☰ جدول المحتويات
- الكلام في الإمامة والمفاضلة
- الإمامة بعد الرسول
- فصل
- الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
- الاحتجاج بأن عليا أكثر الصحابة جهادا
- الاحتجاج بأن عليا أكثرهم علما
- قولهم إن عليا كان أقرأ الصحابة
- قولهم إن عليا أتقاهم
- قولهم إن عليا أزهدهم
- قولهم إن عليا أكثرهم صدقة
- قولهم إن عليا هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد وثنا
- قولهم إن عليا أسوسهم
- من فضائل أبي بكر
- تولية علي تبليغ سورة براءة
- الأحاديث في فضل أبي بكر
- المفاضلة بين عثمان وعلي
- رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة
- الكلام في حرب علي ومن حاربه من الصحابة رضي الله عنهم
- الكلام في إمامة المفضول
- الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله عدة للقائه
الكلام في الإمامة والمفاضلة
قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله ﷺ، حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم، وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
قال أبو محمد: وقول هذه الفرقة ساقط، يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. والقرآن والسنة قد وردا بإيجاب الإمام. من ذلك قول الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة. وأيضا فإن الله عز وجل يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم، وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن، إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافا مجردا عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة. وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد، فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعدا بينهما ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة. فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا بالإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ، إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا. وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم، إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك، وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك.
ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد، إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد. واحتج هؤلاء بقول الأنصار ومن قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. واحتجوا أيضا بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صوابا بل كان خطأ إذ أداهم إليها الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون، ولا بد إذ اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقا والآخر خطأ، وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله ﷺ قد قال: "إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما" وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع، وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا.
وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر ، فإن منع من ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ومدعيا بلا دليل، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد. وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عمل إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام، ويكون كل أحد إماما وخليفة في منزله، وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا. فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ قد رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه.
وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي ﷺ أنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق، فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه، فهو صاحب الحق بلا شك. وكذلك أنذر عليه السلام بأن عمارا تقتله الفئة الباغية، فصح أن عليا هو صاحب الحق، وكان علي السابق إلى الإمامة، فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ، فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد، ولا حجة في خطأ المخطئ، فبطل قول هذه الطائفة.
وأيضا فإن قول الأنصار رضي الله عنهم: "منا أمير ومنكم أمير" يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم، فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبدا، لا على أن يكون إمامان في وقت، وهذا هو الأظهر من كلامهم.
وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلّم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق. وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية. فإذا هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع أهل الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى، وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشيا كان أو عربيا أو ابن عبد، وقال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة قالوا وجب أن يقدم الحبشي لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة.
قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله ﷺ على أن "الأئمة من قريش" وعلى أن "الإمامة في قريش"، وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية، وروى جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها.
ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم، ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله ﷺ على أن الحق لغيرهم في ذلك.
فإن قال قائل أن قول رسول الله ﷺ: "الأئمة من قريش" يدخل في لك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله ﷺ: "مولى القوم منهم ومن أنفسهم" و "ابن أخت القوم منهم".
فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت، فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت، فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشيا صح بالإجماع أن حليف قريش مولاهم وابن أختهم لا حق لهم في الخلافة لإجماع الأمة كلها على أن حكمهم كحكم من ليس قرشيا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما، قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق فيقال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان، فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام.
فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمي بالإمارة كل من ولاه رسول الله ﷺ جهة من الجهات أو سرية أو جيشا وولاه مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين.
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا قائما فهو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم، فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذبا لأن هذه اللفظة تقتضي عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس بحوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقا ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالا قتالهم وحربهم، وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضا إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق.
واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش، فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة، وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية، وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي بن أبي طالب، وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب. وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس. وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة لا وجه لها، وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده، وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به، لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عاصب رسول الله ﷺ ووارثه فإذا كان ذلك كذلك فقد ورث مكانه.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد. ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاه رسول الله ﷺ مكانا ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه، وهذا ما لا يقولونه. فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله ﷺ قال: "لا نورث ما تركناه صدقة".
فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل: {وورث سليمان داود} وبقوله تعالى حاكيا عن زكريا عليه السلام أنه قال: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا}.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه لأن الرواة حملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم أن داود عليه السلام كان له بنون غير سليمان عليه السلام فصح أنه ورث النبوة وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه السلام ولي مكان أبيه عليهما السلام وليس له إلا اثنتي عشرة سنة ولداود أربعة وعشرون ابنا كبارا وصغارا. وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام. وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه السلام {يرثني ويرث من آل يعقوب} وهم مئوا ألوف لكل سبط من أسباطهم عصاب عظيمة، فصح أنه إنما رغب ولدا يرث عنه النبوة فقط.
وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا عليه السلام في ولد يحجب عصبته عن ميراثه، فإنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها، وقد نزه الله عز وجل عن ذلك أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وبرهان ذلك أنه عليه السلام إنما طلب الولد إذ يرى أن ما آتاه الله عز وجل مريم عليها السلام التي كانت في كفالته من المعجزات قال تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} إلى قوله {إنك سميع الدعاء} وعلى هذا المعنى دعا فقال: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا}.
وأما من اغتر بقوله تعالى حاكيا عنه عليه السلام أنه قال: {وإني خفت الموالي من ورائي}، قيل له: بطلان هذا الظن أن الله تعالى لم يعطه ولدا يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولدا حصورا لا يقرب النساء، قال تعالى: {وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} فصح ضرورة أنه عليه السلام إنما طلب ولدا نبيا لا ولدا يرث المال. وأيضا فلم يكن العباس محيطا بميراث النبي ﷺ وإنما كان يكون له ثلاثة أثمان فقط. وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حيا قائما إذ مات النبي ﷺ فما ادعى العباس لنفسه قط في ذلك حقا لا حينئذ ولا بعد ذلك، وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها. فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به. والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرضون لأنفسهم بهذه الدعوة ترفعا عن سقوطها ووهيها وبالله تعالى التوفيق.
وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين. فطائفة قالت إن رسول الله ﷺ نص على علي بن أبي طالب أنه الخليفة وإن الصحابة بعده عليه السلام اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي ﷺ، وهؤلاء المسلمون الروافض. وطائفة قالت لم ينص النبي ﷺ على علي لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وأحقهم بالأمر. وهؤلاء هم الزيدية، نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ثم اختلف الزيدية فرقا. فقالت طائفة إن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة، وهم الجارودية. وقالت أخرى إن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإنهما إماما وهدى، ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم. وذكر طائفة أن هذا مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمداني.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، وقد رأيت الهشام بن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر الحسن بن حي وأن مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر بن مالك.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره فإنه كان أحد أئمة الدين. وهشام بن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك لأن هشاما كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده. والحسن بن حي رحمه الله يحتج بمعاوية رضي الله عنه وبابن الزبير رضي الله عنهما وهذا مشهور عنه في كتبه وروايات من روى عنه. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه.
وقالت الروافض الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين، وادعوا نصا آخر من النبي ﷺ عليهما بعد أبيهما ثم علي بن الحسين لقول الله عز وجل: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} قالوا: فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن علي بن الحسين ثم جعفر بن علي بن الحسين، وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود الحواري وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق وأبي ملك الحضرمي وغيرهم. ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر، وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل، وقالت طائفة جعفر حي لم يمت، وقال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي بن موسى ثم علي بن محمد بن موسى ثم الحسن بن علي، ثم مات الحسن غير معقب فافترقوا فرقا ، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه، وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر، وقال بعضهم بل من جارية له اسمها نرجس، وقال بعضهم من جارية له اسمها سوسن. والأظهر عندهم أن اسمها صقيل، لأن صقيل هذه ادعت الحمل بعد موت الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعها في ذلك أخوه جعفر بن علي، وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل وأخذ الميراث جعفر أخوه. وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين، وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها. وقد عير عمر بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر، فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة من مائة عام وثمانين عاما.
وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين محمد أخوه المعروف بابن الحنيفة. ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعران. وكانوا يقولون إن محمد ابن الحنفية حي بجبل رضوى. ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف.
قال أبو محمد: وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.
قال أبو محمد: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها ولا معنى لاحتجاجهم علينا بروياتهم فنحن لا نصدقها، وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه، لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير الخصم حينئذ مكابرا منقطعا إن ثبت على ما كان عليه. إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها.
الاحتجاج بحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى
منها قول رسول الله ﷺ لعلي رضي الله عنه: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب له فضلا على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله ﷺ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة. وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون نبيا ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله ﷺ بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط. وأيضا فإنما قال له رسول الله ﷺ هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون: استثقله فخلفه، فلحق علي برسول الله ﷺ فشكى ذلك إليه فقال له رسول الله ﷺ حينئذ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختارا استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضا مختارا لاستخلافه. ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالا سوى علي رضي الله عنه، فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
قول الإمامية لا بد من إمام معصوم
قال أبو محمد: وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا لا بد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع علم الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.
قال أبو محمد: هذا لا شك فيه، وذلك معروف ببراهينه الواضحة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺ إلينا تبيان دينه الذي ألزمنا إياه ﷺ، فإن كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته ﷺ إلى يوم القيامة من جن وإنس. قال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} فهذا نص ما قلنا وإبطال اتباع أحد دون رسول الله ﷺ.
وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لينفذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عبد فقط، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤنه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله ﷺ. ووجدنا عليا رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق، فإن كان علي أصاب في ذلك فهو قولنا، وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه، ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام لقال علي حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله ﷺ؟.
فإن قالوا: إذ مات رسول الله ﷺ فلا بد من إمام يبلغ الدين، قلنا: هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته. وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله ﷺ بيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده، إذ ليس في شخصه ﷺ إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين، فالمراد منه عليه السلام كلام باق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض. وأيضا فلوا كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا لانتقض ذلك عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض، إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله، فلا بد من التبليغ عن الإمام، فالتبيلغ عن رسول الله ﷺ أولى بالاتباع من التبليغ عمن هو دونه، وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد: لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم وما حكموا على قرية فما فوقها بحكم، فما الحاجة إليهم؟ لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاما فإنهم يدعون إماما ضالة لم يخلق كعنقاء مغرب، وهم أولو فحش وقحة وبهتان ودعوى كاذبة لا يعجز عن مثلها أحد. وأيضا فإن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي ﷺ على كل إمام بعينه واسمه ونسبه، وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء. ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل الغث البارد السخيف الذي ترتفع عقول الصبيان عنه. وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله ﷺ مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله ﷺ نص عليه ولا ادعى ذلك علي قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده. ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب أكثرهم موتور في صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهد عهده رسول الله ﷺ إليهم. وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى إلا رواية واحدة واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى بالحمراء لا يعرف من هو في الخلق. ووجدنا عليا رضي الله عنه تأخر عن البيعة ستة أشهر فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مراجعا غير مكره، فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكى أن يبايع طائعا رجلا إما كافرا وإما فاسقا جاحدا لنص رسول الله ﷺ ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات، ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره بل طائعا وصحبه وأعانه على أمره وأنكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال، فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة وكفر ويغر الأمة هذا الغرور؟ وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ما لا يتم الدين إلا به.
قال أبو محمد: ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد شجاعة قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله ﷺ مرات ثم يوم الجمل وصفين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟ وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله ﷺ إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه، فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة؟ وأظرف من هذا بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر فما سألها ولا أجبر عليها ولا كلفها وهو يتصرف بينهم في أموره، فلولا أنه رأى الحق فيها واستدرك أمره فبايع طالبا حظ نفسه في دينه راجعا إلى الحق لما بايع. فإن قالت الروافض أنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقا لا ما فعل علي رضي الله عنه.
ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهدا من عهودهم. ولو كان ذلك عنده باطلا لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه وقد ارتفعت التقية عنه. وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنهم ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس معه أحد غير الزبير بن العوام، ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعا وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع من لقائه، فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته، أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه.
فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفسخ للوعيد ولا سلاح مأخوذ، ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقو ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر والروم بمؤتة وغيرها ولكسرى والفرس تنصرهم من يخاطبهم يدعو لهم ويدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه، هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب، فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال فرجعوا إليه وهو عندهم مبطل وبايعوه بلا تردد ولا تطويل. وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف ولا ظهور الحق إليهم، فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه بل فيما فيه ترك العز والدنيا والرياسة وتسليم كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال. فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة من بني هاشم وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما وعن منعه وزجره. بل قد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وإن من خالفه على الباطل فأذعن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة، كذلك الأنصار رضي الله عنهم. وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن عليا والأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنهم لبرهان حق صح عندهم عن النبي ﷺ لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم، فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي ﷺ على إمامة علي؟ ومن المحال أن تتفق آرائهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة. ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال إنه قد كان وإن الناس كلهم نسوه، وفي هذا إبطال الحقائق كلها. وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع إلى الروافض أمره ومن بلغه إليهم؟ وكل هذا عن هوس ومحال. فبطل أمر النص على علي رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين.
فإن قال قائل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله ﷺ فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة ولذلك انحرفوا عنه.
قيل لهم هذا تمويه ضعيف كاذب لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا واحدا وهو عمرو بن ود وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عقبة والعاص بن سهل بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد. فقد علم كل من له أقل من علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منها يوم السقيفة حل ولا عقد ولا رأي ولا أمر. اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي في ذلك الوقت عصبية للقرابة لا تدينا، وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي مائلين إلى الأنصار تدينا، والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه. وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصة عثمان وبعدها حتى قتله معاوية على ذلك. فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة أو من عدي بن كعب حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه، ثم أخبرونا من قتل من الأنصار أو من جرح منهم أو من آذى منهم، ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وإيثار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر وعمر عليه والمسارعة إلى بيعته بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يرونه غدوا وعشيا لا يحول بينهم وبينه أحد؟ ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب أولاد المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمن وقضاعة حتى يتفقوا كلهم على كراهية ولايته ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه. إن هذه لعجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا.
ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل. ولقد كان لأبي بكر رحمه الله ورضي عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثرا عند كفارهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه، فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثارها هؤلاء كلهم ويعادوا عليا من بينهم كلهم لولا قلة حياء الروافض وصفاقة وجهوههم حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله ﷺ ورافع بن خديج الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدرداء وجماعة غير هؤلاء المهاجرين أنهم لم يبايعوا عليا إذ ولي الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه، من أدركه منهم، وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الرافضة وشدة ظلمة جهلهم وقلة حياتهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح. وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على ما أصفقوا عليه كائنا من كان دخلوا في الجماعة. وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه من أدركه منهم لا رضا عنه ولا عداوة لابن الزبير ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرنا. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية. فلاحت لوكة هؤلاء المجانين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير العوام قتل يوم بدر أيضا عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة، فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين، وما إلى خص عليا بعداوة أولياء من قتل دون سائر من قلنا لولا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم.
ثم لو كان على ما ذكروه حقا فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها، ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة. فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير غالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم قدموا الأحق فالحق والأفضل فالأفضل وساووه بنظرائه منهم.
ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن عليا رضي الله عنه إذ دعى إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته، فهل ذكر أحد من الناس أن أحدا منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إمامته أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل؟ إن عقولا خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها.
ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة علي أحدهم، ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب. أفترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به ومن نص عليه من رسول الله ﷺ أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول: أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله ﷺ وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين بي؟ فإذا لم يفعل لا ندري لماذا. أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام؟ إما العباس عمه وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى إن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء، وإما أحد بنيه وإما عقيل أخوه وإما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم؟ فإذا لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز وجل ولا يأخذه في قول الحق مداهنة، أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار وغيرهم واحد يقول يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا علي له حق واجب بالنص وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه فبايعوه فأمرة بين. إن اتفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع، وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه، فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال؟ ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى؟.
وقال هشام بن الحكم: كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النص على علي وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضا، فهل يحسن بهم الظن في هذا.
قال أبو محمد: ولو علم الفاسق أن هذا القول أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف، لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حين افترق الناس فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق لعلي في قتاله . ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله وبالله تعالى التوفيق.
فإن خصه متحكما كان كمن خصه غيره منهم متحكما ولا فرق.
وأيضا فإن اقتتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلا، بل قاتل كل فريق منهم على ما رأوه حقا ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده، وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال. فدل ذلك على أنه لو كان عندهم نص على علي أو عند واحد منهم لأظهروه أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه.
فإن قالوا: قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام، لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر الذين لا يقولون إلا بنص قرآن أو خبر صحيح؟ وهذا أيضا مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن رسول الله ﷺ نص على وجوب الإمامة وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله: الطاعة للقرشي إماما واحدا لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز وجل، فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها. ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز وجل ذلك. فكل قرشي بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعدا فهو الإمام الواجب طاعته مما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله ﷺ الذي أمر الكتاب باتباعها، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره منهم.
فإن قالوا: قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة.
قلنا: نعم، وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع عند التنازع إلى ظاهر القرآن والسنة، ومنع من تأويلهما بغير نص آخر.
قلنا: إن التأويل الذي لم يقم عليه برهان تحريف للكلم عن مواضعه. وقد جاء النص بالمنع من ذلك. وليس الاختلاف حجة، وإنما الحجة في نص القرآن والسنن وما اقتضاه لفظهما العربي الذي خوطبنا به وبه ألزمتنا الشريعة.
قال أبو محمد: ثم نسألهم فنقول لهم إن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط؛ أحدهما النص الذي عليه باسمه والثاني شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد. فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من إخوته زيد وعمرو وعبد الله وعلي والحسين؟ فإن ادعوا نصا من أبيه عليه أو من النبي ﷺ أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنيفة. وإن ادعوا أنه كان أفضل من إخوته كانت أيضا دعوى بلا برهان. والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهر. وكذلك يسألون أيضا ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد وإسحاق أو علي فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلا. وكذلك أيضا يسألون ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون إخوته وهم سبعة عشر ذكرا فلا يجدون شيئا غير الدعوى. وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي، وما إلى جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد، وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي. فهل ها هنا شيء غير الدعوى الكاذبة التي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن ولعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لابن علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة. ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلت أو رقعة من الحياء. فبطل وجه النص.
وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة، فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس. وما بأيدهم من ذلك شيء إلا دعاوي مفتعلة قد اختلفوا أيضا فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء بسواء. إلا أنهم أسوأ حالا من غيرهم لأن كل من قلد إنسانا كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد، فإن لهؤلاء المذكورين أصحابا مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه، ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي. وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة. وأما من قبل موسى بن جعفر فلو جمع كل ما روي في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما وعن علي بن الحسين وعن محمد ن علي وعن جعفر بن محمد رضي الله عنهم لما أبلغ عشر أوراق. فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل، لا عندهم ولا عند غيرهم، ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا واحدا، ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن.
وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذيل المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأينا إلا دعاوي باردة وآراء فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال. ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحا لهم فيه. فإن يكونا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام وهذا كفر مجرد وهم لا يقولون بهذا. أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم.
وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك، فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإنه لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم.
قال هشام بن الحكم: لا بد أن يكون في إخوة الإمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة. ولا ندري في زيد وعمرو وعبد الله والحسن وعلي بن علي بن الحسين آفات تمنع، إلا أن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة، إنما هو عيب في العبيد المتخذين للمشي. وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لإخوتهم.
ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فنسألهم من أين علم هذا الصغير جميع علوم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره؟ فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي، فهذه نبوة وكفر صريح، وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة. وإن يدعوا له معجزة تصحح قوله فهذه دعوى باطلة ما ظهر منها في شيء. أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى.
قال أبو محمد: ولو لم يكن من الحجة على أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويزين لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذا الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان، وإلا فما خلق الله عقلا يسع فيه مثل هذه الحماقات. والحمد لله على عظيم منته علينا وهو المسؤول منه دوامها بمنه آمين.
قال أبو محمد: وأيضا فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها لمعاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ويبطل عهد رسول الله ﷺ ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات، فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله ﷺ إليهما طائعين غير مكرهين، فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة ، فلولا أنه رأى بيعة معاوية حقا لما سلمها له ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولي يزيد هذا ما لا يمتري فيه ذو إنصاف. هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه. فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين، فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح، بل هو الأفضل بلا شك لأن جده رسول الله ﷺ قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر وقال: "إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين". رويناه من طريق البخاري، حدثنا صدقة أنبأنا ابن عيينة أنا موسى أنا الحسن سمع أبا بكرة يقول إنه سمع ذلك وشهده من رسول الله ﷺ. وهذا من إعلامه ﷺ وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي.
ولقد امتنع زياد وهو فقعة القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة حتى أرضاه وولاه.
فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله ﷺ لا يأمر أحدا بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه، وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض.
واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن عليا كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ولكثرة فضائله دونهم.
قال أبو محمد: وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله ﷺ. وإن الكلام هاهنا في الإمامة فقط فنقول وبالله تعالى التوفيق.
هبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله ﷺ وسعة العلم والزهد، فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتهم لهما بذلك فضلا في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس؟ هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها، يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل. فلم يبق إلا دعوى النص عليهما وهذا ما لا يعجز عن مثله أحد. ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسي لما كانوا إلا مثل الرافضة في ذلك سواء بسواء. ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة لقوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل أنه كان منصورا}. ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمرو وعروة بن الزبير ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن . وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا علي محمد بن عمرو بن أبي بكر بن المنكدر ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز. وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ولا على عبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابني عمه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وعلى بن الحسن بن الحسن بن الحسن. بل كل ما ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلا في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك. وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقهه في عشرين كتابا ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصي، ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ويبلغ حديثهما ورقة أو ورقتين، وكذلك علي بن الحسين، إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفيتاه جزءا صغيرا وكذلك جعفر بن محمد. وهم يقولون إن الإمام عنده جميع علم الشريعة فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم، فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا ، وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا. وأما من بعد جعفر بن محمد مما عرفنا لهم علما أصلا لا من رواية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا، ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه. فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة التي هي من خرافات السمر ومضاحك السخفاء.
فإن رجعوا إلى ادعاء المعجزات لهم قلنا لهم إن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الآحاد الثقات فكيف بتولد الوقحاء الكذابين الذين لا يدرى من هم. وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب لأئمتهم وأظهر وأفشى. وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين لا ذو عقل بها. ونحمد الله على السلامة.
فإذا قد بطل كل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله ﷺ بالبرهان وبالله تعالى نتأيد.
الإمامة بعد الرسول
قال أبو محمد: قد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة إن النبي ﷺ لم يستخلف أحدا ثم اختلفوا، فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمور، وقال بعضهم لا ولكن كان أبينهم فضلا فقدموه لذلك، وقالت طائفة بل نص رسول الله ﷺ على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصا جليا.
قال أبو محمد: وبهذا نقول لبراهين أحدها إطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله ﷺ. ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف، تقول استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه. فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف. ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين أحدهما أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله ﷺ وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة، والثاني أن كل من استخلفه رسول الله ﷺ في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله ﷺ على الإطلاق، فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته. ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه السلام لم يستخلفه نصا. ولو لم يكن ها هنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا، وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم.
وأيضا فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت قال: "فأت أبا بكر". وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر. وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله ﷺ قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام: "لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وروي أيضا : "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده.
قال أبو محمد: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا أو أبلسوا أسفا لاحتججنا بما روي: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".
قال أبو محمد: ولكنه لم يصح. ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح.
قال أبو محمد: واحتج من قال لم يستخلف رسول الله ﷺ بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني - يعني رسول الله ﷺ. وبما روي عن عائشة رضي الله عنها إذ سئلت من كان رسول الله ﷺ مستخلفا لو استخلف. فمن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله ﷺ من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا يقوم به حجة مما له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله ﷺ كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب. ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب. وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصا. وقد يخرج كلامها على سؤال سائل، وإنما الحجة في روايتها لا في قولها.
وأما من ادعى أنه إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصالة فباطل بيقين، لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة، إذ يستحق الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجميا أو عربيا ولا يستحق الخلافة إلا قرشي، فكيف والقياس كله باطل.
قال أبو محمد: في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم. وهو أن الله تعالى قال مخاطبا لنبيه ﷺ في الأعراب: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة. ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات ﷺ. وقال تعالى أيضا: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله ﷺ بعد تبوك لهذا ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم إثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله ﷺ وعلق لهم باب التوبة فقال تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما} فأخبر تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون، ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.
قال أبو محمد: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم. ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس. وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك. فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلا، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم. وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر الله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما أفتوا به باجتهادهم فما أوجبوا هم قط اتباع أقوالهم فيه، فكيف أن يوجب ذلك غيرهم وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن هذا إجماع الأئمة كلها، إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوي هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين.
فصل
قال أبو محمد: وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها تجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ والحمل في بطن أمه. وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب، والإمام مخاطب بإقامة الدين وبالله تعالى التوفيق.
وقال الباقلاني: واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة.
قال أبو محمد: وهذا هو خطأ متيقن لبرهانين. أحدهما أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره وقد قال تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} والثاني أن قريشا قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلا. ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه فإن جميع من أدرك من الصحابة رضي الله عنه من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية وقد كان في الناس أفضل منهم بلا شك كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وابن عمرو وغيرهم، فلو كان ما قاله الباقلاني حقا لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة وحاشا لله عز وجل من ذلك. وأيضا فإن هذا القول الذي قاله هذا المذكور دعوى فاسدة ولا على صحتها دليل لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس. والعجب كله أن يقول إنه جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حيث بعث إلى أن مات ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام.
قال أبو محمد: وهذا القول منه في النبي ﷺ كفر مجرد ولا خفاء به وفيه خلاف لأهل الإسلام، وإنما يجب أن يكون الإمام قرشيا بالغا ذكرا مميزا بريئا من المعاصي الظاهرة حاكما بالقرآن والسنة فقط، ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
قال أبو محمد: اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام. فذهب بعض أهل السنة وبعض أهل المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، وقد روينا هذا القول نصا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء. وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر. وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ جعفر بن أبي طالب، وبهذا قال عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد وعيسى بن حاضر، قال عيسى: وبعد جعفر حمزة رضي الله عنه. وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام. وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله ﷺ وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر. وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت: ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ. وروينا عن مسروق بن الأجدع أو تميم بن حذلم وإبراهيم النخعي وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عبد الله بن مسعود، قال تميم وهو من كبار التابعين: رأيت أبا بكر وعمر فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود. وروينا عن بعض من أدرك النبي ﷺ أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما، وبلغني عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول. قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه: أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله ﷺ وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم من بعدهم منهم ولا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته، ولقد رأينا من متقدمي أهل العلم ممن يذهب إلى هذا القول. وقال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النميري غير ما مرة : إن هذا هو قوله ومعتقده.
قال أبو محمد: والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله ﷺ ثم أبو بكر رضي الله عنه. ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد ﷺ أفضل الأمم لقول الله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وإن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل: {وأني فضلتكم على العالمين} وأنها مبينة لأن مراد الله تعالى من ذلك عالم الأمم حاشا هذه الأمة.
قال أبو محمد: ثم نقول وبالله تعالى التوفيق: إن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني وصد عن إدراك الصواب وتعريج عن الحق وإبعاد عن الفهم وتخليط عمي. فلنبدأ بعون الله تعالى وتأييده بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل، فإذا استبان معنى الفضل وعلى ماذا تقع هذه اللفظة فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو بلا شك. فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن الفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، فضل اختصاص من الله عز وجل بلا عمل، وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل. فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات، كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء على سائر الجن والأنس وكفضل إبراهيم ابن النبي ﷺ على سائر الأطفال وكفضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه السلام على سائر الذبائح وكفضل مكة على سائر البلاد وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور وكفضل يوم الجمعة وعرفة وعاشوراء والعشر على سائر الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي وكفضل صلاة الفرض على النافلة وكفضل صلاة العصر وصلاة الصبح على سائر الصلوات وكفضل السجود على القعود وكفضل بعض الذكر على بعض، فهذا فضل الاختصاص المجرد بلا عمل.
فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والأنس والجن فقط، وهذا هو القسم الذي تنازع الناس فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به. فوجب أن ننظر أيضا في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته، ثم ننظر حينئذ من هو أحق به وأسعد بالبسوق فيه فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظا فيها بلا شك وبالله تعالى التوفيق.
فنقول وبالله تعالى نستعين.
إن العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامن لها. وهي الماهية وهي عين العمل وذاته، والكمية وهي العرض في العمل، والكيفية، والكم، والزمان، والمكان، والإضافة.
فأما الماهية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موفاة كلها ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل، أو يكون كلاهما يوفي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة والآخر يكثر الذكر في حال جلوسه وما أشبه هذا وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف وقاتل الآخر في الردة أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع أو يجتهدان فيصادف أحدهما الحق ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله أو بأن ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر، فهذا هو التفاضل في الماهية من العمل.
وأما الكمية وهي العرض فأن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئا البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئا من حب البر في الدنيا وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله.
وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصا ولا متزيدا ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسنته وإن لم يعطل منه فرضا، أو يكون أحدهما يصفى عمله من الكبائر وربما أتى الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله.
وأما الكم فأن يستويا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله، كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله ﷺ ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي ﷺ أحدهما في النوم وهو آخرهما موتا في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال عليه السلام كلام معناه : فأين صلاته وصيامه بعده. ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله.
وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء، وأمن فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك. ولذلك قال رسول الله ﷺ: "دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهبا ننفقه نحن في سبيل الله عز وجل بعد ذلك. قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}.
قال أبو محمد: هذا في الصحابة فيما بينهم، فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو محمد: وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي وقول محمد بن الطيب الباقلاني. فإن الجبائي قال جائز إن طال عمر امرئ يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء. وقال الباقلاني جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث بالنبوة إلى أن مات.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد وردة وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله ﷺ في إخباره أنا لا ندرك أحدا من أصحابه، وفي إخباره عليه السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم وأنه أتقاهم لله وأعلمهم بما يأتي وما يذر. وكذلك قالت الخوارج والشيعة، فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عز وجل على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم، حاشا عليا والحسن والحسين وعمار بن ياسر. والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى وكلاب النار على عثمان وعلي طلحة والزبير . ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة. وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقر وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير يتصدق به في عرض غناه وفي وصيته بعد موته. وقد صح عن رسول الله ﷺ : "سبق درهم مائة ألف، وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما والآخر عمد إلى عرض ماله تصدق منه بمائة ألف". وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنفله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنفله في زمان صحته وأمنه. ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم. وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أجله. وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما، وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ بمائة درجة، وكصيام في بلد العدو وفي الجهاد على صيام في غير الجهاد. ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وإن تساوى العملان.
وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل من ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده. ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفا من قول الله عز وجل: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} وإخباره عليه السلام أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم . فبهذا فضل الصحابة رضي الله عنهم من جاء بعدهم.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي ﷺ لا يوازي شيئا من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي ﷺ ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي ﷺ. ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن حزم وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين، لأن بعض أولئك عبدوا الله عز وجل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاما فما بين ذلك إلى خمسين عاما. وهذا مالا يقوله أحد يعتد به.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله ﷺ أفضل من آخر منهم، فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبدا وإن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل. وبهذا أيضا لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي ﷺ ممن مات منهم في حياة النبي ﷺ، بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة، ثم نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضا لا ثالث لهما البتة.
أحدهما إيجاب الله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول، فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو باختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق. وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحارم وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم ابن رسول الله ﷺ، وذكر الله والملائكة والنبيين على جميعهم صلوات الله وسلامه والصحابة أكثر من تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا، ومن ذكرنا من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس. هذا ما لا شك فيه، وهذه خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلا ولا يكون البتة إلا الفاضل.
والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول، إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل، ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ولكان لفظا لا حقيقة له ولا معنى تحته. وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة كل فاضل يعمل فقط من الملائكة والأنس والجن. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فكل ما هو مأمور بتعظيمه فاضل، وكل فاضل فمأمور بتعظيمه. وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء، فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين، كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره ولا يكون ذلك تعظيما، وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أسرته ولا يسمى ذلك تعظيما، وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيما، وقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيما. وفرض على كل مسلم البراءة من أبويه الكافرين وعداوتهما في الله عز وجل، قال الله عز وجل: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وقال عز وجل: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال عز وجل: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل، لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له ، وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قال تعالى في نص القرآن. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد يكون دخول الجنة اختصاصا مجردا دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل، فإذ قد صح ما ذكرنا قبل يقينا بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمناه الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي ﷺ بقول الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم، هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله ﷺ، فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة، إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم، فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة، ثم فضلن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومة الواجب لهن كلهن بنص القرآن . فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلنهم فيه أيضا ثم فضلنهم بحق زائد وهو حق الأمومة، ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة إلا ولهن في ذلك مثل ما لغيرهم من الصحابة، فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ويشهدن الجهاد معه عليه السلام. وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب. ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ خيرهن الله عز وجل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة، فهن أزواجه في الآخرة بيقين، فإذ هن كذلك معه ﷺ بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره، إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة، هذا ما لا يظنه مسلم. فإذ لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فالبنص والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصا مجردا دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة إذ أمره الله عز وجل أن يخيرهن، فقد حصل لهن أفضل الاختصاص أولا بأن يخيرهن الله عز وجل لنبيه ﷺ وهو أفضل الناس، ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال في جميع الوجوه السبعة التي قدمنا آنفا والتي لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة، ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا، ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة، فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولهن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك. ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه السلام في الجنة ومع ابنها منه بلا شك. فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الآبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام.
فكيف ومعنا نص من النبي ﷺ كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا محمد بن أحمد بن مفرح ثنا محمد بن أيوب الرقي الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا أحمد بن عمر وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: فأبوها إذن.
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي قال حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن قيس حدثنا أحمد بن محمد الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطحان عن خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ بعثه إلى جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر"، فعد رجالا.
فهذان عدلان أنس وعمرو يشهدان أن رسول الله ﷺ أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها. وقد قال عز وجل عليه السلام: {وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى} فصح أن كلامه عليه السلام بأنها أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له، ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى. لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقديم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله ﷺ أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله ﷺ على أبيها وعلى عمرو وعلى علي وعلى فاطمة تفضيلا ظاهرا بلا شك.
فإن قال قائل: فقل إن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لكونه مع أبيه عليه السلام في الجنة في درجة واحدة؛ قلنا له وبالله تعالى التوفيق.
إن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ ما استحق تلك المنزلة بعمل كان منه وإنما هو اختصاص مجرد، وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحدا من وجه واحد فتفاضلا فيه، وأما إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما، لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافا في الباب الذي اشتركا فيه. ألا ترى أنه لا يقال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة، بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة وأيهما أفضل ناقة صالح أو ناقة غيره من الأنبياء. فقد صح أن التفاضل إنما يكون في وجه اشترك فيه المسؤل عنهما فسبق أحدهما فيه فاستحق أن يكون أفضل. وفضل إبراهيم ليس على عمل أصلا وإنما هو اختصاص مجرد وإكرام لأبيه ﷺ. وأما نساؤه عليه السلام فكونهن وكون سائر أصحابه عليهم السلام في الجنة إنما هو جزاء لهن ولهم على أعمالهن وأعمالهم. قال الله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} وقال بعد ذكر الصحابة: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال تعالى مخاطبا لنسائه عليه السلام: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} وهذا نص قولنا ولله الحمد. وقال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} وقال تعالى: {غرف من فوقها غرف مبنية} وقال تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى}.
فإن قال قائل فكيف تقولون في قوله عليه السلام: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
قلنا نعم هذا حق موافق للآيات المذكورة وهكذا نقول إنه لو عمل الإنسان دهره كله ما استحق على الله تعالى شيئا لأنه لا يجب على الله تعالى شيء إذ لا موجب للأشياء الواجبة غيره تعالى لأنه المبتدئ لكل ما في العالم والخالق له فلولا أن الله تعالى رحم عباده فحكم بأن طاعتهم له يعطيهم بها الجنة لما وجب ذلك عليه فصح أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله مجردا دون رحمة الله تعالى، لكن يدخلها برحمة لله تعالى التي جعل بها الجنة جزاء على أعمالهم التي أطاعوه بها، فاتفقت الآيات مع هذا الحديث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإذا لا شك في هذا كله فقد امتنع يقينا أن يجازي بالأفضل من كان أنقص فضلا وأن يجازي بالأنقص من كان أتم فضلا، وصح ضرورة أنه لا يجزى أحد من أهل الأعمال في الجنة إلا بما استحقه برحمة الله تعالى جزاء على أعماله، وأما من لم تكن الجنة له جزاء على عمله فلله تعالى أن يتفضل على من شاء بما شاء وجائز أن يقدم على ذوي الأعمال الرفيعة. قال تعالى: {يختص برحمته من يشاء} وقال تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} فلا يجوز خلاف هذه النصوص لأحد لأن من خالفها كذب القرآن. ولولا هذه النصوص لما أبعدنا أن يعذب الله تعالى على الطاعة له وأن ينعم على معصيته وأن يجازي الأفضل بالأنقص والأنقص بالأفضل، لأن كل شيء ملكه وخلقه لا مالك لشيء سواه ولا معقب لحكمه ولا حق لأحد عليه، لكن قد أمنا ذلك كله بإخبار الله تعالى أنه لا يجازي ذا عمل إلا بعمله وأنه يتفضل على من يشاء فلزم الإقرار بكل ذلك وبالله تعالى التوفيق.
فلو قال قائل أيما أفضل في الجنة وأعلى قدرا مكان إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أو مكان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلنا مكان إبراهيم أعلى بلا شك ولكن ذلك المكان اختصاص مجرد لإبراهيم المذكور لم يستحقه بعمل ولا استحق أيضا أن يقصر به عنه، ومواضيع هؤلاء المذكورين جزاء لهم على قدر فضلهم وسوابقهم. وكذلك نساؤه ﷺ مكانهن جزاء لهن على قدر فضلهن وسوابقهن. فلا يقال إن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر أو عمر ولا يقال أيضا إن أبا بكر وعمر أفضل من إبراهيم. والمفاضلة واقعة بين الصحابة وبين نساء رسول الله ﷺ لأن أعمالهم وسوابقهم لها مراتب متناسبة بلا شك.
فإن قال قائل إنهن لولا رسول الله ﷺ ما حصلن تلك الدرجة وإنما تلك الدرجة له عليه السلام.
قلنا وبالله تعالى التوفيق: نعم، ولا شك أيضا في أن جميع الصحابة لولا رسول الله ﷺ ما حصلوا على الدرج التي لهم فيها فإنما هي إذ على قولكم لرسول الله ﷺ كما قلتم ولا فرق. وبقي الفضل والتقدم لهن كما كان في كل ذلك ولا فرق.
قال أبو محمد: وأما فضلهن على بنات النبي ﷺ فبين بنص القرآن لا شك فيه. قال الله عز وجل: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول} فهذا بيان قاطع لا يسع أحدا جهله.
فإن عارضنا معارض بقول رسول الله ﷺ: "خير نسائها فاطمة بنت محمد".
قلنا له وبالله تعالى التوفيق: في هذا الحديث بيان جلي لما قلنا وهو أنه عليه السلام لم يقل خير النساء فاطمة وإنما قال خير نسائها فخص ولم يعم. وتفضيل الله عز وجل لنساء النبي ﷺ على النساء عموم لا خصوص لا يجوز أن يستثنى منه أحد إلا من استثناء نص آخر، فصح أنه عليه السلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه ﷺ فاتفقت الآية مع الحديث. وقال رسول الله ﷺ: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، فهذا أيضا عموم موافق الآية. ووجب أن يستثنى ما خصه النبي ﷺ بقوله "نسائها" من هذا العموم ، فصح أن نساءه عليه السلام أفضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالنبوة كأم إسحاق وأم موسى وأم عيسى عليهم السلام، وقد نص الله تعالى على هذا بقوله الصادق: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} ولا خلاف بين المسلمين في أن جميع الأنبياء كل نبي منهم أفضل ممن ليس بنبي من سائر الناس، ومن خالف هذا فقد كفر. كذلك أخبر عليه السلام فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين ولم يدخل نفسه ﷺ في هذه الجملة بل أخبر عمن سواه. وبرهان آخر وهو قول الله تعالى مخاطبا لهن: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين}.
قال أبو محمد: فهذا فضل ظاهر وبيان لائح في أنهن أفضل من جميع الصحابة رضي الله عنهم، وبهذه الآية صحة متيقنة لا يمتري فيها مسلم فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا عمل الواحد منهم عملا يستحق عليه مقدارا ما من الأجر وعملت امرأة من نساء النبي ﷺ مثل ذلك العمل بعينه كان لها مثل ذلك المقدار من الأجر، فإذا كان نصيب الصحابي وفاطمة رضي الله عنهم يفي بأكثر من مثل جبل أحد ذهبا ممن بعده كان للمرأة من نسائه عليه السلام في نصيبها أكثر من ملئ جبلين اثنين مثل جبل أحد ذهبا، وهذه فضيلة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام إلا لهن. وقد صح عن النبي ﷺ أنه يوعك كوعك رجلين من أصحابه لأن له على ذلك كفلين من الأجر.
قال أبو محمد: وليس بعد هذا بيان في فضلهن على كل أحد من الصحابة منكر إلا من أعمى الله قلبه عن الحق. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وقد اعترض علينا بعض أصحابنا في هذا المكان بقول الله تعالى عن أهل الكتاب إذا آمنوا: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} قال: فيلزم أنهم أفضل منا فقلت له إن هذه الآية والخبر الذي فيه ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، فذكر مؤمن أهل الكتاب والعبد الناصح ومعتق أمته ثم يتزوجها فيهما بيان الوجه الذي أجروا به مرتين، وهو الإيمان بالنبي ﷺ وبالنبي الأول المبعوث بالكتاب الأول ونحن نؤمن بهذا كله كما آمنوا فنحن شركاء ذلك المؤمن منهم في ذينك الإيمانين، وكذلك العبد الناصح يؤجر لطاعة سيده أجرا ولطاعة الله أجرا، وكذلك معتق أمته ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجرا ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجرا ثم على نكاحه إذا أراد به وجه الله تعالى أجرا ثانيا. فصح يقينا أن هؤلاء إنما يؤتون أجرهم مرتين في خاص من أعمالهم لا في جميع أعمالهم، وليس في هذا ما يمنع من أن يؤجر غيرهم في غير هذه الأعمال أكثر من أجورهم. وأيضا فإنما يضاعف لهؤلاء على ما عمله أهل طبقتهم وليست المضاعفة لأجور نساء النبي ﷺ مرتين من هذا في ورد ولا صدر لأن المضاعفة لهن إنما هي في كل عمل عملنه بنص القرآن إذ يقول الله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} فكل عمل عمله صاحب من الصحابة له فيه أجر فلكل امرأة منهن في مثل ذلك العمل أجران ، والمضاعفة لهن إنما تكون على ما عمله طبقتهن من الصحابة. وقد علمنا أن بين الصاحب وعمل غير أعظم مما بين أحد ذهبا ونصف مد شعير فيقع لكل واحدة منهن مثلا ذلك مرتين. وهذا لا يخفى على ذي حس سليم. فبطلت المعارضة التي ذكرنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واعترض علينا أيضا بعض الناس في الحديث الذي فيه أن عائشة أحب الناس إليه ومن الرجال أبوها بأن قال قد صح عن النبي ﷺ أنه قال لأسامة بن زيد إن أباه كان أحب الناس إلي وأن هذا أحب الناس إلي بعده وصح أنه عليه السلام قال للأنصار إنكم أحب الناس إلي.
قال أبو محمد: وأما هذا اللفظ الذي في حديث أسامة بن زيد أنه أحب الناس إليه عليه الصلاة والسلام فقد روي من طريق حماد بن سلمة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه. وأما الذي فيه ذكر أسامة وزيد رضي الله عنهما فإنما رواه عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله عن أبيه. وعمر بن حمزة هذا ضعيف. والصحيح من هذا الخبر هو ما رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي ﷺ بإسناد لا مغمز فيه فذكر فيه أنه ﷺ قال يعني ليزيد بن حارثة: "وايم الله إن كان لخليق بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا من أحب الناس إلي بعده". وهذا يقضي على حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه لأنه مختصر من حديث عبد الله بن دينار، وبهذا ينتفي التعارض بين الروايتين عن ابن عمر وعن أنس وعمرو، وإلا فليس أحدهما أولى من الآخر.
وأما حديث الأنصار فرووه كما ذكره هشام بن زيد عن أنس ورواه عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أنتم من أحب الناس إلي". وهو حديث واحد وزيادة العدل مقبولة، فصح بزيادة من في الحديث من طريق العدول أن الأنصار وزيدا وأسامة رضي الله عنهم من جملة قوم هم أحب الناس إلى رسول الله ﷺ، وهذا حق لا يشك فيه لأنهم من أصحابه وأصحابه أحب الناس إليه بلا شك، وليس هكذا جوابه في عائشة رضي الله عنها إذ سئل في أحب الناس إليك فقال: "عائشة" فقيل: من الرجال قال: "أبوها"، لأن هذا قطع على بيان ما سأل عنه السائل من معرفة من المنفرد البائن عن الناس بمحبته عليه السلام.
واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال إن الله تعالى يقول: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضولا لأنه قد أحب عمه وهو كافر.
قال أبو محمد: فقلنا إن هذه الآية ليست على ما ظن وإنما مراد الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} أي أحببت هداه. برهان ذلك قوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} أي من يشاء هداه. وفرض على النبي ﷺ وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر لا أن نحب الكافر. وأيضا فلو صح أن معنى الآية من أحببت كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة لأن هذه آية مكية نزلت في أبي طالب ثم أنزل الله تعالى في المدينة: {لا تجد قوما يؤمنون بالله وباليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} وأنزل الله تعالى في المدينة: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وإن كان رسول الله ﷺ أحب أبا طالب فقد حرّم الله تعالى عليه بعد ذلك ونهاه عن محبته وافترض عليه عداوته. وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلا. والمودة هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة. فقد بطل أن يحب النبي ﷺ أحدا غير مؤمن.
وقد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله ﷺ لمن أحب فضيلة وذلك كقوله عليه السلام لعلي: "لأعطين الرابة غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله ﷺ بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب، فقد صح يقينا أن كان أتم حظا في الفضيلة فهو فضل ممن هو أقل حظا في تلك الفضيلة. هذا شيء يعلم ضرورة.
فإذا كانت عائشة أتم حظا في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها. ولذلك لما قيل له عليه السلام من الرجال قال: "أبوها"، ثم: "عمر". فكان ذلك موجبا لفضل أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة رضي الله عنهم. فالحكم بالباطل لا يجوز في أن يكون يقدم أبو بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمها في المحبة عليهما. وما نعلم نصا في وجوب القول بتقديم أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة إلا هذا الخبر وحده.
قال أبو محمد: وقد نص النبي ﷺ على ما ينكح له من النساء فذكر الحسب والمال والجمال والدين ونهى ﷺ عن كل ذلك بقوله: "فعليك بذات الدين تربت يداك"، فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين. وكذلك قوله عليه السلام: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئا غير الفضل عند الله تعالى في الدين، فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضى به إلا خسيس نذل ساقط ولا يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا في باله عن فاضل من الناس، فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس ﷺ.
قال أبو محمد: ولولا أنه بلغنا عن بعض من تصدر لنشر العلم من زماننا وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل أنه أشار إلى هذا المعنى القبيح وصرح به ما انطلق لنا بالإيماء إليه لسان، ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره فرضا على حسب طاقتهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنه على رسول الله ﷺ قبل ولادتها في سرقة من حرير يقول له: "هذه زوجتك"، فيقول عليه السلام: "إن يكن من عند الله يمضه"، فهل بعد هذا في الفضل غاية.
قال أبو محمد: واعترض علينا مكي بن أبي طالب المقري بأن قال يلزم على هذا أن تكون امرأة أبي بكر أفضل من علي لأن امرأة أبي بكر مع أبي بكر في الجنة في درجة واحدة وهي أعلى من درجة علي، فمنزلة امرأة أبي بكر أعلى من منزلة علي فهي أفضل من علي.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن قلنا له وبالله تعالى نتأيد إن هذا الاعتراض ليس بشيء لوجوه. أحدها أن ما بين درجة أبي بكر ودرجة علي في الفضل الموجب لعلو درجته في الجنة على درجة علي ليست من التباين بحيث هو ما بين درجة النبي ﷺ وبين درجة أبي بكر في الفضل الموجب لعلو درجته عليه السلام على درجات سائر الصحابة رضي الله عنهم، بل قد أيقنا أن درجة أقل رجل منا في الفضل أقرب نسبة من أعلى درجة لأعلى رجل من الصحابة من نسبة درجة أفضل الصحابة إلى درجة النبي ﷺ. وأيضا فليس بين أبي بكر وعلي في المباينة في الفضل ما يوجب أن تكون امرأة أبي بكر التابعة له أفضل من علي، بل منازل المهاجرين الأولين الذين أوذوا في سبيل الله عز وجل متقاربة وإن تفاضلت، ثم كذلك أهل السوابق مشهدا مشهدا درجهم في الفضل متقاربة وإن تفاضلت، ثم منازل الأنصار الأولين متقاربة وإن تفاضلت، ثم كذلك أهل السوابق بعد الهجرة مشهدا مشهدا درجهم متقاربة في الفضل، ثم كذلك من أسلم بعد الفتح أيضا. ويزداد الأفضل فالأفضل من المشركين في المشاهد جزاء على على ذلك فنقول إن امرأة أبي بكر المستحقة بعملها الكون معه في درجته مثل أم رومان لسنا ندري أهي أفضل أم علي لأنا لا نص معنا في ذلك والتفضيل لا يعرف إلا بنص. وقد قال عليه السلام : "خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم" أو كما قال عليه السلام فجعلهم طبقات في الخير والفضل. فلا شك هم كذلك في الجزاء في الجنة، وإلا فكان يكون الفضل لا معنى له. وقال عز وجل: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} وأيضا فلسنا نشك أن المهاجرات الأوليات من نساء الصحابة رضي الله عنهم يشاركن الصحابة في الفضل، ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول، ففيهن من يفضل كثيرا من الرجال وفي الرجال من يفضل كثيرا منهن. وما ذكر الله تعالى منزلة من الفضل إلا وقرن النساء مع الرجال فيها كقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الآية، حاشا الجهاد فإنه فرض على الرجال دون النساء . ولسنا ننكر أن يكون لأبي بكر رضي الله عنه قصور ومنازل مقدمة على جميع الصحابة ثم يكون لمن لم تستأهل من نسائه تلك المنزلة منازل في الجنة دون منازل من هو أفضل منهن من الصحابة، فقد نكح الصحابة رضي الله عنهم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن، فتكون تلك المنازل زائدة في فضل أزواجهن من الصحابة فينزلون إليهن ثم ينصرفون إلى منازلهن العالية. بل قد صح هذا عن النبي ﷺ وأنه قال كلاما معناه وأكثر نصه أنه عليه السلام: "زعيم بيت في ربض الجنة في وسط الجنة وفي أعلى الجنة لمن فعل كذا"، أمرا وصفه رسول الله ﷺ.
فصح نص ما قلنا من أن لمن دونه عليه السلام منازل عالية وأخر سفلة عن تلك المنازل ينزلون إليها ثم يصعدون إلى الأعالي. وهذا مبعد عن النبي ﷺ لوجهين. أحدهما أن جميع نسائه عليه السلام لهن حق الصحبة التي يشتركن فيها جميع الصحابة ويفضلنهم فيها بقرب الخاصة، فليس في نسائه عليه السلام ولا واحدة يفضلها بالصحبة التي هي فضيلتهم التي بها بانوا عمن سواهم فقط وقد كفينا الباب. والوجه الثاني أن تأخر بعض الصحابة عن بعضهم في بعض الأماكن موجود وإن كان ذلك المتأخر في بعض الأماكن متقدما في مكان آخر، فقد علمنا أن بلالا عذب في الله عز وجل ما لم يعذب علي وأن عليا قاتل ما لم يقاتل بلال وأن عثمان أنفق ما لم ينفق بلال ولا علي فيكون المفضول منهم في الجملة متقدما للذي فضله في بعض فضائله. ولا سبيل أن يوجد هذا فيما بينهم وبين النبي ﷺ ولا يجوز أن يتقدمه أحد من ولد آدم في شيء من الفضائل أولها عن آخرها ولا إلى أن يلحقه لاحق في شيء من الفضائل من بني آدم، فلا سبيل إلى ينزل النبي ﷺ إلى درجة يوازيه فيها صاحب من الصحابة فكيف أن يعلو عليه الصاحب؟ هذا أمر تقشعر منه جلود المؤمنين. وقد استعظم أبو أيوب رضي الله عنه أن يسكن في غرفة على بيت يسكنه رسول الله ﷺ، فكيف يظن بأن هذا يكون في دار الجزاء. فإذا كان العالي من الصحابة في أكثر منازله ينسفل أيضا في بعضها عن صاحب آخر قد علاه في منازل أخر على قدر تفاضلهم في أعمالهم كما ذكرنا آنفا، فقد أخبر النبي ﷺ أن الصائمين يدعون من باب الريان وأن المجاهدين يدعون من باب الجهاد وأن المتصدقين يدعون من باب الصدقة وأن أبا بكر يرجو له رسول الله ﷺ أن يدعى من جميع تلك الأبواب. وقد يجوز أن يفضل أبا بكر رضي الله عنه غيره من الصحابة في بعض تلك الوجوه مما انفرد بباب منها ولا يجوز أن يفضل أحد رسول الله ﷺ في شيء من أبواب البر فبطل هذا الاعتراض جملة والحمد لله رب العالمين.
واعترض أيضا علينا مكي بن أبي طالب بأن قال إذا كان رسول الله ﷺ أفضل من موسى عليه السلام ومن كل واحد من الأنبياء عليهم السلام وكان عليه السلام أعلى درجة في الجنة من جميع الأنبياء عليهم السلام وكان نساؤه عليه السلام معه في درجته في الجنة فدرجتهن فيها أعلى من درجة موسى عليه السلام ومن درج سائر الأنبياء عليهم السلام فهن على هذا الحكم أفضل من موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن هذا الاعتراض أيضا لا يلزمنا ولله الحمد لأن الجنة دار ملك وطاعة وعلو منزلة ورياسة واتباع من التابع للمتبوع، كما قال عز وجل: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {وكان عند الله وجيها} وأخبر عز وجل عن جبريل ﷺ فقال: {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين}، فقد علمنا أن ملك الدنيا غرور وأن ملك الآخرة هو الحقيقة. وقد أخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام مع أتباعهم: فالنبي معه الواحد والاثنان والثلاثة والنفر والجماعة، فأخبر عز وجل أن هنالك الملك الكبير والطاعة والوجاهة والأتباع والاستئمار. وإنما عرض الله تعالى علينا في الدنيا من الملك طرفا لنعلم به مقدار الملك الذي في دار الجزاء كما عرض علينا من اللذات والحرير والديباج والخمر والذهب والفضة والمسك والجواري والحلي وأعلمنا أن هذا كله خالصة لنا هنالك، وكما صح عن النبي ﷺ إن آخر من يدخل الجنة يزكو على أعظم ملك عرفه في الدنيا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تعالى مثل الدنيا عشر مرات.
قال أبو محمد: فلما صح ما ذكرنا وكانت الملائكة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها وكانت طبقة المرسلين النبيين طبقة واحدة ومنازلهم في درجات متقاربة إلا أنهم أيضا يتفاضلون فيها، وهم طلهم طبقة واحدة، والنبيون غير المرسلين طبقة واحدة إلا أنهم أيضا يتفاضلون فيها، وكل الصحابة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها، فوجب بلا شك أن لا يكون أتباع الرسل من النساء والأصحاب كالمتبوعين الذين هم الرسل لأن بالضرورة نعلم أن تابع الأعلى ليس لاحقا نظير متبوعه فكيف أن يكون أعلى منه كما أن التابعيات من نساء الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقن نظراء أزواجهن من الصحابة إذ ليس هن معهم في طبقة، وإنما ينظر بين أهل كل طبقة ومن هو في طبقته، ونساء النبي ﷺ طبقة واحدة مع الصحابة فصح التفاضل بينهم وليس واحدة منهن ولا منهم مع الأنبياء في طبقة فلم يجز أن ينظر بينهم. وقد أخبر عليه السلام أنه رأى ليلة الإسراء الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء، وبالضرورة نعلم أن منزلة النبي الذي هو متبوع في سماء الدنيا أمره هناك مطاع أعلى من منزلة التابع في السماء السابعة للنبي الذي هنالك. وإذ قد صح عن النبي ﷺ أن كل نبي يأتي مع أمته فنحن مع نبينا ﷺ، فإن كل ما ألزمناه مكي لازما لنا فيلزمه مثل ذلك فينا أيضا أن نكون أفضل من الأنبياء وهذا غير لازم لما ذكرنا من أنه لا ينظر في الفضل إلا بين من كان من أهل طبقة واحدة، فمن كان منهم أعلى منزلة من الآخر كان أفضل منه بلا شك، وليس ذلك في الطباق المختلفة. ألا ترى أن كون مالك خازن النار في مكان غير مكان خازن الجنة وغير مكان جبرائيل لا تحط درجته عن درجة من في الجنة من الناس الذين الملائكة جملة أفضل منهم لأن مالكا متبوع للنار ومقدم مطاع مفضل بذلك على التابعين والخدمة في الجنة بلا شك فبطل هذا الشغب.
ويجمع هذا الجواب باختصار وهو أن الرؤساء والمتبوعين في كل طبقة في الجنة أعلى من التابعين لهم، ونساء النبي ﷺ وأصحابه كلهم أتباع له عليه السلام، وجميع الأنبياء متبوعون، فإنما ينظر بين المتبوعين أيهم أفضل وينظر بين الأتباع أيهم أفضل ويعلم الفضل بعلو درجة كل فاضل من دونه في الفضل. ولا يجوز أن ينظر بين الأتباع والمتبوعين لأن المتبوعين لا يكونون البتة أحط درجة من التابعين. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل فكيف يقولون في الحور العين أهن أفضل من الناس ومن الأنبياء كما قلتم في الملائكة؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الفضل لا يعرف إلا ببرهان مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام الرسول ﷺ، ولم نجد الله تعالى نص على فضل الحور العين كما نص على فضل الملائكة وإنما نص على أنهن مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها وأنهن خلقن ليلتذ بهن المؤمنون، فإذا الأمر هكذا فإنما محل الحور العين محل من هن له فقط، إن ذلك اختصاص لهن بلا عمل وتكليف، فهن خلاف الملائكة في ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومما يؤكد قولنا قول الله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} وهذا النص إذ قد صح فقد وجب الإقرار به.
فلو عجزنا عن تفضيل بعض أقسام هذه الاعتراضات لما ألزمنا في ذلك نقصا إذ لا يجوز الاعتراض على هذا النص، وكلما صح بيقين فلا يجوز أن يعارض بيقين آخر والبرهان لا يبطله برهان. وقد أوضحنا أن الجنة دار جزاء على أعمال المكلفين فأعلاهم درجة أعلاهم فضلا، ونساء النبي ﷺ أعلا درجة في الجنة من جميع الصحابة فهن أفضل منهن. فمن أبى هذا فليخبرنا ما معنى الفضل عنده، إذ لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى فإن قال لا معنى لها فقد كفانا مؤنته وإن قال لها معنى سألناه ما هو فإنه لا يجد غير ما قلناه وبالله تعالى التوفيق فكيف وقد أتينا بتأييد الله عز وجل لنا على كل ما اعترض علينا به في هذا الباب ولاح وجه في ذلك بيننا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واستدركنا بيانا زائدة في قول النبي ﷺ في أن فاطمة سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة. فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث، وإنما ذكر عليه السلام في هذا الحديث السيادة ولم يذكر الفضل وذكر عليه السلام في حديث عائشة الفضل نصا بقوله عليه السلام: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
قال أبو محمد: والسيادة غير الفضل. ولا شك أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين بولادة النبي ﷺ لها، فالسيادة من باب الشرف لا من باب الفضل. فلا تعارض بين الحديث البتة والحمد لله رب العالمين.
وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما هو حجة في اللغة العربية: كان أبو بكر خير وأفضل من معاوية وكان معاوية أسود من أبي بكر. ففرق ابن عمر كما ترى بين السيادة وبين الفضل والخير. وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيرا من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك.
قال أبو محمد: وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز وجل: {وليس الذكر كالأنثى} فقلنا وبالله تعالى التوفيق: فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء أناث؟ فإن قال هذا الحق بالنوكي وكفر. فإن سئل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى، لأنه لو كان كالأنثى لكان أنثى، والأنثى أيضا ليست كالذكر لأن هذه أنثى وهذا ذكر. وليس هذا من الفضل في شيء البتة. وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل.
فإن اعترض معترض بقول الله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} قيل له إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات. ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي ﷺ وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة.
وكذلك قوله تعالى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} إنما ذلك في تقصيرهن في الأغلب عن المحاجة لقلة دربتهن. وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن.
فإن اعترض معترض فقال الذي أمرنا بطاعتهم من خلفاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل من نساء النبي ﷺ بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا خطأ من جهات.
إحداها أن نساء النبي ﷺ من جملة أولي الأمر منا الذين أمرنا بطاعتهم فيما بلغن إلينا عن النبي ﷺ كالأئمة من الصحابة سواء ولا فرق.
والوجه الثاني أن الخلافة ليست من قبل فضل الواحد في دينه فقط وجبت لمن وجبت له وكذلك الإمارة لأن الإمارة قد تجوز لمن غيره أفضل منه. وقد كان عمر رضي الله عنه مأمور بطاعة عمرو بن العاص إذ أمّره رسول الله ﷺ في غزوة ذات السلاسل فبطل أن تكون الطاعة إنما تجب للأفضل فالأفضل. وقد أمر النبي ﷺ عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيرا، ولم يُأمّر أبا ذر ، وأبو ذر أفضل خير منهما بلا شك. وأيضا فإنما وجبت طاعة الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم في أوامرهم مذ ولوا لا قبل ذلك. ولا خلاف في أن الولاية لم تزدهم فضلا على ما كانوا عليه وإنما زادهم فضلا عدلهم في الولاية لا الولاية نفسها، وعدلهم داخل في جملة أعمالهم التي يستحقون والفضل بها. ألا ترى أن معاوية والحسن إذ وليا كانت طاعتهما واجبة على سعد بن أبي وقاص، وسعد أفضل منهما ببون بعيد جدا، وهو حي معهما مأمور بطاعتهما . وكذلك القول في جابر وأنس بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم في وجوب طاعة عبد الملك بن مروان. والذي بين جابر وأنس وابن عمرو بين عبد الملك في الفضل كالذي بين النور والظلمة . فليس في وجوب طاعة الولاة ما يوجب فضلا في الجنة.
فإن اعترض معترض بقول الله تعالى: {والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين} فبيان اعتراضه ظاهر في آخر الآية وهو أن إلحاق الذرية بالآباء لا يقتضي كونهم معهم في درجة، ولا هذا مفهوم من نص الآية، بل إنما فيها إلحاقهم بهم فيما ساووهم فيه بنص الآية. ثم بين تعالى ذلك ولم يدعنا في شك بقوله {كل امرئ بما كسب رهين} فصح أن كل واحد من الآباء والأبناء يجازى حسب ما كسب فقط. وليس حكم الأزواج كذلك بل أزواج النبي ﷺ معه في قصوره وعلى سرره ملتذ بهن ومعهن جزاء لهن بما عملن من الخبر وبصبرهن واختيار الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة. وهذه منزلة لا يحلها أحد بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فهن أفضل من كل واحد دون الأنبياء عليهم السلام.
فإن شغب مشغب بقول رسول الله ﷺ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن"، قلنا وبالله تعالى التوفيق: إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول إنك أتم عقلا ودينا من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة . فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر. وإن قال لا سقط اعتراضه واعترف بأن من الرجال من هو أنقص دينا وعقلا من كثير من النساء. فإن سأل عن معنى هذا الحديث قيل له قد بين رسول الله ﷺ وجه ذلك النقص وهو كون شهادة على المرأة على النصف من شهادة الرجل وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم، وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط، إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم دينا وعقلا غير الوجوه التي ذكر النبي ﷺ، وهو عليه السلام لا يقول إلا حقا، فصح يقينا أنه إنما عبر عليه السلام ما قد بينه في الحديث نفسه من الشهادة والحيض فقط وليس ذلك مما ينقص الفضل، فقد علمنا أن أبا بكر وعليا لو شهدوا في زنا لم يحكم بشهادتهم ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم، وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين، وكذلك القول في شهادة النساء. فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر، لكن نقف فيها عند ما حده النص فقط. ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل دينا ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة، فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين. وأيضا فقول الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} مخرج لهن عن سائر النساء في كل ما اعترض به معترض مما ذكرناه وشبهه.
قال أبو محمد: فإن اعترض معترض بقول النبي ﷺ: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون"، فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة وقد يتفاضلون أيضا فيها فيكون بعض الأنبياء أكمل من بعض ويكون بعض الرسل أكمل من بعض. قال الله عز وجل: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} فإنما ذكر في هذا الخبر من بلغ غاية الكمال في طبقته ولم يتقدمه منهم أحد وبالله تعالى التوفيق.
فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"، فلا حاجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل، فقد علمنا أن ابن مسعود وبلالا وزيد بن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة، وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم، والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك، ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم.
قال أبو محمد: وأما أفضل نسائه فعائشة وخديجة رضي الله عنهما لعظم فضائلهما وإخباره عليه السلام أن عائشة أحب الناس إليه وأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقد ذكر عليه السلام خديجة بنت خويلد فقال: "أفضل نسائهما مريم بنت عمران وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد"، مع سابقة خديجة في الإسلام وثباتها رضي الله عنها. ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإسلام عظيمة وأحمال للمشقات في الله عز وجل ورسوله ﷺ والهجرة والغربة عن الوطن والدعاء إلى الإسلام والبلاء في الله عز وجل ورسوله ﷺ. ولكلهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين.
قال أبو محمد: وهذه مسألة نقطع فيها أننا المحققون عند الله عز وجل وأن من خالفنا فيها مخطئ عند الله عز وجل بلا شك وليست مما يسع الشك فيه أصلا.
قال أبو محمد: فإن قال قائل هل قال هذا أحد قبلكم؟ قلنا له وبالله تعالى التوفيق: وهل قال غير هذا أحد قبل من يخالفنا الآن؟ وقد علمنا ضرورة أن لنساء النبي ﷺ منزلة من الفضل بلا شك فلا بد من البحث عنها ، فليقل مخالفنا في أي منزلة نضعهن، أبعد جميع الصحابة كلهم فهذا ما لا يقوله أحد، أم بعد طائفة منهم فعليه الدليل وهذا ما لا سبيل له إلى وجوده. وإذ قد بطل هذان القولان أحدهما بالإجماع على أنه باطل والثاني لأنه دعوى لا دليل عليها ولا برهان فلم يبق إلا قولنا والحمد لله رب العالمين الموفق للصواب بفضله.
ثم نقول وبالله تعالى نستعين: قد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس حين ولي بعد موت رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم. فقد صح عنه رضي الله عنه أنه أعلن بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس بخيرهم ولم ينكر هذا القول منهم أحد، فدل على متابعتهم له ولا خلاف أنه ليس في أحد من الحاضرين لخطبته إنسان يقول فيه أحد من الناس إنه خير من أبي بكر إلا علي وابن مسعود وعمر وأما جمهور الحاضرين من مخالفينا في هذه المسألة من أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فإنهم لا يختلفون في أن أبا بكر أفضل من علي وعمر وابن مسعود وخير منهم، فصح أنه لم يبق إلا أزواج النبي ﷺ. فإن قال قائل إنما قال أبو بكر هذا تواضعا؛ قلنا له هذا هو الباطل المتيقن لأن الصديق الذي سماه رسول الله ﷺ بهذا الاسم لا يجوز أن يكذب وحاشا له من ذلك ولا يقول إلا الحق والصدق، فصح أن الصحابة متفقون في الأغلب على تصديقه في ذلك، فإذ ذلك كذلك وسقط بالبرهان الواضح أن يكون أحد من الصحابة رضي الله عنهم خيرا من أبي بكر ولم يبق إلا أزواج النبي ﷺ ونساؤه ووضح أننا لو قلنا إنه إجماع من جمهور الصحابة لم يبعد من الصدق.
قال أبو محمد: وأيضا فإن يوسف بن عبد الله النمري حدثنا قال حدثنا خلف بن قاسم ثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي حدثنا محمد بن العباس البغدادي ثنا إبراهيم بن محمد البصري ثنا أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني قال: كان عمار بن ياسر والحسن بن علي يفضلان علي بن أبي طالب على أبي بكر الصديق وعمر.
حدثنا أحمد بن محمد الخوزي ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد فخطبهم عمار وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم: إني أقول لكم والله إني لا أعلم أنها زوجة رسول الله ﷺ في الجنة كما هي زوجته في الدنيا ولكن الله ابتلاكم بها لتطيعوها أو لتطيعوه، فقال له مسروق أو أبو الأسود: يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له، فسكت عمار وقال له الحسن: أعن نفسك عنا. فهذا عمار والحسن وكل من حضر من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والكوفة يومئذ مملؤة منهم يسمعون تفضيل عائشة على علي وهو عند عمار والحسن أفضل من أبي بكر وعمر فلا ينكرون ذلك ولا يعترضونه أحوج ما كانوا إلى إنكاره، فصح أنهم متفقون على أنها وأزواجه عليه السلام أفضل من كل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام.
ومما يبين أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل وليتكم ولست بخيركم إلا محقا صادقا لا تواضعا يقول فيه الباطل وحاشا له من ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرفي أنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البران ثنا عبد الملك بن سعد ثنا عقبة بن خالد ثنا شعبة بن الحجاج ثنا الحريري عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها أولست أول من أسلم ألست صاحب كذا.
قال أبو محمد: فهذا أبو بكر رضي الله عنه يذكر فضائل نفسه إذ كان صادقا فيها، فلو كان أفضلهم لصرح به وما كتمه وقد نزهه الله تعالى عن الكذب فصح قولنا نصا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي ﷺ . فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة والثلاثة الأسهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها. ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له لقال به. ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن عليا أفضل أكثر فوجب أن يُأتى بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
الاحتجاج بأن عليا أكثر الصحابة جهادا
قال أبو محمد: وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا والجهاد أفضل الأعمال.
قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب. فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر. أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ. وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعُبد الله تعالى بمكة جهرا وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد. فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلا . وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر. وبقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل من مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله ﷺ لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله ﷺ الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فيقدمه عليه السلام ويشتغل به، ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره وكان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثارا من رسول الله ﷺ له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه، ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضا وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة. ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا رضي الله عنه لم ينفرد بالبسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد، وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة وغيرهما ، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله ﷺ وموازرته في حين الحرب. وقد بعثهما رسول الله ﷺ على البعوث أكثر مما بعث عليا ، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه، فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم.
الاحتجاج بأن عليا أكثرهم علما
قال أبو محمد: واحتج أيضا من قال بأن عليا كان أكثرهم علما.
قال أبو محمد: كذب هذا القائل. وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما، أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي ﷺ له، فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي ﷺ من لا علم له، وهذه أكبر الشهادات على العلم وسعته. فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي ﷺ قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمر وابن مسعود وأبي وغيرهم، فآثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الغزوة لم يستخلف إلا على النساء وذوي الأعذار فقط، فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعهما وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين. ووجدناه ﷺ قد استعمله على الصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضا عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالما بما استعمله عليه، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة. وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر. وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه. ووجدنا عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج. وهذه دعائم الإسلام. ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله ﷺ على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالما به، فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل، فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم. ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر فشاهد أحكامه عليه السلام وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها، فصح ضرورة أنه أعلم بها. فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق. فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين.
وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله ﷺ إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله ﷺ لأن كل من حواليه أدركوا النبي ﷺ. وعلى ذلك كله فقد روى عن النبي ﷺ مائة حديث واثنان وأربعون حديثا مسندة، ولم يرو عن علي إلا خمس مائة وست وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين، وقد عاش بعد رسول الله ﷺ أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم، وكثر سماع أهل الأفاق منه مرة بصفين وأعواما بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة. فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري علي البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوي من فتاوي علم كل ذي حظ من العلم أن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه . وبرهان على ذلك أن من عمّر من أصحاب رسول الله ﷺ عمرا قليلا قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفا بنيابة غيره عنه في تعليم الناس. وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاما غير أشهر ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء، فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثا في هذه المدة الطويلة، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثا أو حديثين. وفتاوي عمر موازنة لفتاوي علي في أبواب الفقه. فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديث إلى حديث وفتاوي إلى فتاوي علم كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم. ثم وجدنا الأمر كل ما أطال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم، فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند وأربع وسبعين مسندا ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله ابن عباس لكل واحد منهما أزيد من ألف وخمسمائة ووجدنا لابن مسعود ثمان مائة مسند ونيف. ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها. فبطل قول هذه الطائفة الوقاح الجهال. فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحياء لاح كذبه وجهله، فإنا غير متهمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعته فوق مرتبته. لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب. ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الإفك في التعصب. فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالبين فيه هم المتهمون فيه إما له وإما عليه. وبعد هذا كله ليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي ﷺ بمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين.
فإن قالوا إن رسول الله ﷺ قد استعمل عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمين قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لأقضية رسول الله ﷺ أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمين. وقد استعمل رسول الله ﷺ أبا بكر على بعوث فيها الأخماس، فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالما بما يستعمله عليه. وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله ﷺ وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما. وقد استعمل عليه السلام أيضا على القضاء باليمين مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري. فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم قد انفرد أبو بكر بالجمهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا.
قولهم إن عليا كان أقرأ الصحابة
وقال هذا القائل: إن عليا كان أقرأ الصحابة.
قال أبو محمد: وهذه القصة المتجردة والبهتان لوجوه. أولها أنه رد على رسول الله ﷺ لأنه عليه السلام قال: "يؤم القوم أقرؤهم فإن استووا فأفقههم فإن استووا فأقدمهم هجرة"، ثم وجدنا عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فيها وعلي بالحضرة يراه النبي ﷺ غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحد أحق من أبي بكر بها، فصح أنه كان أقرأهم وأفقههم وأقدمهم هجرة. وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب أقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلا. هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سور القرآن كله ظاهرا. إلا أنه قد وجب يقينا بتقديم النبي ﷺ لأبي بكر على الصلاة وعلي حاضر أن أبا بكر أقرأ من علي، وما كان النبي ﷺ ليقدم إلى الإمامة الأقل علما بالقراءة على الأقرأ أو الأقل فقها على الأفقه. فبطل أيضا شغبهم في هذا الباب والحمد لله رب العالمين.
قولهم إن عليا أتقاهم
وقال قائلهم إن عليا كان أتقاهم.
قال أبو محمد: كذب هذا الأفاك. ولقد كان علي رضي الله عنه تقيا إلا أن الفضائل يتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبو بكر. والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله ﷺ في كلمة ولا خالف إرادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد. وقد تكلم رسول الله ﷺ على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف. وما وجدنا قط لأبي بكر توقفا عن شيء أمر به رسول الله ﷺ إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله ﷺ وأجاز له فعله، وهي إذ أتى رسول الله ﷺ من قباء فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي ﷺ أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله ﷺ فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله ﷺ: "ما منعك أن تثبت حين أمرتك"، فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله ﷺ ، وما أنكر عليه السلام ذلك عليه. وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله ﷺ فقد وجب أنه أخشاهم لله عز وجل. قال الله عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} والتقى هو الخشية لله عز وجل.
قولهم إن عليا أزهدهم
وقال قائلون: علي كان أزهدهم.
قال أبو محمد: كذب هذا الجاهل. وبرهان ذلك أن الزاهد إنما هو عزوب النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية. ليس الزاهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى. فأما عزوب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيدا جلدا يمنعونه، لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل، حتى هاجر مع رسول الله ﷺ ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله ﷺ ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز وجل حتى لم يبق له شيء سوى عباءة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها، إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها، إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عز وجل أزهد ممن أنفق وأمسك. ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال، وعد عند موته وما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصله من سهامه في المغازي والمقاسم مع رسول الله ﷺ. فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره، إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله ﷺ، وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز وجل لهم، إلا أن من آثر سبيل الله على نفسه أفضل. ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله. فهذا هو الزهد في المال واللذات. ولقد تلا أبا بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات. وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم، هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار، ومن جملة عقاره التي تصدق بها ضبعة كانت تغل ألف وسق تمرا سوى زرعها، فأين هذا من هذا.
وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار، فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي ﷺ صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر ، فما استعمل أبو بكر رضي الله منهم أحدا على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة أعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطائف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز، ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلا ولكن خشي المحاباة وتوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى. ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع إلى عزله، وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق أحد منهم بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم بن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر. ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الله على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي به الناس وكان لذلك أهلا، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد، فما فعل. ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأة وأخو ولده على مصر، ورضي ببيعة الناس الحسن ابنه بالخلافة. ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول إن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهدا وأعزب عن جميع معاني الدنيا نفسا ممن أخذ منها ما أبيح له أخذه. فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده.
قولهم إن عليا أكثرهم صدقة
وقال هذا القائل: وكان علي أكثرهم صدقة.
قال أبو محمد: وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال. وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز وجل فأشهر من أن يخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين. ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره. فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغناء في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه.
قولهم إن عليا هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد وثنا
وقالوا: علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا.
قال أبو محمد: أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن عليا مات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة، فصح أنه كان حين هاجر النبي ﷺ ابن ثلاث وعشرين سنة. وكانت مدة النبي ﷺ بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام. فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثما إن أبى. فإن أخذ الأمر على قول من قال إن عليا مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي ﷺ ابن خمسة أعوام. وكان إسلام أبي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة، وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز وجل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب. فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي. وأما عمر فإن كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن غناءه كان أكثر من غناء أكثر من أسلم قبله. ولم يبلغ علي حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي ﷺ ، وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي.
وأما كونه لم يعبد وثنا فنحن وكل مولود في الإسلام لم يعبد قط وثنا، وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان، أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك؟ معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم. فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلا زائدا. وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي ﷺ بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلي ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي ﷺ بسنين. وعبد الله بن عمر أيضا أسلم أبوه وله أربع سنين ولم يعبد قط وثنا فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة.
قولهم إن عليا أسوسهم
وقال بعضهم: علي كان أسوسهم.
قال أبو محمد: وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر . فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي ﷺ وأذعن الجميع للبقية وقبول ما دعت إليه العرب حاشا أبا بكر، فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجا كما خرجوا منه أفواجا وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين، ولم تَهُله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام، حتى أنار الله الإسلام وأظهره. ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع جنودهم ونكس راياتهم وأظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرؤا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان. ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشك بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيرا مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة. فأين سياسة من سياسة.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل كل ما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلى على دعاوي ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والسبق المبرز والحظ الأسنى في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة، فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي ﷺ.
قال أبو محمد: ولم نحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم إنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف. فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي ﷺ يقينا فكيف والنص على خلافته صحيح، وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضا بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعا. ثم أجمعت الأمة كلها أيضا بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها. وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه.
من فضائل أبي بكر
قال أبو محمد: ومن فضائل أبا بكر المشهورة قوله عز وجل: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر. فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله ﷺ في أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما. وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.
قال أبو محمد: فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال قد قال الله عز وجل: {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا} قال: وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله ﷺ عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز وجل لما نهاه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وهذه مجاهرة بالباطل. أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المحاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب. فليس هكذا قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله لهما وإخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما. فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن. وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله ﷺ كان غاية الرضا لله لأنه كان إشفاقا على رسول الله ﷺ ولذلك كان الله معه، وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم. وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله ﷺ عن الحزن. ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا، إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله ﷺ عيبا لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} ثم قال تعالى عن السحرة إنهم قالوا لموسى: {إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف أنك أنت الأعلى} فهذا رسول الله ﷺ وكليمه قد كان أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه لا تخف، فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر ، وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان لما نهاه رسول الله ﷺ لزم أشد منه لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا، بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضا لله تعالى قبل أن ينهى عنه ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن. وأما محمد ﷺ فإن الله عز وجل قال: {ومن كفر فلا يحزنك كفره} وقال تعالى: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق} وقال تعالى: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} وقال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وقال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} ووجدناه عز وجل قد قال: {قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون} وقال أيضا في الأنعام. فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله ﷺ يحزنه الذي يقولون ونهاه الله عز وجل عن ذلك نصا، فيلزمهم في حزن رسول الله ﷺ الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أراد في حزن أبي بكر سواء بسواء. ونعم إن حزن رسول الله ﷺ بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز وجل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن، كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز وجل قبل أن ينهاه الله عز وجل عن الحزن. وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن، فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يومئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم. وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة. ونعوذ بالله من الضلال.
تولية علي تبليغ سورة براءة
قال أبو محمد: واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنه عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ براءة من أبي بكر وتولي علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرائتها عليهم.
قال أبو محمد: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميرا على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته ، وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك. وسورة برآءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي ﷺ وكون الله تعالى معهما، فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه وحجة لأبي بكر قاطعة. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: إلا أن ترجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل. فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد ﷺ وأخبرنا بأنه أوحاه لله تعالى إليه. فمن تعرض إلى هذا فقد أقر بعين عدوه.
قال أبو محمد: وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زارٍ على رسول الله ﷺ رادّ لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: ولسنا من كذبهم في تأويلهم: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} وأن المراد بذلك علي رضي الله عنه، بل هذا لا يصح لأن الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك.
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي ﷺ بالبراهين المذكورة.
الأحاديث في فضل أبي بكر
وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله ﷺ في أبي بكر: "دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت"، وقوله ﷺ: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي" وهذا الذي لا يصح غيره -وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف- ومنها أمره ﷺ بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر ، وهذا هو الذي لا يصح غيره. ومنها غضبه ﷺ على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة. ومنها قوله ﷺ: "إن أمنّ الناس علي في ماله أبو بكر". وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي ﷺ هو قول رسول الله ﷺ إذ سئل: من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة"، قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها"، قيل: ثم من يا رسول الله؟ قال: "عمر".
قال أبو محمد: فقطعنا بهذا ثم وقفنا. ولو زادنا رسول الله ﷺ بيانا لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص.
المفاضلة بين عثمان وعلي
قال أبو محمد: واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر. فكان عثمان أقرأ وكان علي أكثر فتيا ورواية، ولعلي أيضا حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضا حظ قوي في الفتيا والرواية. ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله. ثم انفرد عثمان بأن رسول الله ﷺ بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدرا فألحقه الله عز وجل فيه بأجره التام وسهمه فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم. ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم. وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن اتبعه على الحق. والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي ﷺ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وقوله عليه السلام: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل، وعهده عليه السلام أن عليا "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"، وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه: "لا يبغضهم من يؤمن بالله وباليوم الآخر". وأما: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، فلا يصح من طريق الثقات أصلا. وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.
قال أبو محمد: ونقول بفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعا إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظغون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم. ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهدا مشهدا، فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية. فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} وكقوله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم}.
قال أبو محمد: فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة. ولقول رسول الله ﷺ: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر" ولإخباره عليه السلام أنه: "لا يدخل النار أحد شهد بدرا". ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله ﷺ بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب، إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز وجل: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} وقال تعالى: {وعد الله لا يخلف الله وعده} وقال تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فصح بالضرورة أن كل اتفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على عينه لتفضيل الله تعالى إياهم، والله تعالى لا يفضل إلا مؤمنا فاضلا. وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله ﷺ فكيف نحن. قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
قال أبو محمد: فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه، لكن نقول كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقينا لأنه قد وعدهم الله تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده، وإن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد. وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة
قال أبو محمد: لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز وجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم. وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة. والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البرائة منهم خلافا لله عز وجل وعنادا له. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم.
فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على عينهم واحدا واحدا إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير عرض استعجله، إلا أننا لا ندري على ماذا مات، وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعا، ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار، لكن نرجو لهم ونخاف عليهم، إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز وجل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله ﷺ: "خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم". ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلا بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة. وبرهان ذلك أن قد كان في عصر التابعين من هو أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دكخة القيني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم. فمن خالف قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول إن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن مبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي رضي الله عنهم، وهذا ما لا يقوله أحد. وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز وجل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلا. والحديث المأثور في أويس الفرني لا يصح لأن مداره على أسيد بن جابر وليس بالقوي. وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم عن أويس القرني فلم يعرفه في قومه. وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله ﷺ فضلا بالقرابة فقط، واحتج بقوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض} وبقوله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} وبقوله تعالى: {وابعث فيهم رسولا منهم}.
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه. أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما. إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء، أو يعني مؤمن أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا، لأن آزر والد إبراهيم عليه السلام كان كافرا عدو الله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار، فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران، وإن إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين، فأي حجة ها هنا لبني هاشم. فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد"، فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق، وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} وقال رسول الله ﷺ: "اللهم صل على آل أبي أوفي"، فهذا هو الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف. وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة، فاستوى بنو هاشم وغيرهم في إطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق. وقال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر، فاستوى كله بنو هاشم وقريش والعرب والعجم ومن كان جميعهم بهذه الصفة. وأيضا فيلزم من احتج بقوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} أن يقول إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص.
قال أبو محمد: فصح يقينا أن الله عز وجل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط. وبين هذا بيانا جليا قول الله عز وجل حاكيا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}، فسوى الله تعالى بين الظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام وبين الظالمين من ذرية غيره. وقال عز وجل: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا}، فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائنا من كان، فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل.
وأما قول الله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فهذا حق على ظاهره، وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم. ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه. ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسليمان وسالم مولى أبي حذيفة.
وأما قوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام {وابعث فيهم رسولا منهم} فقد قال عز وجل: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولا منهم ممن هم قومه.
فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بين هاشم"، فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه الصلاة والسلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي وأن يكون بنو لاوي من بني إسحاق عليه السلام وكل نبي من عشيرته التي هو منها. ولا يجوز غير هذا البتة. ونسأل من أراد حمل ها الحديث على غير هذا المعنى: أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا؟ فإن أنكروا هذا كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن، وقد قال عليه السلام: "أبي وأبوك في النار" و "إن أبا طالب في النار". وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار، كذلك قال الله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب}. فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس.
قال أبو محمد: ويكذب الظن الفاسد قول رسول الله ﷺ: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا". وأبين من هذا كله قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقوله تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} وقوله تعالى: {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} وقال تعالى وذكر عاد وثمودا وقوم نوح وقوم لوط ثم قال: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر}، فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله ﷺ ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولو أن النبي ابنه أو أبوه أو أمه نبية. وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد -على رسل الله الصلاة والسلام- ما فيه الكفاية. وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. فصح ضرورة أن بلالا وصهيبا والمقداد وعمارا وسالما وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقثم وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عن جميعهم بشهادة الله تعالى، فإن هذا لا شك فيه. ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل. ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات. وليست الدنيا دار جزاء. فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية، والكرم والفوز لمن اتقى الله عز وجل.
حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن اصبع حدثنا عبد السلام بن الخثن حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن قايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا.
الكلام في حرب علي ومن حاربه من الصحابة رضي الله عنهم
قال أبو محمد: اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق. فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة إن عليا كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطأ. وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة إن عليا مصيبا في قتاله مع معاوية وأهل النهر، ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل وقالوا إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي. وقالت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطئ في قتاله أهل النهر. وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين، وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان. وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين، وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين. وقد أشار إلى هذا أيضا أبو بكر بن كيسان.
قال أبو محمد: أما الخوارج فقد أوضحنا خطأهم وخطأ أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم علي الحكمين، فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد له رب العالمين. وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناطرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه. وذكروا أيضا أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى. فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه، والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز وجل: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} وقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قالوا: ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم، قالوا: وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامة من فعل ذلك ووجوب حربه، قالوا: وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه، فقد ينفذ مثلها سرا ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها، قالوا: وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام؛ لأنهم إنما أنكروا عليه استئثارا بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها، وتولية أقاربه، فلما شكوا إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه، وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، ونفي رسول الله ﷺ للحكم لم يكن حدا واجبا ولا شريعة على التأبيد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة، وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفى أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم. قالوا : وإيواء علي المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله ﷺ لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله ﷺ أعظم، والمنع من إنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك. قالوا: وامتناع معاوية من بيعة علي كامتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية، ومعاوية في تأخيره عن بيعة علي أعذر وأفسح مقالا من علي في تأخيره عن بيعة أبي بكر، لأن عليا لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير، وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه، وما تابعه فيهم إلا الأقل، سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته، فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك. وأيضا فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي ﷺ كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان، ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف فيه أحد ولا عن شورى، فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رآى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك. قالوا: فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله ﷺ على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله ﷺ أبا بكر إلى الصلاة وأمره عليا بأن يصلي وراءه في جماعة المسلمين فتأخر عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله ﷺ حقا لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله ﷺ على تقديمه إلى الصلاة، وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله ﷺ لذنب ثم تاب منه. وأيضا فإن عليا قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين، إما أن يكون مصيبا في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيبا في بيعته فقد أخطأ إذا تأخر عنها. قالوا: والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته. قالوا: فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر، وإن كان فعلهم صوابا فقد برئوا من الخطأ جملة. قالوا: والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جدا فقد كانوا في الشورى معه، لا يبدو له فضل تفوق عليهم ولا على واحد منهم، وأما البون بين علي وأبي بكر فأبين وأظهر، فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل. قالوا: وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الأرث فإن القضيتين استويا في التحريم، فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز وجل وعلى المسلمين أعظم جرما وأوسع خرقا وأشنع إثما وأهول فسقا من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب. قالوا: وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.
قال أبو محمد: هذا كل ما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه. ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده.
قال أبو محمد: نبدأ بعون الله عز وجل بإنكار الخوارج للتحكيم.
قال أبو محمد: قالوا: حكم علي الرجال في دين الله تعالى، والله عز وجل قد حرم ذلك بقوله {إن الحكم إلا لله} وبقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}.
قال أبو محمد: ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلا في دين الله وحاشاه من ذلك، وإنما حكم كلام الله عز وجل كما افترض الله تعالى عليه، وإنما اتفق القوم كلهم إذا رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن وهذا وهو الحق الذي لا يحل لأحد غيره، لأن الله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدليا بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له، وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن أن يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم، فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن. وهذا الذي لا يجوز غيره . ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعرابا قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمرو ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سلمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق. ولو لم يكن من جهلهم إلا قرب عهدهم بخبر الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجوب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاما وأشهر ، وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي ﷺ ولا فرق، لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله ﷺ ونقلوا إليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص، نقلوا اليهم خبر السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش. وهم يقرؤن قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} وقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا} الآية وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}، ثم أعماهم الشيطان وأضلهم الله تعالى على علم فحلوا بيعة مثل علي وأعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وسعد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل وأعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز وجل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز وجل شهد بذلك، فلم يبايعوا أحدا منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي ﷺ حتى تداركه الله عز وجل ففر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بول على عقيبه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط. فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره. ولكن حق لمن كان أحد أئمته ذو الخويصرة الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله ﷺ في حكمه والاستدارك ورأى نفسه أورع من رسول الله ﷺ هذا وهو يقر أنه رسول الله ﷺ إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حمارا أو أضل. ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير إليه. فنقول وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة، وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض، وإذ ذلك كلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب، وقد ذكرنا وجوب الإئتمام بالإمام فإذ هذا كله كما ذكرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام يأتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام، فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعدا فهو إمام قائم، ففرض طاعته، لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد، فهذا أوضح وأوجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين، فهو الإمام بحقه. وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى. كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيدا أو من يستحق الإمامة لكانت أيضا بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق. فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت إمامته. وهذا برهان لا محيد عنه.
وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم، فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره، هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه. بل يقطع كل ذي علم على أن كل لك لم يكن. فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد. فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلما. وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراعة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم فردعوا حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأتها بالقتال، واختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شب الحرب وإضرامها. فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها. ورجع الزبير وترك الحرب بحالها. وأتى طلحة سهم غائر وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ﷺ فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه. وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر.
وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه. إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يريدونه على إسلام مروان إليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت، فهو على ذلك. وجماعات من الصحابة فيهم الحسن والحسين ابنا علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعمائة من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تثبتا إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه، ولا خبر من ذلك عند أحد. لعن الله من قتله والراضين بقتله، فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله، لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم الحرام.
وأما قوله من قال إنه رضي الله عنه أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وإفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه، بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن سياد وجماعة غيرهم. هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار. ولقد أمر رسول الله ﷺ برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى. وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض . فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين. فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا يبالي مؤمنا كان أو كافرا، ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم. ولو فعل هذا علي لكانت جرحة لأنه لا يخلوا أن يكون عثمان كافرا أو فاسقا أو مؤمنا فإن كان كافرا أو فاسقا عنده فقد كان فرضا على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين، فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمنا عنده، فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمنا مطروحا ميتا على مزبلة لا يأمر بموارته ، أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافر أو فاسق على أهل الإسلام؟ ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة.
قال أبو محمد: ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن عليا رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه واتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت بن حسان ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهبرهم عليها وهم معه في المدينة وغيرها، نعم والخوارج وهو يصيحون في نواحي المسجد بأعلى أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله، فيقول لهم رضي الله عنه: لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال. ولم يبدأهم بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب، فلما قالوا كلنا قتله قاتلهم حينئذ؛ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجمل لامتناعهم من بيعته. هذا إفك وجنون مختلق بحت بلا شك.
قال أبو محمد: وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته، فعلي المصيب في هذا. ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك، كما أمر رسول الله ﷺ عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: "كبّر كبّر" وروي: "الكبر الكبر"، فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه. فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا، وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط، فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله ﷺ أن لهم أجرا واحدا وللمصيب أجرين. ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأبشار والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحا لليث وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم، فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير، وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير، وكذلك في الشرائع والأموال والأبشار. وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم، وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم، ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنه، وإنما اجتهد في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون. وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه. فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم.
وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا، وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له، فبالمقابل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير. فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا. وأيضا في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه. فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق. وأيضا الخبر الصحيح من رسول الله ﷺ: "تقتل عمارا الفئة الباغية".
قال أبو محمد: المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصدا إلى الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية وان كان مأجورا، ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود. وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا المحارب تلزمه حدود المحاربة والقود، وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطئ. وبيان ذلك قول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} إلى قوله {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية. وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باغين بعضهم إخوة بعض في حين تقاتلهم، وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم، ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان وإنما هم مخطئون باغون ولا يريد واحدا منهم قتل آخر. وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا. وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنى بعد إحصان ولا ارتد فيسوّغ المحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان، فهم فساق ملعونون.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن عليا هو صاحب الحق، فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو، وهكذا نقول. فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن. وكذلك إن كانتا معا باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه ﷺ لأنه كله من عند الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وقال عز وجل: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فصح يقينا أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل. وإذ هو كذلك فليس شئ مما عند الله تعالى مختلفا. والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.
قال أبو محمد: فنقول وبالله التوفيق.
أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحاربين لله تعالى ولرسوله ﷺ الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والأمانة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة، فنعم وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البراءة منهم، ولكنهم كانوا عددا ضخما جما لا طاقة له عليهم، فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه، كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق. قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال رسول الله ﷺ: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، ولو أن معاوية بايع عليا لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته.
وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة، وعلي استقال ورجع وبايع بعد يسير، فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة.
وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم، ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل سواء كان هنالك من هو مثله أو أفضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته على غيره. ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق. فصح أن عليا هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد. وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذ استبان له وربما لم يستبن له حق يموت عليه. وما توفيقنا إلا بالله عز وجل، وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: فطلب على حقه فقاتل عليه، وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله ﷺ إذ قال: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي"، فغبطه رسول الله ﷺ بذلك. ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء بعده ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إمامة المفضول
قال أبو محمد: ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه. وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه.
قال أبو محمد: وأما الرافضة فقالوا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين. وما نعلم لمن قال إن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلا لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب. وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح. وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة: قد رضيت لكم أحدا هذين الرجلين. يعني أبا عبيدة وعمر، وأبو بكر أفضل منهما بلا شك. فما قال أحد من المسلمين إنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين. ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك. فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول. ثم عهد عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلا، وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول. ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته. وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه، إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني إنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه، فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الأعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الإمامة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث إلى أن مات.
قال أبو محمد: ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا والحمد لله على الإسلام.
فإن قال قائل كيف يحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص مع رسول الله ﷺ، وكيف تحتجون في هذا أيضا بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافة أبي بكر عندكم نص من رسول الله ﷺ، فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله ﷺ.
قلنا وبالله تعالى التوفيق: إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين، أحدهما تقديم من ليس قرشيا وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية، والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعا فقامت به الحجة. وليس خطأ من أخطأ وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق. وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق.
وأما أمر أبي بكر فإن الحق كان له بالنص، وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين. ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله ﷺ وبين منزلة صيّرها رسول الله ﷺ لإنسان، فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر. فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص.
وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع محال لأن قريشا مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحاري البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد، فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم.
وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن، والحكم بالظن لا يحل. قال الله تعالى ذاما لقوم: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} وقال تعالى: {قتل الخراصون} وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى} وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} وقال رسول الله ﷺ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
وأيضا فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم، وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم. فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع، وهذا باطل لا يحل. والحمد لله رب العالمين.
ثم قد وجدنا رسول الله ﷺ قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم. فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلى عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي. ولا خلاف في أن أبا بكر وعمرو وعثمان وعلي وطلحة والزبير بن عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود وبلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا، فصح يقينا أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل.
وأيضا فإن الفضائل كثيرة جدا. منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك. ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائنا في بعضها ومتأخرا في بعضها، ففي أيها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول؟ فإن اقتصر على بعضها كان مدعيا بلا دليل، وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبدا في أحد بعد رسول الله ﷺ، فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطا. وهذا أيضا دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه. فوجدناها أن يكون صليبه من قريش لإخبار رسول الله ﷺ إن الإمامة فيهم. وأن يكون بالغا مميزا لقول رسول الله ﷺ: "رفع القلم عن ثلاث – فذكر - الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق"، وأن يكون رجلا لقول رسول الله ﷺ: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة". وأن يكون مسلما لأن الله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} والخلافة أعظم السبيل، ولأمره تعالى بإصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا. وأن يكون متقدما لأمره عالما بما يلزمه من فرائض الدين متقيا لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} لأن من قدم من لا يتقي الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء معلنا بالفساد في الأرض غير مأمون، أو من لا ينفذ أمرا أو من لا يدري شيئا من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى، وقد قال رسول الله ﷺ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وقال عليه السلام: "يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"، وقال تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا} الآية، فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون وليا للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلا.
ثم يستحب أن يكون عالما بما يخصه أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام، مؤديا للفرائض كلها لا يخل بشيء منها، مجتنبا لجميع الكبائر سرا وجهرا، مستترا بالصغائر إن كانت منه. فهذه أربع صفات يكره المرء أن يلي الأمة من لم ينتظمها، فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب.
والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف شديدا في إنكار المنكر من غير عف ولا تجاوز للواجب مستيقظا غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذرا له في غير حقه. ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن وسنن رسول الله ﷺ، فهذا يجمع كل فضيلة.
قال أبو محمد: ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام. ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة، فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا، بل قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط} فمن قام بالقسط فقد أدى ما أمر به. ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ؛ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين. ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة. وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد. وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة. وذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمام لا تصح بأقل من عقد خمس رجال. ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوى. وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه، وأنبأ أن كل ذلك دعاوى لا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحيا من الناس، إذ لا دليل على شيء منها.
قال أبو محمد: أما من قال إن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج، والله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
قال أبو محمد: ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة بل طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى أسمار وفرغانة وأسروشنه إلى أقاصي خراسان إلى الجوزجان إلى كابل إلى المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى، ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد، فبطل هذا القول الفاسد، مع أنه لو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان. وإنما قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} و {كونوا قوامين بالقسط} فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك، وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعدا لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحدا قيام بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبدا لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية. ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلا فارغا وهذا خروج عن الإسلام. فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق.
وأما قول من قال إن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد دعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وهو قول فاسد لا حجة لأهله. وكل قول في الدين عري عن دليل من القرآن أو من سنة رسول الله ﷺ أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين. قال الله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه، فسقط هذا القول أيضا.
وأما قول الجبائي، فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحدا منهم فصار الاختيار منهم بخمسة فقط.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لوجوه. أولها أن عمر لم يقل إن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز، بل قد جاء عنه أنه قال إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقد أجاز عقد ثلاثة. ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة، وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم. والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف، وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك. فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد.
فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له إن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء بسواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم. وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال ذلك، إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه، ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم. وهذا مما لا مخلص منه أصلا، فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين.
فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته، وساء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته، إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله ﷺ بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز، وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
قال أبو محمد: إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته.
والوجه الثاني إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له، ففرض اتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما. وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غيره أمره وصوب ذلك رسول الله ﷺ إذ بلغه فعله وساعد خالدا جميع المسلمين رضي الله عنهم. وأن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن ذلك معاونة على الإثم والعدوان. وقد قال عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} كما فعل يزيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله.
والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته. وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثابت عن رسول الله ﷺ من قوله: "من بات ليلة ليس في عنقه بيعة"، ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك والزيادة على ذلك باطل لا يحل. على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة . فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة.
قال أبو محمد: فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق حق الأول، وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله ﷺ: "فوا بيعة الأول فالأول، من جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائنا من كان". فلو قام اثنان فصاعدا معا في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما بيعته نُظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ومن البر تقليد الأسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها، فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلا إذا كان مؤديا للفرائض والسنن مجتنبا للكبائر ومستترا بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور، فإن استويا في الفضل والسياسة أقرع بينهما أو نظر في غيرهما. والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وهذا أعظم الحرج. وبالله تعالى التوفيق.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو محمد: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.
ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم، إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد، وباللسان إن قدر على ذلك، ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا. وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم، وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا. واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم. إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا فإن كان عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل. وقد روينا عن ابن عمرانة قال: لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره.
وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك. قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد. وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين، وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الجوزاء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة بن شعبة وأبي المعدل وحنظلة بن عبد الله وأبي شيخ الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله بن الشخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوساء وجبلة بن زحر وغيرهم. ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكعبيد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشير ومطر الوراق ومن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله. وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم، فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا.
قال أبو محمد: احتجت الطائفة المذكورة أولا بأحاديث فيها: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال: "لا ما صلوا"، وفي بعضها: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان"، وفي بعضها وجوب الصبر وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله، وفي بعضها: "فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار"، وفي بعضها: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"، وبقوله تعالى: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} الآية.
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبرا خبرا بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال. ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملا كافية وبالله تعالى نتأيد.
أما أمره ﷺ بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له. فإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى. وإما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله ﷺ بالصبر على ذلك. برهان هذا قول الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وقد علمنا أن كلام رسول الله ﷺ لا يخالف كلام ربه تعالى. قال الله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل ولا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض. فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام. قال رسول الله ﷺ: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم". فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمسلّم ماله للأخذ ظلما وظهره للضرب ظلما وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن. وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها. أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا. قال الله عز وجل: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}. وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله ﷺ: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء". وصح عن رسول الله ﷺ: "لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وإنه عليه السلام قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد". وقال عليه السلام: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده". فكان ظاهر هذه الأخبار معارضا للآخر فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك. فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال فيه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زائدة وهي القتال، هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معنى تلك الحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك. فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين. ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به فقال على الله ما لم يعلم، وهذا لا يحل. ولو كان هذا لما أخلى الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخا لقوله تعالى في القرآن: {تبيانا لكل شيء}.
وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء} لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة، فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفا لها فهو المنسوخ المرفوع.
وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان.
قال أبو محمد: وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان. وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان. والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم. وقد جاء عن رسول الله ﷺ أن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق فقال عليه السلام: "لا تعطه"، قال فإن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: فإن قتله؟ قال: "إلى النار"، قال: فإن قتلني؟ قال: "فأنت في الجنة" أو كلاما هذا معناه. وصح عنه عليه السلام أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه". وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة: "من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها". وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله ﷺ. وهذا يبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص، لأن اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبها السلطان، فافترض عليه السلام منعها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام. ولو اجتمع أهل الحق ما قاومهم أهل الباطل. نسأل الله المعونة والتوفيق.
قال أبو محمد: وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرون فقط. وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضا، فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه.
وقال بعضهم إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر، فقال لهم الآخرون: كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر أن يهتك حريما ولا أن يأخذ مالا بغير حق ولا أن يتعرض لمن لا يقاتله، فإن فعل شيئا من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه. وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه. وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره. وأيضا فلو كان خوف ما ذكروا مانعا من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعا من جهاد أهل الحرب، وهذا ما لا يقوله مسلم، وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المؤمنين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم. ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ، ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة.
قال أبو محمد: ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلنا به لا يدع الصلاة؟ فإن قالوا: لا يجوز القيام عليه ، قيل لهم إنه لا يدع مسلما إلا قتله جملة وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه، فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه، وإن قالوا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحد منهم وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك. فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحيطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك نسوة بظلم، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز. وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق.
ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم، فإن قالوا فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قالوا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك.
قال أبو محمد: والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه. فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع. وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك
قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل، وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة. وقال آخرون إلا الجمعة والعيدين، وهو قول بعض أهل السنة. وذهب طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور اصحاب الحديث وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها، وبهذا نقول. وخلاف هذا القول بدعة محدثة، فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم ، وهؤلاء أفسق الفساق. وأما المختار فكان متهما في دينه مظنونا به الكفر.
قال أبو محمد: احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
قال أبو محمد: فيقال لهم كل فاسق إذا نوى بصلاته وجه الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة. ولو لم يكن من المتقين إلا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله ﷺ. قال الله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة}. ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى. ومن قطع بهذا فقد قفا ما لا علم له به وقال ما لا يعلم وهذا حرام. وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وقال عز وجل: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}.
وقال بعضهم: إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام.
قال أبو محمد: وهذا غاية الفساد لأنه قول بلا دليل. بل البرهان يبطله لقوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من معقول. وهم قد أجمعوا على أن طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته، فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه إذا.
وأيضا فإن القطع على سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وإنما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق وصح أنه لا يصلي أحد عن أحد وأن كان أحد يصلي عن نفسه . وقال تعالى: {أجيبوا داعي الله} فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعا إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ففرض إجابته وعمل ذلك الخير معه لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وأن كل داع دعى إلى شر فلا يجوز إجابته بل فرض دفاعه ومنعه. وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وأيضا فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه. والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله ﷺ. وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله ﷺ، وإنما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها. وأما الصغائر فما نجا أحد بعد الأنبياء عليهم السلام. وقد صلى رسول الله ﷺ خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف. وبهذا صح أن أمر رسول الله ﷺ أن: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن استووا فأفقههم"، ندب لا فرض. فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات.
قال أبو محمد: وأما دفع الزكاة إلى الإمام فإن كان الإمام القرشي الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهي جائزة لقول رسول الله ﷺ: "أرضوا مصدقيكم". ولا يكون مصدقا كل من سمى نفسه مصدقا، لكن من قام البرهان بأنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته له. وإما من سألها من هو غير الإمام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق في قبضها فلا يجزي دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه. وقد قال رسول الله ﷺ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وهكذا القول في الأحكام كلها من الحدود وغيرها إن أقامها الإمام الواجبة طاعته والذي لا بد منه، فإن وافقت القرآن والسنة نفذت وإلا فهي مردودة لما ذكرنا . وإن أقامها غير الامام أو واليه فهي كلها مردودة ولا يحتسب بها لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها، فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوامين بالقسط. ولا خلاف بين أحد من الأمة اذا كان الإمام حاضرا متمكنا أو أميره أو واليه فإن من بادر إلى تنفيذ حكم هو إلى الإمام فإنه إما مظلمة ترد وإما عزل لا ينفذ، على هذا جرى عمل رسول الله ﷺ وجميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصرا بعد عصر ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الجهاد فهو واجب مع كل إمام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لأنه تعاون على البر والتقوى، وفرض على كل أحد دعا إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ومنع المسلمين ممن أرادهم. قال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} الآية فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان. وبالله تعالى التوفيق.
- تم كتاب الإمامة والمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره.