الرئيسيةبحث

الاستقامة/12


ولهذا نجد امثال هؤلاء من اقل الناس غيرة اذا انتهكت محارم الله ويكون المؤمنون منهم في تعب والمشركون منهم في راحة ضد ما نعت الله به المؤمنين حيث قال اشداء على الكفار رحماء بينهم سورة الفتح 29 وقال اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين سورة المائدة 54 فشأنهم من جنس الخوارج الذين قال فيهم النبي ﷺ يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان

واما المذهب الثاني فإنه قال ومن الناس من قال ان الغيرة من صفات اهل البدائة وان الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار وليس له فيما يجري في المملكة تحكم بل الحق سبحانه اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى

وقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول سمعت ابا عثمان المغربي يقول الغيرة من عمل المريدين فأما اهل الحقائق فلا

قال سمعته يقول سمعت ابا نصر الاصبهاني يقول سمعت الشبلي يقول الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب

قلت اما نفي الغيرة مطلقا وجعلها من عمل المريدين فهذا يضاهي قول من يشهد توحيد الربوبية وان الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا يشهد توحيد الالهية وما يستحقه الرب من عبادته وطاعته وطاعة رسله فلا يفرق بين المؤمن والكافر والاعمى والبصير والظلمات والنور واهل الجنة واهل النار

وهذا من جنس قول المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما اشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الانعام 148 فإن المشركين استدلوا بالقدر على نفي الامر والنهي والمحبوب والمكروه والطاعة والمعصية ومن سلك هذا المسلك فهو في نوع من الكفر البين

وقول القائل ان الموحد لا يتصف بالاختيار كلام مجمل فإن اراد به انه لا يختار بنفسه ولنفسه فقد احسن وان اراد به انه لا يختار ما اختاره الله وامر به واحبه ورضيه وامره هو ان يختاره ويريده ويحبه فهذا كفر وإلحاد بل المؤمن عليه ان يريد ويختار ويحب ويرضى ويطلب ويجتهد فيما امر الله به واحبه ورضيه واراده واختاره دينا وشرعا

وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يعارض الله في امره ونهيه فهذا حسن وحق فإن عليه ان يرضى بما امر الله به ويسلم لله ومن ذلك التسليم لرسوله

كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما سورة النساء 65

وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم سورة الاحزاب 36

وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فاحبط اعمالهم سورة محمد 47

وقال تعالى ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما انزل اله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم اسرارهم سورة محمد 26

وقال تعالى واذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا فأما الذين امنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون واما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهو كافرون سورة التوبة 125 124 وامثال هذا كثير

وقال النبي ﷺ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في امره رواه ابو داود وغيره

وقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه هو ان يعبد الله وحده لا شريك له فهو توحيد الالوهية وهو مستلزم لتوحيد الربوبية وهو ان يعبد الحق رب كل شيء فأما مجرد توحيد الربوبية وهو شهود ربوبية الحق لكل شيء فهذا التوحيد كان في المشركين كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف 106

وكذلك ان اراد اعترافه بأنه لا حول ولا قوة الا بالله وشهوده لفقره وعبوديته وفقر سائر الكائنات وان الله هو رب كل شيء وعالم بكل شيء ومليكه لا يخلق ولا يرزق الا هو ولا يعطى ولا يمنع الا هو لا مانع لما اعطى ولا مطعي لما منع ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده سورة فاطر 2 قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون سورة الزمر 38 وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم سورة يونس 107 يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد سورة فاطر 15

فإن اراد هذه المشهد فهذا ايضا من الايمان والدين فالاول الاقرار بالامر والنهي واتباع ذلك هو عبادته وهذا الاقرار بالقضاء والقدر وشهود الافتقار الى الله هو استعانته

ولهذا قال في الصلاة اياك نعبد واياك نستعين سورة الفاتحة 5 قال الله فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل وعلى

وعلى هذا يخرج قول ابي يزيد اريد الا اريد أي اريد الا اريد بنفسي ولنفسي بل لا أريد الا ما امرتني انت بإرادته واما عدم الإرادة مطلقا فمحال طبعا وطلبه محرم شرعا والمقر بذلك فاسد العقل والدين

والمريد لجميع الحوادث المأمور بها والمنهى عنها كافر بدين الله وما جاءت به رسله واما المريد لما امر ان يريده ويعمله والكاره لما نهى عنه فهذا هو المؤمن الموحد فإن اراد بقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار انه لا يختار شيئا اصلا لا مما امر به ولا مما نهى عنه فهذا مع بطلانه في الواقع وفساده في العقل فهو من اعظم المروق من دين الله اذ عليه ان يريد كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه له ويحبه له ويستعين الله على هذه الارادة والعمل بها فإنه لا حول ولا قوة الا به

