى موضع الاستدلال عليه قال: ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا، ولكنه متفق عليه هذا لفظه.

فإن أراد بأن الرمل في الثلاث التطوافات الأول على ما ذكر متفق عليه فليس بصحيح، بل لم يقله أحد.

وإن أراد أن الرمل في الثلاث الأول في الجملة متفق عليه، فلا يجدي له شيئا ولا يحصل له شيئا مقصودا، فإنهم كما اتفقوا على الرمل في الثلاث الأول في بعضها على ما ذكرناه، كذلك اتفقوا على استحبابه في الأربع الأخر أيضا، فتخصيص ابن حزم الثلاث الأول باستحباب الرمل فيها مخالف لما ذكره العلماء، والله أعلم.

وأما قول ابن حزم: أنه عليه السلام كان راكبا بين الصفا والمروة.

فقد تقدم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يسعى بطن المسيل - أخرجاه -.

وللترمذي عنه: إن أسعى فقد رأيت رسول الله يسعى، وإن مشيت فقد رأيت رسول الله يمشي.

وقال جابر: فلما انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى - رواه مسلم -.

وقالت حبيبة بنت أبي مجراة: يسعى يدور به إزاره من شدة السعي - رواه أحمد -.

وفي صحيح مسلم عن جابر كما تقدم أنه رقي على الصفا حتى رأى البيت، وكذلك على المروة.

وقد قدمناه من حديث محمد بن إسحاق عن أبي جعفر الباقر، عن جابر أن رسول الله ﷺ أناخ بعيره على باب المسجد - يعني: حتى طاف -، ثم لم يذكر أنه ركبه حال ما خرج إلى الصفا، وهذا كله مما يقتضي أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة ماشيا.

ولكن قال مسلم: ثنا عبد بن حميد، ثنا محمد - يعني: ابن بكر -، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي ﷺ في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة على بعير ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه، ولم يطف النبي ﷺ ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافا واحدا.

ورواه مسلم أيضا عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، وعن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، كلهم عن ابن جريج به، وليس في بعضها: وبين الصفا والمروة.

وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي ﷺ في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة.

ورواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى، وعن عمران بن يزيد عن سعيد بن إسحاق، كلاهما عن ابن جريج به.

فهذا محفوظ من حديث ابن جريج، وهو مشكل جدا، لأن بقية الروايات عن جابر وغيره تدل على أنه عليه السلام كان ماشيا بين الصفا والمروة، وقد تكون رواية أبي الزبير لهذه الزيادة، وهي قوله: وبين الصفا والمروة، مقحمة أو مدرجة ممن بعد الصحابي، والله أعلم.

أو أنه عليه السلام طاف بين الصفا والمروة بعض الطوفان على قدميه، وشوهد منه ما ذكر فلما ازدحم الناس عليه وكثروا، ركب كما يدل عليه حديث ابن عباس الآتي قريبا، وقد سلم ابن حزم أن طوافه الأول بالبيت كان ماشيا، وحمل ركوبه في الطواف على ما بعد ذلك، وادعى أنه كان راكبا في السعي بين الصفا والمروة قال: لأنه لم يطف بينهما الا مرة واحدة، ثم تأول قول جابر: حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، بأنه لم يصدق ذلك وإن كان راكبا، فإنه إذا انصب بعيره فقد انصب كله، وانصبت قدماه مع سائر جسده.

قال: وكذلك ذكر الرمل - يعني به: رمل الدابة براكبها -، وهذا التأويل بعيد جدا، والله أعلم.

وقال أبو داود: ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد، أنبأنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله ﷺ قد رمل بالبيت، وأن ذلك من سنته.

قال: صدقوا وكذبوا.

فقلت: ما صدقوا وما كذبوا؟

قال: صدقوا رمل رسول الله، وكذبوا ليس بسنة إن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يحجوا العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله ﷺ والمشركون من قبل قعيقعان.

فقال رسول الله لأصحابه: «ارملوا بالبيت ثلاثا وليس بسنة».

قالت: يزعم قومك أن رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة.

قال: صدقوا وكذبوا.

قلت: ما صدقوا وما كذبوا.

قال: صدقوا، قد طاف رسول الله ﷺ بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا ليست بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله ﷺ ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم.

هكذا رواه أبو داود.

وقد رواه مسلم عن أبي كامل، عن عبد الواحد بن زياد، عن الجريري، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، فذكر فضل الطواف بالبيت بنحو ما تقدم.

ثم قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة؟

قال: صدقوا وكذبوا.

قلت: فما قولك: صدقوا وكذبوا؟

قال: إن رسول الله كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب.

قال ابن عباس: والمشي والسعي أفضل.

هذا لفظ مسلم، وهو يقتضي أنه إنما ركب في أثناء الحال، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، والله أعلم.

وأما ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: ثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله ﷺ.

قال: فصفه لي.

قلت: رأيته عند المروة على ناقة، وقد كثر الناس عليه.

فقال ابن عباس: ذاك رسول الله ﷺ إنهم كانوا لا يضربون عنه، ولا يكرهون.

فقد تفرد به مسلم، وليس فيه دلالة على أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة راكبا إذ لم يقيد ذلك بحجة الوداع ولا غيرها، وبتقدير أن يكون ذلك في حجة الوداع، فمن الجائز أنه عليه السلام بعد فراغه من السعي وجلوسه على المروة، وخطبته الناس، وأمره إياهم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى العمرة، فحل الناس كلهم، إلا من ساق الهدي - كما تقدم في حديث جابر -، ثم بعد هذا كله أتى بناقته فركبها، وسار إلى منزله بالأبطح - كما سنذكره قريبا - وحينئذ رآه أبو الطفيل عامر بن واثلة البكري، وهو معدود في صغار الصحابة.

قلت: قد ذهب طائفة من العراقيين: كأبي حنيفة وأصحابه، والثوري، إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وهو مروي عن علي وابن مسعود ومجاهد والشعبي.

ولهم أن يحتجوا بحديث جابر الطويل، ودلالة على أنه سعى بين الصفا والمروة ماشيا، وحديثه هذا أن النبي ﷺ سعى بينهما راكبا على تعداد الطواف بينهما مرة ماشيا، ومرة راكبا.

وقد روى سعيد بن منصور في سند عن علي رضي الله عنه أنه أهل بحجة وعمرة، فلما قدم مكة طاف بالبيت وبالصفا والمروة لعمرته، ثم عاد فطاف بالبيت وبالصفا والمروة لحجته، ثم أقام حراما إلى يوم النحر - هذا لفظه -.

ورواه أبو ذر الهروي في مناسكه عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ فعل.

وكذلك رواه البيهقي، والدارقطني، والنسائي في (خصائص علي) فقال البيهقي في سننه: أنبانا أبو بكر ابن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، أنبانا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن زنبور، ثنا فضيل بن عياض عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك بن الحارث، أو منصور عن مالك بن الحارث، عن أبي نصر قال: لقيت عليا، وقد أهللت بالحج وأهل هو بالحج والعمرة.

فقلت: هل أستطيع أن أفعل كما فعلت؟

قال: ذلك لو كنت بدأت بالعمرة.

قلت: كيف أفعل إذا أردت ذلك؟

قال: تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك، ثم تهل بهما جميعا، ثم تطوف لهما طوافين، وتسعى لهما سعيين، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر.

قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد.

قال: ما كنا نفيء إلا بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل.

قال الحافظ البيهقي: وقد رواه سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة عن منصور فلم يذكر فيه السعي.

قال: وأبو نصر هذا مجهول، وإن صح فيحتمل أنه أراد طواف القدوم وطواف الزيارة.

قال: وقد روي بأسانيد أخر عن علي مرفوعا وموقوفا، ومدارها على الحسن بن عمارة، وحفص ابن أبي داود، وعيسى بن عبد الله، وحماد بن عبد الرحمن وكلهم ضعيف، لا يحتج بشيء مما رووه في ذلك، والله أعلم.

قلت: والمنقول في الأحاديث الصحاح خلاف ذلك، فقد قدمنا عن ابن عمر في صحيح البخاري أنه أهل بعمرة وأدخل عليها الحج فصار قارنا، وطاف لهما طوافا واحدا بين الحج والعمرة وقال: هكذا فعل رسول الله ﷺ.

وقد روى الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي من حديث الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من جمع بين الحج والعمرة طاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا».

قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب.

قلت: إسناده على شرط مسلم.

وهكذا جرى لعائشة أم المؤمنين، فإنها كانت ممن أهل بعمرة لعدم سوق الهدي معها، فلما حاضت أمرها رسول الله ﷺ أن تغتسل وتهل بحج مع عمرتها فصارت قارنة، فلما رجعوا من منى طلبت أن يعمرها بعد الحج فأعمرها تطييبا لقلبها - كما جاء مصرحا به في الحديث -.

وقد قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا مسلم - هو: ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله قال لعائشة: طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك.

وهذا ظاهره الإرسال، وهو مسند في المعنى بدليل ما قال الشافعي أيضا: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال الشافعي: وربما قال سفيان عن عطاء، عن عائشة، وربما قال عن عطاء أن النبي ﷺ قال لعائشة: فذكره.

قال الحافظ البيهقي: ورواه ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة موصولا.

وقد رواه مسلم من حديث وهيب عن ابن طاوس، عن ابن عباس، عن أبيه، عن عائشة بمثله.

وروى مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: دخل رسول الله على عائشة وهي تبكي، فقال: «مالك تبكين؟»

قالت: أبكي أن الناس حلوا ولم أحل، وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر.

قال: «إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي وأهلي بحج.

قالت: ففعلت ذلك، فلما طهرت، قال: «طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حللت من حجك وعمرتك».

قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم أكن طفت حتى حججت.

قال: «اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم».

وله من حديث ابن جريج أيضا: أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا قال: لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.

وعند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أن النبي ﷺ وأصحابه الذين ساقوا الهدي كانوا قد قرنوا بين الحج والعمرة، كما دل عليه الأحاديث المتقدمة، والله أعلم.

وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال في القارن: يطوف طوافين، ويسعى سعيين.

قال الشافعي: وقال بعض الناس: طوافان وسعيان.

واحتج فيه برواية ضعيفة عن علي.

قال جعفر: يروى عن علي قولنا: رويناه عن النبي ﷺ، لكن قال أبو داود: ثنا هارون بن عبد الله، ومحمد بن رافع قالا: ثنا أبو عاصم عن معروف - يعني: ابن خربوذ المكي -، حدثنا أبو الطفيل قال: رأيت النبي ﷺ يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن اليماني بمحجن ثم يقبله.

زاد محمد بن رافع: ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعا على راحلته.

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي داود الطيالسي عن معروف بن خربوذ به دون الزيادة التي ذكرها محمد بن رافع، وكذلك رواه عبيد الله بن موسى عن معروف بدونها.

ورواه الحافظ البيهقي عن أبي سعيد ابن أبي عمرو، عن الأصم، عن يحيى ابن أبي طالب، عن يزيد ابن أبي حكيم، عن يزيد بن مالك، عن أبي الطفيل بدونها، فالله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن الحسن، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق قالا: ثنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم، ثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبيد الله بن موسى، وجعفر بن عون قالا: أنبأنا أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رأيت رسول الله ﷺ يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك.

وقال البيهقي: كذا قالا.

وقد رواه جماعة غير أيمن فقالوا: يرمي الجمرة يوم النحر.

قال: ويحتمل أن يكونا صحيحين.

قلت: رواه الإمام أحمد في مسنده عن وكيع، وقران بن تمام، وأبي قرة موسى بن طارف - قاضي أهل اليمن - وأبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ومعتمر بن سليمان عن أيمن بن نابل الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان مولى أبي بكر الصديق، وهو ثقة جليل من رجال البخاري، عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي أنه رأى رسول الله ﷺ يرمي الجمرة يوم النحر من بطن الوادي على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك.

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية.

وأخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وابن ماجه، عن أبي بكر ابن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع، كلاهما عن أيمن بن نابل، عن قدامة، كما رواه الإمام أحمد.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل من لم يسق معه هدي فليحل ويجعلها عمرة

قال جابر في حديثه: حتى إذا كان آخر طوافه عند المروة قال: إني لو استقبلت عن أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، رواه مسلم.

ففيه دلالة على من ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة أربعة عشر كل ذهاب وإياب يحسب مرة، قاله جماعة من أكابر الشافعية، وهذا الحديث رد عليهم لأن آخر الطواف عن قولهم يكون عند الصفا لا عند المروة، ولهذا قال أحمد في روايته في حديث جابر: فلما كان السابع عند المروة، قال: «أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» فحل الناس كلهم.

وقال مسلم: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدي.

فصل قول بعض الصحابة فيمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة

روى أمره عليه السلام لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة خلق من الصحابة يطول ذكرنا لهم هاهنا، وموضع سرد ذلك كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله، وقد اختلف العلماء في ذلك.

فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: كان ذلك من خصائص الصحابة ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم، وتمسكوا بقول أبي ذر رضي الله عنه: لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد ﷺ. رواه مسلم.

وأما الإمام أحمد فرد ذلك وقال: قد رواه أحد عشر صحابيا، فأين تقع هذه الرواية من ذلك.

وذهب رحمه الله إلى جواز الفسخ لغير الصحابة.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدي، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك، وليس عنه النسك إلا القران لمن ساق الهدي، أو التمتع لمن لم يسق، فالله أعلم.

قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن جابر، وعن طاوس عن ابن عباس قالا: قدم النبي ﷺ وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة يهلون بالحج لا يخلطه شيء، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحل إلى نسائنا ففشت تلك المقالة.

قال عطاء: قال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال جابر بكفه فبلغ النبي ﷺ، فقال: «بلغني أن قوما يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».

فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله هي لنا أو للأبد؟

فقال: «بل للأبد».

قال مسلم: ثنا قتيبة، ثنا الليث - هو: ابن سعد - عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، وأمرنا رسول الله ﷺ أن يحل منا من لم يكن معه هدي.

قال: فقلنا: حل ماذا؟

قال: «الحل كله».

فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال.

فهذان الحديثان فيهما التصريح بأنه عليه السلام قدم مكة عام حجة الوداع ليصبح رابعة ذي الحجة، وذلك يوم الأحد حين ارتفع النهار وقت الضحاء، لأن أول ذي الحجة تلك السنة كان يوم الخميس بلا خلاف، لأن يوم عرفة منه كان يوم الجمعة بنص حديث عمر بن الخطاب الثابت في الصحيحين، كما سيأتي، فلما قدم عليه السلام يوم الأحد رابع الشهر، بدأ كما ذكرنا بالطواف بالبيت، ثم بالسعي بين الصفا والمروة، فلما انتهى طوافه بينهما عند المروة، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل من إحرامه حتما، فوجب ذلك عليهم لا محالة، ففعلوه وبعضهم متأسف لأجل أنه عليه السلام لم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، وكانوا يحبون موافقته عليه السلام والتأسي به، فلما رأى ما عندهم من ذلك قال لهم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».

أي: لو أعلم أن هذا ليشق عليكم لكنت تركت سوق الهدي حتى أحل كما أحللتم.

ومن هاهنا تتضح الدلالة على أفضلية التمتع، كما ذهب إليه الإمام أحمد أخذا من هذا، فإنه قال: لا أشك أن رسول الله ﷺ كان قارنا، ولكن التمتع أفضل لتأسفه عليه.

وجوابه: أنه عليه السلام لم يتاسف على التمتع، لكونه أفضل من القران في حق من ساق الهدي، وإنما تأسف عليه لئلا يشق على أصحابه في بقائه على إحرامه، وأمره لهم بالإحلال، ولهذا والله أعلم لما تأمل الإمام أحمد هذا السر نص في رواية أخرى عنه على أن التمتع أفضل في حق من لم يسق الهدي، لأمره عليه السلام من لم يسق الهدي من أصحابه بالتمتع، وأن القران أفضل في حق من ساق الهدي كما اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، وأمره له بذلك كما تقدم، والله أعلم.

فصل نزول النبي عليه السلام بالأبطح شرقي مكة

ثم سار صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من طوافه بين الصفا والمروة، وأمره بالفسخ لمن لم يسق الهدي، والناس معه حتى نزل بالأبطح شرقي مكة، فأقام هنالك بقية يوم الأحد، ويوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، حتى صلى الصبح من يوم الخميس، كل ذلك يصلي بأصحابه هنالك، ولم يعد إلى الكعبة من تلك الأيام كلها.

قال البخاري باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة، ويرجع بعد الطواف الأول: حدثنا محمد ابن أبي بكر: ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة قال: أخبرني كريب عن عبد الله بن عباس قال: قدم النبي ﷺ مكة فطاف سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها، حتى رجع من عرفة. انفرد به البخاري.

فصل قدوم رسول الله منيخ بالبطحاء خارج مكة

وقدم في هذا الوقت ورسول الله ﷺ منيخ بالبطحاء خارج مكة علي من اليمن، وكان النبي ﷺ قد بعثه كما قدمنا إلى اليمن أميرا بعد خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فلما قدم وجد زوجته فاطمة بنت رسول الله ﷺ قد حلت كما حل أزواج رسول الله ﷺ والذين لم يسوقوا الهدي، واكتحلت، ولبست ثيابا صبيغا.

فقال: من أمرك بهذا؟

قالت: أبي.

فذهب محرشا عليها إلى رسول الله ﷺ فأخبره أنها حلت، ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، وزعمت أنك أمرتها بذلك يا رسول الله.

فقال: «صدقت، صدقت، صدقت».

ثم قال له رسول الله ﷺ: «بم أهللت حين أوجبت الحج»؟

قال: بإهلال كإهلال النبي ﷺ.

قال: «فإن معي الهدي فلا تحل».

فكان جماعة الهدي الذي جاء به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله ﷺ من المدينة واشتراه في الطريق مائة من الإبل، واشتركا في الهدي جميعا، وقد تقدم هذا كله في صحيح مسلم رحمه الله.

وهذا التقرير يرد الرواية التي ذكرها الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله من حديث عكرمة عن ابن عباس، أن عليا تلقى النبي ﷺ إلى الجحفة، والله أعلم.

وكان أبو موسى في جملة من قدم مع علي ولكنه لم يسق هديا، فأمره رسول الله ﷺ بأن يحل بعد ما طاف للعمرة وسعى، ففسخ حجه إلى العمرة وصار متمتعا، فكان يفتي بذلك في أثناء خلافة عمر بن الخطاب، فلما رأى عمر بن الخطاب أن يفرد الحج عن العمرة ترك فتياه مهابة لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه قال: رأيت بلالا يؤذن، ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وأصبعاه في أذنه.

قال: ورسول الله ﷺ في قبة حمراء أراها من أدم.

قال: فخرج بلال بين يديه بالعنزة فركزها، فصلى رسول الله ﷺ.

قال عبد الرزاق: وسمعته بمكة قال: بالبطحاء يمر بين يديه الكلب والمرأة، والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه.

قال سفيان: نراها حبرة.

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت النبي ﷺ بالأبطح وهو في قبة له حمراء، فخرج بلال بفضل وضوئه، فمن ناضح ونائل.

قال: فأذن بلال، فكنت أتتبع فاه هكذا وهكذا - يعني: يمينا وشمالا -.

قال: ثم ركزت له عنزة، فخرج رسول الله ﷺ وعليه جبة له حمراء، أو حلة حمراء، وكأني أنظر إلى بريق ساقيه، فصلى بنا إلى عنزة الظهر، أو العصر ركعتين، تمر المرأة والكلب والحمار لا يمنع، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى أتى المدينة.

وقال مرة: فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري.

وقال أحمد أيضا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج عن الحكم سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول الله ﷺ بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين، وبين يديه عنزة.

وزاد فيه عون عن أبيه، عن أبي جحيفة: وكان يمر من ورائنا الحمار والمرأة.

قال حجاج في الحديث: ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم.

قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك.

وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة بتمامه.

فصل صلاته صلى الله عليه وسلم بالأبطح الصبح وهو يوم التروية

فأقام عليه السلام بالأبطح كما قدمنا يوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، وقد حل الناس إلا من ساق الهدي، وقدم في هذه الأيام علي ابن أبي طالب من اليمن بمن معه من المسلمين، وما معه من الأموال، ولم يعد عليه السلام إلى الكعبة بعد ما طاف بها، فلما أصبح عليه السلام يوم الخميس صلى بالأبطح الصبح من يومئذ، وهو يوم التروية، ويقال له: يوم منى لأنه يسار فيه إليها.

وقد روي أن النبي ﷺ خطب قبل هذا اليوم ويقال للذي قبله فيما رأيته في بعض التعاليق: يوم الزينة، لأنه يزين فيه البدن بالجلال ونحوها، فالله أعلم.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن محمد بن جعفر الجلودي، ثنا محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا محمد بن يوسف، ثنا أبو قرة عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب يوم التروية، خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم، فركب عليه السلام قاصدا إلى منى قبل الزوال، وقيل: بعده، وأحرم الذين كانوا قد حلوا بالحج من الأبطح حين توجهوا إلى منى، وانبعثت رواحلهم نحوها.

قال عبد الملك عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: قدمنا مع رسول الله ﷺ فأحللنا حتى كان يوم التروية، وجعلنا مكة منا بظهر، لبينا بالحج.

ذكره البخاري تعليقا مجزوما.

وقال مسلم: ثنا محمد بن حاتم، ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: أمرنا رسول الله ﷺ لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى.

قال: وأهللنا من الأبطح.

وقال عبيد بن جريج لابن عمر: رأيتك اذا كنت بمكة أهل الناس اذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى يوم التروية.

فقال: لم أر النبي ﷺ يهل حتى تنبعث به راحلته.

رواه البخاري في جملة حديث طويل.

قال البخاري: وسئل عطاء عن المجاوز منى يلبي بالحج؟

فقال: كان ابن عمر يلبي يوم التروية إذا صلى الظهر واستوى على راحلته.

قلت: هكذا كان ابن عمر يصنع إذا حج معتمرا، يحل من العمرة، فإذا كان يوم التروية لا يلبي حتى تنبعث به راحلته متوجها إلى منى، كما أحرم رسول الله ﷺ من ذي الحليفة بعد ما صلى الظهر، وانبعثت به راحلته، لكن يوم التروية لم يصل النبي ﷺ الظهر بالأبطح، وإنما صلاها يومئذ بمنى، وهذا مما لا نزاع فيه.

قال البخاري باب أين يصلي الظهر يوم التروية: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا إسحاق الأزرق، ثنا سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك قال: قلت: أخبرني بشيء علقت من رسول الله ﷺ أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟

قال: بمنى.

قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟

قال: بالأبطح.

ثم قال: إفعل كما يفعل أمراؤك.

وقد أخرجه بقية الجماعة، إلا ابن ماجه من طرق عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان الثوري به.

وكذلك رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به.

وقال الترمذي: حسن صحيح يستغرب من حديث الأزرق عن الثوري.

ثم قال البخاري: أنبأنا علي سمع أبا بكر ابن عياش، ثنا عبد العزيز بن رفيع قال: لقيت أنس بن مالك، وحدثني إسماعيل بن أبان، ثنا أبو بكر ابن عياش عن عبد العزيز قال: خرجت إلى منى يوم التروية فلقيت أنسا ذاهبا على حمار، فقلت: أين صلى النبي ﷺ هذا اليوم الظهر؟

فقال: انظر حيث صلى أمراؤك فصلي.

وقال أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا أبو كدينة عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ صلى خمس صلوات بمنى.

وقال أحمد أيضا: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو محياة يحيى بن يعلى التيمي عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي ﷺ صلى الظهر يوم التروية بمنى، وصلى الغداة يوم عرفة بها.

وقد رواه أبو داود عن زهير بن حرب، عن أحوص، عن جواب، عن عمار بن رزيق، عن سليمان بن مهران الأعمش به، ولفظه: صلى رسول الله ﷺ الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى.

وأخرجه الترمذي عن الأشج، عن عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش بمعناه، وقال: ليس هذا مما عده شعبة فيما سمعه الحكم عن مقسم.

وقال الترمذي: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا عبد الله بن الأجلح عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس قال: صلى بنا رسول الله بمنى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم غدا إلى عرفات.

ثم قال: وإسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه، وفي الباب عن عبد الله بن الزبير، وأنس ابن مالك.

وقال الإمام أحمد عمن رأى النبي ﷺ: أنه راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله ﷺ يعني: من الحر، تفرد به أحمد.

وقد نص الشافعي على أنه عليه السلام ركب من الأبطح إلى منى بعد الزوال، ولكنه إنما صلى الظهر بمنى، فقد يستدل له بهذا الحديث والله أعلم.

وتقدم في حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله ﷺ فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت له بنمرة، فسار رسول الله ﷺ ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله ﷺ حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت.

فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات».

وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أنبأنا علي بن حجر عن مغيرة، عن موسى بن زياد بن حذيم بن عمرو السعدي، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «إعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، كحرمة شهركم هذا، كحرمة بلدكم هذا».

وقال أبو داود - باب الخطبة على المنبر بعرفة -: حدثنا هناد عن ابن أبي زائدة، ثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه أو عمه قال: رأيت رسول الله ﷺ وهو على المنبر بعرفة.

وهذا الإسناد ضعيف، لأن فيه رجلا مبهما.

ثم تقدم في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام خطب على ناقته القصواء.

ثم قال أبو داود: ثنا مسدد، ثنا عبد الله بن داود عن سلمة بن نبيط، عن رجل من الحي، عن أبيه نبيط، أنه رأى رسول الله ﷺ واقف بعرفة على بعير أحمر يخطب.

وهذا فيه مبهم أيضا، ولكن حديث جابر شاهد له.

ثم قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، وعثمان ابن أبي شيبة قالا: ثنا وكيع عن عبد المجيد ابن أبي عمرو قال: حدثني العداء بن خالد بن هوذة وقال هناد عن عبد المجيد: حدثني خالد بن العداء بن هوذة قال: رأيت رسول الله ﷺ يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائما في الركابين.

قال أبو داود: رواه ابن العلاء عن وكيع، كما قال هناد، وحدثنا عباس بن عبد العظيم، ثنا عثمان بن عمر، ثنا عبد المجيد أبو عمرو عن العداء بن خالد بمعناه.

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يخطب بعرفات: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم».

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله - وهو بعرفة -: ربيعة بن أمية بن خلف.

قال: يقول له رسول الله ﷺ: «قل: أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟»

فيقولون: الشهر الحرام.

فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا».

ثم يقول: «قل: أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟» وذكر تمام الحديث.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني ليث ابن أبي سليم عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة في حاجة فبلغته، ثم وقفت تحت ناقته وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: «أيها الناس إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا».

ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

قلت: وفيه اختلاف على قتادة، والله أعلم.

وسنذكر الخطبة التي خطبها عليه السلام بعد هذه الخطبة يوم النحر وما فيها من الحكم والمواعظ والتفاصيل، والآداب النبوية، إن شاء الله.

قال البخاري - باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة -: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن محمد ابن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك - وهما غاديان من منى إلى عرفة - كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ﷺ؟

فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه.

وأخرجه مسلم من حديث مالك، وموسى بن عقبة، كلاهما عن محمد ابن أبي بكر ابن عوف بن رباح الثقفي الحجازي، عن أنس به.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف: أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج، فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر وأنا معه حين زاغت الشمس - أو زالت الشمس - فصاح عند فسطاطه: أين هذا؟

فخرج إليه.

فقال ابن عمر: الرواح.

فقال: الآن؟

قال: نعم!

فقال: أنظرني حتى أفيض علي ماء.

فنزل ابن عمر حتى خرج فسار بيني وبين أبي فقلت: إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فأقصر الخطبة وعجل الوقوف.

فقال ابن عمر: صدق.

ورواه البخاري أيضا عن القعنبي، عن مالك.

وأخرجه النسائي من حديث أشهب، وابن وهب عن مالك.

ثم قال البخاري بعد روايته هذا الحديث: وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن سالم أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله: كيف تصنع في هذا الموقف؟

فقال: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة.

فقال ابن عمر: صدق، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة.

فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله ﷺ؟

فقال: هل تبتغون بذلك إلا سنة.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا يعقوب، ثنا أبي عوف عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ غدا من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى اذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله ﷺ مهجرا، فجمع بين الظهر والعصر.

وهكذا ذكر جابر في حديثه بعد ما أورد الخطبة المتقدمة قال: ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، وهذا يقتضي أنه عليه السلام خطب أولا، ثم أقيمت الصلاة، ولم يتعرض للخطبة الثانية.

وقد قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد وغيره عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن جابر في حجة الوداع قال: فراح النبي ﷺ إلى الموقف بعرفة، فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن بلال، ثم أخذ النبي ﷺ في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر.

قال البيهقي: تفرد به إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى.

قال مسلم عن جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة.

وقال البخاري: ثنا يحيى بن سليمان عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير، عن كريب، عن ميمونة أن الناس شكوا في صيام النبي ﷺ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون.

وأخرجه مسلم عن هارون بن سعيد الإيلي، عن ابن وهب به.

وقال البخاري: أنبأنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عمير مولى ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي ﷺ فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.

ورواه مسلم من حديث مالك أيضا، وأخرجاه من طرق أخر عن أبي النضر به.

قلت: أم الفضل هي: أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وقصتهما واحدة، والله أعلم.

وصح إسناد الإرسال إليها أنه من عندها، اللهم إلا أن يكون بعد ذلك، أو تعدد الإرسال من هذه ومن هذه، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا أيوب قال: لا أدري أسمعته من سعيد بن جبير، أم عن بنيه عنه قال: أتيت على ابن عباس وهو بعرفة، وهو يأكل رمانا، وقال: أفطر رسول الله ﷺ بعرفة، وبعثت إليه أم الفضل بلبن فشربه.

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة، عن ابن عباس أنهم تماروا في صوم النبي ﷺ يوم عرفة، فأرسلت أم فضل إلى رسول الله بلبن فشربه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق وأبو بكر قالا: أنبأنا ابن جريج قال: قال عطاء: دعا عبد الله بن عباس الفضل بن عباس إلى الطعام يوم عرفة.

فقال: إني صائم.

فقال عبد الله: لا تصم، فإن رسول الله قرب إليه حلاب فيه لبن يوم عرفة فشرب منه، فلا تصم فإن الناس مستنون بكم.

وقال ابن بكير وروح: إن الناس يستنون بكم.

وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينا رجل واقف مع النبي ﷺ بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته.

فقال النبي ﷺ: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا».

ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.

وقال النسائي: أنبأنا إسحاق بن إبراهيم - هو: ابن راهويه -، أخبرنا وكيع، أنبأنا سفيان الثوري عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله ﷺ بعرفة، وأتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال رسول الله ﷺ: «الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه».

وقد رواه بقية أصحاب السنن من حديث سفيان الثوري، زاد النسائي وشعبة عن بكير بن عطاء به.

وقال النسائي: أنبأنا قتيبة، أنبأنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني: عمرو بن عبد الله بن صفوان أن يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفا بعرفة مكانا بعيدا من الموقف، فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسول رسول الله إليكم يقول لكم: «كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم».

وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن مربع، اسمه زيد بن مربع الأنصاري، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.

قال: وفي الباب عن علي، وعائشة، وجبير بن مطعم، والشريد بن سويد.

وقد تقدم من رواية مسلم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف».

زاد مالك في موطئه: «وارفعوا عن بطن عرفة».

فصل دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة

فيما حفظ من دعائه عليه السلام وهو واقف بعرفه.

قد تقدم أنه عليه السلام أفطر يوم عرفة، فدل على أن الإفطار هناك أفضل من الصيام، لما فيه من التقوي على الدعاء، لأنه المقصود الأهم هناك، ولهذا وقف عليه السلام وهو راكب على الراحلة من لدن الزوال إلى أن غربت الشمس.

وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا حوشب بن عقيل، حدثني مهدي المحاربي، حدثني عكرمة مولى ابن عباس قال: دخلت على أبي هريرة في بيته فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات؟

فقال: نهى رسول الله ﷺ عن صوم عرفة بعرفات.

وقال عبد الرحمن مرة عن مهدي العبدي.

وكذلك رواه أحمد عن وكيع، عن حوشب، عن مهدي العبدي فذكره.

وقد رواه أبو داود: عن سليمان بن حرب، عن حوشب.

والنسائي: عن سليمان ابن معبد، عن سليمان بن حرب به، وعن الفلاس، عن ابن مهدي به.

وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن حوشب.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو أسامة الكلبي، ثنا حسن بن الربيع، ثنا الحارث بن عبيد عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة بعرفة.

قال البيهقي: كذا قال الحارث بن عبيد، والمحفوظ عن عكرمة، عن أبي هريرة.

وروى أبو حاتم محمد بن حبان البستي في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن صوم يوم عرفة؟

فقال: حججت مع رسول الله فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، وأنا فلا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه.

قال الإمام مالك عن زياد ابن أبي زياد مولى ابن عباس، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ﷺ قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

قال البيهقي: هذا مرسل، وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولا، وإسناده ضعيف.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله ﷺ قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وخير من قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وللإمام أحمد أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان أكثر دعاء النبي ﷺ يوم عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وقال أبو عبد الله ابن منده: أنبأنا أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري، ثنا أحمد بن داود بن جابر الأحمسي، ثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، ثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد - يعني: ابن عبد ربه الجرجسي -، ثنا بقية بن الوليد، حدثني جبير بن عمرو القرشي عن أبي سعيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: « { شهد الله أنه لا إله إلا هو والْملائكة وأولو الْعلْم قائما بالْقسْط لا إله إلا هو الْعزيز الْحكيم } [36]. وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب».

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في مناسكه: ثنا الحسن بن مثنى بن معاذ العنبري، ثنا عفان ابن مسلم، ثنا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح، عن خليفة، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: «أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وقال الترمذي في (الدعوات): ثنا محمد بن حاتم المؤدب، ثنا علي بن ثابت، ثنا قيس بن الربيع وكان - من بني أسد - عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر ما دعا به رسول الله ﷺ يوم عرفة في الموقف «اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخير مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، ولك رب تراثي، أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تهب به الريح».

ثم قال: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.

وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أكثر دعاء من كان قبلي ودعائي يوم عرفة أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في بصري نورا، وفي سمعي نورا، وفي قلبي نورا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر، وشر فتنة القبر، وشر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر».

ثم قال: تفرد به موسى بن عبيدة وهو ضعيف، وأخوه عبد الله لم يدرك عليا.

وقال الطبراني في مناسكه: حدثنا يحيى بن عثمان النصري، ثنا يحيى بن بكير، ثنا يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس قال: كان فيما دعا به رسول الله ﷺ في حجة الوداع: «اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين».

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا عبد الملك، ثنا عطاء قال: قال أسامة بن زيد: كنت رديف النبي ﷺ بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى.

وهكذا رواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا علي بن الحسن، ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، ثنا ابن جريج عن حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله ﷺ يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عبد القاهر بن السري، حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس عن أبيه، عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله ﷺ دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأوحى الله إليه «إني قد فعلت، إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها».

فقال: «يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خير من مظلمته، وتغفر لهذا الظالم».

فلم يجبه تلك العشية، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه الله تعالى: «إني قد غفرت لهم».

فتبسم رسول الله ﷺ.

فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها.

قال: «تبسمت من عدو الله إبليس، إنه لما علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثو التراب على رأسه».

ورواه أبو داود السجستاني في سننه عن عيسى بن إبراهيم البركي، وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه، عن جده مختصرا.

ورواه ابن ماجه عن أيوب بن محمد الهاشمي بن عبد القاهر بن السري، عن عبد الله بن كنانة بن عباس، عن أبيه، عن جده به مطولا.

ورواه ابن جرير في تفسيره عن إسماعيل بن سيف العجلي، عن عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة يقال له: أبو لبابة، عن أبيه، عن جده العباس بن مرداس، فذكره.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عمن سمع قتادة يقول: ثنا جلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ يوم عرفة: «أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا بسم الله».

فلما كانوا بجمع قال: «إن الله قد غفر لصالحكم، وشفع لصالحيكم في طالحيكم، تنزل الرحمة فتعمهم، ثم تفرق الرحمة في الأرض، فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت الرحمة دعا هو وجنوده بالويل والثبور، كنت أستفزهم حقبا من الدهر المغفرة فغشيتهم، فيتفرقون يدعون بالويل والثبور».

ذكر ما نزل على رسول الله من الوحي في هذا الموقف

قال الإمام أحمد: ثنا جعفر بن عون، ثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.

قال: وأي آية هي؟

قال: قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا».

فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ﷺ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ عشية عرفة في يوم جمعة.

ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح، عن جعفر بن عون.

وأخرجه أيضا مسلم والترمذي، والنسائي من طرق عن قيس بن مسلم به.

ذكر إفاضته عليه السلام من عرفات إلى المشعر الحرام

قال جابر في حديثه الطويل: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا قليلا حين غاب القرص، فأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق ناقته القصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة، السكينة!» كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، رواه مسلم.

وقال البخاري - باب السير إذا دفع من عرفة -: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان النبي ﷺ يسير في حجة الوداع حين دفع؟

قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص.

قال هشام: والنص فوق العنق.

ورواه الإمام أحمد، وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عدة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد.

وقال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد قال: كنت رديف رسول الله ﷺ عشية عرفة.

قال: فلما وقعت الشمس، دفع رسول الله ﷺ فلما سمع حطمة الناس خلفه قال: «رويدا أيها الناس، عليكم السكينة إن البر ليس بالإيضاع».

قال: فكان رسول الله ﷺ إذا التحم عليه الناس أعنق، وإذا وجد فرجة نص، حتى أتى المزدلفة فجمع فيها بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة.

ثم رواه الإمام أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب، عن أسامة بن زيد، فذكر مثله.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو كامل، ثنا حماد عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: أفاض رسول الله ﷺ من عرفة وأنا رديفه، فجعل يكبح راحلته حتى إن ذفراها ليكاد يصيب قادمة الرحل ويقول: «يا أيها الناس عليكم السكينة والوقار، فإن البر ليس في إيضاع الإبل».

وكذا رواه عن عفان، عن حماد بن سلمة به.

ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة به.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بنحوه.

قال: وقال أسامة: فما زال يسير على هينة حتى أتى جمعا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، ثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس، عن أسامة ابن زيد، أنه ردف رسول الله ﷺ يوم عرفة حتى دخل الشعب، ثم أهراق الماء وتوضأ، ثم ركب ولم يصل.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا همام عن قتادة، عن عروة، عن الشعبي، عن أسامة بن زيد أنه حدثه: قال: كنت رديف رسول الله ﷺ حين أفاض من عرفات، فلم ترفع راحلته رجلها غادية حتى بلغ جمعا.

وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس أخبرني أسامة بن زيد أن النبي ﷺ أردفه من عرفة، فلما أتى الشعب نزل فبال، ولم يقل أهراق الماء، فصببت عليه فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت: الصلاة؟

فقال: «الصلاة أمامك».

قال: ثم أتى المزدلفة فصلى المغرب، ثم حلوا رحالهم، ثم صلى العشاء.

كذا رواه الإمام أحمد عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد فذكره.

ورواه النسائي عن الحسين بن حرب، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، ومحمد ابن أبي حرملة، كلاهما عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة.

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في (أطرافه): والصحيح كريب عن أسامة.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله ﷺ من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة؟

فقال: «الصلاة أمامك».

فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصل بينهما.

وهكذا رواه البخاري أيضا عن القعنبي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، والنسائي عن قتيبة، عن مالك، عن موسى بن عقبة به.

وأخرجاه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن موسى بن عقبة أيضا.

ورواه مسلم من حديث إبراهيم بن عقبة ومحمد بن عقبة عن كريب كنحو رواية أخيهما موسى بن عقبة عنه.

وقال البخاري أيضا: ثنا قتيبة، ثنا إسماعيل بن جعفر عن محمد ابن أبي حرملة، عن كريب، عن أسامة بن زيد أنه قال: ردفت رسول الله ﷺ فلما بلغ رسول الله ﷺ الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا.

فقلت: الصلاة يا رسول الله؟

قال: «الصلاة أمامك».

فركب رسول الله ﷺ حتى أتى المزدلفة فصلى، ثم ردف الفضل رسول الله ﷺ غداة جمع.

قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس عن الفضل أن رسول الله ﷺ لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة.

ورواه مسلم عن قتيبة، ويحيى بن يحيى بن أيوب وعلي بن حجر، أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر به.

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر عن مجاهد، عن أسامة بن زيد أن رسول الله أردفه من عرفة قال: فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا ما صنع.

قال: فقال أسامة: لما دفع من عرفة فوقف كف رأس راحلته حتى أصاب رأسها واسطة الرحل، أو كاد يصيبه، يشير إلى الناس بيده: «السكينة، السكينة، السكينة!!» حتى أتى جمعا.

ثم أردف الفضل بن عباس قال: فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا بما صنع رسول الله.

فقال الفضل: لم يزل يسير سيرا لينا كسيره بالأمس حتى أتى على وادي محسر، فدفع فيه حتىاستوت به الأرض.

وقال البخاري: ثنا سعيد ابن أبي مريم، ثنا إبراهيم بن سويد، حدثني عمرو ابن أبي عمرو ومولى المطلب، أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفي، حدثني ابن عباس: أنه دفع النبي ﷺ يوم عرفة، فسمع النبي ﷺ وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع».

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقد تقدم رواية الإمام أحمد ومسلم والنسائي، هذا من طريق عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر، ثنا المسعودي عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.

قال: لما أفاض رسول من عرفات أوضع الناس، فأمر رسول الله مناديا ينادي: أيها الناس ليس البر بإيضاع الخيل ولا الركاب.

قال: فما رأيت من رافعة يديها غادية حتى نزل جمعا.

وقال الإمام أحمد: ثنا حسين وأبو نعيم قالا: ثنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: لم ينزل رسول الله ﷺ من عرفات وجمع إلا أريق الماء.

وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الملك عن أنس بن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات فلما كان حين راح معه حتى الإمام فصلى معه الأولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لي حتى أفاض الإمام فأفضنا معه، حتى انتهينا إلى المضيق دون المأزمين فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي ﷺ لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته.

وقال البخاري: ثنا موسى، ثنا جويرية عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر يجمع بين المغرب العشاء بجمع، غير أنه يمر بالشعب الذي أخذه رسول الله ﷺ فيدخل، فينتقص ويتوضأ ولا يصلي، حتى يجيء جمعا.

تفرد به البخاري رحمه الله من هذا الوجه.

وقال البخاري: ثنا آدم ابن أبي ذئب عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: جمع النبي ﷺ المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منها.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا.

ثم قال مسلم: حدثني حرملة، حدثني ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره أن أباه قال: جمع رسول الله بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة، فصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين، فكان عبد الله يصلي بجمع كذلك حتى لحق بالله.

ثم روى مسلم من حديث شعبة عن الحكم وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير أنه صلى المغرب بجمع والعشاء بإقامة واحدة، ثم حدث عن ابن عمر أنه صلى مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن رسول الله ﷺ صنع مثل ذلك.

ثم رواه من طريق الثوري عن سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: جمع رسول الله ﷺ بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة.

ثم قال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن جبير، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي إسحاق قال: قال سعيد بن جبير: أفضنا مع ابن عمر حتى أتينا جمعا، فصلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف فقال: هكذا صلى بنا رسول الله ﷺ في هذا المكان.

وقال البخاري: ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال، حدثني يحيى بن سعيد، حدثني عدي بن ثابت، حدثني عبد الله بن يزيد الخطمي، حدثني أبو زيد الأنصاري أن رسول الله ﷺ جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.

ورواه البخاري أيضا في المغازي عن القعنبي، عن مالك، ومسلم من حديث سليمان بن بلال، والليث بن سعد، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عدي بن ثابت.

ورواه النسائي أيضا عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت به.

ثم قال البخاري - باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما -: حدثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير بن حرب، ثنا أبو إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: حج عبد الله، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك، فأمر رجلا فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر رجلا فأذن وأقام.

قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما طلع الفجر قال: إن النبي ﷺ كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم.

قال عبد الله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر قال: رأيت النبي ﷺ يفعله.

وهذا اللفظ وهو قوله: والفجر حين يبزغ الفجر، أبين وأظهر من الحديث الآخر الذي رواه البخاري عن حفص بن عمر بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء، وصلاة الفجر قبل ميقاتها.

ورواه مسلم من حديث أبي معاوية وجرير عن الأعمش به.

وقال جابر في حديثه: ثم اضطجع رسول الله ﷺ حتى طلع الفجر فصلى الفجر، حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، وقد شهد معه هذه الصلاة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي.

قال الإمام أحمد: ثنا هشيم، ثنا ابن أبي خالد وزكريا عن الشعبي، أخبرني عروة بن مضرس قال: أتيت النبي ﷺ وهو بجمع.

فقلت: يا رسول الله جئتك من جبل طيء أتعبت نفسي، وأنضيت راحلتي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟

فقال: «من شهد معنا هذه الصلاة - يعني: صلاة الفجر - بجمع، ووقف معنا حتى يفيض منه وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أونهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه».

وقد رواه الامام أحمد أيضا، وأهل السنن الأربعة من طرق عن الشعبي، عن عروة بن مضرس.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل تقديم رسول الله ضعفة أهله بالليل ليقفوا بالمزدلفة

وقد كان رسول الله ﷺ قدم طائفة من أهله بين يديه من الليل قبل حطمة الناس من المزدلفة إلى منى.

قال البخاري - باب من قدم ضعفة أهله بالليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ويقدم إذا غاب القمر -: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال سالم: كان عبد الله بن عمر يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله ﷺ.

حدثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثني رسول الله ﷺ من جمع بليل.

وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، أخبرني عبد الله ابن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: أنا ممن قدم النبي ﷺ ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.

وروى مسلم من حديث ابن جريج أخبرني عطاء عن ابن عباس قال: بعث بي رسول الله ﷺ من جمع بسحر مع ثقله.

وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان الثوري، ثنا سلمة بن كهيل عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: قدمنا رسول الله أغيلمة بني عبد المطلب على حراثنا فجعل يلطح أفخاذنا بيده ويقول: «أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».

قال ابن عباس: ما أخال أحدا يرمي الجمرة حتى تطلع الشمس.

وقد رواه أحمد أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري فذكره.

وقد رواه أبو داود عن محمد بن كثير، عن الثوري به.

والنسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري به.

وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن مسعر وسفيان الثوري كلاهما عن سلمة بن كهيل به.

وقال الامام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو الأحوص عن الأعمش، عن الحكم ابن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: مر بنا رسول الله ليلة النحر، وعلينا سواد من الليل، فجعل يضرب أفخاذنا ويقول: «أبني أفيضوا لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».

ثم رواه الإمام أحمد من حديث المسعودي عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله ﷺ ضعفة أهله من المزدلفة بليل فجعل يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس.

وقال أبو داود: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا الوليد بن عقبة، ثنا حمزة الزيات بن حبيب عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يقدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم - يعني: أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس -.

وكذا رواه النسائي عن محمود بن غيلان، عن بشر بن السري، عن سفيان، عن حبيب.

قال: الطبراني - وهو ابن أبي ثابت - عن عطاء، عن ابن عباس: فخرج حمزة الزيات من عهدته، وجاد إسناد الحديث، والله أعلم.

وقد قال البخاري: ثنا مسدد عن يحيى، عن ابن جريج، حدثني عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟

قلت: لا.

فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟

قلت: نعم!

قالت: فارتحلوا.

فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها.

فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا.

فقالت: يا بني إن رسول الله ﷺ أذن للظعن.

ورواه مسلم من حديث ابن جريج به، فإن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس كما ذكرنا هاهنا عن توقيف، فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس، لأن إسناد حديثهما أصح من إسناد حديثه؛ اللهم إلا أن يقال: إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط، فلهذا أمر الغلمان بأن لا يرموا قبل طلوع الشمس، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس لأنهن أثقل حالا وأبلغ في التستر، والله أعلم.

وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف، فحديث ابن عباس مقدم على فعلها، لكن يقوي الأول قول أبي داود: ثنا محمد بن خلاد الباهلي، ثنا يحيى عن ابن جريج، أخبرني عطاء، أخبرني مخبر عن أسماء أنها رمت الجمرة بليل.

قلت: إنا رمينا الجمرة بليل.

قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي ﷺ.

وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا أفلح بن حميد عن القاسم، عن محمد، عن عائشة قالت: نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي ﷺ سودة أن تدفع قبل حطمة الناس - وكانت امرأة بطيئة - فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا نحن حتى أصبحنا، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله ﷺ كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به.

وأخرجه مسلم عن القعنبي، عن أفلح بن حميد به.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة به.

وقال أبو داود: ثنا هارون بن عبد الله، ثنا ابن أبي فديك عن الضحاك - يعني: ابن عثمان -، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: أرسل رسول الله ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله ﷺ.

قال أبو داود: - يعني: عندها - انفرد به أبو داود، وهو إسناد جيد قوي رجاله ثقات.

ذكر تلبيته عليه السلام بالمزدلفة

قال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص عن حصين، عن كثير بن مدرك، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: «لبيك اللهم لبيك».

وقوفه عليه السلام بالمشعر الحرام ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس

وإيضاعه في وادي محسر

قال الله تعالى: { فإذا أفضْتمْ منْ عرفات فاذْكروا الله عنْد الْمشْعر الْحرام } الآية. [37].

وقال جابر في حديثه: فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله عز وجلوكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وراءه.

وقال البخاري: ثنا الحجاج بن منهال، ثنا شعبة عن ابن اسحاق قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن رسول الله ﷺ أفاض قبل أن تطلع الشمس.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جمعا فصلى صلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: طلع الفجر و قائل يقول: لم يطلع الفجر ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب و العشاء، فلا تقدم الناس جمعا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة».

ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة.

فلا أدري أقوله كان أسرع، أو دفع عثمان.

فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي، ثنا عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم».

قال: ورواه عبد الله بن ادريس عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو خالد سليمان بن حيان سمعت الأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس.

وقال البخاري: ثنا زهير بن حرب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن يونس الإيلي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس أن أسامة كان ردف النبي ﷺ من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى.

قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي ﷺ يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

ورواه ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس.

وروى مسلم من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس وكان رديف رسول الله ﷺ أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة» وهو كاف ناقته، حتى دخل محسرا، وهو من منى قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة».

قال: ولم يزل رسول الله ﷺ يلبي حتى رمى الجمرة.

وقال الحافظ البيهقي - باب الإيضاع في وادي محسر -: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو المقري، وأبو بكر الوراق، أنبأنا الحسن بن سفيان، ثنا هشام بن عمار، وأبو بكر ابن ابي شيبة قالا: ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر في حج النبي ﷺ قال: حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا.

رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر ابن شيبة.

ثم روى البيهقي من حديث سفيان الثوري عن أبي الزبير، عن جابر قال: أفاض رسول الله ﷺ وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر، وأمرهم أن يرموا الجمار بمثل حصى الخذف.

وقال: «خذوا عني مناسككم، لعلي لا أراكم بعد عامي هذا».

ثم روى البيهقي من حديث الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن علي أن رسول الله ﷺ أفاض من جمع حتى أتى محسرا، فقرع ناقته حتى جاوز الوادي فوقف، ثم أردف الفضل ثم أتى الجمرة فرماها، هكذا رواه مختصرا.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ثنا سفيان بن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش ابن أبي ربيعة عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله ابن أبي رافع، عن علي قال: وقف رسول الله ﷺ بعرفة فقال: «إن هذا الموقف، وعرفة كلها موقف» وأفاض حين غابت الشمس، وأردف أسامة فجعل يعنق على بعيرة، والناس يضربون يمينا وشمالا لا يلتفت إليهم، ويقول: «السكينة أيها الناس».

ثم أتى جمعا فصلى بهم الصلاتين المغرب والعشاء، ثم بات حتى أصبح، ثم أتى قزح فوقف على قزح فقال: «هذا الموقف وجمع كلها موقف» ثم سار حتى أتى محسرا فوقف عليه، فقرع دابته فخبت حتى جاز الوادي ثم حبسها، ثم أردف الفضل وسار حتى أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: «هذا المنحر، ومنى كلها منحر».

قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ عنه أن أودي عنه؟

قال: «نعم!فأدي عن أبيك».

قال: ولوى عنق الفضل فقال له العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟

قال: «رأيت شابا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما».

قال: ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر.

قال: «إنحر ولا حرج».

ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن أحلق.

قال: «إحلق أو قصر ولا حرج».

ثم أتى البيت فطاف، ثم أتى زمزم فقال: «يا بني عبد المطلب سقايتكم، ولولا أن يغلبكم الناس عليها لنزعت معكم».

وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري.

ورواه الترمذي عن بندار، عن أبي أحمد الزبيري.

وابن ماجه عن علي بن محمد، عن يحيى بن آدم.

وقال الترمذي: حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه.

قلت: وله شواهد من وجوه صحيحة مخرجة في الصحاح وغيرها، فمن ذلك: قصة الخثعمية، وهو في الصحيحين من طريق الفضل، وتقدمت في حديث جابر، وسنذكر من ذلك ما تيسر.

وقد حكى البيهقي بإسناد عن ابن عباس أنه أنكر الإسراع في وادي محسر وقال: إنما كان ذلك من الأعراب.

قال: والمثبت مقدم على النافي.

قلت: وفي ثبوته عنه نظر، والله أعلم.

وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول الله، وصح من صنيع الشيخين أبي بكر وعمر أنهما كانا يفعلان ذلك.

فروى البيهقي عن الحاكم، عن النجاد وغيره، عن أبي علي محمد بن معاذ بن المستهل المعروف بدران، عن القعنبي، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة أن عمر كان يوضع ويقول:

إليك تعدوا قلقا وضينها * مخالف دين النصارى دينها

ذكر رميه عليه السلام جمرة العقبة وحدها يوم النحر

وكيف رماها، ومتى رماها، ومن أي موضع رماها، وبكم رماها، وقطعة التلبية حين رماها.

قد تقدم من حديث أسامة والفضل وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنه عليه السلام لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

وقال البيهقي: أنبأنا الإمام أبو عثمان، أنبانا أبو طاهر ابن خزيمة، أنبأنا جدي - يعني: إمام الأئمة محمد بن اسحاق بن خزيمة -، ثنا علي بن حجر، ثنا شريك عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: رمقت النبي ﷺ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة.

وبه عن ابن خزيمة، ثنا عمر بن حفص الشيباني، ثنا حفص بن غياث، ثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن الفضل قال: أفضت مع رسول الله من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة.

قال البيهقي: وهذه زيادة غريبة ليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل، وإن كان ابن خزيمة قد اختارها.

وقال محمد بن اسحاق: حدثني أبان بن صالح عن عكرمة قال: أفضت مع الحسين بن علي، فما أزال أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما قذفها أمسك.

فقلت: ما هذا؟

فقال: رأيت أبي علي ابن أبي طالب يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وأخبرني أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك.

وتقدم من حديث الليث عن أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن أخيه الفضل أن النبي ﷺ أمر الناس في وادي محسر بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة.

رواه مسلم.

وقال أبو العالية عن ابن عباس: حدثني الفضل قال: قال لي رسول الله ﷺ غداة يوم النحر: «هات فالقط لي حصا» فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، فوضعهن في يده فقال: «بأمثال هؤلاء، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

رواه البيهقي.

وقال جابر في حديثه: حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي.

رواه مسلم.

وقال البخاري: وقال جابر رضي الله عنه: رمى النبي ﷺ الجمرة يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال.

وهذا الحديث الذي علقه البخاري أسنده مسلم من حديث ابن جريج، أخبرني أبو الزبير سمع جابرا قال: رمى رسول الله ﷺ الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس.

وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رمى عبد الله من بطن الوادي.

فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن ناسا يرمونها من فوقها.

فقال: والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

لفظ البخاري.

وفي لفظ له من حديث شعبة عن الحكم، عن ابراهيم، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود: أنه أتى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع.

وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

ثم قال البخاري - باب من رمى الجمار بسبع يكبر مع كل حصاة - قاله ابن عمر عن النبي ﷺ: وهذا إنما يعرف في حديث جابر من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر كما تقدم أنه أتى الجمرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف.

وقد روى البخاري في هذه الترجمة من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم قال: من هاهنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

وروى مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير سمع جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله يرمي الجمرة بسبع مثل حصى الخذف.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا، ثنا حجاج عن الحكم، عن أبي القاسم - يعني: مقسما -، عن ابن عباس أن النبي ﷺ رمى الجمرة جمرة العقبة يوم النحر راكبا.

ورواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن يحيى ابن زكريا ابن أبي زائدة، وقال: حسن.

وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج بن أرطاة به.

وقد روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي من حديث يزيد بن زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه أم جندب الأزدية قالت: رأيت رسول الله ﷺ يرمي الجمار من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن عباس، فازدحم الناس فقال النبي ﷺ: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموه بمثل حصى الخذف».

لفظ أبي داود.

وفي رواية له: قالت: رأيته عند جمرة العقبة راكبا، ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى، ورمى الناس ولم يقم عندها.

ولابن ماجه قالت: رأيت رسول الله ﷺ يوم النحر عند جمرة العقبة وهو راكب على بغلة. ذكر الحديث.

وذكر البغلة هاهنا غريب جدا.

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول: رأيت رسول الله ﷺ يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».

وروى مسلم أيضا من حديث زيد ابن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين، عن جدته أم الحصين سمعتها تقول: حججت مع رسول الله ﷺ حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته يوم النحر وهو يقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».

وفي رواية: قالت: حججت مع رسول الله حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا، أحدهما: آخذ بخطام ناقة النبي ﷺ، والآخر: رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ثنا أيمن بن نابل، ثنا قدامة بن عبد الله الكلابي أنه رأى رسول الله ﷺ رمى جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر على ناقة له صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك.

ورواه أحمد أيضا عن وكيع، ومعتمر ابن سليمان، وأبي قرة موسى بن طارق الزبيدي، ثلاثتهم عن أيمن بن نائل به.

ورواه أيضا عن أبي قرة، عن سفيان الثوري، عن أيمن.

وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث وكيع به.

ورواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، عن أيمن بن نابل به، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا نوح بن ميمون، ثنا عبد الله - يعني: العمري - عن نافع قال: كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا، وزعم أن النبي ﷺ كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا.

ورواه أبو داود عن القعنبي، عن عبد الله العمري به.

فصل انصراف رسول الله إلى المنحر واشراكه سيدنا علي بالهدي

قال جابر: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، وسنتكلم على هذا الحديث.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن حميد الأعرج، عن محمد بن ابراهيم التيمي، عن عبد الرحمن بن معاذ، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: خطب النبي ﷺ بمنى ونزلهم منازلهم فقال: «لينزل المهاجرون هاهنا، وأشار إلى ميمنة القبلة، والأنصار هاهنا، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم لينزل الناس حولهم».

قال: وعلمهم مناسكهم، ففتحت أسماع أهل منى حتى سمعوه في منازلهم.

قال: فسمعته يقول: «إرموا الجمرة بمثل حصى الخذف».

وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل إلى قوله: «ثم لينزل الناس حولهم».

وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، وأبو داود عن مسدد، عن عبد الوارث.

وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن عبد الوارث، عن حميد بن قيس الأعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله ﷺ ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كأنا نسمع ما يقول. الحديث.

ذكر جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ أشرك علي ابن أبي طالب في الهدي، وأن جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي جاء به رسول الله ﷺ مائة من الإبل، وأن رسول الله ﷺ نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بدنة.

قال ابن حبان وغيره: وذلك مناسب لعمره عليه السلام فإنه كان ثلاثا وستين سنة.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير، ثنا محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نحر رسول الله ﷺ في الحج مائة بدنة، نحر منها بيده ستين، وأمر ببقيتها فنحرت، وأخذ من كل بدنة بضعة، فجمعت في قدر فأكل منها، وحسى من مرقها.

قال: ونحر يوم الحديبية سبعين فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.

وقد روى ابن ماجه بعضه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى به.

وقال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني رجل عن عبد الله ابن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن ابن عباس قال: أهدى رسول الله في حجة الوداع مائة بدنة، نحر منها ثلاثين بدنة بيده، ثم أمر عليا فنحر ما بقي منها.

وقال: «قسم لحومها وجلودها، وجلالها بين الناس، ولا تعطين جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جدية من لحم، واجعلها في قدر واحدة، حتى نأكل من لحمها، ونحسو من مرقها،» ففعل.

وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن ابن أبي ليلى، عن علي قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها، وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئا.

وقال: «نحن نعطيه من عندنا».

وقال أبو داود: ثنا محمد بن حاتم، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا عبد الله بن المبارك عن حرملة بن عمران، عن عبد الله بن الحارث الأزدي سمعت عرفة بن الحارث الكندي قال: شهدت رسول الله ﷺ وأتى بالبدن فقال: «أدع لي أبا حسن» فدعي له علي.

فقال: «خذ بأسفل الحربة» وأخذ رسول الله ﷺ بأعلاها ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب بغلته وأردف عليا.

تفرد به أبو داود، وفي إسناده ومتنه غرابة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، أنبأنا عبد الله، أنبأنا الحجاج بن أرطأة عن الحكم عن أبي القاسم - يعني: مقسما - عن ابن عباس قال: رمى رسول الله ﷺ جمرة العقبة ثم ذبح، ثم حلق.

وقد ادعى ابن حزم أنه ضحى عن نسائه بالبقر، وأهدى بمنى بقرة، وضحى هو بكبشين أملحين.

صفة حلقه رأسه الكريم عليه الصلاة والتسليم

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ حلق في حجته.

ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم - هو: ابن راهويه -، عن عبد الرزاق.

وقال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب قال: قال نافع: كان عبد الله بن عمر يقول: حلق رسول الله ﷺ في حجته.

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة عن نافع به.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا جويرية بن أسماء عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: حلق رسول الله ﷺ وطائفة من أصحابه، وقصر بعضهم.

رواه مسلم من حديث الليث عن نافع به.

وزاد: قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ: «يرحم الله المحلقين» مرة أو مرتين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟

قال: «والمقصرين».

وقال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، وأبو داود الطيالسي عن يحيى بن الحصين، عن جدته أنها سمعت رسول الله في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة.

ولم يقل وكيع: في حجة الوداع.

وهكذا روى هذا الحديث مسلم من حديث مالك.

وعبد الله عن نافع، عن ابن عمر، وعمارة عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة.

وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى، ثنا حفص ابن غياث عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر.

ثم قال للحلاق: «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.

وفي رواية: أنه حلق شقه الأيمن، فقسمه بين الناس، من شعرة أو شعرتين، وأعطى شقه الأيسر لأبي طلحة.

وفي رواية له: أنه أعطى الأيمن لأبي طلحة وأعطاه الأيسر، وأمره أن يقسمه بين الناس.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال: رأيت رسول الله ﷺ والحلاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن يقع شعرة إلا في يد رجل.

انفرد به أحمد.

فصل تحلله صلى الله عليه وسلم بعد رمي جمرة العقبة

ثم لبس عليه السلام ثيابه، وتطيب بعد ما رمى جمرة العقبة، ونحر هديه، وقبل أن يطوف بالبيت طيبته عائشة أم المؤمنين.

قال البخاري: ثنا علي بن عبد الله بن المديني، ثنا سفيان هو: ابن عيينة -، ثنا عبد الرحمن بن القاسم بن محمد - وكان أفضل أهل زمانه - أنه سمع أباه - وكان أفضل أهل زمانه - يقول: إنه سمع عائشة تقول: طيبت رسول الله ﷺ بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها.

وقال مسلم: ثنا يعقوب الدورقي، وأحمد بن منيع قالا: ثنا هشيم، أنبأنا منصور عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله ﷺ قبل أن يحرم ويحل يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك.

وروى النسائي من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم، ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت.

وقال الشافعي: أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سالم قال: قالت عائشة: أنا طيبت رسول الله لحله وإحرامه.

ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن عائشة فذكره.

وفي الصحيحين من حديث ابن جريج أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة أنها قالت: طيبت رسول الله بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.

ورواه مسلم من حديث الضحاك بن عثمان عن أبي الرحال، عن أمه عمرة، عن عائشة به.

وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العوفي، عن ابن عباس أنه قال: إذا رميتم الجمرة فقد حللتم من كل شيء كان عليكم حراما إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت.

فقال رجل: والطيب يا أبا العباس؟

فقال له: إني رأيت رسول الله ﷺ يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو أم لا؟

وقال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة عن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، وأمه زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: كانت الليلة التي يدور فيها رسول الله ﷺ ليلة النحر، فكان رسول الله عندي، فدخل وهب بن زمعة، ورجل من آل أبي أمية متقمصين.

فقال لهما رسول الله ﷺ: «أفضتما؟»

قالا: لا.

قال: «فانزعا قميصكما» فنزعاهما.

فقال له وهب: ولم يا رسول الله؟

فقال: «هذا يوم أرخص لكم فيه إذا رميتم الجمرة ونحرتم هديا، إن كان لكم فقد حللتم من كل شيء حرمتم منه إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت، فإذا رميتم ولم تفيضوا صرتم حرما كما كنتم أول مرة حتى تطوفوا بالبيت».

وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، كلاهما عن ابن أبي عدي، عن ابن إسحاق، فذكره.

وأخرجه البيهقي عن الحاكم، عن أبي بكر، عن أبي إسحاق، عن أبي المثنى العنبري، عن يحيى بن معين.

وزاد في آخره: قال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس بنت محصن قالت: خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر، ثم رجعوا إلينا عشيا وقمصهم على أيديهم يحملونها، فسألتهم فأخبروها بمثل ما قال رسول الله ﷺ لوهب بن زمعة وصاحبه.

وهذا الحديث غريب جدا، لا أعلم أحدا من العلماء قال به.

ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق

قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم.

فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه. رواه مسلم.

ففي هذا السياق ما يدل على أنه عليه السلام ركب الى مكة قبل الزوال فطاف بالبيت، ثم لما فرغ صلى الظهر هناك.

وقال مسلم أيضا: أخبرنا محمد بن رافع، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.

وهذا خلاف حديث جابر، وكلاهما عند مسلم.

فإن عللنا بهما أمكن أن يقال: أنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى، فوجد الناس ينتظرونه فصلى بهم، والله أعلم.

ورجوعه عليه السلام إلى منى في وقت الظهر ممكن، لأن ذلك الوقت كان صيفا والنهار طويل، وإن كان قد صدر منه عليه السلام أفعال كثيرة في صدر هذا النهار، فإنه دفع فيه من المزدلفة بعد ما أسفر الفجر جدا ولكنه قبل طلوع الشمس، ثم قدم منى فبدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات.

ثم جاء فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي بقية المائة، ثم أخذت من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت فأكل من ذلك اللحم، وشرب من ذلك المرق.

وفي غبون ذلك حلق رأسه عليه السلام وتطيب، فلما فرغ من هذا كله ركب إلى البيت، وقد خطب عليه السلام في هذا اليوم خطبة عظيمة، ولست أدري أكانت قبل ذهابه إلى البيت أو بعد رجوعه منه إلى منى، فالله أعلم.

والقصد أنه ركب الى البيت فطاف به سبعة أطواف راكبا، ولم يطف بين الصفا والمروة، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر وعائشة رضي الله عنهما ثم شرب من ماء زمزم، ومن نبيذ تمر من ماء زمزم.

فهذا كله مما يقوي قول من قال: إنه عليه السلام صلى الظهر بمكة كما رواه جابر.

ويحتمل أنه رجع الى منى في آخر وقت الظهر، فصلى بأصحابه بمنى الظهر أيضا.

وهذا هو الذي أشكل على ابن حزم، فلم يدر ما يقول فيه، وهو معذور لتعارض الروايات الصحيحة فيه، والله أعلم.

وقال أبو داود: ثنا علي بن بحر، وعبد الله بن سعيد المعني قالا: ثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: أفاض رسول الله ﷺ من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمى الجمرة، إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة.

قال ابن حزم: فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه عليه السلام صلى الظهر يوم النحر بمكة، وهما والله أعلم أضبط لذلك من ابن عمر.

كذا قال: وليس بشيء، فإن رواية عائشة هذه ليست ناصة أنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، بل محتملة إن كان المحفوظ في الرواية حتى صلى الظهر، وإن كانت الرواية حين صلى الظهر، وهو الأشبه، فإن ذلك دليل على أنه عليه السلام صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت، وهو محتمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وعلى هذا فيبقى مخالفا لحديث جابر، فإن هذا يقتضي أنه صلى الظهر بمنى قبل أن يركب إلى البيت.

وحديث جابر يقتضي أنه ركب إلى البيت قبل أن يصلي الظهر، وصلاها بمكة.

وقد قال البخاري: وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي ﷺ يعني: طواف الزيارة إلى الليل وهذا والذي علقه البخاري، فقد وراه الناس من حديث يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وفرج بن ميمون عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس أن النبي ﷺ أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث سفيان به.

وقال الترمذي: حسن.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا سفيان عن أبي الزبير، عن عائشة، وابن عمر أن رسول الله ﷺ زار ليلا.

فإن حمل هذا على أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال، كأنه يقول: إلى العشي صح ذلك.

وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا.

ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة من أنه عليه السلام طاف يوم النحر نهارا، وشرب من سقاية زمزم.

وأما الطواف الذي ذهب في الليل إلى البيت بسببه فهو طواف الوداع.

ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة كما سنذكره إن شاء الله، أو طواف زيارة محضة قبل طواف الوداع وبعد طواف الصدر الذي هو طواف الفرض.

وقد ورد حديث سنذكره في موضعه.

أن رسول الله كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، وهذا بعيد أيضا، والله أعلم.

وقد روى الحافظ البيهقي من حديث عمرو بن قيس عن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله أذن لأصحابه، فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله ﷺ مع نسائه ليلا.

وهذا حديث غريب جدا أيضا.

وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير أن رسول الله ﷺ أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.

والصحيح من الروايات، وعليه الجمهور: أنه عليه السلام طاف يوم النحر بالنهار، والأشبه أنه كان قبل الزوال، ويحتمل أن يكون بعده، والله أعلم.

والمقصود: أنه عليه السلام لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا وهو راكب، ثم جاء زمزم وبنو عبد المطلب يستقون منها، ويسقون الناس فتناول منها دلوا فشرب منه وأفرغ عليه منه.

كما قال مسلم: أخبرنا محمد بن منهال الضرير، ثنا يزيد بن زريع، ثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني سمع ابن عباس يقول: وهو جالس معه عند الكعبة، قدم النبي ﷺ على راحلته، وخلفه أسامة فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب، وسقى فضله أسامة.

وقال: «أحسنتم وأجملتم هكذا فاصنعوا».

قال ابن عباس: فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله ﷺ.

وفي رواية عن بكر أن أعرابيا قال لابن عباس: مالي أرى بني عمكم يسقون اللبن والعسل، وأنتم تسقون النبيذ، أمن حاجة بكم أم من بخل؟.

فذكر له ابن عباس هذا الحديث.

وقال أحمد: حدثنا روح، ثنا حماد عن حميد، عن بكر، عن عبد الله أن أعرابيا قال لابن عباس: ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل، وآل فلان يسقون اللبن، وأنتم تسقون النبيذ، أمن بخل بكم أم حاجة؟

فقال ابن عباس: ما بنا بخل ولا حاجة، ولكن رسول الله ﷺ جاءنا ورديفه أسامة بن زيد، فاستسقى فسقيناه من هذا - يعني: نبيذ السقاية - فشرب منه.

وقال: «أحسنتم هكذا فاصنعوا».

ورواه أحمد عن روح ومحمد بن بكر عن ابن جريج، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس فذكره.

وروى البخاري عن إسحاق بن سليمان، حدثنا خالد عن خالد الحذاء، عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله جاء الى السقاية فاستقى.

فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها.

فقال: «اسقني!»

فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه.

قال: «اسقني!»

فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها.

فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح».

ثم قال: «لولا أن تغلبوا لنزعت حتى أضع الحبل على هذه - يعني: عاتقه - وأشار إلى عاتقه».

وعنده من حديث عاصم عن الشعبي أن ابن عباس قال: سقيت النبي ﷺ من زمزم فشرب وهو قائم.

قال عاصم: فحلف عكرمة - ما كان يومئذ إلا على بعير -.

وفي رواية: ناقته.

وقال الإمام أحمد: ثنا هشيم، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ طاف بالبيت وهو على بعير، واستلم الحجر بمحجن كان معه قال: وأتى السقاية فقال: «أسقوني!».

فقالوا: إن هذا يخوضه الناس، ولكنا نأتيك به من البيت.

فقال: «لا حاجة لي فيه اسقوني مما تشرب الناس».

وقد روى أبو داود عن مسدد، عن خالد الطحان، عن يزيد ابن أبي زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله مكة ونحن نستقي فطاف على راحلته - الحديث -.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: ثنا حماد عن قيس وقال عفان في حديثه: أنبأنا قيس عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: جاء النبي ﷺ إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب، ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم ثم قال: «لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي».

انفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم.

فصل اكتفاء رسول الله عليه السلام بطوافه الأول

ثم إنه ﷺ لم يعد الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية، بل اكتفى بطوافه الأول.

كما روى مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لم يطف النبي ﷺ وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.

قلت: والمراد بأصحابه هاهنا الذين ساقوا الهدي وكانوا قارنين.

كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال لعائشة وكانت أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة: «يكفيك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك».

وعند أصحاب الإمام أحمد أن قول جابر وأصحابه عام في القارنين والمتمتعين، ولهذا نص الإمام أحمد على أن المتمتع يكفيه طواف واحد عن حجه وعمرته، وإن تحلل بينهما تحلل، وهو قول غريب مأخذه ظاهر عموم الحديث، والله أعلم.

وقال أصحاب أبي حنيفة في المتمتع كما قال المالكية، والشافعية: إنه يجب عليه طوافان وسعيان، حتى طردت الحنفية ذلك في القارن، وهو من أفراد مذهبهم أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين، ونقلوا ذلك عن علي موقوفا، وروى عنه مرفوعا إلى النبي ﷺ، وقد قدمنا الكلام على ذلك كله عند الطواف، وبينا أن أسانيد ذلك ضعيفة مخالفة للأحاديث الصحيحة، والله أعلم.

فصل رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى منى

ثم رجع عليه السلام إلى منى بعد ما صلى الظهر بمكة كما دل عليه حديث جابر.

وقال ابن عمر: رجع فصلى الظهر بمنى.

رواهما مسلم كما تقدم قريبا، ويمكن الجمع بينهما بوقوع ذلك بمكة وبمنى، والله أعلم.

وتوقف ابن حزم في هذا المقام فلم يجزم فيه بشيء، وهو معذور لتعارض النقلين الصحيحين فيه، فالله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: أفاض رسول الله ﷺ من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات، إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

ورواه أبو داود منفردا به.

وهذا يدل على أن ذهابه عليه السلام إلى مكة يوم النحر كان بعد الزوال.

وهذا ينافي حديث ابن عمر قطعا، وفي منافاته لحديث جابر نظر، والله أعلم.

فصل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر

وقد خطب رسول الله ﷺ في هذا اليوم الشريف خطبة عظيمة تواترت بها الأحاديث، ونحن نذكر منها ما يسره الله عز وجل.

قال البخاري - باب الخطبة أيام منى -: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا فضيل بن غزوان، ثنا عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خطب الناس يوم النحر فقال: «ياأيها الناس أي يوم هذا؟»

قالوا: يوم حرام.

قال: «فأي بلد هذا؟»

قالوا: بلد حرام.

قال: «فأي شهر هذا؟»

قالوا: شهر حرام.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا».

قال: فأعادها مرارا ثم رفع رأسه.

فقال: «اللهم هل بلغت اللهم قد بلغت».

قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.

ورواه الترمذي عن الفلاس، عن يحيى القطان به.

وقال: حسن صحيح.

وقال البخاري أيضا: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو عامر، ثنا قرة عن محمد بن سيرين، أخبرني عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه، ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ﷺ يوم النحر فقال: «أتدرون أي يوم هذا؟».

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس هذا يوم النحر؟».

قلنا: بلى!

قال: «أي شهر هذا؟»

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذو الحجة؟».

قلنا: بلى!

قال: «أي بلد هذا؟».

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس بالبلدة الحرام؟».

قلنا: بلى!

قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟».

قالوا: نعم.

قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

ورواه البخاري ومسلم من طرق عن محمد بن سيرين به.

ورواه مسلم من حديث عبد الله بن عون عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه فذكره.

وزاد في آخره: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جذيعة من الغنم فقسمها بيننا.

وقال الإمام: أحمد ثنا إسماعيل، أنبأنا أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثني عشر شهرا منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

ثم قال: «ألا أي يوم هذا؟».

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

قال: «أليس يوم النحر؟».

قلنا: بلى!

ثم قال: «أي شهر هذا؟».

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

قال: «أليس ذا الحجة؟».

قلنا: بلى!

ثم قال: «أي بلد هذا؟»

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

قال: «أليست البلدة؟»

قلنا: بلى!

قال: «فإن دماءكم وأموالكم - لأحبسه - قال: «وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».

هكذا وقع في مسند الإمام أحمد عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة.

وهكذا رواه أبو داود عن مسدد، والنسائي عن عمرو بن زرارة، كلاهما عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي بكرة به.

وهو منقطع لأن صاحبا الصحيح أخرجاه من غير وجه عن أيوب، وغيره عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة، عن أبيه به.

وقال البخاري أيضا: ثنا محمد بن المثنى، ثنا يزيد بن هارون، أنبأنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ بمنى: «أتدرون أي يوم هذا؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «بلد حرام».

قال: «أفتدرون أي شهر هذا؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «شهر حرام، فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

وقد أخرجه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن جده عبد الله بن عمر، فذكره.

قال البخاري، وقال هشام بن الغاز أخبرني نافع عن ابن عمر: وقف النبي ﷺ يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا.

وقال: «هذا يوم الحج الأكبر».

فطفق النبي ﷺ يقول: «اللهم اشهد» وودع الناس.

فقالوا: هذه حجة الوداع.

وقد أسند هذا الحديث أبو داود عن مؤمل بن الفضل، عن الوليد بن مسلم.

وأخرجه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، كلاهما عن هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي أبي العباس الدمشقي به.

وقيامه عليه السلام بهذه الخطبة عند الجمرات يحتمل أنه بعد رميه الجمرة يوم النحر وقبل طوافه.

ويحتمل أنه بعد طوافه، ورجوعه الى منى ورميه بالجمرات.

لكن يقوي الأول ما رواه النسائي حيث قال: حدثنا عمرو بن هشام الحراني، ثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم، عن زيد ابن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين الأحمسي، عن جدته أم حصين قالت: حججت في حجة النبي ﷺ فرأيت بلالا آخذا بقود راحلته، وأسامة بن زيد رافع عليه ثوبه يظله من الحر، وهو محرم حتى رمى جمرة العقبة ثم خطب الناس، فحمد وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا.

وقد رواه مسلم من حديث زيد ابن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين، عن جدته أم الحصين قالت: حججت مع رسول الله ﷺ حجة الوداع فرأيت أسامة، وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.

قالت: فقال رسول الله قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: «إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت: أسود - يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوه».

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن عبيد الله، ثنا الأعمش عن أبي صالح - وهو ذكوان السمان - عن جابر.

قال: خطبنا رسول الله ﷺ يوم النحر فقال: «أي يوم أعظم حرمة؟».

قالوا: يومنا هذا.

قال: «أي شهر أعظم حرمة؟».

قالوا: شهرنا هذا.

قال: «أي بلد أعظم حرمة؟».

قالوا: بلدنا هذا.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، هل بلغت؟».

قالوا: نعم.

قال: «اللهم اشهد».

انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيحين.

ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

وقد تقدم حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر في خطبته عليه السلام يوم عرفة، فالله أعلم.

قال الإمام أحمد: ثنا علي بن بحر، ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع فذكر معناه.

وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به، وإسناده على شرط الصحيحين، فالله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو هشام، ثنا حفص عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله ﷺ خطب فقال: «أي يوم هذا؟».

قالوا: يوم حرام.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

ثم قال البزار: رواه أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد، وجمعهما لنا أبو هشام عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد.

قلت: وتقدم رواية أحمد له عن محمد بن عبيد الطنافسي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر بن عبد الله فلعله عند أبي صالح عن الثلاثة، والله أعلم.

وقال هلال بن يساف عن سلمة بن قيس الأشجعي قال: قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع: «إنما هن أربع: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا».

قال: فما أنا بأشج عليهن مني حين سمعتهن من رسول الله ﷺ.

وقد رواه أحمد والنسائي من حديث منصور عن هلال بن يساف.

وكذلك رواه سفيان بن عيينة والثوري عن منصور.

وقال ابن حزم في حجة الوداع: حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري، ثنا أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي الأنصاري، ثنا أحمد بن عبدان الحافظ بالأهواز، ثنا سهل بن موسى بن شيرزاد، ثنا موسى بن عمرو بن عاصم، ثنا أبو العوام، ثنا محمد بن جحادة عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع وهو يخطب وهو يقول: «أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك».

قال: فجاء قوم فقالوا: يا رسول الله قبلنا بنو يربوع.

فقال رسول الله ﷺ: «لا تجني نفس على أخرى».

ثم سأله رجل نسي أن يرمي الجمار.

فقال: «ارم ولا حرج».

ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله نسيت الطواف.

فقال: «طف ولا حرج».

ثم أتاه آخر حلق قبل أن يذبح.

قال: «اذبح ولا حرج».

فما سألوه يومئذ عن شيء إلا قال: «لا حرج لا حرج».

ثم قال: «قد أذهب الله الحرج إلا رجلا اقترض امرأ مسلما فذلك الذي حرج وهلك».

وقال: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم».

وقد روى الإمام أحمد، وأهل السنن بعض هذا السياق من هذه الطريق.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا حجاج، حدثني شعبة عن علي بن مدرك سمعت أبا زرعة يحدث عن جرير - وهو جده - عن النبي ﷺ قال في حجة الوداع: يا جرير استنصت الناس.

ثم قال في خطبته: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

ثم رواه أحمد عن غندر، وعن ابن مهدي، كل منهما عن شعبة به.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.

وقال أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا إسماعيل عن قيس قال: بلغنا أن جريرا قال: قال رسول الله: استنصت الناس ثم قال عند ذلك: «لا أعرفن بعد ما أرى ترجعون كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

ورواه النسائي من حديث عبد الله بن نمير به.

وقال النسائي: ثنا هناد بن السري عن أبي الأحوص، عن ابن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع يقول: «أيها الناس - ثلاث مرات - أي يوم هذا؟».

قالوا: يوم الحج الأكبر.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، ولا يجني جان على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى، ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية يوضع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون» وذكر تمام الحديث.

وقال أبو داود - باب من قال خطب يوم النحر -: حدثنا هارون بن عبد الله، ثنا هشام بن عبد الملك، ثنا عكرمة - هو ابن عمار -، ثنا الهرماس بن زياد الباهلي قال: رأيت رسول الله ﷺ يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى.

ورواه أحمد والنسائي من غير وجه عن عكرمة بن عمار، عن الهرماس قال: كان أبي مردفي فرأيت رسول الله ﷺ يخطب الناس بمنى يوم النحر على ناقته العضباء.

لفظ أحمد وهو من ثلاثيات المسند ولله الحمد.

ثم قال أبو داود: ثنا مؤمل بن الفضل الحراني، ثنا الوليد، ثنا ابن جرير، ثنا سليم بن عامر الكلاعي سمعت أبا أمامة يقول: سمعت خطبة رسول الله ﷺ بمنى يوم النحر.

وقال الامام أحمد: ثنا عبد الرحمن عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر الكلاعي سمعت أبا امامة يقول: سمعت رسول الله ﷺ وهو يومئذ على الجدعاء واضع رجليه في الغرز يتطاول ليسمع الناس.

فقال بأعلا صوته: «ألا تسمعون؟».

فقال رجل من طوائف الناس: يا رسول الله ماذا تعهد إلينا؟.

فقال: «اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا إذا أمرتم، تدخلوا جنة ربكم».

فقلت: يا أبا أمامة مثل من أنت يومئذ.

قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة، أزاحم البعير أزحزحه قدما لرسول الله ﷺ.

ورواه أحمد أيضا عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح.

وأخرجه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكوفي، عن زيد بن الحباب.

وقال: حسن صحيح.

قال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا إسماعيل بن عباس، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة من بيتها إلا بإذن زوجها».

فقيل: يا رسول الله ولا الطعام.

قال: «ذاك أفضل أموالنا».

ثم قال رسول الله: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم».

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث إسماعيل بن عياش.

وقال الترمذي: حسن.

ثم قال أبو داود رحمه الله باب من يخطب يوم النحر: حدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمشقي، ثنا مروان عن هلال بن عامر المزني، حدثني رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله ﷺ يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد.

ورواه النسائي عن دحيم، عن مروان الفزاري به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا هلال بن عامر المزني عن أبيه قال: رأيت رسول الله يخطب الناس بمنى على بغلة وعليه برد أحمر قال: ورجل من اهل بدر بين يديه يعبر عنه.

قال: فجئت حتى أدخلت يدي بين قدمه وشراكه.

قال: فجعلت أعجب من بردها.

حدثنا محمد بن عبيد، ثنا شيخ من بني فزارة عن هلال بن عامر المزني، عن أبيه قال: رأيت رسول الله على بغلة شهباء وعلي يعبر عنه.

ورواه أبو داود من حديث أبي معاوية عن هلال بن عامر ثم قال أبو داود - باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى -: حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث عن حميد الأعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله ﷺ ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع السباحتين ثم قال: حصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد، وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثم نزل الناس بعد ذلك.

وقد رواه أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه.

وأخرجه النسائي من حديث ابن المبارك عن عبد الوارث كذلك.

وتقدم رواية الإمام أحمد له عن عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عبد الرحمن بن معاذ، عن رجل من الصحابة، فالله أعلم.

وثبت في الصحيحين من حديث ابن جريج عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ بينا هو يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا وكذا قبل كذا وكذا.

ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا، وكذا قبل كذا.

فقال رسول الله ﷺ: «افعل ولا حرج».

وأخرجاه من حديث مالك.

زاد مسلم ويونس عن الزهري به، وله ألفاظ كثيرة ليس هذا موضع استقصائها، ومحله (كتاب الأحكام) وبالله المستعان.

وفي لفظ الصحيحين قال: فما سئل رسول الله ﷺ في ذلك اليوم عن شيء قدم وإلا أخر، إلا قال: «افعل ولا حرج».

فصل نزوله عليه الصلاة والسلام في منى

ثم نزل عليه السلام بمنى حيث المسجد اليوم فيما يقال، وأنزل المهاجرين يمنته والأنصار يسرته والناس حولهم من بعدهم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة، ثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أم مسيكة، عن عائشة قال: قيل يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بناء يظلك.

قال: «لا منى مناخ من سبق».

وهذا إسناد لا بأس به، وليس هو في المسند ولا في الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال أبو داود: ثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، ثنا يحيى عن ابن جريج، حدثني حريز، أو أبو حريز الشك من يحيى أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر قال: إنا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا مكة، فيبت على المال.

فقال: أما رسول الله ﷺ فبات بمنى وظل.

انفرد به أبو داود.

ثم قال أبو داود: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا ابن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: استأذن العباس رسول الله ﷺ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له.

وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير.

زاد البخاري: وأبي ضمرة أنس بن عياض.

زاد مسلم: وأبي أسامة حماد بن أسامة.

وقد علقه البخاري عن أبي أسامة وعقبة بن خالد، كلهم عن عبيد الله بن عمر به.

وقد كان ﷺ يصلي بأصحابه بمنى ركعتين، كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود، وحارثة بن وهب رضي الله عنهما.

ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن سبب هذا القصر النسك، كما هو قول طائفة من المالكية وغيرهم.

قالوا: ومن قال: إنه عليه السلام كان يقول بمنى لأهل مكة: «أتموا فإنا قوم سفر» فقد غلط، إنما قال ذلك رسول الله ﷺ عام الفتح، وهو نازل بالأبطح، كما تقدم، والله أعلم.

وكان ﷺ يرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى بعد الزوال، كما قال جابر فيما تقدم: ماشيا، كما قال ابن عمر فيما سلف: كل جمرة بسب حصيات يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى وعند الثانية، يدعو الله عز وجل، ولا يقف عند الثالثة.

قال أبو داود: ثنا علي بن بحر، وعبد الله بن سعيد المعني قالا: ثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: أفاض رسول الله ﷺ من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع، ويرمى الثالثة لا يقف عندها.

انفرد به أبو داود.

وروى البخاري من غير وجه عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يفعله.

وقال وبرة بن عبد الرحمن: قام ابن عمر عند العقبة، بقدر قراءة سورة البقرة.

وقال أبو مجلز: حزرت قيامه بعد قراءة سورة يوسف، ذكرهما البيهقي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي القداح، عن أبيه أن رسول الله ﷺ رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما.

وقال أحمد: ثنا محمد ابن أبي بكر، وأما روح ثنا ابن جريج، أخبرني محمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو عن أبيه، عن أبي القداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرموا الغد.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن، ثنا مالك عن عبد الله، عن بكر، عن أبيه، عن أبي القداح، عن عاصم بن عدي، عن أبيه أن رسول الله ﷺ رخص لرعاء الإبل في البيتوتة بمنى حتى يرمون يوم النحر، ثم يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.

وكذا رواه عن عبد الرزاق عن مالك بنحوه.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث مالك، ومن حديث سفيان بن عيينة به.

قال الترمذي: ورواية مالك أصح، وهو حديث حسن صحيح.

فصل خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في ثاني أيام التشريق

فيما ورد من الأحاديث الدالة على أنه عليه السلام خطب الناس بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو أوسطها.

قال أبو داود باب أي يوم يخطب: حدثنا محمد بن العلاء، أنبأنا ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله ﷺ يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله ﷺ التي خطب بمنى.

انفرد به أبو داود.

ثم قال أبو داود: ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم، ثنا ربيعة بن عبد الرحمن بن حصين، حدثتني جدتي سراء بنت نبهان - وكانت ربة بيت في الجاهلية - قالت: خطبنا رسول الله ﷺ يوم الرؤوس فقال: «أي يوم هذا؟».

قلنا: الله ورسوله أعلم.

قال: «أليس أوسط أيام التشريق».

انفرد به أبو داود.

قال أبو داود: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي: أنه خطب أوسط أيام التشريق.

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد متصلا مطولا.

فقال: ثنا عثمان، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله ﷺ في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس.

فقال: «ياأيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟.

قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقونه».

ثم قال: «اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه، ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مستعرضا في بني سعد فقتلته هذيل، ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض».

ثم قرأ: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» [38] ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حق أن لا يوطئن فرشكم أحد غيركم، ولا يأذن فيي بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها»

وبسط يده وقال: «ألا هل بلغت، ألا هل بلغت!».

ثم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ أسعد من سامع».

قال حميد: قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.

وقد روى أبو داود في كتاب النكاح من سننه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي حرة الرقاشي - واسمه: حنيفة - عن عمه ببعضه في النشوز.

قال ابن حزم: جاء أنه خطب يوم الرؤوس، وهو اليوم الثاني من يوم النحر بلا خلاف عن أهل مكة، وجاء أنه أوسط أيام التشريق فيحتمل على أن أوسط بمعنى أشرف.

كما قال تعالى: «وكذلك جعلْناكمْ أمة وسطا». [39].

وهذا المسلك الذي سلكه ابن حزم بعيد، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الوليد بن عمرو بن مسكين، ثنا أبو همام محمد بن الزبرقان، ثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول الله ﷺ بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع: { إذا جاء نصْر الله والْفتْح } فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له، ثم ركب فوقف الناس بالعقبة فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب، أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر منها أربعة حرم رجب مضر - الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم { ذلك الدين الْقيم فلا تظْلموا فيهن أنْفسكمْ } الآية [40].

{ إنما النسيء زيادة في الْكفْر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } [41] كانوا يحلون صفرا عاما، ويحرمون المحرم عاما، ويحرمون صفرا عاما، ويحلون المحرم عاما، فذلك النسئ.

يا أيها الناس من كان عنده وديعة فليؤدها الى من ائتمنه عليها، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد يرضى عنكم بمحقرات الأعمال فاحذروه على دينكم بمحقرات الأعمال، أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، لكم عليهن ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن ذلك فليس عليهن سبيل، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإن ضربتم فاضربوا ضربا غير مبرح، ولا يحل لامرء من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.

أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله فاعملوا به، أيها الناس أي يوم هذا؟».

قالوا: يوم حرام.

قال: «فأي بلد هذا؟»

قالوا: بلد حرام.

قال: «أي شهر هذا؟»

قالوا: شهر حرام.

قال: «فإن الله حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم، في هذا البلد وهذا الشهر، ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم».

ثم رفع يديه فقال: «اللهم اشهد».

حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يزور البيت كل ليلة من ليالي منى

قال البخاري يذكر عن أبي حسان عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ كان يزور البيت في أيام منى.

هكذا ذكره معلقا بصيغة التمريض.

وقد قال الحافظ البيهقي: أخبرناه أبو الحسن بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا العمري، أنبأنا ابن عرعرة فقال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتابا.

قال: سمعته من أبي ولم يقرأه.

قال: فكان فيه عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى.

قال: وما رأيت أحدا واطأه عليه.

قال البيهقي: وروى الثوري في (الجامع) عن طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يفيض كل ليلة - يعني: ليالي منى - وهذا مرسل.

فصل يوم الزينة

اليوم السادس من ذي الحجة.

قال بعضهم: يقال له: يوم الزينة لأنه يزين فيه البدن بالجلال وغيرها.

واليوم السابع: يقال له: يوم التروية، لأنهم يتروون فيه من الماء ويحملون منه ما يحتاجون اليه حال الوقوف وما بعده.

واليوم الثامن: يقال له: يوم منى لأنهم يرحلون فيه من الأبطح إلى منى.

واليوم التاسع: يقال له: يوم عرفة لوقوفهم فيه بها.

واليوم العاشر: يقال له: يوم النحر، ويوم الأضحى، ويوم الحج الأكبر.

واليوم الذي يليه: يقال له: يوم القر لأنهم يقرون فيه، ويقال له: يوم الرؤوس لأنهم يأكلون فيه رؤوس الأضاحي، وهو أول أيام التشريق، وثاني أيام التشريق يقال له: يوم النفر الأول لجواز النفر فيه، وقيل: هو اليوم الذي يقال له: يوم الرؤوس، واليوم الثالث من أيام التشريق يقال له: يوم النفر الآخر.

قال الله تعالى: { فمنْ تعجل في يوْميْن فلا إثْم عليْه ومنْ تأخر فلا إثْم عليْه } الآية. [42].

فلما كان يوم النفر الآخر، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق، وكان يوم الثلاثاء ركب رسول الله ﷺ والمسلمون معه فنفر بهم من منى، فنزل المحصب - وهو واد بين مكة ومنى - فصلى به العصر.

كما قال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا إسحاق بن يوسف، ثنا يوسف، ثنا سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك: أخبرني عن شيء عقلته عن رسول الله ﷺ أين صلى الظهر يوم التروية؟.

قال: بمنى.

قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟

قال: بالأبطح، افعل كما يفعل أمراؤك.

وقد روي أنه ﷺ صلى الظهر يوم النفر بالأبطح، وهو المحصب، فالله أعلم.

قال البخاري: حدثنا عبد المتعال بن طالب، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن قتادة حدثه أن أنس بن مالك، حدثه عن النبي ﷺ أنه صلى الظهر والعصر والعشاء، ورقد رقدة في المحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.

قلت: - يعني: طواف الوداع -.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا خالد بن الحارث قال: سئل عبيد الله عن المحصب فحدثنا عبيد الله عن نافع قال: نزل بها رسول الله ﷺ وعمر وابن عمر.

وعن نافع أن ابن عمر كان يصلي بها - يعني المحصب - والظهر والعصر أحسبه قال: والمغرب، قال خالد: لا أشك في العشاء ثم يهجع هجعة، ويذكر ذلك عن النبي ﷺ.

وقال الإمام أحمد: ثنا نوح بن ميمون، أنبأنا عبد الله عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر وعثمان نزلوا المحصب، هكذا رأيته في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله العمري عن نافع.

وقد روى الترمذي هذا الحديث عن إسحاق بن منصور، وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن يحيى، كلاهما عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر وعثمان ينزلون الأبطح.

قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة، وأبي رافع، وابن عباس، وحديث ابن عمر حسن غريب.

وإنما نعرفه من حديث عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر به.

وقد رواه مسلم عن محمد بن مهران الرازي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الأبطح.

ورواه مسلم أيضا من حديث صخر بن جويرية عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينزل المحصب، وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة.

قال نافع: قد حصب رسول الله ﷺ والخلفاء بعده.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، ثنا حماد - يعني: ابن سلمة - عن أيوب وحميد، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء، ثم هجع هجعة، ثم دخل - يعني: مكة - فطاف بالبيت.

ورواه أحمد أيضا عن عفان، عن حماد، عن حميد، عن بكر، عن ابن عمر، فذكره وزاد في آخره: وكان ابن عمر يفعله.

وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل.

وقال البخاري: ثنا الحميدي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من الغد يوم النحر - بمنى - نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر - يعني: بذلك المحصب - الحديث.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي فذكر مثله سواء.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله أين تنزل غدا - في حجته -؟.

قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا».

ثم قال: «نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة - يعني: المحصب: حيث قاسمت قريشا على الكفر».

وذلك أن بني كنانة حالفت قريشا على بني هاشم أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يؤوهم - يعني: حتى يسلموا إليهم رسول الله -.

ثم قال عند ذلك: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».

قال الزهري - والخيف - الوادي.

أخرجاه من حديث عبد الرزاق، وهذان الحديثان فيهما دلالة على أنه عليه السلام قصد النزول في المحصب مراغمة لما كان تمالأ عليه كفار قريش، لما كتبوا الصحيفة في مصارمة بني هاشم وبني المطلب، حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ.

كما قدمنا بيان ذلك في موضعه.

وكذلك نزله عام الفتح، فعلى هذا يكون نزوله سنة مرغبا فيها، وهو أحد قولي العلماء.

وقد قال البخاري: ثنا أبو نعيم، أنبأنا سفيان عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: إنما كان منزلا ينزله النبي ﷺ ليكون أسمح لخروجه - يعني: الأبطح -.

وأخرجه مسلم من حديث هشام به.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: إنما نزل رسول الله المحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله.

وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان قال: قال عمرو عن عطاء، عن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله ﷺ.

ورواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وغيره، عن سفيان - وهو ابن عيينة - به.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن حنبل وعثمان ابن أبي شيبة ومسدد المعني قالوا: ثنا سفيان، ثنا صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار قال: قال أبو رافع: لم يأمرني - يعني: رسول الله ﷺ أن أنزله، ولكن ضربت قبته فيه فنزله.

قال مسدد: وكان على ثقل النبي ﷺ، وقال عثمان - يعني: في الأبطح -.

ورواه مسلم عن قتيبة وأبي بكر، وزهير بن حرب عن سفيان بن عيينة به.

والمقصود: أن هؤلاء كلهم اتفقوا على نزول النبي ﷺ في المحصب لما نفر من منى، ولكن اختلفوا فمنهم من قال: لم يقصد نزوله، وإنما نزله اتفاقا ليكون أسمح لخروجه، ومنهم من أشعر كلامه بقصده عليه السلام نزوله، وهذا هو الأشبه، وذلك أنه عليه السلام أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، وكانوا قبل ذلك ينصرفون من كل وجه كما قال ابن عباس، فأمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت - يعني: طواف الوداع - فأراد عليه السلام أن يطوف هو ومن معه من المسلمين بالبيت طواف الوداع وقد نفر من منى قريب الزوال، فلم يكن يمكنه أن يجيء البيت في بقية يومه، ويطوف به ويرحل إلى ظاهر مكة من جانب المدينة، لأن ذلك قد يتعذر على هذا الجم الغفير، فاحتاج أن يبيت قبل مكة ولم يكن منزل أنسب لمبيته من المحصب الذي كانت قريش قد عاقدت بني كنانة على بني هاشم وبني المطلب فيه، فلم يبرم الله لقريش أمرا بل كبتهم وردهم خائبين، وأظهر الله دينه، ونصر نبيه وأعلا كلمته، وأتم له الدين القويم، وأوضح به الصراط المستقيم، فحج بالناس وبين لهم شرائع الله وشعائره، وقد نفر بعد إكمال المناسك، فنزل في الموضع الذي تقاسمت قريش فيه على الظلم والعدوان والقطيعة، فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهجع هجعة.

وقد كان بعث عائشة أم المؤمنين مع أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم، فإذا فرغت أتته، فلما قضت عمرتها ورجعت أذن في المسلمين بالرحيل إلى البيت العتيق.

كما قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، ثنا خالد عن أفلح، عن القاسم، عن عائشة قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة، فدخلت فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله ﷺ بالأبطح حتى فرغت أمر الناس بالرحيل.

قالت: وأتى رسول الله ﷺ البيت فطاف به ثم خرج.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث أفلح بن حميد.

ثم قال أبو داود: ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو بكر - يعني: الحنفي - ثنا أفلح عن القاسم عنها - يعني: عائشة - قالت: خرجت معه - يعني: رسول الله ﷺ النفر الآخر ونزل المحصب.

قال أبو داود: فذكر ابن بشار بعثها إلى التنعيم.

قالت: ثم جئت سحرا فأذن في الصحابة بالرحيل، فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح فطاف به حين خرج ثم انصرف متوجها إلى المدينة.

ورواه البخاري عن محمد بن بشار به.

قلت: والظاهر أنه عليه السلام صلى الصبح يومئذ عند الكعبة بأصحابه وقرأ في صلاته تلك بسورة «والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور» السورة بكمالها.

وذلك لما رواه البخاري حيث قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قال: شكوت إلى رسول الله أني اشتكي.

قال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة».

فطفت ورسول الله ﷺ يصلي حينئذ إلى جنب البيت، وهو يقرأ: { والطور * وكتاب مسْطور }.

وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث مالك بإسناد نحوه.

وقد رواه البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة أن رسول الله قال وهو بمكة وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت وأرادت الخروج فقال لها: «إذا أقيمت صلاة الصبح، فطوفي على بعيرك والناس يصلون» فذكر الحديث.

فأما ما رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة.

فهو إسناد كما ترى على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من هذا الوجه بهذا اللفظ، ولعل قوله: يوم النحر، غلط من الراوي أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر، ويؤيده ما ذكرناه من رواية البخاري، والله أعلم.

والمقصود: أنه عليه السلام لما فرغ من صلاة الصبح طاف بالبيت سبعا، ووقف في الملتزم بين الركن الذي فيه الحجر الأسود، وبين باب الكعبة، فدعا الله عز وجل وألزق جسده بجدار الكعبة.

قال الثوري عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله ﷺ يلزق وجهه وصدره بالملتزم المثنى - ضعيف -.

فصل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة

ثم خرج عليه السلام من أسفل مكة كما قالت عائشة: أن رسول الله ﷺ دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها أخرجاه.

وقال ابن عمر: دخل رسول الله ﷺ من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى.

رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: دخل من كداء، وخرج من كدى.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن فضيل، ثنا أجلح بن عبد الله عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرج رسول الله ﷺ من مكة عند غروب الشمس فلم يصل حتى أتى سرف وهي على تسعة أميال من مكة.

وهذا غريب جدا، وأجلح فيه نظر، ولعل هذا في غير حجة الوداع، فإنه عليه السلام كما قدمنا طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فماذا أخره إلى وقت الغروب، هذا غريب جدا، اللهم إلا أن يكون ما ادعاه ابن حزم صحيحا من أنه عليه السلام رجع إلى المحصب من مكة بعد طوافه بالبيت طواف الوداع، ولم يذكر دليلا على ذلك إلا قول عائشة حين رجعت من اعتمارها من التنعيم فلقيته بصعدة، وهو مهبط على أهل مكة أو منهبطه، وهو مصعد.

قال ابن حزم: الذي لا شك فيه أنها كانت مصعدة من مكة وهو منهبط، لأنها تقدمت إلى العمرة وانتظرها حتى جاءت، ثم نهض عليه السلام إلى طواف الوداع فلقيها منصرفه إلى المحصب من مكة.

وقال البخاري باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة وقال محمد بن عيسى: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا أقبل بات بذي طوى، حتى إذا أصبح دخل، وإذا نفر مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح، وكان يذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك، هكذا ذكر هذا معلقا بصيغة الجزم، وقد أسند هو ومسلم من حديث حماد بن زيد به، لكن ليس فيه ذكر المبيت بذي طوى في الرجعة، فالله أعلم.

فائدة عزيزة

فيها أن رسول الله ﷺ استصحب معه من ماء زمزم شيئا قال الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب، ثنا خلاد بن يزيد الجعفي، ثنا زهير بن معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله ﷺ كان يحمله.

ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله هو: ابن المبارك -، ثنا موسى بن عقبة عن سالم، ونافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا قفل من الغزو، أو من الحج أو من العمرة يبدأ فيكبر ثلاث مرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» والأحاديث في هذا كثيرة، ولله الحمد والمنة.

فصل خطبته صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة

في إيراد الحديث الدال على أنه عليه السلام خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة - يقال له: غدير خم - فبين فيها فضل علي ابن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا.

والصواب: كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرغ عليه السلام من بيان المناسك، ورجع إلى المدينة بين ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ، وكان يوم الأحد بغدير خم تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء وذكر من فضل علي وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك، ونبين ما فيها من صحيح وضعيف بحول الله وقوته وعونه، وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين، والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدثين يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه.

وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر، أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، ونحن نورد عيون ما روى في ذلك مع إعلامنا أنه لاحظ للشيعة فيه ولا متمسك لهم، ولا دليل لما سنبينه وننبه عليه، فنقول وبالله المستعان:

قال محمد بن إسحاق - في سياق حجة الوداع -: حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: لما أقبل علي من اليمن ليلقى رسول الله ﷺ بمكة تعجل إلى رسول الله واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسى كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل قال: ويلك ما هذا؟

قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس.

قال: ويلك إنزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله ﷺ.

قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز.

قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا، فقام رسول الله ﷺ فينا خطيبا فسمعته يقول: «أيها الناس لا تشكو عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله من أن يشكى».

ورواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق به وقال: «إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله».

وقال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، ثنا ابن أبي غنية عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله ﷺ ذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله يتغير فقال: «يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قلت: بلى يا رسول الله!

قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

وكذا رواه النسائي عن أبي داود الحراني، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الملك ابن أبي غنية بإسناده نحوه، وهذا إسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات.

وقد روى النسائي في سننه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن حماد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع ونزل غدير حم أمر بدوحات فقممن ثم قال: «كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم قال: «الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن» ثم أخذ بيد علي فقال: «من كنت مولاه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

فقلت لزيد: سمعته من رسول الله ﷺ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه، وسمعه بأذنيه، تفرد به النسائي من هذا الوجه.

قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح.

وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن محمد، أنا أبو الحسين، أنبأنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع التي حج فنزل في الطريق فأمر الصلاة جامعة، فأخذ بيد علي فقال: «ألست بأولى المؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: بلى.

قال: «ألست بأولى بكل مؤمن من نفسه؟»

قالوا: بلى.

قال: «فهذا ولي من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عدي، عن البراء.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي، والحسن بن سفيان: ثنا هدبة، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وأبي هارون، عن عدي بن ثابت، عن البراء قال: كنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع، فلما أتينا على غدير خم كشح لرسول الله ﷺ تحت شجرتين، ونودي في الناس: الصلاة جامعة، ودعا رسول الله ﷺ عليا، وأخذ بيده فأقامه عن يمينه فقال: «ألست أولى بكل امرء من نفسه؟»

قالوا: بلى!

قال: «فإن هذا مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئا لك، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ورواه ابن جرير عن أبي زرعة، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد وأبي هارون العبدي - وكلاهما ضعيف - عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب به.

وروى ابن جرير هذا الحديث من حديث موسى بن عثمان الحضرمي - وهو ضعيف جدا -، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء وزيد بن أرقم، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك عن أبي عبد الرحيم الكندي، عن زاذان أبي عمر قال: سمعت عليا بالرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله ﷺ يوم غدير خم وهو يقول: ما قال؟

قال: فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا أنهم سمعوا من رسول الله ﷺ وهو يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه» تفرد به أحمد، وأبو عبد الرحيم هذا لا يعرف.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حديث علي بن حكيم الأودي أخبرنا شريك عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، وعن زيد بن يثيغ قال: نشد علي الناس في الرحبة من سمع رسول الله ﷺ يقول يوم غدير خم: «ما قال إلا قام؟»

قال: فقام من قبل سعيد ستة، ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ﷺ يقول لعلي يوم غدير خم: «أليس الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: بلى!

قال: «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

قال عبد الله: وحدثني علي بن حكيم، أنا شريك عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي أمر، مثل حديث أبي إسحاق - يعني: عن سعيد - وزيد، وزاد فيه: «وانصر من نصره، واخذل من خذله».

قال عبد الله: وحدثنا علي، ثنا شريك عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم، عن النبي ﷺ مثله.

وقال النسائي في (كتاب خصائص علي): حدثنا حسين بن حرب، ثنا الفضل بن موسى عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب قال: قال علي في الرحبة: أنشد بالله رجلا سمع رسول الله ﷺ يوم غدير خم يقول: «إن الله ولي المؤمنين ومن كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره».

وكذلك رواه شعبة عن أبي إسحاق، وهذا إسناد جيد.

ورواه النسائي أيضا من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي أمر قال: نشد علي الناس بالرحبة، فقام أناس فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول يوم غدير خم: «من كنت مولاه فإن عليا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره».

ورواه ابن جرير عن أحمد بن منصور، عن عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن وهب، وعبد خير، عن علي.

وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور، عن عبيد الله بن موسى - وهو: شيعي ثقة -، عن فطر بن خليفة، عن أبي إسحاق، عن زيد بن وهب، وزيد بن يثيغ، وعمرو ذي أمر، أن عليا أنشد الناس بالكوفة، وذكر الحديث.

وقال عبد الله بن أحمد: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا يونس بن أرقم، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس فقال: أشهد الله من سمع رسول الله ﷺ يوم غدير خم يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه» لما قام فشهد، قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر رجلا بدريا كأني أنظر إلى أحدهم فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم؟»

فقلنا: بلى يا رسول الله!

قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه»، إسناد ضعيف غريب.

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمير الوكيعي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا الوليد بن عقبة بن ضرار القيسي، أنبأنا سماك عن عبيد بن الوليد القيسي قال: دخلت على عبد الرحمن ابن أبي ليلى، فحدثني: أنه شهد عليا في الرحبة قال: أنشد بالله رجلا سمع رسول الله ﷺ وشهده يوم غدير خم إلا قام ولا يقوم إلا من رآه، فقام اثنا عشر رجلا فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» فقام إلا ثلاثة لم يقوموا فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته.

وروى أيضا عن عبد الأعلى بن عامر التغلبي وغيره، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى به.

وقال ابن جرير: ثنا أحمد بن منصور، ثنا أبو عامر العقدي، وروى ابن أبي عاصم عن سليمان الغلابي، عن أبي عامر العقدي، ثنا كثير بن زيد، حدثني محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن علي أن رسول الله حضر الشجرة بخم، فذكر الحديث، وفيه: «من كنت مولاه فإن عليا مولاه».

وقد رواه بعضهم عن أبي عامر، عن كثير، عن محمد بن عمر بن علي، عن علي منقطعا.

وقال إسماعيل بن عمرو البجلي - وهو ضعيف - عن مسعر، عن طلحة بن مصرف، عن عميرة ابن سعد أنه شهد عليا على المنبر يناشد أصحاب رسول الله ﷺ من سمع رسول الله يوم غدير خم، فقام اثنا عشر رجلا منهم أبو هريرة، وأبو سعيد، وأنس بن مالك، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

وقد رواه عبيد الله بن موسى عن هاني بن أيوب وهو ثقة، عن طلحة بن مصرف به.

وقال عبد الله بن أحمد: حدثني حجاج بن الشاعر، ثنا شبابة، ثنا نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم، ورجل من جلساء علي عن علي أن رسول الله ﷺ قال يوم غدير خم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، قال: فزاد الناس بعد وال من والاه، وعاد من عاداه.

روى أبو داود بهذا السند، حديث المخرج.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، وأبو نعيم المعني قالا: ثنا قطن عن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس في الرحبة - يعني: رحبة مسجد الكوفة - فقال: أنشد الله كل من سمع رسول الله ﷺ يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده فقال للناس: «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: نعم يا رسول الله!

قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

قال: فخرجت كأن في نفسي شيئا، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليا يقول: كذا، وكذا.

قال: فما تنكر؟ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك له.

هكذا ذكره الإمام أحمد في مسند زيد بن أرقم رضي الله عنه.

ورواه النسائي من حديث الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم به، وقد تقدم.

وأخرجه الترمذي عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم - شك شعبة - أن رسول الله ﷺ قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

ورواه ابن جرير عن أحمد بن حازم، عن أبي نعيم، عن كامل أبي العلاء، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن زيد بن أرقم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا أبو عوانة عن المغيرة، عن أبي عبيد، عن ميمون أبي عبد الله قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله منزلا يقال له: وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير قال: فخطبنا وظل رسول الله بثوب على شجرة ستره من الشمس فقال: «ألستم تعلمون - أو ألستم تشهدون - أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟»

قالوا: بلى!

قال: «فمن كنت مولاه فإن عليا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم، إلى قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

قال ميمون: حدثني بعض القوم عن زيد أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» وهذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السنن، وقد صحح الترمذي بهذا السند حديثا في الريث.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا حنش بن الحارث بن لقيط الأشجعي، عن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا.

قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟

قالوا: سمعنا رسول الله ﷺ يوم غدير خم يقول: «من كنت مولاه فهذا مولاه»

قال رباح: فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء؟

قالوا: نفر من الأنصار منهم أبو أيوب الأنصاري.

وقال الإمام أحمد: ثنا حنش عن رباح بن الحارث قال: رأيت قوما من الأنصار قدموا على علي في الرحبة فقال: من القوم؟

فقالوا: مواليك يا أمير المؤمنين، فذكر معناه، هذا لفظه وهو من أفراده.

وقال ابن جرير: ثنا أحمد بن عثمان أبو الجوزاء، ثنا محمد بن خالد بن عثمة، ثنا موسى بن يعقوب الزمعي - وهو صدوق -، حدثني مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد سمعت أباها يقول: رسول الله ﷺ يقول يوم الجحفة وأخذ بيد علي فخطب، ثم قال: «أيها الناس إني وليكم».

قالوا: صدقت!

فرفع يد علي فقال: «هذا وليي، والمؤدي عني، وإن الله موالي من والاه، ومعادي من عاداه».

قال شيخنا الذهبي: وهذا حديث حسن غريب.

ثم رواه ابن جرير من حديث يعقوب بن جعفر ابن أبي كبير عن مهاجر بن مسمار، فذكر الحديث، وأنه عليه السلام وقف حتى لحقه من بعده، وأمر برد من كان تقدم فخطبهم، الحديث.

وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في (الجزء الأول من كتاب غدير خم): قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وجدته في نسخة مكتوبة عن ابن جرير، حدثنا محمود بن عوف الطائي، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا إسماعيل بن كشيط عن جميل بن عمارة، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال ابن جرير - أحسبه قال عن عمر -: وليس في كتابي سمعت رسول الله ﷺ وهو آخذ بيد علي، من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وهذا حديث غريب، بل منكر وإسناده ضعيف.

قال البخاري في جميل بن عمارة: هذا فيه نظر.

وقال المطلب بن زياد عن عبد الله بن محمد بن عقيل سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا بالجحفة بغدير خم، فخرج علينا رسول الله ﷺ من خباء، أو فسطاط، فأخذ بيد علي فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

قال شيخنا الذهبي: هذا حديث حسن.

وقد رواه ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، وغيره، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بنحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وابن أبي بكير قالا: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال يحيى بن آدم - وكان قد شهد حجة الوداع - قال: قال رسول الله ﷺ: «علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي».

وقال ابن أبي بكير: «لا يقضي عني ديني إلا أنا أو علي».

وكذا رواه أحمد أيضا عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل.

قال الإمام أحمد: وحدثناه الزبيري، ثنا شريك عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة مثله قال: فقلت لأبي إسحاق: أين سمعت منه؟

قال: وقف علينا على فرس في مجلسنا في جبانة السبيع، وكذا رواه أحمد عن أسود بن عامر، ويحيى بن آدم، عن شريك.

ورواه الترمذي عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وسويد بن سعيد، وإسماعيل بن موسى، ثلاثتهم عن شريك به.

ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

ورواه سليمان بن قرم - وهو متروك - عن أبي إسحاق، عن حبش بن جنادة، سمع رسول الله ﷺ يقول يوم غدير خم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» وذكر الحديث.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، أنبأنا شريك عن أبي يزيد الأودي، عن أبيه قال: دخل أبو هريرة المسجد فاجتمع الناس إليه، فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».

قال: نعم!

ورواه ابن جرير عن أبي كريب، عن شاذان، عن شريك به.

تابعه إدريس الأودي عن أخيه أبي يزيد - واسمه: داود بن يزيد به.

ورواه ابن جرير أيضا من حديث إدريس الأودي عن أبيهما، عن أبي هريرة، فذكره.

فأما الحديث الذي رواه ضمرة عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله ﷺ بيد علي قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فأنزل الله عز وجل «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي».

قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة، كتب له صيام ستين شهرا، فإنه حديث منكر جدا، بل كذب لمخالفته لما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن هذه الآية نزلت في يوم الجمعة يوم عرفة ورسول الله ﷺ واقف بها، كما قدمنا، وكذا قوله: إن صيام يوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم غدير خم يعدل صيام ستين شهرا لا يصح، لأنه قد ثبت ما معناه في الصحيح أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل ستين شهرا هذا باطل.

وقد قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي بعد إيراده هذا الحديث: هذا حديث منكر جدا.

ورواه حبشون الخلال، وأحمد بن عبد الله بن أحمد النيري و هما صدوقان عن علي بن سعيد الرملي، عن ضمرة قال: ويروى هذا الحديث من حديث عمر بن الخطاب، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك، وأبي سعيد، وغيرهم بأسانيد واهية.

قال: وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول الله ﷺ قاله، وأما اللهم وال من والاه، فزيادة قوية الإسناد، وأما هذا الصوم فليس بصحيح، ولا والله ما نزلت هذه الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام، والله تعالى أعلم.

وقال الطبراني: حدثنا علي بن إسحاق الوزير الأصبهاني، حدثنا علي بن محمد المقدمي، حدثنا محمد بن عمر بن علي المقدمي، حدثنا علي بن محمد بن يوسف بن شبان بن مالك بن مسمع، حدثنا سهل بن حنيف بن سهل بن مالك أخي كعب بن مالك عن أبيه، عن جده قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة من حجة الوداع، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا ذلك له، أيها الناس إني عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، والمهاجرين الأولين راض فاعرفوا ذلك لهم، أيها الناس احفظوني في أصحابي، وأصهاري، وأحبابي لا يطلبكم الله بمظلمة أحد منهم، أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منهم فقولوا فيه خيرا».

سنة إحدى عشرة من الهجرة

استهلت هذه السنة وقد استقر الركاب الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة مرجعه من حجة الوداع، وقد وقعت في هذه السنة أمور عظام من أعظمها خطبا وفاة رسول الله ﷺ ولكنه عليه السلام نقله الله عز وجل من هذه الدار الفانية إلى النعيم الأبدي في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى كما قال تعالى: «وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله تعالى بإبلاغها، ونصح أمته، ودلهم على خير ما سيعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة عليهم في دنياهم وأخراهم، وقد قدمنا ما رواه صاحبا الصحيح من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: نزل قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» يوم الجمعة ورسول الله ﷺ واقف بعرفة.

وروينا من طريق جيد أن عمر بن الخطاب حين نزلت هذه الآية بكى، فقيل: ما يبكيك؟

فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان، وكأنه استشعر وفاة النبي ﷺ.

وقد أشار عليه السلام إلى ذلك فيما رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله ﷺ وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: «خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا» وقدمنا ما رواه الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة { إذا جاء نصْر الله والْفتْح } في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله ﷺ أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم كما تقدم.

وهكذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لعمر بن الخطاب حين سأله عن تفسير هذه السورة بمحضر كثير من الصحابة ليريهم فضل ابن عباس وتقدمه وعلمه، حين لامه بعضهم على تقديمه وإجلاسه له مع مشايخ بدر، فقال: «إنه من حيث تعلمون»

ثم سألهم وابن عباس حاضر عن تفسير هذه السورة { إذا جاء نصْر الله والْفتْح * ورأيْت الناس يدْخلون في دين الله أفْواجا * فسبحْ بحمْد ربك واسْتغْفرْه إنه كان توابا }.

فقالوا: أمرنا إذا فتح لنا أن نذكر الله ونحمده ونستغفره.

فقال: ما تقول يا ابن عباس؟

فقال: هو أجل رسول الله ﷺ نعي إليه.

فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تعلم.

وقد ذكرنا في تفسير هذه السورة ما يدل على قول ابن عباس من وجوه، وإن كان لا ينافي ما فسر به الصحابة رضي الله عنهم.

وكذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ لما حج بنسائه قال: «إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقد رواه أبو داود في سننه من وجه آخر جيد.

والمقصود: أن النفوس استشعرت بوفاته عليه السلام في هذه السنة، ونحن نذكر ذلك ونورد ما روي فيما يتعلق به من الأحاديث والآثار، وبالله المستعان.

ولنقدم على ذلك ما ذكره الأئمة محمد بن إسحاق بن يسار، وأبو جعفر بن جرير، وأبو بكر البيهقي في هذا الموضع قبل الوفاة من تعداد حججه، وغزواته، وسراياه، وكتبه، ورسله إلى الملوك، فلنذكر ذلك ملخصا مختصرا، ثم نتبعه بالوفاة.

ففي الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، أن رسول الله ﷺ غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، ولم يحج بعدها.

قال أبو إسحاق: وواحدة بمكة، كذا قال أبو إسحاق السبيعي.

وقد قال زيد بن الحباب عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله ﷺ حج ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر، وواحدة بعد ما هاجر معها عمرة، وساق ستا وثلاثين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن.

وقد قدمنا عن غير واحد من الصحابة منهم أنس بن مالك في الصحيحين أنه عليه السلام اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي مع حجة الوداع.

وأما الغزوات: فروى البخاري عن أبي عاصم النبيل، عن يزيد ابن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة تسع غزوات يؤمره علينا رسول الله ﷺ.

وفي الصحيحين عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن سلمة قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة على أسامة بن زيد.

وفي صحيح البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: غزا رسول الله خمس عشرة غزوة.

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله ﷺ غزا تسع عشرة غزوة، وشهد معه منها سبع عشرة، أولها: العشير، أو العسير.

وروى مسلم عن أحمد بن حنبل، عن معتمر، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله ﷺ ست عشرة غزوة.

وفي رواية لمسلم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أنه غزا مع رسول الله ﷺ تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان.

وفي رواية عنه بهذا الإسناد: وبعث أربعا وعشرين سرية، قاتل يوم بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، ومكة، وحنين.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله ﷺ غزا إحدى وعشرين غزوة، غزوت معه منها تسع عشرة غزوة، ولم أشهد بدرا، ولا أحدا منعني أبي، فلما قتل أبي يوم أحد لم أتخلف عن غزاة غزاها.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله ﷺ ثمان عشرة غزوة قال: وسمعته مرة يقول: أربعا وعشرين غزوة، فلا أدري أكان ذلك وهما، أو شيئا سمعته بعد ذلك.

وقال قتادة: غزا رسول الله تسع عشرة، قاتل في ثمان منها، وبعث من البعوث أربعا وعشرين، فجميع غزواته وسراياه ثلاث وأربعون.

وقد ذكر عروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد إسحاق بن يسار، وغير واحد من أئمة هذا الشأن أنه عليه السلام قاتل يوم بدر في رمضان من سنة اثنتين، ثم في أحد في شوال سنة ثلاث، ثم الخندق وبني قريظة في شوال أيضا من سنة أربع وقيل: خمس، ثم في بني المصطلق بالمريسيع في شعبان سنة خمس، ثم في خيبر في صفر سنة سبع، ومنهم من يقول: سنة ست، والتحقيق أنه في أول سنة سبع، وآخر سنة ست، ثم قاتل أهل مكة في رمضان سنة ثمان، وقاتل هوازن وحاصر أهل الطائف في شوال وبعض ذي الحجة سنة ثمان، كما تقدم تفصيله، وحج سنة ثمان بالناس عتاب بن أسيد نائب مكة، ثم في سنة تسع أبو بكر الصديق، ثم حج رسول الله ﷺ بالمسلمين سنة عشر.

وقال محمد ابن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله ﷺ بنفسه الكريمة سبعا وعشرين غزوة: غزوة ودان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر العظمى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق بطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان - وهي غزوة ذي أمر -، ثم غزوة نجران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك.

قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.

قلت: وقد تقدم ذلك كله مبسوطا في أماكنه بشواهده وأدلته، ولله الحمد.

قال ابن إسحاق: وكانت بعوثه عليه السلام وسراياه ثمانيا وثلاثين من بين بعث وسرية، ثم شرع رحمه الله في ذكر تفصيل ذلك، وقد قدمنا ذلك كله، أو أكثره مفصلا في مواضعه، ولله الحمد والمنة.

ولنذكر ملخص ما ذكره ابن إسحاق: بعث عبيدة بن الحارث إلى أسفل ثنية المرة، ثم بعث حمزة بن عبد المطلب إلى الساحل من ناحية العيص، ومن الناس من يقدم هذا على بعث عبيدة كما تقدم، فالله أعلم، بعث سعد ابن أبي وقاص إلى الخرار، بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، بعث زيد بن حارثة إلى القردة، بعث محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف، بعث مرثد ابن أبي مرتد الغنوي إلى الرجيع، بعث المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، بعث أبي عبيدة إلى ذي القصة، بعث عمر بن الخطاب إلى برية في أرض بني عامر، بعث علي إلى اليمن، بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى الكديد فأصاب بني الملوح أغار عليهم في الليل، فقتل طائفة منهم فاستاق نعمهم، فجاء نفرهم في طلب النعم فلما اقتربوا حال بينهم واد من السيل، وأسروا في مسيرهم هذا الحارث بن مالك بن البرصاء، وقد حرر ابن إسحاق هذا هاهنا، وقد تقدم بيانه.

بعث علي ابن أبي طالب إلى أرض فدك، بعث أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم أصيب هو وأصحابه، بعث عكاشة إلى الغمرة، بعث أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن - وهو: ماء بنجد لبني أسد -، بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن، بعث بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، وبعثه أيضا إلى ناحية حنين، بعث زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بني سليم، بعث زيد بن حارثة إلى جذام من أرض بني خشين.

قال ابن هشام: وهي من أرض حسمى، وكان سببها فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن دحية بن خليفة لما رجع من عند قيصر وقد أبلغه كتاب رسول الله ﷺ يدعوه إلى الله فأعطاه من عنده تحفا وهدايا، فلما بلغ واديا في أرض بني جذام يقال له: شنار أغار عليه الهنيد بن عوص، وابنه عوص بن الهنيد الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأخذا ما معه، فنفر حي منهم قد أسلموا، فاستنقذوا ما كان أخذ لدحية فردوه عليه، فلما رجع دحية إلى رسول الله ﷺ أخبره الخبر، واستسقاه دم الهنيد، وابنه عوص، فبعث حينئذ زيد بن حارثة في جيش إليهم، فساروا إليهم من ناحية الأولاج، فأغار بالماقض من ناحية الحرة، فجمعوا ما وجدوا من مال وناس، وقتلوا الهنيد وابنه، ورجلين من بني الأحنف، ورجلا من بني خصيب، فلما احتاز زيد أموالهم وذراريهم اجتمع نفر منهم برفاعة بن زيد، وكان قد جاءه كتاب من رسول الله ﷺ يدعوهم إلى الله، فقرأه عليهم رفاعة، فاستجاب له طائفة منهم، ولم يكن زيد بن حارثة يعلم ذلك، فركبوا إلى رسول الله ﷺ إلى المدينة في ثلاثة أيام، فأعطوه الكتاب فأمر بقراءته جهرة على الناس.

ثم قال رسول الله: «كيف أصنع بالقتلى؟» ثلاث مرات.

فقال رجل منهم - يقال له: أبو زيد ابن عمرو -: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه.

فبعث معهم رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب.

فقال علي: إن زيدا لا يطيعني.

فأعطاه رسول الله ﷺ سيفه علامة، فسار معهم على جمل لهم، فلقوا زيدا وجيشه ومعهم الأموال والذراري بفيفاء الفحلتين، فسلمهم علي جميع ما كان أخذ لهم، لم يفقدوا منه شيئا.

بعث زيد بن حارثة أيضا إلى بني فزارة بوادي القرى، فقتل طائفة من أصحابه وارتث هو من بين القتلى، فلما رجع آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزوهم أيضا، فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله ﷺ ثانيا في جيش فقتلهم بوادي القرى، وأسر أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر، وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر، ومعها ابنة لها وعبد الله بن مسعدة، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر اليعمري فقتل أم قرفة، واستبقى ابنتها، وكانت من بيت شرف، يضرب بأم قرفة المثل في عزها، وكانت بنتها مع سلمة بن الأكوع، فاستوهبها منه رسول الله ﷺ فأعطاه إياها، فوهبها رسول الله لخاله حزن ابن أبي وهب، فولدت له ابنه عبد الرحمن.

بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر مرتين، أحداهما: التي أصاب فيها اليسير بن رزام، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله ﷺ فبعث رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر، منهم عبد الله بن أنيس، فقدموا عليه فلم يزالوا يرغبونه ليقدموه على رسول الله ﷺ فسار معهم، فلما كانوا بالقرقرة على ستة أميال من خيبر ندم اليسير على مسيره، ففطن له عبد الله بن أنيس - وهو يريد السيف - فضربه بالسيف فأطن قدمه، وضربه اليسير بمخرش من شوحط في رأسه فأمة، ومال كل رجل من المسلمين على صاحبه من اليهود فقتله، إلا رجلا واحدا أفلت على قدميه، فلما قدم ابن أنيس تفل في رأسه رسول الله ﷺ فلم يقح جرحه، ولم يؤذه.

قلت: وأظن البعث الآخر إلى خيبر لما بعثه عليه السلام خارصا على نخيل خيبر، والله أعلم.

بعث عبد الله بن عتيك وأصحابه إلى خيبر فقتلوا أبا رافع اليهودي.

بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح فقتله بعرنه.

وقد روى ابن إسحاق قصته هاهنا مطولة، وقد تقدم ذكرها في سنة خمس، والله أعلم.

بعث زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، فأصيبوا كما تقدم.

بعث كعب بن عمير إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فأصيبوا جميعا أيضا.

بعث عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم فأصاب منهم أناسا، ثم ركب وفدهم إلى رسول الله ﷺ في أسراهم فأعتق بعضا، وفدى بعضا.

بعث غالب بن عبد الله أيضا إلى أرض بني مرة، فأصيب بها مرداس بن نهيك حليف لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد، ورجل من الأنصار أدركاه فلما شهرا السلاح قال: لا إله إلا الله، فلما رجعا لامهما رسول الله ﷺ أشد اللوم، فاعتذرا بأنه ما قال ذلك إلا تعوذا من القتل.

فقال لأسامة: «هلا شققت عن قلبه» وجعل يقول لأسامة: «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة».

قال أسامة: فما زال يكررها حتى لوددت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك، وقد تقدم الحديث بذلك.

بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بني عذرة يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلي، فلذلك بعث عمرا يستنفرهم ليكون أنجع فيهم، فلما وصل إلى ماء لهم - يقال له: السلسل - خافهم، فبعث يستمد رسول الله، فبعث رسول الله ﷺ سرية فيهم أبو بكر، وعمر، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، فلما انتهوا إليه تأمر عليهم كلهم عمرو وقال: إنما بعثتم مددا لي، فلم يمانعه أبو عبيدة لأنه كان رجلا سهلا لينا هينا عند أمر الدنيا، فسلم له، وانقاد معه، فكان عمرو يصلي بهم كلهم، ولهذا لما رجع قال: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟

قال: «عائشة».

قال: فمن الرجال؟

قال: «أبوها».

بعث عبد الله ابن أبي حدرد إلى بطن أضم، وذلك قبل فتح مكة، وفيها قصة محلم بن جثامة، وقد تقدم مطولا في سنة سبع.

بعث ابن أبي حدرد أيضا إلى الغابة.

بعث عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل.

قال محمد بن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عطاء ابن أبي رباح قال: سمعت رجلا من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم.

قال: فقال عبد الله: أخبرك إن شاء الله عن ذلك، تعلم أني كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب النبي ﷺ في مسجده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنا، مع رسول الله ﷺ إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم على رسول الله ثم جلس فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟

قال: «أحسنهم خلقا».

قال: فأي المؤمنين أكيس؟

قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم استعدادا له قبل أن ينزل به، أولئك الأكياس».

ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله ﷺ فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم - وأعوذ بالله أن تدركوهن - أنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يغلبوا عليها إلا ظهر فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، ويجبروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم».

قال: ثم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله ﷺ ثم نقضها، ثم عممه بها، وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك.

ثم قال: «هكذا يا ابن عوف فاعتم، فإنه أحسن، وأعرف».

ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله، وصلى على نفسه ثم قال: «خذه يا بن عوف إغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيكم فيكم».

فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء.

قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل.

بعث أبي عبيدة بن الجراح، وكانوا قريبا من ثلاثمائة راكب إلى سيف البحر، وزودوه عليه السلام جرابا من تمر، و فيها قصة العنبر، وهي الحوت العظيم الذي دسره البحر، وأكلهم كلهم منه قريبا من شهر، حتى سمنوا، وتزودوا منه وشائق - أي شرائح - حتى رجعوا إلى رسول الله ﷺ فأطعموه منه، فأكل منه، كما تقدم بذلك الحديث.

قال ابن هشام: ومما لم يذكر ابن إسحاق من البعوث - يعني: هاهنا - بعث عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان صخر بن حرب بعد مقتل خبيب بن عدي، وأصحابه، فكان من أمره ما قدمناه، وكان مع عمرو بن أمية جبار بن صخر، ولم يتفق لهما قتل أبي سفيان بل قتلا رجلا غيره، وأنزلا خبيبا عن جذعه.

وبعث سالم بن عمير أحد البكائين، إلى أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت كما تقدم.

فقال يرثيه ويذم قبحه الله الدخول في الدين:

لقدْ عشت دهرا وما أنْ أرى * من الناس دارا ولا مجمعا

أبر عهودا وأوفي لمنْ * يعاقد فيهم إذا ما دعا

منْ أولاد قيلة في جمعهمْ * يهد الجبال ولم يخضعا

فصدعهم راكب جاءهم * حلال حرام لشتى معا

فلو أن بالعز صدقتم * أو الملك تابعتم تبعا

فقال رسول الله ﷺ: «من لي بهذا الخبيث» فانتدب له سالم بن عمير هذا فقتله.

فقالت أمامة المريدية في ذلك:

تكذب دين الله والمرء أحمدا * لعمرو الذي أمناك بئس الذي يمْني

حباك حنيف آخر الليل طعنة * أبا عفك خذها على كبر السن

وبعث عمير بن عدي الخطمي لقتل العصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، كانت تهجو الإسلام وأهله، ولما قتل أبو عفك المذكور أظهرت النفاق وقالت في ذلك:

بأست بني مالك والنبيت * وعوف وباست بني الخزرج

أطعتمْ أتاوي من غيركمْ * فلا منْ مراد ولا مذحج

ترجونه بعد قتل الرؤوس * كما يرتجى ورق المنضج

ألا آنف يبتغي غرة * فيقطع من أمل المرتجي

قال: فأجابها حسان بن ثابت فقال:

بنو وائل وبنو واقف * وخطمة دون بني الخزرج

متى ما دعتْ سفها ويحها * بعولتها والمنايا تجي

فهزت فتى ماجدا عرقه * كريم المداخل والمخرج

فضرجها من نجيع الدما * وبعيد الهدو فلم يحرج

فقال رسول الله ﷺ حين بلغه ذلك: «ألا آخذ لي من ابنة مروان» فسمع ذلك عمير بن عدي، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فقتلها، ثم أصبح فقال: يا رسول الله قتلتها فقال: «نصرت الله ورسوله يا عمير».

قال يا رسول الله: هل علي من شأنها.

قال: لا تنتطح فيها عنزان، فرجع عمير إلى قومه وهم يختلفون في قتلها، وكان له خمسة بنون فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فذلك أول يوم عز الإسلام في بني خطمة، فأسلم منهم بشر كثير لما رأوا من عز الإسلام.

ثم ذكر البعث الذين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي، وما كان من أمره في إسلامه، وقد تقدم ذلك في الأحاديث الصحاح، وذكر ابن هشام أنه هو الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» لما كان من قلة أكله بعد إسلامه، وأنه لما انفصل عن المدينة دخل مكة معتمرا وهو يلبي، فنهاه أهل مكة عن ذلك فأبى عليهم، وتوعدهم بقطع الميرة عنهم من اليمامة، فلما عاد إلى اليمامة منعهم الميرة حتى كتب إليه رسول الله ﷺ فأعادها إليهم.

وقال بعض بني حنيفة:

ومنا الذي لبى بمكة محرما * برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

وبعث علقمة بن مجزز المدلجي ليأخذ بثأر أخيه وقاص بن مجزز يوم قتل بذي قرد، فاستأذن رسول الله ليرجع في آثار القوم فأذن له، وأمره على طائفة من الناس، فلما فقلوا أذن لطائفة منهم في التقدم، واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة، وكانت فيه دعابة، فاستوقد نارا وأمرهم أن يدخلوها، فلما عزم بعضهم على الدخول قال: إنما كنت أضحك، فلما بلغ النبي ﷺ قال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»، والحديث في هذا ذكره ابن هشام عن الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو ابن الحكم بن ثوبان، عن أبي سعيد الخدري.

وبعث كرز بن جابر لقتل أولئك النفر الذين قدموا المدينة، وكانوا من قيس من بجيلة فاستوخموا المدينة واستوبؤها، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يخرجوا إلى إبله فيشربوا من ألبانها، فلما صحوا قتلوا راعيها، وهو يسار مولى رسول الله ﷺ ذبحوه، وغرزوا الشوك في عينيه واستاقوا اللقاح، فبعث في آثارهم كرز بن جابر في نفر من الصحابة، فجاؤوا بأولئك النفر من بجيلة مرجعه عليه السلام من غزوة ذي قرد، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وهؤلاء النفر إن كانوا هم المذكورين في حديث أنس المتفق عليه، أن نفرا ثمانية من عكل أو عرينة قدموا المدينة الحديث.

والظاهر أنهم هم فقد تقدم قصتهم مطولة، وإن كانوا غيرهم فها قد أوردنا عيون ما ذكره ابن هشام، والله أعلم.

قال ابن هشام: وغزوة علي ابن أبي طالب اليمن التي غزاها مرتين.

قال أبو عمرو المدني: بعث رسول الله عليا إلى اليمن، وخالدا في جند آخر، وقال: «إن اجتمعتم فالأمير علي ابن أبي طالب».

قال: وقد ذكر ابن إسحاق بعث خالد، ولم يذكره في عدد البعوث والسرايا، فينبغي أن تكون العدة في قوله: تسعا وثلاثين.

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام، وأمرة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء، والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون.

قال ابن هشام: وهو آخر بعث بعثه رسول الله ﷺ.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، ثنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ بعث بعثا، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي ﷺ فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده».

ورواه الترمذي من حديث مالك وقال: حديث صحيح حسن.

وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الأولين والأنصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب ومن قال: أن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول الله ﷺ اشتد به المرض، وجيش أسامة مخيم بالجرف، وقد أمر النبي ﷺ أبا بكر أن يصلي بالناس، كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، ثم لما توفي عليه الصلاة والسلام استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب فأذن له في المقام عند الصديق، ونفذ الصديق جيش أسامة، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه، إن شاء الله.

فصل في الآيات والأحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وكيف ابتدئ رسول الله ﷺ بمرضه الذي مات فيه

قال الله تعالى: { إنك ميت وإنهمْ ميتون* ثم إنكمْ يوْم الْقيامة عنْد ربكمْ تخْتصمون } [43].

وقال تعالى: { وما جعلْنا لبشر منْ قبْلك الْخلْد أفإنْ مت فهم الْخالدون } [44].

وقال تعالى: { كل نفْس ذائقة الْموْت وإنما توفوْن أجوركمْ يوْم الْقيامة فمنْ زحْزح عن النار وأدْخل الْجنة فقدْ فاز وما الْحياة الدنْيا إلا متاع الْغرور } [45].

وقال تعالى: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين».

وهذه الآية هي التي تلاها الصديق يوم وفاة رسول الله ﷺ فلما سمعها الناس كأنهم لم يسمعوها قبل.

وقال تعالى: { إذا جاء نصْر الله والْفتْح * ورأيْت الناس يدْخلون في دين الله أفْواجا * فسبحْ بحمْد ربك واسْتغْفرْه إنه كان توابا }.

قال عمر بن الخطاب وابن عباس: هو أجل رسول الله نعي إليه.

وقال ابن عمر: نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله أنه الوداع، فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم - الخطبة المشهورة - كما تقدم.

وقال جابر: رأيت رسول الله يرمي الجمار فوقف وقال: «لتأخذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا».

وقال عليه السلام لابنته فاطمة كما سيأتي: «إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي».

وفي صحيح البخاري من حديث أبي بكر ابن عياش عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام، فلما كان من العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين يوما.

وكان يعرض عليه القرآن في كل رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه القرآن مرتين.

وقال محمد بن إسحاق: رجع رسول الله ﷺ من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقيته، والمحرم، وصفرا، وبعث أسامة بن زيد، فبينا الناس على ذلك ابتدىء رسول الله ﷺ بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر، أو في أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله من ذلك فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن جعفر عن عبيد بن جبر مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله ﷺ قال: بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي».

فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى».

ثم أقبل علي فقال: «يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة».

قال: قلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة.

قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة».

ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدئ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه.

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا الحكم بن فضيل، ثنا يعلى بن عطاء عن عبيد بن جبر، عن أبي مويهبة قال: أمر رسول الله أن يصلي على أهل البقيع فصلى عليهم ثلاث مرات فلما كانت الثالثة قال: «يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي».

قال: فركب ومشيت حتى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة فوقف - أو قال: قام عليهم - فقال: «ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشد من الأولى، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس».

ثم رجع فقال: «يا أبا مويهبة إني أعطيت» أو قال: «خيرت بين مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة، أو لقاء ربي».

قال: فقلت: بأبي أنت وأمي فاخترنا.

قال: «لأن ترد علي عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربي».

فما لبث بعد ذلك إلا سبعا، أو ثمانيا حتى قبض.

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رسول الله: «نصرت بالرعب، وأعطيت الخزائن، وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل».

قال البيهقي: وهذا مرسل، وهو شاهد لحديث أبي مويهبة.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، عن عائشة قالت: رجع رسول الله ﷺ من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه».

قالت: ثم قال: «وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك».

قالت: قلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.

قالت: فتبسم رسول الله ﷺ ونام به وجعه، وهو يدور على نسائه حتى استعزبه في بيت ميمونة فدعا نسائه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي، فأذن له.

قالت: فخرج رسول الله بين رجلين من أهله أحدهما: الفضل بن عباس، ورجل آخر، عاصبا رأسه، تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي.

قال عبيد الله: فحدثت به ابن عباس.

فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ هو علي ابن أبي طالب، وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريبا.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي فقلت: وارأساه!.

فقال: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه!».

ثم قال: «وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك، وصليت عليك، وواريتك».

فقلت: والله إني لأحسب لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي من آخر النهار فأعرست بها.

فضحك رسول الله ثم تمادى به وجعه، فاستعز به وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله فقال العباس: إنا لنرى برسول الله ذات الجنب، فهلموا فلنلده فلدوه فأفاق رسول الله فقال: «من فعل هذا؟»

فقالوا: عمك العباس تخوف أن يكون بك ذات الجنب.

فقال رسول الله: «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطه علي، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس»

فلد أهل البيت كلهم حتى ميمونة وإنها لصائمة، وذلك بعين رسول الله ﷺ ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج وهو بين العباس، ورجل آخر - لم تسمه - تخط قدماه بالأرض إلى بيت عائشة.

قال عبيد الله: قال ابن عباس: الرجل الآخر علي ابن أبي طالب.

قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لما ثقل رسول الله، واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين عباس قال: ابن عبد المطلب، وبين رجل آخر قال: عبيد الله، فأخبرت عبد الله - يعني: ابن عباس - بالذي قالت عائشة.

فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟

قال: قلت: لا!

قال ابن عباس: هو علي، فكانت عائشة زوج النبي ﷺ تحدث أن رسول الله لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس، فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ﷺ ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن قالت عائشة: ثم خرج إلى الناس فصلى لهم، وخطبهم.

وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري به.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، ثنا سليمان بن بلال قال هشام بن عروة: أخبرني أبي عن عائشة، أن رسول الله ﷺ كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا، أين أنا غدا، يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتى مات عندها.

قالت عائشة رضي الله عنها: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، وقبضه الله وإن رأسه لبين سحري ونحري، وخالط ريقه ريقي، قالت: ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله ﷺ، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله ﷺ فاستن به، وهو مسند إلى صدري.

انفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال البخاري: أخبرنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: مات النبي ﷺ وأنه لبين حاقنتي، وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي ﷺ.

وقال البخاري: حدثنا حيان، أنبأنا عبد الله، أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي ﷺ عنه.

ورواه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس بن يزيد الإيلي، عن الزهري به، والفلاس ومسلم عن محمد بن حاتم كلهم.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله ﷺ عنده لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال: «مرحبا بابنتي» فأقعدها عن يمينه، أو شماله، ثم سارها بشيء فبكت، ثم سارها فضحكت.

فقلت لها: خصك رسول الله ﷺ بالسرار وأنت تبكين!فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارك؟

فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ فلما توفي قلت لها: أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتيني.

قالت: أما الآن فنعم!

قالت: سارني في الأول قال لي: «إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي؛ فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك» فبكيت.

ثم سارني فقال: «أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة» فضحكت، وله طرق عن عائشة.

وقد روى البخاري عن علي بن عبد الله، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة قالت: لددنا رسول الله ﷺ في مرضه، فجعل يشير إلينا «أن لا تلدوني».

فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق، قال: «ألم أنهكم أن لا تلدوني؟»

قلنا: كراهية المريض للدواء.

فقال: «لا يبقى أحد في البيت إلا لد، وأنا أنظر إلا العباس، فإنه لم يشهدكم».

قال البخاري: ورواه ابن أبي الزناد عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي ﷺ.

وقال البخاري: وقال يونس عن الزهري قال عروة: قالت عائشة: كان النبي ﷺ يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم».

هكذا ذكره البخاري معلقا.

وقد أسنده الحافظ البيهقي: عن الحاكم، عن أبي بكر ابن محمد بن أحمد بن يحيى الأشقر، عن يوسف بن موسى، عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري به.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: لئن أحلف تسعا أن رسول الله ﷺ قتل قتلا، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيا، واتخذه شهيدا.

وقال البخاري: ثنا إسحاق بن بشر، حدثنا شعيب عن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزهري قال: أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري - وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم -: أن عبد الله بن عباس، أخبره: أن علي ابن أبي طالب خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ﷺ؟

فقال: أصبح بحمد الله بارئا.

فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله ﷺ سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا.

فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله ﷺ فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله ﷺ.

انفرد به البخاري.

وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا سفيان عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله ﷺ وجعه فقال: «ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - ».

فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه، فذهبوا يردون عنه.

فقال: «دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه».

فأوصاهم بثلاث.

قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم».

وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها.

ورواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به.

ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فقال النبي ﷺ: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا».

فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف.

قال رسول الله ﷺ: «قوموا».

قال عبيد الله، قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.

ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه.

وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزهري به.

وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم، وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات.

وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه.

فإنه قد قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، ثنا نافع عن ابن عمرو، ثنا ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: لما كان وجع رسول الله ﷺ الذي قبض فيه قال: «إدعو لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن».

ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين».

قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون.

انفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن ابن أبي بكر: «ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد».

فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر.

انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا.

وروى البخاري عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله: «لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون».

فقال: يأبى الله - أو يدفع المؤمنون أو يدفع الله - ويأبى المؤمنون.

وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتت امرأة إلى رسول الله ﷺ فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت -.

قال: «إن لم تجديني فأت أبا بكر».

والظاهر والله أعلم أنها إنما قالت ذلك له عليه السلام في مرضه الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه.

وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض عليه السلام بخمس أيام خطبة عظيمة بين فيها فضل الصديق من سائر الصحابة، مع ما كان قد نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم.

ولعل خطبته هذه كانت عوضا عما أراد أن يكتبه في الكتاب، وقد اغتسل عليه السلام بين يدي هذه الخطبة الكريمة، فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع، كما وردت بها الأحاديث في غير هذا الموضع، والمقصود أنه عليه السلام اغتسل ثم خرج فصلى بالناس، ثم خطبهم كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك.

قال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أيوب بن بشير أن رسول الله قال في مرضه: «أفيضوا علي من سبع قرب من سبع آبار شتى، حتى أخرج فأعهد إلى الناس».

ففعلوا، فخرج فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا لهم.

ثم قال: «يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي التي أوتيت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا من مسيئهم».

ثم قال عليه السلام: «أيها الناس إن عبدا من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله».

ففهمها أبو بكر رضي الله عنه من بين الناس فبكى.

وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا.

فقال رسول الله ﷺ: «على رسلك يا أبا بكر!انظروا إلى هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدا عندي أفضل يدا في الصحبة منه».

هذا مرسل له شواهد كثيرة.

وقال الواقدي: حدثني فروة بن زبيد بن طوسا عن عائشة بنت سعد، عن أم ذرة، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: خرج رسول الله عاصبا رأسه بخرقة، فلما استوى على المنبر تحدق الناس بالمنبر، واستكفوا.

فقال: «والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة».

ثم تشهد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلم به، أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد.

ثم قال: «إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله».

فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا.

فكان رسول الله ﷺ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ وجعل رسول الله يقول له: «على رسلك».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا فليح عن سالم أبي النضر، عن بشر بن سعيد، عن أبي سعيد قال: خطب رسول الله الناس فقال: «إن الله خير عبدا بين الدنيا، وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله».

قال: فبكى أبو بكر.

قال: فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.

فقال رسول الله: «إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام ومودته لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر».

وهكذا رواه البخاري من حديث أبي عامر العقدي به.

ثم رواه الإمام أحمد عن يونس، عن فليح، عن سالم أبي النضر، عن عبيد بن حنين، وبشر بن سعيد عن أبي سعيد به.

وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث فليح ومالك بن أنس عن سالم، عن بشر بن سعيد وعبيد بن حنين، كلاهما عن أبي سعيد بنحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، ثنا هشام، ثنا أبو عوانة عن عبد الملك، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه أن رسول الله خطب يوما فقال: «إن رجلا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها، يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه».

فبكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: ألا تعجبون من هذا الشيخ أن ذكر رسول الله رجلا صالحا خيره ربه بين البقاء في الدنيا، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه.

فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله.

فقال أبو بكر: بل نفديك بأموالنا وأبنائنا.

فقال رسول الله ﷺ: «ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة، ولكن ود وإخاء وإيمان، ولكن ود وإخاء وإيمان مرتين، وإن صاحبكم خليل الله عز وجل».

تفرد به أحمد.

قالوا: وصوابه أبو سعيد بن المعلى فالله أعلم.

وقد روى الحافظ البيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه ثنا زكريا بن عدي، ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد ابن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب أنه سمع رسول الله ﷺ قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول: «قد كان لي منكم أخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم، وصلحائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».

وقد رواه مسلم في صحيحه عن إسحاق بن راهويه بنحوه.

وهذا اليوم الذي كان قبل وفاته عليه السلام بخمس أيام هو يوم الخميس الذي ذكره ابن عباس فيما تقدم.

وقد روينا هذه الخطبة من طريق ابن عباس.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب - هو ابن عوانة الإسفراييني - قال: ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه.

ثم قال: «إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر».

رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد الجعفي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.

وفي قوله عليه السلام: «سدوا عني كل خوخة - يعني: الأبواب الصغار - إلى المسجد غير خوخة أبي بكر».

إشارة إلى الخلافة أي: ليخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين.

وقد رواه البخاري أيضا من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء، ملتحفا بملحفة على منكبيه، فجلس على المنبر، فذكر الخطبة، وذكر فيها الوصاة بالأنصار إلى أن قال: فكان آخر مجلس جلس فيه رسول الله ﷺ حتى قبض - يعني: آخر خطبة خطبها عليه السلام.

وقد روي من وجه آخر عن ابن عباس بإسناد غريب، ولفظ غريب.

فقال الحافظ البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش - وهو محمد بن عيسى - ثنا موسى بن إسماعيل أبو عمران الجبلي، ثنا معن بن عيسى القزاز عن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أناس الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس قال: أتاني رسول الله ﷺ وهو يوعك وعكا شديدا، وقد عصب رأسه فقال: «خذ بيدي يا فضل»

قال: فأخذت بيده حتى قعد على المنبر.

ثم قال: «ناد في الناس يا فضل».

فناديت: الصلاة جامعة.

قال: فاجتمعوا فقام رسول الله ﷺ خطيبا فقال: «أما بعد أيها الناس، إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ولن تروني في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عني حتى أقومه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقولن قائل أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له علي أو حللني، فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة».

قال: فقام منهم رجل فقال: يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم.

فقال: «أما أنا فلا أكذب قائلا، ولا مستحلفه علي يمين فيم كانت لك عندي؟»

قال: أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم.

قال: «أعطه يا فضل».

قال: وأمر به فجلس.

قال: ثم عاد رسول الله ﷺ في مقالته الأولى ثم قال: «يا أيها الناس من عنده من الغلول شيء فليرده».

فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله.

قال: «فلم غللتها؟»

قال: كنت إليها محتاجا.

قال: «خذها منه يا فضل».

ثم عاد رسول الله ﷺ في مقالته الأولى وقال: «يا أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو الله له».

فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لشئوم.

فقال عمر بن الخطاب: ويحك أيها الرجل لقد سترك الله لو سترت على نفسك.

فقال رسول الله ﷺ: «مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا، وإيمانا، وأذهب عنه الشؤم إذا شاء».

ثم قال رسول الله ﷺ: «عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر».

وفي إسناده ومتنه غرابة شديدة.

ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالصحابة أجمعين

قال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: وقال ابن شهاب الزهري: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه، عن عبد الله بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال: «مروا من يصلي بالناس».

قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا.

فقلت: قم يا عمر فصل بالناس.

قال: فقام فلما كبر عمر سمع رسول الله ﷺ صوته، وكان عمر رجلا مجهرا.

فقال رسول الله: «فأين أبو بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون».

قال: فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.

وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت.

قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.

وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثني الزهري.

ورواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن زمعة فذكره.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال: لما سمع النبي ﷺ صوت عمر.

قال ابن زمعة: خرج النبي ﷺ حتى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال: «لا لا، لا يصلي للناس إلا ابن أبي قحافة» يقول ذلك مغضبا.

وقال البخاري: ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش عن إبراهيم، قال الأسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها.

قالت: لما مرض النبي ﷺ مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن بلال.

فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».

فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس».

فخرج أبو بكر فوجد النبي ﷺ في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي ﷺ أن مكانك، ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه.

قيل للأعمش: فكان النبي ﷺ يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.

فقال برأسه: نعم!

ثم قال البخاري: رواه أبو داود عن شعبة بعضه، وزاد أبو معاوية عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما.

وقد رواه البخاري في غيرما موضع من كتابه، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن الأعمش به.

منها ما رواه البخاري عن قتيبة.

ومسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة.

ويحيى بن يحيى عن أبي معاوية به.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله ﷺ قال في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».

قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أنها قالت: لقد عاودت رسول الله في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري قال: وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله ﷺ بيتي قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».

قالت: قلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر.

قالت: والله!ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله ﷺ.

قالت: فراجعته مرتين، أو ثلاثا.

فقال: «ليصل بالناس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف».

وفي الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن أبيه قال: مرض رسول الله ﷺ فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».

فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالناس.

قال: فقال: «مروا أبا بكر يصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف».

قال: فصلى أبو بكر حياة رسول الله ﷺ.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا زائدة بن قدامة عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله ﷺ.

فقالت: بلى!ثقل برسول الله ﷺ وجعه.

فقال: «أصلى الناس؟»

قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.

فقال: «صبوا إلي ماء في المخضب» ففعلنا قالت: فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»

قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله.

قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»

قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.

قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟»

قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله ﷺ لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله ﷺ إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا فقال: يا عمر صل بالناس.

فقال: أنت أحق بذلك.

فصلى بهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله ﷺ وجد خفة، فخرج بين رجلين أحدهما: العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائما، ورسول الله ﷺ يصلي قاعدا.

قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله؟

قال: هات، فحدثته فما أنكر منه شيئا غير أنه قال: سمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟

قلت: لا.

قال: هو علي.

وقد رواه البخاري ومسلم جميعا عن أحمد بن يونس، عن زائدة به.

وفي رواية: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله قاعد.

قال البيهقي: ففي هذا أن النبي ﷺ تقدم في هذه الصلاة، وعلق أبو بكر صلاته بصلاته.

قال: وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة.

وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس يعني: بذلك - ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، حدثني أبي عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس قال: لما مرض النبي ﷺ أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد إن ينكص، فأومأ إليه النبي ﷺ فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبوبكر رضي الله عنه.

ثم رواه أيضا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم، عن ابن عباس بأطول من هذا.

وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي ﷺ والناس يأتمون بأبي بكر.

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس بنحوه.

وقد قال الإمام أحمد: ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعبة عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: صلى رسول الله ﷺ خلف أبا بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه.

وقد رواه الترمذي، والنسائي من حديث شعبة.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أحمد: ثنا بكر بن عيسى سمعت شعبة بن الحجاج عن نعيم ابن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله ﷺ في الصف.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله ﷺ صلى خلف أبا بكر.

وهذا إسناد جيد، ولم يخرجوه.

قال البيهقي: وكذلك رواه حميد عن أنس بن مالك، ويونس عن الحسن مرسلا، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن قال هشيم: وأنبانا حميد عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ خرج وأبو بكر يصلي بالناس فجلس إلى جنبه، وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.

قال البيهقي: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ مع القوم، في ثوب واحد ملتحفا به خلف أبي بكر.

قلت: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرجوه، وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس صلوات الله وسلامه عليه.

وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال، ويحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس أن النبي ﷺ صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه، فلما أراد إن يقوم، قال: «أدع لي أسامه بن زيد» فجاء، فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها.

قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الإثنين، وهذا الذي قاله البيهقي، أخذه مسلما من مغازي موسى بن عقبة فإنه كذلك ذكر.

وكذا روى أبو الأسود عن عروة، وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الإثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة، بل في بيته، لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك وكان تبع النبي ﷺ وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي ﷺ الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي ﷺ ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي ﷺ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي ﷺ خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا ﷺ أن أتموا صلاتكم، وأرخى على الستر، وتوفي من يومه ﷺ.

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، وصبيح بن كيسان، ومعمر عن الزهري، عن أنس.

ثم قال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال: لم يخرج النبي ﷺ ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله بالحجاب، فرفعه فلما وضح وجه النبي ﷺ ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي ﷺ حين وضح لنا، فأومأ النبي ﷺ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي ﷺ الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات ﷺ.

ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.

فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الإثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم، لم يخرج إليهم ثلاثا.

قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل.

وقال الزهري عن أبي بكر ابن أبي سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة.

وقال غيره: عشرين صلاة، فالله أعلم.

ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الإثنين، فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به، ولسان حالهم يقول: كما قال بعضهم:

وكنت أرى كالموت منْ بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر

والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين، ثم قال ما حاصله: فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة، ثم خرج في الركعة الثانية، فصلى خلف أبي بكر كما قال عروة وموسى بن عقبة، وخفي ذلك على أنس بن مالك، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره.

وهذا الذي ذكره أيضا بعيد جدا، لأن أنسا قال: فلم يقدر عليه حتى مات، وفي رواية: قال: فكان ذلك آخر العهد به، وقول الصحابي مقدم على قول التابعي، والله أعلم.

والمقصود: أن رسول الله ﷺ قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية.

قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله ﷺ قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلما».

قلت: من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصلاة الرسول ﷺ خلفه في بعض الصلوات، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة، لا ينافي ما روى في الصحيح أن أبا بكر إئتم به عليه السلام لأن ذلك في صلاة أخرى كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة رحمهم الله عز وجل.

فائدة: استدل مالك والشافعي، وجماعة من العلماء ومنهم البخاري، بصلاته عليه السلام قاعدا وأبو بكر مقتديا به قائما والناس بأبي بكر، على نسخ قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه: حين صلى ببعض أصحابه قاعدا.

وقد وقع عن فرس فجحش شقه، فصلوا وراءه قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: «كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس» وقال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون»

قالوا: ثم إنه عليه السلام أمهم قاعدا وهم قيام في مرض الموت، فدل على نسخ ما تقدم، والله أعلم.

وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة، موضع ذكرها (كتاب الأحكام الكبير) إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان.

وملخص ذلك: أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه ﷺ ومن الناس من قال: بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر، كما صرح به بعض الرواة كما تقدم، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول ﷺ لا يبادره بل يقتدي به، فكأنه عليه السلام صار إمام الإمام، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر وهو قائم؛ ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام، ولأنه يبلغهم عن النبي ﷺ الحركات، والسكنات، والانتقالات، والله أعلم.

ومن الناس من قال: فرق بين أن يبتدأ الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما، وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال وبين أن يبتدي الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس، للحديث المتقدم، والله أعلم.

ومن الناس من قال: هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام، والجلوس، وأن كلا منهما سائغ جائز، الجلوس لما تقدم، والقيام للفعل المتأخر، والله أعلم.

احتضاره ووفاته عليه السلام

قال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله هو: ابن مسعود قال: دخلت على النبي ﷺ وهو يوعك، فمسسته فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا.

قال: «أجل!إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم».

قلت: إن لك أجرين؟

قال: «نعم!والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها».

وقد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش به.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق ابن أبي إسرائيل، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال: وضع يده على النبي ﷺ فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك.

فقال النبي ﷺ: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان الرجل ليبتلى بالعري حتى يأخذ العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء» فيه رجل مبهم لا يعرف بالكلية، فالله أعلم.

وقد روى البخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، زاد مسلم - وجرير - ثلاثتهم عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، عن عائشة قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله ﷺ.

وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن الهاد عن عبد الرحيم بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: مات رسول الله ﷺ بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي ﷺ.

وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه في البلاء».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن محمد بن أسامة بن زيد قال: لما ثقل رسول الله ﷺ هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يصيبها على وجهه، أعرف أنه يدعو لي.

ورواه الترمذي عن أبي كريب، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق وقال: حسن غريب.

وقال الإمام مالك في موطئه عن إسماعيل ابن أبي حكيم، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان من آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب».

هكذا رواه مرسلا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

وقد روى البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا».

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن أبي رجاء الأديب، أنبأنا أبو العباس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: «أحسنوا الظن بالله»

وفي بعض الأحاديث كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى».

وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي خيرا».

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، حدثنا الأصم، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا جرير عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضره الوفاة: الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفصح بها لسانه.

وقد رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن جرير بن عبد الحميد به.

وابن ماجه عن أبي الأشعث، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد، ثنا التيمي عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضر الموت: الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل رسول الله ﷺ يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه.

وقد رواه النسائي وابن ماجه من حديث سليمان بن طرخان - وهو التيمي - عن قتادة، عن أنس به.

وفي رواية النسائي عن قتادة، عن صاحب له، عن أنس به.

وقال أحمد: ثنا بكر بن عيسى الراسبي، ثنا عمر بن الفضيل عن نعيم بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب قال: أمرني رسول الله ﷺ أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده.

قال: فخشيت أن تفوتني نفسه.

قال: قلت: إني أحفظ وأعي قال: «أوصي بالصلاة، والزكاة، وما ملكت أيمانكم» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة قالت: كان عامة وصية رسول الله ﷺ عند موته: الصلاة، وما ملكت إيمانكم، حتى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه.

وهكذا رواه النسائي عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن سعد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة به.

قال البيهقي: والصحيح ما رواه عفان عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به.

وهكذا رواه النسائي أيضا وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به.

وقد رواه النسائي أيضا عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن سفينة، عن النبي ﷺ فذكره.

ثم رواه عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن يونس بن محمد قال: حدثنا عن سفينة، فذكر نحوه.

وقال أحمد: ثنا يونس، ثنا الليث عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة قالت: رأيت رسول الله ﷺ وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: «اللهم أعني على سكرات الموت».

ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث الليث به.

وقال الترمذي: غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: «ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة» تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به.

وهذا دليل على شدة محبته عليه السلام لعائشة رضي الله عنها وقد ذكر الناس معاني كثيرة في كثرة المحبة، ولم يبلغ أحدهم هذا المبلغ، وما ذاك إلا لأنهم يبالغون كلاما لا حقيقة له، وهذا كلام حق لا محالة ولا شك فيه.

وقال حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: توفي رسول الله ﷺ في بيتي ويومي، وتوفي بين سحري ونحري، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه، فرفع بصره إلى السماء وقال: «في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى» ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر وبيده جريدة رطبة فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة قالت: فأخذتها فنفضتها، فدفعتها إليه فاستن بها أحسن ما كان مستنا، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.

ورواه البخاري عن سليمان بن جرير، عن حماد بن زيد به.

وقال البيهقي: أنبانا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي، ثنا داود بن عمرو بن زهير الضبي، ثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد ابن أبي حسين، أنبأنا ابن أبي مليكة أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره أن عائشة كانت تقول: إن من نعمة الله علي أن رسول الله ﷺ توفي في يومي، وفي بيتي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت.

قالت: دخل علي أخي بسواك معه، وأنا مسندة رسول الله ﷺ إلى صدري، فرأيته ينظر إليه وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه، فقلت: آخذه لك، فأراد برأسه أي نعم!فلينته له، فأمره على فيه قالت: وبين يديه ركوة، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ثم يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» ثم نصب إصبعه اليسرى وجعل يقول: «في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى» حتى قبض ومالت يده على الماء.

ورواه البخاري عن محمد، عن عيسى بن يونس.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت عروة يحدث عن عائشة قالت: كنا نحدث أن النبي لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة، قالت: فلما كان مرض رسول الله ﷺ الذي مات فيه عرضت له بحة فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا».

قالت عائشة: فظننا أنه كان يخير.

وأخرجاه من حديث شعبة به.

وقال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم أن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يقول وهو صحيح: «إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير».

قالت عائشة: فلما نزل برسول الله ﷺ ورأسه على فخذي - غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال: «اللهم الرفيق الأعلى» فعرفت أنه الحديث الذي كان حدثناه، وهو صحيح أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير.

قالت عائشة: فقلت: إذا لا تختارنا وقالت عائشة: كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلم بها رسول الله ﷺ «الرفيق الأعلى».

أخرجاه من غير وجه عن الزهري به.

وقال سفيان هو الثوري - عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي بردة، عن عائشة قالت: أغمي على رسول الله ﷺ وهو في حجري، فجعلت أمسح وجهه، وأدعو له بالشفاء فقال: «لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل، وميكائيل وإسرافيل».

رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وغيره قالوا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن عائشة أخبرته أنها سمعت رسول الله ﷺ وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق».

أخرجاه من حديث هشام بن عروة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد سمعت عائشة تقول: مات رسول الله ﷺ بين سحري ونحري وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحدا فمن سفهي وحداثة سني، أن رسول الله ﷺ قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألدم مع النساء وأضرب وجهي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ يقول: «ما من نبي إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب، ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه وبين أن يلحق» فكنت قد حفظت ذلك منه، فإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: قد قضى فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع فنظر قالت: قلت: إذا والله لا يختارنا فقال: «مع الرفيق الأعلى في الجنة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا».

تفرد به أحمد، ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا همام، أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: قبض رسول الله ﷺ ورأسه بين سحري ونحري قالت: فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها.

وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

ورواه البيهقي من حديث حنبل بن إسحاق عن عفان.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي عروة، عن أم سلمة قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله ﷺ يوم مات، فمرت لي جمع آكل وأتوضأ، وما يذهب ريح المسك من يدي.

وقال أحمد: حدثنا عفان، وبهز قالا: ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حميد بن هلال عن أبي بردة قال: دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من التي يدعون الملبدة فقالت: إن رسول الله ﷺ قبض في هذين الثوبين.

وقد رواه الجماعة إلا النسائي من طرق عن حميد بن هلال به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة فاستأذنا عليها، فألقت لنا وسادة، وجذبت إليها الحجاب.

فقال صاحبي: يا أم المؤمنين، ما تقولين في العراك؟

قالت: وما العراك؟

فضربت منكب صاحبي.

قالت: مه، آذيت أخاك ثم قالت: ما العراك: المحيض!قولوا: ما قال الله عز وجل في المحيض ثم قالت: كان رسول الله ﷺ يتوشحني وينال من رأسي، وبيني وبينه ثوب وأنا حائض ثم قالت: كان رسول الله ﷺ إذا مر ببابي مما يلقي الكلمة ينفعني الله بها، فمر ذات يوم فلم يقل شيئا، ثم مر فلم يقل شيئا، مرتين أو ثلاثا فقلت: يا جارية ضعي لي وسادة على الباب، وعصبت رأسي فمر بي فقال: «يا عائشة ما شأنك؟»

فقلت: أشتكي رأسي.

فقال: أنا وارأساه، فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء، فدخل علي وبعث إلى النساء فقال: «إني قد اشتكيت، وإني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإذن لي فلأكن عند عائشة، فكنت أمرضه ولم أمرض أحدا قبله، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما، وجذبت إلي الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ما أشد غشي رسول الله ﷺ ثم قاما فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات رسول الله ﷺ.

فقلت: كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة، إن رسول الله ﷺ لا يموت حتى يفني الله المنافقين.

قالت: ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله ﷺ ثم أتاه من قبل رأسه فحدرناه، فقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدرناه، وقبل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه وحدرناه، وقبل جبهته وقال: واخليلاه، مات رسول الله ﷺ وخرج إلى المسجد، وعمر يخطب الناس، ويتكلم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين.

فتكلم أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول: { إنك ميت وإنهمْ ميتون } [46]. حتى فرغ من الآية { وما محمد إلا رسول قدْ خلتْ منْ قبْله الرسل أفإنْ مات أوْ قتل انْقلبْتمْ على أعْقابكمْ ومنْ ينْقلبْ على عقبيْه } [47] حتى فرغ من الآية، ثم قال: فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات.

فقال عمر: أو إنها في كتاب الله؟ ما شعرت أنها في كتاب الله.

ثم قال عمر: يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه فبايعوه.

وقد روى أبو داود، والترمذي في (الشمائل) من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبي عمران الجوني به ببعضه.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبانا أبو بكر ابن إسحاق، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة عن عبد الرحمن أن عائشة أخبرته: أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فيمم رسول الله ﷺ وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.

قال الزهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر!

فأبى عمر أن يجلس.

فقال: اجلس يا عمر.

فأبى عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر فأقبل الناس إليه فقال: أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قدْ خلتْ منْ قبْله الرسل أفإنْ مات أوْ قتل انْقلبْتمْ على أعْقابكمْ } [48] الآية.

قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمع بشر من الناس إلا يتلوها.

قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله ﷺ قد مات.

ورواه البخاري عن يحيى ابن بكير به.

وروى الحافظ البيهقي: من طريق ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله ﷺ قال: وقام عمر بن الخطاب يخطب الناس، ويتوعد من قال مات، بالقتل والقطع ويقول: إن رسول الله ﷺ في غشية، لو قد قام قتل وقطع، وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن أم مكتوم قائم في مؤخر المسجد يقرأ: { وما محمد إلا رسول قدْ خلتْ منْ قبْله الرسل } الآية والناس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون، فخرج عباس بن عبد المطلب على الناس فقال: يا أيها الناس هل عند أحد منكم من عهد من رسول الله ﷺ في وفاته فليحدثنا.

قالوا: لا!

قال: هل عندك يا عمر من علم؟

قال: لا!

فقال العباس: اشهدوا أيها الناس أن أحدا لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته، والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله ﷺ الموت.

قال: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه من السنح على دابته، حتى نزل بباب المسجد وأقبل مكروبا حزينا، فاستأذن في بيت ابنته عائشة، فأذنت له فدخل ورسول الله ﷺ قد توفي على الفراش والنسوة حوله، فخمرن وجوههن، واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله ﷺ فحثى عليه يقبله ويبكي ويقول: ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئا، توفي رسول الله والذي نفسي بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيا وميتا، ثم غشاه بالثوب، ثم خرج سريعا إلى المسجد يتخطى رقاب الناس، حتى أتى المنبر وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا إليه، وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ونادى الناس فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد وقال: إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل قال تعالى: { وما محمد إلا رسول قدْ خلتْ منْ قبْله الرسل } الآية.

فقال عمر: هذه الآية في القرآن؟ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم.

وقد قال الله تعالى لمحمد ﷺ: { إنك ميت وإنهمْ ميتون } [49].

وقال الله تعالى: { كل شيْء هالك إلا وجْهه له الْحكْم وإليْه ترْجعون }. [50].

وقال تعالى: { كل منْ عليْها فان * ويبْقى وجْه ربك ذو الْجلال والْإكْرام }. [51].

وقال: { كل نفْس ذائقة الْموْت وإنما توفوْن أجوركمْ يوْم الْقيامة } [52].

وقال: إن الله عمر محمدا ﷺ وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلغ رسالة الله، وجاهد في سبيل الله، ثم توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا وينزله إلها فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها الناس واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمدا ﷺ وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله ﷺ فلا يبغين أحد إلا على نفسه.

ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله ﷺ، فذكر الحديث في غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه.

قلت: كما سنذكره مفصلا بدلائله وشواهده، إن شاء الله تعالى.

وذكر الواقدي عن شيوخه قالوا: ولما شك في موت النبي ﷺ فقال بعضهم: مات!

وقال بعضهم: لم يمت.

وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي رسول الله ﷺ فقالت: قد توفي رسول الله ﷺ وقد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذي قد عرف به موته.

هكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) من طريق الواقدي، وهو ضعيف، وشيوخه لم يسمون، ثم هو منقطع بكل حال ومخالف لما صح، وفيه غرابة شديدة وهو رفع الخاتم، فالله أعلم بالصواب.

وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارا كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة والمروية في الكتب المشهورة غنْية عن الأكاذيب، وما لا يعرف سنده، والله أعلم.

فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه

ومن أعظمها وأجلها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما مات كان الصديق رضي الله عنه قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله ﷺ إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف سترة الحجرة، ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر فأعجبه ذلك، وتبسم صلوات الله وسلامه عليه حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف، فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به عليه الصلاة والسلام فلما انصرف أبو بكر رضي الله عنه من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة: ما أرى رسول الله ﷺ إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة - يعني: إحدى زوجتيه - وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة، فركب على فرس له وذهب إلى منزله، وتوفي رسول الله ﷺ حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وقيل: عند زوال الشمس، والله أعلم.

فلما مات واختلف الصحابة فيما بينهم فمن قائل يقول: مات رسول الله ﷺ.

ومن قائل: لم يمت.

فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله ﷺ فجاء الصديق من منزله حين بلغه الخبر، فدخل على رسول الله ﷺ منزله، وكشف الغطاء عن وجهه وقبله، وتحقق أنه قد مات، خرج إلى الناس فخطبهم إلى جانب المنبر وبين لهم وفاة رسول الله ﷺ كما قدمنا، وأزاح الجدل، وأزال الإشكال، ورجع الناس كلهم إليه وبايعه في المسجد جماعة من الصحابة، ووقعت شبهة لبعض الأنصار، وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار، وتوسط بعضهم بين أن يكون أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، حتى بين لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه، كما سنبينه، وننبه عليه.

قصة سقيفة بني ساعدة

قال الإمام أحمد: ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، ثنا مالك بن أنس، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عبد الرحمن بن عوف رجع إلى رحله قال ابن عباس: وكنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف فوجدني وأنا أنتظره وذلك بمنى في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب.

فقال عبد الرحمن بن عوف: إن رجلا أتى عمر بن الخطاب.

فقال: إن فلانا يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا.

فقال عمر: إني قائم العشية إن شاء الله في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.

قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وأنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكنا، فيعون مقالتك ويضعوها مواضعها.

قال عمر: لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه.

فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة وكان يوم الجمعة عجلت الرواح صكة الأعمى قلت لمالك: وما صكة الأعمى؟

قال: إنه لا يبالي أي ساعة خرج لا يعرف الحر والبرد، أو نحو هذا، فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحك ركبتي ركبته فلم أنشب أن طلع عمر، فلما رأيته قلت: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله.

قال: فأنكر سعيد بن زيد ذلك وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد.

فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قائل مقالة وقد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب علي، إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، وعقلناها، ورجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله عز وجل فالرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا وإنا قد كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا وإن رسول الله ﷺ قال: «لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» وقد بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وأنها كانت كذلك، إلا إن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ﷺ أن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله ﷺ وتخلف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟

فقلت: نريد إخواننا من الأنصار.

فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.

فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟

قالوا: سعد بن عبادة.

فقلت: ماله؟

قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر.

فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحكم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتى سكت.

فقال: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم.

وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت.

فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.

فقلت لمالك: ما يعني: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟

قال: كأنه يقول: أنا داهيتها.

قال: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف.

فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعدا.

فقلت: قتل الله سعدا.

قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا.

قال مالك: فأخبرني ابن شهاب عن عروة أن الرجلين اللذين لقياهما: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي.

قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب: هو الحباب بن المنذر.

وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزهري به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية عن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عاصم، وحدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو: ابن مسعود - قال: لما قبض رسول الله ﷺ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله ﷺ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر، فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.

ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة به.

ورواه علي بن المديني عن حسين بن علي، وقال: صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم.

وقد رواه النسائي أيضا من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم ابن أبي هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله.

وقد روي عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر، وجاء من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: قلت: يا معشر المسلمين إن أولى الناس بأمر النبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السباق المسن، ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع الناس.

وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد فذكر نحوا من هذه القصة، وسمى هذا الرجل الذي بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال: هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير.

اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا، مات محمد ورب الكعبة، فذكر الحديث.

قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله ﷺ قال: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا، سلكت وادي الأنصار» ولقد علمت يا سعد أن رسول الله ﷺ قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم».

فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عباس، ثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذي عضوان العبسي عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل قال: وسألته عما قيل في بيعتهم.

فقال: وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله ﷺ في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة.

وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا: أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفا أن يقع فتنة أربى من تركه قبولها، رضي الله عنه وأرضاه.

قلت: كان هذا في بقية يوم الإثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع الناس في المسجد، فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله ﷺ تسليما.

قال البخاري: أنبأنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام عن معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله ﷺ، وأبو بكر صامت لا يتكلم.

قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله ﷺ حتى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به، هدي محمدا ﷺ وإن أبا بكر صاحب رسول الله ﷺ وثاني اثنين، وأنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.

قال الزهري عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر: اصعد المنبر!فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله ﷺ، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول: يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ﷺ وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

وهذا إسناد صحيح فقوله رضي الله عنه: وليتكم ولست بخيركم: من باب الهضم والتواضع، فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم، وخيرهم رضي الله عنهم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحافظ الإسفراييني، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وابن إبراهيم ابن أبي طالب قالا: حدثنا ميدار بن يسار، وحدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وهيب، حدثنا داود ابن أبي هند، حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قبض رسول الله ﷺ واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله ﷺ كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره.

قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم!أما لو قلتم على غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.

قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء.

فقال: قلت: ابن عمة رسول الله ﷺ وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين.

فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ﷺ فقام فبايعه.

ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء.

فقال: قلت: ابن عم رسول الله ﷺ وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين.

قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ﷺ، فبايعه، هذا أو معناه.

وقال أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه، وهذا حديث يسوي بدنة، بل يسوي بدرة!.

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، وأبي محمد بن حامد المقري، كلاهما عن أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن جعفر بن محمد بن شاكر، عن عفان بن سلم، عن وهيب به، ولكن ذكر أن الصديق هو القائل لخطيب الأنصار بدل عمر، وفيه أن زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد علي، فالله أعلم.

وقد رواه علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري فذكر نحو ما تقدم، وهذا إسناد صحيح محفوظ، من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، وفيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي ابن أبي طالب، أما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق فإن علي ابن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، كما سنذكره، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة كما سنبينه قريبا، ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله ﷺ ولم تعلم بما أخبرها به الصديق رضي الله عنه أنه قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، كما سنبين ذلك في موضعه، فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك، لأنه رأى أن حقا عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله ﷺ وهو الصادق البار، الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة عتب وتغضب، ولم تكلم الصديق حتىماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها ﷺ رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر رضي الله عنه، كما سنذكره من الصحيحين، وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله ﷺ.

ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله ﷺ أن يصلي بالناس وهو حي.

إسناد جيد، ولله الحمد والمنة.

فصل خلافة أبي بكر

ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وظهر له أن رسول الله ﷺ لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية!يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق، كما قدمنا وسنذكره ولله الحمد.

كما ثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين؟

فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني: أبا بكر -، وإن أترك، فقد ترك من هو خير مني يعني: رسول الله ﷺ.

قال ابن عمر: فعرفت حين ذكر رسول الله ﷺ أنه غير مستخلف.

وقال سفيان الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي على الناس قال: يا أيها الناس إن رسول الله ﷺ لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن يستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله - أو قال: حتى ضرب ألين بجرانه - إلى آخره.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو نعيم، ثنا شريك عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال: خطب رجل يوم البصرة حين ظهر علي فقال علي: هذا الخطيب السجسج، سبق رسول الله ﷺ وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الزكي بمرو، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعيب بن ميمون عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن أبي وائل قال: قيل لعلي ابن أبي طالب: ألا تستخلف علينا؟

فقال: ما استخلف رسول الله ﷺ فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.

إسناد جيد، ولم يخرجوه.

وقد قدمنا ما ذكره البخاري من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابن عباس أن عباسا وعليا لما خرجا من عند رسول الله ﷺ فقال رجل: كيف أصبح رسول الله ﷺ؟

فقال علي: أصبح بحمد الله بارئا.

فقال العباس: إنك والله عبد العصا بعد ثلاث، إني لأعرف في وجوه بني هاشم الموت، وإني لأرى في وجه رسول الله الموت، فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا.

فقال علي: إني لا أسأله ذلك، والله إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا.

وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري به، فذكره وقال فيه: فدخلا عليه في يوم قبض ﷺ، فذكره وقال في آخره: فتوفي رسول الله ﷺ حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.

قلت: فهذا يكون في يوم الإثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفي عن غير وصية في الإمارة.

وفي الصحيحين عن ابن عباس أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب ذلك الكتاب، وقد قدمنا أنه عليه السلام كان طلب أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال: «قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه».

وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عون عن إبراهيم التيمي، عن الأسود قال: قيل لعائشة: إنهم يقولون أن رسول الله ﷺ أوصى إلى علي.

فقالت: بما أوصى إلى علي؟ لقد دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري فانحنف فمات، وما شعرت فيم يقول هؤلاء أنه أوصى إلى علي.

وفي الصحيحين من حديث مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله ﷺ؟

قال: لا!

قلت: فلم أمرنا بالوصية؟

قال: أوصى بكتاب الله عز وجل.

قال طلحة بن مصرف وقال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ﷺ ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله ﷺ فخرم أنفه بخرامة.

وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله، وهذه الصحيفة لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات فقد كذب.

وفيها قال: قال رسول الله ﷺ: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا».

وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله ﷺ أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته ﷺ وبعد وفاته من أن يقتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول ﷺ ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نص، فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم؟ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال، وافتراء، وجهل، وضلال، وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغترين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان، رحيم رحمن.

وفي هذا الحديث الثابت في الصحيحين، عن علي الذي قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية، والقصاص الجهلة في دعواهم أن النبي ﷺ أوصى إلى علي بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة، يا علي إفعل كذا، يا علي لا تفعل كذا، يا علي من فعل كذا كان كذا وكذا بألفاظ ركيكة، ومعاني أكثرها سخيفة، وكثير منها صحفية لا تساوي تسويد الصحيفة، والله أعلم.

وقد أورد الحافظ البيهقي من طريق حماد بن عمرو النصيبي وهو: أحد الكذابين الصواغين - عن السري بن خلاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي ابن أبي طالب، عن النبي ﷺ قال: «يا علي أوصيك بوصية إحفظها، فإنك لا تزال بخير ما حفظتها، يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة، والصيام، والزكاة».

قال البيهقي: فذكر حديثا مطويلا في الرغائب والآداب، وهو حديث موضوع، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أخرج فيه حديثا أعلمه موضوعا، ثم روى من طريق حماد بن عمر، وهذا عن زيد بن رفيع، عن مكحول الشامي قال: هذا ما قال رسول الله ﷺ لعلي ابن أبي طالب حين رجع من غزوة حنين، وأنزلت عليه سورة النصر.

قال البيهقي: فذكر حديثا طويلا في الفتنة، وهو أيضا حديث منكر ليس له أصل، وفي الأحاديث الصحيحية كفاية، وبالله التوفيق.

ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو أبي إسماعيل النصيبي، روى عن الأعمش وغيره، وعنه إبراهيم بن موسى، ومحمد بن مهران، وموسى بن أيوب، وغيرهم.

قال يحيى بن معين: هو ممن يكذب ويضع الحديث.

وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو حاتم: منكر الحديث ضعيف جدا.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان يكذب.

وقال البخاري: منكر الحديث.

وقال أبو زرعة: واهي الحديث.

وقال النسائي: متروك.

وقال ابن حبان: يضع الحديث وضعا.

وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي عن الثقات أحاديث موضوعة، وهو ساقط بمرة.

فأما الحديث الذي قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا حمزة بن العباس العقبي ببغداد، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا سلام بن سليمان المدائني، ثنا سلام بن سليم الطويل عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن الحسن المقبري، عن الأشعث بن طليق، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود قال: لما ثقل رسول الله ﷺ اجتمعنا في بيت عائشة، فنظر إلينا رسول الله ﷺ فدمعت عيناه ثم قال لنا: «قد دنا الفراق» ونعى إلينا نفسه.

ثم قال: «مرحبا بكم، حياكم الله، هداكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، وفقكم الله، سددكم الله، وقاكم الله، أعانكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم واستخلفه عليكم إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله قال لي ولكم: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» وقال: «أليس في جهنم مثوى للمتكبرين».

قلنا: فمتى أجلك يا رسول الله؟

قال: «قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، والسدرة المنتهى، والكأس الأوفى، والفرش الأعلى».

قلنا: فمن يغسلك يا رسول الله؟

قال: «رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم».

قلنا: ففيم نكفنك يا رسول الله؟

قال: «في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمنية، أو في بياض مصر».

قلنا: فمن يصلي عليك يا رسول الله؟

فبكى وبكينا وقال: «مهلا!غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا غسلتموني، وحنطتموني، وكفنتموني، فضعوني على شفير قبري، ثم أخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي جبريل وميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة عليهم السلام، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم ادخلوا علي أفواجا أفواجا، وفرادى فرادى، ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بضجة، ومن كان غائبا من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم بأني قد سلمت على من دخل في الإسلام، ومن تابعني في ديني، هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة».

قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟

قال: «رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم».

ثم قال البيهقي: تابعه أحمد بن يونس عن سلام الطويل، وتفرد به سلام الطويل.

قلت: وهو سلام بن مسلم ويقال: ابن سليم، ويقال: ابن سليمان، والأول أصح، التميمي السعدي الطويل يروي عن جعفر الصادق، وحميد الطويل، وزيد العمي، وجماعة، وعنه جماعة أيضا منهم: أحمد بن عبد الله بن يونس، وأسد بن موسى، وخلف بن هشام البزار، وعلي بن الجعد، وقبيصة بن عقبة، وقد ضعفه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والجوزجاني، والنسائي، وغير واحد، وكذبه بعض الأئمة، وتركه آخرون.

لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ أبو بكر البزار من غير طريق سلام هذا فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ابن الأصبهاني، أنه أخبره عن مرة، عن عبد الله فذكر الحديث بطوله.

ثم قال البزار: وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة، وعبد الرحمن ابن الأصبهاني لم يسمع هذا من مرة وإنما هو عمن أخبره عن مرة، ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله، عن مرة.

فصل في ذكر الوقت الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومبلغ سنه حال وفاته، وفي كيفية غسله عليه السلام والصلاة عليه، ودفنه، وموضع قبره صلوات الله وسلامه عليه.

لا خلاف أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين.

قال ابن عباس: ولد نبيكم ﷺ يوم الإثنين، ونبئ يوم الإثنين، وخرج من مكة مهاجرا يوم الإثنين، ودخل المدينة يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين.

رواه الإمام أحمد والبيهقي.

وقال سفيان الثوري عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي أبو بكر: أي يوم توفي رسول الله ﷺ؟.

قلت: يوم الإثنين.

فقال: إني لأرجو أن أموت فيه، فمات فيه.

رواه البيهقي من حديث الثوري به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا هريم، حدثني ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء.

تفرد به أحمد.

وقال عروة بن الزبير في مغازيه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما اشتد برسول الله ﷺ وجعه، أرسلت عائشة إلى أبي بكر، وأرسلت حفصة إلى عمر، وأرسلت فاطمة إلى علي، فلم يجتمعوا حتى توفي رسول الله ﷺ وهو في صدر عائشة، وفي يومها يوم الإثنين حين زاغت الشمس لهلال ربيع الأول.

وقد قال أبو يعلى: ثنا أبو خيثمة، ثنا ابن عيينة عن الزهري، عن أنس قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله يوم الإثنين كشف الستارة والناس خلف أبي بكر، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم أن امكثوا وألقى السجف، وتوفي من آخر ذلك اليوم.

وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال، والله أعلم.

وروى يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، وعن صفوان عن عمر بن عبد الواحد جميعا، عن الأوزاعي أنه قال: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين قبل أن ينتصف النهار.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن حنبل، ثنا الحسن بن علي البزار، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه وهو سليمان بن طرخان التيمي في كتاب المغازي قال: إن رسول الله ﷺ مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وبدأه وجعه عند وليدة له يقال لها: ريحانة، كانت من سبي اليهود، وكان أول يوم مرض فيه يوم السبت، وكانت وفاته عليه السلام اليوم العاشر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، لتمام عشر سنين من مقدمه عليه السلام المدينة.

وقال الواقدي: حدثنا أبو معشر عن محمد بن قيس قال: اشتكى رسول الله ﷺ يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة في بيت زينب بنت جحش شكوى شديدة، فاجتمع عنده نساؤه كلهن، فاشتكى ثلاثة عشر يوما، وتوفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.

وقال الواقدي: وقالوا: بدئ رسول الله ﷺ يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفي يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

وهذا جزم به محمد بن سعد كاتبه، وزاد: ودفن يوم الثلاثاء.

قال الواقدي وحدثني سعيد بن عبد الله ابن أبي الأبيض عن المقبري، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ بدئ في بيت ميمونة.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو معشر عن محمد بن قيس قال: اشتكى رسول الله ﷺ ثلاثة عشر يوما فكان إذا وجد خفة صلى، وإذا ثقل صلى أبو بكر رضي الله عنه.

وقال محمد بن إسحاق: توفي رسول الله ﷺ لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجرا، واستكمل رسول الله ﷺ في هجرته عشر سنين كوامل.

قال الواقدي: وهو المثبت عندنا، وجزم به محمد بن سعد كاتبه.

وقال يعقوب بن سفيان عن يحيى بن بكير، عن الليث أنه قال: توفي رسول الله يوم الإثنين لليلة خلت من ربيع الأول، وفيه قدم المدينة على رأس عشر سنين من مقدمه.

وقال سعد بن إبراهيم الزهري: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة.

رواه ابن عساكر، ورواه الواقدي عن أبي معشر، عن محمد بن قيس مثله سواء، وقاله خليفة بن خياط أيضا.

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: توفي رسول الله يوم الإثنين مستهل ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مقدمه المدينة.

ورواه ابن عساكر أيضا، وقد تقدم قريبا عن عروة، وموسى بن عقبة، والزهري مثله، فيما نقلناه عن مغازيهما، فالله أعلم.

والمشهور قول ابن إسحاق، والواقدي، ورواه الواقدي عن ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنها فقال: حدثني إبراهيم بن يزيد عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالا: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

ورواه ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، عن أبيه مثله، وزاد: ودفن ليلة الأربعاء.

وروى سيف بن عمر عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما قضى رسول الله ﷺ حجة الوداع ارتحل فأتى المدينة، فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفرا، ومات يوم الإثنين لعشر خلون من ربيع الأول.

وروى أيضا عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة.

وفي حديث فاطمة عن عمرة، عن عائشة مثله.

إلا أن ابن عباس قال في أوله: لأيام مضين منه، وقالت عائشة: بعد ما مضى أيام منه.

فائدة: قال أبو القاسم السهيلي في (الروض) ما مضمونه: لا يتصور وقوع وفاته عليه السلام يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وذلك لأنه عليه السلام وقف في حجة الوداع سنة عشر يوم الجمعة، فكان أول ذي الحجة يوم الخميس، فعلى تقدير أن تحسب الشهور تامة أو ناقصة، أو بعضها تام وبعضها ناقص، لا يتصور أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول، وقد اشتهر هذا الإيراد على هذا القول.

وقد حاول جماعة الجواب عنه، ولا يمكن الجواب عنه إلا بمسلك واحد، وهو اختلاف المطالع بأن يكون أهل مكة رأوا هلال ذي الحجة ليلة الخميس، وأما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة الجمعة، ويؤيد هذا قول عائشة وغيرها: خرج رسول الله ﷺ لخمس بقين من ذي القعدة يعني: من المدينة إلى حجة الوداع، ويتعين بما ذكرناه أنه خرج يوم السبت، وليس كما زعم ابن حزم أنه خرج يوم الخميس، لأنه قد بقي أكثر من خمس بلا شك، ولا جائز أن يكون خرج يوم الجمعة، لأن أنسا قال: صلى رسول الله ﷺ الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فتعين أنه خرج يوم السبت لخمس بقين، فعلى هذا إنما رأى أهل المدينة هلال ذي الحجة ليلة الجمعة، وإذا كان أول ذي الحجة عند أهل المدينة الجمعة وحسبت الشهور بعده كوامل يكون أول ربيع الأول يوم الخميس، فيكون ثاني عشرة يوم الإثنين، والله أعلم.

وثبت في الصحيحين من حديث مالك عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالأدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله عز وجل على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

وهكذا رواه ابن وهب عن عروة، عن الزهري، عن أنس، وعن قرة بن ربيعة، عن أنس مثل ذلك.

قال الحافظ ابن عساكر: حديث قرة عن الزهري غريب.

وأما من رواية ربيعة عن أنس، فرواها عنه جماعة كذلك، ثم أسند من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، وربيعة عن أنس أن رسول الله ﷺ توفي وهو ابن ثلاث وستين.

وكذلك رواه ابن البربري، ونافع ابن أبي نعيم عن ربيعة، عن أنس به قال: والمحفوظ عن ربيعة عن أنس ستون.

ثم أورده ابن عساكر من طريق مالك، والأوزاعي، ومسعر، وإبراهيم بن طهمان، وعبد الله بن عمر، وسليمان بن بلال، وأنس بن بلال، وأنس بن عياض، والدراوردي، ومحمد بن قيس المدني، كلهم عن ربيعة، عن أنس قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ستين سنة.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشران، ثنا أبو عمرو ابن السماك، ثنا حنبل بن إسحاق، ثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، حدثنا عبد الوارث، ثنا أبو غالب الباهلي قال: قلت لأنس بن مالك: ابن أي الرجال كان رسول الله إذ بعث؟

قال: كان ابن أربعين سنة.

قال: ثم كان ماذا؟

قال: كان بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتمت له ستون سنة يوم قبضه الله عز وجل وهوكأشد الرجال وأحسنهم، وأجملهم، وألحمهم.

ورواه الإمام أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.

وقد روى مسلم عن أبي غسان محمد بن عمرو الرازي الملقب: برشح عن حكام بن مسلم، عن عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: قبض النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستين.

انفرد به مسلم.

وهذا لا ينافي ما تقدم عن أنس لأن العرب كثيرا ما تحذف الكسر، وثبت في الصحيحين من حديث الليث بن سعد عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة.

قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب مثله، وروى موسى بن عقبة وعقيل ويونس بن يزيد، وابن جريج عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين.

قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب مثل ذلك.

وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا شيبان عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة وابن عباس أن رسول الله ﷺ مكث بمكة عشر سنين يتنزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا.

لم يخرجه مسلم.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: ثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن جرير بن عبد الله، عن معاوية ابن أبي سفيان قال: قبض النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين.

وهكذا رواه مسلم من حديث غندر عن شعبة، وهو من إفراده دون البخاري.

ومنهم من يقول عن عامر بن سعد، عن معاوية، والصواب ما ذكرناه عن عامر بن سعد، عن جرير، عن معاوية فذكره، وروينا من طريق عامر بن شراحيل عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله البجلي، عن معاوية فذكره.

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق القاضي أبي يوسف عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين.

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: تذاكر رسول الله وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان رسول الله أكبر من أبي بكر، فتوفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر بعده وهو ابن ثلاث وستين.

وقال الثوري عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله، وأبو بكر، وعمر وهم بنو ثلاث وستين.

وقال حنبل: حدثنا الإمام أحمد، ثنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا، وهذا غريب عنه، وصحيح إليه.

وقال أحمد: ثنا هشيم، ثنا داود ابن أبي هند عن الشعبي قال: نبئ رسول الله وهو ابن أربعين سنة، فمكث ثلاث سنين، ثم بعث إليه جبريل بالرسالة، ثم مكث بعد ذلك عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة، فقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة.

قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل: الثابت عندنا ثلاث وستون.

قلت: وهكذا روي عن مجاهد، عن الشعبي.

وروي من حديث إسماعيل ابن أبي خالد عنه، وفي الصحيحين من حديث روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وفي صحيح البخاري من حديث روح بن عبادة أيضا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ثم مات وهو ابن ثلاث وستين.

وكذلك رواه الإمام أحمد عن روح بن عبادة، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، كلهم عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

وقد رواه أبو يعلى الموصلي عن الحسن بن عمر بن شقيق، عن جعفر بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس فذكر مثله.

ثم أورده من طرق عن ابن عباس مثل ذلك.

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، وبالمدينة عشرا، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وقد أسند الحافظ ابن عساكر من طريق مسلم بن جنادة عن عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين.

ومن حديث أبي نضرة عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس مثله.

وهذا القول هو الأشهر وعليه الأكثر.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل عن خالد الحذاء، حدثني عمار مولى بني هاشم سمعت ابن عباس يقول: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن خمس وستين سنة.

ورواه مسلم من حديث خالد الحذاء به.

وقال أحمد: ثنا حسن بن موسى، ثنا حماد بن سلمة عن عمارة ابن أبي عمار، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أقام بمكة خمس عشرة سنة، ثماني سنين - أو سبع - يرى الضوء ويسمع الصوت، وثمانية أو سبعا يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرا.

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.

وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا يونس عن عمار مولى بني هاشم قال: سألت ابن عباس كم أتى لرسول الله ﷺ يوم مات؟

قال: ما كنت أرى مثلك في قومه يخفى عليك ذلك.

قال: قلت: إني قد سألت فاختلف علي فأحببت أن أعلم قولك فيه.

قال: أتحسب؟

قلت: نعم!

قال: أمسك أربعين بعث لها، وخمس عشرة أقام بمكة يأمن ويخاف، وعشرا مهاجرا بالمدينة.

وهكذا رواه مسلم من حديث يزيد بن زريع، وشعبة بن الحجاج، كلاهما، عن يونس بن عبيد، عن عمار، عن ابن عباس بنحوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا العلاء بن صالح، ثنا المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير، أن رجلا أتى ابن عباس فقال: أنزل على النبي ﷺ عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة.

فقال: من يقول ذلك؟ لقد أنزل عليه بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشرا، خمسا وستين وأكثر، وهذا من أفراد أحمد إسنادا، ومتنا.

وقال الإمام أحمد: ثنا هشيم، ثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قبض النبي ﷺ وهو ابن خمس وستين سنة، تفرد به أحمد.

وقد روى الترمذي في كتاب (الشمائل) وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي من حديث قتادة عن الحسن البصري، عن دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، أن النبي ﷺ قبض وهو ابن خمس وستين.

ثم قال الترمذي: دغفل لا يعرف له سماعا عن النبي ﷺ وقد كان في زمانه رجلا.

وقال البيهقي: وهذا يوافق رواية عمار ومن تابعه عن ابن عباس، ورواية الجماعة عن ابن عباس في ثلاث وستين أصح، فهم أوثق وأكثر ورواياتهم توافق الرواية الصحيحة عن عروة، عن عائشة، وإحدى الروايتين عن أنس، والرواية الصحيحة عن معاوية، وهي قول سعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهم.

قلت: وعبد الله بن عقبة، والقاسم بن عبد الرحمن، والحسن البصري، وعلي بن الحسين، وغير واحد.

ومن الأقوال الغريبة: ما رواه خليفة بن خياط عن معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن اثنتين وستين سنة.

ورواه يعقوب بن سفيان عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة مثله.

ورواه زيد العمي عن يزيد، عن أنس.

ومن ذلك ما رواه محمد بن عابد عن القاسم بن حميد، عن النعمان بن المنذر الغساني، عن مكحول قال: توفي رسول الله وهو ابن اثنتين وستين سنة وأشهر.

ورواه يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، عن النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن اثنتين وستين سنة ونصف.

وأغرب من ذلك كله: ما رواه الإمام أحمد عن روح، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ ثماني سنين بمكة، وعشرا بعد ما هاجر، فإن كان الحسن ممن يقول بقول الجمهور: وهو أنه عليه السلام أنزل عليه القرآن وعمره أربعون سنة، فقد ذهب إلى أنه عليه السلام عاش ثمانيا وخمسين سنة، وهذا غريب جدا، لكن روينا من طريق مسدد عن هشام بن حسان، عن الحسن أنه قال: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ستين سنة.

وقال خليفة بن خياط: حدثنا أبو عاصم عن أشعث، عن الحسن قال: بعث رسول الله وهو ابن خمس وأربعين، فأقام بمكة عشرا، وبالمدينة ثمانيا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين، وهذا بهذا الصفة غريب جدا، والله أعلم.

صفة غسله عليه السلام

قد قدمنا أنهم رضي الله عنهم اشتغلوا ببيعة الصديق بقية يوم الإثنين وبعض يوم الثلاثاء، فلما تمهدت وتوطدت وتمت، شرعوا بعد ذلك في تجهيز رسول الله ﷺ مقتدين في كل ما أشكل عليهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله ﷺ يوم الثلاثاء.

وقد تقدم من حديث ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء.

وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، ثنا أبو بردة عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: لما أخذوا في غسل رسول الله ﷺ ناداهم مناد من الداخل أن لا تجردوا عن رسول الله ﷺ قميصه.

ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن أبي بردة - واسمه: عمرو بن يزيد التميمي كوفي -.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه سمعت عائشة تقول: لما أرادوا غسل النبي ﷺ قالوا: ما ندري أنجرد رسول الله ﷺ من ثيابه، كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله ﷺ وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله ﷺ فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص، فيدلكونه بالقميص دون أيديهم، فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله ﷺ إلا نساؤه.

رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمع القوم لغسل رسول الله ﷺ وليس في البيت إلا أهله، عمه العباس بن عبد المطلب، وعلي ابن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وصالح مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الناس أوس بن خولي الأنصاري، أحد بني عوف بن الخزرج، - وكان بدريا - علي ابن أبي طالب فقال: يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله ﷺ، فقال له علي: أدخل، فدخل، فحضر غسل رسول الله ﷺ ولم يل من غسله شيئا، فأسنده علي إلى صدره وعليه قميصه، وكان العباس، وفضل، وقثم، يقلبونه مع علي، وكان أسامة بن زيد، وصالح مولاه هما يصبان الماء، وجعل علي يغسله، ولم ير من رسول الله ﷺ شيئا مما يرى من الميت وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا، حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله، وكان يغسل بالماء والسدر جففوه، ثم صنع به ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب ثوبين أبيضين وبرد حبرة.

قال: ثم دعا العباس رجلين فقال: أحدكما ليذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح - وكان أبوعبيدة يضرح لأهل مكة - وليذهب الآخر أبي طلحة ابن سهل الأنصاري - وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة -.

قال: ثم قال العباس حين سرحهما: اللهم خر لرسولك، قال: فذهبا فلم يجد صاحب أبي عبيدة، أبا عبيدة، ووجد صاحب أبي طلحة، أبا طلحة، فلحد لرسول الله ﷺ، انفرد به أحمد.

وقال يونس بن بكير عن المنذر بن ثعلبة، عن الصلت، عن العلباء بن أحمر قال: كان علي والفضل يغسلان رسول الله، فنودي علي إرفع طرفك إلى السماء، وهذا منقطع.

قلت: وقد روى بعض أهل السنن عن علي ابن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال له: «يا علي لا تبد فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت».

وهذا فيه إشعار بأمره له في حق نفسه، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا ضمرة، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي: غسلت رسول الله ﷺ فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا ﷺ.

وقد رواه أبو داود في المراسيل، وابن ماجه من حديث معمر به.

زاد البيهقي في روايته: قال سعيد بن المسيب: وقد ولي دفنه عليه السلام أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله ﷺ لحدوا له لحدا، ونصبوا عليه اللبن نصبا.

وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين منهم: عامر الشعبي، ومحمد بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم بألفاظ مختلفة يطول بسطها هاهنا.

وقال البيهقي: وروى أبو عمرو بن كيسان عن يزيد بن بلال سمعت عليا يقول: أوصى رسول الله ﷺ أن لا يغسله أحد غيري، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه.

قال علي: فكان العباس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر.

قال علي: فما تناولت عضوا إلا كأنه يقلبه معي ثلاثون رجلا، حتى فرغت من غسله.

وقد أسند هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، ثنا عبد الصمد بن النعمان، ثنا كيسان أبو عمرو عن يزيد بن بلال قال: قال علي ابن أبي طالب: أوصاني النبي ﷺ أن لا يغسله أحد غيري، فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه.

قال علي: فكان العباس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر.

قلت: هذا غريب جدا.

وقال البيهقي: أنبأنا محمد بن موسى بن الفضل، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا أسيد بن عاصم، ثنا الحسين بن حفص عن سفيان، عن عبد الملك بن جريج، سمعت محمد بن علي - أبا جعفر - قال: غسل النبي ﷺ بالسدر ثلاثا، وغسل وعليه قميص، وغسل من بئر كان يقال له: الغرس بقباء كانت لسعد بن خيثمة، وكان رسول الله يشرب منها، وولي غسله علي، والفضل يحتضنه، والعباس يصب الماء، فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئا يترطل علي.

وقال الواقدي: ثنا عاصم بن عبد الله الحكمي عن عمر بن عبد الحكم قال: قال رسول الله ﷺ: «نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه».

وكان رسول الله يستعذب له منها، وغسل من بئر غرس.

وقال سيف بن عمر عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما فرغ من القبر، وصلى الناس الظهر، أخذ العباس في غسل رسول الله ﷺ فضرب عليه كلة من ثياب يمانية صفاق في جوف البيت، فدخل الكلة ودعا عليا، والفضل، فكان إذا ذهب إلى الماء ليعاطيهما دعا أبا سفيان ابن الحارث فأدخله ورجال من بني هاشم من وراء الكلة، ومن أدخل من الأنصار حيث ناشدوا أبي وسألوه: منهم أوس بن خولي رضي الله عنهم أجمعين.

ثم قال سيف عن الضحاك بن ^يربوع الحنفي، عن ماهان الحنفي، عن ابن عباس فذكر ضرب الكلة، وأن العباس أدخل فيها عليا، والفضل، وأبا سفيان، وأسامة، ورجال من بني هاشم من وراء الكلة في البيت، فذكر أنهم ألقي عليهم النعاس، فسمعوا قائلا يقول: لا تغسلوا رسول الله فإنه كان طاهرا.

فقال العباس: ألا بلى.

وقال أهل البيت: صدق، فلا تغسلوه.

فقال العباس: لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، وغشيهم النعاس ثانية، فناداهم: أن غسلوه وعليه ثيابه.

فقال أهل البيت: إلا لا.

وقال العباس: إلا نعم!فشرعوا في غسله وعليه قميص، ومجول مفتوح، فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، واعتصر قميصه ومجوله، ثم أدرج في أكفانه، وجمروه عودا وندا، ثم احتملوه حتى وضعوه على سريره وسجوه، وهذا السياق فيه غرابة جدا.

صفة كفنه عليه الصلاة والسلام

قال الإمام أحمد: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، حدثني الزهري عن القاسم، عن عائشة قالت: أدرج رسول الله ﷺ في ثوب حبرة، ثم أخر عنه.

قال القاسم: إن بقايا ذلك الثوب لعندنا بعد.

وهذا الإسناد على شرط الشيخين.

وإنما رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والنسائي عن محمد بن مثنى، ومجاهد بن موسى، فروهما كلهم عن الوليد بن مسلم به.

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: ثنا مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كفن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة.

وكذا رواه البخاري عن إسماعيل ابن أبي أويس، عن مالك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن هشام، عن أبيه، عن عائشة كفن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب سحولية بيض.

وأخرجه مسلم من حديث سفيان بن عيينة.

وأخرجه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، كلاهما عن هشام بن عروة به.

وقال أبو داود: ثنا قتيبة، ثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة.

قال: فذكر لعائشة قولهم: في ثوبين وبرد حبرة.

فقالت: قد أتي بالبرد، ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.

وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث به.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن مسلم، ثنا هناد بن السري، ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة، فأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها، إنما اشتريت له حلة ليكفن فيها فتركت، وأخذها عبد الله ابن أبي بكر.

فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه ﷺ لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها.

رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى، وغيره عن أبي معاوية.

ثم رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كفن رسول الله في برد حبرة كانت لعبد الله ابن أبي بكر، ولف فيها ثم نزعت عنه، فكان عبد الله ابن أبي بكر قد أمسك تلك الحلة لنفسه حتى يكفن فيها إذا مات ثم قال بعد أن أمسكها: ما كنت أمسك لنفسي شيئا منع الله رسوله ﷺ أن يكفن فيه، فتصدق بثمنها عبد الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كفن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب سحولية بيض.

ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق.

قال الإمام أحمد: حدثنا مسكين بن بكير، عن سعيد - يعني: ابن عبد العزيز - قال: قال مكحول: حدثني عروة عن عائشة أن رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب رياط يمانية، انفرد به أحمد.

وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا سهل بن حبيب الأنصاري، ثنا عاصم بن هلال إمام مسجد أيوب، ثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: كفن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب بيض سحولية.

وقال سفيان عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب.

ووقع في بعض الروايات: ثوبين صحاريين، وبرد حبرة.

وقال الإمام أحمد: ثنا ابن إدريس، ثنا يزيد عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب: في قميصه الذي مات فيه، وحلة نجرانية، الحلة ثوبان.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، وعثمان ابن أبي شيبة، وابن ماجه عن علي بن محمد، ثلاثتهم عن عبد الله بن إدريس، عن يزيد ابن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس بنحوه، وهذا غريب جدا.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كفن رسول الله ﷺ في ثوبين أبيضين، وبرد حمراء، انفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أبو بكر الشافعي: ثنا علي بن الحسن، ثنا حميد بن الربيع، ثنا بكر - يعني: ابن عبد الرحمن -، ثنا عيسى - يعني: ابن المختار -، عن محمد بن عبد الرحمن - هو: ابن أبي ليلى -، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس قال: كفن رسول الله في ثوبين أبيضين، وبرد حمراء.

وقال أبو يعلى: ثنا سليمان الشاذكوني، ثنا يحيى ابن أبي الهيثم، ثنا عثمان بن عطاء عن أبيه، عن ابن عباس، عن الفضل قال: كفن رسول الله ﷺ في ثوبين أبيضين سحوليين، زاد فيه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وبرد أحمر.

وقد رواه غير واحد عن إسماعيل المؤدب، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، عن الفضل قال: كفن رسول الله ﷺ في ثوبين أبيضين، وفي رواية: سحولية، فالله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق أبي طاهر المخلص: ثنا أحمد بن إسحاق البهلول، ثنا عباد بن يعقوب، ثنا شريك، عن أبي إسحاق قال: وقعت على مجلس بني عبد المطلب وهم متوافرون فقلت لهم: في كم كفن رسول الله ﷺ؟

قالوا: في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، ولا قباء، ولا عمامة.

قلت: كم أسر منكم يوم بدر؟

قالوا: العباس، ونوفل، وعقيل.

وقد روى البيهقي من طريق الزهري عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب: أحدها برد حمراء حبرة.

وقد ساقه الحافظ ابن عساكر من طريق في صحتها نظر عن علي ابن أبي طالب قال: كفنت رسول الله ﷺ في ثوبين سحوليين وبرد حبرة.

وقد قال أبو سعيد ابن الأعرابي: حدثنا إبراهيم بن الوليد، ثنا محمد بن كثير، ثنا هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: كفن رسول الله ﷺ في ريطتين وبرد نجراني.

وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن هشام و عمران القطان، عن قتادة، عن سعيد، عن أبي هريرة به.

وقد رواه الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى، ثنا نصر بن طريف عن قتادة، ثنا ابن المسيب عن أم سلمة أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب: أحدها برد نجراني.

وقال البيهقي: وفيما روينا عن عائشة بيان سبب الاشتباه على الناس وأن الحبرة أخرت عنه، والله أعلم.

ثم روى الحافظ البيهقي من طريق محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن حسن بن صالح، عن هارون بن سعيد قال: كان عند علي مسك فأوصى أن يحنط به وقال: هو من فضل حنوط رسول الله ﷺ.

ورواه من طريق إبراهيم بن موسى عن حميد، عن حسن، عن هارون، عن أبي وائل، عن علي، فذكره.

كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

وقد تقدم الحديث الذي رواه البيهقي من حديث الأشعث بن طليق البزار من حديث الأصبهاني كلاهما عن مرة، عن ابن مسعود، في وصية النبي ﷺ أن يغسله رجال أهل بيته وأنه قال: «كفنوني في ثيابي هذه، أو في يمانية، أو بياض مصر» وأنه إذا كفنوه يضعونه على شفير قبره، ثم يخرجون عنه حتى تصلي عليه الملائكة، ثم يدخل عليه رجال أهل بيته فيصلون عليه، ثم الناس بعدهم فرادى، الحديث بتمامه وفي صحته نظر كما قدمنا، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما مات رسول الله ﷺ أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالا لم يأمهم على رسول الله ﷺ أحد.

وقال الواقدي: حدثني أبي بن عياش بن سهل بن سعد عن أبيه، عن جده قال: لما أدرج رسول الله ﷺ في أكفانه وضع على سريره، ثم وضع على شفير حفرته، ثم كان الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم عليه أحد.

قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم قال: وجدت كتابا بخط أبي فيه أنه لما كفن رسول الله ﷺ ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله ﷺ: اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه، وتمت كلمته، وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان به بديلا، ولا نشتري به ثمنا أبدا.

فيقول الناس: آمين آمين، ويخرجون ويدخل آخرون، حتى صلى الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان.

وقد قيل: أنهم صلوا عليه من بعد الزوال يوم الإثنين إلى مثله من يوم الثلاثاء، وقيل: إنهم مكثوا ثلاثة أيام يصلون عليه، كما سيأتي بيان ذلك قريبا، والله أعلم.

وهذا الصنيع، وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه أمر مجمع عليه لا خلاف فيه، وقد اختلف في تعليله، فلو صح الحديث الذي أوردناه عن ابن مسعود لكان نصا في ذلك، ويكون من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه، وليس لأحد أن يقول: لأنه لم يكن لهم إمام، لأنا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه عليه السلام بعد تمام بيعة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

وقد قال بعض العلماء: إنما لم يؤمهم أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة، من كل فرد فرد من آحاد الصحابة رجالهم، ونساءهم، وصبيانهم، حتى العبيد والإماء.

وأما السهيلي فقال ما حاصله: أن الله قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل.

قال: وأيضا فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة، فالله أعلم.

وقد اختلف المتأخرون من أصحاب الشافعي في مشروعية الصلاة على قبره لغير الصحابة:

فقيل: نعم لأن جسده عليه السلام طري في قبره، لأن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما ورد بذلك الحديث في السنن وغيرها، فهو كالميت اليوم.

وقال آخرون: لا يفعل، لأن السلف ممن بعد الصحابة لم يفعلوه، ولو كان مشروعا لبادروا إليه، ولثابروا عليه، والله أعلم.

صفة دفنه عليه السلام وأين دفن

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني أبي - وهو: عبد العزيز بن جريج - أن أصحاب النبي ﷺ لم يدروا أين يقبروا النبي ﷺ حتى قال أبو بكر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لم يقبر نبي إلا حيث يموت».

فأخروا فراشه، وحفروا تحت فراشه ﷺ، وهذا فيه انقطاع بين عبد العزيز بن جريج وبين الصديق، فإنه لم يدركه.

لكن رواه الحافظ أبو يعلى من حديث ابن عباس وعائشة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم فقال: حدثنا أبو موسى الهروي، ثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: اختلفوا في دفن النبي ﷺ حين قبض، فقال أبو بكر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه».

فقال: ادفنوه حيث قبض.

وهكذا رواه الترمذي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر المليكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته قال: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه.

ثم إن الترمذي ضعف المليكي ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، رواه ابن عباس عن أبي بكر الصديق، عن النبي ﷺ.

وقال الأموي عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن رجل حدثه عن عروة، عن عائشة أن أبا بكر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه لم يدفن نبي قط إلا حيث قبض».

قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن سهل التميمي، ثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان بالمدينة حفاران، فلما مات النبي ﷺ قالوا: أين ندفنه؟

فقال أبو بكر رضي الله عنه: في المكان الذي مات فيه، وكان أحدهما يلحد، والآخر يشق، فجاء الذي يلحد فلحد للنبي ﷺ.

وقد رواه مالك بن أنس عن هشام بن عروة، عن أبيه منقطعا.

وقال أبو يعلى: حدثنا جعفر بن مهران، ثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا للنبي ﷺ وكان أبو عبيدة الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي كان يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: إذهب إلى أبي عبيدة.

وقال للآخر: إذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسولك.

قال: فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به، فلحد لرسول الله ﷺ فلما فرغ من جهاز رسول الله ﷺ يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده.

وقال قائل: ندفنه مع أصحابه.

فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض»

فرفع فراش رسول الله ﷺ الذي توفي فيه، فحفروا له تحته، ثم أدخل الناس على رسول الله ﷺ يصلون عليه أرسالا دخل الرجال حتى إذا فرغ منهم أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله ﷺ أحد، فدفن رسول الله ﷺ من أوسط الليل ليلة الأربعاء.

وهكذا رواه ابن ماجه عن نصر بن علي الجهضمي، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، فذكر بإسناده مثله، وزاد في آخره: ونزل في حفرته علي ابن أبي طالب، والفضل وقثم ابنا عباس، وشقران مولى رسول الله ﷺ.

قال أوس بن خولى - وهو أبو ليلى - لعلي ابن أبي طالب: أنشدك الله!وحظنا من رسول الله ﷺ قال له علي: إنزل، وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله ﷺ يلبسها فدفنها في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك!

فدفنت مع رسول الله ﷺ.

وقد رواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن ابن إسحاق مختصرا.

وكذلك رواه يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق به.

وروى الواقدي عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق، عن رسول الله ﷺ: «ما قبض الله نبيا إلا ودفن حيث قبض».

وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أو محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما مات رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه فقالوا: كيف ندفنه مع الناس، أو في بيوته؟

فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض الله نبيا إلا دفن حيث قبض» فدفن حيث كان فراشه، رفع الفراش وحفر تحته.

وقال الواقدي: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد - يعني: ابن يربوع - قال: لما توفي النبي ﷺ اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: في البقيع فقد كان يكثر الإستغفار لهم.

وقال قائل: عند منبره.

وقال قائل: في مصلاه.

فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي».

قال الحافظ البيهقي: وهو في حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وفي حديث ابن جريج عن أبيه، كلاهما عن أبي بكر الصديق، عن النبي ﷺ مرسلا.

وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب الصفة - قال: دخل أبو بكر على رسول الله ﷺ حين مات ثم خرج فقيل له: توفي رسول الله ﷺ؟

قال: نعم!فعلموا أنه كما قال.

وقيل له: أنصلي عليه، وكيف نصلي عليه؟

قال: تجيئون عصبا عصبا فتصلون، فعلموا أنه كما قال.

قالوا: هل يدفن، وأين؟

قال: حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أنه كما قال.

وروى البيهقي من حديث سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا وكان من أعبر الناس، قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجري.

فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض رسول الله ﷺ قال يا عائشة: هذا خير أقمارك.

ورواه مالك عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعا.

وفي الصحيحين عنها أنها قالت: توفي النبي ﷺ في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر ساعة من الدنيا وأول ساعة من الآخرة.

وفي صحيح البخاري من حديث أبي عوانة عن هلال الوراق، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.

وقال ابن ماجه: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا مبارك بن فضالة، حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان بالمدينة رجل يلحد، والآخر يضرح فقالوا: نستخير الله ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي ﷺ.

تفرد به ابن ماجه.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

وقال ابن ماجه أيضا: حدثنا عمر بن شبة عن عبيدة بن يزيد، ثنا عبيد بن طفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي مليكة، حدثني ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما مات رسول الله ﷺ اختلفوا في اللحد والشق حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم.

فقال عمر: لا تصخبوا عند رسول الله ﷺ حيا، ولا ميتا - أو كلمة نحوها - فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد جميعا، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله ﷺ ثم دفن.

تفرد به ابن ماجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا العمري عن نافع، عن ابن عمر، وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشه أن رسول الله ﷺ ألحد له لحد.

تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة وابن جعفر، ثنا شعبة، حدثني أبو حمزة عن ابن عباس قال: جعل في قبر النبي ﷺ قطيفة حمراء.

وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة به.

وقد رواه وكيع عن شعبة وقال وكيع: كان هذا خاصا برسول الله ﷺ.

رواه ابن عساكر.

وقال ابن سعد: أنبانا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن أن رسول الله ﷺ بسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها قال: وكانت أرضا ندية.

وقال هشيم بن منصور عن الحسن قال: جعل في قبر النبي ﷺ قطيفة حمراء كان أصابها يوم حنين.

قال الحسن: جعلها لأن المدينة أرض سبخة.

وقال محمد بن سعد: ثنا حماد بن خالد الخياط عن عقبة ابن أبي الصهباء سمعت الحسن يقول: قال رسول الله ﷺ: «إفرشوا لي قطيفة في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء».

وروى الحافظ البيهقي من حديث مسدد، ثنا عبد الواحد، ثنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي: غسلت النبي ﷺ فذهبت أنظر إلى ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا.

قال: وولي دفنه عليه الصلاة والسلام وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى النبي ﷺ، ولحد للنبي ﷺ لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا.

وذكر البيهقي عن بعضهم أنه نصب على لحده عليه السلام تسع لبنات.

وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عباس بن عبد الله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ موضوعا على سريره من حين زاغت الشمس من يوم الإثنين إلى أن زاغت الشمس يوم الثلاثاء يصلي الناس عليه، وسريره على شفير قبره، فلما أرادوا أن يقبروه عليه السلام نحوا السرير قبل رجليه فأدخل من هناك، ودخل في حفرته العباس، وعلي، وقثم، والفضل، وشقران.

وروى البيهقي من حديث إسماعيل السدي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: دخل قبر رسول الله ﷺ العباس، وعلي، والفضل، وسوى لحده رجل من الأنصار، وهو الذي سوى لحود قبور الشهداء يوم بدر.

قال ابن عساكر: صوابه يوم أحد.

وقد تقدم رواية ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان الذين نزلوا في قبر رسول الله: علي، والفضل، وقثم، وشقران، وذكر الخامس وهو أوس بن خولي، وذكر قصة القطيفة التي وضعها في القبر شقران.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو طاهر المحمد آبادي، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، ثنا سفيان بن سعيد - هو: الثوري عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: حدثني أبو مرحب قال: كأني أنظر إليهم في قبر النبي ﷺ أربعة، أحدهم عبد الرحمن بن عوف.

وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن الصباح، عن سفيان، عن إسماعيل ابن أبي خالد به.

ثم رواه أحمد بن يونس عن زهير، عن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني مرحب أو أبو مرحب أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف فلما فرغ علي قال: إنما يلي الرجل أهله، وهذا حديث غريب جدا، وإسناده جيد قوي، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد قال أبو عمر بن عبد البر في (استيعابه): أبو مرحب اسمه سويد بن قيس.

وذكر أبا مرحب آخر وقال: لا أعرف خبره.

قال ابن الأثير في (الغابة): فيحتمل أن يكون راوي هذا الحديث أحدهما، أو ثالثا غيرهما، ولله الحمد.

آخر الناس به عهدا عليه الصلاة والسلام

قال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن مولاه عبد الله بن الحارث قال: اعتمرت مع علي في زمان عمر أو زمان عثمان، فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع فسكبت له غسلا فاغتسل، فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا: يا أبا حسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه.

قال: أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله ﷺ.

قالوا: أجل!عن ذلك جئنا نسألك.

قال: أحدث الناس عهدا برسول الله ﷺ قثم بن عباس.

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقد رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به مثله سواء، إلا أنه قال قبله: عن ابن إسحاق قال: وكان المغيرة بن شعبة يقول: أخذت خاتمي فألقيته في قبر رسول الله ﷺ وقلت حين خرج القوم: إن خاتمي قد سقط في القبر، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله ﷺ فأكون آخر الناس عهدا به.

قال ابن إسحاق: فحدثني والدي إسحاق بن يسار عن مقسم، عن مولاه، عن عبد الله بن الحارث قال: اعتمرت مع علي، فذكر ما تقدم.

وهذا الذي ذكر عن المغيرة بن شعبة لا يقتضي أنه حصل له ما أمله، فإنه قد يكون علي رضي الله عنه لم يمكنه النزول في القبر، بل أمر غيره فناوله إياه، وعلى ما تقدم يكون الذي أمره بمناولته له: قثم بن عباس.

وقد قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر رسول الله ﷺ.

فقال علي: إنما ألقيته لتقول نزلت في قبر النبي ﷺ فنزل فأعطاه، أو أمر رجلا فأعطاه.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وأبو كامل قالا: ثنا حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني، عن أبي عسيب أو أبي غنم قال بهز: إنه شهد الصلاة على النبي ﷺ.

قالوا: كيف نصلي؟

قال: إدخلوا أرسالا، أرسالا فكانوا يدخلون من هذا الباب، فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر.

قال: فلما وضع في لحده قال المغيرة: قد بقي من رجليه شيء لم تصلحوه، قالوا: فادخل فأصلحه، فدخل وأدخل يده فمس قدميه عليه السلام.

فقال: أهيلوا علي التراب، فأهالوا عليه حتى بلغ إلى أنصاف ساقيه، ثم خرج فكان يقول أنا أحدثكم عهدا برسول الله ﷺ.

متى وقع دفنه عليه الصلاة والسلام

وقال يونس عن ابن إسحاق، حدثتني فاطمة بنت محمد - امرأة عبد الله ابن أبي بكر - وأدخلني عليها حتى سمعته منها عن عمرة، عن عائشة أنها قالت: ما علمنا بدفن النبي ﷺ حتى سمعنا صوة المساحي في جوف ليلة الأربعاء.

وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة عن الحليس بن هشام، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة قالت: بينا نحن مجتمعون نبكي لم ننم، ورسول الله ﷺ في بيوتنا، ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين في السحر قالت أم سلمة: فصحنا، وصاح أهل المسجد فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي ﷺ بكى وانتحب، فزادنا حزنا، وعالج الناس الدخول إلى قبره فغلق دونهم، فيالها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به ﷺ.

وقد روى الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء، وقد تقدم مثله في غير ما حديث وهو الذي نص عليه غير واحد من الأئمة سلفا وخلفا، منهم: سليمان بن طرخان التيمي، وجعفر بن محمد الصادق، وابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وغيرهم.

وقد روى يعقوب بن سفيان عن عبد الحميد، عن بكار، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعي أنه قال: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء.

وهكذا روى الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرت أن رسول الله ﷺ مات في الضحى يوم الإثنين، ودفن من الغد في الضحى.

وقال يعقوب: حدثنا سفيان، ثنا سعيد بن منصور، ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه وعن ابن جريج، عن أبي جعفر أن رسول الله توفي يوم الإثنين، فلبث ذلك اليوم وتلك الليلة، ويوم الثلاثاء إلى آخر النهار.

فهو قول غريب، والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه: من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء.

ومن الأقوال الغريبة في هذا أيضا: ما رواه يعقوب ابن سفيان عن عبد الحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، عن أبي النعمان، عن مكحول قال: ولد رسول الله يوم الإثنين، وأوحي إليه يوم الإثنين، وهاجر يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين لاثنتين وستين سنة ونصف، ومكث ثلاثة أيام لا يدفن، يدخل عليه الناس أرسالا أرسالا، يصلون لا يصفون ولا يؤمهم عليه أحد.

فقوله: إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريبا، والصحيح: أنه مكث بقية يوم الإثنين ويوم الثلاثاء بمكاله، ودفن ليلة الأربعاء كما قدمنا، والله أعلم.

وضده ما رواه سيف عن هشام، عن أبيه قال: توفي رسول الله يوم الإثنين، وغسل يوم الإثنين، ودفن ليلة الثلاثاء.

قال سيف: وحدثنا يحيى بن سعيد مرة بجميعه عن عائشة به، وهذا غريب جدا.

وقال الواقدي: حدثنا عبد الله بن جعفر عن ابن أبي عون، عن أبي عتيق، عن جابر بن عبد الله قال: رش على قبر النبي ﷺ الماء رشا، وكان الذي رشه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب بالماء إلى الجدار لم يقدر على أن يدور من الجدار.

وقال سعيد بن منصور عن الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله ابن أبي يمن، عن أم سلمة قالت: توفي رسول الله يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء.

وقال ابن خزيمة: حدثنا مسلم بن حماد عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء.

وقال الواقدي: حدثني أبي بن عياش بن سهل بن سعد، عن أبيه قال: توفي رسول الله ﷺ يوم الإثنين، ودفن ليلة الثلاثاء.

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا عن محمد بن سعد: توفي رسول الله يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول، ودفن يوم الثلاثاء.

وقال عبد الله بن محمد ابن أبي الدنيا: ثنا الحسن بن إسرائيل أبو محمد النهرتيري، ثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل ابن أبي خالد سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول: مات رسول الله ﷺ يوم الإثنين فلم يدفن إلا يوم الثلاثاء.

وهكذا قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر.

صفة قبره عليه الصلاة والسلام

قد علم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن بعده فيها أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما.

وقد قال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، ثنا أبو بكر ابن عياش عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي ﷺ مسنما، تفرد به البخاري.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك، أخبرني عمرو بن عثمان بن هاني عن القاسم قال: دخلت على عائشة وقلت لها: يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله ﷺ وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.

النبي ﷺ.

وأبو بكر رضي الله عنه.

وعمر رضي الله عنه.

تفرد به أبو داود.

وقد رواه الحاكم البيهقي من حديث ابن أبي فديك عن عمرو بن عثمان، عن القاسم قال: فرأيت النبي عليه السلام مقدما، وأبو بكر رأسه بين كتفي النبي ﷺ، وعمر رأسه عند رجل النبي ﷺ.

قال البيهقي: وهذه الرواية تدل على أن قبورهم مسطحة، لأن الحصباء لا تثبت إلا على المسطح، وهذا عجيب من البيهقي رحمه الله فإنه ليس في الرواية ذكر الحصباء بالكلية، وبتقدير ذلك فيمكن أن يكون مسنما وعليه الحصباء مغروزة بالطين ونحوه.

وقد روى الواقدي عن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: جعل قبر النبي ﷺ مسطحا.

وقال البخاري: ثنا فروة ابن أبي المغراء، ثنا علي بن مسهر عن هشام، عن عروة، عن أبيه قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه فبدت لهم قدم، ففزعوا فظنوا أنه قدم النبي ﷺ فما وجد واحد يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي ﷺ، ما هي إلا قدم عمر.

وعن هشام عن أبيه، عن عائشة أنها أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفني معهم، وادفني مع صواحبي بالبقيع، لا أزكى به أبدا.

قلت: كان الوليد بن عبد الملك حين ولي الإمارة في سنة ست وثمانين قد شرع في بناء جامع دمشق، وكتب إلى نائبه بالمدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يوسع في مسجد المدينة فوسعه، حتى من ناحية الشرق، فدخلت الحجرة النبوية فيه.

وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده: عن زاذان مولى الفرافصة - وهو الذي بنى المسجد النبوي أيام ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة - فذكر عن سالم بن عبد الله نحو ما ذكره البخاري، وحكى صفة القبور كما رواه أبو داود.

ما أصاب المسلمين من المصيبة بوفاته صلى الله عليه وسلم

قال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، ثنا ثابت عن أنس قال: لما ثقل النبي ﷺ جعل يتغشاه الكرب.

فقالت فاطمة: واكرب أبتاه.

فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم».

فلما مات قالت: واأبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.

فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟

تفرد به البخاري رحمه الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حماد بن زيد، ثنا ثابت البناني، قال أنس: فلما دفن النبي ﷺ قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله ﷺ في التراب ورجعتم.

وهكذا رواه ابن ماجه مختصرا من حديث حماد بن زيد به وعنده.

قال حماد: فكان ثابت إذا حدث بهذا الحديث بكى حتى تختلف أضلاعه.

وهذا لا يعد نياحة بل هو من باب ذكر فضائله الحق عليه أفضل الصلاة والسلام.

وإنما قلنا هذا: لأن رسول الله ﷺ نهى عن النياحة.

وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة سمعت قتادة، سمعت مطرفا يحدث عن حكيم بن قيس بن عاصم، عن أبيه فيما أوصى به إلى بنيه أنه قال: ولا تنوحوا علي فإن رسول الله ﷺ لم ينح عليه.

وقد رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في (النوادر) عن عمرو بن ميمون، عن شعبة به.

ثم رواه عن علي بن المديني عن المغيرة بن سلمة، عن الصعق بن حزن، عن القاسم بن مطيب، عن الحسن البصري، عن قيس بن عاصم به قال: لا تنوحوا علي، فإن رسول الله ﷺ لم ينح عليه، وقد سمعته ينهى عن النياحة.

ثم رواه عن علي، عن محمد بن الفضل، عن الصعق، عن القاسم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عاصم به.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا عقبة بن سنان، ثنا عثمان بن عثمان، ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ لم ينح عليه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا ثابت عن أنس قال: لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.

قال: وما نفضنا عن رسول الله ﷺ الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.

وهكذا رواه الترمذي، وابن ماجه جميعا عن بشر بن هلال الصواف، عن جعفر بن سليمان الضبعي به.

وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.

قلت: وإسناده على شرط الصحيحين، ومحفوظ من حديث جعفر بن سليمان، وقد أخرج له الجماعة رواه الناس عنه كذلك، وقد أغرب الكديمي - وهو محمد بن يونس - رحمه الله - في روايته له حيث قال: ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت، عن أنس قال: لما قبض رسول الله ﷺ أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها - أو لا يبصرها - وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، رواه البيهقي من طريقه كذلك.

وقد رواه من طريق غيره من الحفاظ عن أبي الوليد الطيالسي، كما قدمنا وهو المحفوظ، والله أعلم.

وقد روى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي حفص بن شاهين ثنا حسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، ثنا محمد بن يزيد الرواسي، ثنا سلمة بن علقمة عن داود ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: لما دخل رسول الله ﷺ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.

وقال ابن ماجه: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي عن ابن عون، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال: كنا مع رسول الله ﷺ وإنما وجهنا واحد، فلما قبض نظرنا هكذا وهكذا.

وقال أيضا: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا خالي محمد بن إبراهيم بن المطلب بن السائب ابن أبي وداعة السهمي، حدثني موسى بن عبد الله ابن أبي أمية المخزومي، حدثني مصعب بن عبد الله عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي ﷺ أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله ﷺ إذا قام المصلى يصلي، لم يعْد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله ﷺ وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعْد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفي أبو بكر، وكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعْد بصر أحدهم موضع القبلة، فتوفي عمر، وكان عثمان وكانت الفتنة فتلفت الناس يمينا وشمالا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد عن ثابت، عن أنس أن أم أيمن بكت لما قبض رسول الله ﷺ فقيل لها: ما يبكيك؟ على النبي ﷺ؟

فقالت: إني قد علمت أن رسول الله سيموت، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا، هكذا رواه مختصرا.

وقد قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن نعيم ومحمد بن النضر الجارودي قالا: ثنا الحسن بن علي الخولاني، ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال: ذهب رسول الله ﷺ إلى أم أيمن زائرا وذهبت معه، فقربت إليه شرابا فإما كان صائما وإما كان لا يريده، فرده، فأقبلت على رسول الله ﷺ تضاحكه.

فقال أبو بكر بعد وفاة النبي ﷺ لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها؛ فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك، ما عند الله خير لرسوله.

قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان.

ورواه مسلم منفردا به عن زهير بن حرب، عن عمرو بن عاصم به.

وقال موسى بن عقبة في قصة وفاة رسول الله ﷺ وخطبة أبي بكر فيها قال: ورجع الناس حين فرغ أبو بكر من الخطبة، وأم أيمن قاعدة تبكي فقيل لها: ما يبكيك، قد أكرم الله نبيه ﷺ فأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا.

فقالت: إنما أبكي على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع فعليه أبكي، فعجب الناس من قولها.

وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا أبو أسامة، حدثني يزيد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: «إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا يشهد لها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر إليها، فأقر عينه بهلكها حين كذبوه وعصوا أمره»

تفرد به مسلم إسنادا ومتنا.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا عبد الحميد بن عبد العزيز ابن أبي رواد عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله هو ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام».

قال: وقال رسول الله ﷺ «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم».

ثم قال البزار: لم نعرف آخره يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه.

قلت: وأما أوله وهو قوله عليه السلام: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام».

فقد رواه النسائي من طرق متعددة عن سفيان الثوري وعن الأعمش، كلاهما عن عبد الله بن السائب، عن أبيه به.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأسود الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي».

قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - يعني: قد بليت -؟

قال: «إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام».

وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله وعن الحسن بن علي والنسائي، عن إسحاق بن منصور، ثلاثتهم عن حسين بن علي به.

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حسين بن علي، عن جابر، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس فذكره.

قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وذلك وهم من ابن ماجه، والصحيح أوس بن أوس - وهو الثقفي رضي الله عنه.

قلت: وهو عندي في نسخة جيدة مشهورة على الصواب.

كما رواه أحمد، وأبو داود النسائي عن أوس بن أوس.

ثم قال ابن ماجه: حدثنا عمرو بن سواد المصري، ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: «أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لن يصل علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها».

قال: قلت: وبعد الموت؟

قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام، نبي الله حي ويرزق».

وهذا من أفراد ابن ماجه رحمه الله.

وقد عقد الحافظ ابن عساكر هاهنا بابا في إيراد الأحاديث المروية في زيارة قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وموضع استقصاء ذلك في كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.

ما ورد من التعزية به عليه الصلاة والسلام

قال ابن ماجه: حدثنا الوليد بن عمرو بن السكين، ثنا أبو همام - وهو محمد بن الزبرقان الأهوازي -، ثنا موسى بن عبيدة، ثنا مصعب بن محمد عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: فتح رسول الله ﷺ بابا بينه وبين الناس - أو كشف سترا - فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه فيهم بالذي رآهم فقال: «يا أيهما الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة أشد عليه من مصيبتي».

تفرد به ابن ماجه.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه، ثنا شافع بن محمد، ثنا أبو جعفر ابن سلامة الطحاوي، ثنا المزني، ثنا الشافعي عن القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رجالا من قريش دخلوا على أبيه علي بن الحسين فقال: ألا أحدثكم عن رسول الله ﷺ؟

قالوا: بلى!فحدثنا عن أبي القاسم.

قال: لما أن مرض رسول الله ﷺ أتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك، وتشريفا لك، وخاصة لك، أسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف نجدك؟

قال: «أجدني يا جبريل مغموما، وأجدني يا جبريل مكروبا».

ثم جاءه اليوم الثاني فقال له ذلك، فرد عليه النبي ﷺ كما رد أول يوم، ثم جاءه اليوم الثالث فقال له كما قال أول يوم، ورد عليه كما رد، وجاء معه ملك يقال له: (إسماعيل) على مائة ألف ملك كل ملك على مائة ألف ملك، فاستأذن عليه فسأل عنه، ثم قال جبريل: هذا ملك الموت يستأذن عليك ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك.

فقال عليه السلام: «إيذن به» فأذن له، فدخل فسلم عليه ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أتركه تركته.

فقال رسول الله: «أو تفعل يا ملك الموت؟»

قال: نعم، وبذلك أمرت وأمرت أن أطيعك.

قال: فنظر النبي ﷺ إلى جبريل فقال له جبريل: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك.

فقال رسول الله ﷺ لملك الموت: «إمض لما أمرت به» فقبض روحه.

فلما توفي النبي ﷺ وجاءت التعزية، سمعوا صوتا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب.

فقال علي رضي الله عنه: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام.

وهذا الحديث مرسلا وفي إسناده ضعف بحال القاسم العمري هذا، فإنه قد ضعفه غير واحد من الأئمة، وتركة بالكلية آخرون.

وقد رواه الربيع عن الشافعي، عن القاسم، عن جعفر، عن أبيه، عن جده فذكر منه قصة التعزية - فقط موصولا - وفي الإسناد العمري المذكور، قد نبهنا على أمره لئلا يغتر به.

على أنه قد رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن أبي جعفر البغدادي، حدثنا عبد الله بن الحارث أو عبد الرحمن بن المرتعد الصغاني، ثنا أبو الوليد المخزومي، ثنا أنس بن عياض عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: لما توفي رسول الله ﷺ عزتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص.

فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل فائت، ودركا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ثم قال البيهقي: هذان الإسنادان وإن كانا ضعيفان فأحدهما يتأكد بالآخر، ويدل على أن له أصلا من حديث جعفر، والله أعلم.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أنبأنا أبو بكر أحمد بن بالويه، ثنا محمد بن بشر بن مطر، ثنا كامل بن طلحة، ثنا عباد بن عبد الصمد عن أنس بن مالك قال: لما قبض رسول الله ﷺ أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله ﷺ فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلايا فانظروا، فإن المصاب من لم يجبر، فانصرف.

فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟

فقال أبو بكر وعلي: نعم!هذا أخو رسول الله ﷺ الخضر.

ثم قال البيهقي: عباد بن عبد الصمد ضعيف، وهذا منكر بمرة.

وقد روى الحارث ابن أبي أسامة عن محمد بن سعد، أنبأنا هشام بن القاسم، ثنا صالح المري عن أبي حازم المدني أن رسول الله حين قبضه الله عز وجل دخل المهاجرون فوجا فوجا يصلون عليه ويخرجون، ثم دخلت الأنصار على مثل ذلك، ثم دخل أهل المدينة حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء، فكان منهن صوت وجزع كبعض ما يكون منهن، فسمعن هزة في البيت فعرفن فسكتن فإذا قائل يقول: إن في الله عزاء من كل هالك، وعوض من كل مصيبة، وخلف من كل فائت، والمجبور من جبره الثواب، والمصاب من لم يجبره الثواب.

فصل فيما روي من معرفة أهل الكتاب بيوم وفاته عليه السلام

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنت باليمن فلقينا رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا عمرو، فجعلت أحدثهما عن رسول الله ﷺ قال: فقالا لي: إن كان ما تقول حقا فقد مضى صاحبك على أجله منذ ثلاث.

قال: فأقبلت وأقبلا، حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر والناس صالحون.

قال: فقالا لي: أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله عز وجل.

قال: ورجعنا إلى اليمن فلما أتينا أخبرت أبا بكر بحديثهم.

قال: أفلا جئت بهم، فلما كان بعد قال لي ذو عمرو: يا جرير إن لك علي كرامة وإني مخبرك خبرا، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، وإذا كانت بالسيف كنتم ملوكا تغضبون غضب الملوك، وترضون رضى الملوك.

هكذا رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي بكر ابن أبي شيبة.

وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان عنه.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا علي بن المتوكل، ثنا محمد بن يونس، ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، ثنا زائدة عن زياد بن علاقة، عن جرير قال: لقيني حبر باليمن وقال لي: إن كان صاحبكم نبيا، فقد مات يوم الإثنين، هكذا رواه البيهقي.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، ثنا زائدة، ثنا زياد بن علاقة عن جرير قال: قال لي حبر باليمن: إن كان صاحبكم نبيا فقد مات اليوم.

قال جرير: فمات يوم الإثنين.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشران المعدل ببغداد، أنبأنا أبو جعفر محمد بن عمرو، ثنا محمد بن الهيثم، ثنا سعيد ابن أبي كبير بن عفير بن كعب، حدثني عبد الحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي عن عمر بن الحارث بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن عمرو بن الحارث، عن ناعم بن أجيل، عن كعب بن عدي قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي ﷺ فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة فلم نلبث أن جاءتنا وفاة النبي ﷺ فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبيا لم يمت.

فقلت: قد مات الأنبياء قبله، وثبت على إسلامي، ثم خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه، فقلت له: أخبرني عن أمر أردته نفخ في صدري منه شيء.

فقال: إئت باسم من الأسماء، فأتيته بكعب فقال: ألقه في هذا السفر، لسفر أخرجه فألقيت الكعب فيه، فصفح فيه فإذا بصفة النبي ﷺ كما رأيته، وإذا هو يموت في الحين الذي مات فيه.

قال: فاشتدت بصيرتي في إيماني، وقدمت على أبي بكر رضي الله عنه فأعلمته وأقمت عنده، فوجهني إلى المقوقس فرجعت، ووجهني أيضا عمر بن الخطاب فقدمت عليه بكتابه، فأتيته وكانت وقعة اليرموك ولم أعلم بها، فقال لي: أعلمت أن الروم قتلت العرب وهزمتهم؟

فقلت: كلا.

قال: ولم؟

قلت: إن الله وعد نبيه أن يظهره على الدين كله وليس بمخلف الميعاد.

قال: فإن نبيكم قد صدقكم قتلت الروم والله قتل عاد.

قال: ثم سألني عن وجوه أصحاب رسول الله ﷺ فأخبرته، وأهدى إلى عمر وإليهم وكان ممن أهدى إليه علي، وعبد الرحمن، والزبير - وأحسبه ذكر العباس -.

قال كعب: وكنت شريكا لعمر في البز في الجاهلية، فلما أن فرض الديوان فرض لي في بني عدي بن كعب، وهذا أثر غريب وفيه نبأ عجيب، وهو صحيح.

فصل ارتداد العرب بوفاته صلى الله عليه وسلم

قال محمد بن إسحاق: ولما توفي رسول الله ﷺ ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله عنه.

قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله ﷺ هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد رضي الله عنه فتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله ﷺ وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد.

فهذا المقام الذي أراد رسول الله ﷺ في قوله لعمر بن الخطاب - يعني: حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في الأسارى يوم بدر - إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمنه.

قلت: وسيأتي عما قريب إن شاء الله ذكر ما وقع بعد وفاة رسول الله ﷺ من الردة في أحياء كثيرة من العرب، وما كان من أمر مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وما كان من أمر الناس حتى فاءوا ورجعوا إلى الله تائبين نازعين عما كانوا عليه في حال ردتهم من السفاهة والجهل العظيم، الذي استفزهم الشيطان به، حتى نصرهم الله وثبتهم وردهم إلى دينه الحق على يدي الخليفة الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كما سيأتي مبسوطا مبينا مشروحا، إن شاء الله.

فصل قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقد ذكر ابن إسحاق وغيره قصائد لحسان بن ثابت رضي الله عنه في وفاة رسول الله ﷺ ومن أجل ذلك وأفصحه وأعظمه ما رواه عبد الملك بن هشام رحمه الله عن أبي زيد الأنصاري أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال يبكي رسول الله ﷺ:

بطيبة رسم للرسول ومعهد * منير وقد تعفو الرسوم وتمهد

ولا تمتحى الآيات من دار حرمة * بها منبر الهادي الذي كان يصعد

وواضح آيات وباقي معالم * وربع له فيه مصلى ومسْجد

بها حجرات كان ينزل وسْطها * من الله نور يستضاء ويوقد

معارف لم تطمسْ على العهْد آيها * أتاها البلا فالآي منها تجدد

عرفت بها رسْم الرسول وعهده * وقبرا بها واراه في الترب ملحد

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدتْ * عيون ومثلاها من الجن تسعد

يذكرن آلاء الرسول ولا أرى * لها محصيا نفسي فنفسي تبلد

مفجعة قد شفها فقد أحمد * فظلت لآلاء الرسول تعدد

وما بلغتْ منْ كل أمر عشيره * ولكن لنفْسي بعد ما قدْ توجد

أطالتْ وقوفا تذرف العين جهدها * على طلل القبر الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر الرسول وبوركتْ * بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد

تهيل عليه الترب أيد وأعين * عليه الترْب وقد غارتْ بذلك أسعد

لقدْ غيبوا حلما وعلما ورحمة * عشية علوه الثرى لا يوسد

وراحوا بحزن ليس فيهمْ نبيهمْ * وقد وهنتْ منهمْ ظهور وأعضد

ويبكون منْ تبكي السموات يومه * ومن قدْ بكته الأرض فالناس أكمد

وهلْ عدلتْ يوما رزية هالك * رزية يوم مات فيه محمد

تقطع فيه منزل الوحي عنهم * وقد كان ذا نور يغور وينجد

يدل على الرحمن من يقتدي به * وينقذ منْ هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهدا * معلم صدق إنْ يطيعوه يسعدوا

عفو عن الزلات يقبل عذرهمْ * وإنْ يحسنوا فالله بالخير أجود

وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله * فمن عنده تيسير ما يتشدد

فبيناهمْ في نعمة الله وسطهمْ * دليل به نهج الطريقة يقصد

عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى * حريص على أنْ يستقيموا ويهتدوا

عطوف عليهم لا يثنى جناحه * إلى كنف يحنو عليهمْ ويمهد

فبيناهمْ في ذلك النور إذْ غدا * إلى نورهمْ منهمْ من الموت مقصد

فأصبح محمودا إلى الله راجعا * يبكيه جفن المرسلات ويحمد

وأمستْ بلاد الحرم وحشا بقاعها * لغيبة ما كانتْ من الوحي تعهد

قفارا سوى معمورة اللحد ضافها * فقيد يبكيه بلاط وغرقد

ومسجده فالموحشات لفقده * خلاء له فيها مقام ومقعد

وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشتْ * ديار وعرصات وربع ومولد

فبكي رسول الله يا عين عبرة * ولا أعْرفنك الدهر دمعك يجمد

ومالك لا تبكين ذا النعمة التي * على الناس منها سابغ يتغمد

فجودي عليه بالدموع وأعولي * لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد

وما فقد الماضون مثل محمد * ولا مثله حتى القيامة يفقد

أعف وأوفى ذمة بعد ذمة * وأقرب منه نائلا لا ينكد

وأبذل منه للطريف وتالد * إذا ضن معطاء بما كان يتلد

وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى * وأكرم جدا أبطحيا يسود

وأمنع ذروات وأثبت في العلا * دعائم عز شاهقات تشيد

وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا * وعودا غذاه المزن فالعود أغيد

رباه وليدا فاستتمْ بتمامه * على أكرم الخيرات رب ممجد

تناهتْ وصاة المسلمين بكفه * فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند

أقول ولا يلفي لما قلت عائب * من الناس إلا عازب القول مبعد

وليس هوائي نازعا عن ثنائه * لعلي به في جنة الخلد مبعد

مع المصطفى أرجو بذاك جواره * وفي نيل ذاك اليوم أسْعى وأجهد

وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في آخر كتابه (الروض)، وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يبكي رسول الله ﷺ:

أرقت فبات ليلي لا يزول * وليل أخي المصيبة فيه طول

وأسعدني البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل

لقدْ عظمتْ مصيبتنا وجلتْ * عشية قيل قدْ قبض الرسول

وأضْحتْ أرضنا مما عراها * تكاد بنا جوانبها تميل

فقدْنا الوحي والتنزيل فينا * يروح به ويغدو جبرئيل

وذاك أحق ما سالتْ عليه * نفوس الناس أو كربتْ تسيل

نبي كان يجلو الشك عنا * بما يوحى إليه وما يقول

ويهدينا فلا نخشى ضلالا * علينا والرسول لنا دليل

أفاطم إنْ جزعت فذاك عذر * وإنْ لم تجزعي ذاك السبيل

فقبر أبيك سيد كل قبر * وفيه سيد الناس الرسول

باب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم

بيان أن النبي ﷺ لم يترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا شيئا يورث عنه، بل أرضا جعلها كلها صدقة لله عز وجل.

فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده كما هي عند الله من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثا صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.

قال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.

انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه في أماكن من صحيحه من طرق متعددة عن أبي الأحوص، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية.

ورواه الترمذي من حديث إسرائيل، والنسائي أيضا من حديث يونس ابن أبي إسحاق، كلهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق ابن أبي ضرار أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما به.

وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش وابن نمير عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا أوصى بشيء.

وهكذا رواه مسلم منفردا به عن البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش، عن شقيق بن سلمة أبي وائل، عن مسروق بن الأجدع، عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وأرضاها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا أمة، ولا عبدا، ولا شاة، ولا بعيرا.

وحدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا.

قال سفيان: وأكثر علمي وأشك في العبد والأمة.

وهكذا رواه الترمذي في (الشمائل) عن بندار، عن عبد الرحمن بن مهدي به.

قال الإمام أحمد: وحدثنا وكيع، ثنا مسعر عن عاصم ابن أبي النجود، عن زر، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا.

هكذا رواه الإمام أحمد من غير شك.

وقد رواه البيهقي عن أبي زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأنا جعفر بن عون، أنبأنا مسعر عن عاصم، عن زر قال: قالت عائشة: تسألوني عن ميراث رسول الله ﷺ ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة.

قال مسعر: أراه قال: ولا شاة ولا بعيرا.

قال: وأنبأنا مسعر عن عدي بن ثابت، عن علي بن الحسين قال: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله ﷺ اشترى طعاما من يهودي إلى أجل، ورهنه درعا من حديد.

وفي لفظ للبخاري رواه عن قبيصة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين.

ورواه البيهقي من حديث يزيد بن هارون عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عنها قالت: توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة بثلاثين صاعا من شعير.

ثم قال: رواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان.

ثم قال البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أبو بكر محمد بن حمويه العسكري، ثنا جعفر بن محمد القلانسي، ثنا آدم، ثنا شيبان عن قتادة، عن أنس قال: لقد دعي رسول الله ﷺ على خبز شعير، وإهالة سنخة.

قال أنس: ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع بر، ولا صاع تمر».

وإن له يومئذ تسع نسوة، ولقد رهن درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه طعاما فما وجد ما يفتكها به حتى مات ﷺ.

وقد روى ابن ماجه بعضه من حديث شيبان بن عبد الرحمن النحوي عن قتادة به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ نظر إلى أحد فقال: «والذي نفسي بيده ما يسرني أحدا لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران إلا أن أرصدهما لدين».

قال: فمات فما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، فترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير.

وقد روى آخره ابن ماجه عن عبد الله بن معاوية الجمحي، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي به، ولأوله شاهد في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، وأبو سعيد، وعفان قالوا: حدثنا ثابت - هو ابن يزيد - ثنا هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا.

فقال: «مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها».

تفرد به أحمد وإسناده جيد، وله شاهد من حديث ابن عباس عن عمر في المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ، وقصة الإيلاء، وسيأتي الحديث مع غيره مما شاكله في بيان زهده عليه السلام، وتركه الدنيا وإعراضه عنها، وإطراحه لها، وهو مما يدل على ما قلناه من أنه عليه السلام لم تكن الدنيا عنده ببال.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، ثنا عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال ابن عباس: ما ترك رسول الله ﷺ إلا ما بين هذين اللوحين.

قال: ودخلنا على محمد بن علي فقال مثل ذلك.

وهكذا رواه البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة به.

وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، ثنا مالك بن مغول عن طلحة قال: سألت عبد الله ابن أبي أوفى أأوصى النبي ﷺ؟

فقال: لا!

فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بها؟

قال: أوصى بكتاب الله عز وجل.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن مالك بن مغول به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول.

تنبيه: قد ورد أحاديث كثيرة سنوردها قريبا بعد هذا الفصل في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء، وعبيد، وخيول، وإبل، وغنم، وسلاح، وبغلة، وحمار، وثياب، وأثاث، وخاتم، وغير ذلك مما سنوضحه بطرقه ودلائله، فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، على ما سنبينه إن شاء الله، إلا أنه لم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه قطعا، لما سنذكره قريبا، وبالله المستعان.

باب بيان أنه عليه السلام قال: «لا نورث»

قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به وقال مرة: قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يقتسم ورثتي دينارا، ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عامي فهو صدقة».

وقد رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، من طرق، عن مالك بن أنس عن أبي الزناد عبد الله ابن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة».

لفظ البخاري، ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي ﷺ حين توفي رسول الله ﷺ أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر ليسألنه ميراثهن فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة؟»

وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن مالك به، فهذه إحدى النساء الوارثات إن لو قدر ميراث - قد اعترفت أن رسول الله ﷺ جعل ما تركه صدقة لا ميراثا، والظاهر أن بقية أمهات المؤمنين وافقنها على ما روت، وتذكرن ما قالت لهن من ذلك، فإن عبارتها تؤذن بأن هذا أمر مقرر عندهن، والله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، ثنا عبد الله بن المبارك عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة».

وقال البخاري - باب قول رسول الله: «لا نورث ما تركنا صدقة»: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام، أنبأنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله ﷺ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر.

فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال».

قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله ﷺ يصنعه فيه إلا صنعته.

قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر.

ثم رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ميراثها مما ترك مما أفاء الله عليه.

فقال لها أبو بكر: إن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.

قال: وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله ﷺ ستة أشهر، وذكر تمام الحديث هكذا قال الإمام أحمد.

وقد روى البخاري هذا الحديث في كتاب (المغازي) من صحيحه عن ابن أبي بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما تقدم، وزاد: فلما توفيت دفنها علي ليلا، ولم يؤذن أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: إيتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك.

قال أبو بكر: وما عسى أن يصنعوا بي؟ والله لآتينهم.

فانطلق أبو بكر رضي الله عنه وقال: إنا قد عرفنا فضلك، وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله ﷺ أن لنا في هذا الأمر نصيبا.

فلم يزل علي يذكر حتى بكى أبو بكر رضي الله عنه.

وقال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بينكم في هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمرا صنعه رسول الله ﷺ إلا صنعته، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه الظهر رقي على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر به، وتشهد علي رضي الله عنه فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ثم قام إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه، فأقبل الناس على علي فقالوا: أحسنت وكان الناس إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف.

وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من طرق متعددة عن الزهري، عن عروة، عن عائشة بنحوه.

فهذه البيعة التي وقعت من علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بيعة مؤكدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولا يوم السقيفة كما رواه ابن خزيمة، وصححه مسلم بن الحجاج، ولم يكن علي مجانبا لأبي بكر هذه الستة الأشهر بل كان يصلي وراءه، ويحضر عنده للمشورة، وركب معه إلى ذي القصة، كما سيأتي.

وفي صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه صلى العصر بعد وفاة رسول الله ﷺ بليال، ثم خرج من المسجد، فوجد الحسن بن علي يلعب مع الغلمان فاحتمله على كاهله وجعل يقول: يا بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي، وعلي يضحك، ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليا لم يبايع قبلها فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي، كما تقدم وكما تقرر، والله أعلم.

وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله ﷺ أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث كما خفي على أزواج النبي ﷺ حتى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقنها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد ابن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريبا، ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته، والانقياد له في ذلك.

وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثا، أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله ﷺ فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله ﷺ، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: وإني والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله ﷺ إلا صنعته قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت، وهذا الهجران والحالة هذه فتح على الفرقة الرافضة شرا عريضا وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله.

بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك

قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن خبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك فانطلقت حتى دخلت عليه فسألته فقال: انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفا.

فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد؟

قال: نعم!فأذن لهم.

ثم قال: هل لك في علي وعباس؟

قال: نعم!

قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا.

قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعملون أن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة؟» يريد رسول الله ﷺ نفسه؟

قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل على علي، وعباس فقال: هل تعلمان أن رسول الله ﷺ قد قال ذلك؟

قالا: قد قال ذلك.

قال عمر بن الخطاب: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان قد خص لرسول الله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره قال: { وما أفاء الله على رسوله } [53] إلى قوله { قدير } فكانت خالصة لرسول الله ﷺ والله ما احتازها دونكم، ولا استأثرها عليكم، لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله ﷺ ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟

قالوا: نعم.

ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟

قالا: نعم!فتوفى الله نبيه فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا ولي رسول الله ﷺ فقبضها، فعمل بما عمل به رسول الله ﷺ ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولي ولي رسول الله ﷺ فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله ﷺ وأبو بكر، ثم جئتماني كلمتكما واحدة وأمركما جميع حتى جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا ليسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلي، فأنا أكفيكماها.

وقد رواه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن الزهري به.

وفي رواية في الصحيحين فقال عمر: فوليها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله ﷺ والله يعلم أنه صادق بار، راشد، تابع للحق، ثم وليتها فعملت فيها بما عمل رسول الله ﷺ وأبو بكر، والله يعلم إني صادق، بار، راشد، تابع للحق، ثم جئتماني فدفعتها إليكما لتعملا فيها بما عمل رسول الله، وأبو بكر، وعملت فيها أنا أنشدكم بالله أدفعتها إليهم بذلك؟

قالوا: نعم!

ثم قال لهما: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟

قالا: نعم.

قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك!لا والذي بإذنه تقوم السماء والأرض.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد: نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض بأمره أعلمتم أن رسول الله ﷺ قال: «لا نورث ما تركنا صدقة؟»

قالوا: نعم.

على شرط الصحيحين.

قلت: وكان الذي سألاه - بعد تفويض النظر إليهم والله أعلم - هو أن يقسم بينهما النظر فيجعل لكل واحد منهما نظر ما كان يستحقه بالأرض لو قدر أنه كان وارثا، وكأنهما قدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وابن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد، وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة بسبب إشاعة النظر بينهما.

فقالت الصحابة الذين قدموهم بين أيديهما: يا أمير المؤمنين إقض بينهما، أو أرح أحدهما من الآخر، فكأن عمر رضي الله عنه تحرج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ولو في الصورة الظاهرة محافظة على امتثال قوله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة» فامتنع عليهم كلهم وأبى ذلك أشد الإباء رضي الله عنه وأرضاه ثم إن عليا، والعباس استمرا على ما كانا عليه ينظران فيها جميعا إلى زمان عثمان بن عفان، فغلبه عليها علي وتركها له العباس بإشارة ابنه عبد الله رضي الله عنهما بين يدي عثمان.

كما رواه أحمد في مسنده، فاستمرت في أيدي العلويين، وقد تقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإني ولله الحمد جمعت لكل واحد منهما مجلدا ضخما مما رواه عن رسول الله ﷺ، ورآه من الفقه النافع الصحيح، ورتبته على أبواب الفقه المصطلح عليها اليوم، وقد روينا أن فاطمة رضي الله عنها احتجت أولا بالقياس وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها رضي الله عنها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟

قال: ولدي وأهلي.

قالت: فما لنا لا نرث رسول الله ﷺ؟

فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن النبي لا يورث» ولكني أعول من كان رسول الله ﷺ يعول، وأنفق على من كان رسول الله ﷺ ينفق.

وقد رواه الترمذي في جامعه عن محمد بن المثنى، عن أبو الوليد الطيالسي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فذكره بوصل الحديث.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله ﷺ أرسلت فاطمة إلى أبي بكر أأنت ورثت رسول الله ﷺ أم أهله؟

فقال: لا بل أهله.

فقالت: فأين سهم رسول الله ﷺ؟

فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله إذا أطعم نبيا طعمة، ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده» فرأيت أن أرده على المسلمين.

قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله ﷺ.

وهكذا رواه أبو داود عن عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل به، ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله ﷺ، وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسيادتها، وعلمها، ودينها رضي الله عنها.

وكأنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظرا على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فتعتبت عليه بسبب ذلك وهي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله ﷺ ومخالفة أبي بكر الصديق رضي الله عنها.

وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه تـرضا فاطمة وتلاينها قبل موتها، فرضيت رضي الله عنها.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا عبدان بن عثمان العتكي بنيسابور، أنبأنا أبو حمزة عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟

فقالت: أتحب أن آذن له؟

قال: نعم!

فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت.

وهذا إسناد جيد قوي، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي، وقد اعترف علماء أهل البيت بصحة ما حكم به أبو بكر في ذلك.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا محمد ابن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا نصر بن علي، ثنا ابن داود عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك.

فصل النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث

وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: { وورث سليْمان داود } الآية [54].

وحيث قال تعالى: إخبارا عن زكريا أنه قال: { فهبْ لي منْ لدنْك وليا * يرثني ويرث منْ آل يعْقوب واجْعلْه رب رضيا } [55].

واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن قوله: { وورث سليْمان داود } إنما يعني بذلك في الملك والنبوة أي: جعلناه قائما بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبيا كريما كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة، كذلك جعل ولده بعده، وليس المراد بهذا وراثة المال، لأن داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال: مائة، فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال، إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك، ولهذا قال: { وورث سليْمان داود }.

وقال { ياأيها الناس علمْنا منْطق الطيْر وأوتينا منْ كل شيْء إن هذا لهو الْفضْل الْمبين } [56] وما بعدها من الآيات.

وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا (التفسير) بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة كثيرا.

وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولدا ليرثه في ماله كيف؟ وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده كما رواه البخاري، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدا يرث عنه ماله أن لو كان له مال وإنما سأل ولدا صالحا يرثه في النبوة والقيام بمصالح بني إسرائيل، وحملهم على السداد.

ولهذا قال تعالى: { كهيعص * ذكْر رحْمة ربك عبْده زكريا * إذْ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن الْعظْم مني واشْتعل الرأْس شيْبا ولمْ أكنْ بدعائك رب شقيا * وإني خفْت الْموالي منْ ورائي وكانت امْرأتي عاقرا فهبْ لي منْ لدنْك وليا * يرثني ويرث منْ آل يعْقوب واجْعلْه رب رضيا } القصة بتمامها. [57].

فقال: { وليا * يرثني ويرث منْ آل يعْقوب } يعني: النبوة، كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.

وقد تقدم في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، عن أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال: «النبي لا يورث».

وهذا اسم جنس يعم كل الأنبياء.

وقد حسنه الترمذي.

وفي الحديث الآخر: «نحن معشر الأنبياء لا نورث».

والوجه الثاني: أن رسول الله ﷺ قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها، كما سنعقد له بابا مفردا في آخر السيرة إن شاء الله، فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الأئمة الأربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي مبينا لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه.

والثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث، والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا.

فإنه قال: «لا نورث ما تركناه صدقة» إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام: «ما تركنا صدقة» أن يكون خبرا عن حكمه أو حكم سائر الأنبياء معه، على ما تقدم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة، والاحتمال الأول أظهر وهو الذي سلكه الجمهور.

وقد يقوي المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا تقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة».

وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: ما تركنا صدقة بالنصب، جعل - ما - نافية، فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله: لا نورث؟!.

وبهذه الرواية: «ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» وما شأن هذا إلا كما حكي عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة «وكلم الله موسى تكليما» بنصب الجلالة فقال له الشيخ: ويحك كيف تصنع بقوله تعالى: «فلما جاء موسى لميقاتنا فكلمه ربه».

والمقصود: أنه يجب العمل بقوله ﷺ: «لا نورث ما تركنا صدقة» على كل تقدير احتمله اللفظ، والمعنى فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له عليه السلام منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام.

باب زوجاته وأولاده صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى: { يانساء النبي لسْتن كأحد من النساء إن اتقيْتن فلا تخْضعْن بالْقوْل فيطْمع الذي في قلْبه مرض وقلْن قوْلا معْروفا * وقرْن في بيوتكن ولا تبرجْن تبرج الْجاهلية الْأولى وأقمْن الصلاة وآتين الزكاة وأطعْن الله ورسوله إنما يريد الله ليذْهب عنْكم الرجْس أهْل الْبيْت ويطهركمْ تطْهيرا * واذْكرْن ما يتْلى في بيوتكن منْ آيات الله والْحكْمة إن الله كان لطيفا خبيرا }. [58].

لا خلاف أنه عليه السلام توفي عن تسع وهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق التيمية، وحفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، وزينب بنت جحش الأسدية، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وسودة بنت زمعة العامرية، وجويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب النضرية الإسرائيلية الهارونية رضي الله عنهن أرضاهن.

وكانت له سريتان وهما: مارية بنت شمعون القبطية المصرية من كورة أنصنا، - وهي أم ولده إبراهيم عليه السلام وريحانة بنت شمعون القرظية أسلمت ثم أعتقها فلحقت بأهلها.

ومن الناس من يزعم أنها احتجبت عندهم، والله أعلم.

وأما الكلام على ذلك مفصلا ومرتبا من حيث ما وقع أولا فأولا مجموعا من كلام الأئمة رحمهم الله فنقول، وبالله المستعان.

روى الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي من طريق سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة قال: تزوج رسول الله ﷺ بخمس عشرة امرأة، دخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع، ثم ذكر هؤلاء التسع اللاتي ذكرناهن رضي الله عنهن.

ورواه سيف بن عمر عن سعيد، عن قتادة عن أنس، والأول أصح.

ورواه سيف بن عمر التميمي عن سعيد، عن قتادة، عن أنس وابن عباس مثله.

وروي عن سعيد بن عبد الله، عن عبد الله ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله.

قالت: فالمرأتان اللتان لم يدخل بهما فهما: عمرة بنت يزيد الغفارية، والشنباء.

فأما عمرة: فإنه خلا بها وجردها فرأى بها وضحا فردها، وأوجب لها الصداق، وحرمت على غيره.

وأما الشنباء: فلما أدخلت عليه لم تكن يسيرة، فتركها ينتظر بها اليسر، فلما مات ابنه إبراهيم على بغتة ذلك قالت: لو كان نبيا لم يمت ابنه فطلقها وأوجب لها الصداق، وحرمت على غيره.

قالت: فاللاتي اجتمعن عنده: عائشة، وسودة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وزينب بنت جحش، وزينب بنت خزيمة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم شريك.

قلت: وفي صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يطوف على نسائه، وهن إحدى عشرة امرأة.

والمشهور: أن أم شريك لم يدخل بها كما سيأتي بيانه، ولكن المراد بالإحدى عشرة اللاتي كان يطوف عليهن التسع المذكورات، والجاريتان: مارية وريحانة.

وروى يعقوب بن سفيان الفسوي عن الحجاج ابن أبي منيع، عن جده عبيد الله ابن أبي زياد الرصافي، عن الزهري - وقد علقه البخاري في صحيحه عن الحجاج هذا - وأورد له الحافظ ابن عساكر طرفا عنه أن أول امرأة تزوجها رسول الله ﷺ خديجة بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، زوجه إياها أبوها قبل البعثة.

وفي رواية قال الزهري: وكان عمر رسول الله ﷺ يوم تزوج خديجة إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمسا وعشرين سنة زمان بنيت الكعبة.

وقال الواقدي وزاد: ولها خمس وأربعون سنة.

وقال آخرون من أهل العلم: كان عمره عليه السلام يومئذ ثلاثين سنة.

وعن حكيم بن حزام قال: كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة.

وعن ابن عباس كان عمرها ثمانيا وعشرين سنة، رواهما ابن عساكر.

وقال ابن جريج: كان عليه السلام ابن سبع وثلاثين سنة، فولدت له القاسم وبه كان يكنى، والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.

قلت: وهي أم أولاده كلهم سوى إبراهيم فمن مارية، كما سيأتي بيانه.

ثم تكلم على كل بنت من بنات رسول الله ﷺ ومن تزوجها.

وحاصله:

أن زينب تزوجها العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو ابن أخت خديجة، أمه هالة بنت خويلد، فولدت له ابنا اسمه: علي، وبنتا اسمها: إمامة بنت زينب، وقد تزوجها علي ابن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ومات وهي عنده، ثم تزوجت بعده المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

وأما رقية: فتزوجها عثمان بن عفان، فولدت له ابنه عبد الله وبه كان يكنى أولا، ثم اكتنى بابنه عمرو، وماتت رقية ورسول الله ﷺ ببدر، ولما قدم زيد بن حارثة بالبشارة وجدهم قد ساووا التراب عليها، وكان عثمان قد أقام عندها يمرضها، فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره، ثم زوجه بأختها أم كلثوم ولهذا كان يقال له: ذو النورين، فتوفيت عنده أيضا في حياة رسول الله ﷺ.

وأما فاطمة: فتزوجها ابن عمه علي ابن أبي طالب بن عبد المطلب، فدخل بها بعد وقعة بدر، كما قدمنا فولدت له حسنا وبه كان يكنى، وحسينا وهو المقتول شهيدا بأرض العراق.

قلت: ويقال: ومحسنا قال: وزينب وأم كلثوم، وقد تزوج زينب هذه ابن عمها عبد الله بن جعفر، فولدت له عليا وعونا وماتت عنده، وأما أم كلثوم: فتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فولدت له زيدا ومات عنها، فتزوجت بعده ببني عمها جعفر واحدا بعد واحد، تزوجت بعون بن جعفر فمات، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فخلف عليها أخوهما عبد الله بن جعفر، فماتت عنده.

قال الزهري: وقد كانت خديجة بنت خويلد تزوجت قبل رسول الله ﷺ برجلين، الأول منهما: عتيق بن عابد بن مخزوم، فولدت منه جارية وهي: أم محمد بن صيفي، والثاني: أبو هالة التميمي، فولدت له هند بن هند.

وقد سماه ابن إسحاق فقال: ثم خلف عليها بعد هلاك عابد، أبو هالة النباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم حليف بني عبد الدار، فولدت له رجلا وامرأة ثم هلك عنها، فخلف عليها رسول الله ﷺ فولدت له بناته الأربع، ثم بعدهن القاسم والطيب والطاهر، فذهب الغلمة جميعا وهم يرضعون.

قلت: ولم يتزوج عليها رسول الله ﷺ مدة حياتها امرأة، كذلك رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت ذلك، وقد قدمنا تزويجها في موضعه، وذكرنا شيئا من فضائلها بدلائلها.

قال الزهري: ثم تزوج رسول الله ﷺ بعد خديجة بعائشة بنت أبي بكر عبد الله ابن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ولم يتزوج بكرا غيرها.

قلت: ولم يولد له منها ولد وقيل: بل أسقطت منه ولدا سماه رسول الله ﷺ: عبد الله، ولهذا كانت تكنى: بأم عبد الله، وقيل: إنما كانت تكنى بعبد الله ابن أختها أسماء من الزبير بن العوام رضي الله عنهم.

قلت: وقد قيل: إنه تزوج سودة قبل عائشة، قاله ابن إسحاق وغيره كما قدمنا ذكر الخلاف في ذلك، فالله أعلم.

وقد قدمنا صفة تزويجه عليه السلام بهما قبل الهجرة، وتأخر دخوله بعائشة إلى ما بعد الهجرة.

قال: وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، مات عنها مؤمنا.

قال: وتزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت قبله تحت ابن عمها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

قال: وتزوج سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو بن عبد شمس، مات عنها مسلما بعد رجوعه وإياها من أرض الحبشة إلى مكة رضي الله عنهما.

قال: وتزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش بن رئاب من بني أسد بن خزيمة، مات بأرض الحبشة نصرانيا، بعث إليها رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى أرض الحبشة فخطبها عليه، فزوجها منه عثمان بن عفان كذا قال، والصواب: عثمان ابن أبي العاص، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وقد قدمنا ذلك كله مطولا ولله الحمد.

قال: وتزوج زينب بنت جحش بن رئاب بن أسد بن خزيمة، وأمها: أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ، وكانت قبله تحت زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام وهي أول نسائه لحوقا به، وأول من عمل عليها النعش صنعته أسماء بنت عميس عليها، كما رأت ذلك بأرض الحبشة.

قال: وتزوج زينب بنت خزيمة، وهي من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، ويقال لها: أم المساكين، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش بن رئاب قتل يوم أحد، فلم تلبث عنده عليه السلام إلا يسيرا حتى توفيت رضي الله عنها.

وقال يونس عن محمد بن إسحاق: كانت قبله عند الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، أو عند أخيه الطفيل بن الحارث.

قال الزهري: وتزوج رسول الله ﷺ ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة قال: وهي التي وهبت نفسها.

قلت الصحيح: أنه خطبها وكان السفير بينهما أبو رافع مولاه، كما بسطنا ذلك في عمرة القضاء.

قال الزهري: وقد تزوجت قبله رجلين، أولهما: ابن عبد ياليل، وقال: سيف بن عمر في روايته كانت تحت عمير بن عمرو أحد بني عقدة بن ثقيف بن عمرو الثقفي مات عنها، ثم خلف عليها أبو رهم ابن عبد العزى ابن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.

قال: وسبى رسول الله ﷺ جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن الحارث بن عامر بن مالك بن المصطلق من خزاعة يوم المريسيع، فأعتقها وتزوجها ويقال: بل قدم أبوها الحارث وكان ملك خزاعة فأسلم ثم تزوجها منه، وكانت قبله عند ابن عمها صفوان ابن أبي السفر.

قال قتادة عن سعيد بن المسيب، والشعبي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم قالوا: وكان هذا البطن من خزاعة حلفاء لأبي سفيان على رسول الله ﷺ ولهذا يقول حسان:

وحلْف الحارث ابن أبي ضرار * وحلْف قريظة فيكم سواء.

وقال سيف بن عمر في روايته عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: وكانت جويرية تحت ابن عمها مالك بن صفوان بن تولب ذي الشفر ابن أبي السرح بن مالك بن المصطلق.

قال: وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير يوم خيبر وهي عروس بكنانة ابن أبي الحقيق، وقد زعم سيف بن عمر في روايته أنها كانت قبل كنانة عند سلام بن مشكم، فالله أعلم.

قال: فهذه إحدى عشرة امرأة دخل بهن.

قال: وقد قسم عمر بن الخطاب في خلافته لكل امرأة من أزواج النبي ﷺ اثنا عشر ألفا، وأعطى جويرية وصفية ستة آلاف ستة آلاف بسبب أنهما سبيتا.

قال الزهري: وقد حجبهما رسول الله ﷺ وقسم لهما.

قلت: وقد بسطنا الكلام فيما تقدم في تزويجه عليه السلام كل واحدة من هذه النسوة رضي الله عنهن في موضعه.

قال الزهري: وقد تزوج العالية بنت ظبيان بن عمرو من بني بكر بن كلاب ودخل بها وطلقها.

قال البيهقي: كذا في كتابي وفي رواية غيره ولم يدخل بها، فطلقها.

وقد قال محمد بن سعد عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي: حدثني رجل من بني أبي بكر ابن كلاب أن رسول الله ﷺ تزوج العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبد ابن أبي بكر بن كلاب، فمكثت عنده دهرا ثم طلقها.

وقد روى يعقوب بن سفيان عن حجاج ابن أبي منيع، عن جده، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن الضحاك بن سفيان الكلابي هو الذي دل رسول الله ﷺ عليها وأنا أسمع من وراء الحجاب.

قال: يا رسول الله هل لك في أخت أم شبيب، وأم شبيب امرأة الضحاك.

وبه قال الزهري: تزوج رسول الله ﷺ امرأة من بني عمرو بن كلاب فأنبئ أن بها بياضا فطلقها، ولم يدخل بها.

قلت: الظاهر أن هذه هي التي قبلها، والله أعلم.

قال: وتزوج أخت بني الجون الكندي وهم حلفاء بني فزارة، فاستعاذت منه فقال: «لقد عذت بعظيم، إلحقي بأهلك» فطلقها ولم يدخل بها.

قال: وكانت لرسول الله ﷺ سرية يقال لها: مارية، فولدت له غلاما أسامه: إبراهيم، فتوفي وقد ملأ المهد، وكانت له وليدة يقال لها: ريحانة بنت شمعون من أهل الكتاب من خنافة، وهم بطن من بني قريظة، أعتقها رسول الله ﷺ ويزعمون أنها قد احتجبت.

وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده عن علي بن مجاهد أن رسول الله ﷺ تزوج خولة بنت الهذيل بن هبيرة التغلبي، وأمها: حرنق بنت خليفة أخت دحية بن خليفة، فحملت إليه من الشام فماتت في الطريق، فتزوج خالتها: شراف بنت فضالة بن خليفة فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق أيضا.

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: وقد كان رسول الله ﷺ تزوج أسماء بنت كعب الجونية فلم يدخل بها حتى طلقها، وتزوج عمرة بنت زيد إحدى نساء بني كلاب ثم بنى من الوحيد، وكانت قبله عند الفضل بن عباس بن عبد المطلب فطلقها، ولم يدخل بها.

قال البيهقي: فهاتان هما اللتان ذكرهما الزهري ولم يسمهما، إلا أن ابن إسحاق لم يذكر العالية.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن زكريا ابن أبي زائدة، عن الشعبي قال: وهبن لرسول الله ﷺ نساء أنفسهن، فدخل ببعضهن أرجى بعضهن، فلم يقربهن حتى توفي ولم ينكحن بعده.

منهن: أم شريك فذلك قوله تعالى: { ترْجي منْ تشاء منْهن وتؤْوي إليْك منْ تشاء ومن ابْتغيْت ممنْ عزلْت فلا جناح عليْك }. [59].

قال البيهقي: وقد روينا عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانت خولة - يعني: بنت حكيم - ممن وهبن أنفسهن لرسول الله ﷺ.

وقال البيهقي: وروينا في حديث أبي أسيد الساعدي في قصة الجونية التي استعاذت، فألحقها بأهلها أن اسمها: أميمة بنت النعمان بن شراحيل كذا قال.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة ابن أبي أسيد، عن أبيه، وعباس بن سهل عن أبيه قالا: مر بنا النبي ﷺ وأصحاب له فخرجنا معه حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشوط حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما.

فقال رسول الله ﷺ: «اجلسوا» ودخل هو وقد أتى بالجونية فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية لها، فلما دخل عليها رسول الله ﷺ قال: «هبي لي نفسك».

قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟!.

وقالت: إني أعوذ بالله منك.

قال: «لقد عذت بمعاذ».

ثم خرج علينا فقال: «يا أبا أسيد اكسها دراعتين وألحقها بأهلها».

وقال غير أبي أحمد: امرأة من بني الجون يقال لها: أمينة.

وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة ابن أبي أسيد قال: خرجنا مع رسول الله حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشوط حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما.

فقال: «اجلسوا ها هنا» فدخل وقد أتي بالجونية فأنزلت في محل بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية حاضنة لها، فلما دخل عليها رسول الله ﷺ قال: «هبي لي نفسك».

قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟!.

قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن.

فقالت: إني أعوذ بالله منك.

قال: «لقد عذت بمعاذ».

ثم خرج علينا فقال: «يا أبا أسيد اكسها رازقتين وألحقها بأهلها».

قال البخاري: وقال الحسين بن الوليد عن عبد الرحمن بن الغسيل، عن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه وأبي أسيد قالا: تزوج النبي ﷺ أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك.

فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقتين.

ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا إبراهيم بن الوزير، ثنا عبد الرحمن بن حمزة عن أبيه وعن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه بهذا.

انفرد البخاري بهذه الروايات من بين أصحاب الكتب.

وقال البخاري: ثنا الحميدي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي سألت الزهري: أي أزواج النبي ﷺ استعاذت منه؟.

فقال: أخبرني عروة عن عائشة أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله قالت: أعوذ بالله منك.

فقال: «لقد عذت بعظيم إلحقي بأهلك».

وقال: ورواه حجاج ابن أبي منيع عن جده، عن الزهري أن عروة أخبره أن عائشة قالت (الحديث) انفرد به دون مسلم.

قال البيهقي: ورأيت في كتاب (المعرفة) لابن منده أن اسم التي استعاذت منه أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ويقال: فاطمة بنت الضحاك، والصحيح أنها: أميمة، والله أعلم.

وزعموا أن الكلابية اسمها: عمرة، وهي التي وصفها أبوها بأنها لم تمرض قط، فرغب عنها رسول الله ﷺ.

وقد روى محمد بن سعد عن محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: هي فاطمة بنت الضحاك بن سفيان استعاذت منه، فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية.

قال: وتزوجها في ذي القعدة سنة ثمان، وماتت سنة ستين.

وذكر يونس عن ابن إسحاق فيمن تزوجها عليه السلام ولم يدخل بها: أسماء بنت كعب الجونية، وعمرة بنت يزيد الكلابية.

وقال ابن عباس وقتادة: أسماء بنت النعمان ابن أبي الجون، فالله أعلم.

قال ابن عباس: لما استعاذت منه، خرج من عندها مغضبا.

فقال له الأشعث: لا يسؤك ذلك يا رسول الله فعندي أجمل منها فزوجه أخته قتيلة.

وقال غيره: كان ذلك في ربيع سنة تسع.

وقال سعيد ابن أبي عروة عن قتادة: تزوج رسول الله ﷺ خمس عشرة امرأة، فذكر منهن أم شريك الأنصارية النجارية.

قال: وقد قال رسول الله ﷺ: «إني لأحب أن أتزوج من الأنصار، ولكني أكره غيرتهن» ولم يدخل بها.

قال: وتزوج أسماء بنت الصلت من بني حرام، ثم من بني سلم ولم يدخل بها، وخطب حمزة بنت الحارث المزنية.

وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوج رسول الله ثماني عشرة امرأة، فذكر منهن: قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، فزعم بعضهم أنه تزوجها قبل وفاته بشهرين، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه.

قال: ولم يكن قدمت عليه ولا رآها ولم يدخل بها.

قال: وزعم آخرون أنه عليه السلام أوصى أن تخير قتيلة، فإن شاءت يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت فلتنكح من شاءت فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما.

فقال عمر بن الخطاب: ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب.

قال أبو عبيدة: وزعم بعضهم أن رسول الله ﷺ لم يوص فيها بشيء، وأنها ارتدت بعده، فاحتج عمر على أبي بكر بارتدادها أنه ليست من أمهات المؤمنين.

وذكر ابن منده أن التي ارتدت هي: البرحاء من بني عوف بن سعد بن ذبيان.

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طرق عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله تزوج قتيلة أخت الأشعث بن قيس، فمات قبل أن يخيرها فبرأها الله منه.

وروى حماد بن سلمة عن داود ابن أبي هند، عن الشعبي أن عكرمة ابن أبي جهل لما تزوج قتيلة أراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فراجعه عمر بن الخطاب فقال: إن رسول الله ﷺ لم يدخل بها، وأنها ارتدت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل به حتى كف عنه.

قال الحاكم وزاد أبو عبيدة في العدد: فاطمة بنت شريح، وسبأ بنت أسماء بن الصلت السلمية.

هكذا روى ذلك ابن عساكر من طريق ابن منده بسنده عن قتادة فذكره.

وقال محمد بن سعد عن ابن الكلبي مثل ذلك.

قال ابن سعد: وهي سبأ.

قال ابن عساكر: ويقال: سبأ بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف السلمي.

قال ابن سعد: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني العرزمي عن نافع، عن ابن عمر قال: كان في نساء رسول الله ﷺ سبأ بنت سفيان بن عوف بن كعب ابن أبي بكر بن كلاب.

وقال ابن عمر: إن رسول الله بعث أبا أسيد يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب، فتزوجها فبلغه أن بها بياضا فطلقها.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثني أبو معشر قال: تزوج رسول الله مليكة بنت كعب وكانت تذكر بجمال بارع فدخلت عليها عائشة فقالت: ألا تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ فاستعاذت منه، فطلقها.

فجاء قومها فقالوا: يا رسول الله إنها صغيرة، ولا أرى لها وإنها خدعت فارتجعها، فأبى فاستأذنوه أن يزوجوها بقريب لها من بني عذرة، فأذن لهم.

قال: وكان أبوها قد قتله خالد بن الوليد يوم الفتح.

قال الواقدي: وحدثني عبد العزيز الجندعي عن أبيه، عن عطاء بن يزيد قال: دخل بها رسول الله في رمضان سنة ثمان وماتت عنده.

قال الواقدي: وأصحابنا ينكرون ذلك.

وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا يوسف بن عبد الواحد الماهاني، أنبأنا شجاع علي بن شجاع، أنبأنا أبو عبد الله بن منده، أنبأنا الحسن بن محمد بن حكيم المروزي، ثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه الفزاري، أنبأنا عبد الله بن عثمان، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري قال: تزوج رسول الله ﷺ خديجة بنت خويلد بن أسد بمكة وكانت قبله تحت عقيق بن عائذ المخزومي، ثم تزوج بمكة عائشة بنت أبي بكر، ثم تزوج بالمدينة حفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي، ثم تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخي بني عامر بن لؤي، ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش الأسدي أحد بني خزيمة، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية وكان اسمها هند وكانت قبله تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد العزى، ثم تزوج زينب بنت خزيمة الهلالية، وتزوج العالية بنت ظبيان من بني بكر بن عمرو بن كلاب، وتزوج امرأة من بني الجون من كندة، وسبى جويرية - في الغزوة التي هدم فيها مناة غزوة المريسيع - ابنة الحارث ابن أبي ضرار من بني المصطلق من خزاعة، وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير، وكانتا مما أفاء الله عليه فقسمهما له، واستسر مارية القبطية فولدت له إبراهيم، واستسر ريحانة من بني قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها واحتجبت وهي عند أهلها، وطلق رسول الله ﷺ العالية بنت ظبيان، وفارق أخت بني عمرو بن كلاب، وفارق أخت بني الجون الكندية من أجل بياض كان بها، وتوفيت زينب بنت خزيمة الهلالية ورسول الله ﷺ حي، وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التي طلقت تزوجت قبل أن يحرم الله النساء، فنكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم.

سقناه بالسند لغرابة ما فيه من ذكره تزويج سودة بالمدينة، والصحيح أنه كان بمكة قبل الهجرة كما قدمناه، والله أعلم.

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: فماتت خديجة بنت خويلد قبل أن يهاجر رسول الله ﷺ بثلاث سنين لم يتزوج عليها امرأة حتى ماتت هي وأبو طالب في سنة، فتزوج رسول الله ﷺ بعد خديجة سودة بنت زمعة، ثم تزوج بعد سودة عائشة بنت أبي بكر لم يتزوج بكرا غيرها ولم يصب منها ولدا حتى مات، ثم تزوج بعد عائشة حفصة بنت عمر، ثم تزوج بعد حفصة زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، ثم تزوج بعدها أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم تزوج بعدها أم سلمة هند بنت أبي أمية، ثم تزوج بعدها زينب بنت جحش، ثم تزوج بعدها جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار قال: ثم تزوج بعد جوهرية صفية بنت حيي بن أخطب، ثم تزوج بعدها ميمونة بنت الحارث الهلالية.

فهذا الترتيب أحسن وأقرب مما رتبه الزهري، والله أعلم.

وقال يونس بن بكير عن أبي يحيى، عن حميل بن زيد الطائي، عن سهل بن زيد الأنصاري قال: تزوج رسول الله ﷺ امرأة من بني غفار فدخل بها، فأمرها فنزعت ثوبها فرأى بها بياضا من برص عند ثدييها، فانماز رسول الله ﷺ وقال: «خذي ثوبك».

وأصبح فقال لها: «إلحقي بأهلك» فأكمل لها صداقها.

وقد رواه أبو نعيم من حديث حميل بن زيد عن سهل بن زيد الأنصاري، وكان ممن رأى النبي ﷺ قال: تزوج رسول الله ﷺ امرأة من غفار، فذكر مثله.

قلت: وممن تزوجها ﷺ ولم يدخل بها أم شريك الأزدية.

قال الواقدي: والمثبت أنها دوسية وقيل: الأنصارية، ويقال: عامرية وأنها خولة بنت حكيم السلمي.

وقال الواقدي: اسمها: غزية بنت جابر بن حكيم.

قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه قال: كان جميع ما تزوج رسول الله ﷺ خمس عشرة امرأة منهن: أم شريك الأنصارية، وهبت نفسها للنبي ﷺ.

وقال سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة: وتزوج أم شريك الأنصارية من بني النجار.

وقال: «إني أحب أن أتزوج من الأنصار ولكني أكره غيرتهن» ولم يدخل بها.

وقال ابن إسحاق عن حكيم، عن محمد بن علي، عن أبيه قال: تزوج ﷺ ليلى بنت الخطيم الأنصارية، وكانت غيورا فخافت نفسها عليه فاستقالته فأقالها.

فصل فيمن خطبها عليه السلام ولم يعقد عليها

قال إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي، عن أم هانئ فاختة بنت أبي طالب أن رسول الله ﷺ خطبها فذكرت أن لها صبية صغارا فتركها.

وقال: «خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده».

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال.

وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن السدي، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله ﷺ فاعتذرت إليه فعذرني.

ثم أنزل الله: { إنا أحْللْنا لك أزْواجك اللاتي آتيْت أجورهن وما ملكتْ يمينك مما أفاء الله عليْك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرْن معك } [60].

قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء.

ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث السدي، فهذا يقتضي أن من تكن من المهاجرات لا تحل له ﷺ.

وقد نقل هذا المذهب مطلقا القاضي الماوردي في تفسيره عن بعض العلماء.

وقيل: المراد بقوله: { اللاتي هاجرْن معك } أي: من القرابات المذكورات.

وقال قتادة: { اللاتي هاجرْن معك } أي: أسلمن معك.

فعلى هذا لا يحرم عليه إلا الكفار وتحل له جميع المسلمات، فلا ينافي تزويجه من نساء الأنصار إن ثبت ذلك، ولكن لم يدخل بواحدة منهن أصلا.

وأما حكاية الماوردي عن الشعبي أن زينب بنت خزيمة أم المساكين أنصارية فليس بجيد.

فإنها هلالية بلا خلاف كما تقدم بيانه، والله أعلم.

وروى محمد بن سعد عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبه فقال: «من هذا؟».

فقالت: أنا بنت مطعم الطير، ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي تزوجني؟

قال: «قد فعلت».

فرجعت إلى قومها فقالت: قد تزوجت النبي ﷺ.

فقالوا: بئس ما صنعت أنت امرأة غيرى، ورسول الله صاحب نساء تغارين عليه، فيدعو الله عليك فاستقيليه.

فرجعت فقالت: أقلني يا رسول الله، فأقالها، فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر فولدت له.

وبه عن ابن عباس أن ضباعة بنت عامر بن قرط كانت تحت عبد الله بن جدعان فطلقها، فتزوجها بعده هشام بن المغيرة، فولدت له سلمة، وكانت امرأة ضخمة جميلة لها شعر غزير يجلل جسمها، فخطبها رسول الله من ابنها سلمة فقال: حتى استأمرها؟

فاستأذنها.

فقالت: يا بني أفي رسول الله ﷺ تستأذن.

فرجع ابنها فسكت ولم يرد جوابا، وكأنه رأى أنها قد طعنت في السن، وسكت النبي ﷺ عنها.

وبه عن ابن عباس قال: خطب رسول الله ﷺ صفية بنت بشامة بن نضلة العنبري، وكان أصابها سبي فخيرها رسول الله ﷺ: «إن شئت أنا، وإن شئت زوجك».

فقالت: بل زوجي.

فأرسلها فلعنتها بنو تميم.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا الواقدي، ثنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كانت أم شريك امرأة من بني عامر بن لؤي قد وهبت نفسها لرسول الله فلم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت.

قال محمد بن سعد: وأنبأنا وكيع عن شريك، عن جابر، عن الحكم، عن علي بن الحسين أن رسول الله ﷺ تزوج أم شريك الدوسية.

قال الواقدي: الثبت عندنا أنها من دوس من الأزد.

قال محمد بن سعد: واسمها: غزية بنت جابر بن حكيم.

وقال الليث بن سعد عن هشام بن محمد، عن أبيه قال متحدث: أن أم شريك كانت وهبت نفسها للنبي ﷺ وكانت امرأة صالحة.

وممن خطبها ولم يعقد عليها: حمزة بنت الحارث بن عون ابن أبي حارثة المري.

فقال أبوها: إن بها سوءا - ولم يكن بها - فرجع إليها، وقد تبرصت وهي: أم شبيب بن البرصاء الشاعر.

هكذا ذكره سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة قال: وخطب حبيبة بنت العباس بن عبد المطلب، فوجد أباها أخوه من الرضاعة أرضعتهما: ثويبة مولاة أبي لهب.

فهؤلاء نساؤه وهن ثلاثة أصناف:

صنف دخل بهن ومات عنهن وهن التسع المبدأ بذكرهن، وهن حرام على الناس بعد موته عليه السلام بالإجماع المحقق المعلوم من الدين ضرورة، وعدتهن بانقضاء أعمارهن.

قال الله تعالى: { وما كان لكمْ أنْ تؤْذوا رسول الله ولا أنْ تنْكحوا أزْواجه منْ بعْده أبدا إن ذلكمْ كان عنْد الله عظيما } [61].

وصنف دخل بهن وطلقهن في حياته فهل يحل لأحد أن يتزوجهن بعد انقضاء عدتهن منه عليه السلام؟

فيه قولان للعلماء:

أحدهما: لا، لعموم الآية التي ذكرناها.

والثاني: نعم، بدليل آية التخيير وهي قوله: { ياأيها النبي قلْ لأزْواجك إنْ كنْتن تردْن الْحياة الدنْيا وزينتها فتعاليْن أمتعْكن وأسرحْكن سراحا جميلا * وإنْ كنْتن تردْن الله ورسوله والدار الْآخرة فإن الله أعد للْمحْسنات منْكن أجْرا عظيما } [62].

قالوا: فلولا أنها تحل لغيره أن يتزوجها بعد فراقه إياها لم يكن في تخييرها بين الدنيا والآخرة فائدة، إذ لو كان فراقه لها لا يبحها لغيره لم يكن فيه فائدة لها، وهذا قوي، والله تعالى أعلم.

وأما الصنف الثالث: وهي من تزوجها وطلقها قبل أن يدخل بها، فهذه تحل لغيره أن يتزوجها، ولا أعلم في هذا القسم نزاعا، وأما من خطبها ولم يعقد عليها، فأولى لها أن تتزوج، وأولى.

وسيجيء فصل في كتاب (الخصائص) يتعلق بهذا المقام، والله أعلم.

فصل في ذكر سراريه عليه السلام

كانت له عليه السلام سريتان:

إحداهما: مارية بنت شمعون القبطية، أهداها له صاحب إسكندرية واسمه: جريج بن مينا، وأهدى معها أختها شيرين، وذكر أبو نعيم أنه أهداها في أربع جواري، والله أعلم.

وغلاما خصيا اسمه: مابور، وبغلة يقال لها: الدلدل، فقبل هديته واختار لنفسه مارية، وكانت من قرية ببلاد مصر يقال لها: حفن من كورة أنصنا، وقد وضع عن أهل هذه البلدة معاوية ابن أبي سفيان في أيام إمارته الخراج إكراما لها من أجل أنها حملت من رسول الله ﷺ بولد ذكر، وهو: إبراهيم عليه السلام.

قالوا: وكانت مارية جميلة بيضاء، أعجب بها رسول الله ﷺ وأحبها وحضيت عنده، ولا سيما بعد ما وضعت إبراهيم ولده.

وأما أختها شيرين فوهبها رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت فولدت له ابنه: عبد الرحمن بن حسان.

وأما الغلام الخصي: وهو: مابور فقد كان يدخل على مارية وسيرين بلا إذن كما جرت به عادته بمصر، فتكلم بعض الناس فيها بسبب ذلك، ولم يشعروا أنه خصي حتى انكشف الحال على ما سنبينه قريبا إن شاء الله.

وأما البغلة: فكان عليه السلام يركبها.

والظاهر: والله أعلم أنها التي كان راكبها يوم حنين، وقد تأخرت هذه البغلة وطالت مدتها حتى كانت عند علي بن أبي طالب في أيام إمارته ومات فصارت إلى عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وكبرت حتى كان يجش لها الشعير لتأكله.

قال أبو بكر بن خزيمة: حدثنا محمد بن زياد بن عبد الله، أنبأنا سفيان بن عيينة عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة بن الخصيب، عن أبيه قال: أهدى أمير القبط إلى رسول الله جاريتين أختين، وبغلة فكان يركب البغلة بالمدينة، واتخذ إحدى الجاريتين فولدت له إبراهيم ابنه، ووهب الأخرى.

وقال الواقدي: حدثنا يعقوب بن محمد ابن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة قال: كان رسول الله ﷺ يعجب بمارية القبطية، وكانت بيضاء جعدة جميلة فأنزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله ﷺ فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية كان من أموال بني النضير، فكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك وكانت حسنة الدين، ووهب أختها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن، وولدت مارية لرسول الله غلاما سماه إبراهيم، وعق عنه بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله ﷺ، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته بأنها قد ولدت غلاما، فجاء أبو رافع إلى رسول الله فبشره فوهب له عقدا، وغار نساء رسول الله ﷺ واشتد عليهن حين رزق منها الولد.

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني عن أبي عبيد القاسم بن إسماعيل، عن زياد بن أيوب، عن سعيد بن زكريا المدائني، عن ابن أبي سارة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية قال رسول الله ﷺ: «أعتقها ولدها».

ثم قال الدارقطني: تفرد به زياد بن أيوب وهو ثقة.

وقد رواه ابن ماجه من حديث حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة، عن ابن عباس بمثله.

ورويناه من وجه آخر، وقد أفردنا لهذه المسألة وهي بيع أمهات الأولاد مصنفا مفردا على حدته، وحكينا فيه أقوال العلماء بما حاصله يرجع إلى ثمانية أقوال، وذكرنا مستند كل قول ولله الحمد والمنة.

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي ابن أبي طالب قال: أكثروا على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويختلف إليها.

فقال رسول الله ﷺ: «خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله».

قال: قلت: يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

فقال رسول الله ﷺ: «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب».

فأقبلت متوشحا السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رآني عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقي فيها، ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال رجليه، فإذا به أجب أمسح ماله مما للرجال لا قليل ولا كثير، فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته فقال: «الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا سفيان، حدثني محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عن علي قال: قلت: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟

قال: «الشاهد يرى ما لا يرى الغائب».

هكذا رواه مختصرا وهو أصل الحديث الذي أوردناه، وإسناده رجال ثقات.

وقال الطبراني: حدثني محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب وعقيل عن الزهري، عن أنس قال: لما ولدت مارية إبراهيم كاد أن يقع في النبي ﷺ منه شيء حتى نزل جبريل عليه السلام فقال: «السلام عليك يا أبا إبراهيم».

وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو بكر ابن أبي عاصم، حدثنا محمد بن يحيى الباهلي، حدثنا يعقوب بن محمد عن رجل سماه، عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: أهدى ملك من بطارقة الروم يقال له: المقوقس جارية قبطية من بنات الملوك يقال لها: مارية، وأهدى معها ابن عم لها شابا فدخل رسول الله ﷺ منها ذات يوم خلوته فأصابها حملت بإبراهيم.

قالت عائشة: فلما استبان حملها جزعت من ذلك، فسكت رسول الله ﷺ فلم يكن لها لبن فاشترى لها ضأنة لبونا تغذي منها الصبي، فصلح إليه جسمه وحسن لونه، وصفا لونه، فجاءته ذات يوم تحمله على عاتقها فقال: يا عائشة كيف ترين الشبه؟».

فقلت: أنا وغيري ما أرى شبها.

فقال: «ولا اللحم؟».

فقلت: لعمري من تغذى بألبان الضأن ليحسن لحمه.

قال الواقدي: ماتت مارية في المحرم سنة خمس عشرة، فصلى عليها عمر ودفنها في البقيع.

وكذا قال المفضل بن غسان الغلابي، وقال خليفة وأبو عبيدة، ويعقوب بن سفيان: ماتت سنة ست عشرة رحمها الله.

ومنهن: ريحانة بنت زيد من بني النضير ويقال: من بني قريظة.

قال الواقدي: كانت ريحانة بنت زيد من بني النضير، ويقال: من بني قريظة.

قال الواقدي: كانت ريحانة بنت زيد من بني النضير، وكانت مزوجة فيهم، وكان رسول الله ﷺ قد أخذها لنفسه صفيا، وكانت جميلة فعرض عليها رسول الله ﷺ أن تسلم فأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله ﷺ ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن شعبة فذكر له ذلك.

فقال ابن شعبة: فداك أبي وأمي هي تسلم، فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها: لا تتبعي قومك فقد رأيت ما أدخل عليهم حيي بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله ﷺ لنفسه، فبينا رسول الله ﷺ في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال: «إن هاتين لنعلا ابن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة».

فجاء يقول: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة. فسر بذلك.

وقال محمد بن إسحاق: لما فتح رسول الله ﷺ قريظة اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، وكان عرض عليها الإسلام ويتزوجها فأبت إلا اليهودية، ثم ذكر من إسلامها ما تقدم.

قال الواقدي: فحدثني عبد الملك بن سليمان عن أيوب بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوي قال: فأرسل بها رسول الله إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول الله، فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: «إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطأك بالملك فعلت».

فقالت: يا رسول الله إن أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك، فكانت في ملك رسول الله ﷺ يطأها حتى ماتت.

قال الواقدي: وحدثني ابن أبي ذئب قال: سألت الزهري عن ريحانة فقال: كانت أمة رسول الله فأعتقها وتزوجها، فكانت تحتجب في أهلها وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله ﷺ.

قال الواقدي: وهذا أثبت الحديثين عندنا، وكان زوجها قبله عليه السلام الحكم.

وقال الواقدي: ثنا عاصم بن عبد الله بن الحكم عن عمر بن الحكم قال: أعتق رسول الله ﷺ ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة، وكانت عند زوج لها وكان محبا لها مكرما فقالت: لا أستخلف بعده أحدا أبدا، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله ﷺ.

قالت: فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت، وكان يكون له صفي في كل غنيمة، فلما عزلت خار الله لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي، فدخل علي رسول الله ﷺ فتجنبت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: «إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه».

فقلت: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله ﷺ وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشا، كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه، وضرب علي الحجاب.

قال: وكان رسول الله ﷺ معجبا بها، وكانت لا تسأله شيئا إلا أعطاها.

فقيل لها: لو كنت سألت رسول الله ﷺ بني قريظة لأعتقهم، فكانت تقول: لم يخل بي حتى فرق السبي، ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها، فلم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة.

وقال ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن الزهري قال: استسر رسول الله ريحانة من بني قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كانت ريحانة بنت زيد بن شمعون من بني النضير، وقال بعضهم: من بني قريظة، وكانت تكون في نخل من نخل الصدقة، فكان رسول الله ﷺ يقيل عندها أحيانا، وكان سباها في شوال سنة أربع.

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا زهير عن سعيد، عن قتادة قال: كانت لرسول الله وليدتان: مارية القبطية، وريحه أو ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة من بني عمرو بن قريظة، كانت عند ابن عم لها يقال له: عبد الحكم فيما بلغني، وماتت قبل وفاة النبي ﷺ.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كانت لرسول الله ﷺ أربع ولائد: مارية القبطية، وريحانة القرظية، وكانت له جارية أخرى جميلة فكادها نساؤه وخفن أن تغلبهن عليه، وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر، فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عن زينب ودخل عليها فقالت: ما أدري ما أجزيك فوهبتها له ﷺ.

وقد روى سيف بن عمر عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يقسم لمارية وريحانة مرة، ويتركهما مرة.

وقال أبو نعيم: قال أبو محمد بن عمر الواقدي: توفيت ريحانة سنة عشرة، وصلى عليها عمر بن الخطاب ودفنها بالبقيع، ولله الحمد.

فصل في ذكر أولاده عليه الصلاة والسلام

لا خلاف أن جميع أولاده من خديجة بنت خويلد، سوى إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية.

قال محمد بن سعد: أنبأنا هشام بن الكلبي، أخبرني أبي عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله ﷺ القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات القاسم - وهو أول ميت من ولده بمكة - ثم مات عبد الله فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله عز وجل: «إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر».

قال: ثم ولدت له مارية بالمدينة إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، فمات ابن ثمانية عشر شهرا.

وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الجريري: ثنا عبد الباقي بن نافع، ثنا محمد بن زكريا، ثنا العباس بن بكار، حدثني محمد بن زياد والفرات بن السائب عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: ولدت خديجة من النبي ﷺ عبد الله بن محمد، ثم أبطأ عليه الولد من بعده، فبينا رسول الله يكلم رجلا والعاص بن وائل ينظر إليه، إذ قال له رجل: من هذا؟

قال له: هذا الأبتر، وكانت قريش إذا ولد للرجل، ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا: هذا الأبتر.

فأنزل الله: «إن شانئك هو الأبتر» أي مبغضك هو الأبتر من كل خير.

قال: ثم ولدت له زينب، ثم ولدت له رقية، ثم ولدت له القاسم، ثم ولدت الطاهر، ثم ولدت المطهر، ثم ولدت الطيب، ثم ولدت المطيب، ثم ولدت أم كلثوم، ثم ولدت فاطمة وكانت أصغرهم، وكانت خديجة إذا ولدت ولدا دفعته إلى من يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم يرضعها غيرها.

وقال الهيثم بن عدي: حدثنا هشام بن عروة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: كان للنبي ﷺ ابنان طاهر، والطيب، وكان يسمى أحدهما: عبد شمس، والآخر: عبد العزى، وهذا فيه نكارة، والله أعلم.

وقال محمد بن عائذ: أخبرني الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، أن خديجة ولدت القاسم، والطيب، والطاهر، ومطهر، وزينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم.

وقال الزبير بن بكار: أخبرني عمي مصعب بن عبد الله قال: ولدت خديجة القاسم، والطاهر، وكان يقال له: الطيب، وولد الطاهر بعد النبوة، ومات صغيرا، واسمه عبد الله، وفاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم.

قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود أن خديجة ولدت القاسم، والطاهر، والطيب، وعبد الله، وزينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم.

وحدثني محمد بن فضالة عن بعض من أدرك من المشيخة قال: ولدت خديجة القاسم، وعبد الله، فأما القاسم فعاش حتى مشى، وأما عبد الله فمات وهو صغير.

وقال الزبير بن بكار: كانت خديجة تذكر في الجاهلية الطاهرة بنت خويلد، وقد ولدت لرسول الله ﷺ القاسم وهو أكبر ولده، وبه كان يكنى، ثم زينب، ثم عبد الله، وكان يقال له: الطيب، ويقال له: الطاهر ولد بعد النبوة، ومات صغيرا، ثم ابنته أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، هكذا الأول فالأول، ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت من ولده، ثم مات عبد الله، ثم ولدت له مارية بنت شمعون إبراهيم وهي القبطية التي أهداها المقوقس صاحب إسكندرية، وأهدى معها أختها شيرين، وخصيا يقال له: مابور، فوهب شيرين لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن، وقد انقرض نسل حسان بن ثابت.

وقال أبو بكر بن الرقي: يقال: إن الطاهر هو الطيب، وهو عبد الله، ويقال: إن الطيب والمطيب ولدا في بطن، والطاهر والمطهر ولدا في بطن.

وقال المفضل ابن غسان عن أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج عن مجاهد قال: مكث القاسم ابن النبي ﷺ سبع ليال، ثم مات.

قال المفضل: وهذا خطأ، والصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا.

وقال الحافظ أبو نعيم: قال مجاهد: مات القاسم وله سبعة أيام.

وقال الزهري: وهو ابن سنتين.

وقال قتادة: عاش حتى مشى.

وقال هشام بن عروة: وضع أهل العراق ذكر الطيب والطاهر، فأما مشايخنا فقالوا: عبد العزى وعبد مناف والقاسم، ومن النساء: رقية، وأم كلثوم، وفاطمة، هكذا رواه ابن عساكر، وهو منكر، والذي أنكره هو المعروف، وسقط ذكر زينب ولا بد منها، والله أعلم.

فأما زينب فقال عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي غير واحد: كانت زينب أكبر بنات رسول الله ﷺ، وكانت فاطمة أصغرهن وأحبهن إلى رسول الله ﷺ، وتزوج زينب أبو العاص بن الربيع فولدت منه عليا وأمامة، وهي التي كان رسول الله ﷺ يحملها في الصلاة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، ولعل ذلك كان بعد موت أمها سنة ثمان من الهجرة على ما ذكره الواقدي، وقتادة، وعبد الله ابن أبي بكر بن حزم وغيرهم، وكأنها كانت طفلة صغيرة، فالله أعلم.

وقد تزوجها علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت فاطمة على ما سيأتي إن شاء الله، وكانت وفاة زينب رضي الله عنها في سنة ثمان، قاله قتادة عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم، وخليفة بن خياط، وأبو بكر ابن أبي خيثمة، وغير واحد.

وقال قتادة عن ابن حزم: في أول سنة ثمان.

وذكر حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه أنها لما هاجرت دفعها رجل فوقعت على صخرة فأسقطت حملها، ثم لم تزل وجعة حتى ماتت، فكانوا يرونها ماتت شهيدة.

وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة ابن أبي لهب، كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة ابن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله ﷺ حين أنزل الله: { تبتْ يدا أبي لهب وتب * ما أغْنى عنْه ماله وما كسب * سيصْلى نارا ذات لهب * وامْرأته حمالة الْحطب * في جيدها حبْل منْ مسد }. [63].

فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ويقال: إنه أول من هاجر إليها، ثم رجعا إلى مكة كما قدمنا، وهاجرا إلى المدينة، وولدت له ابنه عبد الله فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه فمات، وبه كان يكنى أولا، ثم اقتفى بابنه عمرو وتوفيت، وقد انتصر رسول الله ﷺ ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة - وهو زيد بن حارثة - وجدهم قد ساووا على قبرها التراب، وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله ﷺ وضرب له بسهمه وأجره، ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضا، ولهذا كان يقال له: ذو النورين، ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئا، وقد قال رسول الله ﷺ: «لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان» وفي رواية قال رسول الله ﷺ: «لو كن عشرا لزوجتهن عثمان».

وأما فاطمة فتزوجها ابن عمها علي ابن أبي طالب في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن، والحسين ويقال: ومحسن، وولدت له أم كلثوم، وزينب، وقد تزوج عمر بن الخطاب في أيام ولايته بأم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب من فاطمة، وأكرمها إكراما زائدا، أصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله ﷺ، فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب، ولما قتل عمر بن الخطاب تزوجها بعده ابن عمها عون بن جعفر فمات عنها، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فتزوجها أخوهما عبد الله بن جعفر فماتت عنده، وقد كان عبد الله بن جعفر تزوج بأختها زينب بنت علي وماتت عنده أيضا.

وتوفيت فاطمة بعد رسول الله ﷺ بستة أشهر على أشهر الأقوال، وهذا الثابت عن عائشة في الصحيح، وقاله الزهري أيضا.

وأبو جعفر الباقر وعن الزهري بثلاثة أشهر.

وقال أبو الزبير: بشهرين.

وقال أبو بريدة: عاشت بعده سبعين من بين يوم وليلة.

وقال عمرو بن دينار: مكثت بعده ثمانية أشهر، وكذا قال عبد الله بن الحارث وفي رواية عن عمرو بن دينار: بأربعة أشهر.

وأما إبراهيم فمن مارية القبطية كما قدمنا، وكان ميلاده في ذي الحجة سنة ثمان، وقد روي عن ابن لهيعة وغيره، عن عبد الرحمن بن زياد قال: لما حبل بإبراهيم أتى جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاما من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة.

وروى الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن مسكين، عن عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عقيل ويزيد ابن أبي حبيب، عن الزهري، عن أنس قال: لما ولد للنبي ﷺ ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شيء، فأتاه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.

وقال أسباط عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم بلغ إبراهيم ابن النبي ﷺ من العمر؟

قال: قد كان ملأ مهده، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبق لأن نبيكم ﷺ آخر الأنبياء.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان عن السدي، عن أنس بن مالك قال: لو عاش إبراهيم ابن النبي ﷺ لكان صديقا نبيا.

وقال أبو عبيد الله ابن منده: ثنا محمد بن سعد ومحمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن عثمان العبسي، ثنا منجاب، ثنا أبو عامر الأسدي عن سفيان، عن السدي، عن أنس قال: توفي إبراهيم ابن النبي ﷺ وهو ابن ستة عشر شهرا فقال رسول الله: «إدفنوه البقيع، فإن له مرضعا يتم رضاعه في الجنة».

وقال أبو يعلى: ثنا أبو خيثمة، ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله، كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل إلى البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره فينا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع.

قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله: «إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة».

وقد روى جرير وأبو عوانة عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن البراء قال: توفي إبراهيم ابن رسول الله وهو ابن ستة عشر شهرا فقال: «إدفنوه في البقيع، فإن له مرضعا في الجنة».

ورواه أحمد من حديث جابر عن عامر، عن البراء.

وهكذا رواه سفيان الثوري عن فراس، عن الشعبي، عن البراء بن عازب بمثله.

وكذا رواه الثوري أيضا عن أبي إسحاق، عن البراء.

وأورد له ابن عساكر من طريق عتاب بن محمد بن شوذب عن عبد الله ابن أبي أوفى قال: توفي إبراهيم فقال رسول الله: «يرضع بقية رضاعه في الجنة».

وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا زكريا بن يحيى الواسطي، ثنا هشيم عن إسماعيل قال: سألت ابن أبي أوفى - أو سمعته يسأل - عن إبراهيم ابن النبي ﷺ.

فقال: مات وهو صغير، ولو قضي أن يكون بعد النبي ﷺ نبي لعاش.

وروى ابن عساكر من حديث أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ، ثنا عبيد بن إبراهيم الجعفي، ثنا الحسن ابن أبي عبد الله الفراء، ثنا مصعب بن سلام عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «لو عاش إبراهيم لكان نبيا».

وروى ابن عساكر من حديث محمد ابن إسماعيل بن سمرة عن محمد بن الحسن الأسدي، عن أبي شيبة، عن أنس قال: لما مات إبراهيم قال رسول الله ﷺ: «لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه» فجاء فانكب عليه وبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه ﷺ.

قلت: أبو شيبة هذا لا يتعامل بروايته.

ثم روى من حديث مسلم بن خالد الزنجي عن ابن خيثم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: لما توفي إبراهيم بكى رسول الله ﷺ.

قال أبو بكر وعمر: أنت أحق من علم لله حقه.

فقال: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا أشد مما وجدنا، وإن بك يا إبراهيم لمحزونون».

وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل عن جابر، عن الشعبي، عن البراء قال: صلى رسول الله ﷺ على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهرا وقال: «إن له في الجنة من يتم رضاعه، وهو صديق».

وقد روى من حديث الحكم بن عيينة عن الشعبي، عن البراء.

وقال أبو يعلى: ثنا القواريري، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن ابن أبي أوفى قال: صلى رسول الله ﷺ على ابنه وصليت خلفه، وكبر عليه أربعا.

وقد روى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: مات إبراهيم ابن رسول الله وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه.

وروى ابن عساكر من حديث إسحاق بن محمد الفروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن أبي جده، عن علي قال: لما توفي إبراهيم ابن رسول الله ﷺ بعث علي ابن أبي طالب إلى أمه مارية القبطية، وهي في مشربة، فحمله علي في سفط وجعله بين يديه على الفرس، ثم جاء به إلى رسول الله ﷺ فغسله وكفنه، وخرج به، وخرج الناس معه فدفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي في قبره حتى سوى عليه ودفنه، ثم خرج ورش على قبره، وأدخل رسول الله يده في قبره فقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي» وبكى رسول الله ﷺ وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت ثم قال رسول الله ﷺ: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون».

وقال الواقدي: مات إبراهيم ابن رسول الله ﷺ يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهرا في بني مازن بن النجار، في دار أم برزة بنت المنذر، ودفن بالبقيع.

قلت: وقد قدمنا أن الشمس كسفت يوم موته فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب رسول الله فقال في خطبته: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته»

قاله الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر.

باب ذكر عبيده عليه الصلاة والسلام وإمائه وخدمه وكتابه وأمنائه

ولنذكر ما أورده مع الزيادة والنقصان، وبالله المستعان.

فمنهم أسامة بن زيد بن حارثة أبو زيد الكلبي، ويقال: أبو يزيد، ويقال: أبو محمد مولى رسول الله ﷺ، وابن مولاه وحبه وابن حبه، وأمه أم أيمن، واسمها بركة كانت حاضنة رسول الله ﷺ في صغره، وممن آمن به قديما بعد بعثته، وقد أمره رسول الله ﷺ في آخر أيام حياته وكان عمره إذ ذاك ثماني عشرة أو تسع عشرة، وتوفي وهو أمير على جيش كثيف منهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق، وهو ضعيف، لأن رسول الله ﷺ نصبه للإمامة، فلما توفي عليه السلام وجيش أسامة مخيم بالجرف كما قدمناه استطلق أبو بكر من أسامة عمر بن الخطاب في الإقامة عنده ليستضيء برأيه فأطلقه له، وأنفذ أبو بكر جيش أسامة بعد مراجعة كثيرة من الصحابة له في ذلك، وكل ذلك يأبى عليهم ويقول: والله لا أحل راية عقدها رسول الله ﷺ، فساروا حتى بلغوا تخوم البلقاء من أرض الشام حيث قتل أبوه زيد، وجعفر ابن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، فأغار على تلك البلاد وغنم وسبى وكر راجعا سالما مؤيدا كما سيأتي.

فلهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يلقى أسامة إلا قال له: السلام عليك أيها الأمير، ولما عقد له رسول الله ﷺ راية الإمرة طعن بعض الناس في إمارته، فخطب رسول الله فقال فيها: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الخلق إلي بعده».

وهو في الصحيح من حديث موسى بن عقبة عن سالم، عن أبيه.

وثبت في صحيح البخاري عن أسامة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله ﷺ يأخذني والحسن فيقول: «اللهم إني أحبهما، فأحبهما».

وروى عن الشعبي، عن عائشة، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أحب الله ورسوله فليحب أسامة بن زيد».

ولهذا لما فرض عمر بن الخطاب للناس في الديوان فرض لأسامة في خمسة آلاف، وأعطى ابنه عبد الله بن عمر في أربعة آلاف، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله ﷺ منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة أن رسول الله أردفه خلفه على حمار عليه قطيفة حين ذهب يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر.

قلت: وهكذا أردفه وراءه على ناقته حين دفع من عرفات إلى المزدلفة كما قدمنا في حجة الوداع، وقد ذكر غير واحد أنه رضي الله عنه لم يشهد مع علي شيئا من مشاهده، واعتذر إليه بما قال له رسول الله ﷺ حين قتل ذلك الرجل، وقد قال لا إله إلا الله فقال: «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة» الحديث.

وذكر فضائله كثيرة رضي الله عنه، وقد كان أسود كالليل أفطس حلوا حسنا كبيرا، فصيحا، عالما، ربانيا رضي الله عنه وكان أبوه كذلك، إلا أنه كان أبيض شديد البياض، ولهذا طعن بعض من لا يعلم في نسبه منه، ولما مر مجزز المدلجي عليهما وهما نائمان في قطيفة وقد بدت أقدامهما أسامة بسواده، وأبوه زيد ببياضه قال: سبحان الله إن بعض هذه الأقدام لمن بعض، أعجب بذلك رسول الله ﷺ ودخل على عائشة مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم تر أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض».

ولهذا أخذ فقهاء الحديث كالشافعي، وأحمد من هذا الحديث من حيث التقرير عليه والاستبشار به، العمل بقول القافة في اختلاط الأنساب واشتباهها، كما هو مقرر في موضعه.

والمقصود أنه رضي الله عنه توفي سنة أربع وخمسين مما صححه أبو عمر، وقال غيره: سنة ثمان، أو تسع وخمسين، وقيل: مات بعد مقتل عثمان، فالله أعلم، وروى له جماعة في كتبهم الستة.

ومنهم أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز أبو رافع القبطي أسلم قبل بدر، ولم يشهدها لأنه كان بمكة مع سادته آل العباس، وكان ينحت القداح، وقصته مع الخبيث أبي لهب حين جاء خبر وقعة بدر تقدمت، ولله الحمد، ثم هاجر وشهد أحدا وما بعدها، وكان كاتبا، وقد كتب بين يدي علي ابن أبي طالب بالكوفة، قاله المفضل بن غسان الغلابي، وشهد فتح مصر في أيام عمر، وقد كان أولا للعباس بن عبد المطلب فوهبه للنبي ﷺ وعتقه، وزوجه مولاته سلمى، فولدت له أولادا، وكان يكون على ثقل النبي ﷺ.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر وبهز قالا: ثنا شعبة عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع أن رسول الله بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبني كيما نصيب منها.

فقال: لا، حتى آتي رسول الله ﷺ فأسأله.

فأتى رسول الله فسأله فقال: «الصدقة لا تحل لنا وإن مولى القوم منهم».

وقد رواه الثوري عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم به.

وروى أبو يعلى في مسنده: عنه أنه أصابهم برد شديد وهم بخيبر فقال رسول الله: «من كان له لحاف فليلحف من لا لحاف له».

قال أبو رافع: فلم أجد من يلحفني معه، فأتيت رسول الله فألقى علي لحافه، فنمنا حتى أصبحنا، فوجد رسول الله ﷺ عند رجليه حية، فقال: «يا أبا رافع إقتلها إقتلها».

وروى له الجماعة في كتبهم، ومات في أيام علي رضي الله عنه.

ومنهم أنسة بن زيادة بن مشرح، ويقال: أبو مسرح من مولدي السراة مهاجري، شهد بدرا فيما ذكره عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والبخاري، وغير واحد قالوا: وكان ممن يأذن على النبي ﷺ إذا جلس.

وذكر خليفة بن خياط في كتابه قال: قال علي بن محمد، عن عبد العزيز ابن أبي ثابت، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: استشهد يوم بدر أنسة مولى رسول الله ﷺ.

قال الواقدي: وليس هذا بثبت عندنا، ورأيت أهل العلم يثبتون أنه شهد أحدا أيضا وبقي زمانا، وأنه توفي في حياة أبي بكر رضي الله عنه أو خلافته.

ومنهم أيمن بن عبيد بن زيد الحبشي، ونسبه ابن منده إلى عوف بن الخزرج وفيه نظر، وهو ابن أم أيمن بركة أخو أسامة لأمه.

قال ابن إسحاق: وكان على مطهرة النبي ﷺ، وكان ممن ثبت يوم حنين ويقال: إن فيه وفي أصحابه نزل قوله تعالى: { فمنْ كان يرْجوا لقاء ربه فلْيعْملْ عملا صالحا ولا يشْركْ بعبادة ربه أحدا }. [64]

قال الشافعي: قتل أيمن مع النبي ﷺ يوم حنين قال: فرواية مجاهد عنه منقطعة - يعني بذلك ما رواه الثوري عن منصور، عن مجاهد، عن عطاء، عن أيمن الحبشي - قال: لم يقطع النبي ﷺ السارق إلا في المجن، وكان ثمن المجن يومئذ دينار.

وقد رواه أبو القاسم البغوي في (معجم الصحابة) عن هارون بن عبد الله، عن أسود بن عامر، عن الحسن بن صالح، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن، عن النبي ﷺ نحوه.

وهذا يقتضي تأخر موته عن النبي ﷺ إن لم يكن الحديث مدلسا عنه، ويحتمل أن يكون أريد غيره، والجمهور كابن إسحاق وغيره ذكروه فيمن قتل من الصحابة يوم حنين، فالله أعلم، ولابنه الحجاج بن أيمن مع عبد الله بن عمر قصة.

ومنهم باذام، وسيأتي ذكره في ترجمة طهمان.

ومنهم ثوبان بن بحدد ويقال: ابن جحدر أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الكريم، ويقال: أبو عبد الرحمن أصله من أهل السراة مكان بين مكة واليمن، وقيل: من حمْير من أهل اليمن، وقيل: من الهان، وقيل: من حكم بن سعد العشيرة من مذحج أصابه سبي في الجاهلية، فاشتراه رسول الله فأعتقه، وخيره إن شاء أن يرجع إلى قومه وإن شاء يثبت فإنه منهم أهل البيت، فأقام على ولاء رسول الله ﷺ ولم يفارقه حضرا ولا سفرا، حتى توفي رسول الله ﷺ وشهد فتح مصر أيام عمر، ونزل حمص بعد ذلك، وابتنى بها دارا وأقام بها إلى أن مات سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة أربع وأربعين - وهو خطأ - وقيل إنه مات بمصر، والصحيح بحمص كما قدمنا، والله أعلم، روى له البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة.

ومنهم حنين مولى النبي ﷺ، وهو جد إبراهيم بن عبد الله بن حنين، وروينا أنه كان يخدم النبي ﷺ ويوضئه، فإذا فرغ النبي ﷺ خرج بفضله الوضوء إلى أصحابه، فمنهم من يشرب منه، ومنهم من يتمسح به، فاحتبسه حنين فخبأه عنده في جرة، حتى شكوه إلى النبي ﷺ فقال له: «ما تصنع به؟»

فقال: أدخره عندي أشربه يا رسول الله.

فقال عليه السلام: «هل رأيتم غلاما أحصى ما أحصى هذا».

ثم إن النبي ﷺ وهبه لعمه العباس، فأعتقه رضي الله عنهما.

ومنهم ذكوان يأتي ذكره في ترجمة طهمان.

ومنهم رافع أو أبو رافع، ويقال له: أبو البهي، قال أبو بكر ابن أبي خيثمة: كان لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر، فورثه بنوه وأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم، وشهد معهم يوم بدر فقتلوا ثلاثتهم، ثم اشترى أبو رافع بقية أنصباء بني سعيد مولاه إلا نصيب خالد بن سعيد، فوهب خالد نصيبه لرسول الله ﷺ فقبله وأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله ﷺ، وكذلك كان بنوه يقولون من بعده.

ومنهم رباح الأسود، وكان يأذن على النبي ﷺ، وهو الذي أخذ الإذن لعمر بن الخطاب حتى دخل على رسول الله ﷺ في تلك المشربة يوم آلى من نسائه، واعتزلهن في تلك المشربة وحده عليه السلام، هكذا جاء مصرحا باسمه في حديث عكرمة بن عمار عن سماك بن الوليد، عن ابن عباس، عن عمر.

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: كان للنبي ﷺ غلام يسمى رباح.

ومنهم رويفع مولاه عليه الصلاة والسلام، هكذا عده في الموالي مصعب بن عبد الله الزبيري، وأبو بكر ابن أبي خيثمة قالا: وقد وفد ابنه على عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته ففرض له.

قالا: ولا عقب له.

قلت: وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديد الاعتناء بموالي رسول الله ﷺ، يحب أن يعرفهم ويحسن إليهم، وقد كتب في أيام خلافته إلى أبي بكر ابن حزم عالم أهل المدينة في زمانه أن يفحص له عن موالي رسول الله ﷺ الرجال، والنساء، وخدامه.

رواه الواقدي، وقد ذكره أبو عمر مختصرا وقال: لا أعلم له رواية، حكاه ابن الأثير في (أسد الغابة).

ومنهم زيد بن حارثة الكلبي، وقد قدمنا طرفا من ذكره عند ذكر مقتله بغزوة مؤتة رضي الله عنه، وذلك في جمادى من سنة ثمان قبل الفتح بأشهر، وقد كان هو الأمير المقدم، ثم بعده جعفر، ثم بعدهما عبد الله بن رواحة.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما بعث رسول الله ﷺ زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده لاستخلفه، رواه أحمد.

ومنهم زيد أبو يسار قال أبو القاسم البغوي في (معجم الصحابة): سكن المدينة روى حديثا واحدا لا أعلم له غيره، حدثنا محمد بن علي الجوزجاني، ثنا أبو سلمة - هو: التبوذكي -، ثنا حفص بن عمر الطائي، ثنا أبو عمر ابن مرة، سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى النبي ﷺ سمعت أبي حدثني عن جدي أنه سمع رسول الله يقول: «من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان فر من الزحف».

وهكذا رواه أبو داود عن أبي سلمة.

وأخرجه الترمذي عن محمد ابن إسماعيل البخاري، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل به.

وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

ومنهم سفينة أبو عبد الرحمن ويقال: أبو البختري، كان اسمه مهران، وقيل: عبس، وقيل: أحمر، وقيل: رومان، فلقبه رسول الله ﷺ لسبب سنذكره فغلب عليه، وكان مولى لأم سلمة فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله ﷺ حتى يموت، فقبل ذلك وقال: لو لم تشترطي علي ما فارقته.

وهذا الحديث في السنن، وهو من مولدي العرب، وأصله من أبناء فارس، وهو سفينة بن مافنة.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا حشرج بن نباتة العبسي كوفي، حدثنا سعيد بن جمهان، حدثني سفينة قال: قال رسول الله: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملكا بعد ذلك».

ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، وأمسك خلافة علي ثم قال: فوجدناها ثلاثين سنة، ثم نظرت بعد ذلك في الخلفاء فلم أجده يتفق لهم ثلاثون.

قلت لسعيد: أين لقيت سفينة؟

قال: ببطن نخلة في زمن الحجاج، فأقمت عنده ثلاث ليال أسأله عن أحاديث رسول الله.

قلت له: ما اسمك؟

قال: ما أنا بمخبرك، سماني رسول الله سفينة.

قلت: ولم سماك سفينة؟

قال: خرج رسول الله ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم فقال لي: «إبسط كساك» فبسطته، فجعلوا فيه متاعهم ثم حملوه علي فقال لي رسول الله: «إحمل فإنما أنت سفينة» فلو حملت يومئذ وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة ما ثقل علي إلا أن يحفوا.

وهذا الحديث عن أبي داود، والترمذي، والنسائي، ولفظه عندهم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: كنا في سفر فكان كلما أعيا رجل ألقى علي ثيابه ترسا أو سيفا، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا فقال النبي ﷺ: «أنت سفينة» هذا هو المشهور في تسميته سفينة.

وقد قال أبو القاسم البغوي: ثنا أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني، ومحمد بن جعفر الوركاني قالا: ثنا شريك بن عبد الله النخعي عن عمران البجلي، عن مولى لأم سلمة قال: كنا مع رسول الله فمررنا بواد - أو نهر - فكنت أعبر الناس فقال لي رسول الله: «ما كنت منذ اليوم إلا سفينة».

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسود بن عامر، عن شريك وقال أبو عبد الله بن منده: ثنا الحسن بن مكرم، ثنا عثمان بن عمر، ثنا أسامة بن زيد عن محمد بن المنكدر، عن سفينة قال: ركبت البحر في سفينة فكسرت بنا، فركبت لوحا منها، فطرحني في جزيرة فيها أسد فلم يرعني إلا به فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله ﷺ فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق، ثم همهم فظننت أنه السلام.

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن إبراهيم بن هانئ، عن عبيد الله بن موسى، عن رجل، عن محمد بن المنكدر عنه.

ورواه أيضا عن محمد بن عبد الله المخرمي، عن حسين بن محمد قال: قال عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة فذكره.

ورواه أيضا: حدثنا هارون بن عبد الله، ثنا علي بن عاصم، حدثني أبو ريحانة عن سفينة مولى رسول الله قال: لقيني الأسد فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ.

قال: فضرب بذنبه الأرض وقعد.

وروى له مسلم، وأهل السنن، وقد تقدم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: أنه كان يسكن بطن نخلة، وأنه تأخر إلى أيام الحجاج.

ومنهم سلمان الفارسي أبو عبد الله مولى الإسلام أصله من فارس، وتنقلت به الأحوال إلى أن صار لرجل من يهود المدينة، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة أسلم سلمان وأمره رسول الله ﷺ فكاتب سيده اليهودي، وأعانه رسول الله ﷺ على أداء ما عليه فنسب إليه وقال: «سلمان منا أهل البيت».

وقد قدمنا صفة هجرته من بلده، وصحبته لأولئك الرهبان واحدا بعد واحد، حتى آل به الحال إلى المدينة النبوية، وذكر صفة إسلامه رضي الله عنه في أوائل الهجرة النبوية إلى المدينة، وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين في آخر أيام عثمان - أو في أول سنة ست وثلاثين - وقيل: إنه توفي في أيام عمر بن الخطاب، والأول أكثر.

قال العباس بن يزيد البحراني: وكان أهل العلم لا يشكون أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد على ذلك إلى ثلاثمائة وخمسين، وقد ادعى بعض الحفاظ المتأخرين أنه لم يجاوز المائة، فالله أعلم بالصواب.

ومنهم شقران الحبشي، واسمه صالح بن عدي ورثه عليه السلام من أبيه، وقال مصعب الزبيري، ومحمد بن سعد: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي ﷺ.

وقد روى أحمد بن حنبل عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر أنه ذكره فيمن شهد بدرا قال: ولم يقسم له رسول الله ﷺ.

وهكذا ذكره محمد بن سعد فيمن شهد بدرا وهو مملوك، فلهذا لم يسهم له بل استعمله على الأسرى، فحذاه كل رجل له أسير شيئا، فحصل له أكثر من نصيب كامل.

قال: وقد كان ببدر ثلاثة غلمان غيره، غلام لعبد الرحمن بن عوف، وغلام لحاطب ابن أبي بلتعة، وغلام لسعيد بن معاذ فرضخ لهم ولم يقسم.

قال أبو القاسم البغوي: وليس له ذكر فيمن شهد بدرا في كتاب الزهري، ولا في كتاب ابن إسحاق، وذكر الواقدي عن أبي بكر ابن عبد الله ابن أبي سبرة، عن أبي بكر ابن عبد الله ابن أبي جهم قال: استعمل رسول الله شقران مولاه على جميع ما وجد في رحال المريسيع، من رثة المتاع والسلاح، والنعم والشاء، وجمع الذرية ناحية.

وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا مسلم بن خالد عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن شقران مولى رسول الله ﷺ قال: رأيته - يعني: النبي ﷺ متوجها إلى خيبر على حمار يصلي عليه يومئ إيماء، وفي هذه الأحاديث شواهد أنه رضي الله عنه شهد هذه المشاهد.

وروى الترمذي عن زيد بن أخزم، عن عثمان بن فرقد، عن جعفر بن محمد، أخبرني ابن أبي رافع قال: سمعت شقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله ﷺ في القبر.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: الذي اتخذ قبر النبي ﷺ أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة شقران.

ثم قال الترمذي: حسن غريب، وقد تقدم أنه شهد غسل رسول الله ﷺ، ونزل في قبره، وأنه وضع تحته القطيفة التي كان يصلي عليها وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.

وذكر الحافظ أبو الحسن ابن الأثير في (أسد الغابة) أنه انقرض نسله، فكان آخرهم موتا بالمدينة في أيام الرشيد.

ومنهم ضميرة ابن أبي ضميرة الحميري: أصابه سبي في الجاهلية فاشتراه النبي ﷺ فأعتقه، ذكره مصعب الزبيري قال: وكانت له دار بالبقيع وولد.

قال عبد الله بن وهب عن ابن أبي ذئب، عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة أن رسول الله مر بأم ضميرة وهي تبكي فقال لها: «ما يبكيك، أجائعة أنت، أعارية أنت» قالت: يا رسول الله فرق بيني وبين ابني.

فقال رسول الله: «لا يفرق بين الوالدة وولدها».

ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة فدعاه، فابتاعه منه ببكر.

قال ابن أبي ذئب: ثم أقرأني كتابا عنده: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته، أن رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيت من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم، فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا» وكتب أبي بن كعب.

ومنهم طهمان، ويقال: ذكوان، ويقال: مهران، ويقال: ميمون، وقيل: كيسان، وقيل: باذام.

روى عن النبي ﷺ قال: «إن الصدقة لا تحل لي، ولا لأهل بيتي، وإن مولى القوم من أنفسهم».

رواه البغوي عن منجاب بن الحارث وغيره، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن إحدى بنات علي ابن أبي طالب - وهي أم كلثوم بنت علي - قالت: حدثني مولى للنبي ﷺ يقال له: طهمان، أو ذكوان قال: قال رسول الله: فذكره.

ومنهم عبيد مولى النبي ﷺ قال أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن سليمان التيمي، عن شيخ، عن عبيد مولى للنبي ﷺ قال: قلت هل كان النبي ﷺ يأمر بصلاة سوى المكتوبة؟

قال: صلاة بين المغرب والعشاء.

قال أبو القاسم البغوي: لا أعلم روى غيره.

قال ابن عساكر: وليس كما قال، ثم ساق من طريق أبي يعلى الموصلي: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا حماد بن سلمة عن سليمان التيمي، عن عبيد مولى رسول الله أن امرأتين كانتا صائمتين وكانتا تغتابان الناس، فدعا رسول الله ﷺ بقدح فقال لهما: «قيئا».

فقاءا قيحا، ودما، ولحما عبيطا.

ثم قال: «إن هاتين الصائمتان عن الحلال، وأفطرتا على الحرام».

وقد رواه الأمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن رجل حدثهم في مجلس أبي عثمان، عن عبيد مولى رسول الله فذكره.

ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن عثمان بن غياث قال: كنت مع أبي عثمان فقال رجل: حدثني سعيد - أو عبيد - عثمان يشك مولى النبي ﷺ فذكره.

ومنهم فضالة: مولى النبي ﷺ قال محمد بن سعيد: أنبأنا الواقدي، حدثني عتبة بن خيرة الأشهلي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أن افحص لي عن خدم رسول الله من الرجال، والنساء، ومواليه، فكتب إليه قال: وكان فضالة مولى له يماني نزل الشام بعد.

وكان أبو مويهبة مولدا من مولدي مزينة فأعتقه.

قال ابن عساكر: لم أجد لفضالة ذكرا في الموالي إلا من هذا الوجه.

ومنهم قفيز - أوله قاف وآخره زاي - قال أبو عبد الله بن منده: أنبأنا سهل بن السري، ثنا أحمد بن محمد بن المنكدر، ثنا محمد بن يحيى عن محمد بن سليمان الحراني، عن زهير بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله بن أنيس قال: كان لرسول الله ﷺ غلاما يقال له: قفيز.

تفرد به محمد بن سليمان.

ومنهم كركرة: كان على ثقل النبي ﷺ في بعض غزواته، وقد ذكره أبو بكر ابن حزم فيما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز.

قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن سالم ابن أبي الجعد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي ﷺ رجل يقال له: كركرة فمات.

فقال: «هو في النار» فنظروا فإذا عليه عباءة قد غلها، أو كساء قد غله، رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان.

قلت: وقصته شبيهة بقصة مدعم الذي أهداه رفاعة من بني النصيب كما سيأتي.

ومنهم كيسان: قال البغوي: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب قال: أتيت أم كلثوم بنت علي فقالت: حدثني مولى للنبي ﷺ يقال له: كيسان قال له النبي ﷺ في شيء من أمر الصدقة: «إنا أهل بيت نهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولانا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة».

ومنهم مابور القبطي الخصي: أهداه له صاحب الإسكندرية مع مارية وشيرين، والبغلة، وقد قدمنا من خبره في ترجمة مارية رضي الله عنهما ما فيه كفاية.

ومنهم مدعم: وكان أسود من مولدي حسمى، أهداه رفاعة بن زيد الجذامي، قتل في حياة النبي ﷺ وذلك مرجعهم من خيبر، فلما وصلوا إلى وادي القرى فبينما مدعم يحط عن ناقة رسول الله ﷺ رحلها، إذ جاءه سهم عائر فقلته.

فقال الناس: هنيئا له الشهادة.

فقال رسول الله ﷺ: «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا»

فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين فقال النبي ﷺ: «شراك من نار، أو شراكان من نار».

أخرجاه من حديث مالك عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة.

ومنهم مهران: ويقال: طهمان، وهو الذي روت عنه أم كلثوم بنت علي في تحريم الصدقة على بني هاشم، ومواليهم، كما تقدم.

ومنهم ميمون: وهو الذي قبله.

ومنهم نافع: مولاه، قال الحافظ ابن عساكر: أنبأنا أبو الفتح الماهاني، أنبأنا شجاع الصوفي، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان، ثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أبو مالك الأشجعي عن يوسف بن ميمون، عن نافع مولى رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يدخل الجنة شيخ زان، ولا مسكين متكبر، ولا منان بعمله على الله عز وجل».

ومنهم نفيع: ويقال: مسروح، ويقال: نافع بن مسروح، والصحيح: نافع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن قيس، وهو ثقيف أبو بكرة الثقفي، وأمه سمية أم زياد، تدلى هو وجماعة من العبيد من سور الطائف فأعتقهم رسول الله ﷺ، وكان نزوله في بكرة فسماه رسول الله ﷺ أبا بكرة.

قال أبو نعيم: وكان رجلا صالحا آخى رسول الله بينه وبين أبي برزة الأسلمي.

قلت: وهو الذي صلى عليه بوصيته إليه، ولم يشهد أبو بكرة وقعة الجمل ولا أيام صفين، وكانت وفاته في سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين.

ومنهم واقد أو أبو واقد: مولى رسول الله ﷺ.

قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا أبو عمرو ابن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم، حدثنا الحسين بن محمد، ثنا الهيثم بن حماد عن الحارث بن غسان، عن رجل من قريش من أهل المدينة، عن زاذان عن واقد مولى النبي ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: «من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه، وتلاوته القرآن، ومن عصى الله فلم يذكره، وإن كثرت صلاته وصيامه، وتلاوته القرآن».

ومنهم هرمز أبو كيسان: ويقال: هرمز أو كيسان، هو الذي يقال فيه: طهمان كما تقدم.

وقد قال ابن وهب: ثنا علي بن عباس عن عطاء بن السائب، عن فاطمة بنت علي، أو أم كلثوم بنت علي قالت: سمعت مولى لنا يقال له: هرمز يكنى أبا كيسان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكلوا الصدقة».

وقد رواه الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى، عن ورقاء، عن عطاء بن السائب قال: دخلت على أم كلثوم فقالت: إن هرمز أو كيسان حدثنا أن رسول الله ﷺ قال: «إنا لا نأكل الصدقة».

وقال أبو القاسم البغوي: ثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا أبو حفص الأبار عن ابن أبي زياد، عن معاوية قال: شهد بدرا عشرون مملوكا، منهم مملوك للنبي ﷺ يقال له: هرمز، فأعتقه رسول الله ﷺ وقال: «إن الله قد أعتقك، وإن مولى القوم من أنفسهم، وإنا أهل بيت لا نأكل الصدقة فلا تأكلها».

ومنهم هشام: مولى النبي ﷺ، قال محمد بن سعد: أنبأنا سليمان بن عبيد الله الرقي، أنبأنا محمد بن أيوب الرقي عن سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي الزبير، عن هشام مولى رسول الله ﷺ قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس.

قال: «طلقها»

قال: إنها تعجبني.

قال: «فتمتع بها».

قال ابن منده: وقد رواه جماعة عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن مولى بني هاشم، عن النبي ﷺ ولم يسمه.

ورواه عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم، عن أبي الزبير، عن جابر.

ومنهم يسار: ويقال: إنه الذي قتله العرنيون وقد مثلوا به.

وقد ذكر الواقدي بسنده عن يعقوب بن عتبة: أن رسول الله ﷺ أخذه يوم قرقرة الكدر مع نعم بني غطفان وسليم، فوهبه الناس لرسول الله ﷺ فقبله منهم، ولأنه رآه يحسن الصلاة فأعتقه، ثم قسم في الناس النعم فأصاب كل إنسان منهم سبعة أبعرة، وكانوا مائتين.

ومنهم أبو الحمراء: مولى النبي ﷺ وخادمه، وهو الذي يقال: إن اسمه هلال بن الحارث، وقيل: ابن مظفر، وقيل: هلال بن الحارث بن ظفر السلمي، أصابه سبي في الجاهلية.

وقال أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم: ثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبد الله بن موسى والفضل بن دكين عن يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي داود القاص، عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر كيوم، فكان النبي ﷺ يأتي باب علي وفاطمة كل غداة فيقول: «الصلاة، الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا».

قال أحمد بن حازم: وأنبأنا عبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين - واللفظ له - عن يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي داود، عن أبي الحمراء قال: مر النبي ﷺ برجل عنده طعام في وعاء فأدخله يده فقال: «غششته!من غشنا فليس منا».

وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي نعيم به، وليس عنده سواه، وأبو داود هذا هو نفيع بن الحارث الأعمى أحد المتروكين الضعفاء.

قال عباس الدوري عن ابن معين أبو الحمراء صاحب رسول الله ﷺ اسمه هلال بن الحارث، كان يكون بحمص، وقد رأيت بها غلاما من ولده، وقال غيره: كان منزله خارج باب حمص وقال أبو الوازع عن سمرة: كان أبو الحمراء في الموالي.

ومنهم أبو سلمى: راعي النبي ﷺ، ويقال: أبو سلام واسمه حريث.

قال أبو القاسم البغوي: ثنا كامل بن طلحة، ثنا عباد بن عبد الصمد، حدثني أبو سلمة راعي النبي ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وآمن بالبعث والحساب؛ دخل الجنة»

قلنا: أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟

فأدخل أصبعيه في أذنيه ثم قال: أنا سمعت هذا منه غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، لم يورد له ابن عساكر سوى هذا الحديث.

وقد روى له النسائي في (اليوم والليلة) آخر، وأخرج له ابن ماجه ثالثا.

ومنهم أبو صفية: مولى النبي ﷺ.

قال أبو القاسم البغوي: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا معتمر، ثنا أبو كعب عن جده بقية، عن أبي صفية مولى النبي ﷺ: أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الأولى سبح حتى يمسي.

ومنهم أبو ضميرة: مولى النبي ﷺ، والد ضميرة المتقدم، وزوج أم ضميرة، وقد تقدم في ترجمة ابنه طرف من ذكرهم، وخبرهم في كتابهم.

وقال محمد بن سعد في (الطبقات): أنبأنا إسماعيل بن عبد الله بن أويس المدني، حدثني حسين بن عبد الله ابن أبي ضميرة أن الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لأبي ضميرة: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته، إنهم كانوا أهل بيت من العرب، وكانوا ممن أفاء الله على رسوله فأعتقهم، ثم خير أبا ضميرة إن أحب أن يلحق بقومه فقد أذن له، وإن أحب أن يمكث مع رسول الله فيكونوا من أهل بيته، فاختار الله ورسوله، ودخل في الإسلام، فلا يعرض لهم أحد إلا بخير، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا».

وكتب أبي بن كعب قال: إسماعيل ابن أبي أويس، فهو مولى رسول الله ﷺ وهو أحد حمير.

وخرج قوم منهم في سفر ومعهم هذا الكتاب، فعرض لهم اللصوص فأخذوا ما معهم، فأخرجوا هذا الكتاب إليهم فأعلموهم بما فيه، فقرؤه فردوا عليهم ما أخذوا منهم، ولم يعرضوا لهم.

قال: ووفد حسين بن عبد الله ابن أبي ضميرة إلى المهدي أمير المؤمنين، وجاء معه بكتابهم هذا فأخذه المهدي فوضعه على بصره، وأعطى حسينا ثلاثمائة دينار.

ومنهم أبو عبيد: مولاه عليه الصلاة والسلام.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا أبان العطار، ثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي عبيد أنه طبخ لرسول الله ﷺ قدرا فيها لحم.

فقال رسول الله ﷺ: «ناولني ذراعها»

فناولته فقال: «ناولني ذراعها».

فناولته فقال: «ناولني ذراعها»

فقلت: يا نبي الله كم للشاة من ذراع؟

قال: «والذي نفسي بيده، لو سكت لأعطيتني ذراعها ما دعوت به».

ورواه الترمذي في (الشمائل) عن بندار، عن مسلم بن إبراهيم، عن أبان بن يزيد العطار به.

ومنهم أبو عشيب: ومنهم من يقول: أبو عسيب، والصحيح الأول، ومن الناس من فرق بينهما، وقد تقدم أنه شهد الصلاة على النبي ﷺ، وحضر دفنه، وروى قصة المغيرة بن شعبة.

وقال الحارث ابن أبي أسامة: ثنا يزيد بن هارون، ثنا مسلم بن عبيد أبو نصيرة قال: سمعت أبا عسيب مولى رسول الله ﷺ قال: إن النبي ﷺ قال: «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة، لأمتي ورحمة لهم، ورجس على الكافر».

وكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون.

وقال أبو عبد الله بن منده: أنبأنا محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا يونس بن محمد، ثنا حشرج بن نباتة، حدثني أبو نصيرة البصري عن أبي عسيب مولى رسول الله ﷺ قال: خرج رسول الله ﷺ ليلا فمر بي فدعاني، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه، ثم انطلق يمشي حتى دخل حائطا لبعض الأنصار فقال رسول الله لصاحب الحائط: «أطعمنا بسرام» فجاء به فوضعه، فأكل رسول الله وأكلوا جميعا، ثم دعا بماء فشرب منه ثم قال: «إن هذا النعيم لتسألن يوم القيامة عن هذا»

فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر ثم قال: يا نبي الله إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟

قال: «نعم إلا من ثلاثة؛ خرقة يستر بها الرجل عورته، أو كسرة يسد بها جوعته، أو حجر يدخل فيه - يعني: من الحر والقر - ».

ورواه الإمام أحمد عن شريح، عن حشرج.

وروى محمد بن سعد في (الطبقات) عن موسى بن إسماعيل، حدثتنا سلمة بنت أبان الفريعية قالت: سمعت ميمونة بنت أبي عسيب قالت: كان أبو عسيب يواصل بين ثلاث في الصيام، وكان يصلي الضحى قائما وعجز، وكان يصوم أيام البيض قالت: وكان في سريره جلجل فيعجز صوته حين يناديها به، فإذا حركه جاءت.

ومنهم أبو كبشة الأنماري من أنمار مذحج على المشهور: مولى النبي ﷺ، في اسمه أقوال: أشهرها أن اسمه سليم، وقيل: عمرو بن سعد، وقيل: عكسه، وأصله من مولدي أرض دوس، وكان ممن شهد بدرا قاله موسى بن عقبة عن الزهري.

وذكره ابن إسحاق، والبخاري، والواقدي، ومصعب الزبيري، وأبو بكر ابن أبي خيثمة.

زاد الواقدي: وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وتوفي يوم استخلف عمر بن الخطاب، وذلك في يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة.

وقال خليفة بن خياط: وفي سنة ثلاث وعشرين توفي أبو كبشة مولى رسول الله ﷺ.

وقد تقدم عن أبي كبشة أن رسول الله ﷺ لما مر في ذهابه إلى تبوك بالحجر جعل الناس يدخلون بيوتهم، فنودي أن الصلاة جامعة فاجتمع الناس فقال رسول الله ﷺ: «ما يدخلكم على هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم؟»

فقال رجل: نعجب منهم يا رسول الله.

فقال رسول الله ﷺ: «ألا أنبئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم» الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد الحرازي، سمعت أبا كبشة الأنماري قال: كان رسول الله ﷺ جالسا في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟

قال: «أجل مرت بي فلانة، فوقع في نفسي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال»

وقال أحمد: حدثنا وكيع، ثنا الأعمش عن سالم ابن أبي الجعد، عن أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله: «مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل أتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله وينفقه في حقه، ورجل أتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل» قال رسول الله ﷺ: «فهما في الأجر سواء، ورجل أتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يحبط فيه ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل» قال رسول الله ﷺ: «فهما في الوزر سواء».

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع.

ورواه ابن ماجه أيضا من وجه آخر من حديث منصور عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن أبي كبشة، عن أبيه.

وسماه بعضهم: عبد الله ابن أبي كبشة.

وقال أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، ثنا الزبيدي عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهورني، عن أبي كبشة الأنماري أنه أتاه فقال: أطرقني من فرسك، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أطرق مسلما فعقب له الفرس، كان كأجر سبعين حمل عليه في سبيل الله عز وجل».

وقد روى الترمذي عن محمد بن إسماعيل، عن أبي نعيم، عن عبادة بن مسلم، عن يونس بن خباب، عن سعيد أبي البختري الطائي، حدثني أبو كبشة أنه قال: ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه؛ ما نقص مال عبد صدقة، وما ظلم عبد بمظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، الحديث.

وقال: حسن صحيح، وقد رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد عنه.

وروى أبو داود، وابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن أبي كبشة الأنماري أن رسول الله ﷺ كان يحتجم على هامته وبين كتفيه.

وروى الترمذي: حدثنا حميد بن مسعدة، ثنا محمد بن حمران عن أبي سعيد - وهو: عبد الله بن بسر قال: سمعت أبا كبشة الأنماري يقول: كانت كمام أصحاب رسول الله ﷺ بطحا.

ومنهم أبو مويهبة: مولاه عليه السلام وكان من مولدي مزينة، اشتراه رسول الله ﷺ فأعتقه، ولا يعرف اسمه رضي الله عنه.

وقال أبو مصعب الزبيري: شهد أبو مويهبة المريسيع، وهو الذي كان يقود لعائشة رضي الله عنها بعيرها.

وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد وبسنده عنه، في ذهابه مع رسول الله ﷺ في الليل إلى البقيع، فوقف عليه السلام فدعا لهم واستغفر لهم ثم قال: «ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه بعض الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم، يركب بعضها بعضا، الآخرة أشد من الأولى، فليهنكم أنتم فيه» ثم رجع فقال: «يا أبا مويهبة إني خيرت مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة أو لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي».

قال: فما لبث بعد ذلك إلا سبعا - أو ثمانيا - حتى قبض.

فهؤلاء عبيده عليه السلام.

إماؤه عليه السلام

فمنهن أمة الله بنت رزينة: الصحيح: أن الصحبة لأمها رزينة كما سيأتي، ولكن وقع في رواية ابن أبي عاصم: حدثنا عقبة بن مكرم، ثنا محمد بن موسى، حدثتنا عليلة بنت الكميت العتكية قالت: حدثني أبي عن أمة الله خادم النبي ﷺ أن رسول الله سبا صفية يوم قريظة والنضير، فأعتقها، وأمهرها رزينة أم أمة الله، وهذا حديث غريب جدا.

ومنهن أميمة: قال ابن الأثير: وهي مولاة رسول الله ﷺ، روى حديثها أهل الشام، روى عنها جبير بن نفير أنها كانت توضئ رسول الله، فأتاه رجل يوما فقال له: أوصني.

فقال: «لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت بالنار، ولا تدع صلاة متعمدا، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله، ولا تشربن مسكرا فإنه رأس كل خطيئة، ولا تعصين والديك وإن أمراك أن تختلي من أهلك ودنياك».

ومنهن بركة أم أيمن وأم أسامة بن زيد بن حارثة: وهي بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان الحبشية، غلب عليها كنيتها أم أيمن، وهو ابنها من زوجها الأول عبيد بن زيد الحبشي، ثم تزوجها بعده زيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد، وتعرف بأم الظباء، وقد هاجرت الهجرتين رضي الله عنها وهي حاضنة رسول الله ﷺ مع أمه آمنة بنت وهب، وقد كانت ممن ورثها رسول الله ﷺ عن أبيه، قاله الواقدي.

وقال غيره: بل ورثها من أمه، وقيل: بل كانت لأخت خديجة فوهبتها من رسول الله ﷺ، وآمنت قديما، وهاجرت، وتأخرت بعد النبي ﷺ.

وتقدم ما ذكرناه من زيارة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما إياها بعد وفاة النبي ﷺ، وأنها بكت.

فقالا لها: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ﷺ؟

فقالت: بلى، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فجعلا يبكيان معها.

وقال البخاري في (التاريخ): وقال عبد الله بن يوسف عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري قال: كانت أم أيمن تحضن النبي ﷺ حتى كبر فأعتقها، ثم زوجها زيد بن حارثة، وتوفيت بعد النبي ﷺ بخمسة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: أنها بقيت بعد قتل عمر بن الخطاب.

وقد رواه مسلم عن أبي الطاهر، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال: كانت أم أيمن الحبشية، فذكره.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي: توفيت أم أيمن في أول خلافة عثمان بن عفان.

قال الواقدي: وأنبأنا يحيى بن سعيد بن دينار عن شيخ من بني سعد بن بكر قال: كان رسول الله ﷺ يقول لأم أيمن: «يا أمه».

وكان إذا نظر إليها قال: «هذه بقية أهل بيتي».

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان ابن أبي شيخ قال: كان النبي ﷺ يقول: «أم أيمن أمي بعد أمي».

وقال الواقدي عن أصحابه المدنيين قالوا: نظرت أم أيمن إلى النبي ﷺ وهو يشرب فقالت: إسقني.

فقالت عائشة: أتقولين هذا لرسول الله ﷺ؟!.

فقالت: ما خدمته أطول.

فقال رسول الله ﷺ: «صدقت» فجاء بالماء فسقاها.

وقال المفضل بن غسان: حدثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت عثمان بن القاسم قال: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء وهي صائمة، فأصابها عطش شديد حتى جهدها.

قال: فدلى عليها دلو من السماء برشاء أبيض فيه ماء.

قالت: فشربت فما أصابني عطش بعد، وقد تعرضت العطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد.

قلت: فأما بريرة فإنها كانت لآل أبي أحمد بن جحش فكاتبوها، فاشترتها عائشة منهم فأعتقتها، فثبت ولاؤها لها، كما ورد الحديث بذلك في الصحيحين، ولم يذكرها ابن عساكر.

ومنهن خضرة: ذكرها ابن منده فقال: روى معاوية عن هشام، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كان للنبي ﷺ خادم يقال لها: خضرة.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي: ثنا فائد مولى عبد الله عن عبد الله بن علي ابن أبي رافع، عن جدته سلمى قالت: كان خدم رسول الله أنا، وخضرة، ورضوى، وميمونة بنت سعد، أعتقهن رسول الله ﷺ كلهن.

ومنهن خليسة: مولاة حفصة بنت عمر.

قال ابن الأثير في (أسد الغابة): روت حديثها عليلة بنت الكميت عن جدتها، عن خليسة مولاة حفصة في قصة حفصة وعائشة، مع سودة بنت زمعة ومزحهما معها، بأن الدجال قد خرج فاختبأت في بيت كانوا يوقدون فيه، واستضحكتا، وجاء رسول الله فقال: «ما شأنكما»؟

فأخبرتاه بما كان من أمر سودة، فذهب إليها فقالت: يا رسول الله أخرج الدجال؟

فقال: «لا، وكأن قد خرج» فخرجت وجعلت تنفض عنها بيض العنكبوت.

وذكر ابن الأثير: خليسة مولاة سلمان الفارسي وقال: لها ذكر في إسلام سلمان وإعتاقها إياه، وتعويضه عليه السلام لها بأن غرس لها ثلاثمائة فسيلة، ذكرتها تمييزا.

ومنهن خولة: خادم النبي ﷺ كذا قال ابن الأثير، وقد روى حديثها الحافظ أبو نعيم من طريق حفص بن سعيد القرشي عن أمه، عن أمها خولة، وكانت خادم النبي ﷺ، فذكر حديثا في تأخر الوحي بسبب جرو كلب مات تحت سريره عليه السلام ولم يشعروا به، فلما أخرجه جاء الوحي، فنزل قوله تعالى: { والضحى * والليْل إذا سجى } [65].

وهذا غريب، والمشهور في سبب نزولها غير ذلك، والله أعلم.

ومنهن رزينة: قال ابن عساكر: والصحيح: أنها كانت لصفية بنت حيي، وكانت تخدم تخدم النبي ﷺ.

قلت: وقد تقدم في ترجمة ابنتها أمة الله أنه عليه السلام أمهر صفية بنت حيي أمها رزينة، فعلى هذا يكون أصلها له عليه السلام.

وقال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو سعيد الجشمي، حدثتنا عليلة بنت الكميت قالت: سمعت أمي أمينة قالت: حدثتني أمة الله بنت رزينة مولاة رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ سبا صفية يوم قريظة، والنضير حين فتح الله عليه، فجاء يقودها سبية، فلما رأت النساء قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فأرسلها، وكان ذراعها في يده فأعتقها، ثم خطبها وتزوجها، وأمهرها رزينة.

هكذا وقع في هذا السياق، وهو أجود مما سبق من رواية ابن أبي عاصم، ولكن الحق أنه عليه السلام اصطفى صفية من غنائم خيبر وأنه أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وما وقع في هذه الرواية يوم قريظة والنضير تخبيط، فإنهما يومان بينهما سنتان، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في (الدلائل): أخبرنا ابن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا علي بن الحسن السكري، ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثتنا عليلة بنت الكميت العتكية عن أمها أمينة قالت: قلت لأمة الله بنت رزينة مولاة رسول الله: يا أمة الله أسمعت أمك تذكر أنها سمعت رسول الله يذكر صوم عاشوراء؟

قالت: نعم كان يعظمه، له شاهد في الصحيح.

ومنهن رضوى: قال ابن الأثير: روى سعيد بن بشير عن قتادة، عن رضوى بنت كعب أنها سألت رسول الله ﷺ عن الحائض تخضب فقال: «ما بذلك بأس» رواه أبو موسى المديني.

ومنهن ريحانة بنت شمعون القرظية: وقيل: النضرية، وقد تقدم ذكرها بعد أزواجه رضي الله عنهن.

ومنهن زرينة: والصحيح رزينة كما تقدم.

ومنهن سانية: مولاة رسول الله ﷺ، روت عنه حديثا في اللقطة، وعنها طارق بن عبد الرحمن روى حديثها أبو موسى المديني، هكذا ذكر ابن الأثير في (أسد الغابة)

ومنهن سديسة الأنصارية: وقيل: مولاة حفصة بنت عمر، روت عن النبي ﷺ قال: «إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه».

قال ابن الأثير: رواه عبد الرحمن بن الفضل بن الموفق عن أبيه، عن إسرائيل، عن الأوزاعي، عن سالم، عن سديسة.

ورواه إسحاق بن يسار عن الفضل فقال: عن سديسة، عن حفصة، عن النبي ﷺ فذكره، رواه أبو نعيم، وابن منده.

ومنهن سلامة: حاضنة إبراهيم بن رسول الله ﷺ، روت عنه حديثا في فضل الحمل، والطلق، والرضاع، والسهر، فيه غرابة ونكارة من جهة إسناده ومتنه، رواه أبو نعيم، وابن منده من حديث هشام بن عمار بن نصير خطيب دمشق عن أبيه عمرو بن سعيد الخولاني، عن أنس، عنها، ذكرها ابن الأثير.

ومنهن سلمى وهي أم رافع: امرأة أبي رافع كما رواه الواقدي عنها أنها قالت: كنت أخدم رسول الله ﷺ أنا، وخضرة، ورضوى، وميمونة بنت سعد، فأعتقنا رسول الله ﷺ كلنا.

قال الأمام أحمد: حدثنا أبو عامر، وأبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الموالي عن فائد مولى ابن أبي رافع، عن جدته سلمى خادم النبي ﷺ قالت: ما سمعت قط أحدا يشكو إلى رسول الله ﷺ وجعا في رأسه إلا قال: «احتجم»، وفي رجليه إلا قال: «إخضبهما بالحناء».

وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن أبي الموالي، والترمذي، وابن ماجه من حديث زيد بن الخباب، كلاهما عن فائد، عن مولاه عبيد الله بن علي ابن أبي رافع، عن جدته سلمى به، وقال الترمذي: غريب، إنما نعرفه من حديث فائد.

وقد روت عدة أحاديث عن النبي ﷺ يطول ذكرها، واستقصاؤها.

قال مصعب الزبيري: وقد شهدت سلمى وقعة حنين.

قلت: وقد ورد أنها كانت تطبخ للنبي ﷺ الحريرة فتعجبه، وقد تأخرت إلى بعد موته عليه السلام، وشهدت وفاة فاطمة رضي الله عنها، وقد كانت أولا لصفية بنت عبد المطلب عمته عليه السلام، ثم صارت لرسول الله ﷺ، وكانت قابلة أولاد فاطمة، وهي التي قبلت إبراهيم ابن رسول الله ﷺ، وقد شهدت غسل فاطمة وغسلتها مع زوجها علي ابن أبي طالب، وأسماء بنت عميس امرأة الصديق.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن علي ابن أبي رافع، عن أبيه، عن سلمى قالت: اشتكت فاطمة عليها السلام شكواها الذي قبضت فيه فكنت أمرضها، فأصبحت يوما كمثل ما يأتيها في شكواها ذلك، قالت: وخرج علي لبعض حاجته.

فقالت: يا أمه إسكبي لي غسلا، فسكبت لها غسلا، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل.

ثم قالت: يا أمه أعطني ثيابي الجدد، فلبستها.

ثم قالت: يا أمه قدمي لي فراشي وسط البيت، ففعلت واضطجعت فاستقبلت القبلة، وجعلت يدها تحت خدها.

ثم قالت: يا أمه إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحد، فقبضت مكانها.

قالت: فجاء علي فأخبرته، وهو غريب جدا.

ومنهن شيرين: ويقال: سيرين أخت مارية القبطية، خالة إبراهيم عليه السلام، وقدمنا أن المقوقس صاحب الإسكندرية واسمه جريج بن مينا أهداهما مع غلام اسمه مابور وبغلة يقال لها: الدلدل، فوهبها رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان.

ومنهن عنقودة أم مليح الحبشية: جارية عائشة، كان اسمها عنبة، فسماها رسول الله ﷺ عنقودة، رواه أبو نعيم، ويقال: اسمها غفيرة.

فروة: ظئر النبي ﷺ يعني: مرضعه قالت: قال لي رسول الله: «إذا أويت إلى فراشك فأقرئي: «قل يا أيها الكافرون» فإنها براءة من الشرك».

ذكرها أبو أحمد العسكري، قاله ابن الأثير في (الغابة).

فأما فضة النوبية: فقد ذكر ابن الأثير في (الغابة) أنها كانت مولاة لفاطمة بنت رسول الله ﷺ، ثم أورد بإسناد مظلم عن محبوب بن حميد البصري، عن القاسم بن بهرام، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله تعالى: { ويطْعمون الطعام على حبه مسْكينا ويتيما وأسيرا } [66].

ثم ذكر ما مضمونه أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله ﷺ، وعادهما عامة العرب فقالوا لعلي: لو نذرت.

فقال علي: إن برآ مما بهما صمت لله ثلاثة أيام.

وقالت فاطمة: كذلك.

وقالت فضة: كذلك، فألبسهما الله العافية، فصاموا، وذهب علي فاستقرض من شمعون الخيبري ثلاثة آصع من شعير، فهيئوا منه تلك الليلة صاعا، فلما وضعوه بين أيديهم للعشاء وقف على الباب سائل فقال: أطعموا المسكين أطعمكم الله على موائد الجنة.

فأمرهم علي فأعطوه ذلك الطعام وطووا، فلما كانت الليلة الثانية صنعوا لهم الصاع الآخر، فلما وضعوه بين أيديهم وقف سائل فقال: أطعموا اليتيم.

فأعطوه ذلك وطووا، فلما كانت الليلة الثالثة قال: أطعموا الأسير.

فأعطوه وطووا ثلاثة أيام وثلاث ليال، فأنزل الله في حقهم: { هلْ أتى على الْإنْسان } إلى قوله: { لا نريد منْكمْ جزاء ولا شكورا } [67].

وهذا الحديث منكر، ومن الأئمة من يجعله موضوعا، ويسند ذلك إلى ركة ألفاظه، وأن هذه السورة مكية، والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة، والله أعلم.

ليلى مولاة عائشة: قالت: يا رسول الله إنك تخرج من الخلاء، فأدخل في أثرك فلم أر شيئا، إلا أني أجد ريح مسك.

فقال: «إنا معشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح أهل الجنة، فما خرج منا من نتن ابتلعته الأرض»

رواه أبو نعيم من حديث أبي عبد الله المدني، وهو أحد المجاهيل عنها.

مارية القبطية: أم إبراهيم، تقدم ذكرها مع أمهات المؤمنين، وقد فرق ابن الأثير بينها وبين مارية أم الرباب، قال: وهي جارية للنبي ﷺ أيضا، حديثها عند أهل البصرة، رواه عبد الله بن حبيب عن أم سلمى، عن أمها، عن جدتها مارية قالت: تطأطأت للنبي ﷺ حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين.

ثم قال: ومارية خادم النبي ﷺ، روى أبو بكر عن ابن عباس، عن المثنى بن صالح، عن جدته مارية وكانت خادم النبي ﷺ أنها قالت: ما مسست بيدي شيئا قط ألين من كف رسول الله ﷺ.

قال أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب): لا أدري أهي التي قبلها، أم لا.

ومنهن ميمونة بنت سعد: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن محمد بن محرز، ثنا عيسى هو: ابن يونس، ثنا ثور هو: ابن يزيد عن زياد بن أبي سودة، عن أخيه أن ميمونة مولاة النبي ﷺ قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟

قال: «أرض المنشر والمحشر، إئتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة».

قالت: رأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه.

قال: «فليهد إليه زيتا يسرج فيه، فإنه من أهدى له كان كمن صلى فيه».

وهكذا رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن عبد الله الرقي، عن عيسى بن يونس، عن ثور، عن زياد، عن أخيه عثمان بن أبي سودة، عن ميمونة مولاة النبي ﷺ.

وقد رواه أبو داود عن الفضل بن مسكين بن بكير، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ثور، عن زياد، عن ميمونة لم يذكر أخاه، فالله أعلم.

وقال أحمد: حدثنا حسين وأبو نعيم قالا: ثنا إسرائيل عن زيد بن خبير، عن أبي يزيد الضبي، عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي ﷺ قالت: سئل النبي ﷺ عن ولد الزنا.

قال: «لا خير فيه، نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنا».

وهكذا رواه النسائي عن عباس الدوري، وابن ماجه من حديث أبي بكر ابن أبي شيبة كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين به.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا المحارب، ثنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد، عن ميمونة وكانت تخدم النبي ﷺ قالت: قال رسول الله: «الرافلة في الزينة في غير أهلها كالظلمة يوم القيامة لا نور لها».

ورواه الترمذي من حديث موسى بن عبيدة وقال: لا نعرفه إلا من حديثه، وهو يضعفه في الحديث.

وقد رواه بعضهم عنه فلم يرفعه.

ومنهن ميمونة بنت أبي عصيبة أو عنبسة، قاله أبو عمرو بن منده.

قال أبو نعيم: وهو تصحيف، والصواب ميمونة بنت أبي عسيب، كذلك روى حديثها المشجع بن مصعب أبو عبد الله العبدي عن ربيعة بنت يزيد - وكانت تنزل في بني قريع - عن منبه، عن ميمونة بنت أبي عسيب وقيل: بنت أبي عنبة مولاة النبي ﷺ أن امرأة من حريش أتت النبي ﷺ فنادت: يا عائشة أغيثيني بدعوة من رسول الله تسكنيني بها وتطمنيني بها، وأنه قال لها: «ضعي يدك اليمنى على فؤادك فامسحيه وقولي: بسم الله، اللهم داوني بدوائك، واشفني بشفائك، وأغنني بفضلك عمن سواك».

قالت ربيعة: فدعوت فوجدته جيدا.

ومنهن أم ضميرة زوج أبي ضميرة: قد تقدم الكلام عليهم رضي الله عنهم.

ومنهن أم عياش: بعثها رسول الله ﷺ مع ابنته تخدمها حين زوجها بعثمان بن عفان.

قال أبو القاسم البغوي: حدثنا عكرمة، ثنا عبد الواحد بن صفوان، حدثني أبي صفوان عن أبيه، عن جدته أم عياش - وكانت خادم النبي ﷺ بعث بها مع ابنته إلى عثمان قالت: كنت أمغث لعثمان التمر غدوة فيشربه عشية، وأنبذه عشية فيشربه غدوة، فسألني ذات يوم فقال: تخلطين فيه شيئا؟

فقلت: أجل.

قال: فلا تعودي.

فهؤلاء إماؤه رضي الله عنهن.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني ثمامة بن حزن قال: سألت عائشة عن النبيذ.

فقالت: هذه خادم رسول الله فسلها - لجارية حبشية -.

فقالت: كنت أنبذ لرسول الله ﷺ في سقاء عشاء فأوكيه فإذا أصبح شرب منه.

ورواه مسلم والنسائي من حديث القاسم بن الفضل به.

هكذا ذكره أصحاب الأطراف في مسند عائشة، والأليق ذكره في مسند جارية حبشية كانت تخدم النبي، وهي إما أن تكون واحدة ممن قدمنا ذكرهن، أو زائدة عليهن، والله تعالى أعلم.

فصل وأما خدامه عليه السلام الذين خدموه من الصحابة

من غير مواليه فمنهم: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عاصم بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري النجاري أبو حمزة المدني نزيل البصرة، خدم رسول الله ﷺ مدة مقامه بالمدينة عشر سنين فما عاتبه علي شيء أبدا، ولا قال لشيء فعله: «لم فعلته» ولا لشيء لم يفعله: «ألا فعلته».

وأمه أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام هي التي أعطته رسول الله ﷺ فقبله، وسألته أن يدعو له فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، وأدخله الجنة».

قال أنس: فقد رأيت اثنتين، وأنا أنتظر الثالثة، والله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو من مائة.

وفي رواية: وإن كرمي ليحمل في السنة مرتين، وإن ولدي لصلبي مائة وستة أولاد.

وقد اختلف في شهوده بدرا، وقد روى الأنصاري عن أبيه، عن ثمامة قال: قيل لأنس: أشهدت بدرا؟

فقال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك!

والمشهور: أنه لم يشهد بدرا لصغره، ولم يشهد أحدا أيضا لذلك، وشهد الحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والفتح، وحنينا، والطائف، وما بعد ذلك.

قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله ﷺ من ابن أم سليم - يعني: أنس بن مالك - وقال ابن سيرين: كان أحسن الناس صلاة في سفره، وحضره، وكانت وفاته بالبصرة، وهو آخر من كان قد بقي فيها من الصحابة فيما قاله علي بن المديني، وذلك في سنة تسعين، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين وهو الأشهر، وعليه الأكثر.

وأما عمره يوم مات فقد روى الإمام أحمد في مسنده: حدثنا معتمر بن سليمان عن حميد، أن أنسا عمر مائة سنة غير سنة، وأقل ما قيل: ست وتسعون، وأكثر ما قيل: مائة وسبع سنين، وقيل: ست، وقيل: مائة وثلاث سنين، فالله أعلم.

ومنهم رضي الله عنهم: الأسلع بن شريك بن عوف الأعرجي قال محمد بن سعد: كان اسمه ميمون بن سنباذ، قال الربيع بن بدر الأعرجي عن أبيه، عن جده، عن الأسلع قال: كنت أخدم النبي ﷺ، وأرحل معه.

فقال ذات ليلة: «يا أسلع قم، فارحل».

قال: أصابتني جنابة يا رسول الله.

قال: فسكت ساعة، وأتاه جبريل بآية الصعيد فقال: «قم يا أسلع فتيمم».

قال: فتيممت، وصليت، فلما انتهيت إلى الماء.

قال: «يا أسلع قم فاغتسل».

قال: فأراني التيمم، فضرب رسول الله يديه إلى الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم نفضهما، فمسح بهما ذراعيه باليمنى على اليسرى، وباليسرى على اليمنى، ظاهرهما وباطنهما.

قال الجميع: وأراني أبي كما أراه أبوه، كما أراه الأسلع، كما أراه رسول الله.

قال الربيع: فحدثت بهذا الحديث عوف ابن أبي جميلة فقال: هكذا والله رأيت الحسن يصنع، رواه ابن منده والبغوي في كتابيهما (معجم الصحابة)، من حديث الربيع بن بدر هذا.

قال البغوي: ولا أعلمه روى غيره.

قال ابن عساكر: وقد روى - يعني: هذا الحديث - الهيثم بن رزيق المالكي المدلجي عن أبيه، عن الأسلع بن شريك.

ومنهم رضي الله عنهم: أسماء بن حارثة بن سعد بن عبد الله بن عباد بن سعد بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى الأسلمي وكان من أهل الصفة - قاله محمد بن سعد - وهو أخو هند بن حارثة، وكانا يخدمان النبي ﷺ.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا عفاف، ثنا وهيب، ثنا عبد الرحمن بن حرملة عن يحيى بن هند بن حارثة - وكان هند من أصحاب الحديبية، وكان أخوه الذي بعثه رسول الله يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، وهو أسماء بن حارثة، فحدثني يحيى بن هند عن أسماء بن حارثة أن رسول الله ﷺ بعثه فقال: «مرْ قومك بصيام هذا اليوم».

قال: رأيت إن وجدتهم قد طعموا؟

قال: «فليتموا آخر يومهم».

وقد رواه أحمد بن خالد الوهبي عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله ابن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلمي، عن أبيه هند قال: بعثني رسول الله إلى قوم من أسلم فقال: «مرْ قومك فليصوموا هذا اليوم، ومن وجدت منهم أكل في أول يومه فليصم آخره».

قال محمد بن سعد عن الواقدي: أنبأنا محمد بن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنت أظن أن هندا، وأسماء ابني حارثة إلا مملوكين لرسول الله ﷺ.

قال الواقدي: كانا يخدمانه لا يبرحان بابه، هما وأنس بن مالك.

قال محمد بن سعد: وقد توفي أسماء بن حارثة في سنة ست وستين بالبصرة عن ثمانين سنة.

ومنهم بكير بن الشداخ الليثي: ذكر ابن منده من طريق أبي بكر الهذلي عن عبد الملك بن يعلى الليثي أن بكير بن شداخ الليثي كان يخدم النبي ﷺ فاحتلم، فأعلم بذلك رسول الله.

وقال: إني كنت أدخل على أهلك، وقد احتلمت الآن يا رسول الله.

فقال: «اللهم صدق قوله، ولقه الظفر».

فلما كان في زمان عمر قتل رجل من اليهود، فقام عمر خطيبا فقال: أنشد الله رجلا عنده من ذلك علم، فقام بكير فقال: أنا قتلته يا أمير المؤمنين.

فقال عمر: بؤت بدمه فأين المخرج؟

فقال: يا أمير المؤمنين إن رجلا من الغزاة استخلفني على أهله، فجئت فإذا هذا اليهودي عند امرأته وهو يقول:

وأشْعث غره الإسْلام مني * خلوْت بعرسه ليل التمام

أبيت على ترائبها ويمسي * على جرد الأعنة والحزام

كأن مجامع الربلات منْها * فئام ينهضون إلى فئام

قال: فصدق عمر قوله وأبطل دم اليهودي، بدعاء رسول الله ﷺ لبكير بما تقدم.

ومنهم رضي الله عنهم: بلال بن رباح الحبشي ولد بمكة وكان مولى لأمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر منه بمال جزيل، لأن كان أمية يعذبه عذابا شديدا ليرتد عن الإسلام، فيأبى إلا الإسلام رضي الله عنه، فلما اشتراه أبو بكر أعتقه ابتغاء وجه الله، وهاجر حين هاجر الناس، وشهد بدرا، وأحدا، وما بعدهما من المشاهد رضي الله عنه، وكان يعرف ببلال بن حمامة وهي أمه، وكان من أفصح الناس لا كما يعتقده بعض الناس أن سينه كانت شينا، حتى أن بعض الناس يروي حديثا في ذلك لا أصل له عن رسول الله أنه قال: «إن سين بلال شينا».

وهو أحد المؤذنين الأربعة كما سيأتي، وهو أول من أذن كما قدمنا، وكان يلي أمر النفقة على العيال، ومعه حاصل ما يكون من المال، ولما توفي رسول الله ﷺ كان فيمن خرج إلى الشام للغزو، ويقال: إنه أقام يؤذن لأبي بكر أيام خلافته، والأول أصح وأشهر.

قال الواقدي: مات بدمشق سنة عشرين وله بضع وستون سنة.

وقال الفلاس: قبره بدمشق، ويقال: لداريا، وقيل: إنه مات بحلب، والصحيح: أن الذي مات بحلب أخوه خالد.

قال مكحول: حدثني من رأى بلال قال: كان شديد الأدمة، نحيفا، أجنا، له شعر كثير، وكان لا يغير شيبه رضي الله عنه.

ومنهم رضي الله عنهم: حبة، وسواء، ابنا خالد رضي الله عنهما.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية قال: وثنا وكيع، ثنا الأعمش عن سلام بن شرحبيل، عن حبة وسواء ابنا خالد قالا: دخلنا على النبي ﷺ وهو يصلح شيئا فأعناه.

فقال: «لا ينسأ من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحيمر ليس عليه قشرة، ثم يرزقه الله عز وجل.

ومنهم رضي الله عنهم: ذو مخمر، ويقال: ذو محبر؛ وهو ابن أخي النجاشي ملك الحبشة، ويقال: ابن أخته، والصحيح الأول، كان بعثه ليخدم رسول الله ﷺ نيابة عنه.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا جرير عن يزيد بن صليح، عن ذي مخمر، وكان رجلا من الحبشة يخدم النبي ﷺ قال: كنا معه في سفر فأسرع السير حتى انصرف، وكان يفعل ذلك لقلة الزاد.

فقال له قائل: يا رسول الله قد انقطع الناس.

قال: فجلس وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه فقال لهم: هل لكم أن نهجع هجعة - أو قال له قائل - فنزل ونزلوا فقالوا: من يكلؤنا الليلة؟

فقلت: أنا جعلني الله فداك، فأعطاني خطام ناقته فقال: «هاك لا تكونن لكعا».

قال: فأخذت بخطام ناقة رسول الله، وخطام ناقتي، فتنحيت غير بعيد فخليت سبيلهما ترعيان، فإني كذلك أنظر إليهم إذ أخذني النوم فلم أشعر بشيء حتى وجدت حر الشمس على وجهي فاستيقظت فنظرت يمينا وشمالا، فإذا أنا بالراحلتين مني غير بعيد، فأخذت بخطام ناقة رسول الله ﷺ وبخطام ناقتي، فأتيت أدنى القوم فأيقظته.

فقلت: أصليت؟

قال: لا.

فأيقظ الناس بعضهم بعضا حتى استيقظ رسول الله ﷺ فقال: «يا بلال هل في الميضاء ماء» - يعني: الإداوة -.

فقال: نعم، جعلني الله فداك، فأتاه بوضوء لم يلت منه التراب، فأمر بلالا فأذن، ثم قام النبي ﷺ فصلى ركعتين قبل الصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى وهو غير عجل.

فقال له قائل: يا رسول الله أفرطنا.

قال: «لا، قبض الله أرواحنا، وردها إلينا، وقد صلينا».

ومنهم رضي الله عنهم: ربيعة بن كعب الأسلمي أبو فراس: قال الأوزاعي: حدثني يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة، عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته فكان يقوم من الليل فيقول: «سبحان ربي وبحمده الهوي، سبحان رب العالمين الهوي».

فقال رسول الله: «هل لك حاجة؟»

قلت: يا رسول الله مرافقتك في الجنة.

قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، ثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن عمرو بن عطاء عن نعيم بن محمد، عن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم رسول الله نهاري أجمع حتى يصلي عشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله حاجة، فما أزال أسمع رسول الله ﷺ يقول: «سبحان الله وبحمده» حتى أمل فأرجع، أو تغلبني عيناي فأرقد.

فقال لي يوما - لما يرى من حقي له وخدمتي إياه -: «يا ربيعة بن كعب سلني أعطك».

قال: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك.

قال: ففكرت في نفسي، فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقا سيكفيني ويأتيني.

قال: فقلت: أسأل رسول الله لآخرتي، فإنه من الله بالمنزل الذي هو به.

قال: فجئته، فقال: «ما فعلت يا ربيعة؟»

قال: فقلت: نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك، فيعتقني من النار.

قال: فقال: «من أمرك بهذا يا ربيعة؟».

قال: فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت: «سلني أعطك» وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به، نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقا سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله لآخرتي.

قال: فصمت رسول الله ﷺ طويلا ثم قال لي: «إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود».

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، أنبأنا يزيد بن هارون، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا أبو عمران الجوني عن ربيعة الأسلمي، وكان يخدم النبي ﷺ قال: فقال لي ذات يوم: «يا ربيعة ألا تزوج؟»

قال: قلت: يا رسول الله ما أحب أن يشغلني عن خدمتك شيء، وما عندي ما أعطي المرأة.

قال: فقلت بعد ذلك: رسول الله أعلم بما عندي مني، يدعوني إلى التزويج، لئن دعاني هذه المرة لأجيبنه.

قال: فقال لي: «يا ربيعة ألا تزوج؟».

فقلت: يا رسول الله ومن يزوجني؟ ما عندي ما أعطي المرأة.

فقال لي: انطلق إلى بني فلان، فقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة.

قال: فأتيتهم، فقلت: إن رسول الله أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة، قالوا: فلانة؟

قال: نعم!

قالوا: مرحبا برسول الله، ومرحبا برسوله، فزوجوني فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أتيتك من خير أهل بيت صدقوني وزوجوني، فمن أين لي ما أعطي صداقي؟

فقال رسول الله لبريدة الأسلمي: «إجمعوا لربيعة في صداقه في وزن نواة من ذهب، فجمعوها فأعطوني، فأتيتهم فقبلوها.

فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله قد قبلوا فمن أين لي ما أولم؟

قال: فقال رسول الله لبريدة: «إجمعوا لربيعة في ثمن كبش».

قال: فجمعوا.

وقال لي: «انطلق إلى عائشة فقل لها فلتدفع إليك ما عندها من الشعير».

قال: فأتيتها فدفعت إلي، فانطلقت بالكبش والشعير.

فقالوا: أما الشعير فنحن نكفيك، وأما الكبش فمر أصحابك فليذبحوه، وعملوا الشعير، فأصبح والله عندنا خبز ولحم.

ثم إن رسول الله أقطع أبا بكر أرضا له، فاخلتفنا في عذق.

فقلت: هو في أرضي.

وقال أبو بكر: هو في أرضي فتنازعنا.

فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها فندم، فأحضرني فقال لي: قل لي كما قلت.

قال: فقلت: لا والله لا أقول لك كما قلت لي.

قال: إذا آتي رسول الله.

قال: فأتى رسول الله وتبعته، فجاءني قومي يتبعونني.

فقالوا: هو الذي قال لك، وهو يأتي رسول الله فيشكو؟

قال: فالتفت إليهم فقلت: تدرون من هذا؟ هذا الصديق، وذو شيبة المسلمين، إرجعوا لا يلتفت فيراكم فيظن أنكم إنما جئتم لتعينوني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيخبره فيهلك ربيعة.

قال: فأتى رسول الله فقال: إني قلت لربيعة كلمة كرهتها، فقلت له يقول لي مثل ما قلت له فأبى.

فقال رسول الله ﷺ: «يا ربيعة ومالك وللصديق؟»

قال: فقلت: يا رسول الله، والله لا أقول له كما قال لي.

فقال رسول الله: «لا تقل له كما قال لك، ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر».

ومنهم رضي الله عنهم: سعد مولى أبي بكر رضي الله عنه ويقال: مولى النبي ﷺ.

قال أبو داود الطيالسي: ثنا أبو عامر عن الحسن، عن سعد مولى أبي بكر الصديق أن رسول الله قال لأبي بكر - وكان سعد مملوكا لأبي بكر، وكان رسول الله يعجبه خدمته -: «أعتق سعدا».

فقال: يا رسول الله ما لنا خادم هاهنا غيره.

فقال: «أعتق سعدا أتتك الرجال، أتتك الرجال».

وهكذا رواه أحمد عن أبي داود الطيالسي.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عامر عن الحسن، عن سعد قال: قربت بين يدي رسول الله ﷺ تمرا، فجعلوا يقرنون فنهى رسول الله ﷺ عن القران، ورواه ابن ماجه، عن بندار، عن أبي داود به.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن رواحة دخل يوم عمرة القضاء مكة وهو يقود بناقة رسول الله ﷺ وهو يقول:

خلوا بني الكفار عنْ سبيله * اليوم نضْربكمْ على تأويله

كما ضربناكمْ على تنزيله * ضربا يزيل الهام عنْ مقيله

ويشغل الخليل عن خليله

كما قدمنا ذلك بطوله، وقد قتل عبد الله بن رواحة بعد هذا بأشهر في يوم مؤتة كما تقدم أيضا.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن مسعود بن غافل بن غافل بن حبيب بن شمخ أبو عبد الرحمن الهذلي، أحد أئمة الصحابة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا وما بعدها، كان يلي حمل نعلي النبي ﷺ، ويلي طهوره، ويرحل دابته إذا أراد الركوب، وكانت له اليد الطولى في تفسير كلام الله وله العلم الجم، والفضل، والحلم، وفي الحديث أن رسول الله قال لأصحابه - وقد جعلوا يعجبون من دقة ساقيه - فقال: «والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد».

وقال عمر بن الخطاب في ابن مسعود: هو كنيف ملئ علما.

وذكروا أنه نحيف الخلق، حسن الخلق، يقال: إنه كان إذا مشى يسامت الجلوس، وكان يشبه النبي ﷺ في هديه، ودله، وسمته، - يعني: أنه يشبه بالنبي ﷺ في حركاته، وسكناته، وكلامه، ويتشبه بما استطاع من عبادته - توفي رضي الله عنه في أيام عثمان سنة اثنتين - أو ثلاث - وثلاثين بالمدينة عن ثلاث وستين سنة، وقيل: إنه توفي بالكوفة، والأول أصح.

ومنهم رضي الله عنهم: عقبة بن عامر الجهني قال الإمام أحمد: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ابن جابر عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر قال: بينما أقود برسول الله ﷺ في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: «يا عقبة ألا تركب؟»

قال: فأشفقت أن تكون معصية.

قال: فنزل رسول الله، وركبت هنيهة.

ثم ركب ثم قال: «يا عقب ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟»

قلت: بلى يا رسول الله.

فأقرأني: «قل أعوذ برب الفلق» و «قل أعوذ برب الناس» ثم أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله ﷺ فقرأ بهما.

ثم مر بي فقال: «إقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت».

وهكذا رواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك عن ابن جابر.

ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن عقبة به.

ومنهم رضي الله عنهم: قيس بن عبادة الأنصاري الخزرجي روى البخاري عن أنس قال: كان قيس بن سعد بن عبادة من النبي ﷺ بمنزلة صاحب الشرط من الأمير، وقد كان قيس هذا رضي الله عنه من أطول الرجال، وكان كوسجا، ويقال: إن سراويله كان يضعه على أنفه من يكون من أطول الرجال فتصل رجلاه الأرض، وقد بعث سراويله معاوية إلى ملك الروم يقول له: هل عندكم رجل يجيء هذه السروايل على طوله؟ فتعجب صاحب الروم من ذلك، وذكروا أنه كان كريما ممدحا ذا رأي ودهاء، وكان مع علي ابن أبي طالب أيام صفين.

وقال مسعر عن معبد بن خالد: كان قيس بن سعد لا يزال رافعا إصبعه المسبحة يدعو رضي الله عنه وأرضاه.

وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغيرهما: توفي بالمدينة في آخر أيام معاوية.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا عمر بن الخطاب السجستاني، ثنا علي بن يزيد الحنفي، ثنا سعيد بن الصلت عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان عشرون شابا من الأنصار يلزمون رسول الله ﷺ لحوائجه فإذا أراد أمرا بعثهم فيه.

ومنهم رضي الله عنهم: المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه كان بمنزلة السلحدار بين يدي رسول الله ﷺ، كما كان رافعا السيف في يده وهو واقف على رأس النبي ﷺ في الخيمة يوم الحديبية، فجعل كلما أهوى عمه عروة بن مسعود الثقفي حين قدم في الرسيلة إلى لحية رسول الله ﷺ على ما جرت به عادة العرب في مخاطباتها - يقرع يده بقائمة السيف ويقول: أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ قبل أن لا تصل إليك، الحديث كما قدمناه.

قال محمد بن سعد وغيره: شهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، وولاه مع أبي سفيان الإمرة حين ذهبا فخربا طاغوت أهل الطائف - وهي المدعوة بالربة وهي اللات - وكان داهية من دهاة العرب.

قال الشعبي: سمعته يقول: ما غلبني أحد قط.

وقال الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها.

وقال الشعبي: القضاة أربعة: أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو موسى، والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد.

وقال الزهري: الدهاة خمسة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، واثنان مع علي وهما: قيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء.

وقال الإمام مالك: كان المغيرة بن شعبة رجلا نكاحا للنساء، وكان يقول: صاحب الواحدة إن حاضت حاض معها، وإن مرضت مرض معها، وصاحب الثنتين بين نارين يشتعلان.

قال: فكان ينكح أربعا ويطلقهن جميعا، وقال غيره: تزوج ثمانين امرأة، وقيل: ثلاث مائة امرأة، وقيل: أحصن بألف امرأة.

وقد اختلف في وفاته على أقوال أشهرها وأصحها وهو الذي حكى عليه الخطيب البغدادي: الإجماع أنه توفي سنة خمسين.

ومنهم رضي الله عنهم: المقداد بن الأسود أبو معبد الكندب حليف بني زهرة قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن المقداد بن الأسود قال: قدمت المدينة أنا وصاحبان فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد، فأتينا إلى النبي ﷺ فذكرنا له، فذهب بنا إلى منزله وعنده أربعة أعنز فقال: «إحلبهن يا مقداد وجزئهن أربعة أجزاء، وأعط كل إنسان جزءا».

فكنت أفعل ذلك، فرفعت للنبي ﷺ ذات ليلة فاحتبس، واضطجعت على فراشي.

فقالت لي نفسي: إن النبي ﷺ قد أتى أهل بيت من الأنصار، فلو قمت فشربت هذه الشربة، فلم تزل بي حتى قمت فشربت جزءا فلما دخل في بطني ومعائي أخذني ما قدم وما حدث.

فقلت: يجيء الآن النبي ﷺ جائعا ظمآنا، فلا يرى في القدح شيئا، فسجيت ثوبا على وجهي، وجاء النبي ﷺ، فسلم تسليمة تسمع اليقظان ولا توقظ النائم، فكشف عنه فلم ير شيئا، فرفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم إسق من سقاني، وأطعم من أطعمني» فاغتنمت دعوته وقمت فأخذت الشفرة فدنوت إلى الأعنز فجعلت أجسهن أيتهن أسمن لأذبحها، فوقعت يدي على ضرع إحداهن فإذا هي حافل، ونظرت إلى الأخرى فإذا هي حافل، فنظرت فإذا هن كلهن حفل، فحلبت في الإناء فأتيته به.

فقلت: إشرب.

فقال: «ما الخبر يا مقداد؟»

فقلت: إشرب ثم الخبر.

فقال: «بعض سواتك يا مقداد» فشرب.

ثم قال: «اشرب»

فقلت: إشرب يا نبي الله، فشرب حتى تضلع، ثم أخذته فشربته، ثم أخبرته الخبر فقال النبي ﷺ: «هيه».

فقلت: كان كذا وكذا.

فقال النبي ﷺ: «هذه بركة منزلة من السماء، أفلا أخبرتني حتى أسقي صاحبيك؟».

فقلت: إذا شربت البركة أنا وأنت فلا أبالي من أخطأت.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي النضر، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن المقداد فذكر ما تقدم، وفيه أنه حلب في الإناء الذي كانوا لا يطيقون أن يحلبوا فيه فحلب حتى علته الرغوة، ولما جاء به.

قال له رسول الله: «أما شربتم شرابكم الليلة يا مقداد؟»

فقلت: إشرب يا رسول الله فشرب، ثم ناولني.

فقلت: إشرب يا رسول الله فشرب، ثم ناولني، فأخذت ما بقي ثم شربت، فلما عرفت أن رسول الله قد روي فأصابتني دعوته ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض.

فقال رسول الله: «إحدى سوآتك يا مقداد».

فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا، صنعت كذا.

فقال: «ما كانت هذه إلا رحمة الله، ألا كنت أذنتني توقظ صاحبيك هذين فيصيبان منها؟».

قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها، وأصبتها معك من أصابها من الناس.

وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به.

ومنهم رضي الله عنهم: مهاجر مولى أم سلمة قال الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني إبراهيم بن عبد الله سمعت بكيرا يقول: سمعت مهاجرا مولى أم سلمة قال: خدمت رسول الله ﷺ سنين، فلم يقل لي لشيء صنعته: «لم صنعته» ولا لشيء تركته: «لم تركته».

وفي رواية: خدمته عشر سنين، أو خمس سنين.

ومنهم رضي الله عنهم: أبو السمح قال أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي: ثنا مجاهد بن موسى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح قال: كنت أخدم رسول الله قال: كان إذا أراد أن يغتسل قال: «ناولني أداوتي».

قال: فأناوله، وأستره.

فأتي بحسن أو حسين فبال على صدره، فجئت لأغسله فقال: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام».

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن مجاهد بن موسى.

ومنهم رضي الله عنهم: أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه تولى خدمته بنفسه في سفرة الهجرة، لا سيما في الغار وبعد خروجهم منه، حتى وصلوا إلى المدينة كما تقدم ذلك مبسوطا، ولله الحمد والمنة.

فصل أما كتاب الوحي وغيره بين يديه صلوات الله وسلامه عليه

فمنهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم سيأتي ترجمة كل واحد منهم في أيام خلافته، إن شاء الله وبه الثقة.

ومنهم رضي الله عنهم: أبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي أسلم بعد أخويه خالد وعمرو، وكان إسلامه بعد الحديبية، لأنه هو الذي أجار عثمان حين بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل مكة يوم الحديبية، وقيل: خيبر لأن له ذكر في الصحيح من حديث أبي هريرة في قسمة غنائم خيبر، وكان سبب إسلامه أنه اجتمع براهب وهو في تجارة بالشام، فذكر له أمر رسول الله ﷺ.

فقال له الراهب: ما اسمه؟

قال: محمد.

قال: فأنا أنعته لك، فوصفه بصفته سواء.

وقال: إذا رجعت إلى أهلك فأقرئه السلام، فأسلم بعد مرجعه.

وهو أخو عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان.

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: كان أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ أبي بن كعب، فإذا لم يحضر كتب زيد بن ثابت، وكتب له عثمان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، هكذا قال - يعني: بالمدينة - وإلا فالسور المكية لم يكن أبي بن كعب حال نزولها، وقد كتبها الصحابة بمكة رضي الله عنهم.

وقد اختلف في وفاة أبان بن سعيد هذا، فقال موسى بن عقبة، ومصعب بن الزبير، والزبير بن بكار، وأكثر أهل النسب: قتل يوم أجنادين - يعني: - في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة.

وقال آخرون: قتل يوم مرج الصفر سنة أربع عشرة.

وقال محمد بن إسحاق: قتل هو وأخوه عمرو يوم اليرموك لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة.

وقيل: إنه تأخر إلى أيام عثمان، وكان يملي المصحف الإمام على زيد بن ثابت، ثم توفي سنة تسع وعشرين، فالله أعلم.

ومنهم: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد الخزرجي الأنصاري أبو المنذر ويقال: أبو الطفيل سيد القراء، شهد العقبة الثانية، وبدرا وما بعدها، وكان ربعة نحيفا أبيض الرأس واللحية، لا يغير شيبه.

قال أنس: جمع القرآن أربعة - يعني: من الأنصار -: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار يقال له: أبو يزيد، أخرجاه.

وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله ﷺ قال لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن».

قال: وسماني لك يا رسول الله؟

قال: «نعم».

قال: فذرفت عيناه.

ومعنى: «أن أقرأ عليك» قراءة إبلاغ وإسماع، لا قراءة تعلم منه، هذا لا يفهمه أحد من أهل العلم، وإنما نبهنا على هذا لئلا يعتقد خلافه، وقد ذكرنا في موضع آخر سبب القراءة عليه وأنه قرأ عليه سورة: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة» وذلك أن أبي بن كعب كان قد أنكر على رجل قراءة سورة على خلاف ما كان يقرأ أبي، فرفعه أبي إلى رسول الله فقال: «إقرأ يا أبي» فقرأ.

فقال: «هكذا أنزلت».

ثم قال لذلك الرجل: «إقرأ» فقرأ.

فقال: «هكذا أنزلت».

قال أبي: فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية.

قال: فضرب رسول الله في صدره ففضضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فبعد ذلك تلا عليه رسول الله هذه السورة كالتثبيت له والبيان له أن هذا القرآن حق وصدق، وأنه أنزل على أحرف كثيرة رحمة ولطفا بالعباد.

وقال ابن أبي خيثمة: هو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ، وقد اختلف في وفاته فقيل: في سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقيل: ثلاث وعشرين، وقيل: قبل مقتل عثمان بجمعة، فالله أعلم.

ومنهم رضي الله عنهم: أرقم ابن أبي الأرقم واسمه عبد مناف بن أسد بن جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أسلم قديما، وهو الذي كان رسول الله ﷺ مستخفيا في داره عند الصفا، وتعرف تلك الدار بعد ذلك بالخيزران، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وقد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين عبد الله بن أنيس، وهو الذي كتب أقطاع عظيم بن الحارث المحارب بأمر رسول الله ﷺ بفخ وغيره، وذلك فيما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عتيق بن يعقوب الزبيري، حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده عمرو بن حزم.

وقد توفي في سنة ثلاث، وقيل: خمس وخمسين، وله خمس وثمانون سنة.

وقد روى الإمام أحمد له حديثين: الأول: قال أحمد والحسن بن عرفة - واللفظ لأحمد -: حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن هشام بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أرقم ابن أبي الأرقم، عن أبيه - وكان من أصحاب النبي ﷺ أن رسول الله قال: «إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار».

والثاني: قال أحمد: حدثنا عصام بن خالد، ثنا العطاف بن خالد، ثنا يحيى بن عمران عن عبد الله بن عثمان بن الأرقم، عن جده الأرقم أنه جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: «أين تريد؟».

قال: أردت يا رسول الله هاهنا، وأومأ بيده إلى حيز بيت المقدس.

قال: «ما يخرجك إليه أتجارة؟»

قال: لا، ولكن أردت الصلاة فيه.

قال: «الصلاة هاهنا» وأومأ بيده إلى مكة «خير من ألف صلاة» وأومأ بيده إلى الشام.

تفرد بهما أحمد.

ومنهم رضي الله عنهم: ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المدني خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب النبي ﷺ.

قال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد المدايني بأسانيده عن شيوخه في وفود العرب على رسول الله قالوا: قدم عبد الله بن عبس اليماني، ومسلمة بن هاران الحمداني على رسول الله في رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا على قومهم، وكتب لهم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم.

وهذا الرجل ممن ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ بشره بالجنة.

وروى الترمذي في جامعه بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «نعْم الرجل أبو بكر، نعْم الرجل عمر، نعْم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعْم الرجل أسيد بن حضير، نعْم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعْم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح».

وقد قتل رضي الله عنه شهيدا يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة في أيام أبي بكر الصديق، وله قصة سنوردها إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذلك بحول الله وقوته وعونه ومعونته.

ومنهم رضي الله عنهم: حنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم تميمي الأسيدي الكاتب، وأخوه رباح صحابي أيضا، وعمه أكثم بن صيفي كان حكيم العرب.

قال الواقدي: كتب للنبي ﷺ كتابا، وقال غيره: بعثه رسول الله ﷺ إلى أهل الطوائف في الصلح، وشهد مع خالد حروبه بالعراق وغيرها وقد أدرك أيام علي، وتخلف عن القتال معه في الجمل وغيره، ثم انتقل عن الكوفة لما شتم بها عثمان ومات بعد أيام علي.

وقد ذكر ابن الأثير في (أسد الغابة): أن امرأته لما مات جزعت عليه فلامها جاراتها في ذلك فقالت:

تعجبت دعد لمحزونة * تبكي على ذي شيبة شاحب

إن تسأليني اليوم ما شفني * أخبرك قولا ليس بالكاذب

إن سواد العين أودى به * حزن على حنظلة الكاتب

قال أحمد بن عبد الله بن الرقي: كان معتزلا للفتنة حتى مات بعد علي، جاء عنه حديثان.

قلت: بل ثلاثة؛ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا همام، ثنا قتادة عن حنظلة الكاتب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من حافظ على الصلوات الخمس بركوعهن وسجودهن ووضوئهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة».

أو قال: «وجبت له».

تفرد به أحمد، وهو منقطع بين قتادة وحنظلة والله أعلم.

والحديث الثاني: رواه أحمد ومسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة: «لو تدمون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن ساعة وساعة».

وقد رواه أحمد والترمذي أيضا من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن حنظلة.

والثالث: رواه أحمد والنسائي، وابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي بن حنظلة، عن جده في النهي عن قتل النساء في الحرب.

لكن رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرت عن أبي الزناد، عن مرقع بن صيفي بن رياح بن ربيع، عن جده رباح بن ربيع أخي حنظلة الكاتب فذكره.

وكذلك رواه أحمد أيضا عن حسين بن محمد وإبراهيم ابن أبي العباس، كلاهما عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، وعن سعيد بن منصور وأبي عامر العقدي، كلاهما عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن مرقع، عن جده رباح.

ومن طريق المغيرة رواه النسائي وابن ماجه كذلك.

وروى أبو داود والنسائي من حديث عمر بن مرقع عن أبيه، عن جده رباح فذكره.

فالحديث عن رباح لا عن حنظلة، ولذا قال أبو بكر ابن أبي شيبة: كان سفيان الثوري يخطئ في هذا الحديث.

قلت: وصح قول ابن الرقي: أنه لم يرو سوى حديثين، والله أعلم.

ومنهم رضي الله عنهم: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سعيد الأموي، أسلم قديما يقال: بعد الصديق بثلاثة أو أربعة، وأكثر ما قيل: خمسة.

وذكروا أن سبب إسلامه أنه رأى في النوم كأنه وافقا على شفير جهنم، فذكر من سعتها ما الله به عليم.

قال: وكأن أباه يدفعه فيها، وكأن رسول الله ﷺ آخذ بيده ليمنعه من الوقوع، فقص هذه الرؤيا على أبي بكر الصديق فقال له: لقد أريد بك خير هذا رسول الله فاتبعه تنج مما خفته.

فجاء رسول الله فأسلم، فلما بلغ أباه إسلامه غضب عليه وضربه بعصاة في يده حتى كسرها على رأسه، وأخرجه من منزله ومنعه القوت، ونهى بقية إخوته أن يكلموه، فلزم خالد رسول الله ﷺ ليلا ونهارا، ثم أسلم أخوه عمرو، فلما هاجر الناس إلى أرض الحبشة هاجرا معهم، ثم كان هو الذي ولي العقد في تزويج أم حبيبة من رسول الله كما قدمنا.

ثم هاجرا من أرض الحبشة صحبة جعفر فقدما على رسول الله بخيبر، وقد افتتحها فأسهم لهما عن مشورة المسلمين، وجاء أخوهما أبان بن سعيد فشهد فتح خيبر كما قدمنا، ثم كان رسول الله يوليهم الأعمال.

فلما كانت خلافة الصديق خرجوا إلى الشام للغزو فقتل خالد بأجنادين، ويقال: بمرج الصفر، والله أعلم.

قال عتيق بن يعقوب: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم - يعني: أن خالد بن سعيد - كتب عن رسول الله ﷺ كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله راشد بن عبد رب السلمي أعطاه غلوتين بسهم، وغلوة بحجر برهاط لا يحاقه فيها أحد، فمن حاقه فلا حق له وحقه حق» وكتب خالد بن سعيد.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني جعفر بن محمد بن خالد عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان قال: أقام خالد بن سعيد بعد أن قدم من أرض الحبشة بالمدينة، وكان يكتب لرسول الله، وهو الذي كتب كتاب أهل الطائف لوفد ثقيف، وسعى في الصلح بينهم وبين رسول الله ﷺ.

ومنهم رضي الله عنهم: خالد بن الوليد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو سليمان المخزومي، وهو أمير الجيوش المنصورة الإسلامية، والعساكر المحمدية، والمواقف المشهودة، والأيام المحمودة.

ذو الرأي السديد، والبأس الشديد، والطريق الحميد، أبو سليمان خالد بن الوليد.

ويقال: أنه لم يكن في جيش فكسر لا في جاهلية ولا إسلام.

قال الزبير بن بكار: كانت إليه في قريش القبة وأعنة الخيل، أسلم هو وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة ابن أبي طلحة بعد الحديبية، وقيل: خيبر، ولم يزل رسول الله ﷺ يبعثه فيما يبعثه أميرا.

ثم كان المقدم على العساكر كلها في أيام الصديق، فلما ولي عمر بن الخطاب عزله، وولى أبو عبيدة أمين الأمة على أن لا يخرج عن رأي أبي سليمان، ثم مات خالد في أيام عمر وذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: اثنتين وعشرين - والأول أصح - بقرية على ميل من حمص.

قال الواقدي: سألت عنها فقيل لي: دثرت.

وقال دحيم: مات بالمدينة، والأول أصح.

وقد روى أحاديث كثيرة يطول ذكرها.

قال عتيق بن يعقوب: حدثني عبد الملك ابن أبي بكر عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم أن هذه قطايع أقطعها رسول الله ﷺ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المؤمنين: أن صيدوح وصيده لا يعضد صيده ولا يقتل، فمن وجد يفعل من ذلك شيئا فإنه يجلد وينزع ثيابه، وإن تعدى ذلك أحد فانه يؤخذ فيبلغ به النبي ﷺ وأن هذا من محمد النبي وكتب خالد بن الوليد بأمر رسول الله فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمره به محمد».

ومنهم رضي الله عنهم: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أبو عبد الله الأسدي أحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، وحواري رسول الله ﷺ وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وزوج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه.

روى عتيق بن يعقوب بسنده المتقدم أن الزبير بن العوام هو الذي كتب لبني معاوية بن جرول الكتاب الذي أمره به رسول الله ﷺ أن يكتبه لهم.

وروى ابن عساكر بإسناد عن عتيق به.

أسلم الزبير قديما رضي الله عنه وهو ابن ست عشرة سنة، ويقال: ابن ثمان سنين، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، وهو أول من سل سيفا في سبيل الله، وقد شهد اليرموك، وكان أفضل من شهدها، واخترق يومئذ صفوف الروم من أولهم إلى آخرهم مرتين، ويخرج من الجانب الآخر سالما، لكن جرح قفاه بضربتين رضي الله عنه.

وقد جمع له رسول الله ﷺ يوم الخندق أبويه وقال: «إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير».

وله فضائل ومناقب كثيرة، وكانت وفاته يوم الجمل، وذلك أنه كر راجعا عن القتال، فلحقه عمرو بن جرموز، وفضالة بن حابس، ورجل ثالث، يقال له: نفيع التميميون بمكان يقال له: وادي السباع، فبدر إليه عمرو بن جرموز وهو نائم فقتله، وذلك في يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وله من العمر يومئذ سبع وستون سنة.

وقد خلف رضي الله عنه بعده تركة عظيمة، فأوصى من ذلك بالثلث بعد إخراج ألفي ألف ومائتي ألف دينارا، فلما قضي دينه، وأخرج ثلث ماله قسم الباقي على ورثته، فنال كل امرأة من نسائه - وكن أربعا - ألف ألف ومائتا ألف، فمجموع ما ذكرناه مما تركه رضي الله عنه تسعة وخمسين ألف ألف وثمان مائة ألف، وهذا كله في وجوه حل نالها في حياته مما كان يصيبه من الفيء والمغانم، ووجوه متاجر الحلال، وذلك كله بعد إخراج الزكاة في أوقاتها، والصلاة البارعة الكثيرة لأربابها في أوقات حاجاتها رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات الفردوس مثواه - وقد فعل - فإنه قد شهد له سيد الأولين والآخرين ورسوله رب العالمين بالجنة، ولله الحمد والمنة.

وذكر ابن الأثير في (الغابة): أنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وأنه كان يتصدق بذلك كله.

وقال فيه حسان بن ثابت يمدحه ويفضله بذلك:

أقام على عهد النبي وهديه * حواريه والقول بالفضل يعدل

أقام على منهاجه وطريقه * يوالي ولي الحق والحق أعدل

هو الفارس المشهور والبطل الذي * يصول إذا ما كان يوم محجل

وإن امرأ كانت صفية أمه * ومن أسد في بيته لمرسل

له من رسول الله قربى قريبة * ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل

فكم كربة ذب الزبير بسيفه * عن المصطفى والله يعطي ويجزل

إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها * بأبيض سباق إلى الموت يرفل

فما مثله فيهم ولا كان قبله * وليس يكون الدهر ما دام يذبل

قد تقدم أنه قتله عمرو بن جرموز التميمي بوادي السباع وهو نائم، ويقال: بل قام من آثار النوم، وهو دهش فركب وبارزه ابن جرموز، فلما صمم عليه الزير أنجده صاحباه فضالة والنعر فقتلوه، وأخذ عمرو بن جرموز رأسه وسيفه، فلما دخل بهما على علي قال رضي الله عنه لما رأى سيف الزبير: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله ﷺ.

وقال علي فيما قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه.

والصحيح: أنه عمر بعد علي حتى كانت أيام ابن الزبير، فاستناب أخاه مصعبا على العراق، فاختفى عمرو بن جرموز خوفا بعد سطوته أن يقتله بأبيه.

فقال مصعب: أبلغوه أنه آمن، أيحسب أني اقتله بأبي عبد الله؟ كلا والله ليسا سواء، وهذا من حلم مصعب وعقله ورياسته.

وقد روى الزبير عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة يطول ذكرها، ولما قتل الزبير بن العوام بوادي السباع كما تقدم، قالت امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثيه رضي الله عنها وعنه:

غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غير معرد

يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد

كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طراد يا بن فقْع القرْدد

ثكلتك أمك إنْ ظفرت بمثله * فيمن مضى فيمن يروح ويغتدي

والله ربك إنْ قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد

ومنهم رضي الله عنهم: زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبيد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري، أبو سعيد ويقال: أبو خارجة، ويقال: أبو عبد الرحمن المدني قدم رسول الله ﷺ المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة فلهذا لم يشهد بدرا لصغره، قيل: ولا أحدا، وأول مشاهده الخندق، ثم شهد ما بعدها.

وكان حافظا لبيبا عالما عاقلا، ثبت عنه في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ أمره أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأه على النبي ﷺ إذا كتبوا إليه، فتعلمه في خمسة عشر يوما.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا عبد الرحمن عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أن أباه زيدا أخبره أنه لما قدم رسول الله المدينة.

قال زيد: ذهب بي إلى رسول الله ﷺ فأعجب بي.

فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي».

قال زيد: فتعلمت لهم كتابهم ما مرت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب.

ثم رواه أحمد عن شريح بن النعمان، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة، عن أبيه، فذكر عن أبيه، فذكر نحوه.

وقد علقه البخاري في (الأحكام) عن خارجة بن زيد بن ثابت بصيغة الجزم فقال: وقال خارجة بن زيد فذكره.

ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس والترمذي، عن علي بن حجر، كلاهما عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة، عن أبيه به نحوه.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وهذا ذكاء مفرط جدا، وقد كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله ﷺ من القراء كما ثبت في الصحيحين عن أنس.

وروى أحمد والنسائي من حديث أبي قلابة عن أنس، عن رسول الله أنه قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأقضاهم علي ابن أبي طالب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».

ومن الحفاظ من يجعله مرسلا إلا ما يتعلق بأبي عبيدة، ففي صحيح البخاري من هذا الوجه، وقد كتب الوحي بين يدي رسول الله ﷺ في غير ما موطن، ومن أوضح ذلك ما ثبت في الصحيح عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: { لا يسْتوي الْقاعدون من الْمؤْمنين غيْر أولي الضرر والْمجاهدون في سبيل الله } [68] دعاني رسول الله ﷺ فقال: «اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله».

فجاء ابن أم مكتوم فجعل يشكو ضرارته، فنزل الوحي على رسول الله ﷺ فثقلت فخذه على فخذي حتى كادت ترضها فنزل: «غير أولي الضرر» فأمرني فألحقتها.

فقال زيد: فإني لأعرف موضع ملحقها عند صدع في ذلك اللوح - يعني: من عظام - الحديث.

وقد شهد زيد اليمامة، وأصابه سهم فلم يضره، وهو الذي أمره الصديق بعد هذا بأن يتتبع القرآن فيجمعه.

وقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه، ففعل ما أمره به الصديق، فكان في ذلك خير كثير، ولله الحمد والمنة، وقد استنابه عمر مرتين في حجتين على المدينة، واستنابه لما خرج إلى الشام، وكذلك كان عثمان يستنيبه على المدينة أيضا، وكان علي يحبه، وكان يعظم عليا ويعرف له قدره، ولم يشهد معه شيئا من حروبه، وتأخر بعده حتى توفي سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: خمس وخمسين، وهو ممن كان يكتب المصاحف الأئمة التي نفذ بها عثمان بن عفان إلى سائر الآفاق اللائي وقع على التلاوة طبق رسمهن الإجماع والاتفاق، كما قررنا ذلك في كتاب (فضائل القرآن) الذي كتبناه مقدمة في أول كتابنا (التفسير) ولله الحمد والمنة.

ومنهم السجل: كما ورد به الحديث المروي في ذلك عن ابن عباس - إن صح - وفيه نظر.

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا نوح بن قيس عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي ﷺ.

وهكذا رواه النسائي عن قتيبة به.

عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه الآية: { يوْم نطْوي السماء كطي السجل للْكتب } [69] السجل: الرجل هذا لفظه.

ورواه أبو جعفر ابن جرير في تفسيره عند قوله تعالى: { يوْم نطْوي السماء كطي السجل للْكتب } عن نصر بن علي، عن نوح بن قيس، وهو ثقة من رجال مسلم.

وقد ضعفه ابن معين في رواية عنه، وأما شيخه يزيد بن كعب العوفي البصري فلم يرو عنه سوى نوح بن قيس، وقد ذكره مع ذلك ابن حبان في الثقات.

وقد عرضت هذا الحديث على شيخنا الحافظ الكبير أبي الحجاج المزي فأنكره جدا، وأخبرته أن شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع، وإن كان في سنن أبي داود، فقال شيخنا المزي: وأنا أقوله.

قلت: وقد رواه الحافظ ابن عدي في كامله من حديث محمد بن سليمان الملقب ببومة عن يحيى ابن عمرو، عن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله ﷺ كاتب يقال له: السجل، وهو قوله تعالى: { يوْم نطْوي السماء كطي السجل للْكتب }.

قال: كما يطوي السجل للكتاب، كذلك تطوى السماء.

وهكذا رواه البيهقي عن أبي نصر بن قتادة، عن أبي علي الرفا، عن علي بن عبد العزيز، عن مسلم بن إبراهيم، عن يحيى بن عمرو بن مالك به.

ويحيى هذا ضعيف جدا، فلا يصلح للمتابعة، والله أعلم.

وأغرب من ذلك أيضا ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب وابن منده من حديث أحمد بن سعيد البغدادي المعروف بحمدان عن بهز، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان للنبي ﷺ كاتب يقال له: سجل، فأنزل الله: { يوْم نطْوي السماء كطي السجل للْكتب }.

قال ابن منده: غريب تفرد به حمدان.

وقال البرقاني: قال أبو الفتح الأزدي: تفرد به ابن نمير إن صح.

قلت: وهذا أيضا منكر عن ابن عمر، كما هو منكر عن ابن عباس.

وقد ورد عن ابن عباس، وابن عمر خلاف ذلك، فقد روى الوالبي، والعوفي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: قال: كطي الصحيفة على الكتاب، وكذلك قال مجاهد، وقال ابن جرير: هذا هو المعروف في اللغة، أن السجل هو الصحيفة، قال: ولا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وأنكر أن يكون السجل اسم ملك من الملائكة كما رواه عن أبي كريب، عن ابن يمان، ثنا أبو الوفا الأشجعي عن أبيه، عن ابن عمر في قوله: { يوْم نطْوي السماء كطي السجل للْكتب } قال: السجل ملك فإذا صعد بالاستغفار قال الله: «اكتبها نورا».

وحدثنا بندار عن مؤمل، عن سفيان، سمعت السدي يقول: فذكر مثله.

وهكذا قال أبو جعفر الباقر فيما رواه أبو كريب عن المبارك، عن معروف بن خربود، عمن سمع أبا جعفر يقول: السجل الملك، وهذا الذي أنكره ابن جرير من كون السجل اسم صحابي، أو ملك قوي جدا، والحديث في ذلك منكر جدا، ومن ذكره في أسماء الصحابة كابن منده، وأبي نعيم الأصبهاني، وابن الأثير في (الغابة) إنما ذكره إحسانا للظن بهذا الحديث، أو تعليقا على صحته، والله أعلم.

ومنهم سعد ابن أبي سرح: فيما قاله خليفة بن خياط وقد وهم، إنما هو ابنه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كما سيأتي قريبا، إن شاء الله.

ومنهم عامر بن فهيرة: مولى أبي بكر الصديق.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر قال: قال الزهري: أخبرني عبد الملك بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: فذكر خبر هجرة النبي ﷺ وقال فيه: فقلت له: إن قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم من أخبار سفرهم وما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزؤني منه شيئا، ولم يسألوني إلا أن أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى.

قلت: وقد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة، وقد روى أن أبا بكر هو الذي كتب لسراقة هذا الكتاب، فالله أعلم.

وقد كان عامر بن فهيرة - ويكنى أبا عمرو - من مولدي الأزد أسود اللون، وكان أولا مولى للطفيل بن الحارث أخي عائشة لأمها أم رومان، فأسلم قديما قبل أن يدخل رسول الله ﷺ دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي عند الصفا مستخفيا، فكان عامر يعذب مع جملة المستضعفين بمكة ليرجع عن دينه، فيأبى، فاشتراه أبو بكر الصديق فأعتقه، فكان يرعى له غنما بظاهر مكة، ولما هاجر رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر، كان معهما رديفا لأبي بكر، ومعهم الدليل الدئلي فقط، كما تقدم مبسوطا، ولما وردوا المدينة نزل عامر بن فهيرة على سعد بن خيثمة، وآخى رسول الله بينه وبين أوس بن معاذ، وشهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة كما تقدم، وذلك سنة أربع من الهجرة، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة، فالله أعلم.

وقد ذكر عروة وابن إسحاق والواقدي وغير واحد: أن عامر قتله يوم بئر معونة رجل يقال له: جبار بن سلمى من بني كلاب، فلما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة، ورفع عامر حتى غاب عن الأبصار، حتى قال عامر بن الطفيل: لقد رفع حتى رأيت السماء دونه، وسئل عمرو بن أمية عنه.

فقال: كان من أفضلنا، ومن أول أهل بيت نبينا ﷺ.

قال جبار: فسألت الضحاك بن سفيان عما قال ما يعني به؟

فقال: يعني الجنة.

ودعاني الضحاك إلى الإسلام، فأسلمت لما رأيت من قتل عامر بن فهيرة، فكتب الضحاك إلى رسول الله يخبره بإسلامي، وما كان من أمر عامر فقال: «وارته الملائكة، وأنزل عليين».

وفي الصحيحين عن أنس أنه قال: قرأنا فيهم قرآنا أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وقد تقدم ذلك وبيانه في موضعه عند غزوة بئر معونة.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: من رجل منكم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟

قالوا: عامر بن فهيرة.

وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قال: رفع عامر بن فهيرة إلى السماء فلم توجد جثته، يرون أن الملائكة وارته.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن أرقم ابن أبي الأرقم المخزومي: أسلم عام الفتح، وكتب للنبي ﷺ.

قال الإمام مالك: وكان ينفذ ما يفعله ويشكره، ويستجيده.

وقال سلمة عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير: أن رسول الله استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ويختم على ما يقرأه لأمانته عنده.

وكتب لأبي بكر وجعل إليه بيت المال، وأقره عليهما عمر بن الخطاب، فلما كان عثمان عزله عنهما.

قلت: وذلك بعد ما استعفاه عبد الله بن أرقم ويقال: إن عثمان عرض عليه ثلاثمائة ألف درهم عن أجرة عمالته، فأبى أن يقبلها.

وقال: إنما عملت لله فأجري على الله عز وجل.

قال ابن إسحاق: وكتب لرسول الله زيد بن ثابت، فإذا لم يحضر ابن الأرقم، وزيد بن ثابت، كتب من حضر من الناس، وقد كتب عمر، وعلي، وزيد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وخالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم، ممن سمي من العرب.

وقال الأعمش: قلت لشقيق بن سلمة: من كان كاتب النبي ﷺ؟

قال: عبد الله بن الأرقم، وقد جاءنا كتاب عمر بالقادسية وفي أسفله: وكتب عبد الله بن الأرقم.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون عن عبد الواحد ابن أبي عون، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر قال: أتى النبي ﷺ كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: «أجب عني».

فكتب جوابه، ثم قرأه عليه.

فقال: «أصبت وأحسنت، اللهم وفقه».

قال: فلما ولي عمر كان يشاوره، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما رأيت أخشى لله منه يعني: في العمال أضر رضي الله عنه قبل وفاته.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، صاحب الأذان، أسلم قديما فشهد عقبة السبعين، وحضر بدرا وما بعدها، ومن أكبر مناقبه رؤيته الأذان والإقامة في النوم، وعرضه ذلك على رسول الله وتقريره عليه وقوله له: «إنها لرؤيا حق، فألقه على بلال، فإنه أندى صوتا منك» وقد قدمنا الحديث بذلك في موضعه.

وقد روى الواقدي بأسانيده عن ابن عباس أنه كتب كتابا لمن أسلم من جرش فيه الأمر لهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإعطاء خمس المغنم، وقد توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن سعد ابن أبي سرح القرشي العامري، أخو عثمان لأمه من الرضاعة، أرضعته أم عثمان، وكتب الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين بمكة، فلما فتحها رسول الله ﷺ وكان قد أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء، فجاء إلى عثمان بن عفان فاستأمن له، فأمنه رسول الله ﷺ كما قدمنا في غزوة الفتح، ثم حسن إسلام عبد الله بن سعد جدا.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن سعد ابن أبي سرح يكتب للنبي ﷺ، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله أن يقتل، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله ﷺ.

ورواه النسائي من حديث علي بن الحسين بن واقد به.

قلت: وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح عمرو مصر سنة عشرين في الدولة العمرية، فاستناب عمر بن الخطاب عمرا عليها، فلما صارت الخلافة إلى عثمان عزل عنها عمرو بن العاص، وولي عليها عبد الله بن سعد سنة خمس وعشرين، وأمره بغزو بلاد أفريقية فغزاها، ففتحها وحصل للجيش منها مال عظيم كان قسم الغنيمة لكل فارس من الجيش ثلاثة آلاف مثقال من ذهب، وللراجل ألف مثقال، وكان معه في جيشه هذا ثلاثة من العبادلة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ثم غزا عبد الله بن سعد بعد أفريقية الأساود من أرض النوبة، فهادنهم فهي إلى اليوم وذلك سنة إحدى وثلاثين، ثم غزا غزوة الصواري في البحر إلى الروم، وهي غزوة عظيمة كما سيأتي بيانها في موضعها إن شاء الله.

فلما اختلف الناس على عثمان، خرج من مصر، واستناب عليها ليذهب إلى عثمان لينصره، فلما قتل عثمان أقام بعسقلان، وقيل: بالرملة، ودعا الله أن يقبضه في الصلاة، فصلى يوما الفجر، وقرأ في الأولى منها بفاتحة الكتاب والعاديات، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وسورة، ولما فرغ من التشهد سلم التسليمة الأولى، ثم أراد أن يسلم الثانية فمات بينهما رضي الله عنه، وذلك في سنة ست وثلاثين، وقيل: سنة سبع، وقيل: إنه تأخر إلى سنة تسع وخمسين، والصحيح الأول.

قلت: ولم يقع له رواية في الكتب الستة، ولا في المسند للإمام أحمد.

ومنهم رضي الله عنهم: عبد الله بن عثمان، أبو بكر الصديق، وقد تقدم الوعد بأن ترجمته ستأتي في أيام خلافته إن شاء الله عز وجل وبه الثقة، وقد جمعت مجلدا في سيرته، وما رواه من الأحاديث وما روي عنه من الآثار، والدليل على كتابته: ما ذكره موسى بن عقبة عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن سراقة بن مالك في حديثه حين اتبع رسول الله حين خرج هو وأبو بكر من الغار فمروا على أرضهم، فلما غشيهم - وكان من أمر فرسه ما كان - سأل رسول الله ﷺ أن يكتب له كتاب أمان، فأمر أبا بكر فكتب له كتابا ثم ألقاه إليه.

وقد روى الإمام أحمد من طريق الزهري بهذا السند أن عامر بن فهيرة كتبه، فيحتمل أن أبا بكر كتب بعضه ثم أمر مولاه عامرا فكتب باقية، والله أعلم.

ومنهم رضي الله عنهم: عثمان بن عفان أمير المؤمنين، وستأتي ترجمته في أيام خلافته وكتابته بين يديه عليه السلام مشهورة.

وقد روى الواقدي بأسانيده أن نهشل بن مالك الوائلي لما قدم على رسول الله ﷺ أمر رسول الله ﷺ عثمان بن عفان فكتب له كتابا فيه شرائع الإسلام.

ومنهم رضي الله عنهم: علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين، وستأتي ترجمته في خلافته، وقد تقدم أنه كتب الصلح بين رسول الله ﷺ وبين قريش يوم الحديبية أن يأمن الناس، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وعلى وضع الحرب عشر سنين، وقد كتب غير ذلك من الكتب بين يديه ﷺ.

وأما ما يدعيه طائفة من يهود خيبر أن بأيديهم كتاب من النبي ﷺ بوضع الجزية عنهم وفي آخره وكتب علي ابن أبي طالب، وفيه شهادة جماعة من الصحابة منهم سعد بن معاذ ومعاوية ابن أبي سفيان، فهو كذب وبهتان مختلق موضوع مصنوع.

وقد بين جماعة من العلماء بطلانه، واغتر بعض الفقهاء المتقدمين فقالوا: بوضع الجزية عنهم، وهذا ضعيف جدا، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه بطلانه، وأنه موضوع اختلقوه وصنعوه وهم أهل لذلك، وبينته وجمعت مفرق كلام الأئمة فيه ولله الحمد والمنة.

ومن الكتاب بين يديه ﷺ: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وستأتي ترجمته في موضعها، وقد أفردت له مجلدا على حدة، ومجلدا ضخما في الأحاديث التي رواها عن رسول الله ﷺ والآثار والأحكام المروية عنه رضي الله عنه، وقد تقدم بيان كتابته في ترجمة عبد الله بن الأرقم.

ومنهم رضي الله عنهم: العلاء بن الحضرمي واسم الحضرمي: عباد، ويقال: عبد الله بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن عريقة بن مالك بن الخزرج بن أياد بن الصدق بن زيد بن مقنع بن حضرموت بن قحطان، وقيل غير ذلك في نسبه.

وهو من حلفاء بني أمية، وقد تقدم بيان كتابته في ترجمة أبان بن سعيد بن العاص، وكان له من الإخوة عشرة غيره:

فمنهم: عمرو بن الحضرمي، أول قتيل من المشركين قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش، وهي أول سرية كما تقدم.

ومنهم: عامر بن الحضرمي الذي أمره أبو جهل لعنه الله، فكشف عن عورته وناداه واعمراه حين اصطف المسلمون والمشركون يوم بدر، فهاجت الحرب وقامت على ساق، وكان ما كان مما قدمناه مبسوطا في موضعه.

ومنهم: شريح بن الحضرمي، وكان من خيار الصحابة قال فيه رسول الله: «ذاك رجل لا يتوسد القرآن» - يعني: لا ينام ويتركه بل يقوم به آناء الليل والنهار -.

ولهم كلهم أخت واحدة وهي: الصعبة بنت الحضرمي أم طلحة بن عبيد الله.

وقد بعث النبي صلى الله عيه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ثم ولاه عليها أميرا حين افتتحها، وأقره عليها الصديق ثم عمر بن الخطاب، ولم يزل بها حتى عزله عنها عمر بن الخطاب وولاه البصرة، فلما كان في أثناء الطريق توفي، وذلك في سنة إحدى وعشرين.

وقد روى البيهقي عنه وغيره كرامات كثيرة منها أنه سار بجيشه على وجه البحر ما يصل إلى ركب خيولهم، وقيل: إنه ما بل أسافل نعال خيولهم، وأمرهم كلهم فجعلوا يقولون: يا حليم يا عظيم، وأنه كان في جيشه فاحتاجوا إلى ماء فدعا الله فأمطرهم قدر كفايتهم، وأنه لما دفن لم ير له أثر بالكلية، وكان قد سأل الله ذلك، وسيأتي هذا في كتاب (دلائل النبوة) قريبا إن شاء الله عز وجل.

وله عن رسول الله ﷺ ثلاثة أحاديث:

الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي أن رسول الله ﷺ قال: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا»

وقد أخرجه الجماعة من حديثه.

والثاني: قال أحمد: حدثنا هشيم، ثنا منصور عن ابن سيرين، عن ابن العلاء بن الحضرمي أن أباه كتب إلى النبي ﷺ فبدأ بنفسه.

وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل.

والحديث الثالث: رواه أحمد وابن ماجه من طريق محمد بن زيد عن حبان الأعرج عنه، أنه كتب إلى رسول الله ﷺ من البحرين في الحائط - يعني: البستان - يكون بين الاخوة فيسلم أحدهم؟.

فأمره أن يأخذ العشر ممن أسلم.

والخراج: - يعني: ممن لم يسلم -.

ومنهم: العلاء بن عقبة، قال الحافظ ابن عساكر: كان كاتبا للنبي ﷺ ولم أجد أحدا ذكره إلا فيما أخبرنا.

ثم ذكر إسناده إلى عتيق بن يعقوب حدثني عبد الملك ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، عن عمرو بن حزم أن هذه قطائع أقطعها رسول الله ﷺ هؤلاء القوم فذكرها وذكر فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى النبي محمد عباس ببن مرداس السلمي أعطاه مدمورا فمن خافه فيها فلا حق له، وحقه حق، وكتب العلاء بن عقبة وشهد».

ثم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى محمد رسول الله عوسجة بن حرملة الجهني من ذي المروة وما بين بلكثه إلى الظبية إلى الجعلات إلى جبل القبيلة فمن خافه فلا حق له، وحقه حق، وكتبه العلاء بن عقبة».

وروى الواقدي بأسانيده أن رسول الله ﷺ أقطع لبني سيح من جهينة، وكتب كتابهم بذلك العلاء بن عقبة وشهد.

وقد ذكر ابن الأثير في (الغابة) هذا الرجل مختصرا فقال: العلاء بن عقبة كتب للنبي ﷺ، ذكره في حديث عمرو بن حزم، ذكره جعفر، أخرجه أبو موسى - يعني: المديني - في كتابه.

ومنهم رضي الله عنهم: محمد بن مسلمة بن جريس بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي، أبو عبد الله ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد المدني حليف بني عبد الأشهل، أسلم على يدي مصعب بن عمير، وقيل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وآخى رسول الله حين قدم المدينة بينه وبين أبي عبيدة ابن الجراح، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، واستخلفه رسول الله على المدينة عام تبوك.

قال ابن عبد البر في (الاستيعاب): كان شديد السمرة طويلا أصلع ذا جثة، وكان من فضلاء الصحابة، وكان ممن اعتزل الفتنة واتخذ سيفا من خشب، ومات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين على المشهور عند الجمهور، وصلى عليه مروان بن الحكم، وقد روى حديثا كثيرا عن النبي ﷺ.

وذكر محمد بن سعد عن علي بن محمد المدايني بأسانيده أن محمد بن مسلمة هو الذي كتب لوفد مرة كتابا عن أمر رسول الله ﷺ.

ومنهم رضي الله عنهم: معاوية ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي، وستأتي ترجمته في أيام إمارته إن شاء الله، وقد ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه عليه السلام.

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن؟

قال: «نعم؟».

قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.

قال: «نعم؟».

قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.

قال: «نعم؟» الحديث.

وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة بسبب ما وقع فيه من ذكر طلبه تزويج أم حبيبة من رسول الله ﷺ ولكن فيه من المحفوظ تأمير أبي سفيان وتوليته معاوية منصب الكتابة بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا قدر متفق عليه بين الناس قاطبة.

فأما الحديث: قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة معاوية هاهنا: أخبرنا أبو غالب ابن البنا، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الله العطشي، حدثنا أحمد بن محمد البوراني، ثنا السري بن عاصم، ثنا الحسن بن زياد عن القاسم بن بهرام، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله ﷺ استشار جبريل في استكتاب معاوية فقال: استكتبه فإنه أمين، فإنه حديث غريب بل منكر.

والسري بن عاصم هذا هو: أبو عاصم الهمذاني وكان يؤدب المعتز بالله، كذبه في الحديث ابن خراش.

وقال ابن حبان وابن عدي: كان يسرق الحديث.

زاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به.

وقال الدارقطني: كان ضعيف الحديث وشيخه الحسن بن زياد - إن كان اللؤلؤي - فقد تركه غير واحد من الأئمة، وصرح كثير منهم بكذبه، وإن كان غيره فهو مجهول العين والحال.

وأما القاسم بن بهرام فاثنان:

أحدهما: يقال له: القاسم بن بهرام الأسدي الواسطي الأعرج، أصله من أصبهان، روى له النسائي عن سعيد بن خبير عن ابن عباس حديث القنوت بطوله، وقد وثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو داود وابن حبان.

والثاني: القاسم بن بهرام أبو حمدان قاضي هيت قال ابن معين: كان كذابا.

وبالجملة فهذا الحديث من هذا الوجه ليس بثابت ولا يغتر به، والعجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على صناعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره - بل ومن تقدمه بدهر - كيف يورد في تاريخه هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط ثم لا يبين حالها، ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة لا ظاهرة ولا خفية، ومثل هذا الصنيع فيه نظر والله أعلم.

ومنهم رضي الله عنهم: المغيرة بن شعبة الثقفي، وقد قدمت ترجمته فيمن كان يخدمه عليه السلام من بين أصحابه من غير مواليه، وأنه كان سيافا على رأس رسول الله ﷺ، وقد روى ابن عساكر بسنده عن عتيق بن يعقوب بإسناده المتقدم غير مرة أن المغيرة بن شعبة هو الذي كتب إقطاع حصين بن نضلة الأسدي، الذي أقطعه إياه رسول الله ﷺ بأمره.

فهؤلاء كتابه الذين كانوا يكتبون بأمره بين يديه صلوات الله وسلامه عليه.

فصل أمناء الرسول صلى الله عليه وسلم

وقد ذكر ابن عساكر من أمنائه أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري أحد العشرة رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف الزهري.

أما أبو عبيدة: فقد روى البخاري من حديث أبي قلابة عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح».

وفي لفظ: أن رسول الله قال لوفد عبد القيس نجران: «لأبعثن معكم أمينا حق أمين» فبعث معهم أبا عبيدة.

قال: ومنهم: معيقيب ابن أبي فاطمة الدوسي مولى بني عبد شمس، كان على خاتمه ويقال: كان خادمه، وقال غيره: أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في الناس ثم إلى المدينة، وشهد بدرا وما بعدها، وكان على الخاتم، واستعمله الشيخان على بيت المال.

قالوا: وكان قد أصابه الجذام، فأمر عمر بن الخطاب فدووي بالحنظل فتوقف المرض، وكانت وفاته في خلافة عثمان، وقيل: سنة أربعين، فالله أعلم.

قال الإمام أحمد: ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا شيبان عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، حدثني معيقيب أن رسول الله ﷺ قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد؟

قال: «إن كنت لابد فاعلا فواحدة».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شيبان النحوي، زاد مسلم وهشام الدستوائي، زاده الترمذي والنسائي، وابن ماجه والأوزاعي، ثلاثتهم عن يحيى ابن أبي كثير به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا خلف بن الوليد، ثنا أيوب عن عتبة عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال: قال رسول الله ﷺ: «ويل للأعقاب من النار».

وتفرد به الإمام أحمد.

وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عتاب سهل بن حماد الدلال عن أبي مكين نوح بن ربيعة، عن إياس بن الحارث بن المعيقيب، عن جده - وكان على خاتم النبي ﷺ قال: كان خاتم النبي ﷺ من حديد ملوي عليه فضة، قال: فربما كان في يدي.

قلت: أما خاتم النبي ﷺ فالصحيح أنه كان من فضة فصه منه، كما سيأتي في الصحيحين، وكان قد اتخذ قبله خاتم ذهب، فلبسه حينا ثم رمى به وقال: «والله لا ألبسه» ثم اتخذ هذا الخاتم من فضة فصه منه، ونقشه: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، فكان في يده عليه السلام، ثم كان في يد أبي بكر من بعده، ثم في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، فلبث في يده ست سنين ثم سقط منه في بئر أريس، فاجتهد في تحصيله فلم يقدر عليه.

وقد صنف أبو داود رحمة الله عليه كتابا مستقلا في سننه في الخاتم وحده، وسنورد منه إن شاء الله قريبا ما نحتاج إليه، وبالله المستعان.

وأما لبس معيقيب لهذا الخاتم فيدل على ضعف ما نقل أنه أصابه الجذام، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، لكنه مشهور، فلعله أصابه ذلك بعد النبي ﷺ أو كان به وكان مما لا يعدى منه، أو كان ذلك من خصائص النبي ﷺ لقوة توكله، كما قال لذلك المجذوم - ووضع يده في القصعة -: «كلْ ثقة بالله، وتوكلا عليه».

رواه أبو داود.

وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» والله أعلم.

وأما أمراؤه عليه السلام فقد ذكرناهم عند بعث السرايا منصوصا على أسمائهم، ولله الحمد والمنة.

وأما جملة الصحابة فقد اختلف الناس في عدتهم، فنقل عن أبي زرعة أنه قال: يبلغون مائة ألف وعشرين ألف.

وعن الشافعي رحمه الله أنه قال: توفي رسول الله ﷺ والمسلمون ممن سمع منه ورآه زهاء عن ستين ألف.

وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي الحديث عن قريب من خمسة آلاف صحابي.

قلت: والذي روى عنهم الإمام أحمد مع كثرة روايته واطلاعه واتساع رحلته وإمامته، فمن الصحابة تسعمائة وسبعة وثمانون نفسا.

ووضع في الكتب الستة من الزيادات على ذلك قريب من ثلاثمائة صحابي أيضا، وقد اعتنى جماعة من الحفاظ رحمهم الله بضبط أسمائهم وذكر أيامهم ووفياتهم من أجلهم:

الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري في كتابه (الاستيعاب).

وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده.

وأبو موسى المديني.

ثم نظم جميع ذلك الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الصحابية صنف كتابه (الغابة) في ذلك فأجاد وأفاد، وجمع وحصل، ونال ما رام وأمل، فرحمه الله وأثابه، وجمعه والصحابة آمين يا رب العالمين.

(تم الجزء الخامس من كتاب البداية النهاية ويليه الجزء السادس، وأوله (باب ما يذكر من آثار النبي ﷺ التي كان يختص بها في حياته من ثياب وسلاح).....الخ)


هامش

  1. [التوبة: 28 - 29]
  2. [التوبة: 123]
  3. [التوبة: 41 - 42]
  4. [التوبة: 122]
  5. [التوبة: 49]
  6. [التوبة: 81 - 82]
  7. [التوبة: 86 - 93]
  8. [التوبة: 118]
  9. [التوبة: 74]
  10. [التوبة: 106 - 110]
  11. [التوبة: 117 - 119]
  12. [التوبة: 95 - 96]
  13. [التوبة: 102]
  14. [التوبة: 103]
  15. [التوبة: 117 - 188]
  16. [التوبة: 84]
  17. [التوبة: 75]
  18. [النصر: 1 - 3]
  19. [الحديد: 10]
  20. [الحجرات: 1]
  21. [الحجرات: 2]
  22. [الحجرات: 4 - 5]
  23. [آل عمران: 59 - 61]
  24. [الرعد: 8 - 11]
  25. [الرعد: 11 - 13]
  26. [هود: 18 - 19]
  27. [الحجرات: 17]
  28. [النساء: 125]
  29. [المائدة: 3]
  30. [البقرة: 125]
  31. [البقرة: 158]
  32. [الأحزاب: 21]
  33. [البقرة: 201]
  34. [البقرة: 125]
  35. [البقرة: 125]
  36. [آل عمران: 18]
  37. [البقرة: 198]
  38. [التوبة: 36]
  39. [البقرة: 143]
  40. [التوبة: 36]
  41. [التوبة: 37]
  42. [البقرة: 203]
  43. [الزمر: 30 - 31]
  44. [الأنبياء: 34]
  45. [آل عمران: 185]
  46. [الزمر: 30]
  47. [آل عمران: 144]
  48. [آل عمران: 144]
  49. [الزمر: 30]
  50. [القصص: 88]
  51. [الرحمن: 26 - 27]
  52. [آل عمران: 185]
  53. [الحشر: 6]
  54. [النمل: 16]
  55. [مريم: 5 - 6]
  56. [النمل: 16]
  57. [مريم: 1 - 5]
  58. [الأحزاب: 32 - 34]
  59. [الأحزاب: 51]
  60. [الأحزاب: 50]
  61. [الأحزاب: 53]
  62. [الأحزاب: 28 - 29]
  63. [سورة المسد]
  64. [الكهف: 110]
  65. [الضحى: 1 - 2]
  66. [الإنسان: 8]
  67. [الإنسان: 1 - 9]
  68. [النساء: 95]
  69. [الأنبياء: 104]