الإنصاف فيما يجب ولا يجوز فيه الخلاف
للقاضي أبي بكر الباقلاني
قال القاضي الإمام السعيد، سيف السنة، ولسان الأمة، أبو بكر: محمد ابن الطيب بن محمد رضي الله عنه.
الحمد لله ذي القدرة والجلال، والعظمة والكمال. أحمده على سوابغ الإنعام وجزيل الثواب، وأرغب إليه في الصلاة على نبيه محمد المختار وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، والتابعين لم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد: فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية أحسن الله توفيقها لما تتوخاه من طلب الحق ونصرته، وتنكب الباطل وتجنبه. واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين. وإتباع السلف الصالح من المؤمنين، من ذكر جمل ما يجب على المكلفين اعتقاده، ولا يسع الجهل به، وما إذا تدين به المرء صار إلى التزام الحق المفروض، والسلامة من البدع والباطل المرفوض. وإني بحول الله تعالى وعونه، ومشيئته وطوله، أذكر لها جملاً مختصرة تأتي على البغية من ذلك، ويستغنى بالوقوف عليها عن الطلب، واشتغال الهمة بما سواه. فنقول وبالله التوفيق: أن الواجب على المكلف.
أن يعرف بدء الأوائل والمقدمات التي لا يتم له النظر في معرفة الله عز وجل وحقيقة توحيده، وما هو عليه من صفاته التي بان بها عن خلقه، وما لأجل حصوله عليها استحق أن يعبد بالطاعة دون عباده. فأول ذلك القول في العلم وأحكامه ومراتبه، وأن حده: أنه معرفة المعلوم على ما هو به، فكل علم معرفة وكل معرفة علم.
وأن يعلم أن العلوم تنقسم قسمين: قسم منهما: علم الله سبحانه، وهو صفته لذاته، وليس بعلم ضرورة ولا استدلال، قال الله تعالى: "أنزله بعلمه" وقال: "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" وقال: "فاعلموا أنما أنزل بعلم اللّه" فأثبت العلم لنفسه، ونص على أنه صفة له في نص كتابه.
والقسم الآخر: علم الخلق. وهو ينقسم قسمين: فقسم منه علم اضطرار، والآخر علم نظر واستدلال: فالضروري ما لزم أنفس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه؛ نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدى في النفس من الضرورات.
والنظري: منهما: ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة. ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه.
وجميع العلوم الضرورية تقع للخلق من ستة طرق: فمنها: درك الحواس الخمس، وهي: حاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحاسة الذوق،، وحاسة الشم، وحاسة اللمس. وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، ولون، وكون، وكلام، وصوت، ورائحة، وطعم، وحرارة، وبرودة، ولين، وخشونة، وصلابة، ورخاوة فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس: هو العلم المبتدأ في النفس، لا عن درك ببعض الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه، وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة، والألم، والغم، والفرح، والقدرة، والعجز، والصحة، والسقم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وكل معلوم بأوائل العقول، والعلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر، أو نخل، وأن اللبن لا يكون إلا من ضرع وكل ما هو مقتضى العادات.
وكل ما عدا هذه العلوم وهو علم استدلال لا يحصل إلا عن استئناف الذكر والنظر وتفكر بالنظر والعقل فمن جملة هذه الضرورات العلم بالضرورات الواقعة بأوائل العقول، ومقتضى العادات التي لا تشارك ذوي العقول في علمها البهائم والأطفال والمنتقصون؛ نحو العلم الواقع بالبديهة، ومتضمن كثير من العادات، ونحو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان، وأمثال ذلك من موجب العادات وبدائه العقول التي لا يخص بعلمها العاقلون.
وأن يعلم أن الاستدلال هو: نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس، وأن الدليل هو: ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره، وهو على ثلاثة أضرب: عقلي: له تعلق بمدلوله، نحو دلالة الفعل على فاعله، وما يجب كونه عليه من صفاته. نحو حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. وسمعي شرعي: دال من طريق النطق بعد المواضعة، ومن جهة معنى مستخرج من النطق، ولغوي: دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام، ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ، وقد لحق بهذا الباب: دلالات الكتابات والرموز، والإشارات والعقود، الدالة على مقادير الأعداد، وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. والدال هو ناصب الدليل: فالمدلول هو ما نصب له الدليل. والمستدل الناظر في الدليل، واستدلاله نظره في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه.
وإن يعلم أن المعلومات على ضربين: معدوم وموجود، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم: هو المنتفي الذي ليس بشيء. قال الله عز وجل: "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً". وقال تعالى: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا" فأخبر أن المعدوم منتف ليس بشيء، والموجود هو الشيء الكائن الثابت. وقولنا شيء إثبات، وقولنا ليس بشيء نفي. قال الله تعالى: "قل أيّ شيء أكبر شهادة قل اللّه" وهو سبحانه موجود غير معدوم.
وقول أهل اللغة علمت شيئاً، ورأيت شيئاً، وسمعت شيئاً؛ إشارة إلى كائن موجود، وقولهم: ليس بشيء هو واقع على نفي المعدوم، ولو كان المعدوم شيئاً كان القول ليس بشيء نفياً لا يقع أبداً إلا كذباً، وذلك باطل بالاتفاق.
وأن يعلم أن الموجودات كلها على قسمين. منها: قديم لم يزل وهو الله تعالى، وصفات ذاته التي لم يزل موصوفاً بها ولا يزال كذلك. وقولهم: أقدم، وقديم موضوع للمبالغة في الوصف بالتقدم وكذلك أعلم وعليم، وأسمع وسميع.
والقسم الثاني: محدث، لوجوده أول، ومعنى المحدث ما لم يكن ثم كان، مأخوذ ذلك من قولهم: حدث بفلان حادث. من مرض، أو صداع؛ وأحدث بدعة في الدين، وأحدث روشناً، وأحدث في العرصة بناء، أي فعل ما لم يكن من قبل موجوداً.
وأن يعلم أن المحدثات كلها على ثلاثة أقسام: جسم، وجوهر، وعرض. فالجسم في اللغة هو: المؤلف المركب. يدل على ذلك قولهم: رجل جسيم، وزيد أجسم من عمرو، وهذا اللفظ من أبنية المبالغة، وقد اتفقوا على أن معنى المبالغة في الاسم مأخوذ من معنى الاسم؛ يبين ذلك أن قولهم: أضرب إذا أفاد كثرة الضرب كان قولهم: ضارب مفيداً للضرب، وكذلك إذا كان قولهم: المؤلف المركب مفيداً كثرة الاجتماع والتأليف، وجب أن يكون قولهم جسم مفيداً كذلك.
والجوهر: الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجد فيه غيره.
والعرض: هو الذي يعرض في الجوهر، ولا يصح بقاؤه وقتين، يدل على ذلك قولهم: عرض لفلان عارض من مرض، وصداع إذا قرب زواله، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عز وجل: "تريدون عرض الدنيا واللّه يريد الآخرة" وقوله، "هذا عارض ممطرنا" فكل شيء قرب عدمه وزواله، موصوف بذلك، وهذه صفة المعاني القائمة بالأجسام، فوجب وصفها في قضية العقل بأنها أعراض.
وأن يعلم أن العالم محدث، وأنه لا ينفك علوية وسفلية من أن يكون جسماً مؤلفاً، أو جوهراً منفرداً، أو عرضاً محمولاً. وهو محدث بأسره. وطريق العلم بحدوث أجسامه وحدوث أعراضه. والدليل على ثبوت أعراضه: تحرك الجسم بعد سكونه، وتفرقه بعد اجتماعه، وتغير حالاته، وانتقال صفاته، فلو كان متحركاً لنفسه، ومتغيراً لذاته لوجب تركه في حال سكونه، وتغيره واستحالته في حال اعتداله، وفي بطلان ذلك دليل على إثبات حركته، وسكونه، وألوانه، وأكوانه، وغير ذلك من صفاته، لأنه إذا لم يكن كذلك لنفسه وجب أن يكون لمعنى ما تغير عن حاله واستحال عن وصفه.
والدليل على حدوث هذه الأعراض: ما هي عليه من التنافي والتضاد، فلو كانت قديمة كلها لكانت لم تزل موجودة، ولا تزال كذلك، ولوجب متى كانت الحركة في الجسم أن يكون السكون فيه، وذلك يوجب كونه متحركاً في حالة سكونه، وميتاً في حال حياته، وفي بطلان ذلك دليل على طروق السكون بعد أن لم يكن، وبطلان الحركة عند مجيء السكون، والطارىء بعد عدمه، والمعدوم بعد وجوده محدث باتفاق؛ لأن القديم لا يحدث ولا يعدم، ولا يبطل.
والدليل على حدوث الأجسام: أنها لم تسبق الحوادث، ولم تخل منها، لأننا باضطرار نعلم: أن الجسم لا ينفك من الألوان، ومعاني الألوان من الاجتماع والافتراق، وما لا ينفك من المحدثات، ولم تسبقه كان محدثاً. ولأنه إذا لم يسبقه كان موجوداً معه في وقته أو بعده، وأي ذلك وجد وجب القضاء على حدوثه، وأنه معدوم قبل وجوده. وأن يعلم أن للعالم محدثاً أحدثه. والدليل على ذلك وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر، ولا يجوز أن يكون ما تقدم منها وتأخر متقدماً ومتأخراً لنفسه، لأنه ليس التقدم بصحة تقدمه أولى من التأخر بصحة تأخره، فوجب أن يدل على فاعل فعله، وصرفه في الوجود على إرادته وجعله مقصوراً على مشيئته، يقدم منها ما شاء ويؤخر ما شاء. قال الله تعالى: "فعال لما يريد" وقال: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" ويدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلاً كتعلق الفاعل في كونه فاعلاً بالفعل، فإن تعلق الكتابة، والصناعة بالكاتب والصانع كتعلق الكاتب في كونه كاتباً بالكتابة؛ فلو جاز وجود فعل لا من فاعل، وكتابة لا من كاتب، وصورة وبنية محدثة لا من مصور، لجاز وجود كاتب لا كتابة له، وصانع لا صنعة له، فلما استحال ذلك وجب أن يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلاً. لوجود الفعل وحصوله منه، ومن صفات هذا الصانع تعالى أنه: موجود، قديم، واحد، أحد، حي، عالم، قادر، مريد، متكلم، سميع، بصير، باق "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" وستدل على ذلك فيما بعد إن شاء الله بعد البداية بفرائض المكلفين، وشرائع المسلمين مما يقرب فهمه ولا ينبغي جهله، ولا بد للمكلف من علمه والعمل به فإذا أتينا على هذه الجملة رجعنا إلى القول في التوحيد، وإثبات أسماء الله تعالى وصفاته، وذكر ما يجوز عليه وما يستحيل في صفته، وما توفيقي إلا بالله. وأن يعلم: أن أول نعم الله تعالى على خلقه الحي الإدراك خلقه فيهم إدراك اللذات، وسلامة الحواس، ونيل ما ينتفعون به من الشهوات التي تميل إليها طباعهم، وتصلح عليها أجسامهم، ولو أحياهم، وآلمهم ومنعهم إدراك اللذات لكانوا مستضرين بالآلام، وبمثابة الأحياء المعذبين من أهل النار، وهذه نعمة الله سبحانه على جميع الحيوان الحاس، العاقل منهم والناقص، والمؤمن والكافر.
وأن يعلم أن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم، وإجراؤه على ألسنتهم، وتوفيقهم لفعله، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان، والتوفيق له نعمة خص الله تعالى بها المؤمنين دون الكافرين، ولذلك قال عز وجل" "فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين" "ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً" "ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً" وقال عز وجل" "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" وقال تعالى: "بل اللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" فلو كانت هذه النعمة له على الكافرين لم يكن لتخصيصه بها المؤمنين وامتنانه على المؤمنين به، إذ كان قد أنعم بها على المردة والكفرة الضالين. وأن يعلم: أن طرق المباين عن الأدلة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ وإجماع الأمة وما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد حجج العقول. قال الله تعالى آمراً بإتباع كتابه والرجوع إلى بيانه: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها". وقال عز وجل: "ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". وقال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" وقال سبحانه: "تِبْيَاناً لكل شيء" و "ما فرطنا في الكتاب من شيء"
وقال عز وجل في الأمر بإتباع رسوله ﷺ: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وقال: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" وقال: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".
وقال سبحانه في وصف عدالة أمة نبيه ﷺ والأمر بإتباعها، والتحذير من مخالفتها: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" وقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وقال: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً".
وقال في الأمر بالقياس والحكم بالنظائر والأمثال: "فاعتبروا يا أولى الأبصار" وقال: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" وقال النبي ﷺ لقاضيه معاذ ابن جبل رضي الله عنه حين أنفذه إلى اليمن لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله عز وجل. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله ﷺ. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي وأحكم. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى الله ورسوله. فأقره على الحكم والاجتهاد وجعله أحد طرق الأحكام. وقال عز وجل في الأمر بإتباع حجة العقل: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" وقال: "أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" وقال: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" وقال: "وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم" وقال تعالى: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" فأمرنا بالاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له بحسب نظيره، وهذا هو الحكم، المعقول والتقاضي إلى أدلة العقول.
وأن يعلم: أن فرائض الدين وشرائع المسلمين، وجميع فرائض المسلمين وسائر المكلفين على ثلاثة أقسام: فقسم منها: يلزم جميع الأعيان وكل من بلغ الحلم وهو: الإيمان بالله عز وجل، والتصديق له، ولرسله، وكتبه، وما جاء من عنده، والعبادات على كل مكلف بعينه؛ من نحو الصلاة، والصيام، وما سنذكره ونفصله فيما بعد إن شاء الله.
والقسم الثاني: واجب على العلماء دون العامة، وهو القيام بالفتيا في أحكام الدين، والاجتهاد، والبحث عن طرق الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، وهذا فرض على الكفاية دون الأعيان، فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة، وكذلك القول في حفظ جميع القرآن، وما تنفذ به الأحكام من سنن الرسول عليه السلام، وغسل الميت، ومواراته، والصلاة عليه، والجهاد، ودفع العدو، وحماية البيضة وما جرى مجرى ذلك مما هو فرض على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة.
والقسم الثالث: من الواجبات من فرائض السلطان دون سائر الرعية: نحو إقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وقبض الصدقات، وتولية الأمراء، والقضاة، والسعاة، والفصل بين المتخاصمين، وهذا وما يتصل به من فرائض الإمام وخلفائه على هذه الأعمال دون سائر الرعية والعوام، وليس في فرائض الدين ما يخرج عما وصفناه ويزيد على ما قلناه. وأن يعلم: أن أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد. النظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة.
والثاني: من فرائض الله عز وجل على جميع العباد، الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله، وما جاء من عنده، والتصديق بجميع ذلك بالقلب والإقرار به باللسان. وأن يعلم: أن الإيمان بالله عز وجل هو: التصديق بالقلب، بأنه الله الواحد، الفرد، الصمد، القديم، الخالق، العليم، الذي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق؛ قوله عز وجل: "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين" يريد بمصدق لنا. ومنه قوله عز وجل: "ذلكم بأنه إذا دعى اللّه وحده كفرتم، وإن يشرك به تؤمنوا" أي تصدقوا. ويقال فلان يؤمن بالله وبالبعث؛ أي يصدق بذلك. وكذلك قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة والقدر، وفلان لا يؤمن بذلك، يعني به التصديق، وبنفي الإيمان به التكذيب. وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب.
والإيمان بالله تعالى يتضمن التوحيد له سبحانه، والوصف له بصفاته، ونفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه.
والتوحيد له هو: الإقرار بأنه ثابت موجود، وإله واحد فرد معبود، ليس كمثله شيء؛ على ما قرر به قوله تعالى: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقوله: "ليس كمثله وهو السميع البصير".
وأنه الأول قبل جميع المحدثات. الباقي بعد المخلوقات، على ما أخبر به تعالى من قوله: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" والعالم الذي لا يخفى عليه شيء والقادر على اختراع كل مصنوع، وإبداع كل جنس مفعول، على ما أخبر به في قوله تعالى: "خالق كل شيء" "وهو على كل شيء قدير".
وأنه الحي الذي لا يموت، والدائم الذي لا يزول، وأنه إله كل مخلوق، ومبدعه ومنشئه، ومخترعه، وأنه لم يزل مسمياً لنفسه بأسمائه، وواصفاً لها بصفاته، قبل إيجاد خلقه، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته، التي منها: الحياة التي بها بان من الموت والأموات، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات، وأحاط بجميع المعلومات، والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المسموعات والمبصرات، والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات، والبقاء الذي به سبق المكونات، ويبقى به بعد جميع الفانيات، كما أخبر سبحانه في قوله: "وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه" وقوله تعالى: "أنزله بعلمه" "وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه" وقوله: "أو لم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة" وقوله "ذو القوة المتين" فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته، وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد أن تقضي الماضيات، كما قال عز وجل "كل شيء هالك إلا وجهه" وقال: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن، في قوله عز وجل: "بل يداه مبسوطتان" وقوله. "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" وأنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: "ولتصنع على عيني" و "تجري بأعيننا" وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس، وأنه سبحانه لم يزل مريداً وشائياً، ومحباً، ومبغضاً، وراضياً، وساخطاً، وموالياً، ومعادياً، ورحيماً، ورحماناً. ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته، لا إلى غضب يغيره. ورضى يسكنه طبعاً له، وحنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده، إذ كان سبحانه متعالياً عن الميل والنفور.
وأنه سبحانه راض في أزله عمن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به، وغضبان على من علم أنه بالكفر بختم عمله ويكون عاقبة أمره، وقد قال تعالى "فعال لما يريد" و "يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقال: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. وقال: "رضى اللّه عنهم ورضوا عنه" "وما تشاؤون إلا أن يشاء اللّه" في أمثال هذه الآيات الدالة على أنه شاء، مريد، وأن الله جل ثناؤه مستو عن العرش، ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى: "الرحمن على العرش استوى". بغير مماسة وكيفية، ولا مجاورة، وأنه في السماء إله في الأرض إله كما أخبر بذلك.
وأنه سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين في المعاد، فيرونه بالأبصار، على ما نطق به القرآن في قوله: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" وتأكيده كذلك بقوله في الكافرين: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" تخصيصاً منه برؤيته للمؤمنين، والتفرقة فيما بينهم وبين الكافرين، وعلى ما وردت به السنن الصحيحة في ذلك عن رسول الله ﷺ، وما أخبر به عن موسى عليه السلام، في قوله: "رب أرني أنظر إليك" ولولا علمه بجواز الرؤية بالأبصار لما أقدم على هذا السؤال.
وأن يعلم: مع كونه تعالى سميعاً بصيراً: أنه مدرك لجميع المدركات التي يدركها الخلق: من الطعوم، والروائح، واللين، والخشونة، والحرارة، والبرودة؛ بإدراك معين، وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات. فتعالى الله عن التصوير والجوارح، والآلات. وأن يعلم: أنه مع إدراك سائر الأجناس من المدركات وجميع الموجودات، غير ملتذ ولا متألم بإدراك شيء منها، ولا مشقة له منها ولا نافر عنها، ولا منتفع بإدراكها ولا متضرر بها. ولا يجانس شيئاً منها، ولا يضادها، وإن كان مخالفاً لها.
وأن يعلم: أنه سبحانه ليس بمغاير لصفات ذاته، وأنها في أنفسها غير متغايرات؛ إذ كان حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان، والمكان، والوجود والعدم. وأنه سبحانه يتعالى عن المفارقة لصفات ذاته، وأن توجد الواحدة منها مع عدم الأخرى. وأن يعلم: أن صفات ذاته هي التي لم تزل، ولا يزال موصوفاً بها، وأن صفات أفعاله هي التي سبقها، وكان تعالى موجوداً في الأزل قبلها.
ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلها راجع إلى إرادته، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، لا على ما يقوله القدرية، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده، وما يجعله منه كسباً لعباده، من خير، وشر، ونفع، وضر، وهدى، وضلال، وطاعة، وعصيان، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.
وأن يعلم: أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفاً به وأنه قائم به ومختص بذاته، ولا يصح وجوده بغيره، وإن كان محفوظاً بالقلوب ومتلواً بالألسن، ومكتوباً في المصاحف، ومقروءاً في المحاريب، على الحقيقة لا على المجاز وغير حال في شيء من ذلك، وأنه لو حل في غيره لكان ذلك الغير متكلماً به، وآمراً وناهياً. ومخبراً وقائلاً: "إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني" وذلك خلاف دين المسلمين، وأن كلامه سبحانه لا يجوز أن يكون جسماً من الأجسام، ولا جوهراً،، ولا عرضاً، وأنه لو كان كذلك لكان من جنس كلام البشر، ومحدثاً كهو: يتعالى الله سبحانه أن يتكلم بكلام المخلوقين. وأن يعلم: أن كلامه مسموع بالآذان، وإن كان مخالفاً لسائر اللغات، وجميع الأصوات، وأنه ليس من جنس المسموعات، كما أنه مرئي بالأبصار، وإن كان مخالفاً لأجناس المرئيات، وكما أنه موجود مخالف لسائر الحوادث الموجودات، وأن سامع كلامه منه تعالى بغير واسطة ولا ترجمان. كجبريل، وموسى، ومحمد عليهم السلام حق، سمعه من ذاته غير متلو ولا مقروء، ومن عداهم ممن يتولى الله خطابه بنفسه إنما يسمع كلامه متلواً ومقروءاً، وكذلك قال الله عز وجل: "وكلم اللّه موسى تكليماً" وقال: "منهم من كلم اللّه" وأن قراءتنا القرآن كسب لنا نثاب عليها، ونلام على تركها، إذ وجبت علينا في الصلوات. وأنه لا يجوز أن يحكي كلام الله عز وجل ولا أن يلفظ به لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه وكلام الله تعالى لا مثل له من كلام البشر، ولا يجوز أن يلفظ به بتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون كلام الله تعالى قائماً بذاتين قديم ومحدث وذلك خلاف الإجماع والمعقول. وأن كلام الله تعالى غير متبعض ولا متغاير، وأن الصفة هي ما قامت بالشيء وأن الوصف قول الواصف الدال على الصفة خلاف ما يذهب إليه القدرية.
وأنه مقدر لأرزاق جميع الخلق، وموقت لآجالهم، وخالق لأفعالهم، وقادر على مقدوراتهم، وإله ورب لها، لا خالق غيره، ولا رازق سواه، كما أخبر تعالى في قوله: "اللّه الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقال تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" وقال: "هل من خالق غير اللّه"، وقال: "والذين يدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون".
وأن بيده الخير، والشر، والنفع، والضر، وأنه مقدر جميع الأفعال، لا يكون حادث إلا بإرادته، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه فعال لما يريد، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، كما قال: "من يهد اللّه فهو المهتدي" "ومن يضلل اللّه فلا هادي له".
وأنه موفق أهل محبته وولايته لطاعته، وخاذل لأهل معصيته، فدل ذلك كله على تدبيره وحكمته، وأنه عادل في خلقه بجميع ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير، وشر، ونفع، وضر، وغنى، وفقر، ولذة، وألم، وصحة، وسقم، وهداية، وضلال: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين".
وأنه سبحانه يعيد العباد، ويحيي الأموات، وأنه يقصد يوم القيامة لفصل القضاء، ويجيء الملائكة صفاً صفاً، ويمد الصراط، ويزن الأعمال، وأنه سبحانه قد خلق الجنة والنار. وما لا يتأتى الواجب إلا بفعله صار واجباً؛ كالطهارة مع الصلاة، والقراءة في الصلاة، وإمساك جزء من الليل في الصيام، وإدخال جزء من الرأس في غسل الوجه، إلى غير ذلك مما لا يمكن تحصيل الواجب إلا به صار واجباً.
مسألة
وجوب النظر
وإذا صح وجوب النظر فالواجب على المكلف النظر والتفكر في مخلوقات الله، لا في ذات الله، والدليل عليه قوله تعالى: "ويتفكرون في خلق السموات والأرض" ولم يقل: في الخالق،وأيضاً قوله تعالى: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" فالنظر، والتفكر، والتكييف يكون في المخلوقات، لا في الخالق، وأيضاً قوله ﷺ: تفكروا في الله. وأيضاً قوله عليه السلام: مثل الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، فمهما أراد نظراً ازداد حيرة. وأيضاً: فإن موسى عليه السلام لما سأله اللعين فرعون عن ذات الله، أجابه بأن مصنوعاته تدل على أنه إله ورب قادر، لا إله سواه. إذا نظر فيها وتأمل ولم يحدد له الذات فلا يكيفها؛ لأنه لما قال له: "وما رب العالمين" قال: "رب السموات والأرض وما بينهما" إلى أن كرر عليه السؤال وأجابه بمثل الأول، إلى آخر الآيات كلها، فمهما سأله عن الذات أجابه بالنظر في المصنوعات التي تدل على معرفته.
وقيل: سئل بعض أهل التحقيق عن الله عز وجل ما هو؟ فقال: إله واحد. فقيل له: كيف هو؟ فقال: ملك قادر، فقيل: له أين هو؟ فقال: بالمرصاد. فقال السائل: ليس عن هذا أسألك؟ فقال: الذي أجبتك به هو صفة الحق، فأما غيره فصفة الخلق. وأراد بذلك أن يسأله عن التكييف، والتحديد، والتمثيل، وذلك صفة المخلوق لا صفة الخالق، ولأن التفكر إذا تفكر في خلق السموات والأرض وخلق نفسه وعجائب صنع ربه، أداه ذلك إلى صريح التوحيد؛ لأنه يعلم بذلك أنه لا بد لهذه المصنوعات من صانع، قادر، عليم، حكيم "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
مسألة
العالم محدث
ويجب أن يعلم: أن العالم محدث؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، والدليل على حدوثه: تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثاً، وقد بين نبينا ﷺ هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة، لما قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن بدء هذا الأمر؟ فقال: نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء، ثم خلق الله الأشياء فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل عليه السلام، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة؛ لأنه لما رأى الكوكب قال: هذا ربي، إلى آخر الآيات فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت على أنها محدثة مفطورة مخلوقة، وأن لها خالقاً، فقال عند ذلك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.
مسألة
وإذا صح حدوث العالم؛ فلا بد له من محدث أحدثه، ومصور صوره، والدليل على ذلك: أن الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها، والصورة لا بد لها من مصور صورها، والبناء لا بد له من بان بناه. فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب، وصناعة لا من صانع، وحياكة لا من ناسج. وإذا صح هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها، ومحدث أحدثها، إذ كانت ألطف وأعجب صنعاً من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.
دليل ثان: ويدل على ذلك أيضاً: علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض، وتأخر بعضها عن بعض، مع علمنا بتجانسها وتشاكلها، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدماً لنفسه؛ لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه، وكذلك المتأخر منها، لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أولى من بالتأخر، دليل على أن له مقدماً قدمه، وعاجلاً عجله في الوجود، مقصوراً على مشيئته.
ويدل على صحة ذلك أيضاً: علمنا بأن الصور الموجودة؛ منها ما هو مربع، ومنها ما هو مدور، ومنها شخص أطول من شخص، وآخر أعرض من آخر؛ مع تجانسها، ولا يجوز أن يكون المربع منها ربع نفسه، ولا المطول منها طول نفسه، ولا القبيح منها قبح نفسه، ولا الحسن منها حسن نفسه، فلم يبق إلا أن لها مصوراً صورها؛ طويلة، وقصيرة، وقبيحة، وحسنة، على حسب إرادته ومشيئته.
ويدل على صحة ما ذكرناه: أن الموجودات لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها، أنا وجدنا منها الموت والأعراض، أعني الجمادات التي لا حياة فيها، لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ولا لغيرها، لأن من شرط الفاعل أن يكون حياً، قادراً، فبطل كونها محدثة لنفسها بل لها محدث أحدثها. ويدل على صحة ذلك أيضاً: أنا وجدنا أنفس الموجودات في العالم، الحي القادر العاقل المحصل، وهو الآدمي، ثم أكمل ما تكون. تعلم وتحقق أنه كان في ابتداء أمره نطفة ميتة، لا حياة فيها ولا قدرة، ثم نقل إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم من حال إلى حال، ثم بعد خروجه حياً من الأحشاء إلى الدنيا. تعلم وتحقق أنه كان في تلك الحالة جاهلاً بنفسه وتكييفه، وتركيبه، ثم بعد كمال عقله وتصوره وحذقه وفهمه لا يقدر في حال كماله أن يحدث في بدنه شعرة ولا شيئاً، ولا عرقاً فكيف يكون محدثاً لنفسه ومنقلاً لها في حال نقصه من صورة إلى صورة ومن حالة إلى حالة وإذا بطل ذلك منه في حال كماله كان أولى أن يبطل ذلك منه في حال نقسه، ولم يبق إلا أن له محدثاً أحدثه، ومصوراً صوره ومنقلاً نقله؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
مسألة
وإذا ثبت أن للعالم صانعاً صنعه، ومحدثاً أحدثه، فيجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون مشبهاً للعالم المصنوع المحدث؛ لأنه لو جاز ذلك لم يخل: إما أن يشبهه في الجنس، أو في الصورة، ولا يجوز أن يكون مشبهاً له في الجنس؛ لأنه لو أشبهه في الجنس لجاز أن يكون محدثاً كالعالم المحدث، أو يكون العالم قديماً كهو. لأن حقيقة المشتبهين المتجانسين: ما سد أحدهما مسد الآخر وناب منابه، وجاز عليه ما يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون يشبه العالم في الصورة لأن حقيقة الصورة هي الجسم المؤلف، والتأليف لا يكون إلا من شيئين فصاعد؛ ولأنه لو كان صورة لاحتاج إلى مصور صوره، لأن الصورة لا تكون إلا من مصور على ما قدمنا بيانه، وقد بين ذلك تعالى بأحسن بيان فقال تعالى: "أفمن يخلق كمن لا يخلق" وقد سئل بعض أهل التحقيق عن التوحيد ما هو؟ فقال: هو أن تعلم أنه باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. وقال الجنيد رضي الله عنه: التوحيد إفراز القدم عن الحدوث، فأحكموا أصول العقائد بواضح الدليل ولايح الشواهد.
وقال أبو محمد الحريري رضي الله عنه: من لم يقف على علم التوحيد يشاهده من شواهده، زلت به قدم الغرور في مهواة التلف.
وقال الجنيد: أول ما يحتاج إليه المكلف من عقد الحكمة: أن يعرف الصانع من المصنوع، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث.
وسئل أبو بكر الزاهد رضي الله عنه عن المعرفة ما هي؟ فقال: المعرفة اسم، ومعناه: وجود تعظيم في القلب، يمنعك عن التعطيل والتشبيه.
وقيل لأبي الحسن البوشنجي: ما التوحيد؟ فقال: أن تعلم أنه غير مشبه بالذوات ولا بنفي الصفات.
مسألة
وإذا ثبت أن صانع الموجودات ومحدثها لا يجوز أن يكون يشبهها، فيجب أن تعلم أن محدث العالم قديم، أزلي لا أول لوجوده. ولا آخر لدوامه. والدليل على صحة ذلك: أنه لو لم يكن قديماً كما ذكرنا لكان محدثاً، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث أحدثه؛ لأن غيره من الحوادث إنما احتاجت إلى محدث لأنها محدثة. ولو كان ذلك كذلك لاحتاج كل محدث إلى محدث آخر، إلى ما لا نهاية له ولا غاية، ولما بطل ذلك صح كونه قديماً أزلياً.
وبمثل هذا الدليل: يستدل على بطلان قول من زعم من أهل الدهر أن الحوادث لا أول لوجودها، فافهمه ترشد، إن شاء الله تعالى.
مسألة
وحدانية الصانع
ويجب أن يعلم: أن صانع العالم جلت قدرته واحد أحد؛ ومعنى ذلك: أنه ليس معه إله سواه، ولا من يستحق العبادة إلا إياه، ولا نريد بذلك انه واحد من جهة العدد، وكذلك قولنا أحد، وفرد وجود ذلك إنما نريد به أنه لا شبيه له ولا نظير، ونريد بذلك أن ليس معه من يستحق الالهية سواه، وقد قال تعالى: "إنما اللّه إله واحد" ومعناه: لا إله إلا الله.
والدليل على أن صانع العالم على ما قررناه: قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا" والدليل المعقول مستنبط من هذا النص المنقول، فإنا نرى الأمور تجري على نمط واحد، في السموات والأرض وما فيهما من شمس وقمر وغير ذلك. ولو كانا اثنتين أو أكثر فلا بد أن يجري خلاف أو تغير من أحدهما على الآخر، وقد بينه سبحانه وتعالى فقال: "قل لو كان معه آلهة كما يقولون" إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً" سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وأيضاً: فلو جاز أن يكون اثنين أو أكثر فيريد أحدهما شيئاً ويريد الآخر ضده، فلا يخلو أن يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، ولا يجوز أن يتم مرادهما؛ لأن في إتمام مراد أحدهما عجز الآخر، لأنه تم ما لا يريد، وفي ذلك تعجيز لكل واحد منهما؛ لأنه تم ما لا يتم مراد واحد منهما، فقد ثبت عجزهما أيضاً. ومن يكون عاجزاً فليس بالإله، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر؛ فالذي تم مراده هو الإله، والذي لم يتم عاجز ليس بالاله، فلم يكن إلا إله واحد كما ذكرنا.
فإن قيل: فيجوز أن لا يختلفا في الإرادة. قلنا: هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك لقول أحدهما للآخر لا ترد إلا ما أريد، فيصير أحدهما آمراً والآخر مأموراً، والمأمور لا يكون إلهاً، والآمر على الحقيقة هو الإله، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما؛ إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه. وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحداً على ما قررناه:
مسألة
الحياة
ويجب أن يعلم أن الباري جلت قدرته حي. وهذه المسألة أول مسائل قول الشيخ موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه فنقول الباري يوصف بالحياة. والدليل عليه قوله تعالى: "الحي القيوم" وقوله تعالى: "وتوكل على الحي الذي لا يموت". وأيضاً: فإن الفعل يستحيل وجوده من الموات الذي لا حياة له، والله تعالى فاعل الأشياء ومنشئها، فوجب أن يكون حياً.
مسألة
القدرة
ويجب أن يعلم: أنه تعالى قادر على جميع المقدورات.
والدليل عليه قوله تعالى: "وهو على كل شيء قديره" ولأنا نعلم قطعاً استحالة صدور الأفعال من عاجز لا قدرة له، ولما ثبت أنه فاعل الأشياء ثبت أنه قادر.
مسألة
العلم
ويجب أن يعلم: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. والدليل عليه قوله تعالى: "أنزله بعلمه" وقوله تعالى: "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" وقوله تعالى: "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". وقوله تعالى: "ويعلم ما في السموات وما في الأرض" وقوله تعالى: "فاعلموا أنما أنزل بعلم اللّه" إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. وأيضاً: فيدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها، ومن جوز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخط، كان عن المعقول خارجاً، وفي عمل الجهل والجاً.
ويدل على صحة ذلك أيضاً: أنه حي، قادر، عالم، أنا لو جوزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي، عالم، قادر، لم ندر لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز.
مسألة
الإرادة
ويجب أن يعلم: أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث، والمرادات، والدليل عليه قوله تعالى: "فعال لما يريد". وقوله تعالى: "يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا اللّه على ما هداكم ولعلكم تشكرون" وقوله تعالى: "واللّه يريد الآخرة". وقوله تعالى: "يريد اللّه أن يخفف عنكم" وقد قيل في بعض الآثار: أنه تعالى يقول: يا ابن آدم؛ تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد.
ويدل على أنه مريد من جهة العقل: ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان؛ وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا، وهذا بعد هذا، وهذا على صفة، والآخر على صفة غيرها، وهذا من مكان، وهذا من مكان آخر، إلى غير ذلك.
مسألة
السمع
ويجب أن يعلم: أنه سميع لجميع المسموعات، بصير لجميع المبصرات.
والدليل عليه قوله تعالى: "وهو السميع البصير". وقوله تعالى: "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون" وقوله تعالى: "قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللّه، واللّه يسمع تحاوركما إن اللّه سميع بصير". وقوله تعالى: "ألم يعلم بأن اللّه يرى" وأيضاً: فإنه لو لم يوصف بالسمع والبصر لوجب أن يوصف بضد ذلك، من الصمم والعمى، والله يتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
مسألة
الكلام
ويجب أن يعلم: أن الله تعالى متكلم، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث. والدليل عليه قوله تعالى: "منهم من كلم اللّه" وقوله تعالى: "وكلم اللّه موسى تكليماً" وقوله تعالى: "وتمت كلمة ربك". وقوله ﷺ: فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق. ولا يتصف ببداية ولا نهاية؛ لأنه ﷺ كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة العامة. ومحال أن يعوذ مخلوق بمخلوق، فثبت أنه عوذ مخلوقاً بغير مخلوق، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ولأنه لو لم يكن متكلماً لوجب أن يوصف بضد الكلام؛ من الخرس والسكوت والعي، والله يتعالى عن ذلك.
مسألة
البقاء
ويجب أن يعلم: أن الله سبحانه باق. ومعنى ذلك: أنه دائم الوجود.
والدليل عليه قوله: "ويبقى وجه ربك" يعني ذات ربك وأيضاً قوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه" يعني ذاته، ولأنه قد ثبت قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الباري عالم بعلم قديم متعلق بجميع المعلومات، ولا يوصف علمه بأنه مكتسب ولا ضروري، وأنه قادر بقدرة قديمة شاملة لجميع المقدورات، مريد بإرادة قديمة متعلقة بجميع الكائنات، سميع بسمع قديم متعلق بجميع المسموعات، بصير ببصر قديم متعلق بجميع المبصرات، متكلم وكلامه قديم متعلق بجميع المأمورات والمنهيات، والمخبرات. فعلمه سبحانه وتعالى لا يوصف بالضرورة والكسب؛ لأن ذلك صفات علم الخلق. وقدرته لا توصف بالاستطاعة؛ لأن ذلك صفات الخلق، وسمعه لا يوصف بأنه يقوم بالحواس كسمع الخلق، وبصره لا يوصف بأن يقوم بالآماق كبصر الخلق، وكلامه لا يوصف بالجوارح والأدوات؛ لأن ذلك صفات كلام الخلق. بل صفات ذاته قديمة أزلية، لم يزل موصوفاً بها، ولا يزال كذلك، لا تشبه بصفات المخلوقين، ولا يقال إنها هو ولا غيره، ولا صفاته متغايرة في أنفسها. والدليل على هذه الجملة: قوله تعالى: "ليس كمثله شيء" وقوله تعالى: "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" فكما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك علمه لا يشبه علم الخلق، ولا يوصف بصفة علم الخلق، وكذلك قدرته وإرادته: لا تشبه قدرة الخلق ولا إرادتهم، ولا يوصف شيء من صفاته بصفات الخلق، فاعلم ذلك وتحققه توفق للصواب، بمشيئة الله تعالى.
والدليل على أن صفاته لا يقال لها هي هو: أنها لو كانت هي هو لكانت خالقة فاعلة مثله، فلا يجوز أن يقال هي هو. ويدل على صحة هذا المعنى قول علي عليه السلام في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق. لأنه لو جعله خالقاً كان إلهاً ثانياً مع الله، ولو جعله مخلوقاً لوجب أن يكون الباري موجوداً بلا كلام ثم خلق كلامه بعد، وذلك لا يصح؛ لأن صفات ذاته قديمة بقدم ذاته. فإن قيل: فليس ثم إلا خالق أو مخلوق. قلنا: نعم: ولكن خالق قديم بصفات ذاته ومخلوق حادث بصفات ذاته التي توجد بعد أن لم تكن، وتعدم بعد أن كانت، وصفات القديم لا تتصف بوجود بعد عدم، ولا بالعدم بعد الوجود، وإنما قلنا إن صفات ذاته ليست بأغيار له، ولا هو غير لصفاته، ولا صفاته متغايرة في أنفسها؛ لأن حد الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر؛ إما بزمان أو بمكان، وهذا يستحيل تصويره في الله تعالى وصفات ذاته. فافهم وتزيد التحقيق، وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين آمين يا رب العالمين.
مسألة
فإن قيل: قد أثبتم أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم، أفتقولون: إنه يغضب ويرضى، ويحب، ويبغض، ويوالي، ويعادي، وأنه موصوف بذلك؟ قيل لهم: أجل، ومعنى وصفه بذلك: أن غضبه على من غضب عليه، ورضاه عمن رضى عنه، وحبه لمن أحب، وبغضه لمن أبغض، وموالاته لمن والى، وعداوته لمن عادى، أن المراد بجميع ذلك: إرادته إثابة من رضى عنه وأحبه وتولاه. وعقوبة من غضب عليه وأبغضه وعاداه، لا غير. ويدل على هذه الجملة: أنه يوصف بالغضب، قوله تعالى: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه" وقوله تعالى: "والخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين" إلى غير ذلك من الآيات.
ويدل على أنه يوصف بالحب: قوله تعالى: "إن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين" وقوله: "يحبهم ويحبونه". وقوله: "واللّه يحب المحسنين" إلى غير ذلك.
ويدل على أنه يوالي: قوله تعالى: "واللّه ولي المؤمنين" وقوله: "إنما وليكم اللّه ورسوله" وقوله ﷺ: يقول الله تعالى من آذى لي ولياً إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ويدل على أنه يعادي: قوله تعالى: "فإن اللّه عدو للكافرين" وقوله: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" إلى غير ذلك من الآيات والآثار.
ويدل أنه يبغض: قوله ﷺ: ثلاثة يبغضهم الله تعالى: شيخ زان؛ وبائع حلاف؛ وفقير مختال.
مسألة
فإن قيل: فما الدليل على أن غضب الله سبحانه ورضاه، ورحمته، وسخطه، وحبه وعداوته، وموالاته وبغضه إنما هو إرادته لإثابة من رضى عنه وأحبه ووالاه ونفعه، وأن غضبه، وسخطه، وبغضه، وعداوته إنما هو إرادة عقاب من غضب عليه وسخط وعادى وإيلامه وضرره؟.
قيل له: الدليل على ذلك: أن الغضب والرضا ونحو ذلك لا يخلو؛ إما أن يكون المراد به إرادته النفع والضرر فقط، أو يكون المراد به نفور الطبع وتغيره عند الغضب، ورقته وميله وسكوته عند الرضا، فلما لم يجز أن يكون الباري جلت قدرته ذا طبع يتغير وينفر، ولا ذا طبع يسكن ويرق، وأن هذه من صفات المخلوقين، وهو يتعالى عن جميع ذلك: ثبت أن المراد بغضه، ورضاه، ورحمته، وسخطه إنما هو إرادته وقصده إلى نفع من كان في معلومه أنه ينفعه، وضرر من سبق في علمه وخبره أنه يضره لا غير ذلك.
مسألة
فإن قيل: فهل يجوز أن يوصف بالشهوة؟ قيل له: إن أراد السائل بوصفه بالشهوة إرادته لأفعاله فذلك صحيح من طريق المعنى غير أنه أخطأ وخالف الأمة في وصف القديم بالشهوة؛ إذ لم يرد بذلك كتاب ولا سنة، لأن أسماءه تعالى لا تثبت قياساً، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه: لا مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته، وتسميته، وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته.
يعني: إما بنص كتاب، أو سنة. وإن أراد هذا السائل أن يصفه بالشهوة التي هي شوق النفس وميل الطبع إلى المنافع واللذات فذلك محال ممتنع على القديم سبحانه وتعالى، بما قدمنا ذكره من قبل.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه.
فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول، والانتقال، ولا القيام، والقعود؛ لقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" وقوله: "ولم يكن له كفواً أحد" ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال: "الرحمن على العرش استوى". قلا: بلى. قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار، ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان.
وقال أبو عثمان المغربي يوماً لخادمه محمد المحبوب: لو قال لك قائل: أين معبودك؟ ماذا كنت تقول له؟ فقال: أقول حيث لم يزل ولا يزول. قال: فإن قال: فأين كان في الأزل؟ ماذا تقول؟ فقال: أقول حيث هو الآن. يعني: إنه كما كان ولا مكان.
وقال أبو عثمان: كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً.
وقد سئل الشبلي عن قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" فقال: الرحمن لم يزل ولا يزول، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى.
وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ لأنه لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً، والله يتعالى عن جميع ذلك. وقال بعض أهل التحقيق: "ألزم الكل الحدث، لأن القدم له، فهو سبحانه لا يظله فوق، ولا يقيه تحت، ولا يقابله حد، ولا يزاحمه عد ولا يأخذه خلف، ولا يحده أمام، ولا يظهره قبل، ولا يفنيه بعد، ولا يجمعه كل، ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت متى: فقد سبق الوقت كونه وإن قلت: أين فقد تقدم المكان وجوده، فوجوده إثباته، ومعرفته توحيده أن تميزه من خلقه ما تصور في الأوهام فهو بخلاف ذلك كيف يحل به ما منه بدؤه، أو يتصف بما هو إنشاؤه، لا تمقله العيون، ولا تقابله الظنون، قربه كرامته، وبعده إهانته، علوه من غير ترق، ومجيئه من غير تنقل، هو الأول، والآخر والظاهر، والباطن. والقريب البعيد، الذي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
مسألة
خلق الحوادث
ويجب أن يعلم: أن الحوادث كلها مخلوقة لله تعالى، نفعها وضرها، إيمانها وكفرها، طاعتها، ومعصيتها.
والدليل على ذلك: قوله تعالى: "واللّه خلقكم وما تعملون" وأيضاً فإن الله تعالى رد على الكفار لما ادعوا معه شركاء في الاختراع، فقال تعالى: "أم جعلوا للّه شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم، قل اللّه خالق كل شيء، وهو الواحد القهار" وقال تعالى: "هو الذي يسيركم في البر والبحر"، فأخبر تعالى أنه خالق لسيرنا؛ وهي الحركات والسكنات. وقال تعالى: "هل من خالق غير اللّه" وقال النبي ﷺ: الله خالق كل صانع وصنعته. وأجمعت الأمة على القول: بأن لا خالق إلا الله في الدارين، كما أجمعوا أن لا إله غيره.
مسألة
ويجب أن يعلم أن الحوادث كلها تقع مرادة لله تعالى، وأنه لا يتصور أن يوجد في الدنيا والآخرة شيء لم يرده تعالى؛ من نفع، وضر، ورزق، وأجل، وطاعة، ومعصية، إلى غير ذلك من سائر الموجودات.
والدليل على ذلك: ما بيناه من قبل، وأنه خالق لها، وإذا صح ذلك ترتب عليه أنه مريد لما خلق، قاصد إلى إبداع ما اخترع، ويدل على ذلك أيضاً: قوله تعالى: "ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى" وقوله تعالى: "فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون" وقوله تعالى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه ولكن أكثرهم يجهلون" وقوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" وقوله تعالى: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" والآيات في هذا المعنى في القرآن لا تحصى عدداً. وأيضاً: فإن الأمة قد أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة: ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن وأيضاً فإنه لو أراد شيئاً وأراد غيره شيئاً فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة، والله يتعالى عن ذلك. وقال بعض أهل التحقيق: والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى ولا كما قال النبيون ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس؛ لأن الله تعالى قال: "يضل من يشاء ويهدي من يشاء" وقال: "وما تشاؤن إلا أن يشاء اللّه".
وقال شعيب: "وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللّه ربنا" وقال موسى عليه السلام: "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين" وقال نبينا ﷺ: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله. وقال أهل الجنة: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" وقال أهل النار: "ربنا غلبت علينا شقوتنا" وقال أيضاً: "بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين" وقال إبليس: "رب بما أغويتني" وقد قال تعالى: "وإذا أراد اللّه بقوم سوءاً فلا مردّ له".
مسألة
الفرق بين الإرادة والمشيئة
واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة على ما قدمنا. واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضياً عنه، لا يسخط عليه أبداً، وإن كان في الحال عاصياً. ومن سخط عليه فلا يزال ساخطاً عليه ولا يرضى عنه أبداً، وإن كان في الحال مطيعاً.
ومثال ذلك: أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضياً عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل؛ بان بأنه تعالى لم يزل راضياً عنهم، وكذلك الصديق، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضياً عنهما في حال عبادة الأصنام، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى. وكذلك لم يزل ساخطاً على إبليس، وبلعم، وبرصيص، في حال عبادتهم؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية.
مسألة
كسب العبد
ويجب أن يعلم: أن العبد له كسب، وليس مجبوراً بل مكتسب لأفعاله؛ من طاعة ومعصية؛ لأنه تعالى قال: "لها ما كسبت" يعني من ثواب طاعة "وعليها ما اكتسبت" يعني من عقاب معصية. وقوله: "بما كسبت أيدي الناس" وقوله: "وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم" وقوله: "ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى، فإذا جاء أجلهم فإن اللّه كان بعباده بصيراً".
ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقل منها يفرق بين تحرك يده جبراً وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضواً من أعضائه قاصداً إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الاستطاعة للعبد تكون مع الفعل لا يجوز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه، كعلم الخلق وإدراكهم، لا يجوز تقديم العلم على المعلوم، ولا الإدراك، على المدرك. والدليل على ذلك: قوله تعالى؛ "وكانوا لا يستطيعون سمعاً" يعني قبولاً عند الدعوة. يعني: أنه لم يكن لهم استطاعة عند مفارقة الدعوة، فيحصل معها القبول، وأيضاً قوله تعالى: "إنك لن تستطيع معي صبراً" وقول إبراهيم عليه السلام: "رب اجعلني مقيم الصلاة" فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكان يقول: قد جعلتك مقيماً، ولم يكن لسؤاله معنى؛ لأنه سئل في شيء قد أعطيه وهو قادر عليه. وأيضاً قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لم يكن للسؤآل فيها معنى، ولأن القدرة الحادثة لو تقدمت على الفعل لوجد الفعل بغير قدرة؛ لأنها عرض، والعرض لا يبقى، ولا يصح أن يوجد بعد الفعل. وأيضاً: لأنه يكون فاعلاً من غير قدرة، فلم يبق إلا أنها مع الفعل.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى، من حيث العقل، مقطوع بها للمؤمنين في الآخرة؛ تشريفاً لهم وتفضلا، لوعد الله تعالى لهم بذلك.
والدليل على جوازها من حيث العقل: سؤال موسى عليه السلام، حيث قال "رب أرني أنظر إليك". ويستحيل أن يسأل نبي من أنبياء الله تعالى مع جلالة قدره وعلو مكانه ما لا يجوز عليه سبحانه، ولولا أنه اعتقد جوازها لما سألها، ولأنه تعالى علقها باستقرار الجبل، ومن الجائز استقرار الجبل، ويدل عليه أيضاً: أنه موجود، والموجود يصح أن يرى.
وأما الدليل على ثبوتها من طريق الكتاب والسنة: قوله تعالى: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" واللقاء إذا قرن بالتحية لا يقتضي إلا الرؤية. وأيضاً قوله تعالى: "للذين أحسنوا وزيادة" قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الزيادة النظر إلى وجهه الكريم وقد ذكر مرفوعاً عن رسول الله ﷺ. وقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" والمراد بقوله "ناضرة" أنها مشرقة، والمراد بقوله "إلى ربها ناظرة" أنها لربها رائية؛ لأن النظر إذا عدى بكلمة إلى اقتضى الرؤية نصاً، كقوله تعالى: "فانظر إلى طعامك وشرابك" وقوله تعالى: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله وزيادة قال: هي النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وأيضاً: فإن الصحابة لما سألوه ﷺ هل نرى ربنا؟ فقال ﷺ: ترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته. وروى: لا تضامون في رؤيته وروى: لا يلحقكم ضرر ولا ضيم في رؤيته. ومعنى ذلك: أنه ﷺ شبه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي؛ فكأنه ﷺ شبه الرؤية بالرؤية؛ وأن الرائي المعاين للقمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة لا يشك في أن الذي يراه قمر. فكذلك الناظر إليه سبحانه وتعالى في الجنة لا يشك أن الذي يراه سبحانه وتعالى بلا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحديد، وهذا كما يقول القائل: أعرف صدقك كما أعرف النهار، ورأيت زيداً كما رأيت الشمس. ويدل عليه أيضاً قوله ﷺ: إن الله يتجلى للخلق عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الطاعة ليست بعلة الثواب، ولا المعصية علة للعقاب، ولا يجب لأحد على الله تعالى، بل الثواب وما أنعم به على العبد فضل منه، والعقاب عدل منه. ويجب على العبد ما أوجبه الله تعالى عليه، ولا موجب ولا واجب على الله.
والحسن ما وافق الأمر من الفعل، والقبيح ما وافق النهي من الفعل، وليس الحسن حسناً من قبل الصورة، ولا القبيح قبيحاً من قبل الصورة.
والدليل على الفصل الأول: أنه لا واجب عليه لأحد من الخليقة، وأن حقيقة الواجب ما استوجب من وجب عليه الذم بتركه، والرب تعالى عن الذم علواً كبيراً.
ويدل على صحة ذلك أيضاً قوله تعالى: "ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله" فأعلم أن ذلك بفضله لا بالعمل. وأيضاً قوله تعالى: "ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته" وسئل النبي ﷺ أيدخل أحد منا الجنة بعمله؟ فقال: لا. فقيل ولا أنت؟ فقال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته فقال له بعض الصحابة ففيم العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وإنما وعد الله سبحانه بالثواب وأوعد بالعقاب، وقوله الحق ووعده الصدق، فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات، وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض، لا له سبحانه وتعالى؛ فإنه علم بالأشياء قبل كونها، كما قال بعضهم: تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون. والدليل على الفصل الثاني: وهو: أن الحسن ما وافق الأمر، والقبيح ما خالف الأمر: أن لذة الجماع في الزوجة والأمة، صورتها في الفرج الحلال كصورتها في الفرج الحرام، إلا أن ذلك حسن في الملك بموافقة الشرع، قبيح في غير ذلك بمخالفة الشرع، وكذا القتل: وصورته في القصاص كهي في القتل من غير قصاص، إلا أن أحدهما حسن لمطابقة الشرع، والآخر قبيح بمخالفة الشرع. وكذا الأكل في آخر يوم من شهر رمضان، كصورة الأكل يوم الفطر، إلا أن أحدهما حسن لموافقة الشرع، والآخر قبيح لمخالفته، وكذلك بالعكس: إمساك يوم من شهر رمضان، كصورة الإمساك يوم الفطر، إلا أنه في أحدهما حسن للموافقة، وفي الآخر قبيح للمخالفة.
وجميع قواعد الشرع تدل على أن الحسن: ما حسنه الشرع وجوزه وسوغه. والقبيح: ما قبحه الشرع وحرمه، ومنع منه، لا من حيث الصورة، فتفهم ذلك يخلصك من جميع ما يورده جهال القدرية من شبههم التي تضل عقول العوام. فإذا ثبت هذا وتقرر: جاء منه أن الباري سبحانه وتعالى ليس فوقه آمر أمره، ولا ناه نهاه؛ حتى تتصف أفعاله تارة بالحسن لموافقة الأمر، ولا بالقبح لمخالفة الأمر، بل هو المالك على الحقيقة، يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
مسألة
أرزاق العباد
ويجب أن يعلم: أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله تعالى، فلا رازق إلا الله: حلالاً كان أم حراماً.
والدليل على ذلك قوله تعالى: "اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" وقوله تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها" وقوله تعالى: "اللّه الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون". وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول لا رازق إلا الله كما أجمعوا على أنه لا خالق إلا الله.
ويدل عليه أيضاً: أنه لو فرض نشوء صبي من حال كونه طفلاً إلى بلوغه بين اللصوص وقطاع الطريق وكان يتناول من طعامهم المسروق المنهوب، ثم من بعد إدراكه والبلوغ سلك مسلكهم في السرقة والنهب والغارة إلى أن شاخ وهرم، ولم يتناول لقمة من حلال قط، فلو قال قائل: إن هذا الشخص لم يرزقه الله رزقاً قط، ولا أكل له رزقاً، كان هذا القائل معانداً للنص الوارد، وخارقاً لإجماع المسلمين. فدلت هذه الجملة: أن لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال، ونصب الصراط، والميزان، والحوض والشفاعة للعصاة من المؤمنين، كل ذلك حق وصدق، ويجب الإيمان والقطع به؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل.
وكذلك يجب القطع بأن الجنة والنار مخلوقتان في وقتنا، وكذلك يجب القطع بأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، وأن عذاب جهنم مخلد للكفار، وإن من كان مؤمناً لا يخلد في النار. والدليل على إثبات عذاب القبر: قوله تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا". قال أبو هريرة: يعني عذاب القبر. وأيضاً: قوله ﷺ: القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. وقد قال تعالى: "النار يعرضون عليها غدواً وعشيا"، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا. وأيضاً ما روى عنه ﷺ أنه كان يقول: أعوذ بالله من عذاب القبر.
والدليل على سؤال منكر ونكير قوله تعالى: "يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" يعني وفي الآخرة عند سؤال منكر ونكير. وأيضاً: فإن النبي ﷺ لما دفن ابنه إبراهيم جلس عند رأس القبر، فتكلم بكلام، ثم قال: ابني قل أبي، وروى عنه أنه ﷺ قال لعمر رضي الله عنه: كيف بك يا عمر إذا جاءك فتاناً القبر؟ فقال: أكون كما أنا الآن؟ فقال له: نعم. فقال له: إذاً أكفيكهما. وروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رأيت أبي في النوم، فقلت له يا أبت؛ منكر ونكير حق؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد جاءاني فقالا لي: من ربك؟ فأخذت عليهما وقلت لهما: لا أخلي عنكما حتى تعرفاني من ربكما، فقال أحدهما للآخر: دعه فإنه عمر الفاروق سراج أهل الجنة. ويدل على نصب الصراط: قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً" قيل في التفسير: هو العبور على الصراط. وأيضاً قوله ﷺ: ينصب الصراط على متن جهنم دحض مزلة والأنبياء عليه يقولون: سلم. سلم. والناس يمرون عليه، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالجواد من الخيل. إلى آخره. والدليل على نصب الميزان: قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" وقوله "فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا" وأيضاً فإن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال لها: أما عند مواطن ثلاثة فلا: الكتاب، والميزان، والصراط. واعلم أن الموزون في الميزان هو صحائف الأعمال. وقيل في بعض الآثار: يشخص رجل يوم القيامة على رؤس الخلائق، فيعرض عليه تسعة وتسعون سجلاً مملوءة سيئات، فيقال له احضر وزنك، قيل: فيوضع في كفة قال: فيحار العبد، فيقال له: هل تعلك لك خبيئة أو حسنة؟ قال: فيدهش، فيقول: يا رب لا أعلم شيئاً. فيقول تعالى: بل لك عندي خبيئة، فيخرج له بقدر الإصبع، فيقول: ما تغني هذه في جنب هذه السجلات، فإذا فيها لا إله إلا الله. اللهم ثبتنا عليها بحولك وقوتك.
والدليل على الحوض: قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر" قيل في التفسير: هو الحوض. وأيضاً قوله ﷺ: حوضي كما بين أيلة إلى مكة، له ميزابان من الجنة أكاويبه كعدد نجوم السماء، شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، من كذب به اليوم لم يصبه الشرب يومئذ.
والدليل على ثبوت الشفاعة: قوله تعالى: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" يدل على ثبوت الشفاعة لمن أراد سبحانه وتعالى، ويدل عليه قوله تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" وأيضاً قوله ﷺ: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وأيضاً: قوله ﷺ: خيرت بين أن يدخل شطر أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفأ، أترونها للمؤمنين المتقين، لا، ولكنها للمؤمنين الخاطئين. وأيضاً: قوله ﷺ: يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة، ويقال للعالم قف أنت فاشفع لمن شئت. والدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان: قوله تعالى: "وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" والمعد لا يكون إلا موجوداً مهيئاً. وأيضاً قوله: "إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً" إلى غير ذلك من الآيات. وأيضاً: قوله ﷺ: عرضت علي ليلة الإسراء الجنة والنار إلى غير ذلك من الأخبار.
والدليل على تخليد النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار: قوله تعالى في أهل الجنة: "خالدين فيها أبداً رضى اللّه عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه" والآي في ذلك كثير، وأيضاً قوله ﷺ: يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار، فينظرون إليه فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم، هذا الموت، فيذبحن ثم ينادي مناد يا أهل الجنة: خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب: قوله تعالى: "إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وقوله تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً" وأيضاً: قوله ﷺ: لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر، ولا يخرجون من النار، وكذلك الموحد: لا تضره سيئة مع إثبات التوحيد، ولا يخلد في النار. قيل: وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، وقول لا إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك فاغفر لي ما بين ذلك.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الإيمان على ضربين: إيمان قديم، وإيمان محدث، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى؛ لنه سمى نفسه مؤمناً، فقال: "السلام للمؤمن المهيمن" وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه، لقوله: "شهد اللّه أنه لا إله إلا هو" وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه، وكلامه قديم، صفة من صفات ذاته.
والإيمان المحدث: إيمان الخلق؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم، بدليل قوله تعالى: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" وقوله تعالى: "ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم" ولأن إيمان العبد صفة للعبد، وصفة المخلوق مخلوقة، كما أن صفة الخالق قديمة، أعني صفة ذاته. وأيضاً: فإن حد القديم هو: الذي لا حد لوجوده، ولا آخر لدوامه، وحد المحدث: ما لم يكن ثم كان، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة. وكيف تكون صفة المحدث قديمة، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل، ولا يمكن قيامها بنفسها، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.
واعلم أن حقيقة الإيمان هو: التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخباراً عن إخوة يوسف عليه السلام: "وما أنت بمؤمن لنا" أي بمصدق لنا وأيضاً: أن الرسول عليه السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب، فقال: أنا أومن به وأبو بكر وعمر يريد أصدق. وأيضاً: قول أهل اللغة: فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار؛ أي يصدق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الأخرة، أي لا يصدق به.
واعلم: أن محل التصديق القلب، وهو: أن يصدق القلب بأن الله إله واحد، وأن الرسول حق، وأن جميع ما جاء به الرسول حق، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة عما في القلب، ودليل عليه. ويجوز أن يسمى إيماناً حقيقة على وجه، ومجازاً على وجه: ومعنى ذلك: أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقر بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة، وإنما هو مؤمن مجازاً، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا، لأنه مؤمن من حيث الظاهر، وهو عند الله غير مؤمن. والدليل على صحة ذلك: قوله: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه واللّه يعلم إنك لرسوله واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون" فأخبر سبحانه بكذبهم، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم، وإنما كذب قلوبهم، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه، وكذلك بالعكس من هذا، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك: قوله تعالى: "من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً" فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.
واعلم: أنا لا نفكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، على ما جاء في الأثر لأنه ﷺ إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة، لأن من أقر بلسانه، وصدق بقلبه، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط، وحكمنا له أيضاً بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب، من حيث شاهد الحال، وقطعنا له بذلك في الآخرة، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك، ويميته عليه. ولو أقر بلسانه، وعمل بأركانه، ولم يصدق بقلبه، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة، وقد بين ذلك ﷺ حيث قال: يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى ومنه: أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف، وإنما الاضطراب: والاختلال، والاختلاف في فهم من سمع ذلك، وليس له فهم صحيح، نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك أيضاً: لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك راجعاً إلى القول والعمل، دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك: أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام إذا ترك صلاة أو صياماً أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم، ولم يفعل واحداً منهما، فإنه يوصف بالكفر، وانسلخ من الإيمان، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال، ولا يجوز من طريق التصديق، وقد بين ذلك ﷺ بقوله: لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير وكذلك قوله حتى يأمن جاره بوائقه وأراد بذلك الكف عن الأذى، ولم يرد التصديق، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.
والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان، يتصور أيضاً أن يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضاً في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعاً إلى الجزاء والثواب، والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في تصديق، من حيث الصورة. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد اللّه الحسنى، واللّه بما تعملون خبير" ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح؛ لأن كل واحد منها من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب، والدرجة، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.
وأما السنة: فقوله ﷺ: لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهباً ما أنفقه أحد من الصحابة، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب، والجزاء، والدرجة أزيد أكمل من نفقة غيرهم، فهي وإن كانت في الصورة أكثر، لكنها أنقص من حيث الحكم، لا من حيث العين، فاعلم حكم ذلك وتحققه، ووازن هذا من أفعالنا اليوم، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير مكة والمدينة، وأتى بجميع شرائطها، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلى عليه الآخر، لا يقال: إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم؛ في تحصيل التفضيل والثواب، ولهذا نظائر يطول تعدادها، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.
مسألة
الإسلام والإيمان
ويجب أن يعلم: أن كل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيماناً، لأن معنى الإسلام الانقياد، ومعنى الإيمان التصديق، ويستحيل أن يكون مصدق غير منقاد، ولا يستحيل أن يكون منقاد غير مصدق؛ وهذا كما يقال: كل نبي صالح، وليس كل صالح نبياً.
ويدل على صحة هذه الجملة قوله تعالى: "قالت الأعراب آمناً قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" فنفى عنهم الإيمان وأثبت أن ذلك منهم إسلام لا إيمان. وأيضاً: قوله تعالى: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل اللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" فغاير بين الإسلام والإيمان.
ويدل على صحة هذا القول أيضاً. أن الرسول عليه السلام فرق هو وجبريل بين الإسلام والإيمان حين سأله، فقال له ما الإيمان؟ فقال له ﷺ: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره فقال جبريل عليه السلام: صدقت. والمراد بجميع ذلك أن: تصدق بالله ورسوله، إلى آخر ما ذكر، ثم قال له: فما الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة وهذا واضح في كونهما غيرين، وأن محل الإيمان القلب، وهو التصديق، ومحل الإسلام الجوارح، وهذا الحديث يقوي لك جميع ما ذكرت لك. وأن التصديق متى اختل منه شيء انخرم الإيمان، والقول والعمل يزيد وينقص، فعلى ما قررت لك لا يجوز أن نطلق. فنقول: إيمان أحدنا كإيمان جبريل، ولا كإيمان محمد ﷺ، ولا كإيمان الصديق رضي الله عنه، بل نمنع من ذلك، ونريد به أن إيمان هؤلاء أفضل وأكمل وأرفع، من طريق الحكم الذي بينت لك، ومن طريق آخر: وهو أنه قد بان لهؤلاء من دلائل الوحدانية أكثر مما بان لنا، فلا نطلق التسوية بين إيمانهم وإيماننا، ولا نريد بذلك أن نصدق بعض ما جاء به الرسل عليهم السلام والصديق يصدق بالجميع، بل لا يصح لأحد إيمان حتى يصدق بالجميع، لكن إيمان الصديق أكمل وأفضل من الوجوه التي بينت لك.
مسألة
ويجب أن يعلم: أنه يجوز أن يقول العبد أنا مؤمن حقاً ويعني به في الحال، ويجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ويعني به في المستقبل. فأما في الماضي وفي الحال فلا يجوز أن يقول إن شاء الله لأن ذلك يكون شكا في الإيمان، ولأن الاستثناء إنما يصح في المستقبل، ولا يصح في الماضي، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى. في قوله لرسوله ﷺ: "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً. إلا أن يشاء اللّه" وكذلك قال ﷺ: إنا غداً إن شاء الله نازلون بخفيف بني كنانة ولأن المشيئة لله تعالى سابقة لكل موجود، فلولا المشيئة لما وجد الموجود، فكما لا يجوز أن يستثنى في الحال فلا يجوز أن يقطع في المستقبل. فاعلم ذلك وتحققه.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن الاسم هو المسمى بعينه وذاته، والتسمية الدالة عليه تسمى اسماً على سبيل المجاز.
والدليل عليه قوله تعالى: "تبارك اسم ربك" ومعناه: تبارك ربك، وأيضاً قوله تعالى: "سبح اسم ربك" ولا يشك عاقل أن المسبح هو الله تعالى، لا قول من يقول التسبيح، ويدل عليه قوله تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم، ما أنزل اللّه بها من سلطان، إن الحكم إلا اللّه أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" وقد علمنا أنهم ما كانوا يعبدون الأقوال والتسميات، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فأما قوله تعالى "ولله الأسماء الحسنى" وقوله ﷺ: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، فالعدد في ذلك راجع إلى التسميات التي هي عبارات الاسم، فالتسمية تدل على الذات حسب دلالة الكتابة على المكتوب، فمن لا يميز بين الاسم والتسمية وبين الكتابة والمكتوب وما جرى هذا المجرى فلا يحل الله له أن يفتي في دين الله تعالى، نعوذ بالله من الجهل بالله تعالى وصفاته.
مسألة
ويجب أن يعلم: أنه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء، خلافاً لما تدعيه البراهمة. والدليل عليه أيضاً: أنه مالك الملك يفعل ما يشاء، مع ما سبق من أنه ليس في إرسال الرسل استحالة، ولا خروج عن حقائق العقول، فدل على جواز ذلك.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه، وإنما يثبت بالمعجزات، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك. يبين لك ذلك: أن موسى عليه السلام جاء في زمان سحرة وسحر، فتحداهم بقلب العصا حية، فعلم المحققون منهم في السحر: أن ذلك خارج عن قبيل السحر؛ لعجزهم عن ذلك، وخرقه لعادة السحر، فسارعوا إلى الإيمان، وهذا يدل على فضل العلم من أي نوع كان: فإنه أولى من سارع إلى الإيمان السحرة، لعلمهم بالسحر، فكان في علمهم ذلك وإن كان باطلاً فضل كبير على غيرهم من قومهم ممن لا يعلم السحر.
وكذلك عيسى عليه السلام: جاء في زمان قوم طب ومداواة، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فأتى بما هو خارج عن قبيل الطب. خارقاً للعادة فيه، لا يقدر عليه مخلوق. وكذلك: نبينا ﷺ، جاء في وقت فصاحة وشعر وخطب ونظم ونثر، فأتاهم بما هو خارج عن عاداتهم في النظم والنثر، وهو أفصح وأجزل وأوجز، وتحداهم بالإتيان بمثله، فوجدوا ذلك خارجاً عن نظمهم ونثرهم وخارقاً لعادتهم، فعجزوا عنه فسارع من هداه الله إلى الإيمان به، ولله الحمد والمنة، على الهداية والتوفيق.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن نبينا محمداً ﷺ مبعوث إلى كافة الخلق، وأن شرعه لا ينسخ، بل هو ناسخ لجميع من خالفه من الملل.
والدليل على ذلك: ثبوت نبوته، وصدق مقاله، وقد أخبر بجميع ذلك.
واعلم أن أكبر معجزاته القرآن العربي، وفيه وجوه من الإعجاز.
أحدها: ما اختص به من الجزالة، والنظم والفصاحة الخارجة عن أساليب الكلام، وتحدى به فصحاء العرب بأن يأتون بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بمثله، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، ولم يتأت لهم ذلك في مدة ثلاث وعشرين سنة.
ومن وجوه الإعجاز في القرآن: اشتماله على قصص الأولين، وما كان من أخبار الماضين، مع القطع بأنه ﷺ كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ، ولم يعهد منه ﷺ في جميع زمانه تعاط لدراسة كتب ولا تعلمها، وقد نفى عنه سبحانه وتعالى ذلك بقوله: "وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون".
ومن وجود الإعجاز: أن اشتمال القرآن على ما لا يحصى من علم غيوب متعلقة بالمستقبل ظاهر جلي، مثل قوله تعالى: "والعاقبة للمتقين" وقوله تعالى. "لتدخلن المسجد الحرام". ومثل قوله "كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي" إلى غير ذلك، من وجوه الإعجاز في القرآن كثير جداً. وله ﷺ آيات ومعجزات سوى القرآن: كانشقاق القمر، واستنزال المطر، وإزالة الضرر من الأمراض، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في يده، ونطق البهائم، إلى غير ذلك من المعجزات والآيات الخارقة للعادة ﷺ رزقنا الله شفاعته، وحشرنا في زمرته.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل، ولا تنخرم، بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم، وحالة اشتغالهم، إما بأكل أو شرب، أو قضاء وطر.
والدليل عليه: أن حقيقة النبوة: لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة دون غيرها من الحالات، لكانوا في غيرها من الأحوال غير موصوفين بذلك. وقد غلط من نسب إلى مذهب المحققين من الموحدين إبطال نبوة الأنبياء عليهم السلام بخروجهم من دار الدنيا.
وليس ذلك بصحيح، لأن مذهب المحققين: أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة، وإنما صار رسولاً واستحق شرف الرسالة والنبوة بقول مرسله: وهو الله تعالى: أنت رسول ونبيي. وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.
والدليل على صحة هذا أيضاً: أنه ﷺ سئل، فقيل له: متى كنت نبياً؟ فقال: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين فحاصل الجواب في هذا: أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين الآن، حسب ما كان ثابتاً لهم في حال الحياة، لم ينثلم ولم ينتقص، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ، ومن راجع نفسه ولم يغالط حسه عرف وتحقق أن النبي ﷺ الآن لم يخاطب شفاهاً، ولا يأمرهم ولا يكلمهم من غير واسطة، لكن حكم شريعته وصحة نبوته ثابت لم ينتقض، لأجل خروجه من الدنيا، ولم تزل مرتبته، ولا انخرمت رسالته، ولا بطلت معجزته، فاعلم ذلك وتحققه.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدم خلق الله أجمعين، من الأنصار والمهاجرين، بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لقوله تعالى: "ثاني اثنين إذ هما في الغار" ولا أفضل من اثنين ثالثهما الله تعالى لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه" وهو الصديق وأصحابه، لما قاتل أهل الردة. ولقوله تعالى: "والذي جاء بالصدق وصدق به" قيل في أصح التفاسير: الذي جاء بالصدق محمد ﷺ، وصدق أبو بكر الصديق؛ يؤكد صحة هذا التفسير قوله ﷺ: قال الناس لي كذبت، وقال أبو بكر صدقت ويدل عليه قوله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلاً وعد اللّه الحسنى، واللّه بما تعملون خبير" والصديق رضي الله عنه أول من أنفق على رسول الله ﷺ، يؤكد هذا قوله ﷺ: إن أمن الناس علي في نفس ومال أبو بكر الصديق، ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر. ويدل عليه قوله ﷺ لأبي الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك، والله ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر، وليس في السماء ولا في الأرض بعد النبيين أو المرسلين خير من أبي بكر. وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة، لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته، وانقيادهم له، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني، فلست بخيركم. فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله ﷺ لديننا ألا نرضاك لدنيانا. يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره، واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمة، وأرجحهم إيماناً، وأكملهم فهماً، وأوفرهم علماً، وأكثرهم حلماً، وبه نطق قوله ﷺ: ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الأرض.
ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لاستخلافه إياه، وقد ورد في فضائله رضي الله عنه من الأحاديث ما لا يحصى.
ومن جملة ذلك: قوله ﷺ: لو كان بعدي نبي لكان عمر، إن الله ربط الحق بلسان عمر وقلبه وأيضاً: قوله ﷺ: كادت أنفاس عمر تسبق الوحي لأنه كلمه في أسارى بدر، وأن تضرب أعناقهم، فنزل قوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا واللّه يريد الآخرة واللّه عزيز حكيم" فقال: لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر حين نزل قوله تعالى: "لولا كتاب من اللّه سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" وقال: لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب وقال: عسى ربه إن طلقكن فنزلت الآية في ذلك، وفضله أكثر من أن يحصى.
وبعده: أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، لإجماع المسلمين أنه من جملة الستة الذين نص عمر عليهم. وقد قال ﷺ: إن عثمان أخي ورفيقي في الجنة وقال ﷺ: لو كان لنا ثالثة زوجناكها يا عثمان. وقال ﷺ: دعوت الله تعالى أن يرفع الحساب عن عثمان ففعل. وقال ﷺ: من يزيد في المسجد أضمن له الجنة؟ فزاد فيه عثمان. وقال: من يشتري رومة أضمن له الجنة فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين. وقال: من يجهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان: تسعمائة وخمسين بعيراً، وأتمها ألفاً بخمسين فرساً.
وبعده أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقد ورد عن النبي ﷺ في فضائله أحاديث كثيرة منها: قوله ﷺ: اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار. وقال ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وقال ﷺ: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأعطاها لعلي عليه السلام.
مسألة
والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيناه: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين، ومصابيح أهل اليقين، شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وشهد لهم النبي ﷺ بأنهم خير القرون، فقال: خير القرون قرني فلما قدموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور، علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحداً تشهياً منهم، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه.
قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام. ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة: أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك هو قوله تعالى: "وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" ووعده حق، وخبره صدق، لا يقع بخلاف مخبره، فلا بد من أن يتم ما وعدهم به، وأخبر أن يكون لهم، ولا يصح إلا على هذا الترتيب: لأنه لو قدم علي عليه السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة، لأن علياً عليه السلام مات بعد الثلاثة. وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر، لأن عثمان مات بعد موتهما، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده، والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت. ولله الحمد على الهداية والتوفيق.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن ما جرى بين أصحاب النبي ﷺ ورضى عنهم من المشاجرة نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم، ونسأل الله تعالى لهم الرضوان، والأمان، والفوز، والجنان. ونعتقد أن علياً عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران. وأن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم الأجر، ولا يفسقون ولا يبدعون. والدليل على قوله تعالى: "رضى اللّه عنهم ورضوا عنه" وقوله تعالى: "لقد رضى اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً" وقوله ﷺ: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ويدل على صحة هذا القول: قوله ﷺ للحسن عليه السلام: إن ابني سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين، وحكم لهم بصحة الإسلام. وأيضاً قوله ﷺ: يكون بين أصحابي هنات ونزغات يكفرها الله تعالى لهم ويشقى فيها من شقى. وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: "ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين".
مسألة
خير الأمة
ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله ﷺ، وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضى الله عن الجميع وأرضاهم، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله ﷺ، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن، وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله، ونقول في الجميع: خيراً، ونبدع، ونضلل، ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن، لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم، فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً مخالفاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك.
مسألة
ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم، والسكوت عنه، لقوله ﷺ: إياكم وما شجر بين أصحابي وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: ما تقول فيما شجر بين الصدر الأول؟ فقال: أقول كما قال الله تعالى: "ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنا" وسئل عن ذلك جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. فقال: أقول ما قال الله: "علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى". وسئل بعضهم عن ذلك فقال: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون". وسئل عمر بن عبد العزيز عن ذلك فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني؛ مثل أصحاب رسول الله ﷺ مثل العيون ودواء العيون ترك مسها.
مسألة
شروط الإمامة
ويجب أن يعلم: أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط.
منها: أن يكون قرشياً؛ لقوله عليه السلام: الأئمة من قريش.
والثاني: أن يكون مجتهداً من أهل الفتوى؛ لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك، فالإمام أولى.
والثالث: أن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور، ويكون حراً ورعاً في دينه. وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله ﷺ. وقال عليه السلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر، وفقنا الله للصواب، وعصمنا من الخطأ والزلل بمنه ورحمته.
فصل
اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن أهل البدع والضلال من الخوارج، والروافض والمعتزلة قد اجتهدوا أن يدخلوا على أهل السنة والجماعة شيئاً من بدعهم وضلالهم فلم يقدروا على ذلك، لذب أهل العلم ودفع الباطل، حتى ظفروا بقوم في آخر الوقت من تصدى للعلم ولا علم له ولا فهم، ويستنكف ويتكبر أن يتفهم وأن يتعلم؛ لأنه قد صار متصدراً معلماً بزعمه، فيرى بجهله أن عليه في ذلك عاراً وغضاضة، وكان ذلك منه سبباً إلى ضلاله وضلال جماعته من الأمة. واعلم: أن أخبث من ذكرنا من المبتدعة، وأكثرهم شبهاً وأعظمهم استجلاباً لقلوب العوام. المعتزلة، فجعلوا يتطلبون أن يضلوا من ذكرنا في مسألة القدر، فلم يقدروا، وكذلك في مسألة الرؤية، فلم يقدروا، وكذلك في مسألة الشفاعة والصراط والميزان، وعذاب القبر، وجميع ما أنكروه مما صحت فيه الآثار فلم يقدروا عليهم في شيء من ذلك، ولم يظفروا به، فجاءوا إلى مسألة القرآن وعقدهم فيه أنه مخلوق محدث موصوف بصفات المخلوقين، فما قدروا أن يصرحوا بكونه مخلوقاً، فما زالوا يحسنوا لهم أموراً حتى قالوا: بأن القرآن يتصف بصفات الخلق، وذلك أكبر عمدة لهم في كونه مخلوقاً، فرضوا منهم بأن يقولوا بخلق القرآن معنى وإن لم يصرحوا به نطقاً. وكان أكبر غرض هؤلاء الجهلة ممن يتصدى للعلم وليس من أهل ذلك، أن ينفروا العوام من أهل التحقيق والذين يعرفون مغزاهم في ذلك، حتى لا يسمع كلامهم ولا يتعلم منهم حتى ينقرضوا شيئاً فشيئاً ويتم لهم ما أرادوا في الجهال والعوام.
وأنا بحمد الله وعونه وحسن توفيه أبين لك ذلك مسألة مسألة، وأذكر لك شبههم في كل مسألة، وهي أربع مسائل: مسألة القرآن وهي أهمها: والثانية: مسألة القدر والجرح والتعديل: والثالثة: مسألة الرؤية: والرابعة مسألة الشفاعة:
مسألة
كلام الله
اعلم: أن الله تعال متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم ليس بمخلوق، ولا مجعول، ولا محدث، بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات. ولا يجوز أن يقال كلام الله عبارة ولا حكاية، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق، ولا يجوز أن يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق، ولا غير مخلوق، ولا أني أتكلم بكلام الله، هذه جملة أنا أفصلها واحداً واحداً إن شاء الله تعالى.
مسألة
فأما الدليل على كون كلام الله قديماً غير مخلوق، فمن الكتاب قوله تعالى "ألا له الخلق والأمر" فصل بين الخلق والأمر، فدل على أن الأمر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضاً قوله تعالى: "واللّه يقول الحق" ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به كن واحتاج القول إلى قول ثالث، والثالث إلى رابع، إلى ما لا نهاية له، وهذا محال باطل، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق، وهو كلامه القديم.
ويدل عليه من السنة: قوله ﷺ. فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه. فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون، فكذلك القول في كلامه، فوجب أن يكون غير مخلوق، وكلامهم مخلوقاً.
ويدل عليه أيضاً: أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله ﷺ عن القرآن فقال: "كلام اللّه غير مخلوق": ويدل عليه أيضاً: إجماع الصحابة، وهو أن علياً عليه السلام لما أنكر عليه التحكيم وكفر الخوارج فقال بحضرة الصحابة: والله ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت القرآن، ولم ينكر ذلك منكر، فدل على أنه إجماع، ولأنه لو كان مخلوقاً: لم يخل أن يكون خلقه في نفسه أو في غيره. أو في غير شيء، ولا يجوز أن يكون مخلوقاً في نفسه لأن ذاته لا تقوم بها المخلوقات والحوادث يتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولا يجوز أن يكون خلقه في غيره، لأنه لو كان خلقه في غيره لكان ذلك الغير إلهاً، آمراً، ناهياً قائلاً: "يا موسى إنه أنا اللّه العزيز الحكيم" وهذا محال باطل، ولا يجوز أن يكون خلقه في غير شيء، لأنه يؤدي إلى وجود كلام من غير متكلم وهذا محال. فإذا ثبت بطلان هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا أنه غير مخلوق، بل هو صفة من صفات ذاته، قديم بقدمه، موجود بوجوده موصوف به، فيما لم يزل وفيما لا يزال. ولا يجوز أن يباينه، ولا يزايله، ولا يحل في مخلوق، ولا يتصف بالحول رأساً، فاعلم ذلك وتحققه.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "اللّه خالق كل شيء" وربما قرر عليك هذا السؤال والدليل، كما قرره بشر المريسي علي عبد العزيز المكي وهو: أنه قال له: أتقول إن القرآن شيء أو ليس بشيء؟ فقال: بل هو شيء، فقال يا أمير المؤمنين سلم أن القرآن مخلوق، لأن الله تعالى قال: "اللّه خالق كل شيء" والجواب أن يقال: في أول الأمر أي شيء أردت بقولك إنه شيء فإن أردت أنه موجود ثابت فنعم، وإن أردت بقولك إنه شيء كالأشياء من حيث خروجه من العدم إلى الوجود كالأشياء الموجودة بعد العدم فلا نقول ذلك.
والموجود الثابت لا يدل على أنه مخلوق محدث، فإن الله موجود ثابت دائم الوجود ليس بمخلوق. وأما الجواب على جملة خالق كل شيء فالمراد به الخصوص دون العموم فإنه بعضه قطعاً وأنه غير داخل في ذلك كما سمى نفسه، فقال: "كتب على نفسه الرحمة" ثم قال: "كل نفس ذائقة الموت" ولا تدخل نفسه في ذلك، وإنما المراد به كل نفس منفوسة مخلوقة، كذلك قوله: "اللّه خالق كل شيء" يعني مما يصح فيه الخلق والحدث، وصفات ذاته قديمة بقدمه وموجودة بوجوده، فلم تدخل في ذلك. ومثل هذا في القرآن كثير، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهما السلام: "يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" ولم يؤتيا سماء ولا أرضاً، ولا شمساً ولا قمراً ولا جنة، ولا ناراً، ولا ملائكة، ولا عرشاً، ولا غير ذلك، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس: "وأوتيت من كل شيء": ومعلوم أنها لم تؤت النبوة، ولا تسخير طير، إلى غير ذلك؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم، لأنها ما دمرت هوداً، ولا السماء، ولا الملائكة، ولا الجبال، إلى غير ذلك.
قال الشريف الأجل جمال الإسلام: ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو: أن يقول: الآية حجة عليكم، وأن القرآن ليس بمخلوق، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق، فسمى نفسه خالقاً، وسمى كل شيء دونه مخلوقاً، فالخالق بجميع صفات الذات، غير مخلوق، لأن الاسم هو المسمى، على ما قررنا، وهذا صحيح، لأن الخالق هو الله العالم، القادر، المريد، المتكلم، وكلامه هو القرآن، فدل على أنه غير مخلوق، ولا داخل في الأشياء المخلوقة، والذي يفهم من ذلك؛ فإن كان عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته، وحياته، وعلمه، وكلامه. وكذلك إذا قيل آخذ الملك اليوم كل أحد، وصغر كل صفه وحقرها ومعلوم أن ذاته ما دخلت في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله: "اللّه خالق كل شيء" يعني غير ذاته. وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث" فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الآية حجة عليهم، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثاً. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث، فيجب أن يكون القرآن؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه، سبحانه وتعالى.
الجواب الثاني: أن الذكر ها هنا يراد به وعظ الرسول ﷺ لهم وتوعده لهم وتخويفه، لأن وعظ الرسل عليهم السلام يسمى ذكراً. يدل عليه قوله تعالى: "فذكر إنما أنت مذكر" ويقال: فلان في مجلس الذكر، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك؛ أن قريشاً لم تلعب عند سماع القرآن، ولكنها كانت تفحم عند سماعه، حتى قال عتبة: والله لقد سمعت كلاماً ما هو بالشعر، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وإن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة. وفزعوا أيضاً أن تفتتن عند سماعه نساؤهم وأولادهم، حين كان يقرأ أبو بكر رضي الله عنه.
الجواب الثالث: أنه أراد ما يأتيهم من نهى محدث مجدد بعد نبي إلا استمعوه وهم يلعبون، هل هذا إلا بشر، وقد سمى الله تعالى رسوله ذكراً بقوله "رسولاً يتلو عليكم آيات اللّه مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن باللّه ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن اللّه له رزقاً".
فإن احتجوا بقوله تعالى: "وكان أمر اللّه مفعولاً" "وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً" فالجواب: أنه تعالى أراد عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين، وما حكم به وقدره من أفعاله، وهذا بمنزلة قوله "حتى إذا جاء أمرنا" يعني ما أمرنا به من زيادة الماء وإغراق الكافرين من قوم نوح عليه السلام، ولم يعن قولنا وكذلك أيضاً قال: "وما أمر فرعون برشيد" يعني شأنه وأفعاله وطرائقه، ولم يرد قوله وهذا بمنزلة قول القائل: فقلت لها أمري إلى اللّه كلهوإني إليه في الإياب لراجع يعني سري وأفعالي، ولم يرد بذلك الأمر من القول، وجمع هذا أمور، وجمع الأمر من القول الأوامر، ولولا عجزهم وجهلهم لم يلجئوا إلى مثل هذا التمويه على العوام والجهال مثلهم.
ولو نظروا إلى قوله تعالى: "وأفوض أمري إلى اللّه" تعالى أنه أراد أفعالي وأموري، دون أمره الذي هو قوله: "حتى يتبين لهم أنه الحق" ورجعوا إليه.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "إنا جعلناه قرآناً عربياً" والمجعول مخلوق، بدليل قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" أي خلقنا؛ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى ذلك: إنما سميناه قرآناً عربياً، والجعل يكون بمعنى التسمية، بدليل قوله عز وجل: "الذين جعلوا القرآن عضين" يعني سموه؛ فبعضهم سماه شعراً، وبعضهم سحراً. وبعضهم كهانة، إلى غير ذلك. ولم يرد أنهم خلقوه. وكذلك قوله تعالى: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون" يعني سموهم وحكموا عليهم بذلك، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى: "وجعلوا للّه أنداداً" يعني سموا. وكذلك قوله تعالى: "ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على اللّه الكذب وأكثرهم لا يعقلون" وفي القرآن مثل هذا كثير.
الجواب الثاني: أنه أراد: إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.
والجواب الثالث: أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل: جعلت النجم والرجل، ويسكت حتى يصله بقوله: جعلت النجم هادياً ودليلاً، وجعلت الرجل صديقاً وصاحباً. فلما قال الله تعالى: "إنا جعلناه قرآناً عربياً" تعدى إلى مفعولين، فيكون بمعنى الحكم والتسمية.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "وإذا بدلنا آية مكان آية" وقالوا: ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة، قلنا: هذا جهل منكم أيضاً، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة؛ أو في حكم، فيكون تقدير الكلام: وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.
دليل الأول: قوله تعالى: "وإذا بدلنا آية مكان آية" يعني حكم آية أو تلاوتها. ودليل الثاني: قوله تعالى: "ولا مبدل لكلمات اللّه" وقوله تعالى "لا مبدل لكلماته" فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى، ومنعوه نطقاً، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستيفاء بالكمال، في مسألة الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء. فإن احتجوا بقوله تعالى: "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" وقالوا: ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.
فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال: استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له: كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا؟. فقال: يسري عليه فيذهب حفظه من الصدور، ورسمه من المصاحف.
وهذا صحيح، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله، وحفظه مخلوق مثله، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب الذي هو كلامه القديم، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.
فإن احتجوا بقول النبي ﷺ: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم قالوا: وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا: كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهال الناس، لأن النبي ﷺ إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته، وقد قرنه ﷺ بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره؛ ألا تراه قال: مخافة أن تناله أيديهم ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره، وقد بين عليه السلام ذلك في حديث آخر، وهو قوله ﷺ لبعض أصحابه: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن، دون نفس القرآن الذي هو كلام اله تعالى، لأنه صفة من صفات ذاته، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى. فإن قالوا: أجمعنا على أن القرآن سور، والسور آيات، والآيات كلمات، والكلمات حروف وأصوات. وجميع ذلك يدل على كونه محدثاً مخلوقاً؛ لأن السور معدودة محسوبة؛ لها أول وآخر، وكذلك الآيات والحروف، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق، ما قرروه من هذه الشبهة، وقالوا مثل قولهم: إن كلامه حروف وأصوات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال لهم: أما ما ذكرتم من الحصر، والتحديد والتبعيض، والحروف، والأصوات، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان، وشفتين، وحلق، والله يتعالى يتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وكذلك ما ذكرتم من الحصر، والعد، والأول، والآخر، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتابتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح، لأنه تعالى قال: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" وقوله تعالى: "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه إن اللّه عزيز حكيم" ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة، ويتلو التالي منا عدة ختمات، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه، وخطنا لكلامه، وحفظنا لكلامه.
فأما صفته التي هي كلامه على الحقيقة فلا تتصف بالزوال، والحصر، والعد، والأول والآخر على ما أخبر سبحانه وتعالى على مقتضى التحقيق. لأن كل ما اتصف بالبداية والفراغ والحصر والعد فإنما هي صفة المخلوق لا صفة الخالق القديمة بقدمه الموجودة بوجوده، التي لا يجوز أن تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من ضلالة الفريقين وتخلص من جهل الطائفتين.
مسألة
ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء. والتلاوة غير المتلو والكتابة غير المكتوب، وهذا إنما خالف فيه من لا حس له، ولا فهم، ولا عقل ولا تصور، ونحن بحمد الله نبين الفرق بين الأمرين من الكتاب والسنة ودليل العقول.
فأما الدليل من الكتاب فكثير جداً. أحدها: قوله: "وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث" فأخبر تعالى أن القرآن منه منزل موحى، وأن الرسول يقرؤه ويعلمه، فالموحى المنزل المقروء هو كلام الله تعالى القديم وصفة ذاته، والقراءة له فعل الرسول التي هي صفته. وأيضاً قوله: تعالى "يا أيها الرسول بلغ" ففعل الرسول البلاغ الذي هو القراءة. وقوله تعالى: "لا تحرك به لسانك" وقوله تعالى: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ثم يحكم اللّه آياته واللّه عليم حكيم" وقوله تعالى: "يتلونه حق تلاوته" وقوله تعالى: "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين" "وأن أتلو القرآن" فمعلوم أن ها هنا آمر أمر بشيئين، وهو الله تعالى، ومأمور وهو الرسول، فأمره بالعبادة له، فحصل ها هنا آمر، ومأمور، ومأمور به، فالآمر هو الله تعالى، والمأمور الرسول، والمأمور به العبادة، فالمعبود غير العبادة التي هي فعل الرسول، فكذلك التلاوة غير المتلو، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها، والمتلو كلامه القديم، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق، إنما أمر بتلاوة كلامه، كما أمر بعبادته، وعبادته غيره، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه، فحصل من هذا: تال. وهو الرسول عليه السلام وتلاوته صفة له. ومتلو: وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "فإذا قرأت القرآن". ففرق بين القراءة والمقروء: وأيضاً قوله تعالى: "واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك" فذكر قراءة ومقروءاً، وتلاوة، ومتلواً، وعند الجاهل أن ذلك شيء واحد.
وأيضاً فإنه أمر بالتلاوة والقراءة، والأمر هو استدعاء الفعل، والفعل صفة المأمور لا صفة الآمر؛ ألا يرى أنه أمر بالعبادة، والعبادة صفة العابد لا المعبود. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" فأخبر تعالى أنه لم يكن تالياً، ثم جعله تالياً ولم يكن كاتباً، ولم يجعله أيضاً في الثاني كاتباً، وقد جعل غيره تالياً لكلامه كاتباً له، ومعلوم عند كل عاقل أن ما لم يكن ثم كان وهي التلاوة؛ صفة للرسول لم يكن موصوفاً بها ثم صار موصوفاً بها، غير كلام الله الذي هو صفة له لا يستحق غيره الوصف بها ولا يتصف بأنه لم يكن ثم كان، ومعلوم أن الرسول كان تالياً قبل أن تكون أمته تالية، وحافظاً قبل أن تكون أمته حافظة، ثم صارت أمته تالية حافظة لما أقرأها وحفظها، فتلاوته غير تلاوة أمته لتقدمها عليها وتلاوة أمته غير تلاوته لتأخرها عنها والذي تلاه بتلاوته فهو كلام الله القديم وكذا الذي تلته أمته بتلاوتها. فلا يخفى على عاقل أن التلاوة غير المتلو، كما أن العبادة غير المعبود، والذكر غير المذكور، والشكر غير المشكور، والتسبيح غير المسبح، والدعاء غير المدعو إلى غير ذلك.
ويدل على صحة ذلك من السنة وأن القراءة والتلاوة صفة القارىء، والمقروء المتلو صفة الباري قوله ﷺ: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً فليقرأ على قراءة ابن أم عبد، يعني ابن مسعود، فأضاف القراءة إلى ابن مسعود، والمقروء صفة الله تعالى، والذي يدل على صحة هذا القول أنه يجوز أن يقال هذا الحرف قراءة ابن مسعود وليس قراءة أبي وغيره من القراء، ولا يجوز أن يقال إن المقروء الذي يقرأه ابن مسعود غير المقروء الذي يقرأه أبي، لأن القراءة تكون غير القراءة والقرآن الذي يقرأه هذا بقراءته هو القرآن الذي يقرأه هذا أنه شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، وإن تغيرت القراءة له واختلفت. والذي يوضح لك هذا ويبينه تبييناً مستوفياً أن عمر رضي الله عنه لما مر على بعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف قراءة عمر فأنكر ذلك عليه وقال: قد قرأتها على رسول الله ﷺ على خلاف هذه القراءة ولببه حتى أتى به إلى رسول الله ﷺ حتى قال: خل عنه؛ إقرأ يا عمر فقرأ فقال: هكذا أنزل، ثم قال للآخر: اقرأ فقرأ بالقراءة التي سمعها عمر منه فقال: هكذا أنزل. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه. فأخبر ﷺ باختلاف القراءتين وأن كل واحدة منهما تؤدي إلى ما تؤدي إليه الأخرى، وهو المتلو المقروء القديم الذي لا يختلف ولا يتغير. وأيضاً ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدة طرق عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم واتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف، ولكن بالألف عشر الحديث.
وروى عنه ﷺ: من قرأ حرفاً من كتاب الله فأضاف القرآن إلى الله تعالى لأنه صفة من صفات ذاته، وأضاف التلاوة إلى التالي لأنها صفته يؤجر عليها كما يؤجر على جميع أفعال طاعاته. وأيضاً قوله ﷺ: استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وهذا يدلك على الفرق بين القراءة والمقروء، والتلاوة والمتلو، لأنه ﷺ حضهم على أخذ القراءة للقرآن عن هؤلاء الأربعة لأنهم قد باينوا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم في جودة القراءة وصحتها والعلم بها، وهذا المعنى صحيح لأن الغلط، واللحن، والتحريف، والتصحيف إنما يقع في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارىء؛ فأما القرآن المقروء فهو كلام الله تعالى الذي قد أخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن القراءة تتعوج فيقومها القارىء الماهر، لأنها يجوز عليها التعويج والتغيير؛ فأما كلام الله القديم فليس يوصف بالتعويج. دليله: قوله تعالى: "ولم يجعل له عوجاً قيماً" وأيضاً ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مر رسول الله ﷺ وأنا معه، وأبو بكر؛ وعبد الله ابن مسعود يقرأ؛ فاستمع لقراءته، فلما ركع أو سجد قال ﷺ: سل تعطه من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد. فأضاف القراءة إلى عبد الله، لأنها صفته وعبادته عليها يثاب ويؤجر؛ والمقروء بها كلام الله القديم الأزلي، وقد روى: من سره أن يقرأ القرآن رطباً وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مر رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر، وعمر وإني أقرأ سورة النساء، فكنت أسجلها سجلاً، فقال النبي ﷺ: سل تعطه، ومعلوم عند كل عاقل أن الرسول ﷺ المتلو المقروء، لأنه لا يوصف بالشيء وضده، فاعلم ذلك وتحققه؛ ولأن صفة القراءة تارة تكون غضة رطبة من قارىء دون قارىء إنما ذلك راجع إلى صفات المحدثين الذين يتفاضلون في قراءتهم وأصواتهم فتكون قراءة بعضهم غضة رطبة، وقراءة بعضهم فجة سمجة، ويكون صوت أحدهم حاداً حسناً، وصوت آخر فجاً جهوراً عالياً، فأما القرآن المقروء المتلو فلا يختلف في ذاته بأي قراءة قرىء، وبأي تلاوة تلى، وبأي صوت سمع. بل الأدوات، والأصوات واللغات تختلف في الجودة والرداءة والخفاء والجهارة.
فصل
وقد روى من الأخبار والآثار عن سيد الأولين والآخرين وصحابته رضي الله عنهم في الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء ما لا يحصى عدداً ونحن نذكر شيئاً من ذلك يقوي جميع ما تقدم.
فمن ذلك ما روى عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعجمي، والأعرابي. قال: فاستمع وقال. اقرؤه فكل حسن، سيأتي قوم يقومونه كما يقومون القدح، يتعجلونه ولا يتأملونه.
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقترىء يقرئ بعضنا بعضاً فقال: الحمد لله كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود اقرؤا اقرؤا قبل أن يجيء قوم يقومونه كما يقومون القدح، ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأملونه، ففصل ﷺ في هذين الحديثين بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء، لأنه ﷺ عنى بالأحمر العربي الفصيح، وبالأسود الأعجمي، فالعجمي يقع في قراءته اللكنة والتمتمة ويسلم من ذلك العربي الفصيح فاستمع ﷺ قراءتهم المختلفة وحثهم ورغبهم في القراءة وأخبر أن كتاب الله واحد ليس بمختلف ولا متغاير، ثم أعلمهم بمجيء قوم من بعدهم ممن يقوم القراءة تقويم القدح، فعلم كل عاقل أن كلام الله القديم الأزلي ليس مما يعوج فيقوم، وإنما العوج يقع في قراءة القارىء فيقوم.
ويدل عليه أيضاً قول ابن مسعود رضي الله عنه: عجبت للناس وتركهم لقراءتي وأخذهم قراءة زيد بن ثابت، وقد أخذت من في رسول الله ﷺ سبعين سورة وزيد بن ثابت غلام صاحب ذؤابة. فأضاف ابن مسعود قراءته إلى نفسه، وأضاف قراءة زيد إلى نفسه، وأخبر أن قراءته أكمل من قراءة زيد؛ لأخذه لها من في رسول الله ﷺ، فغاير بين القراءتين، ومعلوم عند كل عاقل أن المقروء والمتلو الذي يقرأه عبد الله هو المقرأة المتلو الذي يقرأه زيد، وإن كانت قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.
ويدل عليه ما روى عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يحدث: أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود فقال: إني قرأت المفصل كله في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله ﷺ يقرن بينهن. وعنه أيضاً أنه قال له رجل: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر، إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع. ومعلوم أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشبه كلامه الله تعالى بهذا الشعر، وإنما شبه قراءة القارىء دون كلام الباري. وأيضاً قوله ﷺ من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد. وأيضاً ما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ القرآن متثبتاً أو بإعراب كان له بكل حرف فضل أربعين حسنة. فكل عاقل يعلم ويتحقق أن القراءة المعربة غير القراءة الملحونة؛ لأن من صحح قراءة الفاتحة صحت صلاته، ومن ترك ذلك مع قدرته عليه بطلت صلاته. فأما كلام الله تعالى القديم فلا يتصف بالصحة وضدها بل هو صحيح على كل حال، وإن وقع الفساد في القراءة.
وأيضاً ما روى قتادة قال: قلت لأنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي ﷺ؟ قال: يمد صوته مداً. وأيضاً ما روى عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي ﷺ يوم الفتح وهو على ناقته أو جمله وهو يسير وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة. فمعلوم عند كل عاقل عارف أن الترجيع والمد، إنما تقع في القراءة التي هي صفة القارىء دون كلام الله القديم الأزلي، ومن اعتقد أن الترجيع، والمد، واللين الذي هو صفة القارىء ومد صوته ولينه راجع إلى الكلام القديم الأزلي فقد جهل الله تعالى وصفات ذاته، وصرح بحدوث القرآن وخلقه. وأيضاً ما روى النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن وعن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: النظر في كتاب الله عبادة وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ اعطوا أعينكم حظها من العبادة. قالوا يا رسول الله: وما حظها من العبادة؟ قال: قراءة القرآن نظراً، والاعتبار والتفكر فيه وقال ابن مسعود: النظر في المصحف عبادة فقد اتضح بهذه الأخبار الفرق بين القراءة والمقروء، لأن الرسول ﷺ جعل قراءتنا عبادة منا، والعبادة منا صفتنا التي نثاب عليها ونؤجر، وذلك أن الله تعالى وصف عبادته على الأعضاء، وكل عضو من ابن آدم مخصوص بنوع من العبادة، فالقلب مخصوص بالعلم بالله تعالى وبمعرفته وبحفظ كلامه، والإيمان به وبكلامه، ثم المعرفة غير المعروف، والعلم غير المعلوم، والإيمان غير المؤمن به، والحفظ غير المحفوظ، لأن العلم صفة العبد، والمعلوم الرب تعالى، وكذلك الإيمان صفة للعبد، والمؤمن به هو الله تعالى. وكذلك الحفظ صفة العبد لم يكن يحفظ ثم صار حافظاً، والمحفوظ كلام الله القديم الذي لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان بل قديم موجود بوجود الحق سبحانه وتعالى، موجود قبل الحفظ وبعده، واللسان مخصوص من العبادة بالذكر لله تعالى والتسبيح له والدعاء له، وقراءة كلامه، ثم الذكر صفة الذاكر، والمذكور هو الله تعالى، والتسبيح صفة المسبح، والمسبح هو الله تعالى، والدعاء صفة الداعي والمدعو هو الله تعالى. كذلك القراءة صفة القارىء التي هي له عبادة وطاعة، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارىء وقبل قراءته. فافهم إن كان لك فهم.
وعبادة العين: النظر في المصحف، والتفكر في الآيات من كلام الله تعالى، فالناظر إنما يثاب على نظره الذي هو صفة لا على المنظور فيهن الذي هو صفة الله تعالى. ولهذا المعنى: أن من كان أكثر قراءة ونظراً وتفكراً كان أكثر ثواباً ممن نظر أقل من نظره، وقرأ أقل من قراءته؛ فالزيادة والنقصان إنما يكونان في أفعال العباد التي تتصف بالشيء وضده فأما القديم الذي هو كلام الله فلا يتصف بالشيء وضده. فاعلم ذلك وتأمله تهد إن شاء الله.
ويدل على الفرق بين القراءة والمقروء، ما روى عنه ﷺ من طرق عدة: أنه قال: خذوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن ثابت. ومعاذ بن جبل ثم خص عبد الله بن مسعود فقال: من سره أن يقرأ القرآن غضاً رطباً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد يعني ابن مسعود. فالدليل من وجهين: أحدهما: أنه ﷺ خص هؤلاء الأربعة بجودة القراءة دون غيرهم من الصحابة، وإن كان المقروء بقراءة هؤلاء هو المقروء بقراءة غيرهم، ففاضل ﷺ بين القراءة وقدم بعضها على بعض، وكلام الله القديم لا يجوز عليه الجودة والرداءة بل كله شيء واحد جيد لا يختلف، وإن اختلفت القراءة له.
الثاني من الدليلين: أن الرسول ﷺ أضاف القراءة إلى ابن مسعود دون القرآن الذي هو كلام الله تعالى فقال: من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن مسعود. فقراءة ابن مسعود صفة له، والمقروء كلام الله صفة له لا لابن مسعود. وأيضاً فإنه وصف قراءة ابن مسعود بأنها غضة رطبة وهذه صفة لا تقع إلا على صفة المحدثين؛ لأن قراءة بعضهم تكون غضة رطبة، مستحسنة تميل إليها القلوب، وقراءة بعضهم فجة غليظة تنفر عنها الطبائع، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه، وكذلك بعض القراءات مصححة معربة، وبعضها ملحونة معوجة مفسدة، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه، لأن القديم لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد تارة أخرى، إنما يتصف بالفساد تارة وبالصحة تارة أخرى صفة المخلوقين، وهي قراءتهم دون المقروء والمتلو الذي هو كلام الله القديم.
فصل
وأما الدليل على أن الحروف والأصوات من صفات قراءة القارئ، لا أنها من كلام الباري سبحانه وتعالى من الأخبار فكثير جداً، لكن إن شاء الله أذكر من ذلك ما يقع به الكفاية لكل عاقل محصل.
فمن ذلك: ما روى أبو هريرة أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل فقرأ يخفض طوراً ويرفع طوراً. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله ﷺ فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً، فموضع الدليل من هذين الخبرين أنهما أضافا القراءة إليه ﷺ، وأضافا الخفض والرفع بتفسير الحروف حرفاً حرفاً إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري، وكل حديث أذكره لك بعد هذين الحديثين فتأمله؛ فإني أذكرها سرداً إن شاء الله، فتجد في كل حديث ما يدلك على صحة ما أقول، وهو: إضافة الصوت، والحرف إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري القديم الأزلي.
فيدل على صحة ذلك ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله ﷺ فقالت: كان رسول الله ﷺ يقطع قراءته آية آية، ولو شاء العاد أن يعدها أحصاها. وهذا يدلك على أن القراءة تنعد وتنحصر، والمقروء القديم لا ينعد ولا ينحصر فافهم ذلك.
ويدل على ذلك أيضاً ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: أكان النبي ﷺ يرفع صوته بالقرآن؟ قالت: ربما رفع وربما خفض. ويدل عليه أيضاً ما روى عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه.
ويدل عليه أيضاً ما روى عن أنس أنه قال: ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه، وحسن الصوت وكان نبيكم ﷺ حسن الوجه وحسن الصوت إلا أنه كان لا يرجع. وأيضاً ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ لأبي بكر رضي الله عنه: مالك إذا قرأت لا ترفع صوتك قال: إني أسمع من أناجي. وقال لعمر: مالك إذا قرأت ترفع صوتك جداً قال أوقظ الوسنان وأنفر الشيطان. وقال لعمار: مالك إذا قرأت تأخذ من هذه السورة ومن هذه السورة؟ فقال: سمعتني أخلط به ما ليس منه، قال رسول الله ﷺ: فكله طيب فموضع الدليل: أن الرسول عليه السلام أضاف قراءة كل واحد وصوته إليه، وذكر أنها قراءة مختلفة، وأضاف إلى كل واحد صفته من القراءة والصوت، ولم يضف إلى كلام الله تعالى شيئاً من ذلك فافهم.
وأيضاً ما روى عن أم هاني رضي الله عنها قالت: كنت أسمع قراءة رسول الله ﷺ وأنا على عريشي. وأيضاً ما روى جبير بن مطعم قال: أتيت النبي ﷺ وهو يصلي بأصحابه المغرب، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد: "إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع" فكأنما صدع قلبي، ويقال إن هنا كان سبب إسلامه، لأنه جاء يكلم الرسول ﷺ في أسارى بدر، فلما سمع قراءة رسول الله ﷺ وحسن صوته قال: فكأنما صدع قلبي، وكأني بالعذاب قد أحاط بي، فصدقت وآمنت من ساعتي. وهذا الحديث أدل دليل على الفرق بين القراءة والمقروء، وأن الصوت صفة الصايت والقارئ دون كلام الباري، لأن الذي صدع قلبه وهداه إنما هو الذي فهمه من كلام الله تعالى الذي أوعد به المستكبرين؛ فعلو الصوت من قراءة رسول الله ﷺ صفة للرسول عليه السلام، والذي صدق به قلبه هو ما فهمه من كلام الله تعالى الذي سمعه بواسطة قراءة رسول الله ﷺ، وعلو صوته، لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى: "ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا" فالهادي الشافي المقروء لا القراءة، والمفهوم من الصوت لا الصوت.
يدل على ذلك أيضاً ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحاً، قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: أجل. ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن فبين لك ﷺ أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقى لا قراءة القارىء.
وأيضاً ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا؟ فقالوا: حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر. وكان حارثة من أبر الناس بأمه، وأضاف ﷺ الصوت إلى الرجل الصايت دون القرآن. ولو أني استقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح، فإذا تقرر هذا صح لك أن القراءة صفة القارىء، والمقروء على الحقيقة كلام الباري، وكذلك الحفظ صفة الحافظ، والمحفوظ كلام الله تعالى، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته، والمكتوب كلام الله تعالى، كما أن الذكر صفة الذاكر، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة، والصوم، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.
وأما الدليل من جهة العقل هو: أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة، وتارة فجة تنفر منها الطباع، وتارة رفيعة عالية، وتارة منخفضة خفية، وتارة يلحقها اللحن والخطأ، وتارة تصح وتقوم، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضاً الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله، فصح أن الكتابة صفة الكاتب، والمكتوب بها كلام الله تعالى، وأيضاً فإن الكتابة يلحقها المحو ويتصور عليها الغرق، والحرق، والالتواء، والتلف، وكلام الله القديم لا يتصور عليه شيء من ذلك. وكذلك الحفظ، والسمع تارة يوجد، وتارة يعدم، وما يجوز عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فليس بصفة الله تعالى، وإنما هو صفة المخلوق المربوب، لكن المسموع من القرآن، والمحفوظ منه، والمقروء منه، والمكتوب منه كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا مربوب. فافهم تصب إن شاء الله.
وأيضاً فإن من حلف بالطلاق الثلاث أن لا يقوم من مقامه حتى يفعل فعلاً يكون عبادة وطاعة لله تعالى؛ فقرأ عشر آيات من القرآن ثم قام ولم يفعل شيئاً غير ذلك لم يحنث في يمينه بإجماع المسلمين، فصح أن قراءته فعله وعمله الذي صار به فاعلاً، عابداً، طائعاً، وأن المقروء بقراءته كلام الله تعالى القديم الذي ليس بفعل لأحد فافهم.
وأيضاً: فإن قراءة القارىء تارة تكون طاعة وقربة، وتارة تكون معصية وذنباً. فأما الطاعة فهي إذا قرأها وهو طاهر غير جنب وغير مرائي بها أحداً من الخلق، ويكون معصية إذ قرأها وهو جنب مرائي، وما يكون تارة طاعة وأخرى معصية كيف يكون صفة الحق؟ تعالى عن ذلك بل هو صفة الخلق، لكن المقروء في الحالتين شيء واحد، وهو كلام الله تعالى القديم لا يتصف بالشيء وضده. فافهم، وفي بعض هذا مقنع لمن لم يكن يكابر الضرورات.
مسألة
ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة كما قال: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ هو القرآن المكتوب في مصاحفنا شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا، وأن الخط الذي فيه غير الخطوط التي في مصاحفنا، وأن القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا، وكذلك ما اختلف وغاير غيره واختص بمكان دون مكان وزمان دون زمان، فهو مخلوق مربوب، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير ولا يجوز عليه شيء من صفات الخلق، فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته قديمة وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة، كما قال تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" لكن نعلم قطعاً أن زيداً الحافظ غير عمرو الحافظ، وأن قلب هذا غير قلب هذا، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا. لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه، وهو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، إذ هو صفة الله تعالى قديم غير مخلوق، وكذلك نقول إنه مقروء بألسنتنا نتلوا بها على الحقيقة لكن نعلم أن زيداً القارىء غير عمرو القارىء، وأن لسان زيد غير لسان عمرو، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، بل هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق وهذا كما قال تعالى: "إنما أنزل اللّه" يعلمه زيد بعلمه ويعلمه عمرو بعلمه، ويعبده زيد بعبادته، ويعبده عمرو بعبادته، ويدعوه زيد بدعائه، ويدعوه عمرو بدعائه ويذكره زيد بذكره، ويذكره عمرو بذكره، ويسبحه زيد بتسبيحه، ويسبحه عمرو بتسبيحه، فزيد غير عمرو. وذكره غير ذكر عمرو، وعبادته غير عبادة عمرو، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا، والله تعالى القديم الواحد الذي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
مسألة
ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القارىء.
دليل ذلك قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه" واعلم: أن المسموع فهو كلام الله القديم صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى يحدث الله تعالى له سمعاً إذا أراد أن يسمعه كلامه، وفهماً إذا أراد أن يفهمه كلامه، لأن المسموع لم يكن ثم كان عند السمع والفهم، وهذا كما أن الله موجود قديم بوجود قديم، وإذا خلق رجلاً أو امرأة لعبادته وسهل له العبادة التي لم تكن ثم كانت فإنه يصير عابداً لله تعالى، الذي هو موجود قديم دائم قبل العبادة وبعدها، وإنما الذي لم يكن ثم كان هو العابد والعبادة، فافهم الحق وحدوده.
مسألة
فحصل من هذا: أن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب: تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب، ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه السلام أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن النظر إليه، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضاً من ملك أو رسول أو قارىء؛ وهو استماع الخلق من الرسول عند قراءته للصحابة وقراءة الصحابة على التابعين، وكذلك هلم جراً إلى يومنا هذا؛ يسمع كلام الله تعالى على الحقيقة لكن بواسطة، فتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب، كتكليمه لنبينا عليه السلام ليلة المعراج. دليل الثلاثة قوله تعالى: "وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحياً" وهو نبينا ﷺ أسمعه الله تعالى كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب، لأنه تعالى في تلك الليلة قال: "فأوحى إلى عبده ما أوحى" ولا يحمل الوحي ها هنا على الإلهام بل على السماع والإفهام؛ أو من وراء حجاب، كموسى عليه السلام أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن الرؤية، أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء فيسمع من يشاء كلامه بواسطة تبليغ الرسول أو قراءة القارئ. وهذه جملة بليغة في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
مسألة
ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي ﷺ نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال.
والدليل على ذلك قوله تعالى: "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" فيجب أن تعتقد ها هنا أربعة أشياء هي: مُنَزِل، ومُنَزَل، ومنزول عليه، ومنزول به. فالمنزل هو الله تعالى لقوله: "إنا نحن نزلنا الذكر" وقوله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر" والمنزل على الوجه الذي بيناه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال كلام الله تعالى القديم الأزلي القديم بذاته، لقوله تعالى: "وإنه لتنزيل رب العالمين" والمنزل عليه قلب النبي ﷺ، لقوله تعالى: "على قلبك لتكون من المنذرين" والمنزول به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل، ونحن نتلوا بها إلى يوم القيامة، لقوله تعالى: "بلسان عربي مبين" والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر، قول جبريل عليه السلام. يدل على هذا قوله تعالى: "فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين" وقوله تعالى: "فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين" وهذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن. وقالوا: ما هذا إلا قول البشر، فرد عليهم بهاتين الآيتين وكذلك رد عليهم أيضاً لما قالوا "إنما يعلمه لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" فحصل من هذا أن الله تعالى علم جبريل عليه السلام القرآن. دليله قوله تعالى: "الرحمن علم القرآن" وجبريل عليه السلام علم نبينا ﷺ. دليله قوله تعالى: "علمه شديد القوى" وكان ﷺ يقرأ مع جبريل حال قراءته فزعاً منه أن يذهب عنه حفظه حتى نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علماً" وبقوله: "لا تحرك به لسانك لتعجل به" معناه لا تعجل بقراءتك حتى يفرغ جبريل عليه السلام. ثم طمئن قلبه ﷺ بأنه يحفظه إياه ويثبت حفظه في قلبه، فقال: "إن علينا جمعه وقرآنه" يعني في صدرك حفظه. ووعده أن لسانه يقرؤه قراءة لا يحصل معها نسيان فقال: "سنقرئك فلا تنسى" يعني قراءة لا نسيان معها، فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم، والكلام ونحو ذلك من صفات الذات لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها. فافهم ذلك. فجاء من ذلك أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراءته، وعلم هو القراءة نبينا ﷺ، وعلم النبي ﷺ أصحابه، ولم يزل ينقل الخلف عن السلف ذلك إلى أن اتصل بنا فصرنا نقرأ بعد أن لم نكن نقرأ، فالقراءة أغيار لأن قراءة جبريل عليه السلام غير قراءة نبينا عليه السلام، وقراءة نبينا عليه السلام غير قراءة أصحابه، وقراءة أصحابه غير قراءة من بعدهم، ثم كذلك هلم جرا إلى يومنا هذا، يعلم كل عاقل أن الرسول ﷺ قرأ قبل الصحابة، ثم قرأت الصحابة، ثم قرأ التابعون ثم كذلك إلى اليوم، لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق هو المقروء بقراءة الرسول عليه السلام وقراءة الجميع. وهذا أمر واضح إن شاء الله تعالى.
مسألة
ويجب أن يعلم أن الله تعالى لا يتصف كلامه القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق، وأنه تعالى لا يفتقر في كلامه إلى مخارج، وأدوات، بل يتقدس عن جميع ذلك، وأن كلامه القديم لا يحل في شيء من المخلوقات.
والدليل على ذلك: أنه قد صح وثبت أن من شرط الصفة قيامها بالموصوف، والدليل على صحة ذلك أولاً: أن حد القديم ما لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه، وأن القديم لا يدخله الحصر والعد، ونحن نعلم وكل عاقل أن هذه الأشكال من الحروف لم تكن قبل حركة الكاتب وإنما يحدثها الله مع حركة الكاتب شيئاً فشيئاً. ثم هي مختلفة الصور والأشكال، ويدخلها الحصر والحد، وتعدم بعد أن توجد، وكل ذلك صفة المحدث المخلوق لمن كان له عقل سليم. وأيضاً فإن حروف الكلم يقع بعضها سابقاً لبعض فعند خط الكاتب باء قد حصلت وثبتت قبل خطه سيناً وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه ميماً وكذلك النطق إذا تلفظ بالباء حصلت قبل السين وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق: وكذلك الأصوات يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض ويخالف بعضها بعضاً وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق. وأيضاً فإن القول بقدم الأصوات والحروف يوجب القدم لجميع كلام الخلق، وأصوات الناطق والصامت، وهذا قول يؤدي إلى قدم جميع العالم أجمع، وأيضاً فإن الحروف التي يزعمون أنها قديمة وأنها صفة لكلامه تعالى لا يخلو إما أن تكون هذه الحروف التي تجري في كلام الخلق أو مثلها أو ضدها. فإن قالوا: إنها هي. وجب قدم كلام الخلق، وكذلك إن قالوا مثلها وجب ذلك أيضاً، لأن حد المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر وناب منابه وساوقه من جميع الوجوه.
وإن قالوا: بل هي مضادة لهذه الحروف فقد يقولون القول من غير أن يكون له معنى وهذا بين الفساد.
ويدل على أن كلام الله القديم لا يجوز أن يكون حروفاً وأصواتاً؛ ما روى عن ابن عباس أنه قال: لم سلط الله بختنصر على اليهود لما قتلوا يحيى عليه السلام سلطه عليهم فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. قال عزير عليه السلام في جملة مناجاته: يا رب سلط عليهم عدواً من أعدائك، بطر رحمتك. وأمن مكرك، وهدم بيتك، وحرق كتابك فأوحى الله تعالى إليه من جملة ما أوحى أن بختنصر إنما أحرق من التوراة الخط، والحروف، والورق، والدفتر ولم يحرق كلامي، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم، ويؤكد هذا قول النبي ﷺ: لو جعل هذا القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ونعوذ بالله تعالى لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفاً فحرقه بالنار حتى صار رماداً، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم، وإنما احترق الورق، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.
دليل آخر على حدث الحروف: وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.
دليل آخر على ذلك: وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما، ولو تهجى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى، وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضاً ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بلا جوارح، ولا أدوات، ولا حروف، ولا شفة، ولا لهوات، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضاً ما روى عن علي عليه السلام أنه سئل هل رأيت ربك؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه: لم أعبد رباً لم أره. فقال له كيف رأيته؟ قال: لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويحك يا دعبل ! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو قريب ولا بالحركة، ولا بقيام، ولا انتصاب، ولا مجئ، ولا ذهاب، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ، رؤوف رحيم لا يوصف بالرقة، آمر لا بحروف، قائل لا بألفاظ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته، وخلف كل شيء، ولا يقال شيء قدامه، وأمام كل شيء، ولا يقال له أمام، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج، "تبارك اللّه رب العالمين" لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً.
ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه الله؛ فإنه قال: جلت ذاته عن الحدود، وجل كلامه عن الحروف، فلا حد لذاته، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضاً ما حدث به أبو بكر النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال: رأيت في يد بكر بن خنيس كتاباً فزدت فيه حرفاً أو نقصت منه حرفاً: فقال لي بكر بن خنيس: يا آدم من أمرك أن تفعل هذا؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة، فلما خلق الباء اضجعت، وقيل للألف لم انتصبت قائمة؟ قالت: انتظر ما أومر. وقيل للباء لم اضجعت؟ قالت: سجدتي لربي. فقال بكر فأيهما أجل؟ الذي فعل ما لم يؤمر به يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود أو الذي انتظر ما يؤمر يعني الألف. قال آدم بن أبي إياس فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين: أحدهما: أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.
والثاني: أنه فضل الألف على الباء، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم: وأيضاً ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلى كعب الأحبار أنه قال: إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء: ويقال كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.
وأيضاً ما روى عن عبد الله بن سعيد أنه قال: عرضت حروف المعجم على الرحمن تعالى وتقدس وهي تسعة وعشرون حرفاً فتواضع الألف من بينهما فشكر الله تعالى له فجعله قائماً، وجعله أمام اسمه الأعظم يعني الله، فإنه لم يسم به غيره ويدل عليه أيضاً: أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد، لأن حروف التوراة حروف عبرانية، وكذلك القول في حروف الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد، لا يختلف ولا يتغير.
وأيضاً فإن الحروف تحتاج إلى مخارج، فحرف الشفة غير حرف اللسان، وحرف الحلق غيرهما، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.
وأيضاً فإن الحروف متناهية معدودة، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه، وقدرته، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد، بقوله تعالى: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" وقال: "ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه" فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ماله نهاية له بداية، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلاً للكلام معه، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
مسألة
ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء، وأنها صفة للقارئ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق، بل هو كلام الرب، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوف ولا صفة مخلوق، وهذا كما تقول: إن الذكر غير المذكور، لأن الذكر صفة الذاكر، والمذكور بذكره هو الله تعالى، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح، والمسبح هو الله تعالى، والذي يحقق هذه الجملة النفي، والإثبات، والوجود، والعدم. فإنك تقول: قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم، وقراءته اليوم غير قراءته أمس، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفى تارة أخرى فتقول لم يقرأ زيد يوماً ولم يوجد منه قراءة، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول: عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس، فعبادته اليوم غير عبادته أمس، وعبادته أمس ليست موجودة اليوم، لكن المعبود موجود قبل أمس وفي اليوم لا يجوز أن يوصف بالشيء وضده. وعلى هذا نفس المحفوظ، والمسموع، والمكتوب، فإن الكتابة توجد بعد أن لم تكن، والحفظ يوجد بعد أن لم يكن، والسمع يوجد بعد أن لم يكن؛ ويتصور على الحفظ العدم بالنسيان. ويتصور على السمع العدم بالصمم؛ ويتصور على الكتابة العدم بالغسل بالماء وطول الزمان والحرق بالنار، لكن المحفوظ بالحفظ من كلام الله تعالى؛ والمكتوب، والمسموع لا يتصور عليه العدم بوجه من الوجوه، لأنه قديم كذاته تعالى في القدم، ولا تقول كذاته تعالى من جميع الوجود، لأنه لو كان كذاته تعالى من جميع الوجوه لوجب أن يكون خالقاً رازقاً محيياً مميتاً.
فصل
ويعلم من جميع ما تقدم: أن القراءة تارة توصف بالصحة والحسن. وتارة بالفساد والقبح. فيقال: قراءة فلان حسنة صحيحة جيدة، ويقال قراءة فلان قبيحة فاسدة، فالقراءة تتصف بالشيء وضده، لأنها صفة القارئ، والمقروء بها لا يتصف بالشيء وضده، لأنه صفة الباري. وكذلك أيضاً القراءة تكون تارة طيبة مستلذة، وتارة تأباها الطباع وتنفر عنها الأنفس، لكن المقروء والمتلو من كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتغير بتغير غيره. وكذلك الكتابة تكون تارة بالذهب، وتارة بالفضة، وتارة بالمسك والعنبر؛ وتارة تنحت في الخشب، وتارة تكون بقطع الآجر، فكتابة الذهب غير كتابة الفضة، وكذلك كتابة المسك غير كتابة العنبر، لكن المكتوب وهو القرآن كلام الله بالذهب هو المكتوب بالفضة، وكذلك المكتوب بالمسك هو المكتوب بالعنبر، وما أعلم أحداً يخالف في هذا إلا أحد رجلين: إما جاهل غبي ليس له حس ولا تصور، وإما منافق مداهن، نعوذ بالله من الجميع ونسأله حسن التوفيق في الدنيا والآخرة. فتحقق من جميع ما ذكرنا أن القراءة فعل من أفعال العباد، والمقروء والمتلو لا يجوز أن يكون فعلاً من أفعال العباد، ولا نقول أيضاً إنه من صفات الفعل لله تعالى بل هو من صفات الذات. يدل على صحة هذا القول أن رجلاً لو حلف بالطلاق لا قمت من موضعي هذا حتى أفعل فعلاً يكون طاعة من طاعات الله فقرأ آيات من القرآن ثم قام قبل أن يفعل شيئاً آخر أنه قد بر في يمينه ولم يحنث، فعلم أن القراءة فعل القارئ الذي يثاب عليها تارة ويعاقب عليها أخرى، والمقروء في حال الطاعة هو المقروء في حال المعصية، وهذا أمر قد اتضح بحمد الله تعالى لمن له أدنى عقل وتصور.
مسألة
ويجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يقول أحد إني أتكلم بكلام الله، ولا أحكي كلام الله ولا أعبر كلام الله ولا أتلفظ بكلام الله، ولا أن لفظي بكلام الله مخلوق ولا غير مخلوق، بل الذي يجوز أن يقول: إني أقرأ كلام الله تعالى، كما قال تعالى: "فإذا قرأت القرآن" وكما قال: "فاقرؤا ما تيسر منه" ويجوز أن يقول: إني أتلو كلام الله، كما قال تعالى: "وأن أتلو القرآن" ويجوز أن يقول إني أحفظ القرآن كما قال ﷺ: من حفظ القرآن ثم نسيه.. الخبر. فكل ما نطق به الكتاب والسنة في القرآن جاز لنا أن نطلقه، وما لا ينطق به كتاب ولا سنة فلا نطلقه في الله تعالى. ولا في صفاته. فاعلم ذلك وتحققه.
وأيضاً فإن زيداً إنما يكون متكلماً بكلامه، ولا يجوز أن يكون زيد متكلماً بكلام عمرو، وكذلك لا يكون زيد أسود سواداً من عمرو، ومن عجيب الأمر أن المجسمة الحشوية لا يجوزون أن يتكلم زيد بكلام عمرو وعمرو مخلوق، وكلامه مخلوق، والمخلوق إلى المخلوق أقرب في الشبه والذات والصورة والحكم، ويجوزون أن يقولوا: نتكلم بكلام الله تعالى وكلام الله غير مخلوق ولا يشبه كلام الخلق في الذات والحكم.
مسألة
ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه، فتارة تكون قولاً بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم، وقد بين تعالى ذلك بقوله: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" فأخبر تعالى أنه أرسل موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل بلسان عبراني، فأفهم كلام الله القديم القائم بالنفس بالعبرانية، وبعث عيسى عليه السلام بلسان سرياني، فأفهم قومه كلام الله القديم بلسانهم، وبعث نبينا ﷺ بلسان العرب، فأفهم قومه كلام الله القديم القائم بالنفس بكلامهم؛ فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما، لكن الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان، وقد بين تعالى ذلك فقال "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" فقام الخط مقام النطق، لما كان يدل على الكلام دلالة النطق، لكن الخطوط تختلف بحكم الاصطلاح والمواضعة وقلة الحروف وكثرتها، فحرف الإنجيل والتوراة كل واحد منها خلاف الآخر، وكذلك حروف العرب وخطوطهم تخالف غيرها، وكذلك حروف الهند وخطوطهم تخالف الجميع، لكن لكل خط وحرف بين أهله يقوم لهم في الدلالة على الكلام القائم بأنفسهم مقام دلالة نطق ألسنتهم، ويختصون بذلك في الفهم والاصطلاح عند كلام اللسان، وعند رسم الحروف الخطوط، حتى لا يفهم غيرهم ذلك إلا أن يتعلم لغتهم وخطوطهم، فصح أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس دون غيره، وإنما الغير دليل عليه بحكم التواضع والاصطلاح ويجوز أن يسمى كلاماً إذ هو دليل على الكلام، لا أنه نفس الكلام، الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات، وقد بين ذلك تعالى بقوله في قصة زكريا عليه السلام "آيتك ألا تكلم الناس ثلاث أيام إلا رمزاً" يعني أن لا تفهم الكلام القائم بنفسك باللسان، وإنما أفهمه بالرمز والإشارة ففعل كما أمره تعالى، فأخبر عنه فقال: "فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً" فأفهم أمره الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه بالإشارة دون نطق اللسان، وكذلك الأخرس الذي لا ينطق باللسان ولا يسمع الصوت، إنما يفهمنا كلامه القائم بنفسه، ونفهمه كلامنا القائم بأنفسنا بالإشارة دون نطق اللسان، فحصل من هذه الجملة أن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما، فحقيق الكلام القائم بالنفس موجود عند الحرف والصوت، لكن الخلق كلامهم مخلوق كهم وكلام الله ليس بمخلوق كهو، سبحانه وتعالى. ونريد بقولنا كهو أن صفات ذاته لا توصف بالخلق والحدث ولا بشيء من الخلق والحدث، كما أنه تعالى لا يوصف بالخلق والحدث. ولا بشيء من صفات الخلق والحدث، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق، لأن المعتزلة تشنع وتقول: إذا كان الباري عالماً بعلم ومتكلماً بكلام والكل قديم يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو، وهذا تمويه منهم على عقول العوام، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة، ويميلوا إلى باطلهم من نفى صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله ﷺ حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى، وإن لم ينطقوا به، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقاً ضرورة، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقاً. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب؛ ما نذكر فمن ذلك قوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه واللّه يعلم إنك لرسوله واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون" ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم، وإنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضاً قوله تعالى: مخبراً عن الكفار: "ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول حسبهم جهنم" فأخبر تعالى: أن القول بالنفس قائم وأن لم ينطق به اللسان، والقول هو الكلام، والكلام هو القول. وأيضاً قوله تعالى: "يعلم السر وأخفى" قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضاً قوله تعالى: "يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" وأيضاً قوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب؛ فدل بهذه الآيات وما جرى مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات على الكلام الحقيقي.
ويدل على ذلك من جهة السنة قوله ﷺ: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه. وهذا في حق المنافقين، فأخبر ﷺ أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه. وأيضاً قوله ﷺ: الندم توبة فأخبر ﷺ: أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة، وأن استغفار اللسان تبع لذلك، فصح أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس. وأيضاً قوله ﷺ يقول الله تبارك وتعالى. "إذا ذكرني عبدي في نفسه" فأثبت الذكر للنفس، فالذكر والقول، والكلام، واحد، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس. ويدل على ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه: زورت في نفسي كلاماً فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان، وعمر كان من أجل أهل اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام، وكان في نفسي قول، وكان في نفسي حديث، إلى غير ذلك. وأنشد الأخطل: لا تعجبنك من أثير خطبةٌحتى يكون مع الكلام أصيلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنماجعل اللسان على الفؤاد دليلا وأعلم أن مذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن كلام الله القديم ليس بمخلوق، ولا محدث، ولا حادث، ولا خلق، ولا مخلوق، ولا جعل، ولا مجعول، ولا فعل، ولا مفعول. بل هو كلام أزلي أبدي هو متكلم به في الأزل، كما هو متكلم به فيما لا يزال. لا أول لوجوده، ولا آخر له، وأنه لا يقال إن كلامه حكاية ولا عبارة ولا إني أحكي كلام الله، ولا إني أعبر كلام الله، بل نقول: نتلو كلام الله، ونقرأ كلام الله، ونكتب كلام الله، ونحفظ كلام الله، وأنه يجب التفرقة بين القراءة والمقروء، والتلاوة والمتلو، والكتاب والمكتوب، والحفظ والمحفوظ، ولا يجوز أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت، ولا يقال إن القديم يجوز حلوله في المحدث كحلول الشيء في الشيء. وقد قدمنا الأدلة على جميع ذلك وحققناه، ومذهب المشبهة الحلولية المجسمة؛ أن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة، لا أخصص بعضها على بعض، وهذا قول يفضي إلى قدم العالم عند كل محقق، ومنهم من قال: بل الأصوات والحروف إذا ذكرنا الله تعالى بها أو تلونا بها كلامه قديمة، فإذا ذكرنا بها غير الله وأنشدنا بها شعراً كانت محدثة، وهذا جهل عظيم وتخبط ظاهر، لأن الشيء عندهم على هذا القول تارة يكون محدثاً ثم يصير قديماً، وتارة قديماً ثم يصير محدثاً، وليس في الجهل أعظم من هذا وكفى به رداً لقولهم. ومنهم من يقول: أصواتنا وحروفنا بالقرآن قديمة وبغير القرآن محدثة، وهذا مثل القول الأول على الحقيقة وإن اختلفت العبادة، وقد بينا فساده، ومنهم من حدث في هذا الوقت وبان له فساد الأقوال المقدم ذكرها فقال بجهله: أقول إن القرآن بأصوات وحروف تكلم بها الله، وإن كلامه حروف وأصوات، لكن حروف قديمة وأصوات قديمة، لا تشبه هذه الحروف والأصوات المخلوقة التي تجري في كلام الخلق، وهذا أيضاً جهل من قائله، ويؤدي أن لا يكون في المصاحف القرآن. لأن الحروف التي تكتب بها المصاحف هي هذه الحروف التي تجري في سائر ما يكتب ويؤدي إلى أن القرآن الذي نقرؤه ليس بقرآن، لأن القرآن بحروف وأصوات قديمة، ولا تشبه هذه الحروف والأصوات، ونحن لا نسمع إلا صوتاً مثل هذه الأصوات، ولا نرى حرفاً ولا نسمعه إلا مثل هذه الحروف؛ وهذا القول يوجب أن لا يكون عندنا قرآن بالجملة أو يؤدي إلى أن يكون هذا القرآن بهذه الحروف والأصوات المعروفة غير ذلك القرآن الذي هو بحروف وأصوات قديمة، لا تشبه هذه الحروف والأصوات، والجميع فاسد باطل، وسيأتي بطلان مقالتهم في هذا وغيره في جواب ما يزعمون أنه حجة لهم في هذا وغيره، إن شاء الله تعالى.
وزعمت المشبهة أن القراءة هي المقروءة، والتلاوة هي المتلو، وزعموا أن القديم يحل في المحدث ويختلط به، وتمسكوا في جميع ذلك بآيات وآثار زعموا أنها حجة لهم فيما صاروا إليه من هذه البدعة العظيمة التي جميعها يدل على أن كلام الله مخلوق محدث، فاحتجوا في التلاوة هي المتلو، وأن الله يسمى تالياً، ولا فرق عندهم في أن يقال تال أو متكلم، قالوا: والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: "تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق" وبقوله تعالى. "نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق". قالوا فسمى نفسه تالياً كما سمى نفسه متكلماً وقائلاً، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين:
أحدهما: أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال: "نتلوها عليك بالحق" والحق ها هنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى: "أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون" وأيضاً قوله تعالى. "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق" فدل على أن الحق هو المتلو القديم، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى، قال: "وما كنت تتلو" فنفى قبل أن يكون تالياً، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.
والجواب الثاني: أن قوله "تتلو" يريد به بأمر من يتلو عليك، وهو جبريل عليه السلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه، وهذا صحيح، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب، فالدليل عليه قوله تعالى: "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه وفيكم رسوله" وقوله تعالى: "نزل به الروج الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" وصار هذا كقوله في قوم نوح: "إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" يعني السفينة، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه، والحامل فيها نوح عليه السلام، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه، والدليل على الحامل أنه كان نوحاً عليه السلام، قوله تعالى: "قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين" وهذا أيضاً كقوله تعالى في قصة مريم عليها السلام: "فنفخنا فيها من روحنا" والنافخ كان جبريل عليه السلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى: "فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف" وجبريل عليه السلام الذي كان أتى البنيان، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه وكذلك قوله تعالى: "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم" والذي جاءهم بالكتاب هو النبي ﷺ، لكن لما كان مجيئه بالكتاب إليهم بأمره تعالى أضاف ذلك إلى نفسه، والقرآن من هذا مملوء إذا تتبع، إنه يضيف الفعل إلى نفسه وإن كان الفاعل له غيره، لما كان بأمره.
وأما الدليل من كلام العرب، فإنه يقال: نادى الأمير في البلد، فيضاف النداء إليه لما كان بأمره، وإن كان المنادي غيره، فصح ما قلناه.
ثم نقول لهم: أليس الله تعالى قال: "نحن نقص عليك أحسن القصص" أتقولون: إن الله تعالى قاص؟ هذا قول لا يجوزه أحد من المسلمين؛ لكن لما قص عليه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى أضاف القصص إلى نفسه، لما كان بأمره، وقد بين ذلك بقوله: "بما أوحينا إليك هذا القرآن" فالقرآن كلامه وصفته، وقص جبريل عليه السلام على الرسول ﷺ بالقرآن الذي تضمن قصص الأولين وأخبارهم. فإن احتجوا على أن القراءة هي المقروء بما روى عنه ﷺ أنه قال: "قرأ اللّه طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها" قالوا: فأضاف القراءة إلى الله تعالى. فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنه ذكر أن القراءة وجدت قبل السموات والأرض بألفي عام، ودل على أنها لم تكن موجودة ثم وجدت، والمقروء القديم ليس لوجوده أولية، بل هو موجود بوجوده تعالى، فدل على الفرق بين القراءة والمقروء، لأن المقروء موجود بوجوده تعالى.
والجواب الثاني: أنه أمر بعض الملائكة أن يقرأ "طه" و"يس" قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة ذلك قالوا ما قالوا؛ وأضاف القراءة إلى نفسه. لما كانت بأمره، فصار هذا كقوله تعالى: "اللّه يتوفى الأنفس حين موتها" والمتوفي هو ملك الموت، بدليل قوله تعالى: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم" لكن لما كان توفيه لهم بأمره أضاف ذلك إلى نفسه.
فصل
ومما يقوى جميع ذلك من السنة: أن الفعل يضاف إلى الآمر به، وإن كان لم يفعله بنفسه، وإنما أمر بفعله؛ ما روى أن النبي ﷺ رجم ماعزاً؛ والنبي ﷺ لم يباشر الرجم بنفسه، لكن لما أمر الصحابة جاز أن يضاف إليه.
وأيضاً ما روى عنه ﷺ أنه قطع يد سارق ثوب صفوان ومعلوم أنه ﷺ ما باشر القطع، لكن أمر به، فأضيف الفعل إليه لما صدر عن أمره. وكذلك روى عنه ﷺ أنه جلد شارب الخمر أربعين، ولم يباشر الجلد بنفسه، لكن لما كان عن أمره جاز إضافة الفعل إليه. والأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً. وأيضاً يقال: جبى عمر رضي الله عنه خراج العراق، ولم يباشر الجباية بنفسه، لكن لما جبى بأمره جاز إضافة الفعل إليه. وكذلك يقال: افتتح عمر رضي الله عنه الشام والأمصار، وهو لم يباشر ذلك بنفسه، لكن الصحابة والجند بأمره، فصح بهذه الجملة أن التلاوة فعل التالي، لكن هي بأمر الله تعالى وإيجاده، فصح أن يضاف إليه القراءة والتلاوة على هذا الوجه، فأما المتلو والمقروء فليس بفعل لأحد بل هو كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته الذي ليس بمخلوق ولا يتصف بشيء من صفات الخلق.
فصل
ثم نقول لهؤلاء الجهلة الضلال: كيف يجوز لكم أن تقولوا إن القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو، والله تعالى قد فصل بينهما، وجعل القراءة فعل القارئ، والمقروء هو القرآن الذي هو كلام الباري، في غير موضع من كتابه.
أحدها: قوله تعالى: "فإذا قرأت القرآن" فأفرد القراءة عن القرآن، وأن القراءة فعل الرسول، والمقروء ليس بفعل لأحد، بل هو كلام الله القديم، وهذا كقوله تعالى: "واذكر ربك" فأفرد الذكر عن المذكور، فالذكر فعل الذاكر، والمذكور هو الله تعالى القديم الذي "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". وأيضاً قوله تعالى: "فاقرؤا ما تيسر من القرآن" وقوله تعالى: "أتل ما أوحى إليك من الكتاب" وقوله تعالى: "وأن أتلو القرآن" وقوله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب اللّه" وفي القرآن أكثر من ألف موضع يدل على الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء، لمن له حس سالم، وعقل ثابت. ومن القدر الذي قدمناه دليلان: أحدهما: أنه تعالى ذكر تلاوة، ومتلوا، وقراءة، ومقروءاً، فبطل بذلك زعمهم أنه شيء واحد.
الثاني: أنه أمر بالقراءة والتلاوة، والأمر هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. والصفة القديمة التي هي المقروء، والمتلو لا يصح فيه الفعل ولا استدعاء الفعل، فصح أن المأمور به استدعى غير المقروء، والمتلو هي القراءة والتلاوة. فافهم هذا التقرير فإنه يوجب الفرق بين الأمرين، ضرورة الإشكال فيه. ثم نقول لهم: القراءة قد اختلفت وتنوعت أنواعاً، أفتقولون إن المقروء الذي هو القرآن مختلف متنوع؟ فإن قالوا: نعم كفروا، وإن قالوا: لا فقد ثبت أن الذي جاز عليه الاختلاف والتنوع غير الذي لم يجز عليه ذلك، وأيضاً فإن كل قراءة منسوبة إلى قارئها، فيقال هذه قراءة أبي، وهذه قراءة ابن مسعود، وكذلك في سائر القراءات، ولا يجوز أن ينسب المقروء الذي هو القرآن إلى أحد من الخلق، فيقال هذا قرآن أبي ولا قرآن ابن مسعود، فصح أن القراءة فعل القارئ، فصح أن تنسب قراءة كل واحد إليه، لأنها فعله الذي يثاب ويمدح عليها تارة ويعاقب ويندم عليها أخرى، والمقروء بسائر القراءات كلام الله تعالى الذي ليس بفعل لأحد، فصح الفرق بين الأمرين.
فصل
ثم نقول لهم: ما تقولون فيمن قال: إن قرأت بقراءة أبي جعفر يزيد القعقاع شيخ نافع فعبدي حر، فقرأ بقراءة الجحدري عاصم، أيعتق عبده أم لا؟ ليس فيه خلاف بين المسلمين. ولو قال إن قرأت مقروء ابن كثير فعبدي حر، فقرأ بقراءة ابن عامر عتق عبده، لأن المقروء شيء واحد، وإن اختلفت القراءات.
فصل
ثم نقول: لو اجتمع مائة قارئ فقرأ القرآن أليس عدة القراء مائة، كل واحد منهم يثاب على قراءته، فالثواب مائة ثواب على مائة قراءة، أفتقولون: إن القرآن الذي قرؤوه بقراءتهم مائة قرآن أم قرآن واحد، فلا يقول عاقل إلا أنه قرآن واحد، لكن القراءات متعددة، فصح الفروق بين القراءة والمقروء.
فصل
ثم نقول لهم: إذا قرأ القارئ القرآن وحصل له الثواب، أحصل له الثواب على فعل فعله أو على غير فعل؟ فإن قالوا: على غير فعل فعله وجب أن يكون هذا الثواب يحصل للساكت كما حصل للقارئ، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قالوا: على فعل فعله، صح أن الذي فعل القراءة، أو السماع إلى القراءة، والمقروء المتلو الذي هو كلام الله ليس بفعل لأحد، وكذلك المسموع ليس بفعل لأحد؛ فصح الفرق بين الأمرين فافهم.
وأيضاً فإنه يجوز إذا أعرب القارئ القراءة، ومكن ما يجب تمكينه، ووقف فيما يجب الوقوف عليه، وبدأ بما يجوز البداءة به، وقطع ما يجوز القطع عليه، ووصل ما يجوز وصله، فجائز أن يقال فلان حسن القراءة، جيد القراءة، وإذا كان بالعكس من ذلك جاز أن يقال: فلان ليس بحسن القراءة ولا جيد القراءة، ولا يجوز أن يقال المقروء غير حسن ولا جيد، بل المقروء حسن، سواء كانت القراءة حسنة أو غير حسنة فافهم الفرق بين الأمرين. ثم نقول لهم خبرونا: أليس الله تعالى فرض علينا القراءة في الصلاة؟ فإذا قالوا: بلى. قلنا: أفرض علينا شيئاً نفعله أو غير شيء نفعله؟ فإن قالوا: فرض علينا شيئاً نفعله. قلنا: وما هو هذا الشيء؟ فلا بد أن يقولوا: القراءة. قلنا فقد صح أن القرآن موجود قبل القارئ له وقراءته في الصلاة، ثم أمره تعالى بأن يقرأ: أي يفعل فعلاً يسمى قراءة ففعل العبد صفة العبد لا صفة الرب، هذا بمنزلة قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه" أليس المذكور غير الذكر الذي هو فعل الذاكر المأمور بفعله، فكذلك القراءة فعل القارئ والمقروء القرآن، ثم نقول لهم أليس كلام الله تعالى موجود بوجوده، قديم بقدمه قبل أن يخلق خلقاً، فلا بد من نعم. فنقول: فهل يصح وجود القراءة من القارئ قبل وجوده؟ فلا بد من لا. فنقول ما كان موجوداً قبل القارئ فهو القرآن الذي هو كلام الله، وما وجد من القارئ بعد أمره بالقراءة فهو فعله لا محالة، وهذا قدر لا يخفى على بشر سليم العقل.
فإن احتجوا على أن الكلام القديم يوصف بالصوت والحرف، بقوله تعالى: "حتى يسمع كلام اللّه" قالوا والذي يسمع إنما هو صوت وحرف، وقد نسبه إليه، فدل على أنه متكلم بصوت وحرف. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يقال لهم: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية حجة عليكم، وذلك أن كل عاقل يقول: إن المشرك لا يسمع كلام الله بلا واسطة، وهي قراءة القارئ، فلا بد من وجود القراءة التي هي حروف وأصوات، فيحصل لهذا المشرك السماع حينئذ لكلامه تعالى، فحصل معنا عند ذلك مسمع اسمع كلام الله بإسماع أوجده، وهي قراءته التي هي حروف وأصوات، ومسموع وهو كلام الله تعالى الذي لا يجوز أن يكون حروفاً وأصواتاً، لأن الحروف والأصوات يتقدم بعضها على بعض، وصار هذا بمنزلة من أسمعنا الله بذكره، بأن قال: يا ألله. قلنا: حصل معنا مسمع وهو الذاكر، وإسماع أسمعنا به المسموع، وهو المذكور، فالإسماع يقع بحروف وأصوات، فيجوز لكل أن يقول: إن الله المذكور هو حروف وأصوات. الجواب الثاني: أن المراد بهذه الآية ما هو سماع الحروف والأصوات، إنما المراد بهذه الآية: حتى يتدبر كلام الله ويفهم ما فيه. لعله يرجع عن شركه ويهتدي، فالحروف والأصوات لا تهدي، إنما الذي يهدي هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى. دليله: قوله تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم".
جواب ثالث: وهو أن يقال لهم: إذا كان الكلام القديم أصواتاً وحروفاً. والكلام المخلوق الذي من الشعر والخطب أصواتاً وحروفاً، فقد صار الكلام القديم كالكلام المخلوق، وهذا القول يوجب أن يكون كل كلام قديم أو محدث سواء لأن الحرف والصوت في قول القائل إذ أخبر عن قول اللعين فرعون: "أنا ربكم الأعلى" فاعبدون، فصورة الحروف في قول فرعون أنا ربكم، كصورتها في قراءة القارئ "وأنا ربكم فاعبدون"، فصح أن الحروف والأصوات ليست كلام فرعون، ولا الرب تعالى، فالحرف والصوت يعبر به عن كلام فرعون، ويقرأ به كلام الله تعالى، فصح، أن الحرف والصوت أداة يقرأ بها الكلام القديم، لا أن الحرف والصوت نفس الكلام القديم.
جواب رابع: وهو أن يقال لهم: خبرونا عن قولكم إن الله تعالى متكلم بأصوات وحروف، أهي هذه الحروف والأصوات الجارية الدائرة في سائر كلام الخلق، أو غيرها؟ فإن قالوا: هي هذه فقد جعلوا جميع كلام الخلق قديماً كله؛ وإن قالوا: بل هي غير هذه الحروف والأصوات الجارية في كلام الخلق. قلنا: فصح حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى، بل هو غائب عنا، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضاً يجب أن لا يكون في المصحف قرآن؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق، وكل هذين القولين باطل؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم: خبرونا: أيصح خروج حرف من غير مخارج؟ فإن قالوا: لا. قلنا: فتقولون أن الباري تعالى عن قولكم ذو مخارج من شفة للفاء؛ وحلق للحاء؛ ولسان للثاء؛ وإن قالوا: نعم جسموا بإجماع المسلمين؛ وإن قالوا: لا تحتاج الحروف إلى مخارج؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم، وذلك أن كلامه منه خرج، وكلامه عندهم حروف، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج؛ وكل هذا القول كفر وضلال، وسفه وحمق وجهل عظيم.
فصل
فإن احتجوا بقوله تعالى "حم" و "الم" ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله، فصح أن كلامه حروف، قلنا: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف، ولام، وميم نفس الكلام القديم، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل قديماً، هذا جهل ظاهر. وإن قلتم المفهوم من "الم" و "حم" ونحو ذلك هو كلام الله تعالى عند نظر الناظر إليها، وأن المسموع عند قراءة القارىء "الم" و "حم" ونحو ذلك هو كلامه تعالى، وهذا صحيح، وصح بذلك أن الكلام القديم يفهم بالحروف المنظومة، على اختلاف نظمها بين أرباب تلك الخطوط والأشكال كلام الله تعالى، فكذلك صح أن القراءة هي حروف وأصوات بها يسمع كلام الله القديم على حسب اختلاف اللغات بين أربابها، لا أنها نفس كلامه القديم. وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف المقطعة في أوائل السور على ثمانية أقوال: أحدها: أنها أسماء من أسماء القرآن، كالذكر والفرقان، وهذا قول قتادة وابن جريج.
الثاني: أنها اسم لكل سورة ذكرت في أولها، وهذا قول زيد بن أسلم.
والثالث: أنها يعبر بها عن اسم الله الأعظم، وهذا قول السدي، والشعبي.
والرابع: أنها أقسام أقسم بها الله تعالى، وبه قال ابن عباس، وعكرمة.
والخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال، فالألف من أنا، واللام من الله، والميم من أعلم. فكان معنى ذلك أنا الله أعلم. وهذا قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير ونحوه عن ابن عباس أيضاً؛ والعرب قد تعبر عن الكلمة بحرف منها، كقول القائل: قلت لها قفي. قالت: قاف. أي وقفت، ومثله في كلام العرب كثير. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: "كهيعص" الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. السادس: أن كل حرف منها يدل على معان مختلفة، فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والألف آلاء الله، يعني نعمه، واللام ملكه، والميم مجده، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة، آجال ذكرها. والسابع: أنها حروف من حساب الجمل، لما روى عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال: مر أبو ياسر ابن أخطب ورسول الله يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة "الم ذلك الكتاب" فأتاه أخوه حيي بن أخطب، فأخبره، فقال حيي بن أخطب: وأقبل على اليهود، فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، وهذه أحد وسبعون سنة، ثم ذهب حيي مع هؤلاء النفر إلى رسول الله ﷺ وقال لرسول الله فهل معك غير هذه؟ قال نعم "المص" قال أثقل وأطول، والألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه أحد وستون ومائة سنة، ثم قال هل معك غير هذه يا محمد؟ قال نعم. قال ماذا؟ قال: "الر" فقال هذا أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فهل مع هذا غيره؟ قال نعم: "المر" قال هذا أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. قال: لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثير. ثم قاموا من عند النبي ﷺ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ولمن معه من اليهود: وما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. قالوا: والله لقد تشابه علينا أمره، قيل فنزلت فيهم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا الألباب".
والثامن: أنها حروف هجاء، أعلم الله بها العرب حين تحداهم، أن تلاوة القرآن بحروف كلامهم هذه التي عليها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج تلاوته عن مباني كلامهم.
جواب ثاني: وهو أنك تقول: إذا قلتم أن الحرف المفرد إذا أتى به في تلاوة كلام الله هو نفس كلام الله، فما تقولون فيمن أسقط شيئاً من كلام الله، أيجوز ذلك أم لا؟: فلا بد من أن يقولوا لا يجوز. فيقال لهم: خبرونا عن جماعة من القراء من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان الذين قرؤوا "ملك يوم الدين" وهم الأكثر، قد أسقطوا ألفاً هي في قراءة غيرهم. لأن غيرهم يقرؤون مالك بالألف. فإن قالوا: أخطئوا فلا يجوز لهم ذلك. وهو القول الصحيح الصواب. قلنا: فصح أن الألف ليس نفس كلام الله القديم، لأنه لا يجوز لأحد أن يسقط منه شيئاً، وإنما الألف صفة قراءة دون قراءة، فالمقروء مع إثبات الألف هو المقروء مع إسقاط الألف شيء واحد، لا يزيد بزيادة الحروف ولا ينقص بإسقاط الحروف، والقراءة تزيد بزيادة الحروف وتنقص بإسقاط الحروف، وقد قيل: إن من قرأ القرآن بقراءة ابن كثير كتب له أجر ختمة وثلث، لأنه يزيد في الحروف أكثر من سائر القراء لأنه يقرأ لديه وإليه وعليه، والكسرة عندهم تقوم مقام حرف، وقرأ في التوبة "تجري من تحتها الأنهار" وهذا يوضح لك أن قوله ﷺ من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات أن الحروف عائدة إلى القراءة. وطول حروفها دون المقروء الذي هو كلام الله تعالى لا يزيد ولا ينقص. وسنذكر ذلك في الجواب عن هذا الخبر إذا احتجوا إن شاء الله تعالى وبه الثقة. جواب آخر: وهو أنك تقول: خبرونا عن حروف كلام الله على زعمهم، أهي ثمانية وعشرون حرفاً أو أكثر أو أقل؟ فإن قالوا هي ثمانية وعشرون حرفاً فقد جعلوا القديم مما يحله الحصر والعد والافتتاح والانتهاء وهي صفة المخلوقات لا صفة القديم. وإن قالوا: أكثر. قلنا: أكثر إلى ما له حد أو إلى ما لا حد له؟ فأي القولين قالوا كان باطلاً، لأن القرآن لا يخرج في الكتابة والتلاوة على أكثر من هذه الثمانية وعشرين حرفاً، فعلى قولهم يجب أن يكون معنا بعض القرآن لا كله، لأن القرآن عندهم حروف يزيد على هذه الحروف، ولعل الذي يكون معنا من القرآن أقله، لا سيما إن قالوا إن الحروف القديمة لا يدخلها حصر ولا عد، وهذا قول ساقط واه عند كل عاقل محصل، فلم يبق إلا أن الحروف والأصوات أدوات نكتب بها ونتلو بها الكلام القديم، وغير الكلام القديم، لا أنها نفس الكلام. فافهم ذلك.
وجواب آخر: وهو أن تقول لهم: خبرونا أليس قد قرأ سائر القراء غير نافع وابن عامر في سورة الحديد في قوله تعالى: "ومن يتول فإن اللّه هو الغني الحميد" بإثبات الهاء والواو، وقرأ نافع وابن عامر بإسقاط الهاء والواو، فالذي أسقط من الهاء والواو كلام الله تعالى أو قراءة كلام الله تعالى، فلا يجوز لعاقل أن يقول الهاء والواو كلام الله؛ لأن من أسقط شيئاً من كلام الله كفر ولا خلاف بين المسلمين أنهما على الحق، وربما رجحوا قراءتهما على غيرهما، فلم يبق إلا أن الحروف آلة للقراءة تسقط تارة وتثبت أخرى، والمقروء المتلو ثابت لا يحتمل النقصان ولا الزيادة، لأنه قديم لكن المخلوق يجوز ثبوته تارة وإسقاطه أخرى.
فصل
فإن احتجوا على إثبات قدم الحروف، وأن كلام الله القديم يتصف بالحروف، بما روى عن النبي ﷺ أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
فالجواب: أنه لا حجة في هذا الحديث من وجوه عدة، لأنكم تخالفون هذا الحديث. لأن الرسول قال على سبعة أحرف، وأنتم تقولون على ثمانية وعشرين حرفاً، فقد أسقطتم متن هذا الحديث، ولم تقولوا به، فلا حجة لكم فيه.
جواب آخر: وهو أنه ﷺ قال: أنزل على سبعة أحرف ولم يقل تكلم الله بحرف، وأنتم إنما تريدون إثبات الحرف لكلامه، لا نزول كلامه فلا حجة لكم فيه. جواب آخر: وهو أن قوله عليه السلام على سبعة أحرف، لم يرد بها حروف التهجي، وإنما أراد بها غير ذلك، بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين، ولأنه روى عنه ﷺ أنه فسر ذلك بغير حروف التهجي، لأنه قال: على سبعة أحرف ثم فسرها فقال: أمر، ونهي، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل، وقصص وقال بعض الصحابة والتابعين يعني على سبع لغات، مما لا يغير حكماً من تحليل ولا تحريم مثل قوله تعالى: "يا موسى أقبل ولا تخف" فكانوا لا يفرقون بين قول التالي أقبل أو هلم، أو يقال: لأن معانيها متفقة وإن اختلفت اللغات فيها، وما جرى هذا المجرى، وكانوا في صدر الإسلام مخيرين فيها، فلما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن على أحدها، وهو قوله "أقبل ولا تخف" منع هذا الإجماع من غير أقبل إلى هلم وتعال. ونحو ذلك، وقيل عن بعض الصحابة والتابعين: إن قوله على سبعة أحرف أراد بذلك على سبع لغات للعرب، في صيغة الألفاظ في التلاوة وكيفية مخارجها ونقص حروفها وزيادتها ووجوه إعرابها، كالذي اختلف فيه القراءآت، فقرأ بعضهم: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" بغير الواو، وقرآ آخرون بواو، وقرأ بعضهم فيكون بالنصب في مواضع، وقرأ آخرون فيكون بالرفع فيما نصبه الأولون، وقرأ بعضهم: "فتلقى آدم من ربه كلمات" فنصب آدم ورفع كلمات وهو ابن كثير، وقرأ آخرون برفع آدم ونصب كلمات، إلى نحو هذا مما لا يحصى عدداً، فبطل احتجاجهم بالإجماع مما نقل عن الرسول والصحابة والتابعين أن أحداً منهم قال إنه أريد بالسبع حروف التهجي، وإنما المراد به اختلاف القراءات دون غيرها ما روى أن عمر رضي الله عنه مر ببعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأه إياها رسول الله ﷺ، قال عمر: فكدت أن أساوره، يعني أعجل عليه. فأبطش به، ثم قال لببته حتى أتيت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأتنيها فقال: خل عنه. ثم قال اقرأ فقرأ عليه القراءة التي سمعتها فقال. هكذا أنزل. ثم قال: اقرأ يا عمر: فقرأت عليه القراءة التي أقرأنيها فقال: هكذا أنزول. ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، الكل شاف كاف فاقرؤا ما تيسر منه فأد هذا الحديث وجوهاً: أحدها: أن الحروف واختلافه صفة القراءة التي يجوز فيها الاختلاف، لا كلام الله القديم الذي لا يجوز فيه الاختلاف.
الثاني: أن عمر ما أنكر عليه أن القرآن المقروء بقراءته كلام الله، إنما أنكر عليه القراءة التي هي صفة القارىء وظن أن هذه القراءة فاسدة وقراءته أعلمه الرسول عليه السلام أن كل واحدة من القرائتين جائزة، وإن اختلفا، لأن المقروء بها لا يختلف لاختلافها. الثالث: أن الرسول أخبر أن القرآن يقرأ على سبع قراءات، وأن تعدد القراءات لا يدل على تعدد القرآن؛ لأن السبع المقروء بها واحد، وهو كلام الله القديم، الذي لا يشبه كلام الخلق، ولا يختلف في حال من الأحوال، وإن اختلفت القراءات. فافهم التحقيق ترشد إن شاء الله تعالى.
فصل
فإن احتجوا على أن الله تعالى متكلم بحروف، بما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، لكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف قالوا: فدل على أنه تكلم بحروف، فالجواب من وجوه: أحدها: أن الحديث لا حجة فيه على ما تريدون، لأنه لم يقل تكلم الله بحروف، وإنما قال من قرأ فله؛ وهذا لا حجة فيه.
جواب آخر: وهو أن الأجر إنما يقع على الطاعة التي هي القراءة، لا على القديم الذي هو كلام الله، ونحن نقول: إن الحرف عائد إلى القراءة لا إلى المقروء، والذي يحقق ذلك أنه إذا جلس اثنان حافظان لكلام الله تعالى وهما ساكنان؛ أليس كل واحد منهما معه كلام الله في صدره، كما أخبر تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" ولا يحكم بأن لكل واحد منهما حسنة، وإن كان كلام الله موجوداً معهما؛ فإذا قرأ أحدهما وسكت الآخر، أليس يحصل للقارىء بكل حرف عشر حسنات، لوجود القراءة منه، وليس للساكت منهما هذه الحسنات، وإن كان معه كلام الله القديم على الوجه الذي ذكرنا، وإنما زاد عليه هذا، بأن وجدت منه القراءة التي هي حروف وفعل منه يسمى طاعة، لقوله ﷺ: أفضل عبادات أمتي قراءة القرآن فصح أن الثواب على الفعل الذي هو طاعة، لا على الكلام القديم، فكان الحرف صفة التلاوة لا صفة المتلو.
جواب آخر: وهو أنه قد روى عنه ﷺ أنه أضاف الحرف إلى التلاوة، لا إلى كلام الله القديم، وهو ما روى عبد الله بن مسعود أن الرسول قال: تعلموا القرآن فإنه مأدبة الله فتعلموه واتلوه فإنكم تؤجرون على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. فأضاف الحرف إلى التلاوة لا إلى المتلو، فصح ما قلناه، وبطل ما توهم الجاهل أنه حجة له.
فصل
فإن احتجوا في إثبات الصوت لكلام الله تعالى، وأنه متكلم بأصوات، بما روى في الحديث: إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب الخبر.. قالوا: فقد أضاف الرسول عليه السلام الصوت إلى الله تعالى، فصح ما قلناه. الجواب من أوجه: أحدها: أنك تقول أولاً لا حجة لكم فيه، لأنه ﷺ ما قال تكلم الله بصوت، ولا قال بصوت، ولا قال كلام الله أصوات، كما تزعمون بجهلكم؛ وإنما قال نادى الله بصوت، وليس الخلاف إلا أن كلامه أصوات، فلا حجة لكم فيه.
جواب آخر: وهو أن هذا الحديث قد روى فيه ما يدل على أن الصوت من غير الله بأمره، لأنه روى إذ كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، يأمر منادياً فينادي، فصح أن النداء من غيره، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه، كما يقال: نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال: أمر الخليفة منادياً فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا، ولا فرق بين الموضعين، فإن كل عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه، وأن يضاف إليه، وإن لم يكن هو المنادي بنفسه، ويصحح جميع ذلك القرآن، قال الله: "واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج" فأضاف النداء إلى المنادى، فصح أن الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء؛ ومن عجيب الأمر أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا، كالخليفة والأمير، وينفون عنه ذلك، ثم يجوزونه في حق رب العالمين.
جواب ثالث: وذلك أنا وكل محقق يقول: إن هذا الصوت ليس بموجود اليوم، وإنما يكون يوم القيامة، وكلام الله قديم بقدمه، موجود بوجوده، فصح أن هذا شيء لم يكن بعد، وإنما يكون يوم القيامة، ومن زعم أن صفة الله تعالى ليست بموجودة اليوم، وإنما توجد يوم القيامة فقد جعل كلام الله تعالى مخلوقاً لا محالة، فصح بهذه الجملة أن الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى، وإنما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء في ذلك اليوم. جواب آخر: وهو أن كل ما أضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة، لأن الخبر قد جاء بقول الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، جعت فلم تطعمني، عطشت فلم تسقني، عريت فلم تكسني فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر، ومن زعم أنه يجوع ويعطش، ويمرض ويعرى، فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالى: "يوم ننفخ في الصور" على قراء من قرأ بالنون المفتوحة والنافخ إسرافيل. وقال تعالى: "إن الذين يؤذون اللّه" فأضاف الأذية إليه، ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة، فلم يبق إلا أن النداء والصوت حصل من الصايت المأمور، لا من الآمر، لكن لما كان بأمره جاز أن يضاف إليه، كما قال تعالى: "ولقد جئناهم بكتاب" وإنما جاء به محمد عليه السلام بأمره. وقال تعالى: "فطمسنا أعينهم" والطامس جبريل، وميكائيل، طمسا أعين قوم لوط، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه. وكذلك يقال: رجم وجلد رسول الله ﷺ، وإنما الراجم والجالد غيره، لكن لما كان بأمره حسن أن يضاف إليه. فافهم الحق لتبطل به الباطل.
فإن احتجوا بما روى: أن الله تعالى إذا تكلم الله بالوحي، وروى بالأمر من الوحي جاء له صوت كجر السلسلة على الصفا. فالجواب عن هذا من وجوه عدة: أحدها: أن هذا هو الحجة عليكم، لأن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت الذي في الخبر الأول، لأن ذلك قال فيه يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وهذا الصوت إنما يسمعه بعض الملائكة، فصح أن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت، ولو كان الصوت صفة قديمة لما اختلف ولا تغير؛ لأن القديم لا يجوز عليه الاختلاف. ولا التغير، فلما اختلف وتغير دل أن ذلك صفة الخلق لا صفة الحق. فافهم. جواب آخر: وذلك أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي، جاء له صوت، ولم يقل إذا تكلم الله بصوت، فالوحي غير الوحي، لأن الموحي كلام الله تعالى، والوحي إنزال كلام الله، وإعلام كلام الله، والذي يدل على صحة ذلك القرآن. وذلك أن الله تعالى فصل بينهما فقال: "وكذلك أوحينا إليك قرآناً" فالوحي إنزال القرآن، وإعلام القرآن، وإفهام القرآن الذي هو كلام الله تعالى، وقال تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" أي أنزلنا إليك وأفهمناك كلامنا القديم، كما أنزلنا وأفهمنا من قبلك كلامنا القديم، فالإفهام لم يكن ثم كان. وأما المفهوم الذي هو كلام الله القديم فهو موجود ثابت قبل الإفهام وبعده على صفة واحدة، لا يختلف ولا يتغير. جواب آخر: وهو أن هذا الحديث قد روي من طرق عدة، وأضيف إليه الصوت المشبه بجر السلسلة إلى الخلق، لا إلى كلام الحق، فمن ذلك ما روى النواس بن سمعان قال: قال رسول الله ﷺ: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجدا، وأول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام؛ فتكلم الله من وحيه بما أراد، فينتهي به جبريل عليه السلام على الملائكة، كلما مر بسماء سأل أهلها ماذا قال ربنا؟ فيقول جبريل الحق، وهو العلي الكبير فثبت أن الصوت المشبه بالسلسلة صوت رجفة السموات، لأنهم سمعوا صوت رجفة السموات لا كلام الله تعالى، ولهذا سألوا جبريل عليه السلام ماذا قال ربنا، فدل على أنهم لم يسمعوا كلامه، وإنما سمعوا صوت رجفة السموات، التي شبهت بجر السلسلة، لأنهم لو سمعوا كما سمع جبريل لفهموا كما فهم جبريل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه. أن النبي ﷺ قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان فأضاف الرسول عليه السلام هذا الصوت المشبه إلى صوت أجنحة الملائكة، لا إلى كلام الله تعالى وحديث أبي هريرة هذا صحيح. أخرجه البخاري، وحديث النواس أخرجه مسلم في كتابه، وروى أبو الضحى مسروق، عن عبد الله أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان وفي رواية: سمع أهل السماء للسماء صلصلة وليس في شيء من هذه الروايات إذا تكلم الله سمعوا من الله صلصلة، وإنما سمعوا من السماء إذا أحدث الله فيها رجفة، وجعل ذلك علامة لأهل السموات. يعلمون بها أن الله تعالى تكلم بالأمر، وأن المخصوص بسماع كلامه جبريل عليه السلام، ولهذا سألوه ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق. فيقولون: قال الحق. فيصفون الله تعالى بقول الحق، لا بالصلصلة والصوت، فصار هذا الحديث حجة عليهم لا لهم. جواب آخر: وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عدداً، أن الصوت مخلوق، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه "يزيد في الخلق ما يشاء" فقال هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمه الله أنه قال: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، قيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات تسبيحهم وصلاتهم.
وقال أبو العالية: قال موسى ﷺ لقومه: قدسوا بأصوات حسنة، فإنه أسمع له، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك بن دينار في قوله تعالى: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" قال: يقيم الله داود عليه السلام عند ساق العرش، فيقول يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم، فيقول كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ قال: فيقول جل وعز: إني أرده عليك. قال فيرده عليه، فيزداد صوته حسناً، فيأخذ في التمجيد، فيستفرغ داود نعيم الجنان؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم. فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليه السلام التي يمجد بها ويقدس بها، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات. وروى أن عمر رضي الله عنه كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي المهاجرين والأنصار. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله عنه: صلى بنا أبو موسى صلاة الصبح فما سمعت بصوت ولا بربط أحسن صوتاً منه. وتبين من هذه الآثار المروية عن رسول الله ﷺ أنه جعل الصوت صفة للقارئ لا لله تعالى، فقد روى عنه في هذا المعنى ما لا يحصى عدداً، فمن ذلك: ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قام رجل من الليل فرفع صوته بالقرآن، فقال النبي ﷺ: لقد أذكرني كذا. وكذا آية قال أبو ذر كان لي جار وكان يرفع صوته بالقرآن فشكوته إلى رسول الله ﷺ وكان يقال له ذو البجادين فقال: دعه فإنه أواه وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فقرأ ليلة وفرسه مربوط عند رأسه، وابنه نائم إلى جنبه، فدار الفرس في رباطه، فقرأ فدار الفرس في رباطه، فانصرف وأخذ ابنه وخشى أن يطأه الفرس، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل تسمع صوتك وروى ابن سابط قال: أبطأت عائشة رضي الله عنها على رسول الله ﷺ فقال: ما حبسك يا عائشة؟ قالت يا رسول الله: سمعت رجلاً يقرأ ما سمعت من رجل يقرأ قراءة أحسن منها، فذهب رسول الله ﷺ ليسمع صوته، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال النبي ﷺ: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك. وروى عنه ﷺ أنه سمع قراءة أبي موسى ذات ليلة فقال: أبو موسى مزمار من مزامير داود ومعلوم أنه شبه حسن صوته بالقراءة بالمزمار، لا كلام الله القديم الذي لا يشبهه شيء من أصوات الخلق ولا نغماتهم. وروى أن النبي ﷺ مر في ليلة هو وعائشة رضي الله عنها، وأبو موسى يقرأ، فقاما فاستمعا لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح لقى رسول الله ﷺ، فقال لأبي موسى: يا أبا موسى مررت بك الباحرة ومعي عائشة فاستمعنا لقراءتك فقال أبو موسى يا نبي الله، أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيراً. قال: لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود. وقال النبي ﷺ: إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن وإن كنت لم أر منازلهم حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه، وهو أكبر حجة في نفي الصوت عن كلام الله القديم، لأنه فصل الأصوات من القرآن، فأضاف الأصوات إلى الأشعريين ولم يضفها إلى كلام الله الذي هو القرآن. وقال شهر بن حوشب: قدم أبو عامر الأشعري على رسول الله ﷺ في رهط من قومه، فقال ﷺ: إنه ليدلني على حسن إيمان الأشعريين حسن أصواتهم بالقرآن وفي هذه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لا يحصى عدداً: أن الأصوات صفة الصايتين لا صفة كلام رب العالمين، وفي بعض ذلك مقنع وكفاية لمن أراد الله له الهداية.
فصل
فإن قالوا: أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا: بلى. فإن قالوا: فليس يجوز أن يكون مسموعاً على الحقيقة إلا ما كان صوتاً أو حرفاً. فالجواب: أن هذا جهل عظيم، وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسماً وجوهراً وعرضاً. أفتقولون: إن الله تعالى جسم، وجوهر، وعرض؟ فإن قالوا: نعم.. فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه، وإن قالوا: يرى وليس بجسم، ولا جوهر ولا عرض ولا يشبه شيئاً من المرئيات. قلنا: فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة، وليس بحروف ولا أصوات، ولا يشبه بشيء من المسموعات، فكما أنه يرى على الحقيقة ولا تكييف لكلماته. فاتقوا الله وقفوا عند حدوده، ولا تكونوا ممن قال فيهم: "ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون". وتمسكوا بقوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
ثم نقول لهم: أليس الله تعالى قد سمى نفسه بانياً، وهو بان على الحقيقة، لأنه قال: "أم السماء بناها رفع سمكها فسواها" ولم نر بانياً على الحقيقة، إلا بآلة من عدة وآجر وحجر وخشب وغير ذلك: أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا: نعم، كفروا لا محالة، وإن قالوا: هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا: وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.
فصل
فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم لو عقلوا كان إقراراً منهم بخلق الله تعالى، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة، والتحويل، وتفريغ مكان، وإشغال مكان، وأمكنة، وحصر، وعد، وإفساح، وفراغ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم، وهو جرأة، وحجة عليهم، أقروا بقول إخوانهم من النصارى، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال، إن شاء الله.
فإن احتجوا بما روى عن النبي ﷺ أنه قال: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو قالوا: فصح أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول، فالجواب من وجوه عدة: أحدها: أنه ﷺ أراد بذلك المصحف، لأنه قد بين ذلك فقال مخافة أن تناله أيديهم ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو، والمصحف قد يسمى قرآناً، لأن فيه كتابة القرآن، وقد روى ذلك صريحاً عنه ﷺ، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم: ولا يمس القرآن إلا على طهارة فأراد بذلك: المصحف الذي حل فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي. جواب آخر: وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى: "واسأل القرية التي كنا فيها" يعني أهل القرية "والعير" يعني أهل العير. وقوله تعالى: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى: "والشجرة الملعونة في القرآن" أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال: "والطور" "والضحى" وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى، وهذا كثير جداً في كلام العرب، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان، والعرب تقول: بنو فلان تطؤهم الطريق، يريدون يطؤهم أهل الطريق، وأبين من هذا قوله تعالى: "إن الذين يؤذون اللّه" يريد أنبياء الله وأولياء الله. وجواب آخر وهو: أنا نعلم وكل عاقل يعلم أن الرسول عليه السلام إنما أراد بالقرآن ها هنا شيئاً محترماً يتصون عليه من الأيدي، ولم يرد نفس كلام الله القديم، والذي يدل على صحة ذلك: أن الحافظ للقرآن: القرآن في صدره عندنا حفظاً، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم، وعندهم على حسب عقدهم أنه حال في صدور الحفاظ كحلول الشيء في الشيء، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحداً من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو، فلم يبق إلا أنه ﷺ أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم حاشاه من ذلك ﷺ.
فصل
فإن احتجوا بما روى عن النبي ﷺ أنه قال: لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق قالوا: وقد أطلق عليه ﷺ أن القرآن يجعل في الإهاب، فدل على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا كان في زمانه ﷺ دليلاً على صدقه، وكان معجزة له، وكان إذا كتب في جلد أو رق أو غير ذلك ثم ألقى في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق، فيكون معجزة له ﷺ؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات، ثم انقضى ذلك بعد موته: بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم. الثاني: أن قوله ﷺ: لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقى في النار لم يحترق أراد بذلك فضل حفظة القرآن، وأنهم لأجل ما حفظوا من كلام الله تعالى وصار حفظه في صدورهم تصير عليهم النار برداً وسلاماً، فلا تحرقهم، كما كانت على الخليل عليه السلام بإذن الله تعالى. وقد قال ﷺ: نعم الشفيع لصاحبه يوم القيامة فيكون ببركة شفاعة القرآن لصاحبه وعمله به لا تتسلط النار على إهابه فتحرقه، وهذا صحيح؛ لأن الإهاب هو الجلد قبل الذبح، أو قبل الدباغة.
دليل الأول: قول عائشة رضي الله تعالى عنها في مدح أبيها الصديق رضي الله عنه. وحقن الدماء في أهبها.
ودليل الثاني قوله عليه السلام: أيما إهاب دبغ فقد طهر فأما بعد الدباغ فلا يقال له إهاب، وإنما يقال له أديم أو رق، أو نحو ذلك.
الثالث: وهو الأصح والأجود: أن القرآن إذا كتب في إهاب أو غير ذلك، وألقى في النار، فإن القرآن لا يحرق ولا يتصور عليه الحرق ولا الغرق ولا العدم، وإن تصور ذلك على الرق والجلد. والورق والخط والمداد. وهذا يوضح أنه مكتوب على الحقيقة. وليس بحال حلول الأجسام في الأجسام؛ لأن المداد لما حل حلول الأجسام في الأجسام احترق مع الرق والورق، والقرآن لما لم يكن حالاً لم يتصور عليه العدم بحرق ولا غرق ولا غير ذلك، وهذا واضح صحيح. يؤكد ذلك أنا إذا كتبنا اسماً من أسماء الله تعالى في محل يتصور عليه الحرق والغرق والبلى والتمزق، فإن عدم ببعض ما ذكر فإنما يعدم ويذهب المحل المكتوب فيه واللون المكتوب به. وأما المكتوب على الحقيقة وهو الرب تعالى فلا يتصور عليه شيء من العدم والذهاب، كما أخبر تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه".
فصل
فإن احتجوا بخبر روى؛ وهو قوله ﷺ: من حفظ القرآن فاختلط بلحمه ودمه... قالوا: وهذا يدل على حلوله واختلاطه بلحوم الحفاظ ودمائهم في حال صغرهم. فالجواب عن هذا من أوجه.
أحدها: أن هذا الحديث يرويه إسماعيل بن رافع، وعمر بن طلحة، وهما ضعيفان جداً، لا يؤخذ بقولهما في هذا ولا غيره.
الثاني: أن الصبيان الحفاظ للقرآن كثير، وكلام الله تعالى قديم، وشيء واحد، فإذا اختلط بدم صبي ولحمه على زعمهم وامتزج واختلط فكيف يمتزج بلحم آخر ودمه؛ إذ الشيء الواحد إذا اختلط وامتزج بشيء استحال امتزاجه بغيره، نعوذ بالله من هذا المذهب الذي يؤدي القول به إلى اختلاط الصفة القديمة وامتزاجها بدم المخلوقين ولحومهم، ولعمري أن قول النصارى دون هذا، لأن النصارى؛ إنما تقول كلمة واحدة قديمة اختلطت بجسم واحد وهو جسم المسيح عليه السلام، حتى صار الجسم لاهوتياً من أجل الكلمة، ناسوتياً من جهة مريم عليها السلام، فاختلط عندهم القديم بالمحدث اختلاط الماء باللبن، فوافقتهم هذه المقالة الخبيثة، وزادوا عليهم، لأنهم قالوا: جسم واحد اختلط به القديم، وهؤلاء يقولون اختلط القديم بألف ألف جسم وأكثر، نعوذ بالله من هذا القول الذي لا يقوله من له مسكة من حس وعقل.
الجواب الثالث: أن هذا الحديث إن صح، فمراد النبي ﷺ أن الحفظ في الصغر أجود وأثبت من الحفظ في حال الكبر، ويعني باختلاطه باللحم والدم جودة الحفظ، لا لاختلاط المحفوظ الذي هو كلام الله القديم. وصار هذا كقوله تعالى: "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" يعني حب العجل، لأن العجل لا يدخل ولا يحل في القلوب، وإنما يدخل ويحل حبه. هذا أيضاً كما يقال: التعليم في الصغر كالنقش في الحجر. والتعليم في الكبر كالنقش في المدر، يريدون بذلك أن الحفظ في الصغر أثبت وأبقى منه في حال الكبر.
فصل
فإن قيل: إذا كان القديم لا يحل في المصحف؛ فما معنى تعظيمه وتوقيره عن الأدناس والأنجاس وأن لا يحمل إلا على طهارة.
فالجواب: أن هذا جهل وتخبط لأن توقير المحل والمكان لا يدل على حلول القديم الذي لا يتصور عليه الحلول فيه، كما أنا نحرم المسجد ولا ندخله إلا على طهارة من غير جنابة، ولا ندخل إليه شيئاً نجساً ولا قذراً، وننزهه عن البصقة والنخامة، وإن كانت طاهرة توقيراً له وتعظيماً، وإن كانت أرضه وتربته وأحجاره مخلوقة، وخشبه وطينه مخلوقان، لا أنه قديم، ولا أنه حل فيه قديم، وكذلك الطواف بالبيت لا يدخل بنجاسة إليه، ولا يصح الطواف، حتى يكون الطائف متطهراً من النجس والحدث، ولا يدل هذا على أن البيت قديم، ولا أنه حل القديم فيه، كذلك الخطوط التي يكتب بها القرآن، والصحف التي يكتب فيها نوقره ونعظمه وننزهه أن يمس إلا على طهارة، ولا يقرب إليه شيء من الأنجاس، بل نعظمه ونشرفه، ولا يوجب ذلك كون المداد الأسود والصفرة والحمرة قديمة أو حل القديم فيها، وهذا أمر واضح لمن له عقل وتحصيل. إذا تأمله ونظر فيه.
فصل
ثم يقال لهذه العصابة هداهم الله من الضلال ما تقولون فيمن أخذ قلما وورقة ومداد حبر، وكتب ألف. لام. لام، ها. أتقولون إن المكتوب على الحقيقة هو الله تعالى أم لا؟ فإن قالوا: ما هو المكتوب على الحقيقة. فقد خالفوا إجماع أهل السنة والجماعة. وإن قالوا: هو المكتوب على الحقيقة قلنا: أفتقولون إن الله تعالى انتقل من العرش وحل في هذه الورقة؟ فإن قالوا: نعم. كفروا بإجماع الأمة، وجعلوا الباري تعالى يحويه أصغر الأماكن، وإن قالوا: ليس بحال وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره. قلنا: فكذلك كلامه تعالى مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا مقروء بألسنتنا متلو في محاريبنا غير حال في شيء من المخلوقات.
فصل
ثم يقال لهم: خبرونا إذا كتب كاتب في ورقة "فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى" أفتقولون: إن الكاتب قديم، أم كتابته قديمة، أم الورق الذي كتب فيه قديم، أم اللعين فرعون، وقوله قديم، فلا يجوز لعاقل أن يقول شيئاً من هذه الأشياء قديم، بل الكاتب مخلوق، وكتابته مخلوقة، والورقة مخلوقة، والقلم مخلوق، والحبر مخلوق، وفرعون اللعين مخلوق، وما ادعاه من الربوبية كذب مخلوق، وإنما الذي هو ليس بمخلوق كلام الله تعالى القديم الذي هو خبر يشمل جميع المخبرات التي أخبرنا عن فرعون اللعين وقوله الكذب. فصح أن كلام الله القديم ليس بالخط ولا بالورق ولا بقول فرعون اللعين، لأن قول فرعون اللعين كذب، وكلام الله حق وصدق، وكذلك إذا كتب الكاتب في ورقة "لا تقربوا مال اليتيم" أتقولون: إن اليتيم وماله قديم، والخط الذي كتب ذلك قديم، والكاتب له قديم. لا. بل الجميع مخلوق، وإنما القديم كلام الله الذي هو نهيه الذي يشمل جميع المنهيات، وهو غير اليتيم والمال والكاتب والكتابة، وإذا كتب كاتب: "كلوا واشربوا" "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" أترى أن الكاتب قديم أو الكتابة قديمة، أو الأكل والآكل، والشارب والشرب، والمصلي والصلاة، والمزكي والزكاة قديمة. لا والله؛ ليس شيء من ذلك قديماً، وإنما القديم كلام الله تعالى، الذي هو أمره الشامل لجميع المأمورات. فصح بهذه الجملة الفرق بين كلام الحق وكلام الخلق، وإن كلامه تعالى قديم غير مخلوق، ولا يتصف بشيء من صفات الخلق، ولا يفتقر تعالى في كون كلامه صفة له قديمة غير مخلوقة، إلى شيء من أدوات الخلق من لسان، وشفة، وحلق، وحرف، وصوت، بل هو متكلم، وله كلام، صفة له قديمة غير مخلوقة، ولا يجوز عليها شيء من صفات الخلق. فاعلم ذلك وتحققه ولا توفيق إلا بهدى من الله وفضل ورحمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
يتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها وهي: مسألة الخلق والإرادة وأنه لا يكون من العباد شيء إلا وهو خلق الله تعالى ومراد له، لا يجوز أن يخلق أحد غيره، ولا يكون في ملكه إلا ما أراده. الثانية: مسألة الشفاعة، وأنها حق وصدق، وأعلى الشفاعة عند الله شفاعة نبينا محمد ﷺ، ويشفع أيضاً من أذن له في الشفاعة في العصاة؛ من ملك، ونبي، ومؤمن. الثالثة: مسألة الرؤية، وأنها جائزة، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بلا كيف ولا تشبيه. ولا تحديد، كما جاء في الكتاب والسنة، ودل عليه العقل أيضاً، وإنما ختمنا الكتاب بمسألة الرؤية، لأنها أعلى العطايا وأسنى الكرامة من الله تعالى لعباده المؤمنين، وليس فوقها مزيد، بل هي الزيادة المذكورة في قوله: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة".
مسألة
اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الخالق وحد، لا يجوز أن يكون خالق سواه، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره؛ فهي منه خلق وللعباد كسب، على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وأمثال هذه الآية من الأدلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب، فالواحد منا إذا سمى فاعلاً فإنما يسمى فاعلاً بمعنى أنه مكتسب، لا بمعنى أنه خالق لشيء. وقالت المعتزلة، والنجارية، والجهمية، والروافض: إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد، وإن كل واحد منا ينشىء ما ينشىء ويخلق ما يفعل، وليس لله تعالى على أفعالنا قدرة جملة، ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد وسوء المقال.
والدليل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وبطلان قول من خالفهم من أهل الزيغ والبدع الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل؛ فالدليل من الكتاب أكثر مما يحصى، لكن أذكر منه ثلاثة تنبه اللبيب على بقيتها إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك قوله تعالى: "واللّه خلقكم وما تعملون" فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم، كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم، وهذا من أوضح الأدلة من الكتاب.
الثاني: قوله تعالى: "خالق كل شيء" ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعاً، وإن اختلفنا في خالقها، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق، فدل على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقاً. قلنا: قد احترزنا بحمد الله تعالى عن هذا السؤال بقولنا: إنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة؛ بل هي صفة الخالق تعالى قديمة بقدمه موجودة بوجوده. قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.
وجواب آخر يبطل هذا السؤال وهو: أنك تقول: إن الله تعالى مخاطب، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب، ألا ترى أن الواحد منا إذا قال دخلت الدار فضربت من فيها، أو أخرجت من فيها، أو أعطيت من فيها لا يدل ذلك على أنه دخل تحت الخطاب، بأن يكون ضرب نفسه، ولا أخرج نفسه ولا أعطى نفسه، لأنه مخاطب، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب وكذلك قوله تعالى: "خالق كل شيء" هو مخاطب، فلا يدخل تحت الخطاب بذاته ولا بصفاته جل عن ذلك وتعالى، كما قال: "الواحد القهار" قهر الكل ولم يدخل في القهر ذاته وصفاته. فافهم التحقيق لتدفع به كل بدعة وتمويه من أهل البدع إن شاء الله. الثالث: قوله تعالى: "اللّه الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون" والدلالة من هذه الآية من أوجه: أحدها: أنه قال تعالى: "اللّه الذي خلقكم" وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: "ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم" يعني ثم خلق أرزاقكم، وعند المخالف أن العبد يخلق أفعاله ورزقه، فهو خلاف ما أخبر الله تعالى به من كونه خالقاً لنا ولأرزاقنا. الوجه الثاني: من الدلالة: أنه قال: "ثم يميتكم ثم يحييكم" فكما لا يقدر أحد أن يخلق موته ولا حياته، فكذلك لا يقدر أن يخلق فعله ورزقه؛ من حركة ولا سكون ولا غير ذلك. الثالث: سبحانه وتعالى نزه نفسه عن عقدهم وخبثهم إذ أضافوا فعل شيء وخلقه إلى غيره، فقال "سبحانه وتعالى عما يشركون" ثم أكد ذلك بعده بمواضع فقال: "هل من خالق غير اللّه" سبحانه وتعالى. وقال: "أفمن يخلق كمن لا يخلق".
وأما الدليل من السنة فكثير أيضاً، غير أني أذكر منه خبرين ننبه العاقل الفطن على الاستدلال بأمثالهما من السنة:
الأول: ما روى عنه ﷺ أنه قال: إن الله خلق كل صنعة وصانعها وصنعة الصانع إنما هي بحركاته وأفعاله، سواء كان في صنعة مباحة وطاعة، ككتابة القرآن، والحديث، والفقه. أو محظورة؛ من تصوير صور الحيوان، أو عمل السلاح ليقتل به المسلمين. فصح بهذا الخبر أن الله جل وعلا خالق للفاعل منا ولفعله.
الخبر الثاني: قوله ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: فرغ ربك من أربع: من الخلق، والخلق، والرزق، والأجل فلو جهد الخلق على أن يؤتوك ما لم يقدره الله لم يقدروا على ذلك وروى: لو جهد الخلق على أن ينفعوك أو يضروك لم يقدروا على ذلك والمخلوقات منها الضار والنافع، في العاجل والآجل، وقد جعل ﷺ كل ذلك إلى تقدير الله تعالى وخلقه له، ولم يجعل إلى العباد شيئاً من ذلك. فاعلمه وتحققه.
فصل
ويدل على صحة ما قلناه: إجماع المسلمين، وأنهم يقولون: لا خالق إلا الله، كما يقولون: لا رازق، ولا محيي، ولا مميت إلا الله تعالى. فنقول لا يكون الخلق من غيره، وأثبتوه خالقاً.
فصل
ويدل على صحة ما قلناه من جهة العقل. وأنه لا خالق إلا الله تعالى، وهو كثير جداً، لكن نختصر على قدر فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك: أن نقول لهم: إن قلتم إن الواحد منا يخلق أفعاله، من طاعة، أو معصية، أو إيمان، أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق، وأنه لا يتم خلقه إلا بخلقنا. وذلك أن الجسم لا يخلو من حركة، أو سكون، أو كفر، أو إيمان، أو طاعة، أو معصية، فصح أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب، وأنه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق الآخر، وهذا شرك ظاهر، نعوذ بالله منه.
دليل آخر من جهة العقل: وأنه لا خالق إلا الله، لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه، كما قال: "ألا يعلم من خلق" ونحن نجد الواحد منا يفعل ما لا يعلم فعله فيه، ولا يحصره ولا يعده بقدرة، حتى إن الواحد منا يريد أن يتكلم صواباً فيرمي خطأ، إلى غير ذلك، فيفعل ما لا يعلمه ولا يريده، وأيضاً الواحد منا إذا خرج إلى المسجد حتى وصل إليه، فعند المخالف أن كل خطوة خطاها خلقها وأنشأها، ولو سئل عن عدد كل خطوة خطاها لم يدر ما يقول ولا يعلمه ولا يعرفه؛ فلم يبق إلا أن الخالق لأفعالنا وأكسابنا هو الله تعالى الذي يعلمها، كما قال: "ألا يعلم من خلق" دليل آخر من جهة العقل: وهو: من شرط الخالق للشيء أن يكون قادراً على خلق الشيء وضده، فإن من يقدر على خلق الحياة يقدر على خلق ضدها، وهو الموت، وكذلك من يقدر على خلق التفريق في الجسم يقدر على خلق الاجتماع له، حتى يعود كما كن جسماً مؤلفاً، ولما وجدنا أحدنا لا يقدر على ذلك صح أنه غير خالق، ولما وجدنا الخالق تعالى يقدر على خلق الشيء وضده دل على أنه هو الخالق لا خالق سواه، وقد قيل عن الشيخ الإمام أبي بكر بن فورك رضي الله عنه أنه كان مع إسماعيل المعروف بالصاحب في بستان، وكان يعتقد شيئاً من ذلك، فأخذ سفرجلة وقطعها من الشجرة، وقال له: ألست أنا قطعت هذه السفرجلة؟ فقال له رضي الله عنه مجيباً: إن كنت تزعم أنك خلقت هذه التفرقة فيها فاخلق وصلها بالشجرة حتى تعود كما كانت. فبهت وتحير ولم يقدر على جواب.
وبلغني أيضاً أن بعض القدرية وقف على إحدى رجليه وشال الأخرى، وقال: ألست أنا رفعت هذه وحططت هذه؟ فقاله له بعض أهل السنة: إن كنت تزعم أنك خلقت الشيل في هذه المشتالة فاخلق الشيل في الأخرى حتى تصير مشتالة معها، فبان له الحق ورجع عن قوله الباطل.
دليل آخر من جهة العقل: وهو أنك تقول: حقيقة الخلق والإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وإذا كان الواحد منا على زعمكم يقدر أن يخلق حركة معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود، وأن يخلق شيئاً زائداً فيخرجه من العدم إلى الوجود، وأن يخلق له لوناً غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود، وفي هذا القول الخبيث التسوية بين قدرة الله تعالى وقدرة العباد، وأنهم يقدرون على ما يقدر عليه. تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً.
فصل
نذكر فيه شبهاً يزعمون أن لهم فيها حجة، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى، كما قال: "حجتهم داحضة عند ربهم" فإن احتجوا بقوله تعالى: "جزاء بما كانوا يعملون" قالوا. فأثبت لنا العمل، والعمل هو الفعل، والفعل هو الخلق، فالجواب: أنه تعالى أراد ها هنا بالعمل الكسب، والعبد مكتسب على ما بينا. يدل على ذلك: أنه قال في موضع آخر: "جزاء بما كانوا يكسبون" نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملاً له، إنما نمنع أن يكون العبد خالقاً مخترعاً لفعله مخرجاً له من العدم إلى الوجود، وقد بينا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلم يكن لهم في الآية حجة. فإن احتجوا بقوله تعالى: "فتبارك اللّه أحسن الخالقين" وبقوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه" وبقوله تعالى: "وإذ تخلق من الطين" فالجواب من أوجه: أحدها: أنه يعني بقوله "أحسن الخالقين" يعني أحسن المقدرين، فعيسى عليه السلام يقدر الطين صورة، والخلق يقدرون الصورة صورة، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود، فقال تعالى "أحسن الخالقين" أي المقدرين. فاعلم ذلك.
جواب آخر: وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه، لكن لما ذكر معه غيره قال "أحسن الخالقين" وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره، كما يقال: عدل العمرين، وإنما هو أبو بكر وعمر، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد، وكذلك قول الفرزدق: أخذنا بأكناف السماء عليكملنا قمراها والنجوم الطوالع والقمر واحد، لكن لما جمعه مع الشمس سماها قمرين. وكأنه تعالى لما علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقاً قال "فتبارك اللّه أحسن الخالقين" على زعمهم أن معه غيره، وهذا كقوله تعالى: "وهو أهون عليه" على زعمكم، لأن عندهم أن النشأة أهون من الإعادة، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إن معه خالقاً غيره، لا أنه أثبت معه خالقاً غيره.
جواب آخر: وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب: يراد بها إثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه الآخر من كل وجه، وذلك في قوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة، مع حسن المستقر، وسلب ذلك عن أهل النار أصلاً ورأساً، لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل، فكذلك قوله تعالى: "أحسن الخالقين" أثبت الخلق له وأنه هو المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل لا يريد أن للخل حلاوة بوجه، بل يريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلاً، ورأساً، فكذلك قوله "أحسن الخالقين" أثبت الخلق له دون غيره. فإن احتجوا بقوله تعالى: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" فكيف يجوز أن يكون خالقاً لكفر الكافرين، وعصيان العاصين، وفيه من التفاوت غير قليل.
فالجواب: أن هذا سوء فهم، وذلك أن هذا أراد به سبحانه وتعالى خلق السموات في الصورة، وأنه ليس فيها فطور ولا شقوق، أجمع المفسرون على ذلك، فلا حجة لكم فيها، ثم إن أول الآية حجة عليكم، لأنه قال: "خلق الموت والحياة" وبين الموت والحياة تفاوت، وهو خالق الجميع لا خالق لذلك غيره، فكذلك كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإن كان بينهما تفاوت في الحكم فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع وإحكام الخلق، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان" فلو كان الله الخالق لوكزة موسى لقال: هذا من عمل الرحمن، الجواب من وجهين: أحدهما: أن قول موسى هذا القول على وجه الأدب، أي: إني ارتكب ما نهيت عنه من شره النفس ووسوسة الشيطان، ألا تراه قال في ضلال السبعين من قومه لما لم يكن له في ذلك كسب: "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" فيجب على العبد عند خطئه وذنبه أن يرد اللوم والتقصير إلى نفسه وإلى وسوسة الشيطان، ولا يرد ذلك إلى خلق الله تعالى وإرادته، لأنه يصير كالمحتج عليه تعالى، وليس لأحد عليه حجة: "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين". ومثل هذا قول أبيه آدم عليه السلام وحواء: "ربنا ظلمنا" فردا التقصير والنقص واللوم إلى أنفسهما، لأن هذا موضع الأدب والتذلل، لا موضع الاحتجاج، ومثل هذا كثير.
الجواب الثاني: أن الإجماع منا ومنكم: أن الوكزة ليست خلق الشيطان ولا عمله، بل هي عندنا من خلق الله تعالى واختراعه، ولموسى عليه السلام كسب. وعلى عقدهم النحس أنها خلق موسى وعمله، وليس لله فيها خلق ولا اختراع ولا عمل، فبطل احتجاجهم بالآية، ولم يبق إلا ما قلناه، وهو أنه أراد بقوله: "من عمل الشيطان" أي زين ذلك وحسنه لي، والله المعين.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيئة فمن نفسك" فأوضح تعالى أن السيئة منا، والحسنة منه، فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه لا يصح لكم الاحتجاج معشر المعتزلة بهذه الآية بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب؛ لأن ظاهرها فيه تعلق لمن يقول إن الخير خلق الله تعالى وفعله، والشر خلقنا وفعلنا، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية، لأنكم تقولون إن أحسن الحسن وخير الخير الإيمان والمعرفة. وتقولون ليس لله في هذا قدرة ولا خلق، وإنما هو بقدرة العبد المؤمن وخلقه، فلا حجة لكم فيها.
الجواب الثاني: أن صريح النص في أول هذه الآية حجة عليكم، لأنه يقال: رد عليهم، وأمر نبيه عليه السلام أن يرد عليهم، بقوله تعالى: "قل كل من عند اللّه" ثم جهلهم وإياكم، وأكد ذلك بقوله: "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً" فصارت الآية حجة واضحة عليكم لا لكم.
الجواب الثالث: قوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن اللّه، وما أصابك من سيئة فمن نفسك" وهذا صحيح من وجهين: أحدهما: أن مثله في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى: "ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا" تقديراً لكلام يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا. ومثله قوله تعالى: "والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون" ومثله أيضاً قوله تعالى: "الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب" تقدير الكلام "فأما الذين اسودت وجوههم" فيقال لهم "أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب" فكذلك هذا، فتقدير الكلام فيه "لا يكادون يفقهون" فيقولون "ما أصابك من حسنة" الوجه الثاني: أن هذه الآية إن لم تحمل على ما قلناه صار بعضها ينقض بعضاً ويخالف بعضاً، وليس في كتاب الله تعالى مناقضة ولا اختلاف، فصح ما قلناه؛ لإنه قال في أول الآية: "كل من عند اللّه" ثم يرجع في سياقها فيقول: لا إنما البعض مني والبعض من خلقي، كلا والله، بل ذكر ذلك في سياق الآية تجهيلا لقائله ورداً عليه. فافهم الحق وادفع به الباطل. فإن احتجوا فقالوا: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن أن يكون خلقاً لنا وفعلاً لنا. قالوا: وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد. وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته دل على أن أفعاله خلق له، وفعل له، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا غير صحيح أولا، فإنا نرى من يريد شيئاً ويقصده ولا يحصل ما يريد ولا ما يقصد. فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض، وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه، إلى غير ذلك. فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره، يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة. والخلق من الخالق.
الجواب الثاني: أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل ذلك على أنه خلق لهم واختراع، ألا ترى أن مشى الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو، وتقريب، واستطراف، ووقوف، إلى غير ذلك. ولا يقول عاقل إن الراكب خلق جرى الفرس ولا سرعتها، ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه، وكذلك أيضاً السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح، وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا: فكذلك أفعال أحدنا قد تقع، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده، ولا يبدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له، ولا يقول أحد إن واحداً منا يقدر أن يخلق لوناً لغيره ولا لنفسه، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا، وليس هو خلقاً له ولا موجوداً له، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك. يؤكد هذا أيضاً أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها وكذلك ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك. وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى، وإن كان حاصلاً على حسب إرادة القائم عليه وقصده، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى. فإن قيل: فإذا لم يكن أحدنا خالقاً لفعله، فكيف يكون ملوماً عليه ومعذباً به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب؟ فالجواب: إننا لا نقول أن المدح والثواب، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقاً له واختراعاً، بل نقول: إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى، ويجب ويستحق بحكمه لا بأن يوجب الواجب عليه خلق فعل أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين: أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئاً يستحق به إيجاب ذلك عليها، وإن ذلك الذي فعلته خلق لها، بل هو خلق لغيرها، وهو الله تعالى عند المسلمين، وخلق للقاتل على زعمكم، أفصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله وحكمه، لا بخلق العافلة وفعلها، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة، إنما تجب وتستحق بإيجاب الله تعالى وإرادته، لا بكونها خلقاً للفاعل، فاعلم ذلك وتحققه.
وكذلك أيضاً الأكل في الصيام ناسياً، فعل العبد، كما هو فعل له عند تعمده، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر، ويذم ويعاقب عليه، والآخر بالضد من ذلك، وإن كان الجميع فعلاً للعبد، فصح أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى، لا بكونه خلقاً للفاعل، فصح ما قلناه، وبطل ما توهموه.
فإن قيل: من فعل الطاعة كان طائعاً، ومن فعل المعصية كان عاصياً، فالجواب: أن هذا غير صحيح، لأن كون الباري تعالى خالقاً وفاعلاً لا يوجب أن يتصف بالطاعة والمعصية، لأن الطاعة صفة الطائع، والمعصية صفة العاصي، ولا يوجب ذلك وصف خالق الطاعة والمعصية بكونه طائعاً عاصياً، ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد، ولا يكون صفة لله تعالى، وإن كان تعالى هو خالق السواد، فكذلك التحرك صفة لمن له الحركة، لا صفة من خلق الحركة والولد لمن له الولد؛ لا لمن خلق الولد، والحلاوة صفة العسل، لا لمن خلق الحلاوة فيه. وكذلك الحموضة في الخل صفة للخل، لا لمن خلق الحموضة فيه، وكذلك الموت إذا خلقه الله في أحدنا صار ميتاً، واتصف بذلك، ولا يوجب أن يتصف الخالق للموت بأنه ميت، لما خلق الموت وفعله بالحي. فكذلك المعصية صفة من حلت به المعصية، والطاعة صفة لمن حلت به الطاعة، ولا يوجب ذلك وصف خالقها بأنه طائع ولا عاص.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون الله خالق الظلم والجور والكذب، لأن من فعل الظلم كان ظالماً، ومن فعل الجور كان جائراً. ومن فعل الكذب كان كاذباً والله تعالى يتنزه عن جميع ذلك، فصح أن هذه الأشياء ليست بفعل له، ولا خلق له.
فالجواب: أن هذا السؤال هو الأول بعينه، والجواب عنه قد تقدم، لكن نزيد ها هنا جواباً آخر: وذلك أنا نقول: ليس الأمر على ما يقع لكم، بل نقول إلى الله تعالى خلق الظلم ظلماً للظالم به: وخلق الجور جوراً للجائر به، وخلق الكذب كذباً للكاذب به، كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها: وخلق الضوء ضوء للمستضيء به، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها، وخلق السواد سواداً للأسود به، وخلق السم سماً المسموم به. فكما أن الله تعالى خلق الظلمة الليل والضياء للنهار، والحمرة للأحمر، والسواد للأسود. والسم للحية، ولا يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء ولا سواداً ولا حمرة ولا سماً له فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها، والكذب كذباً للكاذب به، والجور جوراً للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائراً ولا ظالماً ولا كاذباً، فصح ما قلناه وبطل ما قالوه.
جواب آخر: وذلك أن الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصورة والفعل، وإنما يكون كذباً إذا خالف الأمر، وكذلك الجور والظلم، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوق آمر أمره، وناه نهاه، وهم الخلق. وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه، فلا يصح وصفه بشيء من هذا، فاعلم ذلك وتحققه، فإنه أصل قوي تدفع به جميع ظنونهم الفاسدة. فإن قيل: لا يجوز أن يقال للجور والكذب هذا خلق الله، بل يعرض عن ذلك، ولا يقال. فصح أنه خلق لغيره.
فالجواب: أن هذا السؤال غير صحيح، لأنك إن أردت الإطلاق في العموم، فجائز أن تقول: يا خالق المخلوقات، ويا خالق الموجودات، ويا خالق كل شيء، ويا خالق الضر والنفع. وإن أردت ذلك على الخصوص، بأن تقول: يا خالق الكذب والجور؛ فلا يجوز من طريق الأدب والإذن في ذلك، كما أنا نقول يا خالق المخلوقات، فيعم بذلك السموات، والأرض، والشمس، والقمر، والقردة: والخنازير، والكلاب، والجعلان، وغير ذلك من سائر المخلوقات، فلا يجوز أن تقول على الانفراد يا خالق الأقدار والأنجاس ونحو ذلك من طريق الأدب، وأنه لم يؤذن لنا في ذلك، بل ندعوه بأسمائه الحسنى كما أمر، فقال: "وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها".
مسألة
اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يريده الله تعالى، وأنه لا يؤمن مؤمن ولا يكفر كافر إلا بإرادة الله تعالى، ولا يخرج مراد عن مراده، كما لا يخرج مقدور عن قدرته. وقالت المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع: إن الله تعالى لا يريد إلا الطاعة والإيمان، فأما من كفر وعصى فقد أتى بما ليس بمراد الله تعالى: وقالوا: إن كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله تعالى، حتى انتهى بهم القول إلى: أن البهائم تفعل أفعالاً لم يردها تعالى، وأنه لو أراد فعل غيرها منهم لم يحصل ذلك له وامتنع عليه، سبحانه وتعالى عما يشركون. ونحن براء إلى الله تعالى من جهلهم وبدعهم، ونقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة الذي لدين الله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع، ولا يعص عاص، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى إلا بإرادة الله تعالى، وقضائه ومشيئته. ويدل على صحة ما قلناه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل. فأما الكتاب: فأكثر من أن يحصى، لكن نذكر منها ما فيه الكفاية، ويدل العاقل على نظائر من أدلة الكتاب، فمن ذلك قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" "إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" وهذه الآية أوضح دليل وأقوم حجة من وجوه عدة: أحدها: أنه أخبر تعالى أنه لو شاء وأراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر والضلال، وهذا خلاف قول المعتزلة، لأنهم يقولون: إنه ما أراد إلا كونهم أمة واحدة على الإيمان، فبطل قولهم ببعض هذه الآية.
الثاني: أنه قال "ولا يزالون مختلفين" "إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فأخبر تعالى أنه خلقهم لما أراد من اختلافهم، وأنه لم يرد أن يكونوا أمة واحدة. الثالث: قوله تعالى: "إلا من رحم ربك" فأخبر تعالى أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره، فصح أنه لا يكون من عباده ولا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً" فنص تعالى على أن الهدى بإرادته، والضلال بإرادته، وهذا نص واضح لا إشكال فيه.
ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة قوله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس" وجه الدليل: أنه تعالى خلق من الجن والناس قوماً ليدخلوا النار ويكونوا أهلاً لها، ولا يكونون أهلاً لها إلا بالكفر والطغيان والعصيان، فعلم أن جميع ذلك بإرادته وقضائه وقدره.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه" فأخبر تعالى أن الحجج والآيات لا تنفع، وإنما تنفع المشيئة التي تتم بها الأشياء، فمن شاء إيمانه آمن، ومن شاء كفره لم يؤمن. ويدل عليه قوله تعالى: "ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئاً" وهذا نص في أنه أراد فتنة الكافر وإضلاله. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً" وهذا نص واضح يغني عن الشرح، إلا أنه أخبر أنه ما شاء أن يؤمن أهل الأرض كلهم. وعند المخالف أنه قد شاء ذلك، والله قد أكذبه في هذه الآية وأمثالها. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم" وهذا صريح في إرادته بقاءهم على كفرهم. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم" فأخبر تعالى أن أراد قعود المنافقين عن الخروج إلى الغزو في سبيل الله تعالى، ولو أن أحدنا أراد أن يستقصي جميع ما في القرآن من الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وإبطال بدعة القدرية مجوس هذه الأمة كما جاء في الأثر وقول الصحابة لطال ذلك، وما وسعه كتاب.
ويدل على صحة قول أهل السنة والجماعة من الأخبار، ما روى في الصحاح في محاجة موسى وآدم عليهما السلام، حتى قال آدم: يا موسى أترى هذا الأمر قد قدر علي أو لم يقدر؟ فقال موسى: بل قدر عليك. فقال له آدم فكيف يكون فراري من أمر قدر علي؟ قال نبينا ﷺ: فحج آدم موسى، أي ظهر عليه في الحجة وهذا صريح من نبينا ﷺ ومن جميع الرسل عليهم السلام أن جميع الأمور خيرها وشرها بقضاء الله وقدره ومشيئته.
ويدل عليه أيضاً الخبر المروي في الصحاح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه، عن رسول الله ﷺ لما أتاه الرجل فسأله عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى فقال صدقت يا محمد، ثم أخبرهم أنه جبريل عليه السلام، فصح بإجماع الأنبياء والرسل والملائكة والصحابة أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره.
ويدل عليه قوله ﷺ من جملة حديث: فتقول الملائكة يا رب أشقى أم سعيد، فيقضي الله عز وجل ويكتب الملك، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ثم أكد ذلك قوله ﷺ بقوله: السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه فعلم كل عاقل أن الله تعالى أسعد من شاء وكتبه سعيداً وأشقى من شاء وكتبه شقياً، وأخبار الرسول وأقوال الصحابة في هذا المعنى كثيرة جداً لا تحصى، وفي بعض ما ذكرنا كفاية. ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة: إجماع المسلمين من الصحابة وهلم جرا إلى وقتنا هذا: أن الجميع منهم يطلق، ويقول في الخلاء والملاء من غير نكير: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فوقع الإجماع من الخاص والعام أن الأمور كلها بمشيئة وقدر من الله تعالى. وقيل أوحى الله إلى بعض الأنبياء: تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، وهذا نص واضح في أنه لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله تعالى. وقد سئل بعض السلف فقيل له: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم. وفسخ الهمم، وذاك أن الواحد منا يعزم على الأمر ويهمم به، فيجري عليه غير ما عزم عليه وهم به، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما عزم عليه وهم به، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما قدر لنفسه، والمريد أراد له غير ما أراد لنفسه، فكان ما أراده العبد لنفسه. ولو شرعنا في ذكر ما روى عن السلف والخلف في هذا المعنى طال ولم يسعه كتاب.
فصل
ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل أن الملك إذا جرى في ملكه ما لا يريد، دل ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، والله تعالى موصوف بصفات الكمال، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده، ويريده أضعف خلقه فيكون. كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء. فثبت بحمد الله ومنه مذهب أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل.
فصل
في ذكر آيات وسنة يحتجون بها والجواب عنها.
فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى: "واللّه لا يحب الفساد" قلنا: المراد به أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به، فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدح فاعله عليه، وليس كل ما يريده المريد يقال فيه أنه أحبه، ألا ترى أن المريد يريد بذل ماله للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره، ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرة عينه ليؤدبه، ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك يريد ربط جروحه وقطع سلمته وشرب المر من الدواء، ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب، ولا يقال إن محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه، وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه. جواب آخر: وهو ما ذكره بعض أصحابنا وهو. أن قوله تعالى: "واللّه لا يحب الفساد: يعني لا يحبه من أهل الصلاح والطاعة، وهو كقوله "ولا يرضى لعباده الكفر" يعني لعباده المؤمنين، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
فإن قيل أليس قد قال الله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم" فدل على أن الشرك ليس بمشيئة الله تعالى فالجواب من وجهين: أحدهما: أن سياق الآية حجة عليهم، لأنه قال فيها "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين".
الجواب الثاني: أنهم إنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء، لا على سبيل الإيمان، وإنما قصدوا تكذيب الرسول ﷺ في قوله "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً" وهذا كقوله تعالى: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اللّه قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من من لو يشاء اللّه أطعمه" قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء، لا على وجه الإيمان والاعتراف بأن الله قادر أن يطعمهم. فلذلك قالوا: ما في تلك الآية وجعلوه لهم حجة، فجعله كذباً وأن حجتهم باطلة، فصح ما قلناه. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد بعض الجن والإنس. الذي يدل على صحة ذلك أن كثيراً من الجن والإنس يموت قبل أن يبلغ حد التكليف والعبادة، وصار هذا كقوله تعالى لأصحاب نبيه ﷺ: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه" وأراد البعض لا الكل، لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول. الذي يقوى ذلك ويصححه: أنه قال في آية أخرى: "فرية هدى" يعني إلى الطاعة "وفريقاً حق عليهم الضلالة" يعني عن العبادة والطاعة.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس" وهم الذين لم يرد أن يطيعوه، فاعلم ذلك.
والجواب الثاني: أن المراد بذلك أن لا يقروا بالعبادة طوعاً أو كرهاً، وهذا قول ابن عباس، وهو حسن، لأن الكل لا بد أن يقروا بذلك؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة. جواب آخر: وهو أن المراد بذلك إلا لآمرهم وأنهاهم، وهذا قول مجاهد. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى هديناهم، أي دعوناهم قاله سفيان وهذا صحيح، لأن الهدى يكون بمعنى الدعاء؛ قال الله تعالى: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" أي ذراع يدعوهم إلى الهدى، وقال تعالى: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" أي تدعو. الجواب الثاني: "وهديناهم" أي بينا لهم سبيل الهدى، قاله قتادة، وهذا صحيح، يدل عليه قوله تعالى: "وهديناه النجدين" يعني بينا له طريق الخير وطريق الشر. وقال الصديق رضي الله عنه لما كان هو والرسول عليه السلام قاصدين إلى الهجرة من مكة إلى المدينة فكان الناس يقولون يا أبا بكر، وكان معروفاً فيسلمون عليه ويسألونه. من هذا الرجل الذي معك؟ فيقول: رجل يهديني السبيل، يعني يعرفني الطريق، وهو يريد رضي الله عنه سبيل الحق والدين.
الجواب الثالث: أعلمناهم الهدى من الضلالة.
جواب رابع: وهو أن المراد بذلك هدينا فريقاً منهم وأضللنا فريقاً دليل ذلك قوله تعالى: "ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا اللّه فإذا هم فريقان يختصمان" ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون" فصح ما قلناه، وأنه هدى بعضاً وأضل بعضاً بنص القرآن، فاعلم ذلك.
جواب خامس: وهو أن فريقاً من ثمود آمنوا ثم ارتدوا، ففيهم نزلت الآية، يدل عليه قوله تعالى: "فاستحبوا العمى على الهدى" يعني رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان. فإن قيل: فما قولكم في قوله تعالى: "إن تكفروا فإن اللّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر" فصح أنه لا يريد الكفر، فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه لو كان كما قلتم لكان يقول: ولا يرضى لأحد الكفر، أو يقول: ولا يرضى لكم الكفر، فلما لم يقل ذلك لم يكن لكم حجة. الثاني: أنه قال تعالى: "ولا يرضى لعباده الكفر" وإذا أضافهم إليه بلفظ العبودية فإنما أراد بذلك خواص عباده المؤمنين دون الكافرين. ونحن نقول: إنه ما رضى للخواص الكفر ولا أراد لهم الكفر، وإنما رضى لهم الإيمان. الذي يدل على صحة هذا: إن العباد إذا أضافهم إليه كان المراد بهم المؤمنين دون غيرهم، قول تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وأراد بذلك المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى: "يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" أراد المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى: "عيناً يشرب بها عباد اللّه يفجرونها تفجيراً" أراد المؤمنين دون الكفار، وكذلك قوله تعالى: "ولا يرضى لعباده الكفر" أراد المؤمنين دون الكافرين، فاعلم ذلك وتحققه. الجواب الثاني: أن الرضا بالشي هو المدح له والثناء عليه والإثابة عليه وكونه ديناً وشرعاً، والله تعالى لا يرضى الكفر بمعنى أنه لا يمدحه ولا يثيب عليه ولا يرضى كونه ديناً وشرعاً، دون إرادة وجوده وخلقه. فاعلم ذلك. فإن قيل: أتقولون أن الله تعالى قضى المعاصي وقدرها، كما أنه خلقها، قلنا له: أجل: نقول ذلك بمعنى أنه خلقه وأوجده على حسب قصده وإرادته، ولا نقول إنه قضاه بمعنى أنه أمر به، ولا رضيه ديناً وشرعاً، وأنه يمدحه ويثيب عليه. فإن قيل: فعلى كم وجه ينقسم القضاء؟ قيل له على وجوه كثيرة..
منها: قضاء يكون بمعنى الخلق، وذلك قوله تعالى: "فقضاهن سبع سموات في يومين" يعني خلقهن، ويكون القضاء بمعنى التسليط. والخلق، وهو قوله تعالى: "فلما قضينا عليه الموت" يعني خلقنا وسلطنا عليه الموت، ويكون بمعنى الإخبار والإعلام، وهو قوله تعالى: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين" يعني أعلمناهم وأخبرناهم، ويكون القضاء بمعنى الأمر، قال الله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"، ويكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام، يقال: قضى القاضي على فلان بكذا، أي أوجبه عليه وألزمه إياه وحكم به عليه، فإن الله تعالى قضى بالمعاصي والكفر، بمعنى أنه أراده وخلقه، وقدره، ولا يجوز أن يكون بمعنى أمر به واختاره ديناً وشرعاً، ولا مدحه، ولا يثيب عليه؛ ولا فرضه فرضاً على أحد، بمعنى أن أوجبه عليه، فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من شبه المبتدعة وتلبيسهم على العوام ومن لا فهم له إن شاء الله. فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قلنا: هذا يحتاج إلى تفصيل، فنحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره على الإطلاق، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية، ولا يتقدم بين يديه بالاعتراض بل نسلم لما أردا فينا وفي غيرنا، ولا نعترض بما يفعل، فنقول: نحن نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، كما أخبرنا به ومدحنا على فعله، ووعد عليه الثواب، فنرضى بذلك ونريده لنا ولجميع إخواننا من المسلمين، ولا نقول: إن قضاءه الذي هو بمعنى خلقه، وإيجاده الذي هو خلقه مذموماً قبيحاً؛ ذنباً معصية كفراً، إنا نرضى بذلك ديناً وشرعاً ولا نحبه ولا نرضاه ولا نريده لنا ولا لأحد من إخواننا المسلمين، فاعلم هذا التفصيل تسلم من شبه الأباطيل ومن خدع أهل التعطيل. يؤكد هذا أو يقرره أنا نقول وكل مسلم عند الإطلاق: إن جميع الأشياء لله تعالى، إنه خلقها وهي ملك له، لا خالق ولا مالك لها غيره، من والد، وولد، وزوجة، وصاحبة، فنطلق ذلك عند الإجمال. فأما عند التفصيل فنقول: إن لله الأسماء الحسنى. ونقول: إن له الجلال، والجمال، والقدرة، والكمال، ولا نقول: إن له الولد، والوالد، والصاحبة، والزوجة، والشريك. فاعلم ذلك. وكما نقول عند الإطلاق: إن كل مخلوق يبيد ويفنى ويزول ويضمحل، ولا نقول عند التفصيل: إن حجة الله على خلقه والأعمال من الصلاة، والصيام، والحج، إن ذلك يبيد ويفني ويضمحل، ونحو ذلك.
ثم نقول لهم يا جهلة: أليس الله تعالى قضى بموت نبيه ﷺ، وكذلك موت جميع الأنبياء عليهم السلام، فلا بد أن يقولوا: بلى. فنقول لهم: أفترضون بذلك وأشباهه؟ إن قالوا: نعم. وكلنا نقول: إنه قضى ذلك، قلنا: وكذلك نقول نحن أيضاً: قضى كل موجود وخلقه وأراده عند الإطلاق، وعند التفصيل لا نقول: إنا رضينا موت النبي ﷺ، بمعنى إنا أحببنا ذلك، وأنه سرنا، فاعلم ذلك. فإن قيل: أليس الله تعالى قد نهى عن الكفر والمعصية؟ قلنا: بلى قد نهى عن ذلك. فإن قالوا: فلا يحسن أن يريد شيئاً ويريد وجوده ثم ينهى عنه، قلنا: الجواب من وجهين:
فأما الأدلة على صحة الشفاعة، فقد ذكرناها من الكتاب والسنة، لكن نجد ها هنا طرفاً منها. أما من القرآن فقوله تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" روى عن أنس بن مالك، وأبى سعيد الخدري وجماعة من الصحابة لا يحصون عدداً: أن ذلك في الشفاعة، ثم ذكروا ذلك عن النبي ﷺ في أخبار يطول ذكرها وشرحها. وقد ثبت عنه ﷺ قوله: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وهذا فيه الحجة على الفريقين ممن أنكر الشفاعة أصلاً، ومن قال إنه لغير أهل الكبائر. وقال ﷺ: أشفع إلى ربي فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار ثم ذكر الحديث إلى أن قال: حتى لا يبقى أحد من أهل الإيمان في النار. ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وهذا الحديث صريح في الحجة على كل من الفريقين من المعتزلة. وأخبار الشفاعة كثيرة جداً، وقد قدمنا منها ما في الكفاية وزيادة، ولأن الشفاعة في أقل الدارين من أقل الشفعاء تكون في الذنوب وغيرها، فما ظنك بالشفاعة في أعلى الدارين من أعلى الشفعاء عند الله عز وجل، حتى ذكر في بعض الأخبار أنه ﷺ يغبط بذلك المقام، يغطبه به الأولون والآخرون، ثم تكون الشفاعة فيمن لا كبيرة له، وإنكار هذا جهل وعناد وطعن في القرآن وصحيح الأخبار.
فصل
نذكر فيا شبهاً لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها في صحة الشفاعة، ونحن نجيب عنها بعون الله وحسن توفيقه. فإن قالوا: هذه الأخبار تعارض بمثلها، فإنه قد روى الحسن البصري وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا عن الحسن لم يصح، ولم يرد في خبر صحيح ولا في سقيم، وإنما هو اختلاف وكذب، ولا يعارض الآثار الصحاح المتفق على صحتها، ثم لو جاز أن يكون قد روى فلم يسقط الصحيح المجمع على صحته بالضعيف السقيم الذي لا أصل له. مع إمكان الجمع بين الكل، واستعمال الجميع، فتحمل صحاح الأخبار على ما قلا، ويحمل هذا الخبر على أنه أراد به الكبائر التي تخرج من الإسلام، نحو الكفر بعد الإيمان، أو استحلال ما حرم الله، أو تكذيب بعض الرسل أو بعض الكتب، ويصير هذا كما قلنا إنا نجمع بين كل ما ذكر في القرآن، وإن كان ظاهره يناقض بعضها بعضاً عند الجهال مثلكم، فإنه تعالى قال: "هذا يوم لا ينطقون" ثم قال في موضع آخر: "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" فيحمل هذا على أنهم لا ينطقون عند الصراط، والميزان، والكتب، ويسأل بعضهم بعضاً بعد ذلك، حتى لا نسقط شيئاً من كتاب الله ولا ينقض بعضه ببعض فكذلك يحمل قوله: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي في حق من يبقى على الإيمان حتى يخرج من دار الدنيا، ويحمل ما ذكروا لو كان صحيحاً على من خرج من الدنيا على غير إيمان، ونكون أسعد وأولى، لأنا نثبت الصحيح بتأويل لشيء باطل لا أصل له أن لو صح، وهم يسقطون الصحيح المتفق على صحته بشيء باطل لم يصح.
فإن قيل: هذا لا يصح مع قوله عليه السلام: لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي والكافر بما ذكر به ثم ليس من أمته، قلنا: بل يصح ذلك من وجهين: أحدهما: أنه أراد بذلك من كان من أمتي ثم ارتد، أو نحو ذلك، فقد يجوز أن يسمى الشيء بما كان عليه أولاً، وإن كان في الحال لا يسمى به، ألا ترى إلى ما قال ﷺ في النبيذ: ثمرة طيبة وماء طهور يعني كان ثمرة طيبة وماء طهوراً، لا يريد أنه في الحال ثمرة، وكذلك أمر ﷺ بلالاً: ارجع فناد ألا إن العبد نام ولم يرو أنه الآن عبد، بل أراد أنه كان عبداً، لأن الصديق أعتق بلالاً قبل ذلك. يقال لعتيق الرجل: عبد بني فلان، أي كان عبداً لهم، ونحو ذلك كثير. ويحتمل أن يكون سماهم من أمته، لأنهم كانوا في عصره ووقته وقرنه، وكل قرن يسمى أمة، ويكون ذلك فيمن كان آمن به في وقته ثم ارتد، فمن ذكر من أهل الردة، أو كان في وقته ولم يؤمن، وسماه من أمته لأنه في قرنه وعصره. فصح ما قلناه وبطل تعلقهم بما لا أصل له.
فإن قيل: أليس قد روى عن النبي ﷺ أنه قال: من تحسى سما وقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، وروى مثله فيمن قتل نفسه بحديدة، ومن تردى من جبل. وروى عنه ﷺ أنه قال: لا يدخل الجنة مدمن خمر، وعاق والديه فهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة.
فالجواب عن هذه الأخبار: أن منها ما صح ومنها ما لم يصح ويجمع بين الكل، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلاً لفعله، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام، ونحو ذلك، وهذا صحيح لأن الرسول ﷺ قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال أبو ذر: وإن زنا، وإن سرق؟ فقال: وإن زنا، وسرق، وقتل، وشرب الخمر، وإن رغم أنف أبي ذر فصح ما قلناه، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض، ولا أسقطنا بعضها ببعض، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
فإن قيل: أليس عندكم أن الرسول ﷺ لا يشفع إلا في مؤمن، وقد وردت الروايات لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن وكذلك روى أنه قال: ليس منا من يأتينا بطيناً ويأتي جاره خميصاً ومن غشنا فليس منا ولا إيمان لمن لا أمانة له إلى غير ذلك، فكيف يشفع الرسول عليه السلام فيمن ليس بمؤمن؟.
فالجواب: أن يقال لهم: هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة، فإنها متحملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.
أحدها: أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك، وهو مؤمن: أي مستحل لذلك، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله ﷺ: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء، والله تعالى لم يحرمها، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة، ولا زنا، ولا شرب خمر أي في البر، والطهارة، والعفة ونحو ذلك، ويصير هذا كقوله: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.
فإن قيل: فما معنى قوله تعال: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" قيل معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة، فأخبر تعالى أن تم شفاعة، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك، ولم يرد إلا لمن رضى سائر عمله، لأن من رضى سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة، ويحتمل أن يكون "لا يشفعون إلا لمن ارتضى" يعني لمن كان معه عمل مرتضى.
والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى، وإن كان عاصياً فاسقاً، وهو التوحيد والتصديق، وقوله: لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر، فصح ما قلناه. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع" قلنا: معناه فالظلم بالشرك والكفر الذي لا ينفع معه طاعة، كما قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم" ولهذا لما نزل قوله تعالى. "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" حزن الصحابة رضي الله عنهم كذلك، حتى قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي ﷺ: ليس هذا يا أبا بكر، إنما الظلم الشرك ها هنا، ألا ترى إلى قول لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فدل أن لا شفاعة تنفع الكافر. ولا حميم يدفع عنه، والمؤمن بخلاف ذلك بحمد الله، وإن كانت له سيئآت. فاعلم ذلك. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون" "ولا يخفف عنهم من عذابها" وقوله: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب" وقوله تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين".
فالجواب: أن نقول: أنتم وإخوانكم من الخوارج دأبكم أبداً أن تجعلوا آيات العذاب في أهل الإيمان والتوحيد، وهي لأهل الكفر والضلال دون المؤمنين بحمد الله تعالى؛ وهذه الآيات كلها في أهل الكفر، والذي يدل على صحة هذا ما قدمنا من الأخبار الصحاح: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وغير ذلك من الأخبار الصحاح.
وأيضاً فإن القرآن نطق بذلك فإنه قال في أول هذه الآية: "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين". فصح أن لا شفاعة لهم لأجل كفرهم، وصارت في النار، وجداً لهم لأجل كفرهم وصارت الآية إلى آخره حجة عليهم، إلا أن الله تعالى أخبر أن ثم شفاعة، وأنتم تقولون أن لا شفاعة؛ غير أنه تعالى أخبر أنها لا تنفع للكافرين، فدل على أنها تنفع المؤمنين.
فإن قيل: ما تقولون فيمن حلف بالطلاق الثلاث أنه يفعل فعلاً ينال به شفاعة الرسول عليه السلام، ويستحق به شفاعة الرسول، أو قال: أفعل فعلاً يجوز أن يشفع لي فيه الرسول مما أستحق من العقاب بماذا تأمرونه؟ أتأمرونه بالمعصية أم بالطاعة؟. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أنا نقول نأمره بالتمس بالتوحيد والإيمان دون فعل الذنوب، لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا كما أن زيداً يشفع في ذنب صديقه، أو قريبه، أو حبيبه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال أنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب أو الخطأ الذي أخطأ، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة أو القرابة المتقدمة أو السؤآل المتقدم، لا نفس الذنب، ونأمره أيضاً بفعل الطاعات حتى ينال بذلك شفاعة الرسول عليه السلام في الزيادة له من البر والنعيم ونحو ذلك.
الجواب الثاني: أنا نعارضكم بمثل هذا: لا تجدون أنتم عنه محيصاً، فنقول لكم: ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى: "يحب التوابين. ويحب المتطهرين" فحلف رجل بالطلاق الثلاث ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة أو الاستغفار حتى يتوب منه ويستغفر، ما تأمرونه؟ فإن قالوا: نأمره بالطاعة، وفعل الخير. قلنا لهم هذا لا يصح؛ لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة أو الاستغفار من فعل الطاعة والخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية ولكن إن ابتلى بشيء من ذلك قلنا له قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضاً نقول لمن حلف ليفعلن فعلاً، يجوز أن يشفع فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول عليه السلام، نقول له تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول، لا أنا نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.
رؤية الله تعالى
اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة من جهة العقل، وهي واجبة للمؤمنين في الآخرة من طريق الشرع، وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه، وإنما ختمنا بها لأنها أعلى الأشياء وأجلها، وبها يختم للمؤمنين المصدقين لها حتى يستحقروا كل نعيم في جنبها، جعلنا الله من أهلها بمنه وفضله، إنه جواد كريم.
اعلم أن أهل السنة والجماعة قد جوزوا الرؤية على الله تعالى شرعاً وعقلاً بلا خلاف بينهم على الجملة، وإنما وقع الخلاف بينهم هل يكون ذلك ويجوز في الدنيا أم ذلك في الآخرة خاصة.
فكل الصحابة أجمعوا ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الجنة، يراه المؤمنون بلا خلاف في ذلك. واختلف الصحابة في الرسول عليه السلام هل رآه ليلة المعراج بالقلب أو بعيني الرأس على قولين: فكانت الصديقة عائشة رضي الله عنها في جماعة من الصحابة يقولون: رآه بقلبه دون عيني رأسه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون: إنه ﷺ رآه ليلة المعراج بعيني رأسه. ونحن نقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما، فإذا تقرر هذا: فإن المعتزلة، والنجارية، والجهمية، والروافض. والخوارج: الكل منهم ينكرون الرؤية ولا يجوزونها بوجه، حتى قالوا: ولا يرى ولا يرى هو نفسه. وقد قدمنا الأدلة على صحة الرؤية وجوازها فيما تقدم، ولا بد أن نذكر ها هنا طرفاً من الأدلة أيضاً يؤكد ما تقدم ويقويه إن شاء الله. ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع ممن يعد إجماعه إجماعاً، ودليل العقل.
فمن أدلة الكتاب قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: "رب أرني أنظر إليك" وهذا السؤال إنما كان من موسى بعد النبوة، والبعثة، والرسالة، لأن الله تعالى قال: "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك" ولا يخلو سؤال موسى عليه السلام هذا السؤال بعد النبوة والكمال من أحد أربعة أوجه: إما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه، أو مع علمه باستحالتها على ربه، أو سألها وهو شاك في ذلك، أو سألها وهو ذاهل العقل لا يتفهم شيئاً. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه بأنه يستحيل على ربه، لأن من المحال أن يسأل النبي الكريم ربه ما يستحيل في حقه، ولا يجوز عليه كما يستحيل في حقه سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يكون سأل ذلك وهو شاك جاهل حكم هذه المسألة أو ذاهل لا يدري، لأن هذه المسألة من مسائل أصول الدين، وكيف يجوز على النبي الكريم عليه السلام الشك فيها أو الذهول، أو غفلة القلب عنها. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق إلا أنه عليه السلام سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه وتعالى. فإذا اعتقد النبي الكريم جوار الرؤية لم يخل من أن يكون مصيباً أو مخطئاً، ولا يجوز أن يخطىء النبي الكريم في اعتقاده، فلم يبق إلا أنه أصاب، وهذا التقرير لا مخرج للمخالف عنه بوجه ولا سبب. فافهمه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون موسى لم يسأل الرؤية، وإنما سألها قومه وسألوه أن يسألها لهم، أما أن يكون هو سألها لنفسه فلا.
فالجواب: أن هذا تعلل لا ينفعكم ولا ينجيكم مما قررنا وحققنا في اعتقاد موسى عليه السلام جواز الرؤية؛ وذلك: أن موسى عليه السلام لو كان يعتقد استحالة جواز الرؤية لكان قد أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار وجهلهم بذلك غاية الجهل. ولم يساعدهم على ذلك. ولا سأل ما جهلهم عليه، ولما ساعدهم كما فعل لما قالوا: "يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون" ولم يسأل ربه أن يجعل لهم إلهاً، لأنه عليم عليه السلام استحالة ذلك. فكيف يسأل له أو لهم الرؤية مع اعتقاده استحالة ذلك عليه سبحانه وتعالى، فلم يبق إلا ما قلناه.
جواب آخر: وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل، لأنه قال "أرني أنظر إليك" فلا يحمل أرني أنظر، على قومي ينظرون إليك، فبطل ما قالوه، وصار هذا بمنزلة قول من قال: قوله أي "أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني" أي اعبد غيري، وهذا لا يجوز، فبطل قولهم.
فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى: "لن تراني" فنص على أنه لا سبيل إلى ما سأله، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا لا يمنع من جواز الرؤية، لأن قوله لن تراني إنما تضمن عدم وجود الرؤية عند السؤال، لا استحالة الرؤية على ما قررنا، ولو أراد استحالة الرؤية لقال: لن يجوز أن تراني. وقد لا يوجد الشيء ولا يدل على استحالته، ألا ترى أن أحداً لو سأل نبي زمانه أن يسأل ربه أن يرزقه ولداً، فسأل نبي ذلك الزمان، فأوحى الله تعالى لن يرزق هذا السائل ولداً، هل يدل ذلك على أنه لا يجوز وجود الولد في حق هذا السائل، ويستحيل، بل هو جائز وإن منع من وجوده عقب السؤال، على أن حرف لن لا يقتضي عدم جواز الرؤية في الدنيا والآخرة. ولو قرن بأبد. ألا ترى أنه تعالى قال في حق اليهود: "ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم" يعني الموت ولم يقتضي ذلك أن لا يتمنوه في الدنيا والآخرة، لأنه أخبر تعالى أنهم يتمنون الموت في النار بقوله: "ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك" يعنون الموت، فإذا كان حرف لن مع اقتران أبد به لا يقتضي نفي ذلك في الدنيا والآخرة، فكيف به إذا لم يقرن به أبد، وأيضاً الجواب يجوز فيه الاستثناء، بأن كان يقول: لن تراني في الدنيا ولن تراني إلا وقت كذا وكذا، كما قال أخو يوسف عليه السلام: "فلن أبرح الأرض" ثم استثنى "حتى يأذن لي أبي أو يحكم اللّه لي" فصح أن حرف لن لا يحيل عليه جواز الرؤية، وإنما توجب أن لا توجد الرؤية في هذا الوقت دون جوازها فصح ما قلناه. والجواب الثاني: أن الله تعالى علق جوز الرؤية على أمر جائز، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد، وهو استقرار الجبل، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دل على أن الرؤية جائزة.
فإن قيل: أليس قد قال موسى عليه السلام: "تبت إليك" قالوا: والتوبة إنما تكون من الخطأ، فلما عم عليه السلام أنه أخطأ تاب، فالجواب من أوجه: أحدها: أن موسى عليه السلام لما رأى عظيم الآية من جعل الجبل دكا، وصعوقه، قال على جاري العادة من القول عند الفزع "تبت إليك" وإن لم يكن سؤاله مستحيلاً، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع الصوت الرعد العظيم، أو رأى الظلمة العظيمة، أو أمراً هائلاً فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.
وجواب آخر: وهو أنه يحتمل أن موسى عليه السلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس، فجدد التوبة منها وأكدها، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.
جواب آخر: يحتمل أن يكون قال: تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه، أو سافر فلقى في سفره ما أتعبه وشق عليه يقول: أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزاً غير محرم. ولا مستحيل، وكذلك مسألتنا مثله. جواب آخر: يحتمل أن يكون قال: "تبت إليك" من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه، حتى يؤذن لي في السؤال، ولهذا قيل عن موسى عليه السلام: إنه تأدب بعد ذلك، فقال: يا رب أسألك في جميع أموري؟ قال: نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.
جواب آخر: وهو أن موسى عليه السلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة، وأن لا يتقدم على نبينا ﷺ في الرؤية، فكأنه قال: تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح، لأن التوبة هي الرجوع، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك. ويدل على صحة ما قدمناه من قوله تعالى. "وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة" وقوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وقوله: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" والحجب للكفار عن رؤيته عذاب. فدل على أن المؤمنين غير محجوبين، ولا يعذبون بعذاب الحجاب. فاعلم ذلك.
ويدل على ذلك أيضاً الأخبار التي قدمنا ذكرها عند سؤال الصحابة مع قوله عليه السلام في دعائه إنه قال: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضر أو مضر ولا فتنة مضلة وهذا أيضاً تصريح من الرسول عليه السلام في جواز الرؤية، وأنها غير مستحيلة، لأنه لا يسأل ﷺ في أمر مستحيل، لا سيما بعد تقدم موسى عليه السلام في سؤال الرؤية، وما كان منه، فلو كانت غير جائزة أو مستحيلة لما سألها ﷺ، فلما سألها دل على الجواز، وبطل ما قال أهل العناد. وبالله التوفيق. ويدل على صحة جواز الرؤية إجماع الصحابة على جوازها في الجملة، وإنما اختلفوا هل عجلها لنبيه ﷺ ليلة المعراج أم لا؟ على قولين، ولو لم يقع الاتفاق منهم على جوازها، لما صح هذا الاختلاف، فما وقع هذا الاختلاف فقال بعضهم: عجل ذلك له في الدنيا قبل الآخرة. وقال البعض: لم يرد دليل على الجواز في الجملة وأنه متفق عليه، وإلا كان يقول لمن قال بأنها لم تعجل: فكيف تجوز الرؤية وهي مستحيلة عليه، فلما لم يقل ذلك أحد منهم دل على إجماعهم على جوازها. فاعلم ذلك. ويدل على ذلك من جهة العقل: أنه تعالى موجود، والموجود لا يستحيل رؤيته، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضاً فإنه تعالى يرى جميع المرئيات، وقد قال تعالى: "ألم يعلم بأن اللّه يرى" وقال. "الذي يراك" وكل راء يجوز أن يرى؛ ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم، لأنه تعالى فصل بين الأمرين، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر، ألا ترى أنه سمى نفسه عالماً، وسمى نفسه مريداً، ولا أن نحمل الإرادة على العلم، كذلك لا نحمل الرؤية على العلم. فاعلمه.
جواب آخر: وهو أن الصحابة سألوا الرسول عليه السلام: هل نرى ربنا؟ فقال: نعم ولا يجوز أن يكون سؤالهم: هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا؛ فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم، ولهذا أجاب ﷺ: سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب يعني لا تشكون في رؤيته كما لا يشك من رأى القمر والشمس فيها، فشبه الرؤية بالرؤية في نفي الشك عن الرائي، ولم يشبه المرئي بالمرئي. فاعلم ذلك.
فصل
في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها، وأخبار، وشبه في نفي الرؤية. فإن احتجوا بقوله تعال: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قالوا: فأخرج ذلك مخرج التمدح، كما تمدح بقوله تعالى: "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد" فكيف يجوز أن يزول عن مدحته، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة: أحدها: أن يقال لهم: ما أنكرتم على قائل يقول لكم، لا حجة لكم في ذلك، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى: "وهو يدرك الأبصار" لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار، ولا يوجب كون ذلك مدحة له، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار، وليست بممدوحة، لأنها لا تدركها الأبصار. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون متمدحاً بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه؟ قيل لهم: لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى: "عزير حكيم" و "عليم قدير" فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه، تجدد أو انضم إلى غيره، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحاً له عندنا وعندكم بطل ما قلتم. جواب آخر: وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله: "وهو يدرك الأبصار" فحسب، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود، قادر على الرؤية، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له، بأن يحدث في أبصارنا مانعاً يمنعنا من رؤيته؛ فالمدح وقع بكونه قادراً على ذلك دون غيره من الخلق، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محيياً مميتاً، أي لا يقدر على ذلك غيره، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعاً في البصر من الإدراك، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف، ولا شبه، ولا تحديد. فاعلم ذلك. جواب آخر: وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية، لأن البصر عندهم عرض؛ فلا يدرك عند البغداديين منهم: أنه تعالى لا يرى شيئاً، إنما المراد بالإدراك العلم، فهو يعلم الأبصار عندهم، والأبصار لا تعلمه، فبطل احتجاج الجميع منهم بهذه الآية، لأن عندهم لا يراد بالإدراك الرؤية، فلا يصح لهم الاحتجاج بها في نفي الرؤية.
جواب آخر: وهو أن الآية لا حجة فيها، لأنه قال: "لا تدركه الأبصار" ولم يقل لا تراه الأبصار، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية، لأن الإدراك: الإحاطة بالشيء من جميع الجهات، والله تعالى لا يوصف بالجهات، ولا أنه في جهة، فجاز أن يرى وإن لم يدرك، وهذا كما قال تعالى في قصة اللعين فرعون: "حتى إذا أدركه الغرق" يعني أحاط به من جميع جوانبه، فالغرق لا يوصف بأنه يرى، وإنما يوصف بأنه أحاط بالشيء. كذلك المؤمن يوصف بأنه يرى ربه ولا يدركه بالإحاطة، وهذا كما نقول: إنا نعلم ربنا، ولا نقول إنا نحيط بربنا، فكما كانت الإحاطة معنى يزيد على العلم كذلك الإدراك معنى يزيد على الرؤية، وهذا صحيح. لأنا نجمع بين قوله تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا اللّه" وبين قوله: "ولا يحيطون به علماً" ونجمع بين قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" وبين قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار" فنقول: معلوم ولا يحاط به، ومرئي ولا يدرك. فصح ما قلناه، وبطل قول الغير.
جواب آخر: أن معنى الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا، وإن جاز أن تدركه في الآخرة، ليجمع بين قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار" وبين قوله تعالى: "إلى ربها ناظرة".
جواب آخر: "لا تدركه الأبصار" يعني أبصار الكفار دون المؤمنين، ليجمع بين قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" وبين قوله تعالى: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" وهذا صحيح؛ لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.
جواب آخر: وهو أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا والآخرة؛ لأن هذه الأبصار جعلت للفناء، وإنما يحدث لهم بصراً غير هذا البصر، ويكون باقياً غير فان فيرى الباقي بالباقي، وقد قيل: إنه تعالى يحدث لأوليائه حاسة سادسة غير هذه الحواس الخمس يرونه بها. وقال هذا القائل: الله أخبر في كتابه العزيز: أنه يراه أهل الجنة، وخبره حق لا يدفع بالشبهة، ولا يمكن الجمع إلا بما قلناه من إحداث حاسة يرى بها الله تعالى، دون هذه الحواس. والله أعلم بالصواب.
جواب آخر: وهو أن يحمل "لا تدركه الأبصار" على أنها لا تدركه في جهة، ولا تدركه جسماً ولا صورة ولا متحيزاً ولا حالاً في شيء "وهو يدرك الأبصار" على جميع هذه الصفات، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى.
فإن احتجوا بقوله تعالى: "يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللّه جهرة" فأكبر الله هذا السؤال فأنكره.
قيل لهم: لا حجة لكم في ذلك، لأن الله تعالى ما أكبر ذلك لكونه مستحيلاً، وإنما أنكره لأنهم سألوه ذلك على وجه التعنت، ألا ترى أنه أنكر عليهم سؤالهم تنزيل الكتاب من السماء، وليس ذلك بمستحيل، وإنما أنكروا استكباراً وتعنتاً منهم لمحمد ﷺ وتشكيكاً للناس في نبوته؛ لأن عندهم التوراة، والإنجيل، والفرقان، وكل ذلك منزل من عند الله، وإنما أرادوا بذلك التلبيس على العوام، حتى لا يصدقوا بنبوته ﷺ، وتركوا ما أوجب الله عليهم من الإيمان به في التوراة والإنجيل، كما قال تعالى: "الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل" فإكباره تعالى سؤالهم ذلك لأجل هذه المعاني لا يكون ذلك مستحيلاً. وهذا كما أنكر تعالى سؤال قريش لما قالوا: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو ترقى في السماء" وكل ذلك جائز غير مستحيل، لكن أنكره عليهم وأكبره لما كان ذلك على وجه التعنت والتكذيب، لما قد وضح من آياته وحججه، وكذلك أنكر سؤالهم الرؤية لموسى عليه السلام على وجه التعنت، لا لكونها مستحيلة.
فإن احتجوا بالخبر المروي عن عائشة رضي الله عنها لما قال لها ابن الزبير وهو ابن أختها يا أماه: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: يا ابن أختي لقد قف شعر بدني، والله تعالى يقول: "وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء" قالوا: فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى؛ فدل أن ذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى. الجواب من أوجه: أحدها: أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمداً رأى ربه ليلة أسرى به بعيني رأسه، ولو كان ذلك مستحيلاً لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة، كما لم يقع بينهم الخلاف في ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة والشريك ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف في ذلك وانقرض عصرهم على ذلك، دل على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.
وجواب آخر: وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما خالفت فيما رأى به محمد ربه، فعندها رآه بالقلب دون العين، وعند غيرها من الصحابة رآه بالقلب والعين معاً، فقد وقع الإجماع منهم على جواز الرؤية عليه تعالى، وإنما اختلفوا فيما به رآه، لا أصل جواز الرؤية عليه، لأن رؤية النبي ﷺ رؤية حقيقية لا رؤية مجاز، بخلاف الواحد منا، لأن رؤيته بالقلب قد تكون حقيقة وقد تكون تخيلاً ومجازاً، ولهذا قال ﷺ: تنام عيناي، ولا ينام قلبي وقال عليه السلام: إني أراكم من وراء ظهري ورؤية الأنبياء عليهم السلام حقيقة بالقلب والعين.
دليله: قصة إبراهيم عليه السلام: "إني أرى في المنام أني أذبحك، قال يا أبت افعل ما تؤمر" فصح أن الإجماع قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم في جواز الرؤية على الله تعالى، وإن وقع الخلاف بما رآه الرسول عليه السلام ليلة الإسراء، فصار ذلك حجة على المخالف لا له.
جواب آخر: وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت رؤية الباري بأبصار العيون في دار الدنيا، لا على الإطلاق، ولهذا روى عن أبيها وعنها رضي الله عنها وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قالوا: الزيادة النظر إلى الله تعالى في الجنة، وقد روى هذا مرفوعاً عن الرسول ﷺ، فصح مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى، وبطل شبه المخالف واندحض مكره. ولله المنة والحجة البالغة.
فإن احتجوا فقالوا: لو جاز عليه سبحانه وتعالى الرؤية بالأبصار لوجب أن يكون جسماً، أو جوهراً، أو عرضاً، أو محدوداً، أو حالاً في مكان، أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين. أو عن شمال، أو يكون من جنس المرئيات؛ لأننا لم نعقل مرئياً بالبصر إلا كذلك، فلما استحال عليه جميع هذه الوجوه بطل أن يكون مرئياً، أو يجوز عليه الرؤية، وهذا في تصورهم الفاسد من أعظم الحجج عندهم في نفي الرؤية عنه سبحانه وتعالى، وهي عند أهل السنة والجماعة من أسقط الحجج فليس هو اليوم مرئياً لخلقه ومدركاً لهم، ولا تجوز الإشارة في وصفه تعالى.
فالجواب أن نقول لهم: هذه الحجة الباطلة تؤدي إلى إبطال الربوبية أصلاً ورأساً، أو تؤدي إلى إيجاب كون ربنا تعالى يشبه المخلوقات، لأن من أنكر الصانع القديم يقول لنا: لو كان لنا صانعاً لوجب أن يكون جسماً، أو جوهراً، أو عرضاً، أو ذا علة وطبع وآلة، وغير ذلك؛ لأنا لم نعقل صانعاً إلا على هذه الأوصاف، وأنتم تنفون عنه جميع هذه الأوصاف، فبطل أن يكون ثم صانع، بل تصنع نفسها أو يصنعها من هو على هذه الأوصاف، وكذلك نقول: في العلم والحياة، لأن العالم، والحي، لا يعقل إلا جسماً، أو جوهراً، أو عرضاً، أو ذا علة أو فكر، أو روية وغير ذلك. وقد وقع الإجماع منا ومنكم أنه عالم، وأنه حي، وأنه معلوم بالقلب، وأنه موجود؛ ثم كونه عالماً ومعلوماً، وموجوداً يصح وصفه بجميع ذلك، وإن لم يكن جسماً، ولا جوهراً، ولا عرضاً، ولا ذا علة، ولا محدوداً ولا حالاً في مكان، بخلاف العالم منا، والمعلوم منا، والموجود منا. فكذلك لا يستحيل أن يكون مرئياً وليس ذا جسم ولا جوهر ولا عرض، فبطل زعمكم وصح الحق وظهر أمر الله وأنتم كارهون. فإن احتجوا فقالوا: لو كان تعالى مرئياً، أو تجوز عليه الرؤية لرأيناه الساعة لأن الموانع من الرؤية يستحيل وصفه بها؛ لأنه لا يوصف بالدقة والرقة، والحجاب والبعد، وكل مانع من الرؤية. فلو جاز أن يكون مرئياً لرأيناه الساعة لانعدام هذه الموانع في حقه. فالجواب: أن جميع ما ذكرتم لا يمنع من الرؤية، لأن الملائكة فيهم من الدقة، واللطافة، ما ليس في غيرهم، وبعضهم يرى بعضاً، والميت يراهم عند النزع، والرسول كان يرى جبريل عليه السلام، فبطل أن تكون الدقة، والرقة، واللطافة، مانعة من الرؤية. وكذلك البعد لا يمنع الرؤية، لأن السماء أبعد الأشياء منا والكواكب فيها، لأن بيننا وبينها خمسمائة عام، ونحن نراها، ولم يمنعنا بعدها من رؤيتها، وكذلك الحجاب لا يمنع من الرؤية؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت التحت، ودونه ألف ألف حجاب عند الخلق. وكذلك الهدهد يرى الماء من تحت الأرض ودون حجاب وحجاب، فبطل أن يكون جميع ما ذكرتم هو المانع من الرؤية، حتى يجب أن نراه الساعة.
فإن قيل: فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى؟ قلنا: إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض، فإذا خلق فينا إدراكاً رأينا مرئياً لم نكن نراه من قبل؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه، ويراه إذا نزل به، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكاً له عند موت غيره، وخلق في بصره إدراكاً له عند موته. وكذلك الفرس، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده، ونحن لا نرى ذلك؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكاً حتى رأت، ولم يخلق في أبصارنا إدراكاً حتى نرى، كما ترى؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكاً له في الدنيا حتى نراه، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكاً حتى نراه، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.
فإن قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فجوزوا أن يخلق الله لكم إدراكاً ترون به ذرة، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا: هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى، ولهذا كان أصحاب رسول الله ﷺ خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة والنار، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط، وهما من أعظم المخلوقات، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه ﷺ، ولون ثوبه مع صغر ذلك، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما أرى، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليه السلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئاً من الجنة والنار، أو ما هو على صورهما، يخلق منهما إذا خلقتا، واختص هو ﷺ برؤية ما لم يره أصحابه، وإن كانوا يرون الذرة لو دبت على قميصه ﷺ، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا: أن بعض الخلق يدرك صوتاً خفياً جداً، ولا يدرك صوتاً عالياً جداً، وإن وجد الصوتان في وقت واحد، ومسافة واحدة، وقد رأينا ذلك عياناً؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل فأخفى صوته غاية الإخفاء، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي، ولم يدرك الصوت العالي؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة، ويخلق فيها مانعاً من إدراك الفيل الكبير "واللّه على كل شيء قدير".
فإن قيل: فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية، لأن ذلك جائز في المقدور، أو نشك في ذلك، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.
الجواب: أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى، ولا نشك فيه، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار، ونشك في ذلك؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم، وكذلك أيضاً من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلاً لا من ذكر ولا من أنثى، ثم لا يجب علينا أن نجوز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه، فكذلك ما قلتم، وكذلك أيضاً يجوز في مقدور تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه، فكذلك ما قلتم؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا، أو نشك فيه؛ فبطل ما قلتم، وصح الحق.
فإن احتجوا فقالوا: لو جاز أن يكون مرئياً لجاز أن يقال: يرى كله أو بعضه. فالجواب: أن هذا محال من القول؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض، والله تعالى منزه عن الوصف بالكل والبعض، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا: لو كان معلوماً لجاز أن نقول: نعلم كله أو بعضه، فنقول له: لا نقول نعلم كلاً ولا بعضاً، بل نقول نعلم واحداً أحداً فرداً صمداً: "ليس كمثله شيء" فكذلك نقول: نرى واحداً أحداً فرداً صمداً ليس كمثل شيء وهو السميع البصير.
فإن قيل: لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقضت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون، ولا يجوز أن تتناقص أحوال أهل الجنة.
فالجواب: أن الأمر ليس على ما يقع لكم، لأن تناقص الأحوال أن يريد المرء حالة عالية فيبقى في حالة ناقصة، أو يريد ملاذاً فلا يصل إليها، عالية كانت أو دون ذلك، فأهل الجنة بحمد الله تعالى قد تكاملت حالتهم، إذ كانوا بحيث إذا شاؤا رأوا ربهم، وإذا شاؤا اشتغلوا بملاذهم، ولا يكون ذلك نقصاً في أحوالهم، ولا يلزم على هذا التقرير أن يقال: فهذا نقص في حق أهل الجنة إذا شاؤا الخلوة بالتلذذ عن رؤية ربهم تعالى. قيل هذا يلزمكم أنتم دوننا، لأنا نحن نقول: هم "لا يشاؤن إلا ما شاء اللّه لهم" فهم به وله في كل أحوالهم، فإذا شاء لهم الرؤية شاؤوها وتلذذوا بها، وإذا شاء لهم الخلوة شاؤوها وتلذذوا بها، ولا نقص عليهم في ذلك، ولا يلزم ما قلتم.
جواب آخر: وهو أن أهل الجنة يجتمعون بالنبي ﷺ، وينظرون إليه، والاجتماع به والنظر إليه أعلى من الاجتماع بالحور والقصور، والنظر إلى الحور والقصور، ثم يشتغلون بالحور والقصور بعد نظره ﷺ، وإن عادوا إلى قصورهم ونعيمهم، وإن كان نظره أعظم وأعلى من ذلك، فجاز مثل ذلك أيضاً في جواز رؤية الباري، وإن كانت أعلى الأشياء وأجلها، فثبت ما قلناه، وبطل التمويه بحمد الله. فإن قيل: إذا كان مرئياً فخبرونا ما هو؟. قيل لهم إن أردتم بقولكم: ما هو: أي ما صورته، وجنسه، وطوله، وعرضه إلى غير ذلك مما لا يجوز عليه، فليس بذي صورة ولا جنس ولا طول ولا عرض، وقد قدمنا الأدلة على أنه لا يشبه خلقه ولا يشبهونه. وإن أردتم بقولكم ما هو: ما اسمه؟ فاسمه: الله، الرحمن، الرحيم، الحي، القيوم، وإن أردتم بقولكم ما هو صنعه؟ فصنعه: العدل، والإحسان، والإنعام، والسموات والأرض وجميع ما بينهما، وإن أردتم بقولكم ما هو. ما الدلالة على وجوده؟. فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ أي أشيروا لنا إليه حتى نراه، ولم أنها لا تصح إلا في المسجد؟.....؟ جواب آخر: وهو أن هذه الأخبار تحمل على وجه التغليظ والمبالغة في الزجر، حتى يقف الناس عن هذه الأمور ولا يقدموا عليها، وهذا كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة. ولم يرد عليه السلام الإعراض عن الحكم أصلاً بين الجد والإخوة، فإنه قد حكم عدة نوب بقضايا مختلفة بين الجد والإخوة.
فإن قيل: فإذا كان مرئياً فكيف هو؟ قيل لهم: إن أردتم بقولكم كيف هو: على أي تركيب، أو على أي صورة هو، أو على أي جنس هو؟ فلا تركيب له، ولا صورة ولا جنس فنخبركم عن ذلك، وإن أردتم بقولكم كيف هو وعلى أي صفة هو؟ فهو قديم، حي، عالم، قادر، متكلم، سميع، بصير، مريد، وإن أردتم بقولكم كيف هو، كيف صنعه إلى خلقه.
فصنعه إليهم الإحسان، والعدل، والتفضل، والامتنان، فإن قيل إذا كان مرئياً فأين هو؟ قيل لهم إن أردتم أين هو في وصف المنزلة والرفعة والجلال فهو كما وصف نفسه بقوله تعالى: "وهو القاهر فوق عباده" وبقوله: "الرحمن على العرش استوى" وبقوله تعالى: "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله"، وبقوله تعالى: "إن ربك لبالمرصاد" قيل لهم: الأين سؤال عن مكان وليس هو مما يحويه مكان، لما قدمنا من الحجج والبراهين بحمد الله الملك المنان. وحسبي الله ونعم الوكيل.