كما كان النبي ﷺ يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك

واصل صلاح القلب صلاح ارادته ونيته فإن لم يصلح ذلك لم يصلح القلب والقلب هو المضغة التي اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد

وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يغار اذا انتهكت محارم الله ولا يغضب الله ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يجاهد في سبيل الله فهذا فاسق مارق بل كافر وان اظهر الاسلام فهو منافق وان كان له نصيب من الزهد والعبادة ما كان فيه

ومعلوم ان المؤمن لا يخلو من ذلك بالكلية ومن خلا من ذلك بالكلية فهو منافق محض وكافر صريح اذا المؤمن لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما ولا بد ان يتبرأ من الاشراك بالله واعداء الله كما قال تعالى لقد كان لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون نم دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده سورة الممتحنة 4

وقال عن ابراهيم عليه السلام افرأيتم ما كنتم تعبدون انتم واباؤكم الاقدمون فإنهم عدو لي الا رب العالمين سورة الشعراء 77

وقال تعالى واذ قال ابراهيم لابيه وقومه انني براء مما تعبدون الا الذي فطرني فإنه سيهدين سورة الزخرف 2627

وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه سورة المجادلة 22

وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل اليه ما اتخذوهم اولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون سورة المائدة 80 81

وقال لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار اولياء سورة المائدة 57

وقال لا تتولوا قوما غضب الله عليهم سورة الممتحنة 13 وهذا كثير جدا

وايضا فالقائل لذلك لا يثبت عليه بل لا بد ان يكره امورا كثيرة مضرة وكثيرا ما يعتدى في انكارها حتى يخرج عن العدل فهذا خروج عن العقل والدين وعن الانسانية بالكلية اذا اخذ على عمومه واما ان قبل ذلك في بعض الامور بحيث يترك الكراهة احيانا لما كرهه الله والغيرة احيانا اذا انتهكت محارم اله فهذا ناقص الايمان بحسب ذلك

بل قد ثبت في الصحيح عن ابي سعيد عن النبي ﷺ انه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان فإن لم يكن في القلب انكار ما يكرهه ويبغضه لم يكن فيه ايمان

وفي الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة نفاق وتحقيق ذلك في قوله تعالى قل ان كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا الاية سورة التوبة 24

وقد ذكر الله في سورة براءة وغيره من صفة المنافقين ما فيه غبرة لهؤلاء ووصف المؤمنين والمؤمنات بقوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله سورة التوبة 71

وكذلك قوله بل الحق اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى فيه تقصير في خلق الرب وامره فإن قوله اولى قد يفهم منه ان له شريكا بل لا خالق الا الله ولا رب غيره قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا تملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن اذن له الاية سورة سبأ 22 23

واما الامر فانه سبحانه امر العباد ونهاهم فعلى العبد ان يفعل ما امره به من الغيرة وغيرها فإذا كان قد امره بأن يغار لمحارمه اذا انتهكت وان ينكر المنكر بما يقدر عليه من يده ولسانه وقلبه فلم يفعل فإنما هو فاسق عن امر ربه لا تارك لمشاركته اذ سبيل له الى الشركة بحال وهو سبحانه لا اله الا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

فالاحتجاج بكونه اولى من العبد بخلقه على ترك ما امر به من محبوبة ومرضية وطاعته وعبادته في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه امران قبيحان توهم نوع مشاركة من العبد له اذا اطاعه وعبده واسقاط ما امر به واحبه من الغيرة

وهذا الكلام كأن قائله لم يغالب المقادير بنفسه لنفسه مثل الملوك المتغالبين والامم المتعادين من أهل الجاهلية الذين ليس فيهم من هو مطيع لله ورسوله بجهاده بل كلاهما متبع هواه خارج عن طاعة مولاه اذا اعرض المؤمن عنهم ولم يعاون واحدا منهما لا بباطنه ولا بظاهرة اذا كانا في معصية الله سواء فهو محسن في ذلك واما اذا كان الامر عبادة لربه وهو مستعين به فيه فكيف يكون الاعراض عن هذا الامر طريقة عباد الله الصالحين واولياء الله المتقين وهل الاعراض عن هذا الا من طريقة الجاهلين الظالمين الفاسقين عن امر رب العالمين

واما قول الشيخ ابي عثمان الغيرة من عمل المريدين فأما هل الحقائق فلا فلم يرد والله اعلم بذلك الغيرة على محارم الله وهي الغيرة الشرعية فإن قدر الشيخ ابى عثمان اجل من أن يجعل الغيرة التي وصف الله بها نفسه وكان رسوله فيها اكمل من غيره وهي مما اوجبه الله واحبه من عمل المريدين دون اهل الحقائق وانما يعني الغيرة الاصطلاحية التي يسميها هؤلاء المتأخرون غيرة كا قدمناه مثل الغيرة المتضمنة للمنافسة والحسد مثل ان يغار احدهم اذا رأى احدا سبقه الى الحق او نال منه نصيبا وافرا ونحو ذلك فإن هذا كثير جدا في السالكين فقال الشيخ ان هذه الغيرة تعرض للمريدين حيث لم يشهدوا الحقائق وان الله هو المعطي المانع فأما اهل الحقائق الذين يشهدون ان الله هو المعطى المانع وانه لا رب غيره فإنهم لا يغارون على ما وهبه الله عباده من هباته المستحبة او المباحة ولا يعتبون على الحوادث كما يفعله من يفعله من الناس في سبهم الدهر

كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الامر يقلب الليل والنهار

وقال يقول الله تعالى يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الامر اقلب الليل والنهار فهذا الذي فسر به الشيخ ابو عثمان هو فرقان

وكذلك ما ذكره الشبلي انه قال الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب قال الشبلي غيرة الالهية على الانفاس ان تضيع فيما سوى الله اذا فسر بأن البشر يغارون على الحظوظ مما هو من جنس المنافسة والمحاسدة وليس هذا بمحمود

واما الغيرة الالهية على القلوب على ما يفوتها من محاب الحق ومراضيه فهذا كلام حسن من احسن كلام الشبلي رحمة الله عليه فإن كان هذا يغار على نفسه فلا كلام وان كان يغار من حال غيره ففيه شبه ما من قول النبي ﷺ لا حسد الا في اثنتين رجل اتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورحل اتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق فإنه اخبر انه لا ينبغي لأحد الا يغبط احدا الا على هذا

وكذلك ما ذكره ابو القاسم القشيري بعد ذلك حيث قال والواجب ان يقال الغيرة غيرتان غيرة الحق على العبد وهو ان لا يجعله للخلق فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق وهو ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فلا يقال انا اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله فإن الغيرة على الله جهل وربما تؤدي الى ترك الدين والغيره لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الاعمال له

فهذا كلام جيد لكنه بالاصطلاح الحادث ليس هو بالاصطلاح القديم فإن النبي ﷺ قد بين ان غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يشترك فيه السابقون والمقتصدون وهم اولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم السابقون يجعل اعمالهم كلها لله فإنهم الذين لا يزالون يتقربون الى الله بالنوافل حتى يحبهم ومن احب الله وابغض لله واعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان فإذا صانهم عن العمل لغيره فصارت اعمالهم كلها لله تركوا المحارم واتوا بالواجبات والمستحبات

وقد شبه تنزيههم عن فضول المباح وعن فعل المكروهات وترك المستحبات غيرة من الحق عليهم فهذا امر اصطلاحى لكن المعنى صحيح موافق الكتاب والسنة

واما قوله غيرة العبد للحق ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فهذا غيرة على نفسه ان يكون شيء من عمله لغير الله

وهذا ايضا حال هؤلاء السابقين الاتين بالفرائض والنوافل المجتنبين للمحارم والمكاره قال الله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات سورة فاطر 32

ولا ريب انه يدخل في هذا غيرته اذا انتهكت محارم الله فانه اذا لم يغر لله حينئذ مع امر الله له بالغيرة لم يكن عمله الذي اشتغل به عن هذا الحق لله وكان للشيطان

وكذلك قوله لا يقال اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله كلام حسن جيد كما قال الغيرة على الله جهل وهي كما قدمناه حسد وكبر يسمونه غيره فيحب احدهم ان لا يشركه غيره في التقرب الى الله وابتغاء الوسيلة اليه ويريدون ان يسموا ذلك باسم حسن لئلا يذموا عليه ويسمونه غيرة لان من عادة البشر اذا احب احدهم انسانا محبة طبيعية سواء كانت محبتة محرمة كمحبة الأمور والمرأة الأجنبية أو غير محرمة كمحبة أم أنه ببشر يته يغار من ان يشاركه في ذلك احد فجعلوا محبتهم لله بمنزلة هذه المحبة وهذا من اعظم الجهل والظلم بل محبة الله من شأنها ان يحب العبد ان جميع المخلوقات يشركونه في ذلك

كما قال النبي ﷺ والذي نفس بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه من الخير ما يحبه لنفسه

ومثل هذه الغيرة المذمومة ما ذكره طائفة من السلف قالوا لا تقبل شهادة القراء او قالوا الفقهاء بعضهم على بعض لأن بينهم حسد كحسد النفوس على زريبة الغنم ويقال فلان وفلان يتصاولان على الرياسة تصاول الفحلين فلا ريب ان فحول البهائم تتغاير وتتحاسد وتتصاول على اناثها يطلب كل منها من الاخر ان لا يزاحمه كما يتغاير الفحول الادميون على مناكحهم وهذا فيما امر الله به محرم

كما قال رسول الله ﷺ لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا وكذلك شبه تغاير الضراير

لكن هنا قد يعترض امر فيه شبهة وهو ان يكون من المعارف والاحوال ما يقال فيه انه لا يصلح لبعض الناس فيغار احدهم ان تكون تلك الامور كذلك المنقوص الذي يصنع مثل ذلك ويصفون الله بالغيرةان يجعل هذا كهذا فهذا قد يكون حقا وان لم يسم في الشرع غيرة فان الله سبحانه يكره ويبغض ان يكون مع العبد ما يستعين به على معصية الله دون طاعته وان يكون ما جعله للمؤمنين مع الكفار والمنافقين وكذلك المؤمنون ينبغي ان يكرهوا ذلك فكل ما نهى الله عنه وامر المؤمنين بالمنع منه وازالته فهو يكرهه

وهذا كقوله تعالى سأصرف عن اياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق سورة الاعراف 146 قال طائفة من السلف امنع قلوبهم عن فهم القرآن

هذا ما ذكره عن السري انه قرئ بين يديه واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا سورة الاسراء 45 فقال السري لاصحابه اتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا احد اغير من الله تعالى

فهذا يشبه قوله ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة سورة الانعام 110 وقوله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم سورة الصف 5 فإن الله عاقب المعرض عن اتباع ما بعث به رسله بالحجاب الذي في قلوبهم فسمى السري هذا حجاب الغيرة لأنه تعالى يكره ويبغض ان يكون هؤلاء الذين كفروا وفسقوا عن امره يعطون ما يعطاه المؤمن من الفهم لسبب هذه الغيرة التي وصف الرسول بها ربه فان غيرته ان يأتي العبد ما حرم عليه ذكرها النبي ﷺ وهي غيرة على ما هو من افعال العبد التي نهى عنها واما هذه الغيرة فهي غيرة على ما هو من فعل الرب

والنبي ﷺ لم يصف الله بانه يغار على ما يقدر عليه من الافعال ولكن لما رأى السري ان الشيء المحبوب النفس تغار عليه ان يكون في غير محله سمى ذلك حجاب الغيرة والله يحب لعباده ان يفعلوه من جهة كونهم مأمورين به لكنه سبحانه لا يفعله بهم ولا يحب من يفعله بهم فلا بد من التفريق بين مواقع الامر والنهي ومواقع القضاء والقدر وان كانت الافعال الواقعة من العباد يشترك فيها الامر والنهي واما احوال القلب وانفاسه فإن الاحوال تحولات القلب والنفس والهوى الذي يحمل الصوت واحوال القلب فهما الطف ما في الايمان

قال ابو القاسم ربط الحق بأقدامهم الخذلان واختار لهم البعد واخرجهم عن محل القرب ولذلك يؤخروا وفي معناه انشدوا

انا اصب لن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء رأى الموالى

وقال وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد سمعت الاستاذ ابا علي يقول سمعت العباس المروزي يقول كان لي بداية حسنة فكنت اعرف كم بقي بيني وبين الوصول الى مقصودي من الظفر بمرادي فرأيت ليلة من الليالي في المنام كأنني اتدهده من حالق جبل فأردت الوصول الى ذروته قال فحزنت واخذني النوم فرأيت قائلا يقول يا عباس الحق لم يرد منك ان تصل الى ما كنت طلبت ولكنه فتح على لسانك الحكمة قال فأصبحت وقد الهمت كلمات الحكمة

وقال سمعت الاستاذ ابا علي يقول كان شيخ من الشيوخ له حال ووقت مع الله فخفى مدة لم ير بين الفقراء ثم ظهر بعد ذلك لا على ما كان عليه من الوقت فسئل عنه فقال واه وقع الحجاب

قال وكان الاستاذ ابو علي اذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد ان لا يجرس ما يجري من صفاء هذا الوقت وانشدوا في معناه ... همت بإتياننا حتى اذا نظرت ... الى المراة نهاها وجهها الحسن ... ما كان هذا جزائي من محاسنها ... عذبت بالهجر حتى شفني الحزن ...

قلت ذكر هذه الامور في باب الغيرة مضر ومع ان الحق يغار ان يعطي بعض الناس ما يعطيه لأوليائه المتقين من السابقين والمقربين فقد سموا منع الحق غيرة كما تقدم لكن هذا اللفظ يشعر بأن الحق منع ذلك العبد العطاء العظيم عنده وكون العبد ليس اهلا له كما يغار على الكريمة ان تتزوج بغير الكفء

وهذا المعنى صحيح كما قال تعالى واذا جاءتهم اية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سورة الانعام 124

وكما قال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا اهؤلاء من الله عليهم من بيننا اليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الانعام 52 53

وهذا المعنى اذا ذكر العبد وظلمه واقامة الحجة عليه او بيان حكمة الرب وعدله كان حسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم سورة الشورى 30 وهو لا يمنع من ذلك ما يستحقه العبد اصلا ولا يمنع الثواب الا اذا منع سببه وهو العمل الصالح فأما مع وجود السبب وهو العمل الصالح فإنه من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112

وهو سبحانه المعطي المانع لا مانع لما اعطى ولا معطي لما منع لكن من على الانسان بالايمان والعمل الصالح ثم لم يمنعه موجب ذلك اصلا بل يعطيه من الثواب والقرب مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحيث منعه ذلك فلا يبقى سببه وهو العمل الصالح

ولا ريب انه يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ذلك كله حكمة منه وعدل فمنعه للأسباب التي هي الاعمال الصالحة من حكمته وعدله واما المسببات بعد وجود اسبابها فلا يمنعها بحال الا اذا لم تكن اسبابا صالحة اما لفساد في العمل واما السبب يعارض موجبه ومقتضاه فيكون لعدم المقتضى او لوجود المانع واذا كان منعه وعقوبته من عدم الايمان والعمل الصالح ابتداء حكمة منه وعدل فله الحمد في الحالين وهو المحمود على كل حال كل عطاء منه فضل وكل عقوبة منه عدل

وهذا الموضع يغلط فيه كثير من الناس في تمثلهم بالاشعار وفي مواجيدهم فإنهم يتمثلون بما يكون بين المحب والمحبوب والسيد والعبد من العباد من صدق المحب والعبد في حبه واستفراغه وسعه وبحب المحبوب والسيد واعراضه وصده كالبيت الذي انشده حيث قال

انا صب بمن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء راى الموالي ...

وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد

وهذا التمثيل يشعر بأن العبد صادق الارادة تام السعي وانما الاعراض من المولى وهذا غلط بل كفر فإن الله يقول من تقرب الي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا ومن اتاني يمشي اتيته هروله وقد اخبر انه من جاء بالحسنة فله عشر امثالها وانه يضاعفها سبعمائة ضعف ويضاعفها اضعافا كثيرة واخبر انه من هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات الى سبعمائة ضعف الى اضعاف كثيرة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة وان عملها لم تكتب عليه الا سيئة واحدة

وقال سبحانه والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم سورة محمد 17

وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112

وقال من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه سورة الشورى 20 الى امثال ذلك

فكيف يظن او يقال ان العبد يتقرب اليه كما يتقرب العبد والمحب الصادق الى محبوبة وسيده وهو مع ذلك لا يقربه اليه ولا يتقرب منه بل يصده ويمنعه كما يفعل ذلك المخلوق اما لبخله واما لتضرره واما لغير ذلك

وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحاح انه قال لله اشد فرحا بتوبة عبده من احدكم يرى راحلته اذا وجدها عليها طعامه وشرابه لن يكون بتوبة التائب اعظم فرحا من الواجد لطعامه وشرابه ومركبه بعد الخوف المفضى الى الهلاك كيف يتمثل له بالتجنى والصد والاعراض وسوء رأى الموالي وبحق الله مما يفعله السادة بعبيدهم والمحبوب مع محبه وكيف يتمثل له بقولهم سقيم لا يعاد ومريد لا يراد وهل في الصادقين مع الله سقيم لا يعاد وهل اراد الله احد بصدق فلم يرده الله

وقد ثبت في صحيح مسلم ان الله يقول عبدي مرضت فلم تعدني قال رب كيف اعودك وانت رب العالمين فيقول ان عبدي فلانا مرض فلم تعده اما انك لوعدته لوجدتني عنده

والله قد اخبر انه من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه وقال ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأؤلئك كان سعيهم مشكورا سورة الاسراء 19

وفي الجملة فهذا الباب تكذيب بما وعده الله عباده الصالحين ونسبة الله الى ما نزه نفسه عنه من ظلم العباد بإضاعة اعمالهم الصالحة بغير ذنب لهم ولا عدوان وتمثيل لله بالسيد البخيل الظالم ونحوه واقامة لعذر النفس ونسبة لها الى اقامة الواجب ففيه من الكبر والدعوى ما فيه

والحق الذي لا ريب فيه ان ذلك جميعه لا يكون الا لتفريط العبد وعدوانه بأن لا يكون العمل الذي عمله صالحا او يكون له من السيئات ما يؤخر العبد وإنما العبد ظالم جاهل يعتقد انه قد اتى بما يستوجب كمال التقريب ولعل الذي اتى به انما يستوجب به اللعنة والغضب بمنزلة من معه نقد مغشوش جاء ليشتري متاعا رفيعا فلم يبيعوه فظن انهم ظلموه وهو الظالم وهو في ذلك شبيه بأحد ابني ادم اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27

وعلى هذا الاصل تخرج حكاية عباس وامثالها فإنه لم يعين مطلوبه ومراده وما العمل الذي عمله فقد طلب امرا ولم يأت بعمله الذي يصلح له واما كون الحق لم يرد منه ان يصل الى مطلوبه فقد يكون لعدم استئهاله وقد يكون لتضرره لو حصل له وكم ممن يتشوق الى الدرجات العالية التي لا يقدر ان يقوم بحقوقها فيكون وصوله اليها وبالا في حقه

وهذا في امر الدنيا كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه سورة التوبة 75 77

وغالب من يتعرض للمحن والابتلاء ليرتفع بها ينخفص بها لعدم ثباته في المحن بخلاف من ابتلاه الحق ابتداء كما قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رايتموه وانتم تنظرون سورة آل عمران 143

وقال يا ايها الذين امنوا لم تقولون مالا تفلعون كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون سورة الصف 3

وقال النبي ﷺ يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فانك ان اعطيتها عن مسألة وكلت اليها وان اعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها وقال اذا سمعتم بالطاعون ببلد فلا تقدموا عليه واذا وقع بأرض وانتم بها فلا تخرجوا فرارا منها

قال ابو القاسم واعلموا ان من سنة الحق مع اوليائه انهم اذا ساكنوا غيرا او لاحظوا شيئا او ضاجعوا بقلبوهم شيئا شوش عليهم ذلك فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة عما ساكنوه

وقال سمعت السلمى يقول سمعت ابا زيد المروزي الفقيه يقول سمعت ابراهيم بن سنان سمعت محمد بن حسان يقول بينما انا ادور في جبل لبنان اذ خرج علينا رجل شاب قد احرقته السموم والرياح فلما نظر الى ولى هاربا فتبعته وقلت له تعظنى بكلمة فقال احذروه فإنه غيور لا يحب ان يرى في قلب عبده سواه

وقال سمعت السلمى يقول سمعت النصراباذي يقول الحق غيور ومن غيرته انه لم يجعل اليه طريقا سواه

قلت هذه الغيرة تدخل في الغيرة التي وصفها النبي ﷺ اذ قال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واعظم الذنوب ان تجعل لله ندا وهو خلقك وتجعل معه الها اخر والشرك منه جليل ومنه دقيق فالمقتصدون قاموا بواجب التوحيد والسابقون المقربون قاموا بمستحبه مع واجبه ولا شيء احب الى الله من التوحيد ولا شيء ابغض اليه من الشرك ولهذا كان الشرك غير مغفور بل هو اعظم الظلم

وقد قال النبي ﷺ مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تارة تميلها وتعدلها اخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الارز لا تزال ثابته على اصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة

فالله تعالى يبتلى عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب ومن رحمته بعبده المخلص ان يصرف عنه ما يغار عليه منه كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وكما قال انه ليس له سلطان على الذين امنوا وعلى ربهم يتوكلون سورة النحل 99 فاذا صرف عنه ما يغار عليه منه كان ذلك من رحمته به واصطفائه اياه وان كان في ذلك مشقة عليه فهو تارة يمنعه مما يكرهه له وتارة ليطهره منه بالابتلاء فاذا كان يغار من ذلك فاذا فعل العبد ما يغار عليه فقد يعاقبه على ذلك بقدر ذنبه

كما قال ابو القاسم وحكى عن السري انه قال كنت اطلب رجلا صديقا مرة من الاوقات فمررت في بعض الجبال فإذا انا بجماعة زمنى ومرضى وعميان فسألت عن حالهم فقالوا ها هنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء فصبرت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت اثره وتعلقت به وقلت له بي علة باطنة فما دواؤها فقال يا سري خل عني فإنه غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه

وهذا من قوله تعالى لا تجعل مع الله الها اخر فتقعد مذموما مخذولا سورة الاسراء 22

وقوله فلا تدع مع الله الها اخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء

وقوله ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح في مكان سحيق سورة الحج 31

وقوله ولقد اوحى اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين سورة الزمر 65 66

وقوله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون سورة الانعام 88

وقوله فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين يوسف 42

واما مقام الرجل وامثاله في ذلك الزمان بجبل لبنان فان جبل لبنان ونحوه كان ثغرا للمسلمين لكونه بساحل البحر مجاورا للنصارى بمنزلة عسقلان والاسكندرية وغيرهما من الثغور وكان صالحو المسلمين يقيمون بالثغور للرباط في سبيل الله وما ورد من الاثار في فضل هذه البقاع فلفضل الرباط في سبيل الله واما بعد غلبة النصارى عليها والقرامطة والروافض فلم يبق فيها فضل وليس به في تلك الاوقات احد من الصالحين ولا يشرع في ديننا سكنى البوادي والجبال الا عند الفرار من الفتن اذ كان المقيم بالمصر يلجأ اليها عند الفتنة في دينه فيهاجر الى حيث لا يفتن فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقد بسطنا هذا في غير الموضع

قلت فقد ظهر انهم يعنون بغيرة الحق نحو ما وصف به الرسول ﷺ ان من غيرته على عبده ان يأتي محارمه فيدخلون في ذلك ما لا يحبه من فضول المباح وقد يعنون بها غيرته على مواجده وعطاياه التي لأوليائه ان يضعها في غير محلها فجعلوا الغيرة تارة في امره ونهيه وتارة في قضائه وقدره

واما الغيرة من اهل الطريق فقد يعني بها المعنى الشرعي وهو ان يغار المؤمن ان تنتهك محارم الله ويدخلون في ذلك اباء المقربين من غيرتهم ان يكون الشيء من امورهم لغير الله وذلك قد يعني بها ان يغار الانسان على محاب الحق ومرضاته ان تكون في غير محلها وهذا قريب

وقد يعني بها ان يغار الانسان ان يشاركه غيره في طريق الحق ومواهبه ويكون هذا حسدا واستكبارا وشبها بغيرة الضرائر على الرجل او غيره الفحول على الانثى

وقد يعني بها ان يغار على الحق ان يذكره احد او ان يعرفه احد او ان ينظر اليه احد كما يغار الانسان على محبوبه العزيز عنده

كما تقدم عن الشبلي وكما حكاه عن بعضهم قال قيل لبعضهم اتريد ان تراه فقال لا قيل ولم قال انزه وذلك الجمال عن نظر مثلى

قال وفي المعنى انشدوا

اني لأحسد ناظري عليكا ... حتى اغض اذا نظرت اليكا ...

واراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا ...

وكما ذكر في باب المحبة فقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الشبلي يقول المحبة ان تغار على المحبوب ان يحبه مثلك

وهذا ايضا وجه فاسد جدا وهو جهل بالله وبما يستحقه وتشبيه له بالمحبوب من البشر وظن من هذا القائل انه اذا رأى الله حصل بذلك نقص في حق الله او ضرر عليه فان الانسان انما يغار على محبوبه مما فيه عليه ضرر او علي المحب فيه ضرر فيغار من الشركة لما فيه من الضرر وقد يغار عليه من نفسه لاستشعاره به ان ذلك نقص وذلك كله محال في حق الله

ومن قال هذا قد يقول اغار عليه من ان احبه ومثلى لا يصلح ان يعبده وانما اعبد من يعبده ونحو ذلك مما زينه الشيطان للمشركين واهل الضلال وذلك انهم قد يدخلون في غيرة الله منعه لمواهبه وعطاياه من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتقربوا اليه بأصناف القربات كما قد يمنع السيد والمحبوب عبيده ومحبيه ما يستحقونه وهذا ايضا جهل بالله وتكذيب بوعده وتجوير له وتزكية لنفوسهم وهو باطل

وفي الجملة فالغيرة المحمودة اما ترك ما نهى الله عنه او ترك ما لم يأمر الله به ولا اوجبه ومن لم يكن فيه احد الحالين فهو ممن فسق عن امر ربه والثانية حال الكمل الصادقين

فأما الغيرة على ما لم يحرمه او على ما اباحه الله لعباده ان يفعلوه وهو لا يكرهه ولا يسخطه فهو مذموم كله كما تقدم

فهذه الغيرة الاصطلاحية من مدحها مطلقا فقد أخطأ ومن ذمها مطلقا فقد أخطأ والصواب ان يحمد منها ما حمده الله ورسوله ويذم منها ما ذمه الله ورسوله وهذا يقع كثيرا للسالكين في هذا الخلق وغيره فإنه يلبس الحق بالباطل ولهذا السبب ينكر كثير من الناس مثل هذا الطريق لما فيه من لبس الحق بالباطل والآخرون يعظمونه لما فيه من الحق والصواب الفرقان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور سورة النور 40

فصل

فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي سليمان الداراني رحمه الله انه قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار فان الناس تنازعوا في هذا الكلام فمنهم من انكره ومنهم من قبله والكلام على هذا الكلام من وجهين

أحدهما من جهة ثبوته عن الشيخ ابي سليمان والثاني من جهة صحته في نفسه وفساده

اما المقام الاول فينبغي ان يعلم ان الاستاذ ابا القاسم القشيري لم يذكره عن الشيخ ابي سليمان بإسناد وانما ذكره مرسلا عنه في رسالته عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين والمشايخ وغيرهم تارة يذكره بإسناد وتارة يذكره مرسلا وكثيرا ما يقول في الرسالة وقيل عنه كذا ثم الذي يذكره الاستاذ ابو القاسم بالإسناد تارة يكون اسناده صحيحا وتارة يكون ضعيفا بل موضوعا وما يذكره مرسلا ومحذوفا لقائل اولى وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء فإن فيها من الاحاديث والآثار ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الاثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع

وهذا امر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون في ان هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والاثار فيها هذا وهذا وكذلك الكتب المصنفة في التفسير فيها هذه وهذا مع ان اهل الحديث اقرب الى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم

والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه او التصوف او الحديث ويروون هذا تارة لأنهم لم يعلموا انه كذب وهو الغالب على اهل الدين فإنهم لا يحتجون بما يعلمون انه كذب وتارة يذكرونه وان علموا انه كذب اذ قصدهم رواية ما روى في ذلك الباب

ورواية الاحاديث المكذوبة مع بيان انها كذب جائز واما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من حدث عني بحديث وهو يرى انه كذب فهو احد الكاذبين

وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين انهم لم يكذبوا وانما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل اذ رووه ليعرف انه روى لا لأجل العمل به والاعتماد عليه

والمقصود هنا ان ما يوجد في الرسالة وامثالها من كتب الفقه والتصوف والحديث من المنقولات عن النبي ﷺ وغيره من السلف فيه الصحيح وفيه الضعيف وفيه الموضوع فالصحيح الذي قامت الدلالة على صدقه والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد واما لاتهامه ولكن يمكن ان يكون صادقا فيه فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ

وغالب ابواب الرسالة فيه الاقسام الثلاثة ومن ذلك باب الرضا فإنه ذكر فيه عن النبي ﷺ حديثا صحيحا في اثناء الباب وهو حديث العباس بن عبد المطلب عن النبي ﷺ انه قال ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا

وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه وان كان الاستاذ لم يذكر ان مسلما رواه لكن رواه بإسناد صحيح وذكر في اول هذا الباب حديثا ضعيفا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر فهو وان كان اول حديث ذكره في الباب فإن حديث الفضل بن عيسى من اوهى الاحاديث واسقطها ولا نزاع بين الائمة انه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وان كان هو لا يعتمد الكذب فإن كثيرا من الزهاد والفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك ائمة هذا الشأن حتى قال ايوب السختياني لو ولد فضل اخرس لكان خيرا له وقال سفيان بن عيينة لا شيء وقال الامام احمد والنسائي هو ضعيف وقال يحيى بن معين رجل سوء وقال ابو حاتم وابو زرعة منكر الحديث

وكذلك ما ذكره من الاثار فانه قد ذكر اثارا حسنة بأسانيد حسنه مثل ما رواه عن الشيخ ابي سليمان الداراني انه قال اذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض فإن هذا رواه عن شيخه ابي عبد الرحمن السلمي بإسناده والشيخ ابو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشايخ وحكاياتهم وصنف في الاسماء كتاب الطبقات طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك وصنف في الابواب كتاب مقامات الاولياء وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الاقسام الثلاثة

وذكر عن الشيخ ابي عبد الرحمن انه قال سمعت النصراباذي يقول من اراد ان يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه

فإن هذا الكلام في غاية الحسن فإنه من لزم ما يرضى الله من امتثال اوامره واجتناب نواهيه لا سيما اذ قام بواجبها ومستحبها يرضي الله عنه كما انه من لزم محبوبات الله احبه الله كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته الحديث

وذلك ان الرضا نوعان احدهما الرضا بفعل ما امر به وترك ما نهى عنه ويتناول ما اباحه الله من غير تعد الى المحظور

كما قال تعالى والله ورسوله احق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 وقال تعالى ولو انهم رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون سورة التوبة 59 فهذا الرضا واجب

وكذلك ذم من تركه بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون سورة التوبة 58

والنوع الثاني الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في احد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل انه واجب والصحيح ان الواجب هو الصبر كما قال الحسن البصري رحمه الله الرضا عزيز ولكن الصبرمعول المؤمن

وقد روى في حديث ابن عباس ان النبي ﷺ قال له ان استطعت ان تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا

واما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان فالذي عليه ائمة الدين انه لا يرضى بذلك فإن الله لا يرضاه كما قال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر 7

وقال والله لا يحب الفساد سورة البقرة 205

وقال تعالى فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين سورة التوبة 96

وقل تعالى فجزاؤه حهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما سورة النساء : 93

وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم سورة محمد 28

وقال وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم سورة التوبة 68

وقال لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون سورة المائدة 80

وقال فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف 55

فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يسوغ للمؤمن ان يرضى ذلك وان لا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه