الرئيسيةبحث

الإمامة من أبكار الأفكار

الإمامة
من أبكار الأفكار في أصول الدين
  ► ☰  

☰ جدول المحتويات

بسم الله الرحمن الرحيم


القاعدة الثامنة
في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


وتشتمل على أصلين:

الأصل الأول: في الإمامة.

الأصل الثاني: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأصل الأول في الإمامة

وأعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات بل من الفروعيات غير أنه لما جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلمين، ومصنفات الأصوليين، جرينا على العادة في ذكرها هاهنا مشيرين إلى تحقيق أصولها، [وتنقيح فصولها].

وهي تسعة فصول:

الأول : في أن إقامة الإمام هل هي واجبة أم لا.

الثاني: فيما يثبت به كون الإمام إماما.

الثالث: في شروط الإمام.

الرابع: في إثبات إمامة إمام الأئمة أبي بكر الصديق «رضي الله ع».

الخامس: في إثبات إمامة عمر بن الخطاب «رضي الله ع».

السادس: في إثبات إمامة عثمان بن عفان «رضي الله ع».

السابع: في إثبات إمامة علي كرم الله وجهه.

الثامن: في التفضيل.

التاسع: فيما جرى بين الصحابة من الفتن والحروب.

الفصل الأول في أن إقامة الإمام هل هي واجبة أم لا

وقبل النظر في ذلك لا بد من تحقيق معنى الإمامة.

قال بعض الأصحاب: إنها عبارة عن رئاسة في الدين والدنيا عامة لشخص من الأشخاص. وينتقض ذلك بالنبوة. والحق أن الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة.

وإذا عرف معنى الإمامة، فهل إقامة الإمام واجبة أم لا.

اختلف الناس فيه: فمنهم من قال بالوجوب، ومنهم من نفاه.

والقائلون بالوجوب اختلفوا في أمرين:

الأول: في طريق معرفة الوجوب:

فمنهم من قال بأن طريق معرفة الوجوب السمع دون العقل، كالأشعرية وأكثر المعتزلة.

ومنهم من قال بالعقل دون السمع كالإسماعيلية والإمامية، غير أن الإسماعيلية قالوا بالوجوب لكون الإمام معرفا لله تعالى وقالت الإمامية بالوجوب لا لنعرف الله بل لإقامة القوانين الشرعية وحفظها عن الزيادة والنقصان.

ومنهم من قال بالعقل والسمع معا كالجاحظ والكعبي وأبي الحسين البصري.

الاختلاف الثاني: أن إقامة الإمام هل هي واجب على الله أو على الخلق؟

ومذهب الأشاعرة وأهل السنة وكثير من المعتزلة: أنه واجب على الخلق.

ومذهب الإمامية والإسماعيلية : أنه واجب على الله تعالى.

وأما القائلون بنفي الوجوب: فمنهم من قال بنفي الوجوب مطلقا في جميع الأوقات، وإنما ذلك من الجائزات، كالأزارقة والصفرية وغيرهم من الخوارج.

ومنهم من قال: بأنه لا يجب مع الأمن وإنصاف الناس بعضهم من بعض لعدم الحاجة إليه، وإنما يجب عند الخوف وظهور الفتن، كأبي بكر الأصم.

ومنهم من عكس الحال وقال بنفي الوجوب مع الفتن لأنه ربما كان نصبه سببا لزيادة الفتن لاستنكافهم عنه، وإنما يجب عند العدل والأمن إذ هو أقرب إلى إظهار شعائر الإسلام، كالفوطي وأتباعه.

وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فالكلام في هذه المسألة يتعلق بأطراف ثلاثة.

الطرف الأول: في بيان الوجوب سمعا. والثاني: في امتناع الوجوب عقلا. والثالث: في امتناع إيجاب ذلك على الله تعالى

الطرف الأول: في بيان الوجوب سمعا:

والمعتمد فيه لأهل الحق ما ثبت بالتواتر من إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي ﷺ على امتناع خلو الوقت عن خليفة، وإمام، حتى قال أبو بكر «رضي الله ع» في خطبته المشهورة، بعد وفاة النبي ﷺ «إن محمدا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به» فبادر الكل إلى تصديقه، والإذعان لقبول قوله، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وأرباب الدين بل كانوا مطبقين على الوفاق، وقتال الخوارج على الإمام، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإن اختلفوا في التعيين، ولم يزالوا على ذلك مع كانوا عليه من الخشونة في الدين، والصلابة في تأسيس القواعد، وتصحيح العقائد، غير مرتقبين في ذلك لومة لائم، ولا عذل عاذل، حتى بادر بعضهم إلى قتل الأهل، والأقارب في نصرة الدين وإقامة كلمة المسلمين، والعقل من حيث العادة يحيل تواطؤ مثل هؤلاء القوم على وجوب ما ليس بواجب، لا سيما مع ما ورد به الكتاب، والسنة من تزكيتهم، والإخبار عن عصمتهم، على ما سبق تحقيقه في قاعدة النظر.

ثم جرى التابعون على طريقتهم واتباع سنتهم، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر، وزمان إلى زمننا هذا من إقامة الأئمة، ونصب إمام متبع، في كل عصر وحكمة ذلك، أنا نعلم علما يقارب الضرورة، أن مقصود الشارع من أوامره، ونواهيه في جميع موارده، ومصادره وما شرعه من الحدود، والمقاصات وعقود المعاملات، والمناكحات، وأحكام الجهاد، وإظهار شعائر الإسلام في أيام الجمع، والأعياد، إنما كان لمصالح الخلق، والأغراض عائدة إليهم، معاشا ومعادا، وذلك مما لا يتم دون إمام مطاع، وخليفة متبع، يكون من قبل الشارع بحيث يفوضون أزمتهم، في جميع أمورهم إليه، ويعتمدون في جميع أحوالهم عليه. فإنهم بأنفسهم مع ما هم عليه من اختلاف الأهواء، وتشتت الآراء، وما بينهم من العداوة، والشحناء، قلما ينقاد بعضهم لبعض، وربما أدى ذلك إلى هلاكهم جميعا.

ويشهد بذلك وقوع الفتن واختلاف الأمم، عند موت ولاة الأمر من الأئمة إلى حين نصب إمام آخر، بحيث لو تمادى الحال في إقامته لكثرت الاختلافات وبطلت المعيشات وعظم الفساد في العباد، وصار كل مشغولا بحفظ نفسه وماله تحت قائم سيف وذلك مما يفضي إلى رفع الدين وهلاك الناس أجمعين، ومنه قيل «الدين أس والسلطان حارس، والدين والسلطان توأمان»، فإذن نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين، وهو حكمة الإيجاب السمعي.

فإن قيل: لا نسلم تصور انعقاد الإجماع، وإن سلمنا ذلك ولكن لا نسلم أن الإجماع حجة، ولا نسلم صحة التواتر، وتقرير كل واحد مما سبق في قاعدتي النظر والنبوات.

وإن سلمنا أن الإجماع حجة، وأن التواتر يفيد العلم ولكن لا نسلم وجود الإجماع فيما نحن فيه، وما المانع أن يكون ثم نكير، وأن الموافقة لم تتحقق إلا من آحاد المسلمين.

والذي يدل على ذلك قول عمر «رضي الله ع»: «ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» أي بايعت أبا بكر من غير مشورة وقى الله شرها فلا نعود إلى مثلها.

كيف وإن الإجماع لا بد وأن يعود إلى مستند من الكتاب والسنة، ولو كان له مستند لقد كانت العادة تحيل أن لا ينقل مع توفر الدواعي على نقله، فحيث لم ينقل مستنده، علم أنه غير واقع في نفسه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب نصب الإمام، غير أنه معارض بما يدل على عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه:

الأول: أن نصب الإمام لو كان واجبا فإما أن يكون واجبا على الله تعالى، أو على العبيد، الأول: محال لما سبق في التعديل والتجويز.

وإن كان الثاني: فإما أن يكون ذلك لفائدة أو لا لفائدة.

فإن كان لا لفائدة: فهو عبث، والعبث لا يكون واجبا.

وإن كان لفائدة فإما أن ترجع إلى الله تعالى أو إلى العبيد.

الأول: محال لأن الله تعالى ويتقدس عن الأغراض والضرر والانتفاع، وإن عادت إلى العبيد فإما دينية أو دنيوية.

فإن كانت دينية، فإما معرفة الله تعالى على ما قاله الملاحدة.

أو لإقامة القوانين الشرعية كما قاله الإمامية. والأول محال لأن العقل كاف في معرفته ومعرفة جميع القضايا العقلية، ولا حاجة إلى تعريف ذلك بالإمام.

والثاني ممتنع لوجهين: الأول: أنه يكفى في معرفة ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله على ما [جرت] العادة به في زمن النبي ﷺ إلى وقتنا هذا.

الثاني: أنه ما من مسألة اجتهادية إلا ويجوز لكل واحد من المجتهدين أن يخالفه فيها بما يؤدي إليه اجتهاده، فكيف يكون واجب الطاعة مع جواز المخالفة، ولا يكون في نصبه فائدة

وإن كانت دنيوية فهو أيضا ممتنع لوجهين:

الأول: أن تعاون الناس على أشغالهم، وتوفرهم على إصلاح أحوالهم في دنياهم مما تحدوهم إليه طباعهم، وأديانهم فلا حاجة لهم إلى الإمام، ومن يتحكم عليهم فيما يستقلون به، ويهتدون إليه دونه، ويدل على ذلك انتظام أحوال البوادى والعربان، الخارجين عن حكم السلطان.

الثاني: هو أن الانتفاع بالإمام في هذه الأمور فرع الوصول إليه، ولا يخفى تعذر، وصول آحاد الرعية إليه، في كل ما يعن له من الأمور الدنيوية عادة فلا يكون نصبه مفيدا.

الوجه الثاني: هو أن نصب الإمام مما يفضى إلى الإضرار بالمسلمين، والإضرار منفى بقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، وبيان لزوم الإضرار من ثلاثة أوجه :

الأول: أنه قد يستنكف عنه بعض الناس: كجاري العادة في السلف، وهلم جرا وذلك مما يفضى إلى الفتن والاختلاف، وهو إضرار.

الثاني: هو أن الإمام من نوع الرعية، وتولية الإنسان على من هو مثله تحكم عليه فيما يهتدي وما لا يهتدي إليه إضرار به لا محالة.

والثالث: أن الإمام إما أن يكون معصوما أو لا يكون معصوما، القول بالعصمة ممتنع على ما يأتي، وإن لم يكن معصوما تصور عليه الكفر والفسوق.

وعند ذلك: إن لم يعزل تعدى ضرر كفره أو فسقه إلى الأمة، وإن عزل احتيج في عزله إلى إثارة الفتنة، وهو إضرار على ما لا يخفى.

الوجه الثالث: هو أن الإمام له شروط قلما توجد في كل عصر. وعند ذلك فإن أقام الناس إماما اختل فيه شرط من شروط الإمامة فما فعلوا الواجب، وإن لم يقيموه فقد تركوا الواجب، واجتماع الأمة على ترك الواجب محال. وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجوب نصب الإمام فلا وجوب.

نعم إن أدى اجتهادهم إلى إقامة أمير أو رئيس عليهم يتقلد أمورهم ويرتب جيوشهم ويحمي حوزتهم ويأخذ على أيدى السفهاء منهم وينتصف للمظلوم من الظالم ويقوم بذلك كله على وجه العدل والإنصاف، فلهم ذلك من غير أن يلزمهم بذلك حرج في الشرع أصلا.

والجواب: أما منع تصور انعقاد الإجماع ومنع كونه حجة ومنع التواتر وإفضائه إلى العلم، فقد سبق جوابه وإبطال كل ما يرد عليه في قاعدتي النظر والنبوات.

قولهم: لا نسلم وجود الإجماع فيما نحن فيه.

قلنا: دليله ما سبق.

قولهم: يحتمل أن يكون ثم نكير.

قلنا: لو وجد النكير في مثل هذا الأمر العظيم لنقل، فإن العادة تحيل عدم نقل مثل هذه الأمور على ما تقدم. وقول عمر «رضي الله ع» ليس فيه ما يدل على انتفاء وقوع [الإجماع] على وجوب نصب الإمام بل غايته الدلالة على كون بيعة أبي بكر، وتعيينه بالعقد مما وقع فلتة بغتة، وليس فيه أيضا دلالة على انتفاء وقوع الإجماع، على تعيين أبي بكر فإنه لا مانع من وقوع الإجماع على ذلك بغته، وإن قدر الاختلاف في التعيين أولا.

قولهم: لو وجد الإجماع لنقل مستنده من الكتاب أو السنة.

قلنا: إنما يلزم نقل مستند الإجماع أن لو دعت الحاجة إليه، وتوفرت الدواعي على نقله، وليس كذلك فإنه مهما تحقق الاتفاق، واستقام الوفاق من الأمة على شيء فقد وجب اتباعه ووقع الاستغناء به عن مستنده، ولم يبق النظر إلا في موافقته ومخالفته.

ومع عدم الحاجة [إلى] النظر في المستند، لم تنصرف البواعث إلى نقله، ولم تتوفر [الدواعي] على إشاعته فلا يكون عدم نقله قادحا في الإجماع، كيف وأنه لا يبعد أن يكون مستند الإجماع من قبيل ما لا يمكن نقله، بأن يكون من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها، إلا بالمشاهدة، والعيان لمن كان في زمن النبي ﷺ.

قولهم: لو كان نصب الإمام واجبا، إما أن يكون واجبا على الله تعالى، أو على العبيد.

قلنا: قد بينا استحالة الوجوب على الله تعالى في التعديل والتجوير بل إنما هو واجب على العبيد.

قولهم: إما أن يكون ذلك لفائدة، أو لا لفائدة. ما المانع أن يكون لا لفائدة؟

قولهم: لأنه يكون عبثا فقد سبق أيضا جوابه في التعديل والتجوير وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون لفائدة، فما المانع من عودها إلى العبيد.

قولهم: إما أن تكون دينية أو دنيوية.

قلنا: ما المانع من كونها دينية.

قولهم: إما أن تكون عائدة إلى معرفة الله تعالى، أو معرفة القوانين الشرعية، لا نسلم الحصر، وما المانع أن تكون الفائدة الدينية راجعة إلى توفر الناس على العبادات التي خلقوا لها على ما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وذلك يسبب طمأنينة قلوبهم، وأمنهم من المخاوف المندفعة بنصب الإمام. والفتن المتوقعة بتقدير عدمه على ما هو المألوف المعروف، والعادة الجارية عند موت الولاة والأئمة إلى حين نصب إمام متبع، وخليفة مطاع، أو أن الفائدة إقامة شعائر الدين من إقامة الجمع، والأعياد التي لا تتم في الغالب بغير الإمام.

وإن سلمنا امتناع كون الفائدة دينية فما المانع من كونها دنيوية، وما ذكروه في الوجه الأول من أن طباع الناس تحدوهم على التعاون على ما يصلح أحوالهم.

قلنا: هذا وإن كان ممكنا في العقل، غير أنه بالنظر إلى العادة الجارية والسنة المطردة ممتنع، بدليل ما ذكرناه من ثوران الفتن، وكثرة الاختلاف في أوقات موت ولاة الأمر.

ولهذا صادفنا العربان والخارجين عن حكم السلطان، كالذئاب الشاردة والأسود الضارية، لا يبقي بعضهم على بعض، ولا يحافظ في الغالب على سنة ولا فرض، ولم تكن طباعهم ودواعيهم إلى صلاح أمورهم وتشوفهم إلى العمل بموجب دينهم كاف عن السلطان. ولهذا قيل: «إن السيف والسنان قد يفعلان ما لا يفعله البرهان»

وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني، في تقرير امتناع كون الفائدة دنيوية.

قولهم: إنه يلزم من نصب الإمام الإضرار على ما قرروه مسلم، غير أن الإضرار اللازم من تركه أكثر لما بيناه فكان دفع الضرر الأعظم أولى.

ويخص الوجه الثالث جواب آخر وهو أن تركهم لنصب الإمام بتقدير أن لا يجدوا من هو متصف بشروط الإمامة، إنما يلزم منه المحذور، وترك الواجب أن لو تركوه اختيارا مع تحقق شروط الإمامة في حقه، وأما إذا تركوا نصب الإمام لعدمه اضطرارا فلا.

الطرف الثاني: في بيان امتناع الوجوب عقلا:

ودليله ما أسلفناه في قاعدة النظر، اللهم إلا أن يعنى بكونه واجبا عقلا أن في نصب الإمام فائدة وفي تركه مضرة، فلا مشاحة في اللفظ.

الطرف الثالث: في بيان امتناع إيجاب ذلك على الله تعالى:

ودليله أيضا ما سبق من امتناع إيجاب شيء على الله تعالى في التعديل والتجوير.

فإن قيل: نصب الإمام لطف من الله تعالى بالعبيد، واللطف واجب على الله فكان نصب الامام واجبا على الله تعالى.

وانما قلنا: إن نصب الامام لطف من الله تعالى بالعبيد لأنا لا نعني بكونه لطفا بهم غير أن الله تعالى يعلم أن حال المكلفين بتقدير نصب الإمام يكون أقرب إلى فعل الطاعات واجتناب المعاصي مما إذا لم يكن.

وإذا عرف معنى اللطف، فلا يخفى أن الأمة إذا كان لهم إمام مهيب يمنعهم عن المعاصي ويحثهم على الطاعات أن حالهم يكون أقرب إلى فعل الطاعات وأبعد عن ارتكاب المعاصي مما إذا لم يكن وذلك معلوم بالضرورة من مجاري العادات، فإذن نصب الإمام يكون لطفا من الله تعالى بالعبيد.

وإنما قلنا إن اللطف واجب على الله تعالى وذلك لأن الله تعالى مريد للطاعات من العبيد وكاره للمعاصي منهم، فإذا علم أن فعلهم للطاعات واجتنابهم للمعاصي متوقف على نصب الإمام، فإرادة نصب الإمام تكون لازمة لإرادة الطاعات منهم لأن إرادة الشيء إرادة لما لا يتم ذلك الشيء إلا به، ولا معنى لإيجابه على الله تعالى إلا هذا.

فنقول: أولا لا نسلم أن نصب الإمام لطف بالعبيد.

قولهم: إن حال العبيد عند نصب الإمام يكون أقرب إلى فعل الطاعات.

فنقول: المسلم كونه أقرب إلى فعل الطاعات، إنما هو نصب إمام ظاهر قاهر يرجى ثوابه ويخشى عقابه على ما هو المعروف من العادة.

وأما إمام خفي لا يعرف فلا نسلم أن نصبه يكون لطفا. وعلى هذا فما فيه اللطف. فالخصوم لا يوجبونه، والذي يوجبونه لا لطف فيه فيمتنع إيجابه.

سلمنا أن نصب الإمام أقرب إلى فعل الطاعات مطلقا، غير أن ذلك مما لا يوجب نصب الإمام على الله تعالى ولهذا فإنا نعلم أن حصول الطاعات بتقدير نصب قضاة معصومين، وجيوش معصومين، مع نصب الإمام يكون أقرب بل حصول ذلك بتقدير عصمة الأمة أيضا يكون أقرب بل ومع ذلك فإنه لا يجب على الله تعالى شيء من ذلك بالاتفاق، والدليل المنقوض لا يكون صحيحا.

سلمنا أن نصب الإمام أقرب إلى فعل الطاعات، وأنه صالح لإيجاب نصب الإمام على الله تعالى لكن بتقدير وجوب الطاعات، وما من زمان إلا ويتصور خلوه عن التكاليف الشرعية بالاتفاق، فالقول بجواز خلو الزمان عن وجوب نصب الإمام لأجل الطاعات أولى.

وعلى هذا فقد امتنع القول بوجوب نصب الإمام في كل زمان على ما قالوه. وربما قالوا فيه وجوها أخرى مدخولة لا حاجة إلى ذكرها.

الفصل الثاني فيما يثبت به كون الإمام إماما

وقد اتفق المسلمون على أن ذلك لا يخرج عن التنصيص والاختيار والدعوة إلى الله تعالى ممن هو أهل للإمامة، مع اتفاقهم على أنه لو وجد التنصيص من الرسول عليه السلام على شخص أو من الإمام ثبت كون المنصوص عليه إماما، ثم اختلفوا بعد ذلك.

فذهبت الامامية وأكثر طوائف الشيعة: إلى أنه لا طريق غير التنصيص من الرسول أو الإمام.

وذهبت الأشاعرة والمعتزلة وجميع أهل السنة والجماعة والسليمانية والبترية من الزيدية إلى أن الاختيار أيضا طريق في إثبات كون الإمام إماما.

وذهبت الجارودية من الزيدية إلى أن الإمامة في ولد الحسن والحسين شورى، فمن خرج منهم داعيا إلى الله تعالى وكان عالما فاضلا فهو إمام.

وقد اتفق أصحابنا والمعتزلة والإمامية على إبطال هذا الطريق غير الجبائي.

والمعتمد لأصحابنا أنهم قالوا: قد ثبت أن نصب الإمام بعد النبي ﷺ واجب شرعا، وقد أجمعت الأمة على أن طريق إثبات كون الإمام إماما لا يخرج عن النص والاختيار والدعوة، والقول بالتنصيص والدعوة ممتنع، فتعين القول بالاختيار، وإلا كان إجماع الأمة على الحصر في الطرق الثلاثة خطأ وهو ممتنع.

وبيان أن القول بالدعوة ممتنع: وذلك لأنه لو وجد من ولد الحسن أو الحسين اثنان عالمان فاضلان يدعوان إلى الله تعالى وإلى سبيله في زمان واحد في بلد واحد، فإما أن تكون الإمامة فيهما أو في أحدهما، أو لا في واحد منهما. الأول محال مخالف للإجماع. والثاني أيضا محال لعدم الأولوية. فلم يبق إلا الثالث، وهو المطلوب.

وأما أن القول بالتنصيص باطل: وذلك لأنه لو نص النبي عليه السلام على أحد، لم يخل إما أن يكون ذلك التنصيص بمشهد جماعة يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ، أو لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ،

فإن كان الأول: فلا حجة فيه بالإجماع منا ومن الخصوم.

فأما نحن فإنا لا نرى أن خبر من يتصور عليه الخطأ حجة في عظائم الأمور، والإمامة من عظائم الأمور على ما يأتي.

وأما عند الخصوم فلأن خبر الواحد عندهم ومن يتصور عليه الخطأ لا يوجب علما ولا عملا، ولا يحصل ذلك من غير خبر الإمام المعصوم. وسيأتي الكلام في إبطال عصمة الإمام.

وإن كان القسم الثاني: وهو أن التنصيص كان بمشهد من جماعة تقوم الحجة بقولهم ولا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ، فالعادة تحيل تواطؤ الكل على عدم نقله، فيمتنع عليهم أن لا ينقلوه، وإلا لكانوا مخطئين بكتمان نص الرسول ﷺ وهو محال مخالف للفرض.

وأيضا: فإن التنصيص على الإمام من عظائم الأمور، وإنما قلنا ذلك لأن الدين من عظائم الأمور، والتنصيص على الإمامة إثبات رئاسة في الدين والدنيا، فكانت من عظائم الأمور، وإذا كانت من عظائم الأمور، فلو جرى التنصيص بمشهد من جماعة يحصل التواتر بخبرهم، فالعادة تحيل عدم نقله وإخفائه، كما لو جرى بمشهد من الحجيج أو أهل الجامع قتل ملك أو فتنة عظيمة فإن العادة تحيل أن لا ينقلوه، ولو نقلوه فإما أن ينقله واحد أو جماعة.

فإن كان الأول: فخبره أيضا ليس بحجة لأن انفراده بمثل هذا الخبر العظيم دون الجماعة يدل على كذبه، كما لو انفرد الواحد بنقل قتل الملك العظيم في الجامع يوم الجمعة دون أهل الجمعة.

وإن كان الثاني: فيلزم أن يكون ذلك شائعا ذائعا فيما بين الناس وهو محال.

وبيانه من خمسة أوجه:

الأول: هو أن الناس بعد موت رسول الله ﷺ اختلفوا، حتى اختلف المهاجرون والأنصار وتفاخروا فيما بينهم، وقال الأنصار : «منا أمير، ومنكم أمير»، ولو كان ثم من هو منصوص عليه من جهة النبي ﷺ مع اشتهاره كما سبق لكانت العادة تحيل أن لا ينكر أحد من الصحابة هذا الاختلاف، وأن يقول: هذا الاختلاف لماذا، وفلان منصوص عليه؟

الثاني: أنه لما قال أبو بكر: «بايعوا أحد هذين الرجلين: إما عمر وإما أبا عبيدة». فقال عمر: «لأن أقدم فأنجم كما ينجم البعير أحب إلي من أن أتقدم قوما فيهم أبو بكر». وقال عمر لأبي عبيدة : «امدد يدك أبايعك». فقال أبو عبيدة: ما لك حجة في الإسلام غير أن تقول هذا وأبو بكر حاضر، ثم قال لأبي بكر: أنت صاحب رسول الله ﷺ في المواطن كلها شدتها ورخائها، قدمك رسول الله ﷺ في الصلاة فمن يؤخرك؟ فقال عمر: أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ﷺ في [الصلاة]. فخصوه بالإمامة. ولو كان ثم نص مشهور على أحد لما وقع هذا الاختلاف.

الثالث: أن أبا بكر قال: «لقد وددت أنني سألت رسول الله ﷺ عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه أهله».

وقال عمر: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني. يعني النبي ﷺ حيث أنه لم يستخلف أحدا. ولو كان النص من النبي ﷺ على أحد مشهور لما أمِنا تكذيبهما ولما أقدما على ما قالاه من غير ضرورة.

الرابع: قول علي كرم الله وجهه: «أترككم كما ترككم رسول الله ﷺ، فإن يعلم الله فيكم خيرا جمعكم على خيركم كما جمعنا على خيرنا» يعني أبا بكر. وذلك يدل على عدم التنصيص من النبي ﷺ.

الخامس: أنه لما مرض رسول الله ﷺ قال العباس لعلي كرم الله وجهه: "أنا أعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب وقد عرفت الموت في وجه رسول الله ﷺ فادخل بنا لنسأله عن هذا الأمر فإن كان لنا بينه وإن كان لغيرنا وصى الناس بنا". ولو كان النبي ﷺ قد نص على أحد لكان العباس وعلي أعرف به من غيرهما. ولا يمكن أن يكون المراد من قول العباس استعلام بقاء الأمر له. فإن قوله: "لنا أو لغيرنا" ظاهر في الاستحقاق لا في استدامة المستحق، فحمله على معرفة الاستدامة تكون خلاف الظاهر.

فإن قيل: سلمنا أن التنصيص على الإمام من عظائم الأمور، ولكن لا نسلم أن وقوع ذلك بمشهد من الجمع الكثير مما يوجب اشتهاره وتواتره.

وبيانه هو أن إقامة الصلاة من الأمور العظيمة ومن قواعد الدين، وقد وقعت في زمن الرسول بمشهد من كل الصحابة في كل يوم وليلة خمس مرات طول حياة النبي ﷺ، ومع ذلك فلم تنتشر ولم تتواتر حتى وقع الخلاف في عدد كلماتها وأنها مثنى أو فرادى. وكذلك انشقاق القمر وفتح مكة عنوة [أو صلحا]، وكون البسملة من القرآن في أول كل سورة، من عظائم الأمور، وقد وقع بمشهد من الخلق، ولم ينتشر حتى وقع الخلاف في جميع ذلك.

سلمنا أن ما وقع من الأمور العظيمة بمشهد من الخلق الكثير لا بد وأن يتواتر وينتشر، ولكن متى إذا وجد الداعي لهم إلى الكتمان من منفعة عظيمة [أو مضرة عظيمة] تلحقهم من الإشاعة أو إذا لم يوجد؟ الأول: ممنوع، والثاني مسلم، فلم قلتم إن الداعي إلى الكتمان لم يوجد.

ثم بيان احتمال الداعي إلى الكتمان أنه من الجائز أنهم اعتقدوا وجود ناسخ للنص. وبتقدير اعتقادهم صحة النص فيمكن أن يكون الداعي إلى كتمانه عداوة سابقة أو أنهم حسدوه على تميزه بتأميره عليهم، وذلك غير ممتنع على الذين سمعوا التنصيص وعلموا صحته، وبيانه من وجهين:

الأول: أن عدد المستمعين للنص لا يزيد على عدد قوم فرعون، وقد قال تعالى في حقهم: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} أي بالآيات التسع التي ظهرت على يد موسى.

الثاني: أن عددهم لم يكن زائدا على عدد قوم موسى الذين ضلوا بعبادتهم للعجل، مع علمهم أن العجل لا يكون إلها معبودا.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة الاختيار وإبطال التنصيص، ولكنه معارض بما يدل على نقيضه.

بيانه من جهة المعقول والمنقول:

أما من جهة المعقول فمن خمسة عشر وجها:

الأول: أن الإمام يجب أن يكون معصوما وأن يكون أفضل من رعيته في كل ما هو إمام فيه وأن يكون عالما بكل أمور الدين على ما يأتي تحقيقه، وأن لا يكون كافرا في نفسه، وكل ذلك مما لا يعلمه المختارون له فلا تكون إمامته ثابتة بالاختيار.

الثاني: هو أن المختارين له لا يملكون التصرف في أمور المسلمين ومن لا يملك ذلك لا يملك أن يملك غيره ذلك.

الثالث: أن المختار لو أراد أن يجعل غيره نافذ الحكم عليه وحده أو على غيره وحده لما صح ذلك منه بالإجماع، فلأن لا يصح منه أن يجعل غيره نافذ الحكم عليه وعلى غيره مطلقا أولى.

الرابع: أنه لو ثبتت الإمامة بالاختيار لكان لمن أثبتها إزالتها كما في التوكيل، فحيث لم يؤثر الاختيار في الإزالة دل على أنه لا يؤثر في الإثبات.

الخامس: أن ثبوت الإمامة بالاختيار مما يفضي إلى الفتن ووقوع الاختلاف، وذلك خلاف المقصود من نصب الإمام.

وبيان لزوم ذلك أن الناس مختلفون في المذاهب والأغراض، فكل يميل إلى عقد الإمامة لمن هو على مذهبه وموافقة غرضه، وذلك سبب الاختلاف لا محالة.

السادس: هو أن أحدا من الأمة لا يقدر على تولية من هو أدنى في الرتبة من الإمامة: كالقضاء والحسبة وغيره، فلأن لا يقدر على تولية الإمامة كان أولى.

السابع: [هو] أن الإمام خليفة الله تعالى ورسوله، فلو ثبتت خلافته باختيار بعض الأمة لكان خليفة عنهم لا عن الله ورسوله لأنه لم يكن مستخلفا من جهة الله ورسوله.

الثامن: أنه لو جاز إثبات الإمامة بالاختيار لأفضى ذلك إلى خلو بعض الأزمنة عن الإمام وهو ممتنع.

وبيان ذلك: أنه إذا مات الإمام فبويع اثنان، كل طائفة لواحد، ولم يعلم تقدم أحدهما ولا وقوعهما معا، فإنه يمتنع القول بالصحة لجواز وقوعهما معا، ويمتنع القول بالبطلان لجواز تقدم أحدهما، ويمتنع تعيين أحدهما لعدم الأولوية، ومع ذلك فيمتنع نصب إمام آخر، وذلك مما يفضي إلى خلو الزمان عن الإمام في هذه الحالة.

التاسع: هو أن الإمامة ولاية عامة، فلو جاز إثباتها بالاختيار لجاز إثبات النبوة بالاختيار، وحيث لم يجز لم تجز.

العاشر: أن الإمامة من الأركان العظيمة في الدين، فوجب أن تثبت بالنص لا بالاختيار كما في الصلوات الخمس وصوم رمضان.

الحادي عشر: هو أن النبي ﷺ لا يخلو إما أن يقال إنه كان عالما باحتياج الخلق إلى من يقوم بمهماتهم ويحفظ بيضتهم ويحمي حوزتهم ويقبض على أيدي السفهاء منهم ويقيم فيهم القوانين الشرعية على وفق ما وردت به الأدلة السمعية. أو أنه لم يكن عالما بذلك. الثاني: محال إذ هو إساءة ظن بالنبي عليه السلام وقدح في الرسول. وإن كان الأول: فلا يخفى مبالغته في التعريف والتنصيص على ما يتعلق بباب الاستنجاء والتيمم وغير ذلك من الأمور التي هي أدنى من الإمامة، فكان التعريف لها والتنصيص عليها أولى.

الثاني عشر: أنا نعلم من حال النبي ﷺ أنه كان للأمة في تدبيره لهم كالوالد لولده. وإليه الإشارة بقوله عليه السلام «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» وإذا كان الوالد يجب عليه الوصية عند موته لمن يسوس أطفاله بعده فكذلك النبي عليه السلام وجب أن يوصى لمن يقوم بأمور أمته بعد موته.

الثالث عشر: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} وإنما يكون الدين مكملا أن لو بين فيه كل ما يتعلق به، والإمامة فمتعلقة بالدين، فوجب أن يكون قد بينها إما في كتاب الله أو [في] سنة رسوله. وعلى كل تقدير فتكون منصوصة.

الرابع عشر: أنه قد علم من حال النبي ﷺ أنه ما كان يخرج من المدينة إلا ويستخلف فيها على الرعية من يقوم بأحوالهم وينص عليه. ولم يكن ذلك من قبيل ما منه بد، وإلا لوقع الإخلال به ولو مرة واحدة، فكان لا بديا، وإنما كان كذلك لتعذر سياسته لهم مع الغيبة فبعد الموت أولى بالاستخلاف.

الخامس عشر: هو أن تعيين الإمام بعد أن ثبت وجوب نصب الإمام لازم لا محالة، وهو إما أن يستند إلى النص أو الاختيار.

لا جائز أن يستند إلى الاختيار، وإلا لما وجبت طاعة الإمام على الرعية من جهة أن الاختيار لا مستند له، ولأنه إنما صار إماما بإقامتهم له فهم أصل بالنسبة إليه، والأصل لا يجب عليه طاعة التابع، وإذا بطل القول بالاختيار تعين التنصيص.

وأما من جهة المنقول:

فاعلم أن من قال بالتنصيص فقد اتفقوا على أن المنصوص عليه غير خارج عن أبي بكر وعلي والعباس رضي الله عنهم.

فأما من قال بأن المنصوص عليه أبو بكر فقد اختلفوا، فمنهم من قال: إنه نص عليه نصا جليا: كبعض أصحاب الأشعري وبعض أصحاب الحديث.

وذلك ما روى عن النبي ﷺ أنه قال: «ائتوني بدواة وقرطاس أكتب إلى أبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان». ثم إنه قال: «يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر».

وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، وذلك يدل على جواز الاقتداء بهما، وهو نص على إمامة أبي بكر.

وأيضا قوله عليه السلام «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا». وذلك تنصيص على خلافة الخلفاء الأربعة على الترتيب، حيث وقع الأمر كذلك.

ومنهم من قال إن النص عليه خفي، كالحسن البصري، وذلك كتقديمه في الصلاة.

وأما من قال بأن المنصوص عليه العباس: قال إن النص في حقه خفي، فإنه قد ورد في حقه من الأقوال ما يدل على أنه أحق بالإمامة من غيره، كقوله عليه السلام: «هو عمي وبقية آبائي». إلى غير ذلك.

وأما من قال بأن المنصوص عليه علي كرم الله وجهه: فقد اتفقوا على النص الخفي. واختلفوا في النص الجلي، فأثبته الإمامية دون الزيدية.

وقد احتجوا عليه بأن الإمامية مع كثرتهم في زماننا كثرة لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب قد نقلوا النص الجلي على علي عمن تقدمهم ونقلوا أن من تقدمهم أخبرهم بذلك وكانوا في الكثرة إلى حد لا يتصور عليهم التواطؤ على الكذب. وأنهم أخبروا بذلك وأخبروهم أن من أخبرهم بذلك كان حاله كحالهم وهلم جرا إلى النبي ﷺ. والمخبر به محسوس مشاهد وهو خبر النبي ﷺ وقوله، فكان خبرهم متواترا، والتواتر مفيد للعلم كما تقدم تحقيقه.

ولا يمكن أن يقال بأن ذلك مما وضعه بعض الناس في بعض الأعصار، ثم اشتهر وشاع وذاع بحيث نقله عدد التواتر لأنه من الأمور العظيمة المتضمنة تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه من عقد الإمامة لغير علي. وما كان كذلك فالدواعي تكون متوفرة على نقله وإشاعته من القائلين بعدم التنصيص لإظهار إبطال القول بالتنصيص وإفساده، لا سيما وهم غير خائفين في نقله. فإنه لم تزل الغلبة لهم في كل عصر.

ومن قال بالتنصيص تحت القهر والتقية، فحيث لم ينقل ذلك دل على إبطاله، ولا يمكن أن يقال إنما يلزم [نقل] ذلك أن لو عرف واضعه وقت حدوثه، وليس كذلك بل أمكن أن يكون من وضع [بعض] الناس، وقد تناقلته الألسنة واشتهر من غير أن يعرف واضعه ووقت حدوثه، كما في الأراجيف الواقعة في كل زمان، لأن القول بتجويز ذلك مما يوجب تطرقه إلى كل خبر متواتر ويخرج التواتر عن كونه مفيدا للعلم وهو محال.

وأما النصوص الخفية فكثيرة:

الأول منها: أنهم قالوا إنا قد بينا في الأدلة العقلية امتناع ثبوت الإمامة بالدعوة والاختيار. وأنه لا بد وأن يكون الإمام منصوصا عليه، وقد انعقد الإجماع على أن المنصوص عليه لا يخرج عن أبي بكر والعباس وعلي.

وأبو بكر غير منصوص عليه لوجهين:

الأول: أنه قد نقل عنه أنه قال: "وددت أني سألت رسول الله ﷺ عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه أهله". ولو كان منصوصا عليه لكان أعلم به.

الثاني: أنه لو كان منصوصا عليه لما وافق على البيعة لأنه يكون من أعظم المعاصي وذلك قادح في إمامته.

والعباس أيضا غير منصوص عليه، لأنه لما مرض رسول الله ﷺ قال العباس لعلي: "ادخل بنا عليه لنسأله عن هذا الأمر فإن كان لنا بينه، وإن كان لغيرنا وصى الناس بنا". ولو كان العباس منصوصا عليه لكان أعلم به من غيره.

وإذا بطل أن يكون المنصوص عليه أبا بكر والعباس، تعين أن يكون عليا عليه السلام عملا بالإجماع.

الثاني: أن عليا عليه السلام أفضل الصحابة، والأفضل يجب أن يكون هو الإمام وإلا كان الأكمل الأفضل تبعا للأنقص وهو قبيح عقلا، وإذا كان إماما فقد بينا أن الإمامة لا تكون إلا بالتنصيص، فكان علي هو المنصوص عليه.

وبيان كونه أفضل الصحابة من ثمانية عشر وجها:

الأول: قوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} الآية، ووجه الاستدلال بها أنه عليه الصلاة والسلام دعا عليا إلى ذلك المقام. وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الصحابة، وبيان دعائه إليه ما ورد فيه من الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل.

وأيضا فان قوله {وأنفسنا} ليس المراد [به] نفسه ﷺ لأن الإنسان لا يدعو نفسه كما لا يأمر نفسه، وليس المراد به فاطمة والحسن والحسين لأنهم اندرجوا في قوله تعالى: {أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم} فلا بد وأن يكون شخصا آخر غير نفسه وغير فاطمة والحسن والحسين، وليس ذلك المدعو غير علي بالإجماع، فتعين أن يكون عليا عليه السلام.

وبيان دلالته على كونه أفضل الصحابة من وجهين:

الأول: أنه دعاه إلى المباهلة، [وهذا] يدل على أنه عليه السلام في غاية الشفقة والمحبة لعلي، وإلا لقال المنافقون إن الرسول ليس على بصيرة من أمره حيث أنه لم يدع إلى المباهلة من يحبه ويحذر عليه من العذاب. وزيادة الشفقة والمحبة للمدعو إلى المباهلة إما أن تكون لزيادة قربه منه أو لكونه أفضل.

الأول: محال وإلا كان العباس أولى بذلك، ولما كان علي أولى من أخيه عقيل لتساويهما في القرابة، فلم يبق إلا أن يكون لكونه أفضل.

الثاني: أنه عليه السلام لما جعل عليا نفسا له وجب أن يثبت لعلي كل ما هو ثابت للنبي ﷺ ضرورة الاتحاد، غير أنا خالفناه في أمور كالنبوة وغيرها، فوجب العمل به فيما وراء محل المخالفة. ومن جملة ذلك كون النبي عليه السلام أفضل من الصحابة، فكذلك علي عليه السلام.

الثاني: قوله عليه السلام في [ذي] الثدية: "يقتله خير الخلق" وقد قتله علي عليه السلام.

الثالث: قوله ﷺ: "أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي، يقضي ديني وينجز موعدي، علي بن أبي طالب".

الرابع: قوله ﷺ لفاطمة : "أما ترضين أني زوجتك خير أمتي".

الخامس: قوله عليه السلام: "خير من أترك بعدي علي".

السادس: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت عند رسول الله ﷺ إذ أقبل علي فقال رسول الله ﷺ: "هذا سيد العرب"، فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ألست أنت سيد العرب؟ فقال: "أنا سيد العالمين، وعلي سيد العرب".

السابع: قوله عليه السلام لفاطمة: "إن الله تعالى اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتخذه نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلك".

الثامن: ما روى عنه عليه السلام أنه أهدى له طائر مشوي فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي"، فجاءه علي وأكل معه. والأحب إلى الله تعالى هو من أراد الله تعالى زيادة ثوابه، وليس في ذلك ما يدل على كونه أفضل من النبي ﷺ والملائكة.

أما أنه لا يدل على كونه أفضل من النبي ﷺ فلأنه قال: "ائتني بأحب خلقك إليك"، والمأتي به إلى النبي يجب أن يكون غير النبي، فكأنه قال: أحب خلقك إليك غيري، وأما أنه لا يدل على كونه أفضل من الملائكة، فلقوله: "يأكل معي" وتقديره: ائتني بأحب خلقك إليك ممن يأكل ليأكل معي، والملائكة لا يأكلون. وبتقدير عموم اللفظ للكل فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبي ﷺ والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهم.

التاسع: أنه عليه السلام آخى بين الصحابة واتخذ عليا أخا لنفسه وذلك دليل على أفضليته وعلو رتبته.

العاشر: ما روي عنه عليه السلام: أنه بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما، ثم بعث عمر فرجع منهزما، فغضب الرسول ﷺ لذلك، فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية فقال: «لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» "كرار غير فرار" فتعرض لها المهاجرون والأنصار، فقال عليه الصلاة والسلام: أين علي؟ فقيل له: إنه أرمد العين، فتفل في عينيه ثم دفع الراية إليه. وذلك يدل على أن ما وصفه به مفقود فيمن تقدم ذكره، فيكون أفضل منهما. ويلزم من كون علي أفضل من أبي بكر وعمر أن يكون أفضل من باقي الصحابة ضرورة أن لا قائل بالفرق، ولأن أبا بكر وعمر أفضل من غيرهما من الصحابة، فإذا كان علي أفضل منهما فالأفضل من الأفضل أفضل.

الحادي عشر: أن عليا كان أعلم الصحابة لقوله عليه السلام: «أقضاكم علي»، والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلوم، وإذا كان أعلم فالأعلم يكون أفضل لقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.

الثاني عشر: أن عليا كان أكثر جهادا مع رسول الله ﷺ من جميع الصحابة على ما هو معلوم في مواضعه، فيكون أفضل لقوله تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} ولا يمكن حمل الجهاد في الآية على جهاد النفس بدليل قوله على القاعدين.

الثالث عشر: أن إيمان علي كان سابقا على إيمان جميع الصحابة. وبيانه من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ما روي "أن النبي ﷺ بعث يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء" ولا أقرب من هذه المدة.

الوجه الثاني: قوله عليه السلام: "أولكم إسلاما علي بن أبي طالب".

الوجه الثالث: ما روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: "أنا أول من صلى وأول من آمن بالله ورسوله، ولا سبقني إلى الصلاة إلا نبي الله". وقد نقل عنه أنه قال في ذلك: "سبقتكم إلى الإسلام طرا غلاما ما بلغت أوان حلمي". وكان قوله مشهورا فيما بين الصحابة ولم ينكر عليه منكر، فدل على صدقه. وإذا ثبت أنه أقدم إيمانا من الصحابة كان أفضل منهم لقوله تعالى: {والسابقون السابقون * أولئك المقربون}. وبتقدير أن لا يكون إيمانه سابقا على إيمان جميع الصحابة، غير أن إيمانه كان سابقا على إيمان أبي بكر بدليل قول علي «رضي الله ع» وهو على المنبر بمشهد من الخلق: "أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن آمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم" ولم ينكر عليه منكر. وإذا كان أقدم إيمانا من أبي بكر كان أفضل منه للآية، ويلزم من كونه أفضل من أبي بكر أن يكون أفضل من باقي الصحابة لما تقدم.

الرابع عشر: قوله تعالى في حق النبي ﷺ: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين}، والمراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب على ما نقله أبو صالح عن ابن عباس ومحمد بن علي وجعفر، وهكذا حكاه النقاش وغيره في تفسيره، والمراد بالمولى هاهنا: الناصر، إذ هو القدر المشترك بين الله وجبريل وعلي، وذلك يدل على أن عليا أفضل من باقي الصحابة من وجهين:

الأول: أن ظاهر الآية للحصر، ولأنه لو لم تكن للحصر لما كان للتخصيص بذكر الله تعالى وجبريل وعلي فائدة. وتقديره أنه لا ناصر لمحمد عليه السلام غير الباري تعالى وجبريل وعلي، واختصاص علي بنصرة النبي ﷺ دون باقي الصحابة دليل على أنه أفضل منهم نظرا إلى أن نصرة النبي ﷺ من أفضل العبادات.

الثاني: أنه تعالى بدأ بنفسه ثم بجبريل ثم بعلي. وذلك يدل على أنه أفضل من غيره من الصحابة.

الخامس عشر: قوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه». وقوله عليه السلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى »، وقد سبق وجه الاحتجاج بذلك.

السادس عشر: قوله عليه السلام: "علي خير البشر ومن أبى فقد كفر".

السابع عشر: ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب" [1] [فالنبي قد] أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم، والأنبياء أفضل من باقي الصحابة، فكان علي أفضل من باقي الصحابة لأن المساوي للأفضل أفضل من ذلك المفضول عليه.

الثامن عشر: أن فضيلة المرء على غيره إنما هي بما يعود إليه من الكمالات ويتصف به من الأدوات ويتحلى به من الصفات المرضية والأخلاق السنية. ولا يخفى أنه قد اجتمع من هذه الصفات في حق علي ما تفرق في مجموع الصحابة: كالعلم والزهد والكرم والشجاعة وحسن الخلق والاختصاص بمزيد القوة وشدة البأس وعظم المراس والقرب من رسول الله نسابة وصهارة، فهو ابن عم رسول الله وزوج البتول وأبو السبطين الحسن والحسين.

أما اتصافه بالعلم فظاهر على ما سبق.

وأما بالزهد: فلما اشتهر عنه، مع اتساع أبواب الدنيا عليه والتمكن منها، من التخشن في المأكل والملابس وشطف العيش وترك التنعم حتى قال للدنيا: "طلقتك ثلاثا".

وأما الكرم: فلما اشتهر عنه من إيثار المحاويج على نفسه وأهل بيته مع تأكد حاجتهم، حتى تصدق في الصلاة بخاتمه على المسكين، ونزل في حقه قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}.

وأما الشجاعة: فلما اشتهر عنه وتواتر من مكافحة الحروب وقتل أكابر الجاهلية وملاقاة أبطالها، ووقائعه في خيبر وأمثالها، حتى قال عليه السلام في حقه يوم الأحزاب: "نصرة علي خير من عبادة الثقلين".

وأما حسن الخلق: فظاهر مشهور حتى أنه نسب بسبب ذلك إلى كثرة الدعابة، وقد قال عليه السلام: «حسن الخلق من الإيمان».

وأما الاختصاص بمزيد القوة: فأظهر وأشهر، حتى أنه اقتلع بيده باب خيبر وقال عليه السلام: "والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية".

وأما اختصاصه بالنسب والصهارة من الرسول: فظاهر غير خفي.

ومن هذه صفاته وجب أن يكون أفضل.

الثالث: في بيان كون علي منصوصا عليه.

هو أن الأمة مجمعة على أن الإمام بعد رسول الله ﷺ غير خارج عن أبي بكر وعلي والعباس.

والعباس وأبو بكر لا يصلحان للإمامة لوجهين:

الأول: أنا سنبين أن الإمام لا بد وأن يكون معصوما، وأبو بكر والعباس لم يكونا معصومين بالاتفاق.

الثاني: ان أبا بكر والعباس قبل البعثة كانا كافرين، فيكونا ظالمين لقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون}، والظالم لا يكون إماما لقوله تعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.

فإن قيل: إن الآية إنما تدل على امتناع نيل الظالمين للعهد، والظالم حقيقة إنما يكون حالة اتصافه بالظلم لا بعد زواله.

[قلنا] : إنما يصح أن لو اشترط في إطلاق الاسم المشتق حقيقة وجود المشتق منه حالة الاطلاق، وليس كذلك، وإلا لما صح اطلاق اسم الماشي ولا القائل حقيقة ولا مجازا. أما أنه لا يصح حقيقة: فلأن اسم المشي لحركات متعاقبة مخصوصة لا وجود لها معا. وكذلك القول عبارة عن حروف منظومة متعاقبة لا وجود لها معا. وأما أنه لا يصح بجهة المجاز فلأن المجاز مستعار من محل الحقيقة، فإذا لم يكن حقيقة فلا مجاز. وبتقدير اشتراط بقاء المشتق منه لإطلاق الاسم المشتق حقيقة، غير أن الظالم حالة اتصافه بالظلم يصدق عليه في ذلك الوقت أنه لا ينال عهد الله، وذلك عام في الوقت الحاضر، وغيره من الأوقات المستقبلة، ولهذا يصح استثناء جميع الأوقات المستقبلة، فيقال: الظالم لا ينال عهد الله إلا بعد زوال ظلمه، والاستثناء يدل على خروج ما لولاه لكان داخلا تحت اللفظ، وإذا بطل أن يكون أبو بكر والعباس إماما تعين أن يكون الإمام عليا وأن لا يكون قد كفر طرفة عين عملا بمقتضى الآية، وحتى لا يخرج الحق عن قول الأمة، ويلزم من ذلك أن يكون منصوصا عليه لما تقدم.

الرابع: قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} ووجه الاحتجاج به أن لفظ الولي قد يطلق ويراد به الأولى والأحق بالتصرف. ويدل عليه النقل اللغوي والنص والعرف الاستعمالي.

أما النقل اللغوي: فقول المبرد الولي هو الأولى بالتصرف، ومنه قول الكميت:

ونعم ولي العهد بعد وليه ومستجمع التقوى ونعم المؤدب

وأراد به القيم بتدبير الأمور،

وأما النص: فقوله ﷺ: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل»، وأراد به الأولى بالتصرف فيها، وقوله عليه السلام: «وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له » أي أولى بالتصرف.

وأما العرف الاستعمالي: فإنه يقال لأب المرأة وأخيها إنه وليها؛ أي أولى بالتصرف فيها. وقد يطلق الولي بمعنى المحب والناصر، ومنه قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} أي بعضهم محب بعض وناصره، لا أنه الأولى بالتصرف فيه إذ هو خلاف الإجماع، ولم يعهد في اللغة للولي معنى ثالث، وإذا ثبت أن الولي قد يطلق بمعنى الأولى بالتصرف وبمعنى الناصر فلفظ الولي في الآية مما يتعذر حمله على الناصر. وإنما قلنا ذلك لأن الولاية بمعنى النصرة عامة في حق كل المؤمنين، بدليل قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ذكر ذلك بصيغة الجمع المعرف فكان عاما، والولاية في الآية ليست عامة لكل المؤمنين، فإن لفظه إنما تفيد الحصر في المؤمنين الموصوفين في الآية بالصفات المذكورة، فتكون الولاية المذكورة في الآية خاصة ببعض المؤمنين.

وإنما قلنا إن لفظة "إنما" تفيد الحصر في المذكور دون غيره لأن ذلك مما يتبادر إلى الأفهام من إطلاقها في قول القائل: إنما رأيت اليوم زيدا، فإنه يفهم منه أنه رأى زيدا دون غيره. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {إنما الله إله واحد} فإنه يفهم منه أن الله تعالى إله واحد، وأن غيره ليس كذلك. وإذا ثبت أن الولاية في الآية خاصة وبمعنى النصرة عامة، فقد امتنع حمل الولاية في الآية على الولاية بمعنى النصرة، وتعين حملها على الولي، بمعنى الأحق والأولى بالتصرف. وعلى هذا فيكون المراد من الآية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} أي الأولى بالتصرف فيكم أيها الأمة، والذي هو أولى بالتصرف في كل الأمة من المؤمنين إنما هو الإمام، فإذا الآية خاصة على إمامة بعض المؤمنين ويتعين أن يكون عليا عليه السلام لاتفاق أئمة التفسير على أن المراد بقوله تعالى: {والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} إنما هو علي كرم الله وجهه، فالآية نص على إمامته.

الخامس: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. [أمر بالكون مع الصادقين]، وإنما يتصور الأمر كذلك أن لو علم الصادق، وإنما يعلم كون الشخص صادقا إن لو كان معصوما، فالأمر إذا إنما هو بمتابعة المعصوم، وغير علي من الصحابة غير معصوم بالاتفاق. فكان المأمور بمتابعته إنما هو علي كرم الله وجهه وذلك نص على إمامته.

السادس: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، أمر بمتابعة أولي الأمر، وإنما يأمر بمتابعة من لا يأمر بالمعصية لقوله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} فالأمر بمتابعة أولي الأمر الذين لا يأمرون بالمعصية أصلا، وذلك إنما يكون في حق من ثبتت عصمته، فالإمام يجب أن يكون معصوما، وغير علي من الصحابة غير معصوم بالاتفاق، فتعين أن يكون علي معصوما ضرورةَ موافقة الأمر بطاعته، وذلك نص في إمامته.

السابع: قوله عليه السلام يوم غدير خم وقد جمع الناس: «ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» وهذا الحديث مما اتفقت الأمة على صحته. ووجه الاحتجاج به هو أن لفظة المولى قد تطلق بمعنى الأولى، وقد تطلق بمعنى الناصر والمعين، وقد تطلق بمعنى المعتق والمعتق، وبمعنى الجار وابن العم.

أما إطلاقه بمعنى الأولى: فيدل عليه الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك} الآية. قال المفسرون: المراد به من كان أولى بالميراث وأحق به. وقوله تعالى: {مأواكم النار هي مولاكم} أي أولى بكم على ما قاله المفسرون.

وأما السنة: فقوله عليه السلام في بعض الروايات: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها فنكاحها باطل". والمراد به المالك لأمرها والأولى بالتصرف فيها.

وأما إطلاقه بمعنى الناصر والمعين: فيدل عليه النص والشعر.

أما النص: فقوله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} والمراد به الناصر.

وأما الشعر: فقول الأخطل : "فأصبحت مولاها من الناس كلهم" ومعناه فأصبحت ناصرها والذاب عنها.

وأما إطلاقه بمعنى المعتق [والمعتق] فظاهر مشهور. ومنه يقول الفقهاء: لفلان موال من أعلى، وموال من أسفل.

وأما إطلاقه بمعنى الجار: فيدل عليه [قول] معمر الكلابي لما نزل جارا لكليب بن يربوع فأحسنوا جواره.

جزى الله خيرا والجزاء بكفه ** كليب بن يربوع وزادهم حمدا

هم خلطونا بالنفوس وألجموا ** إلى نصر مولاهم مسومة جردا

وأراد به جارهم.

وأما إطلاقه بمعنى ابن العم: فيدل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا : {وإني خفت الموالي من ورائي}، قيل معناه بني عمي، ومنه قول العباس بن فضيل بن عتبه في بني أمية:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا ** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وأراد بقوله: "مهلا موالينا" بني عمنا.

وعند ذلك فإما أن يكون [لفظ] المولى ظاهرا بحكم الوضع الأول، أو لا يكون كذلك.

فإن كان [الأول] : وجب الحكم عليه دون غيره عملا بظاهر اللفظ إذ هو الأصل.

وإن كان الثاني: فيجب الحمل عليه [أيضا] لوجهين:

الأول: أن اللفظ المتحد إذا أطلق وله محامل وقد اقترن به ما يعين أحدها فيجب الحمل عليه نظرا إلى الترجيح، والمذكور في مبدأ الحديث وهو قوله: «أولى بكم» صالح لتفسير لفظ المولى وبيانه، وهو محتاج إلى البيان فوجب الحمل عليه.

الثاني: أنه يتعذر حمل لفظ المولى في الحديث على ما سوى الأولى فيتعين حمله على الأولى ضرورة العمل باللفظ، وبيانه أنه يمتنع حمله على الناصر لأن ذلك معلوم من قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء} على ما سبق، ويمتنع حمله على المعتق [والمعتق] وعلى الجار وابن العم لكونه كذبا، فإنه ليس كل من كان النبي معتقا له أو جارا [له] أو ابن عم له يكون علي معتقا له وجارا وابن عم له، فإن النبي ﷺ ابن عم عقيل وهو أخ لعلي.

وإذا ثبت أن لفظ المولى في الحديث بمعنى الأولى، فقد اتفق المفسرون على أن معنى قوله عليه السلام: "ألست أولى بكم من أنفسكم" أنه أولى بتدبيرهم والتصرف في أمورهم، وأن نفاذ حكمه فيهم أولى من نفاذ حكمهم في أنفسهم. ولأن ذلك هو المتبادر من إطلاق لفظ الأولى في قوله: "ولد الميت أولى بالميراث من غيره، والسلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية، والزوج أولى بامرأته، والمولى أولى بعبده"، وإذا ثبت أن معنى المولى الأولى في التصرف، فحاصل الحديث يرجع إلى أن قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» من كنت أولى بالتصرف فيه فعلي أولى بالتصرف فيه، وذلك يدل على إمامته فإنه لا معنى للإمام إلا هذا.

الثامن: قوله عليه السلام لعلي حين خرج إلى غزاة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ووجه الكلام في صحته كما تقدم في الخبر الذي قبله. ووجه الاستدلال به أن النبي ﷺ أخبر بأن منزلة علي منه كمنزلة هارون من موسى، وذلك يدل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون بالنسبة إلى موسى ثابتة لعلي بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولفظة منزلة وإن لم يكن فيها صيغة عموم إلا أن المراد بها التعميم.

وبيانه هو أن قوله منزلة اسم جنس صالح لكل واحد من أحاد المنازل الخاصة، وصالح للكل. ولهذا يصح أن يقال: فلان له منزلة من فلان ومنزلته منه أنه قرابة له وأنه محبه ونائبه في جميع أموره. وعند هذا فلو حملناه على بعض المنازل دون البعض فإما أن تكون معينة أو مبهمة.

والأول ممتنع ضرورة عدم دلالة اللفظ على التعيين. والثاني أيضا ممتنع لما فيه من الإجمال، وعدم الإفادة. فلم يبق غير الحمل على الجميع. ويدل عليه قوله «إلا أنه لا نبي بعدي»، استثنى هذه المنزلة دون باقي المنازل، ولو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل بل على الواحد منها لما حسن الاستثناء. وإذا ثبت التعميم فذلك يدل على ثبوت الإمامة لعلي كرم الله وجه، وبيانه من وجهين:

الأول: أن من جملة منازل هارون من موسى أنه كان خليفة له على قومه في حال حياته، بدليل قوله تعالى إخبارا عن موسى: {اخلفني في قومي} والخلافة لا معنى لها غير القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرفات، وإذا كان خليفة له في حال حياته وجب أن يكون خليفة له بعد وفاته بتقدير بقائه، وإلا كان عزله موجبا لتنقيصه والنفرة عنه، وذلك غير جائز على الأنبياء. وإذا كان ذلك ثابتا لهارون وجب أن يثبت مثله لعلي عليه السلام.

الثاني: هو أن من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكا له في الرسالة بدليل قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى* فقولا له قولا لينا} ومن لوازمه استحقاقه للطاعة بعد وفاة موسى أن لو بقي، فوجب أن يكون ذلك لعلي عليه السلام، غير أنه قام الدليل على امتناع كونه مشاركا للنبي ﷺ في الرسالة ولهذا قال عليه السلام: «إلا أنه لا نبي بعدي» فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بتقدير بقائه بعد النبي ﷺ، عملا بالدليل بأقصى الإمكان، ولا معنى لكونه إماما إلا هذا.

التاسع: قوله عليه السلام: "سلموا على علي بإمرة المؤمنين" وقوله عليه السلام [لعلي] : "أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني ومنجز وعدي" أثبت كونه خليفة بعده. ولا معنى للإمام إلا هذا.

العاشر: أنه عليه السلام استخلف عليا على المدينة ولم يعزله عنها؛ فوجب أن يبقى خليفة له بعد موته عليها، ويلزم من ذلك الخلافة في جميع الأمور ضرورة أن لا قائل بالفرق.

(رد الآمدي في مسألة النص على الإمام)

والجواب: قولهم لا نسلم أن وقوع ذلك بمشهد من الجمع الكثير مما يوجب اشتهاره مدفوعٌ بما ذكرناه.

وأما الإقامة فإنه إذا كانت من عظائم الأمور، وأنها وقعت بمشهد من المشهد الكثير، غير أن الاختلاف في روايتها مثنى وفرادى إنما كان لاختلاف المؤذنين في عهد رسول الله ﷺ، فلعل منهم من كان يقيم مثنى، ومن كان يقيم فرادى، ونقل كل واحد ما رآه وسمعه، وكان منشأ الاختلاف بين الأئمة في ذلك.

وأما انشقاق القمر فمن أصحابنا من منع وقوعه، وتأول قوله تعالى وانشق القمر على معنى سينشق، وبتقدير وقوعه فلعله وقع لا بمشهد جماعة يحصل العلم بخبرهم وهو الأظهر لأن ذلك كان ليلا وأكثر الناس نيام ومحجوبون عن رؤيته بجدران بيوتهم.

وأما فتح مكة عنوة أو صلحا: فإنما لم ينتشر ويتواتر إلينا وإن وقع ذلك بمشهد من الخلق الكثير لعدم الفائدة في نقله، بخلاف الإمامة لأن جميع مصالح الدين، والدنيا متعلقة بها.

وأما البسملة: فلا نسلم أنها آية من أول كل سورة على قول الشافعي «رضي الله ع» وهو اختيار القاضي أبي بكر من أصحابنا.

قولهم: متى يلزم الانتشار إذا وجد الداعي إلى الكتمان أم لا.

قلنا: الفرض أن التنصيص وقع بمشهد من جماعة لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ، فلو كتموه وإن كان ذلك لنفع، أو دفع ضرر، أو لحسد فيكون خطأ وهو ممتنع مخالف للفرض.

قولهم: يحتمل اطلاعهم على وجود ناسخ للنص.

قلنا: لو وجد النص وكان له ناسخ فالعادة تحيل أيضا عدم نقله، ولم ينقل أحد من الصحابة ذلك.

وقوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} يجب حمله على جماعة يتصور تواطئهم على الخطأ والفرض فيما نحن فيه بخلافة.

قولهم: إن قوم موسى عليه السلام ضلوا بعبادتهم العجل مع علمهم أن العجل لا يكون إلها.

قلنا: وإن سلمنا أنهم ضلوا بذلك مع كونهم جمعا كبيرا، غير أنا لا نسلم أنهم كانوا عالمين بامتناع حلول الإله تعالى في غيره، ولعلهم لم ينظروا في الأدلة المحيلة لذلك، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون الجمع الكثير متفقين على فعل ما يعتقدون بطلانه إذ هو خلاف العادة، بخلاف اتفاقهم على ما يعتقدون بطلانه، وهذا خلاف ما نحن فيه فإنه ما من أحد من الصحابة إلا ويعتقد تحريم كتمان نصوص النبي ﷺ في آحاد المسائل الفروعية، فما ظنك بذلك في العظائم.

وإن سلمنا اعتقادهم لبطلان ذلك ولكن لا نسلم عدم النكير عليهم من هارون، وأتباعه بخلاف ما نحن فيه فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة نقل النص.

قولهم: إن الإمام يجب أن يكون معصوما. لا نسلم بذلك على ما يأتي، وبتقدير أن يكون معصوما فلا مانع من التنصيص على عصمته، وتفويض نصبه إماما إلى اختيارنا.

قولهم: يجب أن يكون أفضل من رعيته وعالما بجميع أمور الدين، وأحكام الشرع. لا نسلم ذلك على ما يأتي أيضا وبتقدير التسليم، فيجب ذلك طاهرا، أو في نفس الأمر؟ الأول: مسلم. غير أن معرفة ذلك لا تتوقف على التنصيص بدليل نصب القضاة والأمناء. والثاني: ممنوع. وهو الجواب عن قولهم شرطه أن لا يكون كافرا.

وإن سلمنا اشتراط إيمانه في نفس الأمر، غير أنا لا نسلم مع ذلك امتناع نصب الإمام بالاختيار، وذلك ممكن بأن ينص الشارع على إيمان جماعة، ويفوض تعيين الواحد منهم إلى اختيارنا.

(رد الآمدي على الشيعة في إبطال الاختيار)

قولهم: إن المختار لا يملك التصرف في أمور المسلمين، فلا يملك تمليك غيره لذلك فهو باطل بولى المرأة فإنه لا يملك نكاحها لنفسه، ويملك تمليك ذلك لغيره، وكذلك الوكيل لا يملك التصرف في منافع العين الموكل في بيعها، وهبتها، ويملك تمليك ذلك من غيره بالبيع، والهبة.

قولهم: إن المختار لو أراد أن يجعل غيره نافذ الحكم على نفسه وحده، أو على غيره وحده لما تمكن [من] ذلك، مسلم.

قولهم: فالتولية على نفسه وغيره أولى، ليس كذلك. فإن جاز أن يكون الاختيار سببا للتولية العامة، لحصول التمكن التام الذي لا يبقى معه منازع، بخلاف التولية الخاصة.

قولهم: لو ثبتت الإمامة بالاختيار لكان لمن أثبتها إزالته: كالتوكيل فهو تمثيل من غير دليل، كيف وأن التوكيل حق للموكل، فكان له إبطاله بخلاف نصب الإمام، فإنه ينفذ بتقدير ثبوته بالاختيار يكون حقا على المختارين، ولهذا فإنه لو اتفقت الأمة على عدم نصب الإمام مع القدرة عليه أثموا، بخلاف الموكل، ولا يلزم من ثبوت حق على المختار بإثباته جواز إبطاله.

قولهم: إن نصب الإمام بالاختيار مما يفضى إلى وقوع الفتن والاختلاف.

قلنا: هذا الاحتمال ظاهر، أو غير ظاهر؟

الأول: ممنوع، بدليل العادة في كل عصر عند موت إمام واختيار غيره.

والثاني: مسلم. غير أن ذلك مما لا يمنع من اعتبار الاختيار مع ظهور المصلحة فيه.

فإن قالوا: وقوع المفسدة مع الاختيار وإن كانت نادرة غير أنها مع التنصيص تكون أندر فكان التنصيص أولى من الاختيار.

فنقول: وإن كان التنصيص أبلغ في دفع المفسدة من الاختيار، فليس ذلك مما يمنع من صحة الاختيار. ولهذا فإنه لو بعث الله ملكا خاطب الأمة بالتنصيص على الإمام، مع تنصيص النبي ﷺ وسلب المخالفين له قدرتهم على المخالفة فإنه يكون أبلغ في دفع المفسدة، وما لزم من ذلك جواز الاكتفاء بما هو دونه من تنصيص النبي ﷺ، فكذلك لا يلزم من كون التنصيص من النبي عليه السلام أبلغ في دفع المفسدة امتناع الاكتفاء بالاختيار.

قولهم: إن أحدا من الأمة لا يقدر على تولية ما هو أدنى في الرتبة من الإمامة، فالإمامة أولى أن لا يقدر عليها فجوابها ما سبق في جواب الشبهة الثالثة.

قولهم: إن الإمام خليفة الله ورسوله، وبالاختيار يخرج عن ذلك، لا نسلم ذلك، فإن الله تعالى إذا حكم بخلافته عند الاختيار له فقد صار خليفة له ولرسوله.

قولهم: يلزم من ذلك خلو بعض الأزمنة من نصب الإمام، مع وجوبه لما قرروه ممنوع، فإنا مهما جهلنا السابق منهما استأنفنا عقدا لمن يقع عليه الاختيار لاستحالة خلو الزمان عن الإمام النافذ الحكم.

قولهم: لو جاز إثبات الإمامة بالاختيار لجاز إثبات النبوة به. فهو تمثيل من غير دليل جامع، وهو الجواب عن قولهم إن الإمامة من أركان الدين فوجب أن لا تثبت بغير النص: كالصلوات الخمس.

قولهم: لا يخلو إما أن يكون النبي عالما باحتياج الأمة إلى الإمام، أو لا يكون عالما بذلك؟

[قلنا: بل كان عالما ومع علمه بذلك]، فإنما يلزمه التنصيص أن لو كلف به من جهة الله تعالى ولعله لم يكن مكلفا به. ولهذا فإن كثيرا مما تمس الحاجة إلى بيانه، والتنصيص عليه من أحكام الوقائع، مات النبي ﷺ من غير تنصيص عليها، ولا تبيين وذلك كأحكام الجد مع الإخوة والأخوات وقول القائل لزوجته أنت علي حرام، وغير ذلك، ويدل عليه أن الأحكام الشرعية مما لا تحصى عددا، مع أن الآيات الإحكامية على ما قاله أرباب الأصول لا تزيد على خمسمائة آية، وكذلك الأحاديث الإحكامية، فإنها وإن كانت ألوفا إلا أنها منحصرة، فإذا ترك التنصيص من النبي ﷺ على ما تدعو الحاجة إلى معرفته، وجعله موكولا إلى آراء المجتهدين، ليس بدعا، لا عقلا ولا عادة، ولا شرعا فكذلك عدم التنصيص على الإمام، وجعل الأمر فيه موكولا إلى اختيار أهل الحل، والعقد لا يكون ممتنعا.

قولهم: إن النبي ﷺ كان للأمة كالوالد لولده مسلم ولكن في الحنو والإشفاق والسياسة، أو في أنه يجب عليه مثل ما يجب على الوالد لولده؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع. ولهذا فإنه لا يجب عليه الإنفاق على الأمة كما كان يجب على الوالد لأولاده الصغار. وأما قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم ليس فيه ما يدل على التنصيص.

قولهم: إنما يكون الدين مكملا، أن لو بين فيه كل ما يتعلق به مسلم ولكن بطريق التنصيص عليه، أو بالتنبيه على طريق تحصيله؟ الأول: ممنوع. والثاني: مسلم.

ولهذا فإن كثيرا من الأحكام الشرعية لم ينص عليه السلام عليها كما بيناه، غير أنه بين طريق حصولها باجتهاد أهل الحل، والعقد، وفوض النظر في تحقيقها إليهم، وعلى هذا فيجب اعتقاد تنبيهه على طريق إثبات الإمامة، وإن لم ينص على واحد معين.

ويدل عليه إجماع الصحابة على الاختيار كما يأتي تقريره، فإن ذلك يدل على علمهم، بما يدل على جواز الاختيار من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلا كان إجماع الأمة خطأ وهو ممتنع، ويشبه أن يكون ما دلهم على ذلك قوله عليه السلام: "إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله، وإن تولوها عمر تجدوه قويا في دين الله، قويا في بدنه، وإن تولوها عليا تجدوه هاديا، مهديا" [2] فإنه يدل على صحة الاختيار.

قولهم: إنه عليه السلام ما كان يخرج من المدينة إلا ويستخلف فيها على الرعية خليفة.

قلنا: ليس في المواظبة على ذلك ما يدل على وجوب الاستخلاف، بل لعله كان من المندوبات، وبتقدير الوجوب فلا يلزم من وجوب الاستخلاف والنظر في أحوال الأمة حال حياته وجوب ذلك لما بعد مماته لجواز تكليفه بأحد الأمرين دون الآخر.

قولهم: لا جائز أن يستند نصب الإمام إلى الاختيار، وإلا لما وجبت طاعة الإمام على الرعية، ممنوع.

قولهم: لأنه لا مستند للاختيار لا نسلم ذلك على ما تقرر قبل، كيف وأن وجوب طاعتهم له ليس مستندا إلى الاختيار، وإنما هو مستند إلى الإجماع المستند إلى الكتاب، أو السنة، وبه يندفع قولهم: إنما صار إماما بإقامتهم له فلا تجب طاعته عليهم.

وأما دعوى التنصيص على أبي بكر بعينه، أو العباس: فدعوى لا بد لها من دليل.

وما ذكروه في حق كل واحد، فأخبار آحاد لا يثبت بمثلها عظائم الأمور كما تقدم تقريره.

كيف وإنها مع ضعف سندها ومتنها متعارضة، فإن من ضرورة التنصيص على كل واحد منهما أن لا يكون الآخر منصوصا عليه. والذي يدل على أن أبا بكر، والعباس غير منصوص عليهما، ما سبق في الوجه الثاني من الوجوه الدالة [على عدم التنصيص] على علي عليه السلام.

وأما ما ذكروه في الدلالة على النص الجلي على علي عليه السلام فهو باطل.

قولهم: إن خبر الشيعة عنه متواتر، ممنوع، وما المانع أن يكون ذلك من وضع بعض الناس، فيما مضى من الأعصار الماضية، ثم إنه شاع وذاع بحيث نقل إلينا على لسان التواتر. أو أنه كان في بعض الأعصار المتقدمة، من قبيل أخبار الآحاد عن النبي ﷺ ثم إنه شاع بحيث صار آخره متواترا.

قولهم: لو كان كذلك، لتوفرت الدواعي على نقله، وإشاعته من القائلين بعدم النص الجلي.

قلنا: لا نسلم أنه لم ينقل ولم يشع، وبيانه أنه قد قيل واشتهر أن واضع ذلك كان ابن الراوندي وهشام بن الحكم وغيرهما من الكذابين. وإن سلمنا عدم نقل واضعه، غير أن ذلك لا يدل على صحة ما ذكروه، وتواتره، بدليل ما نشاهده من الأراجيف الحادثة في كل زمان بحيث تشيع وتكثر كثرة التواتر، مع العلم بكذبها وبطلانها، مع الجهل بواضعها ووقت حدوثها.

قولهم: القول بذلك مما يبطل خبر التواتر على الإطلاق.

قلنا: ليس كذلك، فإن ضابط خبر التواتر حصول العلم عنده، فمهما حصل العلم بخبر الجماعة، علم تواتره. وما ذكروه، ليس من هذا القبيل، فإنا لا نجد أنفسنا عالمة بما أخبروا به من النص الجلي فلا يكون متواترا مع تطرق ما قيل من الاحتمال إليه.

كيف وأن القول بتواتر النص الجلي مما لا يستقيم على أصول الإمامية لأن جميع الأمة [عندهم] ارتدت بعد موت النبي محمد ﷺ ولم يبق منهم على الإسلام إلا نفر يسير لا يبلغ عددهم إلى عدد التواتر، ومن [عداهم] فكفار لا تقوم الحجة بقولهم.

(رد الآمدي في مسألة النص الجلي)

وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على تواتر النص الجلي فهو معارض بما يدل على عدمه.

وبيانه مع ما سبق من الأدلة على عدم التنصيص مطلقا من ستة عشر وجها:

الأول: أن عليا عليه السلام لم يزل يفتخر بذكر ما ورد عن النبي ﷺ في حقه، مما يدل على مرتبته، وعلو شأنه في خطبه، ومناشداته: كخبر الغدير وغيره، من الأخبار السابق ذكرها، ولم ينقل عنه ذكر النص الجلي على إمامته، ولو كان متحققا لكان أولى بالذكر من غيره لكونه قاطعا، وما عداه فظني.

الثاني: هو أن كثيرا من المعتقدين لفضيلة علي على غيره: كالزيدية، ومعتزلة البغداديين قد أنكروا هذا النص، مع زوال التهمة عنهم، والشك في قولهم.

الثالث: أنه لو كان منصوصا عليه لكان أعلم به من غيره، ولو كان عالما به لذكره للعباس حين قال له: «ادخل بنا إلى الرسول لنسأله عن هذا الأمر فإن كان لنا بينه، وإن كان لغيرنا، وصي الناس بنا».

الرابع: أنه لما مات رسول الله ﷺ قال العباس لعلي: "امدد يدك أبايعك، فيقول الناس، هذا عم رسول الله، بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان". وإنما ذكر ذلك ثقة منه بطاعة الناس لمن بايعه لكونه عما للرسول إعظاما للرسول. ولو كان ثم نص جلي من الرسول لكانوا أطوع له من ذلك فلا يحتاج إلى المبايعة.

الخامس: أنه لو وجد النص الجلي في حق علي، لما رضى بالدخول في الشورى لما فيه من ترك العمل بالنص الجلي عليه.

السادس: أنه قد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال لطلحة: "إن أردت أن أبايعك بايعتك" ولو كان النص عليه جليا لما أقدم على مخالفته.

السابع: أن عليا كتب إلى معاوية: "أما بعد فإن بيعتى بالمدينة لزمتك بالشام" محتجا عليه بالبيعة، ولو كان منصوصا عليه نصا جليا لاحتج بالنص لا بالبيعة إذ لا بيعة مع النص الجلي.

الثامن: قول علي عليه السلام: "لولا أن يتولى عليها تيس من تيوس بني أمية، يحكم بغير ما أنزل الله لما دخلت فيها" ولو كان منصوصا عليه نصا جليا لما جوز مخالفته.

التاسع: قوله عليه السلام لما دعى إلى البيعة: "اتركوني والتمسوا غيري" ولو كان نصه جليا لما أمر بمخالفته.

العاشر: لو كان نصه جليا، لما قال: "ليس عندنا عهد رسول الله ﷺ في هذا الأمر، وإنما رأيناه من أنفسنا، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنا، استخلف أبو بكر فقام، واستقام حتى مضى لسبيله رحمه الله ثم استخلف عمر فقام، واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ثم مضى لسبيله رحمه الله". ولو كان منصوصا عليه نصا جليا، لما قال ذلك، ولما وصف من تقدمه بالاستقامة لأن مخالف النص الجلي، لا يكون فعله مستقيما.

الحادي عشر: أنه لو كان منصوصا عليه نصا جليا لما ناصر من تقدمه وعضده بالمشورة، والرأي: كرأيه برجوع أبي بكر عن قتال العرب، وقعود عمر عن الخروج إلى قتال فارس لأن معاضده العاصى معصية.

الثاني عشر: أنه «رضي الله ع» كان يخاطب أبا بكر بقوله: يا خليفة رسول الله، ولو كان هو المنصوص عليه نصا جليا لكان كاذبا في ذلك. وإن كان بطريق التقية فهو ممتنع لأن الله تعالى وصف الصحابة بالصدق بقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون}.

الثالث عشر: أنه لو كان منصوصا عليه نصا جليا، لم يخل: إما أن يعينه الصحابة على حقه من الإمامة أو لا يعينوه.

فإن كان الأول: فيلزم أن يكون عاصيا بتقصيره، ويخرج بذلك عن أن يكون معصوما وهو خلاف مذهب الخصم.

وإن كان الثاني: فيلزم أن لا تكون الأمة {خير أمة أخرجت للناس}، وأن لا يكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وهو خلاف قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وهو ممتنع.

الرابع عشر: قوله عليه السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» أمر بمبايعتهما، ولا يمكن أن يقال لعل الرواية: «اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر وعمر» ويكون المأمور بذلك أبو بكر وعمر والمراد باللذين من بعده كتاب الله، وعترته إذ هو غير منقول، ولو جوز تطرق مثل هذه الأشياء إلى الدلالات اللفظية لما بقى الوثوق بشيء منها، وهو خطاب عام بالنسبة إلى كل من عدا أبا بكر وعمر فيدخل فيه علي، ولو كان منصوصا عليه نصا جليا لما كان مأمورا بمتابعة غيره.

الخامس عشر: أنه لما قال أبو بكر: "أقيلوني فلست بخيركم"، قال علي: "لا نقيلك، ولا نستقيلك. قدمك رسول الله ﷺ لديننا، أفلا نقدمك في أمر دنيانا". ولو كان منصوصا عليه لما جاز له ذلك.

السادس عشر: أن من يدعى النص الجلي على أبي بكر أيضا بالغون عدد التواتر في زماننا، وهم يزعمون أنهم نقلوا ذلك عن جماعة لا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب، وأنهم أخبروهم [أنهم رووه] عن جماعة لا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب، وأنهم أخبروهم عن جماعة منهم كذلك وهلم جر إلى النبي ﷺ على نحو ما ذكره الإمامية، ويلزم من التنصيص الجلي على أبي بكر أن لا يكون عليا منصوصا عليه لاستحالة اجتماع إمامين في بلد واحد، وعصر واحد، وليس أحدهما أولى من الآخر.

قولهم: إنه يمتنع ثبوت الإمامة بالدعوة، والاختيار.

قلنا: أما الدعوة: فمسلم. وأما الاختيار: فممنوع. وقد أبطلنا كل ما ذكروه على ذلك. وبتقدير التسليم بأن الإمامة لا تثبت بغير النص فلا نسلم النص على [علي].

قولهم: الأمة مجمعة على أن المنصوص عليه لا يخرج عن أبي بكر، وعلى والعباس مسلم، غير أن الأمة المجمعة على ذلك عندهم كفار إلا عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم، فيكف يصح منهم الاحتجاج [بالإجماع]. فلئن قالوا: إذا أجمعت الأمة على شيء، فيكون فيهم الإمام المعصوم لاستحالة خلو كل زمان منه على ما يأتي بيانه فسنبين بطلانه فيما بعد.

وإن سلمنا صحة احتجاجهم بالإجماع غير أنا لا نسلم أن أبا بكر، والعباس غير منصوص عليهما، وما ذكروه في إبطال التنصيص على أبي بكر، والعباس فغير صحيح إذ جاز أن يكون الشخص منصوصا عليه، وإن لم يكن عالما به فإنه ليس من شرط صحه التنصيص على أحد، سماعه له.

وإن سلمنا أنه لا بد من سماعه له، غير أنه معارض بمثله في حق علي أيضا. ودليله ما سبق.

(رد الآمدي على حجج الشيعة في أفضلية علي)

قولهم: إن عليا أفضل الصحابة لا نسلم ذلك، وأما قوله تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية فلا نسلم أن المدعو إلى ذلك علي بل قد روى أن المراد به قرابته، وخدمه، ولذلك ذكرهم بصيغة الجمع، ولو كان المراد به عليا لكان مجازا فيه، والأصل في الكلام الحقيقة.

قولهم: ليس المراد من قوله: وأنفسنا. نفسه ممنوع.

قولهم: لأن الإنسان لا يدعو نفسه حقيقة، أو مجازا. الأول: مسلم. والثاني: ممنوع فإن من أراد من نفسه شيئا يصح أن يقال دعا نفسه إلى ذلك الشيء، وهو وإن كان مجازا فحمله على علي أيضا مجاز، فإن عليا ليس هو نفس النبي حقيقة وليس أحد المجازين، أولى من الآخر.

سلمنا أن المدعو إلى المباهلة علي ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون أفضل من الصحابة.

قولهم: ذلك يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام في غاية الشفقة على المدعو مسلم.

قولهم: إما أن يكون ذل لزيادة قربه من النبي ﷺ، أو لزيادة فضله، لا نسلم الحصر إذ أمكن أن يكون ذلك لمجموع أمور لا وجود لها في غير المدعو، وهي أصل القرابة، وأصل الفضل، مع زيادة إلف، وكثرة المعاشرة، لا لزيادة الفضيلة، ولا زيادة القرابة.

وعلى هذا أمكن اختصاص علي بهذه الأمور، دون غيره من الصحابة، وهو كذلك.

قولهم: إنه جعل عليا نفسا له.

قلنا: بمعنى أنه أضافها إليه، أو بمعنى أنه أوجب الاتحاد بين نفس عليه، ونفسه؟

الأول: مسلم. والثاني: ممنوع إذ هو خلاف الحقيقة. وعند ذلك فلا يلزم من مطلق الإضافة الاشتراك في الصفات ليلزم ما ذكروه.

وقوله عليه السلام في [ذي] الثدية: "يقتله خير الخلق" متروك الظاهر فإنه يدل على أن من باشر قتل ذي الثدية حقيقة يكون خير الخلق، وعلي ما باشر قتله فيلزم أن يكون من قتله من أصحاب علي أفضل من على، ومن الخلق وهو ممتنع. ثم إنه يلزم من ذلك أن يكون علي خيرا من النبي لأنه من الخلق، وبعد التخصيص فقد بطلت الحقيقة، وهي حمل لفظ الخلق على العموم.

وعند ذلك فيبقى مترددا بين أقل الجمع وما عدا صورة التخصيص فهو مجاز في كل واحد منهما، وليس أحد المجازين أولى من الآخر بل ربما كان حمله على أقل الجمع أولى لتيقنه.

وقوله عليه السلام: "أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي، يقضي ديني وينجز موعدي، علي بن أبي طالب"، فلا حجة في قوله: «أخي ووزيري» فإنه لا يلزم من كونه أخا للنبي ﷺ أن يكون أفضل عند الله من غيره، وكذلك الوزير، بل موضع الاحتجاج إنما هو [فى قوله] : "وخير من أتركه بعدي" ولا حجة فيه أيضا فإنه قال: "خير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب" وتقديره: "خير من يقضي ديني وينجز موعدي علي". ولا يلزم من ذلك أن يكون خيرا من غيره مطلقا بل بالنسبة إلى قضاء الدين وانجاز الموعد.

وقوله عليه السلام لفاطمة: "أما ترضين أني زوجتك خير أمتي" ليس فيه ما يدل على كونه خيرا من الأمة مطلقا إذ ليس في لفظة خير صيغة عموم ليكون خيرا منهم بالنسبة [إلى كل شيء، وعند ذلك فيكون خيرا من الأمة] بالنسبة إلى بعض الأشياء، ولا يلزم أن يكون خيرا منها مطلقا، وعلى هذا فإن كان خيرا من غيره من وجه فيكون غيره خيرا منه من وجه آخر.

فإن قيل: النبي ﷺ إنما ذكر ذلك في معرض الامتنان والإنعام على فاطمة، ولو كان الأمر على ما ذكرتموه لم تتحقق هذه الفائدة.

قلنا: أمكن أن يكون تحقيق فائدة الامتنان، والإنعام عليها بكون على خير الأمة بالنسبة إلى فاطمة فيما يرجع، إلى القرابة، وزيادة الحنو، والشفقة عليها، وكثرة طواعيته لها، وزيادة منزلته في حب النبي ﷺ [له]، وعلى هذا فقد خرج الجواب عن قوله عليه السلام: "خير من أتركه بعدي علي" وأمكن تقييد ذلك بأنه خير من يقضى دين النبي ﷺ وينجز موعده.

وقوله عليه السلام عن علي: "هذا سيد العرب" فلا يخفى أن السيادة عبارة عن التقدم والارتفاع. وليس في لفظ سيد أيضا صيغة عموم بل هي مطلقة، والكلام فيها كالكلام في قوله خير.

ثم وإن سلمنا العموم في قوله سيد بالنسبة إلى كل شيء، غير أنه لا يدل على كونه أفضل من جميع الصحابة فإنه قد كان منهم من ليس بعربي، كسلمان الفارسي [وبلال الحبشي] وغيرهما.

فإن قالوا: إذا كان سيد العرب، فالعرب سادات لمن سواهم، وسيد السيد سيد. قلنا: فيلزم من ذلك أن يكون علي سيد العالمين، وفيه إبطال قوله عليه السلام في الفرق بينه، وبين علي: "أنا سيد العالمين، وعلي سيد العرب".

وقوله عليه السلام: "إن الله اطلع على أهل الأرض ثانية فاختار منهم بعلك" يدل على كونه مختارا، وليس فيه ما يدل على اختياره بالنسبة إلى كل شيء إذ لا عموم في قوله: "اختار منهم بعلك" بالنسبة إلى كل شيء، ولا يلزم من كونه مختارا بالنسبة إلى بعض الأشياء، أن يكون أفضل من غيره مطلقا. وعلى هذا أمكن أن يكون مختارا بالنسبة إلى مجاهدته، بين يدى النبي ﷺ، أو بالنسبة إلى جعله بعلا لفاطمة، أو غير ذلك.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي" فليس فيه أيضا ما يدل على كونه أحب الخلق مطلقا بل أمكن أن يكون أحب الخلق بالنظر، إلى شيء دون شيء، ولهذا يصح الاستفسار، ويقال أحب خلق الله في كل شيء أو في بعض الأشياء؟

وعند ذلك فلا يلزم من زياده ثوابه في بعض الأشياء على غيره، الزيادة في كل شيء بل جاز أن يكون غيره أزيد ثوابا منه في شيء آخر.

فإن قيل: إذا كان كذلك فأي فائدة في قوله: ائتنى بأحب خلقك إليك؟

قلنا: الفائدة فيه تخصيصه عمن ليس أحب عند الله، ولا من وجه.

وقولهم: إن النبي ﷺ اتخذ عليا أخا لنفسه، جاز أن يكون ذلك لزيادة حنوه عليه وشفقته بسبب قرابته ومصاهرته وزيادة خدمته وألفته له بكثرة مخالطته له ﷺ، وليس في ذلك ما يدل على كونه أفضل من غيره عند الله تعالى.

وأما قصة خيبر: فليس فيها أيضا ما يدل على أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر بل غايته أن مجموع ما وصفه به من كونه يحب الله ورسوله، [وأنه] يحبه الله ورسوله، وأنه كرار غير فرار، لم يجتمع فيهما، وذلك متحقق بفرارهما، ويلزم من ذلك، أن يكون أفضل منهما بالنظر إلى هذا الوجه لا غير، ولا يلزم أن يكون أفضل منهما مطلقا لجواز أن يكون كل واحد منهما، أفضل منه من وجه آخر.

قولهم: إن عليا كان أعلم الصحابة لا نسلم ذلك.

وقوله عليه السلام: «أقضاكم علي» لا يدل على أنه أعلم بل غايته أنه لا يحتاج إلى جميع أنواع العلوم التي يتعلق بها القضاء، وفصل الخصومات ولا يدل ذلك على بلوغه في كل واحد منهما إلى الغاية القصوى، والنهاية العليا، وعلى هذا وإن كان أعلم من غيره من جهة اشتماله على أصول العلوم، فلعل غيره أعلم منه لبلوغه في آحاد العلوم النهاية التي لم يبلغها علي كرم الله وجهه.

وإن سلمنا أنه أعلم الصحابة، وأنه أفضل من باقي الصحابة، بالنسبة إلى فضيلة العلم فلا يلزم أن يكون أفضل من غيره مطلقا لجواز اختصاص غيره بفضيلة غير فضيلة العلم، يكون بها أفضل من علي عليه السلام.

قولهم: إن عليا كان أكثر جهادا مع رسول الله ﷺ من جميع الصحابة.

قلنا: وإن كان أكثر جهادا بالقتال، ومنازلة الأبطال من غيره، فليس في ذلك ما يدل، على أنه أفضل من غيره مطلقا لجواز اختصاص غيره بفضيلة لا وجود لها فيه، كالجهاد مع النفس بالعبادات أو الجهاد مع العدو بإقامة البراهين ودفع الشبهات، أو غير ذلك.

وقولهم: إن إيمان علي كان سابقا على إيمان جميع الصحابة، ممنوع وما ذكروه معارض بما روى عنه عليه السلام أنه قال: "ما عرضت الإيمان على أحد إلا وكان له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم" وذلك يدل على سبقه لكل من عداه إلى الإيمان لأنه لو لم يكن كذلك لكان تأخره في الإيمان، لا لعدم إجابته بل لتقصير النبي ﷺ في دعائه إلى الإيمان وذلك ممتنع في حق النبي ﷺ.

وإن سلمنا أن إيمان علي كان سابقا على إيمان أبي بكر، غير أن إسلام أبي بكر كان بعد البلوغ، وإسلام علي قبل البلوغ، بدليل ما نقل عنه من الشعر. وإسلام العاقل البالغ أفضل من إسلام الصبي لثلاثة أوجه:

الأول: أن الناس قد اختلفوا في صحة إسلام الصبي مع اتفاقهم على صحة إسلام العاقل البالغ وذلك يدل على كون إسلام البالغ أفضل.

الثاني: أن إسلام العاقل البالغ أنفع لنفسه ولغيره، أما بالنسبة إلى نفسه فلأن تأدية العبادات، وامتثال أمر الشارع، ونهيه [أكثر] فيكون أكثر ثوابا. وأما بالنسبة إلى غيره، فلأن تأسي الغير به في الدخول في الإسلام لكمال عقله يكون أكثر على ما لا يخفى.

الثالث: أن دعاءه لغيره إلى الإسلام، وحثه عليه، يكون أفيد، وأقرب إلى المقصود من الصبي، ولهذا فإن أبا بكر بعد إسلامه، كان هو السبب في إسلام عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وابن مظعون بدعائه لهم إلى الإسلام وتوسطه بينهم وبين الرسول في إسلامهم، وكان ذلك سبب قوة الإسلام وظهوره، بخلاف إسلام علي صبيا فإنه لم يتأت منه مثل هذه الفائدة الجسيمة. فكان إسلامه أفضل.

وإن سلمنا أن من سبق إلى الإسلام أفضل لكن من جهة سبقه إلى الإسلام، أو مطلقا؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع، وعلى هذا فلا يلزم أن يكون على أفضل من غيره مطلقا.

وقوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} لا نسلم أن المراد من قوله تعالى: {وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب بل المراد به خيار المؤمنين على ما قاله أكثر المفسرين. وقال العلاء بن زياد : المراد به الأنبياء. وقال الضحاك : المراد به أبو بكر وعمر، ويقال عثمان أيضا.

وقوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه». وقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» سيأتي جوابهما فيما بعد.

وقوله عليه السلام: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه" الحديث فليس فيه ما يدل على تفضيله.

قولهم: إنه أوجب مساواته لكل نبي في صفته، لا يخلو إما أن يوجب مساواته لكل واحد في الفضيلة لمساواته فيما يشبهه به، أو لا يوجب ذلك.

الأول: محال، لما فيه من القول بأن عليا مساو للنبي عليه الصلاة والسلام في الفضيلة وهو خلاف الإجماع، ولأنه يلزم من مساواته لكل واحد من الأنبياء المذكورين في فضيلته، أن يكون أفضل من كل واحد منهم لمساواته له في فضيلته، وترجحه عليه بفضيلة غيره والولي لا يكون أفضل من النبي بالإجماع.

وإن كان الثاني: فقد بطل ما ذكروه من وجه الاستدلال.

وما ذكروه من اتصافه بالصفات المذكورة والمناقب المشهورة، فكل ذلك مما يوجب الفضيلة لا الأفضلية، فإنه ما من واحد من آحاد الصحابة، إلا وهو أيضا مختص بمناقب وفضائل لم توجد في حق غيره، وإن لم يكن أفضل من غيره.

(الدليل على أفضلية أبي بكر)

وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على أن عليا أفضل من باقي الصحابة، إلا أنه معارض بما يدل على أنه أبا بكر أفضل منه.

وبيانه من ثلاثة عشر وجها:

الأول: قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى} الآية قال أكثر أهل التفسير، وعليه اعتماد العلماء: إنها نزلت في حق أبي بكر فيكون موصوفا في كونه أتقى، والأتقى هو الأكرم عند الله تعالى لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. والأكرم عند الله هو الأفضل فإذا الآية دالة على أن أبا بكر أفضل من كل من عداه من الأمة.

الثاني: قوله عليه السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، أمر كل واحد بالاقتداء بهما فيدخل فيه علي، ويلزم من ذلك أن يكون علي عليه السلام مفضولا بالنسبة إلى أبي بكر لأنه إن لم يكن مفضولا، فإما مساو أو أفضل. فإن كان مساويا: فليس بأفضل وهو المطلوب. كيف وأنه يمتنع أن يكون مساويا فإنه ليس الأمر بمتابعة أحد المتساويين للآخر، أولى من العكس. وإن كان أفضل: كان الواجب أن يكون الأمر بالمتابعة بالعكس، وإذا بطل أن يكون أفضل، أو مساو لزم أن يكون مفضولا.

الثالث: ما روى أن أبا الدرداء كان يمشى [أمام] أبي بكر. فقال له عليه السلام: [أتمشي أمام من هو خير منك، فقال أبو الدرداء: أهو خير مني] فقال له عليه السلام: "ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر".

الرابع: قوله عليه السلام لأبي بكر وعمر: «هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين».

الخامس: قوله عليه السلام: «لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره».

السادس: قوله عليه السلام: «ليؤم الناس أبو بكر» وتقديمه في الصلاة مع أنها أفضل العبادات أدل على كونه أفضل.

السابع: قوله عليه السلام: «يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر».

الثامن: قوله عليه السلام: «ائتوني بدواة وقرطاس أكتب إلى أبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان»

التاسع: قوله عليه السلام: «خير أمتي أبي بكر وعمر».

العاشر: قول النبي ﷺ وقد ذكر أبو بكر عنده: "وأين مثل أبي بكر، كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف".

الحادي عشر: قول علي كرم الله وجهه: "خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر، ثم الله أعلم".

الثاني عشر: ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قيل له: ما توصي، فقال: ما أوصى رسول الله حتى أوصي ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.

الثالث عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» "ولكن صاحبكم شريكي في ديني وصاحبي الذي وجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي".

إلى غير ذلك من الأدلة. [وهذه الأدلة] وإن لم تكن راجحة فلا أقل من التساوي، ومع التساوي يجب القول بالتساقط والرجوع إلى إجماع الصحابة.

وإن سلمنا أن عليا أفضل من جميع الصحابة ولكن لا نسلم امتناع إمامة المفضول مع وجود الفاضل وذلك لأنه إذا وقع التساوي بينهما في أصل الشروط المعتبرة في الإمامة فلا يمتنع أن يكون تفويض الإمامة إلى المفضول أفضى إلى صلاح الناس واستقامة أمورهم؛ وذلك بأن يكون الفاضل مبغوضا لأكثر الخلق، والمفضول محبوبا لهم. ومثل ذلك فقد تحقق في حق علي باعتراف الإمامية، حيث زعموا أن الأمة منعوه حقه وتمالئوا على إخفاء النص الجلي عليه وعلى نصب أبي بكر إماما، ولذلك سموهم نواصب.

قولهم: إن الأمة مجمعة على أن الإمامة غير خارجة عن أبي بكر وعلي والعباس؛ فقد بينا أن استدلالهم بالإجماع مما لا يصح. وبتقدير الصحة لا نسلم أن أبا بكر والعباس غير صالحين للإمامة.

قولهم: إنهما غير معصومين، مسلم، ولكن لا نسلم أن الإمام لا بد وأن يكون معصوما على ما سيأتي.

قولهم: إن أبا بكر والعباس، كانا كافرين قبل البعثة والكافر ظالم.

قلنا: الكافر ظالم حالة كفره، أو بعد زواله؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع، فإنه بعد الإسلام لا نسمي الشخص كافرا حقيقة بالإجماع، وإذا كان الكفر هو منشأ تسميته ظالما ولا كفر حقيقة فلا ظلم حقيقة. والأصل في قوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} الحقيقة دون المجاز.

قولهم: لا يشترط في إطلاق الاسم المشتق حقيقة وجود المشتق منه، ليس كذلك، فإن تسمية المحل أسود أو أبيض حالة عدم السواد المشتق منه اسم الأسود وعدم البياض المشتق منه اسم الأبيض لا يكون حقيقة، ولو لم يكن وجود الصفة المشتق منها شرطا في وصف المحل بكونه أسود أو أبيض لما كان كذلك.

وما ذكروه من الاستشهاد بالقائل والماشي، فالمشتق منه اسم الماشي: إنما هو الحركة الأخيرة مشروطا بعدم الحركات السابقة بعد وجودها، وكذلك الحكم في القول.

قولهم: إنه تصدق عليه حالة اتصافه بكونه ظالما أنه لا ينال عهد الله بجهة العموم لوقت الظلم وما بعده؛ لا نسلم ذلك بل هو مقصور على حالة كونه ظالما حقيقة، وصحة الاستثناء معارض بصحة الاستفهام فإنه يصح أن يقال: لا ينال عهد الله في حالة الظلم، أو في جميع الأوقات؟ ولو كان ذلك ظاهرا في العموم لما حسن الاستفهام.

وقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} الآية، إنما يكون حجة أن لو كان الولي في الآية بمعنى الأولى بالتصرف. وما المانع من حمله على معنى الناصر؟

قولهم: إن الولاية بمعنى النصرة عامة، والولاية في الآية خاصة.

قلنا: الولاية بمعنى النصرة إنما تكون عامة إذا أضيفت إلى جمع غير مخصوصين بصفات معينة، كما في قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. وأما إذا أضيفت إلى جمع مخصوصين بصفات خاصة كما في الآية المحتج بها فلا، وعلى هذا فلا يمتنع أن تكون الولاية المحصورة في الله ورسوله والمؤمنين المخصوصين بالصفات المذكورة في الآية الولاية بمعنى النصرة، وهي الولاية الخاصة فيها دون الولاية العامة من غير منافاة بين الآيتين المذكورتين، ويكون تقدير الآية: إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة أي الولاية الخاصة بمعنى النصرة لا الولاية العامة.

وإن سلمنا دلالة ما ذكروه، على أن الولاية في الآية بمعنى التصرف، غير أنه يمتنع حمل لفظ المؤمنين على علي عليه السلام لما فيه من حمل لفظ الجمع على الواحد وهو مخالف للأصل والحقيقة.

قولهم: إن أئمة التفسير اتفقوا على أن المراد بالمؤمنين المذكورين في الآية علي؛ لا نسلم الاتفاق على ذلك، فإنه قد حكى النقاش في تفسيره عن أبي جعفر أنه قال: "المؤمنون المذكورون في الآية: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام". وهو الأظهر لما فيه من موافقة ظاهر لفظ الجمع.

وإن سلمنا أن المراد إنما هو علي كرم الله وجهه غير أنه يمتنع جعله بذلك إماما وخليفة عن الرسول، وإلا لزم فيه إما تخصيص ولايته بما بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام [وهو خلاف ظاهر الآية، وإما إثبات الولاية له بمعنى التصرف في الأمة في زمن النبي ﷺ] وهو خلاف الإجماع منا ومن الخصوم.

وقوله تعالى: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} لا نسلم كونه حجة.

قولهم: إنه أمر بمتابعة الصادق.

قلنا: في الظاهر أو في نفس الأمر؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع وعلى هذا فلا يلزم العصمة. وإن سلمنا أنه لا بد من عصمة المأمور بمتابعته في نفس الأمر ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون علي معصوما.

قولهم: إن غير علي من الصحابة غير معصوم.

قلنا: غير علي غير معصوم من آحاد الصحابة أو جملة الصحابة؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع على ما تقدم في بيان عصمة الأمة عن الخطأ. وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون المراد بالصادقين المجمعون من أهل الحل والعقد من الصحابة وغيرهم دون آحاد الصحابة، وهو الأظهر نظرا إلى صيغة الجمع في الصادقين فإنه حقيقة في الجمع لا في الآحاد. كيف وأنه ليس كل إمام عند الخصوم ظاهرا، والأمر بمتابعة من ليس بظاهر ولا معروف ممتنع.

فإن قيل: إذا كان الخطاب مع المؤمنين بمتابعة الصادقين، وإذا كان المراد بالصادقين المجمعين من أهل الحل والعقد، فهم من المؤمنين المخاطبين، ويلزم من ذلك أن يكونوا مخاطبين بمتابعة أنفسهم وهو ممتنع مخالف للظاهر.

قلنا: فإذا كان الخطاب مع المؤمنين، فالأئمة داخلون فيهم أيضا، فلو كان المأمور بمتابعته من الصادقين هم الأئمة [فيلزم أن يكون الأئمة] أيضا قد أمروا بمتابعة أنفسهم.

والجواب عن الإشكالين يكون متحدا. وعلى هذا يكون الجواب عن قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول}.

وقوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه» من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في هذا الباب لما تقدم.

قولهم: الأمة مجمعة على صحته فقد سبق إبطال احتجاجهم بالإجماع. وإن صح احتجاجهم بالإجماع لكن لا نسلم أن هذا الحديث مما أجمعت الأمة على صحته فإنه قد طعن فيه ابن أبي داود وأبو حاتم الرازي وغيرهما من أئمة الحديث.

وإن سلمنا الإجماع على صحته لكن بجهة القطع أو بجهة الظن؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم.

وإن سلمنا أنه مقطوع بصحته لكن لا نسلم صحة الزيادة فيه وهي قوله: "ألست أولى بكم من أنفسكم" ولا يمكن دعوى إجماع الأمة عليها فإن أكثر المحدثين لم يوافقوا عليها.

سلمنا صحة الأصل والزيادة ولكن لا نسلم صحة الاحتجاج به على إمامة علي عليه السلام.

قولهم: لفظ المولى يحتمل الأولى لا نسلم ذلك، وبيانه من وجهين:

الأول: أن أحدهما بمعنى أفعل، والأخر بمعنى مفعل، وقد نقل عن أهل اللغة أنه لم يرد أحدهما بمعنى الآخر.

الثاني: أنه لو ورد أحدهما بمعنى الآخر وكان المفهوم منهما واحدا لصح أن يقترن بكل واحد منهما ما يقترن بالآخر، وذلك بأن يقال: فلان مولى من فلان، كما يقال [فلان] أولى من فلان، وفلان أولى فلان، كما يقال فلان مولى فلان وهو ممتنع. غير أن لقائل أن يقول: [إن] المفهوم منهما وإن كان واحدا، غير أن اللفظ مختلف.

وعند ذلك فلا يلزم أن يجوز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر، إلا أن نبين أن ذلك اللازم من لوازم مفهوم اللفظ، لا من لوازم اللفظ وهو غير مسلم.

وقوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} لا نسلم أن المولى هاهنا بمعنى الأولى بل المراد به الوارثون، وهم العصبة من بني العم والقربى مما ترك الوالدان والأقربون.

وقوله تعالى: {مأواكم النار هي مولاكم} لا نسلم أن المولى هاهنا أيضا بمعنى الأولى بل قد قيل المراد بقوله أولى بكم، أي مكانكم، ومقركم وما إليه مآلكم وعاقبتكم، ولهذا قال تعالى: {وبئس المصير}

وقد قيل: أمكن أن يكون المراد به: النار ناصركم بمعنى المبالغة في نفي الناصر له. كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، والمراد المبالغة في نفي الحيلة والزاد. أما أن يكون الجوع زادا والصبر حيلة فلا.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها فنكاحها باطل". لا نسلم صحته، وبتقدير صحته [فالمراد] بقوله مولاها مالك رقبتها والمتصرف فيها لغرض يعود إليه لا إليها فإنه المتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ المولى بإزاء الأمة، وعند ذلك فيمتنع إطلاقه بإزاء الأولى المطلق في قوله عليه الصلاة والسلام: "ألست أولى بكم من أنفسكم"، وإلا لصدق على النبي أنه مالك رق من خاطبهم بذلك وهو ممتنع بالإجماع.

سلمنا احتمال إطلاق المولى بمعنى الأولى ولكن لا نسلم وجوب حمله عليه فيما نحن فيه.

قولهم: لفظ المولى إما أن يكون ظاهرا في الأولى بالتصرف أو لا يكون ظاهرا فيه.

قلنا: ليس ظاهرا فيه.

قولهم في الوجه الأول: إن اللفظ المتحد إذا أطلق وله محامل فلا بد له من البيان، والمذكور في مبدأ الكلام وهو قوله: "أولى بكم" صالح للبيان فوجب الحمل عليه.

[قلنا: إنما يجب الحمل عليه] أن لو لم يكن لفظ المولى ظاهرا في محمل من جملة تلك المحامل، وأما إذا كان ظاهرا في كل واحد منها فيجب الحمل عليه، لا على غيره، وهو الأولى. نفيا للإجمال عن الكلام لكونه مخلا بمقصود الوضع، وهو التقاؤهم، وذلك على خلاف الأصل.

وعلى هذا: فلا يمتنع أن يكون لفظ المولى ظاهرا في الناصر والمعين، ولا يكون محتاجا إلى البيان.

كيف وأن الأصل عند تعدد الألفاظ تتعدد المعانى تكثيرا للفائدة، ولو كان لفظ المولى بمعنى الأولى لكان أقل فائدة وهو بعيد.

وإن سلمنا وجوب حمل لفظ المولى في الحديث المذكور على الأولى ولكن لا نسلم أن المراد به الأولى بالتصرف فيهم بل أمكن أن يكون المراد به [أنه] الأولى بهم في محبته وتعظيمه، وليس أحد المعنيين أولى من الأخر.

[كيف] وأن الترجيح لما ذكرناه، فإنه لو حمل ذلك على الأولى بالتصرف فيهم للزم أن يكون علي إماما في زمن النبي ﷺ وهو خلاف الإجماع، أو أن يكون ذلك مقيدا بما بعد موت النبي ﷺ وهو خلاف الظاهر من اللفظ.

قولهم: في الوجه الثاني أنه يتعذر حمل لفظ المولى على غير الأولى من المحامل المذكورة لا نسلم، وما المانع من حمله على معنى الناصر والمعين.

قولهم: لا فائدة فيه لكونه معلوما من قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}.

قلنا: لا نسلم أنه لا فائدة فيه فإن ما أثبته لعلي، إنما هو النصرة لجميع المؤمنين، والنصرة الثابتة في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} نصرة البعض للبعض.

سلمنا أن المثبت في الآية والخبر واحد لكنه مع ذلك مقيد، وبيانه من وجهين: الأول: أنه أثبت النصرة لعلي في الخبر بدليل يخصه، وفى الآية دليل يعمه، والخاص أبعد عن التخصيص، وأقوى في الدلالة فكان مقيدا.

الثاني: هو أن في اقتران موالاته بموالاة النبي ﷺ زيادة مزية وتعظيم غير حاصل من الآية، ولا يخفى أن ذلك من أعظم الفوائد.

وإن سلمنا أنه غير مقيد من جهة أن ما أثبته في الخبر معلوم من الآية فيلزمهم من ذلك أن لا يكون إثبات إمامة علي بمثل هذه النصوص الخفية مفيدا فإن إمامته على أصولهم معلومة بالنص الجلي، وعلى هذا فالجواب يكون متحدا.

سلمنا امتناع حمل المولى في الخبر على غير الأولى في التدبير والتصرف لكن بمعنى أنه أعرف بمصالحهم في التدبير والتصرف، أو بمعنى نفوذ تصرفه عليهم شاءوا أو أبوا؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع.

وإنما قلنا بامتناع الثاني لأنه يلزم منه أن يكون علي إماما في زمن النبي ﷺ أو أن يكون ذلك مقيدا بما بعد موته، وكل واحد منهما خلاف الظاهر لما سبق.

وقوله عليه السلام لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، لا يصح الاستدلال به أيضا من جهة السند، كما تقدم في الخبر الذي قبله.

وإن سلمنا صحة سنده قطعا لكن لا نسلم أن قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» تعم كل منزلة كانت لهارون من موسى فإن من جملة منازل هارون من موسى أنه كان أخا له من النسب، وأنه كان شريكا له في النبوة ولم يثبت ذلك لعلي «رضي الله ع».

قولهم: منزلة اسم جنس يصلح لكل المنازل ولكل واحد واحد؛ لا نسلم أن اسم الجنس إذا عري عما يوجب التعميم فيه كدخول الألف، واللام عليه، كقولنا: المنزلة، أو دخول حرف النفى عليه، كقولنا: لا منزلة أنه يعم كل منزلة بل هو من قبيل الأسماء المطلقة الصالحة لكل واحد، واحد من الجنس على طريق البدل، لا أن يكون متناولا للكل على طريق الاستغراق معا، وإلا لما بقى بين المطلق، والعام فرق، وأن يكون قولنا: رجل بمنزلة قولنا: الرجل وهو محمل مخالف لإجماع أهل اللغة.

سلمنا أن [لفظ] الجنس صالح للعموم، والآحاد لكن بطريق العموم أو الاشتراك؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم، ولهذا فإنه يحسن الاستفسار وهو أن يقال: في كل المنازل، أو في بعضها؟ وهو دليل الاشتراك.

قولهم: لو حملناه على بعض المنازل دون البعض: فإما أن يكون ذلك البعض معينا أو مبهما.

قلنا: هذا مما يخرج اللفظ المطلق عن اطلاقه وحقيقته بأمر ظني فلا يقبل.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «إلا أنه لا نبي بعدي» مما لا يدل على التعميم والاستغراق لكل منزلة بل على صلاحية منزلة لكل واحدة من آحاد المنازل على طريق البدل، والاستثناء في المطلقات إخراج لولاه لكان اللفظ المطلق صالحا له على طريق البدل، والاستثناء من اللفظ العام إخراج لولاه لكان اللفظ متناولا له على طريق العموم والاستغراق.

سلمنا بالتعميم لجميع المنازل ولكن لا نسلم أن من منازل هارون من موسى استحقاقه لخلافته بعد وفاته ليلزم مثل ذلك في حق علي.

قولهم: إنه كان خليفة له على قومه في حال حياته لا نسلم ذلك بل كان شريكا له في النبوة، والشريك غير الخليفة، ثم ليس جعل أحد الشريكين خليفة عن الآخر أولى من العكس.

وقوله تعالى: {اخلفني في قومي} فالمراد به المبالغة والتأكيد في القيام بأمر قومه على نحو قيام موسى به، أما أن يكون مستخلفا عنه بقوله فلا، فإن المستخلف عن الشخص بقوله لو لم يقدر استخلافه له لما كان له القيام مقامه في التصرف، وهارون من حيث هو شريك [له] في النبوة فله ذلك ولو لم يستخلفه موسى.

سلمنا أنه استخلفه في حال حياته ولكن لا نسلم لزوم استخلافه له بعد مماته فإن قوله: {اخلفني} ليس فيه صيغة عموم بحيث تقتضى الخلافة في كل زمان ولهذا فإنه لو استخلف وكيلا في حياته على أمواله ونفقة بنيه فإنه لا يلزم من ذلك استمرار الخلافة له بعد موته، وإذا لم يكن ذلك مقتضيا للخلافة في كل زمان فعدم خلافته في بعض الأزمان لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه لا يكون عزلا له فيه كما لو صرح بالاستخلاف في بعض التصرفات دون البعض فإن ذلك لا يكون عزلا فيما لم يستخلف فيه، وإذا لم يكن ذلك عزلا فلا يتعين [كما قالوه].

سلمنا أن ذلك يكون عزلا له ولكن متى يكون منفرا عنه، إذا كان قد زال عنه بالعزل حالة توجب نقصه في الأعين أو إذا لم يكن؟ الأول: مسلم والثاني: ممنوع، فلم قلتم بأن ذلك مما يوجب نقصه في الأعين.

وبيان عدم نقصه: هو أن هارون كان شريكا لموسى في النبوة، وحال المستخلف دون حال الشريك في نظر الناس، فإذن الاستخلاف حالة منقصة بالنظر إلى حال الشركة، وزوال المنقص لا يكون موجبا للتنقيص.

سلمنا لزوم النقص من ذلك لكن إذا لزم منه العود إلى حالة هي أعلى من حالة الاستخلاف، أو إذا لم يعد؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم فلم قلتم أنه لم يعد إلى حالة هي أعلى.

وبيان ذلك: أنه وإن عزل عن الاستخلاف، فقد صار بعد العزل مستقلا بالرسالة والتصرف عن الله تعالى لا عن موسى وذلك أشرف من استخلافه عن موسى.

قولهم: إن من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنه كان شريكا له في النبوة.

قلنا: فيلزم من ذلك أن يكون علي شريكا أيضا في النبوة وهو محال.

قولهم: من أحكام الشريك في النبوة أنه مفترض الطاعة مطلقا، ولا يلزم من مخالفة ذلك في النبوة مخالفته في افتراض طاعته بتقدير بقائه بعد النبي عليه الصلاة والسلام.

قلنا: افتراض طاعة هارون: إما أنه كان بمقتضى النبوة [أو لا بمقتضى النبوة]، فإن كان لا بمقتضى [النبوة فهو خلاف الفرض. وإن كان بمقتضى [النبوة فيلزم من إثبات مثل ذلك لعلي أن يكون نبيا وهو محال. وإن أثبتنا وجوب طاعته لا بمقتضى] النبوة بل بمقتضى الخلافة، فقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» لا يكون صحيحا.

وقوله عليه السلام: "سلموا على علي بإمرة المؤمنين"، وقوله: "أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي"، فأخبار آحاد لا يمكن الاحتجاج بها في مثل هذا الباب لما تقدم.

وكذلك الاحتجاج بقولهم إنه استخلفه على المدينة في حال حياته، كيف وأن قوله: "سلموا على علي بإمرة المؤمنين" لتأميره عليهم في قصة فتح خيبر. وقوله: "أنت أخي" فدال على الفضيلة لا على الأفضلية.

وقوله: "ووصيي وخليفتي من بعدي" يحتمل أنه أراد به الوصية والخلافة على المدينة ويحتمل ذلك في قضاء دينه وانجاز موعده، ومع تطرق هذه الاحتمالات فلا قطع.

وأما استخلافه في حياته على المدينة فليس فيه ما يدل على بقائه خليفة بعد وفاته لما سبق في قصة موسى وهارون.

واذا ثبت بما قررناه إلى هنا وجوب ثبوت الإمامة بالاختيار دون التنصيص فذلك مما لا يفتقر إلى الإجماع من كل أهل الحل، والعقد فإنه مما لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمع نقلي، بل الواحد أو الاثنين من أهل الحل والعقد كاف في ذلك ووجوب الطاعة والانقياد للإمام المختار، وذلك لعلمنا بأن السلف من الصحابة رضوان الله عليهم مع ما كانوا عليه من الصلابة في الدين والمحافظة على أمور الدين اكتفوا في عقد الإمامة بالواحد والاثنين من أهل الحل والعقد: كعقد عمر لأبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة من أهل الحل والعقد، فضلا عن إجماع من عداهم من أهل الأمصار وعلماء الأقطار، وكانوا على ذلك من المتفقين وله مجوزين من غير مخالف ولا نكير. وعلى هذا انطوت الأعصار في عقد الإمامة إلى وقتنا هذا.

قال بعض الأصحاب : والواجب أن يكون ذلك بمحضر من الشهود وبينة عادلة كفا للخصام، ووقوع الخلاف بين الناس، بادعاء مدع عقد الإمامة له سرا متقدما على عقد من كان له العقد جهرا وهذا لا محالة واقع في محل الاجتهاد.

وعلى هذا فلو اتفق عقد الإمامة لأكثر من واحد في بلدان [متعددة] أو في بلد واحد من غير أن يشعر كل فريق من العاقدين بعقد الفريق الآخر، فالواجب أن يتصفح العقود، فما كان منها متقدما وجب إقراره، وأمر الباقون بالنزول عن الأمر، فإن أجابوا وإلا قوتلوا وكانوا من الخوارج البغاة. وإن لم يعلم السابق وجب إبطال الجميع، واستئناف عقد لمن يقع عليه الاختيار ممن هو أهل للإمامة وذلك كما إذا زوج كل واحد من الوليين موليته من شخص وجهل العقد السابق منهما.

ولا خلاف في أنه لا يجوز عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الأقطار متقارب الأمصار، لما فيه من الضرار ووقوع الفتن والشحناء.

وأما إن تباعدت الأمصار بحيث لا يستقل الإمام الواحد بتدبيرها والنظر في أحوالها فقد قال بعض الأصحاب إن إمامة إمامين في محل الاجتهاد.

وكما أن للمسلمين نصب الإمام بالاختيار فلهم خلعه وأن يتولوا عزله إذا وجد منه ما يوجب عزله من اختلال أمور الدين وأحوال المسلمين وما لأجله يقام الإمام.

وإن لم يقدروا على خلعه وإقامة غيره لقوة شوكته وعظم مراسه وكان ذلك مما يفضي إلى فساد العالم وهلاك النفوس، وكانت المفسدة في مقابلة عزله أعظم من المفسدة في طاعته، فالأولى إلتزام أدنى المحذورين ودفع اعلاهما.

الفصل الثالث في شروط الإمام

وهي منقسمة إلى متفق عليها ومختلف فيها.

أما الشروط المتفق عليها فثمانية شروط:

الأول: أن يكون مجتهدا في الأحكام الشرعية، بحيث يستقل بالفتوى في النوازل وإثبات أحكام الوقائع نصا واستنباطا، لأن من أكبر مقاصد الإمامة فصل الخصومات ودفع المخاصمات، ولن يتم ذلك دون هذا الشرط، ولا يمكن أن يقال باكتفائه بمراجعة الغير في ذلك إذ هو خلاف الإجماع.

الثاني: أن يكون بصيرا بأمور الحرب وترتيب الجيوش وحفظ الثغور، قادرا على ملابسة ذلك بنفسه إذ به يتم حفظ بيضة الإسلام وحماية حوزتهم. ولهذا روى عن النبي ﷺ أنه وقف بعد انهزام المسلمين كلهم في الصف وقال مرتجزا: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» حتى عاد المسلمون إليه.

الثالث: أن يكون له من قوة البأس وعظم المراس ما لا تهوله إقامة الحدود وضرب الرقا، وإنصاف المظلومين من الظالمين من غير فظاظة، كما وصف الله تعالى الصحابة بقوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}.

الرابع: أن يكون عاقلا مسلما عدلا ثقة ورعا في الظاهر حتى يوثق بأخباره وبما يصدر عنه من أفعاله، ولأنه أحفظ لمال بيت المال وصرفه في مصارفه.

الخامس: أن يكون بالغا لأنه يكون أكمل عقلا وهيبة وتجربة ونظرا.

السادس: أن يكون ذكرا لأن الظاهر من الأنوثة النقص فيما ذكرناه من الصفات.

السابع: أن يكون حرا، لأن الحرية مظنة فراغ البال عن الاشتغال بخدمة الغير واستغراق الزمان بها، ولأن العبودية مظنة استحقار الناس له والأنفة من الدخول تحت حكمه

الثامن: أن يكون مطاع الأمر نافذ الحكم في محل ولايته مقتدرا على زجر من خرج عن طاعته.

فإن قيل: فيلزم على هذا خروج عثمان عن الإمامة حالة ما حوصر في داره حيث لم يكن قادرا على زجر من خرج عن طاعته.

قلنا: لا نسلم أنه لم يكن قادرا، بل كان أمره نافذا شرقا وغربا ولا سيما في الشام، غير أنه هاش عليه قوم من الرعاع وأوباش الناس، وقصد في ذلك تسكين الفتنة وأخذ الأمر باللين، ولم يعلم ما يؤول الأمر إليه.

وأما الشروط المختلف فيها فستة:

الأول: القرشية

وقد اختلف الناس فيها.

فذهب أصحابنا والجبائي وابنه والشيعة وجميع أهل السنة والجماعة: إلى أنه لا بد وأن يكون الإمام قرشيا.

وذهبت الخوارج و [بعض] المعتزلة إلى أنه لا يشترط فيه أن يكون قرشيا.

وقد احتج أصحابنا ومن تابعهم على ذلك بإجماع الصحابة، حتى قال الأنصار يوم السقيفة للمهاجرين: "منا أمير ومنكم أمير" فمنعهم أبو بكر من ذلك حيث لم يكونوا قرشيين، وادعى أن القرشية شرط في الإمامة محتجا على ذلك بقوله عليه السلام: «الأئمة من قريش»، وبقوله: «قدموا قريشا ولا تتقدموها» وبقوله: «إنما الناس تبع لقريش فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم». وتلقت الأمة ذلك بالقبول وأجمعوا على اشتراط القرشية ولم يوجد له نكير، فصار إجماعا مقطوعا به. ولولا انعقاد الإجماع على ذلك لكان هذا الشرط في محل الاجتهاد نظرا إلى أن الأخبار في ذلك أخبار آحاد لا تفيد اليقين مع إمكان تأويلها.

أما قوله: «الأئمة من قريش» فلأنه يحتمل أنه أراد به العلماء.

وقوله: «الناس تبع لقريش» فيحتمل أنه أراد بذلك أنهم تبع لهم في الدين والعلم لأن منشأ الدين والعلم من قريش.

وقوله: «قدموا قريشا ولا تتقدموها» يحتمل أنه أراد بذلك التقديم في الفضيلة والشرف، بسبب النسب من رسول الله ﷺ.

احتج الخصوم بالإجماع والسنة والمعقول.

أما الإجماع: فهو أن عمر قال في وقت الشورى عن سالم مولى أبي حذيفة: "لو كان حيا لما تخالجني فيه شك" ولم ينكر منكر فكان إجماعا.

وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: "أطعه ولو ضرب بطنك، أطعه ولو ضرب ظهرك، أطعه ولو كان عبدا حبشيا". وظاهر ذلك يدل على نفي اعتبار القرشية.

وأما المعقول: فهو أن المقصود من الإمام إقامة السياسة والذب عن دار الإسلام وحماية حوزتهم والقيام بالقوانين الشرعية كما تقدم، وذلك يحصل بما سبق من الشروط فلا حاجة إلى النسب.

والجواب: لا نسلم وجود الإجماع على إسقاط اعتبار القرشية، والرواية عن عمر مختلفة، فقد قيل إنه قال: "لو كان سالم في الأحياء لما شككت أني كنت أشاوره" وبتقدير أن تكون الرواية على ما ذكروه فقد قيل إنه كان قرشيا. وبتقدير أن لا يكون قرشيا، فلم يصرح عمر بصلاحيته للإمامة، فلعله أراد بذلك أنه ما كان يرتاب فيمن يعينه للإمامة، أو معنى آخر، ويجب الحمل على ذلك نفيا للتعارض بينه وبين الإجماع السابق على اشتراط القرشية.

وقوله ﷺ: "أطعه ولو ضرب بطنك، أطعه" الحديث، فمن باب الآحاد فلا يقع في مقابلة الإجماع المتواتر المعلوم وقوعه ضرورة، وبتقدير القطع بسنده فليس فيه ما يدل على أنه أراد به الإمام بل يحتمل أنه أراد به السلطان، وليس كل سلطان إماما، وإن كان كل [إمام] سلطانا، ويجب الحمل أيضا على ذلك دفعا للمعارضة بينه، وبين الإجماع السابق.

وأما المعقول: فلا يقع في مقابلة الإجماع المقطوع به. كيف وأنه يحتمل أن يكون للقرشية زيادة تأثير في حصول مقاصد الإمامة بسبب غلبة انقياد الناس للقرشي لعلو نسبه من رسول الله ﷺ، على ما جرت به العوائد من زيادة الانقياد للعظماء وبدون القرشية فلا تحصل تلك الزوائد من المقاصد.

الشرط الثاني: كون الإمام هاشميا

مذهب أكثر الناس أن الهاشمية ليست شرطا، خلافا لطوائف الشيعة فإنهم جعلوا الهاشمية شرطا، وهو باطل لمخالفة ذلك ظواهر الإطلاق من النصوص السابق ذكرها، وللإجماع على صحة إمامة أبي بكر وعمر [وعثمان]، ولم يكونوا هاشميين.

الشرط الثالث: أن يكون الإمام عالما بجميع مسائل الدين.

وقد اتفق الأكثرون على أن ذلك ليس بشرط خلافا للإمامية.

والحق في ذلك إنما هو التفصيل، وهو أنهم إن أرادوا بقولهم: أنه يجب أن يكون عالما بجميع المسائل الشرعية أن يكون أهلا للعلم بها بطريق الاجتهاد عند وقوعها ومعرفتها من النص والإجماع والاستنباط، فذلك مما لا خلاف فيه كما سبق.

وإن أرادوا [أنه] يجب أن يكون عالما بجميع ذلك حقيقة وأن يكون العلم عنده بحكم كل واقعة يمكن وقوعها حاضرا عتيدا بحيث لا يحتاج معه إلى النظر والاستدلال، فهو باطل من جهة الإجماع والمعقول [والإلزام].

أما الإجماع: فهو أن الأمة اتفقت على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يكونوا بهذه المثابة، حتى أن الواحد منهم كان عند وقوع الواقعة يسأل عن الأخبار والنصوص الواردة في ذلك ويبحث عن أدلتها كبحث غيره من المجتهدين، وأنه قد كان يرى الرأي في حكم الواقعة، ثم يرجع عنه.

وأما المعقول: فهو أن المسائل الشرعية وأحكام الوقائع الجزئية غير متناهية، ولا يخفى امتناع حصول العلم بما لا يتناهى على التفصيل لأحد من المخلوقين.

وأما الإلزام: فهو أنه لو اشترط ذلك في الإمام لاشترط في القضاة والولاة، فإنه لا يلي بنفسه أكثر مما يليه خلفاؤه من القضاة والولاة.

فإن قيل: الإمام إنما نصب لفصل المنازعات والمحاكمات والقيام بأحكام الشرع، فإذا لم يكن عالما [بجميع] الأحكام الشرعية كان نصبه ممتنعا من ثلاثة أوجه:

الأول: أن نصبه يكون قبيحا عرفا، فإن إقامة الإنسان للقيام بما لا يعرفه والنهوض فيما لا أنسة له به مما لا يستحسنه العقلاء.

الثاني: أنه إذا وقعت واقعة وهو لا يعرف حكمها فأمكن أن لا يؤديه اجتهاده إلى معرفة حكمها، وعند ذلك فيفضي إلى خلو الواقعة عن الحكم مع دعو الحاجة إليه، أو أن يتكلف الحكم بما لا يعرفه؛ وكل ذلك ممتنع.

الثالث: هو أنه لو ساوى الأمة في المعرفة والجهالة، فإن ذلك يكون منفرا عن اتباعه ومانعا من الانقياد إليه.

والجواب عن الأول: متى يكون نصبه قبيحا إذا كان أهلا للاجتهاد في تحصيل الأحكام أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع. والثاني: مسلم، والعادة دالة على ذلك في كل أمر يستناب في تحصيله.

وعن الثاني: أنه وإن تعذر عليه الاجتهاد في تحصيل حكم الواقعة فلا نسلم إفضاء ذلك إلى خلو الواقعة عن الحكم، بل له تفويض الأمر فيها إلى غيره من المجتهدين. وبتقدير أن لا يفضي اجتهاده أيضا إلى حكمها، فالحكم فيها البقاء على النفي الأصلي، ولا امتناع فيه.

وعن الثالث: أنه وإن ساوى غيره من المجتهدين في المعرفة والجهالة فلا يكون ذلك موجبا للتنفير عنه لاختصاصه بما لا وجود له في حقهم من باقي شروط الإمامة.

الشرط الرابع: كون الإمام أفضل من الرعية.

وقد اختلف في جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل. فجوزه أكثر أصحابنا. ومنع منه الإمامية. وفصل القاضي أبو بكر وقال: إن كان العقد للمفضول لا يؤدي إلى هرج وفساد جاز، وإلا فلا.

احتج من قال [بالجواز] بثلاثة أمور:

الأول: أن الإمامة منصب من المناصب الدينية، كما في الإمامة في الصلاة، فلو امتنع إقامة الإمام المفضول مع وجود الفاضل لكان ذلك بناء على قبح تقدم الأدنى على الأعلى، والنفرة المانعة من المتابعة، ويلزم من ذلك امتناع تقدم المفضول على الفاضل في الصلاة وهو خلاف الإجماع.

الأمر الثاني: أنه لو لم يوجد من أهل الإمامة إلا شخصان، أحدهما أفقه، والآخر أعرف بالسياسة وأمور الإمامة، فإما أن يقال بتوليتهما أو لا بتولية واحد منهما، أو بتولية أحدهما دون الآخر. الأول: [محال] مخالف للإجماع. والثاني: أيضا محال لامتناع خلو الزمان عن الإمام. فلم يبق إلا الثالث، وأيهما قدم فهو مفضول بالنسبة إلى ما اختص به الآخر عنه، إما بزيادة معرفة الفقه أو السياسة، وهو المطلوب.

الثالث: أنه ما من عصر من أعصار التابعين وتابعي التابعين إلى عصرنا هذا إلا والأمة مجمعة على صحة إمامة كل من تولى من الأئمة وإن كان مفضولا بالنسبة إلى غيره مهما وجد فيه أصول الشروط المعتبرة في الإمامة، وهي ما سبق. ذكرها فدل [على] أن ذلك ليس بشرط.

وبهذا يبطل قول من اشترط الأفضلية بناء على أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح ولما فيه من فوات كمال المصلحة الحاصلة بنظر الأفضل وحسن تدبيره على المسلمين. كيف وإن تولية المفضول إنما يعد قبيحا عند ما إذا لم يرض به، بل بالأفضل.

وأما بتقدير رضى العامة والأتباع به دون الفاضل: كرضاهم بتولية ولد من مات من الملوك ومن أصله عريق في الملك، فإنه لا يعد قبيحا في نظر أهل العرف، وإن كان في الرعية من هو أفضل منه بأضعاف مضاعفة. وإنما كان كذلك لأن حصول مصلحة الرعية بتقدير رضاهم بالمفضول وطاعتهم له، يكون أقرب من حصول مصلحتهم بتولية الأفضل بتقدير نفرتهم عنه وعدم طاعتهم له.

الشرط الخامس: اشترطت الغلاة من الشيعة أن يكون الإمام صاحب معجزات وأن يكون عالما بالغيب وجميع اللغات والحرف والصناعات وطبائع الأشياء وعجائب ما في الأرض والسماوات.

وهو مع أنه لا دليل عليه، باطل بالإجماع على عقد الإمامة لمن عري من هذه الصفات في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقتنا هذا.

الشرط السادس: العصمة.

مذهب أهل السنة والجماعة أنه ليس من شرط الإمام كونه معصوما. ووافقهم على ذلك المعتزلة والخوارج والزيدية. وذهبت الإمامية وأكثر طوائف الشيعة إلى أنه لا بد وأن يكون معصوما.

احتج أهل الحق بالإجماع والإلزام.

أما الإجماع: فهو أن الأمة [من السلف] أجمعت على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، مع إجماعهم على أن العصمة لم تكن واجبة لهم.

وأما الإلزام: فمن خمسة أوجه:

الإلزام الأول: فمن خمسة أوجه وهو خاص بالإمام علي «رضي الله ع».

الأول: هو أن عليا كان إماما حقا بالإجماع منا ومن الخصوم، وقد وجد منه ما يدل على عدم عصمته، وبيانه من سبعة أوجه:

الأول: هو أنه كان منصوصا على إمامته عندهم وأن غيره ليس إماما، فعند تولية غيره: إما أن يقال بأنه كان قادرا على المنازعة والدفع والقيام بما أوجبه الله تعالى عليه من أمور الإمامة، أو ما كان قادرا. فإن كان الأول: فقد ترك واجبا لا يجوز تركه. وإن كان الثاني: فكان من الواجب أن يجتهد في ذلك ويبدي النكير ويبلي عذرا بقدر الإمكان على ما قال النبي ﷺ: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولم يوجد منه شيء من ذلك مع أنه لم يوجد منه النكير فإنه بايعهم ودخل في آرائهم واقتدى بهم في الصلاة وأخذ عطيتهم ونكح سبيهم، وهي الحنفية أم ولده محمد، وأنكح عمر ابنته أم كلثوم الكبرى، ورضي بالدخول في الشورى المبنية عندهم على غير التقوى.

الثاني: أنهم نقلوا عنه عليه السلام مذاهب وأقوالا في الشريعة مخالفة لأقوال غيره من الفقهاء، غير معروفة لهم: وهي إما أن تكون حقا أو باطلا. فإن كانت حقا: فكان من الواجب تنبيههم عليها، ولم يوجد منه شيء من ذلك. وإن كان الثاني: فقد أخطأ. وعلى كلا التقديرين فلا يكون معصوما.

الثالث: أنه حكم أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وهما عدوان فاسقان عندكم، وتحكيمه تمكين للأعداء الفساق من خلعه والتشكيك في إمامته، وذلك معصية، لأن خلع الإمام المنصوص معصية، والتمكين من المعصية معصية. ولهذا نقل عنه عليه السلام أنه كان يقول بعد التحكيم:

لقد عثرت عثرة لا أنجبر ** سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وذلك منه يدل على أن التحكيم جرى على خلاف الصواب.

الرابع: هو أنه عليه السلام قتل المقاتلين له في وقعة الجمل ولم يجعل أموالهم فيئا، ومن مذهب الخصوم أن عليا كان يعتقد كفر مقاتليه وارتدادهم. وعند ذلك فلا يخلوا: إما أن يكونوا مرتدين في نفس الأمر، أو لا يكونوا مرتدين. فإن كان الأول: فمال المرتدين فيء بالإجماع، ولم يجعله فيئا. وإن كان الثاني: فقد أخطأ في اعتقاد ارتدادهم. وعلى كلا التقديرين يكون مخطئا. ولهذا قال له بعض أصحابه: "إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلالا، وإن كانت غنيمتهم حراما فقتلهم حراما".

الخامس: أن ابن جرموز لما أتى إلى علي «رضي الله ع» برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع وقال: الجائزة يا أمير المؤمنين، فقال له: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار». وهو لا يخلو إما أن يكون قتله حراما أو لا يكون حراما. فإن كان حراما: فالإنكار على فعل المحرم واجب لقوله عليه السلام: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه»، وعلي كان قادرا على الإنكار على ابن جرموز بيده ولسانه ولم ينقل عنه الإنكار، فكان تاركا للواجب. وإن لم يكن حراما: فقد أخطأ في اعتقاد استحقاق فاعل ما ليس بحرام النار، مع ما فيه من حمل كلام النبي على ما لا يليق.

السادس: أنه «رضي الله ع» قال وقد رقي على منبر الكوفة في حق أمهات الأولاد: "اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن، والآن فقد رأيت بيعهن"، فقام إليه عبيدة السلماني وقال: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، فقال: "إن السلماني لفقيه". وفى ذلك دلالة على أنه ليس بمعصوم، فإنه لا بد وأن يكون مصيبا في إحدى الحالتين ومخطئا في الأخرى.

السابع: أنه عليه السلام خطب بنت أبي جهل بن هشام في حياة النبي ﷺ فبلغ ذلك فاطمة فشكته إلى النبي ﷺ فقام على المنبر وقال: "إن عليا قد آذاني، وخطب بنت أبي جهل بن هشام ليجمع بينها وبين بنتي فاطمة، ولن يستقيم الجمع بين بنت ولي الله، وبين بنت عدوه، أما علمتم معشر الناس أن من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى".

وذلك يدل على أنه [ليس] بمعصوم.

الإلزام الثاني: وهو خاص بالإمام الحسن «رضي الله ع».

أن الحسن بن علي كان عندهم إماما منصوصا عليه، وقد صدر عنه ما يدل على عدم عصمته. وذلك أنه خلع نفسه من الإمامة، وسلمها إلى معاوية مع أنه كان فاسقا فاجرا غير مستحق للإمامة وأظهر موالاته وأخذ من عطائه وأقر بإمامته، مع كثرة أعوانه وأنصاره، حتى عاتبوه في ذلك وسموه مذل المؤمنين. وذلك كله معصية ينافي العصمة.

الإلزام الثالث: وهو خاص بالإمام الحسين «رضي الله ع».

هو أن الحسين بن علي رضي الله عنهما [كان] أيضا عندهم إماما منصوصا عليه، ومع ذلك ألقى نفسه في التهلكة مع ظن وقوعها. وذلك معصية منهي عنها بقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.

وبيان ذلك أنه خرج بأهله وعياله إلى الكوفة لقتال أعدائه مع كثرتهم وقوة شوكتهم وما رآه من صنيعهم بأبيه واستظهارهم على أخيه وقتلهم لمسلم بن عقيل لما أنفذه رائدا إليهم وغدرهم به، وإشارة كل واحد عليه بعدم الخروج، حتى قال له ابن عمر [بعد أن] أبلى عذرا في نصحه: "استودعتك الله من قتيل"، إلى أن عرض ابن زياد عليه الأمان إن بايع يزيدا فامتنع من ذلك مع ظهور أمارات القتل له والاستيلاء عليه وهلاكه وهلاك من معه، حتى أدى الأمر إلى ما أدى إليه من قتله وهلاك من كان معه من المسلمين.

الإلزام الرابع: وهو خاص بالمهدي «رضي الله ع».

أن القائم المهدي من الأئمة المنصوص عليهم عندهم أيضا، وقد فعل ما ينافي العصمة.

وبيانه: أن الإمام إنما جعل إماما لأن يكون وسيلة إلى الإرشاد وبابا إلى معرفة الحق وطريقا إلى الله تعالى في تعريف الواجبات والمحظورات والقيام بمصالح المؤمنين التي لا قيام لها دون الإمام عندهم، وهو باختفائه واستتاره عن الخلق بحيث لا يعرف، مما يوجب وقوع الناس في الحيرة وعدم معرفة الحق وتورطهم في شبه الضلالة، إن كان لا طريق لهم إلى معرفة ذلك والوصول إليه إلا بالإمام، وذلك من أعظم المعاصي وأكبر المناهي، وإن أمكنهم الوصول إلى ذلك بالأدلة دون الإمام فلا حاجة إذا إلى الامام.

فإن قيل: إنما يكون ذلك معصية أن لو اختفى مع القدرة على الظهور، وليس كذلك. فإنه إنما اختفى تقية وخوفا من الظلمة الظاهرين على نفسه.

قلنا: هذا وإن أوجب الاستتار عن الأعداء فهو غير موجب له عن أشياعه وأوليائه، فكان من الواجب أن يكون ظاهرا لهم مبالغة في حصول مصالحهم ودفع المفاسد عنهم. وإن أوجب ذلك الاستتار مطلقا بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا ينتفع به، فلا فرق بين وجوده وعدمه، ولا فائدة في إبقائه.

فلئن قالوا: الفائدة في إبقائه رجاء ظهوره عند زوال المخافة للقيام بمصالح المؤمنين.

قلنا: فهلا قيل بعدمه حالة المخافة وبإيجاده حالة زوالها، فإنه كما أن إيجاده بعد عدمه خارق للعادة، فإبقاؤه المدة الخارجة عن العادة خارق للعادة أيضا، وليس أحد الأمرين أولى من الأخر.

الإلزام الخامس:

أنا قد بينا فيما تقدم أن العصمة غير واجبة للأنبياء عليهم السلام، فلو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان أكثر طاعة من النبي ﷺ ولو كان أكثر طاعة من النبي لكان أكثر ثوابا عند الله تعالى لقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وقوله تعالى: {ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. ولو كان الإمام أكثر ثوابا من النبي لكان أفضل منه، فإنه لا معنى للأفضل غير أنه أكثر ثوابا، ومحال أن يكون نائب النبي أفضل منه.

فإن قيل: أما ما ذكرتموه من الإجماع على إمامة أبي بكر وعمر فهو غير مسلم التصور، وبتقدير تسليم تصوره فلا نسلم أنه حجة على ما سبق. وبتقدير كونه حجة فإنما يصح دعوى ذلك فيما نحن فيه أن لو بينتم كون علي داخلا فيه وهو غير مسلم. وما ظهر منه من الموافقة لا نسلم أنه كان عن اعتقاد بل تقية وخوفا على نفسه، ولذلك فإنه لم يظهر منه الموافقة على إمامة أبي بكر مدة ستة أشهر حتى ظهرت له الإخافة منهم. وبتقدير أن لا يكون على موافقا على ذلك فأي إجماع يكون في عصر علي وهو غير داخل فيه.

(أدلة الشيعة على عصمة الأئمة)

وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير لازمة لوجهين إجمالا وتفصيلا:

أما الإجمال:

فهو أن ما ذكرتموه في إبطال عصمة الأئمة صلوات الله عليهم فرع عدم عصمتهم، وإذا كان ما يذكر في إبطال العصمة فرعا على إبطالها فلا يكون صحيحا لما فيه من الدور، وهو توقف عدم العصمة، على ما ذكر دليلا، وتوقف كونه دليلا على عدم العصمة.

وبيان ذلك أنه بتقدير أن [لا] يكون الإمام معصوما فيما صدر منه، وإن كان ظاهره الذنب فيجب صرفه عن ظاهره إلى ما يوافق العصمة، كما كان ذلك في آيات القرآن التي ظاهرها يقتضي التشبيه وما لا يجوز على الله تعالى. وإنما لا يجب الصرف عن الظاهر بتقدير أن لا يكون معصوما، فإذا قد ظهر توقف ما ذكرتموه من الدلائل على إبطال عصمة الأئمة على عدم العصمة.

وأما التفصيل:

قولكم: فيما يتعلق بعلي عليه السلام أنه لم يظهر النكير على مبايعة غيره، لا نسلم أنه لم ينكر، فإنه قد نقل عنه في الروايات الكثيرة أنه لم يزل يتظلم في كل زمان على حسب ما يليق به، حتى انتهت النوبة إليه، فصرح بالنكير في كل مواقفه وخطبه والتظلم على من غصبه حقه، حتى اشترك في معرفة ذلك الخاص والعام. وبتقدير عدم إظهار النكير فلا يخفى أن النكير على المنكر [مشروط] بشروط متفق عليها، وهي التمكن من الإنكار وأن لا يغلب على ظن المنكر أن تعرضه للإنكار يجر إلى منكر يزيد على النكير، فلا بد لكم من تحقيق هذه الشروط في حق علي حتى تتم الدلالة، والأصل عدمها. كيف وأنه لا مانع من عدم تمكنه وخوفه من الإنكار على نفسه وشيعته، لا سيما مع ظهور الأمارات الدالة على ذلك، وهو اتفاق السواد الأعظم والجم الغفير على مبايعة الغير والرضى به ومراسلتهم إليه وإلى من تأخر عن البيعة من شيعته [بالمبايعة] والتهديد على التخلف عنها.

قولكم: إنه بايعهم.

قلنا: بمعنى الرضى بذلك والتسليم في نفس الأمر أو ظاهرا للتقية؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم، فلم قلتم بالرضى والتسليم؟

قولكم: إنه دخل في آرائهم.

قلنا: إنما كان يدخل في ذلك لقصد الإرشاد لهم إلى ما شذ عنهم من الصواب، وذلك واجب لا أنه معصية.

قولكم: إنه اقتدى بهم في الصلاة.

قلنا: ناويا لذلك وقاصدا له أو مظهرا له من غير قصد؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم، وإظهار الاقتداء لهما [إنما] كان للتقية لأن تركها مجاهرة بالعداوة والمنازعة، ولم يكن قادرا على دفع ما يؤدي إليه من المحذور.

قولكم: إنه كان يأخذ عطيتهم.

قلنا: لأن ذلك كان حقا له، ولا بأس على من أخذ حقه.

قولكم: إنه استباح وطء سبيهم؛ لا نسلم أنه استباح ذلك بناء على [أنه] سبيهم، فإنه قد روى البلاذري أنه أغارت بنو أسد على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها [إلى] المدينة في أول خلافة أبي بكر فباعوها من علي عليه السلام، فبلغ الخبر قومها فقدموا على علي عليه السلام فعرفوها وأخبروه بموضعها منهم، فأعتقها وتزوجها فولدت له محمدا.

قولكم: إنه زوج ابنته من عمر.

قلنا: إنما فعل ذلك بعد مراجعة ومنازعة وتهديد وتواعد أشفق معه من الهلاك وإضرار يزيد على أضرار التزويج منه، ولهذا فإنه لما رأى العباس ما يفضي الحال إليه سأله رد أمرها إليه فزوجها منه، ولم يكن ذلك عن اختيار وإيثار، وعلى هذا فلا يكون ذلك معصية منه ولا منكرا.

قولكم: إنه دخل في الشورى.

قلنا: الحامل له على ذلك ما كان الحامل له على إظهار البيعة، وبتقدير أن يكون راضيا بذلك فإنما كان لغرض صحيح يتيح له الرضى بذلك، وهو ظنه الوصول إلى حقه بذلك وتمكنه من الاحتجاج عليهم بفضائله ومناقبه التي يستحق بها الخلافة وإظهار الأخبار الدالة على التنصيص عليه وكل أمر ظن معه الوصول إلى ما هو متعين عليه، فأدنى درجاته أن يكون جائزا له لا أنه يكون محرما.

قولكم: إنه لم يرد الناس بعد ظهور أمره إلى مذهبه.

قلنا: أما أنه لم يظهر ذلك قبل عود الأمر إليه تقية وخوفا بما يفضي إليه من وحشة المخالفة، وأما بعد عود الأمر إليه فلأنه لم يعد إليه إلا بالاسم دون المعنى، فإنه ما زال منازعا [معارضا] مبغضا من أعدائه، وأن أكثر من بايعه شيعة من مضى من أعدائه ومن يعتقد أنهم مضوا على أعدل الأمور، وأن غاية من يأتي بعدهم تتبع آثارهم والاقتداء بسنتهم، فبقي على ما كان عليه من التقية وخوف ثورات الفتنة بإظهار المخالفة والأمر بالعود إلى مذهبه. ولهذا قال عليه السلام: "والله لو ثني لى الوساد، لحكمت بين أهل التوراة [بتوراتهم] وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل الزبور بزبورهم وأهل القرآن بقرآنهم".

قولكم: إنه حكّم أعداءه ومكنهم من خلعه.

قلنا: إنه ما فعل [ذلك] اختيارا بل اضطرارا على سبيل الإلجاء إليه وذلك أن معاوية وأصحابه لما تبين لهم استظهار علي عليه السلام عليهم وأيقنوا بالعطب رفعوا المصاحف وأظهروا الرضى بما فيها وطلبوا التحكيم بحيلة وضعها معاوية وعمرو بن العاص ومكيدة لم تخف على علي عليه السلام، فتخاذل عنه أكثر الصحابة وتقاعدوا عن متابعته في إبائه عن ذلك لعلمه بالمكيدة ومالوا إلى موافقة التحكيم مع الخصوم إما لفرارهم من شدة الزحف ومللهم من طول المنازلة وإما لدخول تلك الشبهة عليهم لغلظة أفهامهم وعدم اطلاعهم على المكيدة. ولم يزل يمتنع من ذلك ويحذرهم المكيدة إلى أن غلبوه على رأيه، ورأى أن الإجابة إلى ذلك أولى دفعا لما علمه من سوء عاقبة المخالفة وإفضاء الأمر إلى خروج أكثر أصحابه عنه واستظهار عدوه عليه استظهارا يكون فيه هلاكه وهلاك شيعته، فأجاب إلى التحكيم على أن يكون الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فآل الأمر إلى ما آل. ومن قصد دفع الشر العظيم بالتزام شر هو دونه في نظره لا يكون مخطئا ولا عاصيا.

وأما ما نقل عنه من الشعر: فقد نقل [عنه] أنه سئل عن مراده به فقال: كتب إلي محمد بن أبي بكر : أن اكتب له كتابا في القضاء ليعمل به، فكتبت له ذلك وأنفذته إليه، فاعترضه معاوية فأخذه، فأشفقت أن يعمل بما فيه من الأحكام ويوهم أصحابه أن ذلك من علمه فتقوى الشبهة عليهم في متابعته. أما أن يكون ذلك اعترافا منه بالخطإ في التحكيم فلا.

قولكم: إن من قتله في وقعه الجمل إن لم يكونوا مرتدين فقد أخطأ في اعتقاد ارتدادهم، وإن كانوا مرتدين فقد أخطأ حيث لم يجعل مالهم فيئا.

قلنا: بل كانوا كفارا مرتدين، وحيث لم يجعل أموالهم فيئا إنما كان لأن أحكام الكفار مما يختلف، ولا يلزم أنه إذا كان مال من ارتد ومات وهو معترف بالارتداد ومصر عليه كالمسلم إذا تهود أو تنصر فيئا أن يكون مال من ارتد وهو لا يعتقد ارتداده بل هو متمسك بأحكام الإسلام ويلتزم لها فيئا. وعلى هذا فإنما يكون مخطئا أن لو حكم بأن المال ليس بفيء مع الاعتراف بالارتداد المستلزم لكون المال فيئا، وأما في غيره فلا. كيف وأنه مما يجب اعتقاد تصويبه فيما ذهب إليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "[اللهم] أدر الحق مع علي كيف دار".

قولكم: في الزبير وقتل ابن جرموز له: إما أن يكون حراما أو لا يكون حراما.

قلنا: لم يكن حراما لأنه كان من مقاتلة علي عليه السلام وكل من قاتله فهو كافر مرتد.

قولكم: فلا معنى لاعتقاده كون قاتله مستحقا للنار.

قلنا: إنما يكون مخطئا أن لو اعتقد استحقاق ابن جرموز للنار بقتله للزبير، وليس كذلك، بل إنما اعتقد ذلك له بالنظر إلى عاقبته وخاتمة أمره، وذلك لأن ابن جرموز خرج بعد ذلك [على علي مع أهل النهر وقتل هناك فكان بذلك] الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير.

قولكم: إنه في قضية أمهات الأولاد لا بد وأن يكون مخطئا: إما في الحالة الأولى أو الأخيرة.

قلنا: يحتمل أنه كان موافقا لعمر في الظاهر لا في نفس الأمر تقية وخوفا مما يلزمه من إظهار الخلاف معه من المضار والمفاسد كما قررناه في الموافقة على البيعة، وإذا كان ذلك محتملا فيجب الحمل عليه دفعا لاحتمال الخطأ عنه لقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أدر الحق مع علي كيف دار". وبضربه على صدره بيده حين بعثه إلى اليمن وقوله: «اللهم أهد قلبه وثبت لسانه». ولقوله عليه السلام: "أنا مدينة العلم، وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب".

وأما قصة علي في خطبته بنت أبي جهل بن هشام فخبر موضوع غير مسلم الصحة. والذي يدل على ضعفه أن عليا لو فعل ذلك لكان فعله مسوغا له شرعا. وما يكون فعله سائغا شرعا لا يحسن أن ينسب إلى النبي ﷺ الإنكار على فاعله مع ورود إباحته على لسانه.

وأما ما ذكرتموه من الإلزام الثاني في قصة الحسن وخلعه لنفسه من الإمامة وتسليمها لمعاوية فغير لازم، فإنه لو قدر أنه لم يكن إماما معصوما ولا له حق في الإمامة، فلا يشك عاقل أن أحدا لا ينزل عن ولايته وعظيم مملكته مسلّما في ذلك الأمر لعدوه رغبة عنها عادة، بل العادة تقضي أن ذلك لا يكون إلا لدفع مفسدة تربى على مصلحة الولاية. فما ظنك بمن كان معصوما ومستحقا للإمامة وواجبا عليه طلبها للقيام بلوازمها. وعلى هذا فنزوله عن الإمامة وتسليمها إلى معاوية مع فسقه إنما كان لما ظهر له من تخاذل أصحابه وميلهم إلى أموال معاوية ودنياه وأن الأمر لا يتم له وأن الإصرار على طلب الحق مما يفضي إلى ضرر يحل به وبشيعته يزيد على مصلحة الإمامة.

وأما إظهار البيعة منه لمعاوية وموالاته وأخذ عطاياه، فجوابه ما سبق في قصة علي عليه السلام.

وأما عذل بعض أصحابه له على ذلك وتسميتهم له خاذل المؤمنين، فإنما كان لاغترارهم بما رأوه من كثرة عدد أصحابه وبموافقتهم له في مراده وأن الأمر لو استمر على الإمامة لدام، ولم يقفوا على ما وقف عليه ولم ينتهوا لما يفضي عاقبة الأمر إليه لغلظ أفهامهم وقلة معرفتهم.

وما ذكرتموه من الإلزام الثالث في قصة الحسين عليه السلام، فغير لازم أيضا، فإنه إنما تحرك إلى الكوفة بعد أن ظهر له من أهل الكوفة الرغبة فيه والميل إليه بما أخذه عليهم من العهود والمواثيق بعد كثرة مكاتبات رؤسائهم له والأعيان منهم ومن تبعهم من السواد الأعظم، وذلك مع ما اجتمع له من الأعوان والأنصار المعتمد عليهم. ومتى غلب على ظن الإمام الوصول إلى حقه والقيام بما أوجبه [الله] عليه من النظر في أحوال المسلمين وجب عليه السعي في طلبه.

وأما عذل من خذله كابن عباس وابن عمر وغيرهما، فإنما كان لأنه لم يظهر لهم ما ظهر له [من قرائن الأحوال ومكاتبات أهل الكوفة له] بالمعاضدة والمناصرة.

وأما قولكم: إنه ألقى نفسه وشيعته في التهلكة حيث أنه لم ينزل على أمان عبيد الله بن زياد؛ ليس كذلك فإنه كيف يظن به ذلك وقد قال لعمر بن سعد لما أقبل عليه في عسكره ورأى أمارات الضعف: «اختاروا مني: إما الرجوع إلى المكان الذي أقبلت منه أو أن أضع يدي في يد يزيد ليرى في رأيه، وإما أن تسيروا بي إلى ثغر من ثغور المسلمين فأكون رجلا من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم». وإن عمر بن سعد كتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد فأتاه وأمره بالمناجزة له، فلما آل الأمر إلى ما آل من ضعف الحسين وشيعته وإحاطة الأعداء بهم امتنع من النزول على أمان عبيد الله بن زياد لأنه ظهر له من قرائن أحواله وبما تقدم منه من عدم إجابته للأمان قبل انتهاء الأمر إلى ما انتهى إليه أمر الحسين من شدة الضعف وظهور الظفر به أن قصده من ذلك أن يجمع له بين الذل بالنزول على حكمه وقتله، وأن نزوله على حكمه مما لا يعصمه من القتل بعد ذلك، فاختار التزام القتل دفعا للجمع بينه وبين النزول على حكم عبيد الله بن زياد.

وأما الإلزام الرابع: فغير لازم أيضا، فإن اختفاء القائم المهدي عليه السلام إنما هو للمخافة من أعدائه على نفسه.

قولكم: فهذا وإن أوجب الاستتار عن الأعداء فغير موجب للاستتار عن شيعته.

قلنا: لا نسلم أنه مستور عن شيعته الذين لا يخشى من جهتهم شيئا، وما المانع من ظهوره لهم دون غيرهم، وإنما لم يظهر لمن لم يخش منه إشاعة خبره وتحدثه عنه بما يؤدي إلى مخافته.

قولكم: فلا فائدة في إبقائه.

قلنا: الفائدة في إبقائه رجاء ظهوره عند زوال المخافة.

قولكم: ليس ذلك أولى من عدمه وإيجاده عند زوال المخافة؛ لا نسلم ذلك. والفرق بينهما أنه إذا غيب شخصه للمخافة منهم كان ما يفوتهم من المصالح لازما لهم من إخافتهم له وإلجائهم له إلى الاستتار فتكون العهدة في ذلك لازمة لهم، والحجة مركبة عليهم، وإذا أعدمه الله تعالى كان ما يفوتهم من المصالح لازما من فعل الله تعالى ومنسوبا إليه فلا تكون العهدة في ذلك لازمة لهم بل لله تعالى وهو يتعالى ويتقدس عن فعل القبيح.

قولكم في الإلزام الخامس: أنه لو كان الإمام معصوما لكان أفضل من النبي؛ فهو مبني على أن الأنبياء غير معصومين وهو ممنوع على ما سلف. وبتقدير أن لا يكون النبي معصوما -والعياذ بالله- فلا يلزم [أن يكون] أفضل من النبي، لأن النبي بتقدير أن يعصي قد يعرف ذنبه والمعاتبة عليه من الوحي، فيتوب عنه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، بخلاف الإمام فإنه لا يقدر على ذلك إذ هو غير موحى إليه.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الإمام غير معصوم لكنه معارض بما يدل على عصمته.

وبيانه من عشرة أوجه:

الأول: هو أن الاحتياج إلى الإمام إنما كان لكون الأمة أبعد عن فعل الخطأ وأقرب إلى فعل الواجب، فلو كان الإمام ممن يجوز عليه الخطأ لكان أيضا محتاجا إلى إمام أخر حسب افتقار الأمة إليه، ويلزم من ذلك التسلسل وهو محال، أو الانتهاء إلى إمام لا يتصور عليه الخطأ وهو المطلوب.

الثاني: أنه يجب متابعته بدليل اللغة والإجماع.

أما اللغة: فهو أن الإمام في اللغة عبارة عن شخص يؤتم به أي يقتدى به، كما أن اسم الرداء: لما يرتدى به، واللحاف: لما يلتحف به.

وأما الإجماع: فلأنه لا خلاف في أنه يجب على كل واحد من الناس قبول حكم الإمام واتباعه في جميع سياساته ووجوب اتباع قوله في ذلك إما أن يكون لمجرد قوله، أو لدليل دل على ذلك، أو لا لقوله، ولا لدليل دل عليه.

ولا جائز أن يقال إنه لا لقوله ولا لدليل دل عليه وإلا كان وجوب الاتباع لقوله لا مستند له، وهو محال.

ولا جائز أن يقال باستناده إلى دليل الإجماع على وجوب الاتباع، فإن لم يظهر ثم دليل فلم يبق إلا أن يكون وجوب اتباع قوله لمجرد قوله، وإذا كان كذلك، فلو جاز عليه الخطأ [فبقدير إقدامه على الخطأ]، إما أن يقال بوجوب اتباعه، والأمر من الله تعالى بالاقتداء به، أو لا يقال ذلك.

فإن كان الأول: فيلزم أن الله تعالى أمرنا بالخطإ، وهو محال.

وإن كان الثاني: فقد خرج الإمام في تلك الحالة عن كونه إماما، ولزم منه خلو ذلك الزمان عن الإمام وهو محال.

الثالث: أنا قد علمنا بالتواتر علما ضروريا بعثة النبي عليه السلام وتكليف الناس في كل عصر باتباع ما جاء به من الشريعة، وإنما يتصور تكليف من بعده بشريعته بتقدير نقلها إليهم، وإلا كان تكليفهم بما لا يعرفونه وهو محال.

وإذا لم يكن بد من نقلها فذلك الناقل: إما أن يكون معصوما، أو لا يكون معصوما:

لا جائز أن يكون غير معصوم: وإلا لما [حصل] العلم بقوله فيما ينقله. وإن كان معصوما: فالمعصوم عند القائلين بعصمة غير الأنبياء، إما الإمام أو الأمة، فيما أجمعوا عليه، أو أهل التواتر فيما نقلوه لا غير، والقول بمعصوم خارج عن هذه الثلاثة، قول لا قائل به.

وعند ذلك: فلا جائز أن يكون مستند علم من بعد النبي بشريعة انعقاد الإجماع من الأمة عليه، فإن عصمة الأمة عن الخطأ إنما تعرف بالنصوص الواردة على لسان الرسول من الكتاب أو السنة، وكل نص يدل على كون الإجماع حجة فلا بد من معرفة كونه منقولا عن الرسول وأنه لا ناسخ له ولا معارض، وذلك أيضا يتوقف على صدق الناقل له، وصدقه إما أن يكون معلوما، بالإجماع أو بغيره.

فان كان بالإجماع: لزم الدور، من حيث أنا لا نعرف صدق الخبر الدال على عصمة أهل الإجماع إلا بالإجماع، وعصمة أهل الإجماع، لا تعرف إلا بعد معرفة صدق ذلك [الخبر].

وإن كان بغير الإجماع: فإما بالتواتر، أو بغيره، لا جائز أن يكون بالتواتر: فإن غاية التواتر معرفة كون ذلك الخبر منقولا عن النبي عليه السلام وليس فيه ما يدل على أنه ليس بمنسوخ ولا معارض.

وعلى هذا فلا يكون مفيدا لكون الإجماع حجة، فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو الإمام وذلك هو المطلوب.

الرابع: أنه لو لم يكن الإمام معصوما، فبتقدير وقوعه في المعصية إما أن يجب الإنكار عليه أو لا يجب.

فإن وجب الإنكار [عليه] لزم الدور من جهة توقف انزجار الإمام على زجر الرعية له، ويتوقف زجر الرعية على زجر الإمام لهم وهو ممتنع.

وإن لم يجب الإنكار عليه : فهو ممتنع لما فيه من مخالفة قوله ﷺ «من رأى منكم منكرا فلينكره» الحديث.

الخامس: هو أن الأمة قد اختلفت في أحكام ليست في كتاب الله تعالى ولا السنة المتواترة، والإجماع غير مساعد عليها لوقوع الخلاف [فيها]، وما عدا ذلك من القياس وأخبار الآحاد فمن باب الترجيح بالظن، وذلك لا يصلح لإفادة الشريعة لقوله تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} فلا بد من معصوم يعرف الحق من الباطل وذلك هو الإمام.

السادس: هو أن القرآن إنما أنزل ليعلم ويعمل به.

قال المتقدمون من الروافض: [والقرآن] قد دخله التغيير والتحريف، ويدل على ذلك اختلاف المصاحف واختلاف الصحابة في الفاتحة والمعوذتين وآية الرجم ودعاء القنوت هل ذلك من القرآن أم لا؟ وكاختلاف الناس في البسملة هل هي آية من أول كل سورة أم لا، ووجود ما فيه من اللحن والتناقض والاختلاف إلى غير ذلك من الأمور التي حققناها في النبوات، وذلك كله يدل على دخول التحريف والتبديل فيه. وعلى هذا: فالعمل بما منه من القرآن وما ليس منه إنما يعرف بمعرفة معصوم وذلك هو الإمام.

وأما المتأخرون من الروافض؛ فإنهم وإن سلموا امتناع تطرق التحريف والتبديل إلى القرآن، غير أنهم زعموا أنه مشتمل على ألفاظ مشتركة مجملة لا يعرف مدلولها من نفسها، وآيات متعارضة وآيات متشابهة، ولذلك وقع الاختلاف فيها بين المفسرين، ولا سبيل إلى معرفة الحق منها بقول غير المعصوم إذ ليس قول أحد غير المعصومين أولى من الآخر، فلا بد أن يكون المعرف لذلك معصوما وهو الإمام.

السابع: هو أن الإمام لا بد وأن يكون منصوصا عليه، من الله تعالى على لسان رسوله، كما سبق بيانه، والباري تعالى عالم بعواقب الأشياء حكيم فلا يجوز عليه تولية من يعلم فساده فلا بد وأن يكون معصوما.

الثامن: هو أن معرفة الله تعالى واجبة على ما سبق، وعند ذلك فإما أن يكون العقل مستقلا بالمعرفة أو غير مستقل.

فإن كان الأول: فهو محال لوجهين: الأول: هو أنا قد شاهدنا العقول مفضية إلى المذاهب المتناقضة، ولو كان العقل مستقلا بالإيصال إلى معرفة الحق لما كان كذلك.

الثاني: أنه يلزم [منه] تفويض أمر كل واحد إلى عقله وأن لا ينكر عاقل على عاقل وأن لا يحتاج مع ذلك إلى نبي، ولا إمام وهو محال.

وإن كان الثاني: فإما أن يقال بالافتقار إلى المعلم، أو لا يقال بالافتقار إلى المعلم.

فإن قيل إنه لا يفتقر إلى المعلم: فهو تعليم بأنه لا حاجة إلى المعلم وهو تناقض.

وإن قيل بالافتقار إلى المعلم: فإما أن يقال بعصمته أو لا يقال بعصمته، فإن لم يقل بعصمته: فلا تحصل المعرفة بتعليمه لجواز خطئه. وإن قيل بعصمته: فهو المطلوب، وهذه شبهة الملاحدة من غلاة الشيعة.

التاسع: قوله تعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.

ووجه الاحتجاج بالآية: أنه نفى أن ينال عهد الإمامة الظالمين ومن ليس بمعصوم [ومن] جاز عليه الذنب، وبتقدير صدور الذنب عنه يكون ظالما لقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} فلا ينال عهد الإمامة، ولا بد من الإمام لما تقدم فلا بد وأن يكون معصوما.

العاشر: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. أمر بطاعة أولى الأمر، وكل ذلك من أمر الله تعالى بطاعته فلا بد وأن يكون معصوما، وإلا كان الباري تعالى قد أمر بطاعته فيما هو مخطئ فيه وذلك محال.

(الرد على حجج الشيعة)

والجواب: أما منع تصور الإجماع وكونه حجة فجوابه ما سبق في قاعدة النظر.

قولهم: إنما يكون الإجماع منعقدا على إمامة أبي بكر أن لو بينتم دخول علي فيه وهو غير مسلم.

قلنا: لا نزاع في وقوع الموافقة منه للجماعة لمبايعته لأبي بكر.

قولهم: إن ذلك لم يكن عن اعتقاد.

قلنا: الاعتقادات [والقصود] من الأمور الباطنة التي لا سبيل إلى الاطلاع عليها لذواتها وأنفسها، وإنما تعرف بدلائلها، والإقدام على عقد البيعة صالح للدلالة عليها، فكان ذلك دليلا، ويلزم من وجود الدليل، وجود المدلول، اللهم إلا أن يوجد [له] معارض، والأصل عدمه، فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه. واحتمال وجود المعارض إذا لم يكن ظاهرا، لا يمنع من التمسك بالدليل المتحقق، وإلا لما ساغ التمسك بشيء من الدلائل اللفظية على مدلول أصلا، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا مخاطبات أهل العرف، فإنه ما من لفظ إلا ويجوز أن لا يكون المتكلم به معتقدا لما هو دليل عليه في وضع اللغة لقيام معارض له، وذلك مما يجر إلى إبطال الشرائع واللغات، وأن يكون الله تعالى ورسوله أمرا بشيء في الظاهر أو نهيا أو أخبرا عن شيء وهما لا يريدانه، وهو محال.

كيف وأن ذلك مما يجر أيضا إلى امتناع الاحتجاج بالإجماع الذي وافقوا على كونه حجة، وهو ما كان الإمام المعصوم داخلا فيه، لجواز أن يكون ما أطلقوه من الألفاظ وأتوا به من الدليل غير مراد المدلول لاحتمال وجود المعارض وذلك كله محال. وعدم صدور البيعة منه قبل ذلك لا يدل على كونه غير راض بالبيعة حالة صدور البيعة.

وعلى هذا: فالقول بأن البيعة منه إنما كانت تقية ودفعا للمخافة عنه، فرع كونه كارها للبيعة وغير راض بها، وهو غير مسلم. وكل ما يوردونه من ألفاظه الدالة على الكراهة لإمامة أبي بكر وأنما عقد البيعة معه تقية ومخافة، فهو من التخرصات والأكاذيب التي لا ثبت لها عند أهل الحديث والرواة الثقات.

قولهم: ما ذكرتموه في إبطال عصمة الأئمة فرع عدم عصمتهم، لا نسلم ذلك، وما ذكروه في تقريره، فيلزم منه صرف الدلائل عن مدلولاتها لمجرد احتمال المعارض لها، وذلك باطل بما سبق تقريره.

كيف وأن ما ذكروه لازم لهم أيضا وذلك لأن كل من اعتقد كونه معصوما فالعلم بعصمته ليس من الضروريات، وإلا لما شاع الخلاف فيه من أكثر العقلاء.

ولأن القضية الضرورية ما يصدق العقل بها من غير توقف على شيء غير تصور مفرداتها. ومن تصور شخصا ما وتصور معنى العصمة لا يجد من نفسه التصديق بكونه معصوما إلا بدليل يدل عليه، وإلا كان كل شخص يتصوره مع تصور العصمة في الجملة يكون معصوما، وهو محال.

فإذا اعتقاد كون شخص من الأشخاص معصوما لا بد له من دليل، وكل دليل يدل على عصمته فدلالته موقوفة علي كونه معصوما في نفس الأمر، فإنه بتقدير أن لا يكون معصوما في نفس الأمر فيجب صرف دلالة الدليل على العصمة إلى ما يليق بعدم العصمة.

فإذا قد توقفت دلالة الدليل على عصمته على وجود عصمته، ووجود العصمة متوقف على دلالة الدليل على العصمة، وهو دور ممتنع.

وكل ما يقال في الجواب هاهنا هو الجواب فيما نحن فيه، ويدل على ما ذكرناه [من] الإلزامات.

قولهم: في الإلزام الأول، لا نسلم أن عليا لم ينكر.

قلنا: الأصل عدم النكير، فمن ادعاه احتاج إلى بيانه.

قولهم: إنه صرح بالنكير، لا نسلم، وكل ما يذكرونه في الدلالة على ذلك قبل ولايته، وبعد ولايته، فهو من التخرصات والأكاذيب التي لم تنقل على ألسنة الرواة الثقات، فلا اعتماد عليها.

ثم [إنه] لا يخلو: إما أن يكون ما نقلوه عنه عليه السلام من إظهار الإنكار صحيحا أو لا يكون صحيحا.

فإن لم يكن صحيحا: فهو المطلوب، وإن كان صحيحا: فلا يخلو: إما أن يكون محقا فيه أو مبطلا.

فإن كان محقا فيه: فقد أخطأ في المبايعة. وإن كان مبطلا فيه: فقد أخطأ في الإنكار، وعلى كلا التقديرين لا يكون معصوما من الخطأ.

فلئن قالوا: إنما بايع تقية.

قلنا: لو كان كذلك لما أنكر أيضا تقية، فإنه لا فرق في المخافة بين أن لا يبايع وبين أن يبايع مع تصريحه بالإنكار والمخالفة. كيف وأن دلالة ما ذكروه على النكير متوقفة على إبطال إمامة أبي بكر، فإنه لو كان إماما حقا لما أنكر علي ذلك لأنه يخرج به عن كونه معصوما، فإذا حمل ما وجد منه من الدلائل على حقيقة الإنكار متوقف على إبطال إمامة أبي بكر، وإبطال إمامته متوقف على دلالة ما وجد من علي على حقيقة الإنكار، وهو دور على ما ذكروه في دليل إبطال العصمة [فإن أبطلوه هاهنا بما ذكرناه فقد اعترفوا ببطلان ما ذكروه على دليل إبطال العصمة]، مع أنه من أكبر عمدهم في إثبات العصمة.

قولهم: إنما بايع ظاهرا للتقية فقد سبق إبطالها في أول الجواب.

قولهم: إنما كان يدخل في آرائهم لقصد إرشادهم عما شذ عنهم.

قلنا: إلا أن أصل تصرفهم في الأمور السياسية وما يتعلق التصرف فيه بالإمام غير مسوغ لهم شرعا عند الخصوم، وقد كان يدخل معهم في آراء السياسة المتعلقة بالإمام، والإرشاد إلى فعل ما لا يسوغ شرعا غير جائز.

قولهم: إنه كان يقتدي بهم في الصلاة غير ناو للاقتداء بهم، فهو خلاف ما يدل عليه الاقتداء ظاهرا، ومجرد احتمال التقصير لا يقدح في الدلالة الظاهرة لما سبق. كيف وأن اقتداء المنفرد بصلاته ومتابعته لأفعال غيره إذا لم يكن مؤتما به مبطل للصلاة بإجماع المسلمين، فلو صدر منه لما كان معصوما.

قولهم: إنما كان يأخذ عطيتهم لأن ذلك كان حقا له.

قلنا: إنما يكون حقا أن لو كان سبب اكتسابه مسوغا في الشرع، وغير علي من الأئمة الثلاثة غاصب عند الخصوم، وتصرف الغاصب غير مسوغ في الشرع، فلا يترتب عليه حق شرعى.

قولهم: لا نسلم [أنه] استباح ووطئ سبيهم.

قلنا: دليله الحنفية.

قولهم: إنه أعتقها وتزوجها.

قلنا: بعتقه لها دليل اعتقاده سابقة الملك له عليها، ومن لوازم ذلك اعتقاد حل وطئها.

قولهم: إنما زوج ابنته من عمر تقية ومخافة، لا نسلم ذلك. ولا بد لهم في ذلك من دليل، وكل ما يذكرونه فيه فمما انفردوا بنقله عن الثقات المعتبرين، فلا يقبل.

كيف وأن عمر عند الخصوم كان في اعتقاد علي عليه السلام كافرا مرتدا، والتزويج من الكافر غير جائز للتقية. فإنه لو زوج ابنته من يهودي أو نصراني للتقية فإنه لا يجوز بموافقة منهم، ولا يخفى أن حال المرتد من حيث أنه لا يقر شرعا على ردته أسوأ حالا من الكتابي من حيث أنه يجوز إقراره على دينه، فإذا لم يجز ذلك في الكتابي ففي المرتد أولى.

وأما تولية العباس للتزويج، فإنما كان لما قد جرت به العادة من أن الآباء لا يباشرون تزويج بناتهم، وليس في ذلك ما يدل على أنه كان عن مخافة.

قولهم: الحامل له على الدخول في الشورى ظاهرا ما كان حاملا له على البيعة، فهو باطل بما سبق أيضا.

قولهم: وبتقدير أن يكون راضيا بالدخول في الشورى إنما كان لظنه الوصول بذلك إلى حقه.

قلنا: غلبة الظن تستدعي ترجيح أحد الجائزين المتقابلين على الآخر وذلك يستدعي ظهور الدليل الراجح، وهو غير متحقق في حالة الشورى لترجيحه عليه السلام للإمامة، بل ربما كان بالعكس لأن تعيينه دون الخمسة الباقين إنما يكون بتعيين الصحابة له، والصحابة عند الخصوم قد كانوا أعداء لعلي، وتعيينه للإمامة من عدوه بعيد، ومع ذلك فلا ظن.

قولهم: إنه إنما فعل ذلك لتمكنه من الاحتجاج عليهم بالأخبار الدالة عن التنصيص عليه.

قلنا: فذلك يستدعي وجود النص عليه وهو غير مسلم على ما سبق. وبتقدير أن يكون منصوصا عليه فإنكارهم للنص عليه قبل دخوله في الشورى لا يزيد على إنكارهم له بعد دخوله في الشورى، بل ربما كان إنكارهم للنص عليه بعد رضاه بالدخول في الشورى [أزيد منه قبله فإنه قد يقال له: لو كنت منصوصا عليك لما رضيت] بالدخول في الشورى لاعتقاد بطلانها والباطل لا يرضى به المعصوم.

قولهم: إنما لم يعلم الناس بمذهبه ولم يظهره لهم قبل عود الأمر إليه وبعده تقية وخوفا من وحشة المخالفة.

قلنا: ليس كذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم ما زالوا في الوقائع مختلفين في الأحكام ويخالف بعضهم بعضا، كما في مسألة الجد مع الإخوة والأخوات ومسألة العول، وقوله: أنت علي حرام، إلى غير ذلك من المسائل الفقهية. ولم ينقل إفضاء ذلك إلى وحشة ولا فتنة.

وعلى هذا فلو ظهر ما اختص به من المسائل الفقهية قبل عود الأمر إليه، وبعد عود الأمر إليه لم يكن ذلك مما يتوقع معه المخافة فإنه ما كان يتقاصر في ذلك عن آحاد المجتهدين، ولم يمتنع أحد من المجتهدين من إظهار مذهبه خوفا، فعلي أولى بذلك.

قولهم: إنه عليه السلام ما حكّم أعداءه اختيارا بل اضطرارا على ما قرروه.

قلنا: أصحابه وإن كانوا ألجئوه إلى التحكيم لكن لا إلى تحكيم الرجال بل إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، ولهذا فإنه لما حكم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري كانت حجة للخوارج عليه: "إنك حكمت في دين الله الرجال".

وإن سلمنا أنه كان ملجأ إلى تحكيم الرجال من أصحابه ولكن لا نسلم أنه كان ملجأ إلى تحكيم أعدائه وقوم معينين، كعمرو بن العاص ونحوه، وكل ما يقال في إلجائه إلى تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري بعينهما فهو من باب الكذب والتخرص الذي لا سبيل إلى إثباته بنقل من نقل الثقات، ويدل على ما ذكرناه الشعر المنقول عنه فإنه يدل على أنه أخطأ في التحكيم.

قولهم: إنما أراد به ما نقلوه عنه، من كتاب محمد بن أبي بكر، واعتراض معاوية له ليس كذلك فإنه ذكره عقيب التحكيم، وخروج الخوارج عليه بسببه وذلك يوجب القطع بأنه إنما أراد به التحكيم الذي بسببه انفتق عليه الخرق من الخوارج، وانفلج عليه الحكم، وفسد به حاله، واستظهر به أعداؤه، إلى حالة مماته ولهذا قال: «لقد عثرت عثرة لا أنجبر».

واعتراض معاوية لكتاب محمد بن أبي بكر لم يكن من العثرات المؤثرة ولا من الأمور الموجبة لاختلال حال علي، بخلاف التحكيم على ما لا يخفى، وذلك يوجب القطع بضعف ما نقلوه وكذب ما أوردوه.

قولهم: إنما لم يجعل مال قتلى وقعة الجمل فيئا لأنهم كانوا يعتقدون أنهم مسلمون وأنهم كانوا ملتزمين لأحكام الاسلام، ومن هو بهذه المثابة فمن مذهبه عليه السلام أن ماله لا يكون فيئا.

قلنا: فيلزمهم أن يكون مخطئا في اعتقاده [أن] مال المرتدين من بني حنيفة فيئا لأنهم كانوا بهذه المثابة وعلى هذه الصفات، ويدل على اعتقاده ذلك أنه اشترى الحنفية من السابين لها.

وعند ذلك فلا يخلو إما أنه كان معتقدا لصحة الشراء أو غير معتقد له.

لا جائز أن يقال: إنه لم يكن معتقدا لصحة الشراء لوجهين:

الأول: أنهم قد نقلوا أنه أعتقها، والعتق يستدعي سابقة الملك ولا ملك، ولا سبب له غير الشراء.

الثاني: أنه لو لم يكن الشراء صحيحا في معتقده لما جاز له تسليم الثمن إلى البائع لأن تصرفه فيه يكون حراما، والتمكين من فعل الحرام حرام، ويلزم من ذلك خروجه عن كونه معصوما.

وإن كان معتقدا لصحة الشراء: فيلزمه اعتقاد كونها فيئا، وما ذكروه من الخبر فمن أخبار الآحاد التي لا توجب القطع بنفي الخطأ عنه.

قولهم: إن قتل الزبير لم يكن حراما.

قلنا: فلا معنى لبشارة قاتله بالنار.

وقولهم: إنما بشره بالنار نظرا إلى عاقبة أمره وما جرى له من مقاتلة علي ليس كذلك، فإنا نعلم علما ضروريا أن النبي ﷺ ذكر ذلك الخبر في حق الزبير في معرض التعظيم له والتفخيم من أمره، وهو المتبادر من لفظه عند إطلاقه.

وحمل كلام النبي ﷺ، على تبشير قاتل ابن صفية بالنار لكونه يقاتل عليا ففي غاية البعد والإلغاز من القول، وكلام النبي المشرع ينزه عنه.

ولو جاز مثل ذلك في كلامه عليه السلام لما بقي لنا بما يخاطبنا به من الألفاظ وثوق فيما أمرنا به ونهينا عنه وفي جميع أحكام التكاليف لاحتمال أن يريد به ما لم يظهر لنا من كلامه. ويظهر بذلك كلام الملاحدة في إبطال الشرائع بناء على قولهم: إن كلام الله تعالى والرسول له ظاهر وباطن، وأن المراد به الباطن دون الظاهر؛ وهو محال.

قولهم: في قضية أمهات الأولاد: إن عليا إنما وافق عمر تقية وخوفا، ليس كذلك بدليل أمرين:

الأول: أنه قال: «اتفق رأيي ورأى عمر على امتناع بيع أمهات الأولاد» ولو كان كما ذكروه لما قال: "اتفق رأيي" لأنه لم يكن ذلك رأيا له فيكون كاذبا بل كان ينبغي أن يقول: اتفق قولي وقول عمر أو رأي عمر.

الثاني: أنه قال: "والآن فقد رأيت بيعهن" وذلك يدل على حدوث رأيه في بيعهن [وإلا لقال: ورأيي بيعهن].

وما ذكروه من الأخبار، فأخبار آحاد لا توجب القطع بعصمته.

قولهم: إن خطبة على لبنت أبي جهل لم تثبت ولم تصح.

قلنا: الحديث حديث مشهور، ولم يوجد له نكير ممن يوثق به، فكان حجة.

قولهم: إنه لو فعل علي ذلك لما ساغ من النبي إنكاره عليه لكونه فعلا مباحا.

قلنا: الاحتجاج إنما هو بقول النبي ﷺ: "إن عليا قد آذاني" ولا شك أن إيذاء النبي محرم.

وعند ذلك: فإما أن يكون إيذاؤه بما عطفه على قوله: "وخطب بنت أبي جهل"، أو بغيره.

فإن كان الأول: فالخطبة لا تكون مباحة بل محرمة.

وإن كان بغيره: فلم يكن منكرا للخطبة حتى يلزم ما قيل.

قولهم: خلع الحسن عليه السلام نفسه عن الإمامة إنما كان لأنه ظن هلاك نفسه وشيعته بتقدير البقاء على الإمامة فكان ملجأ إلى ذلك غير مختار.

قلنا: نحن نعلم علما ضروريا أن خوف الحسن على نفسه وشيعته بتقدير بقائه على الإمامة لم يكن منتهيا إلى خوف الحسين من خروجه إلى الكوفة. ولهذا فإن أكثر أصحاب الحسن وشيعته كانوا يلومونه على خلع نفسه من الإمامة، حتى أنهم سموه مذل المؤمنين على ما سبق. وأكثر أصحاب الحسين وشيعته كانوا يلومونه على الخروج إلى الكوفة: كابن عباس وابن عمر وغيرهما من سادات الصحابة، ولولا أن الخوف اللازم [من خروج الحسين إلى الكوفة أتم] من الخوف اللازم من بقاء الحسن على الإمامة لما كان كذلك.

وعند هذا فإما أن يكون ما انتهى إليه خوف الحسن مجوزا لخلع نفسه وترك ما وجب عليه، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول لزم أن يكون الحسين قد أوقع نفسه في التهلكة مع غلبة الظن بوقوعها، فإنا بينا أن خوف الخروج إلى الكوفة أتم من خوف بقاء الحسن على الإمامة وإلقاء النفس في التهلكة، مع ظن وقوعها حرام، فلا يكون الحسين معصوما.

[وإن كان خوف الحسن لم ينته إلى حد يجوز معه خلع نفسه من الإمامة، فخلعه لنفسه عنها مع وجوب طلبه لها بكونه معصوما يخرجه عن كونه معصوما]، وكيف ما دار الكلام فلا بد من تخطئة أحدهما.

ثم لو كان خلعه لنفسه عن الإمامة تقية وخوفا، فما الوجه في الاقتداء بهم وأخذ عطائهم.

قولهم: [الكلام] فيه ما سبق في قصة علي عليه السلام.

قلنا: والكلام أيضا في إبطال ما ذكروه فكما تقدم.

قولهم: إنما لم ينزل الحسين على أمان عبيد الله بن زياد لأنه ظهر له أنه لا بد له من قتله وقتل شيعته فامتنع عن النزول عليه دفعا للجمع بين القتل وذل النزول [على أمانه].

قلنا: وبتقدير أن يغلب على ظنه أنه لا بد من قتله بعد النزول على الأمان غير أن غلبة الظن بذلك بتقدير عدم الأمان على النزول، يكون أعظم ضرورة، ومهما اجتمع طريقان فلا بد من سلوك أحدهما، والظن بالهلاك في أحدهما أغلب من ظن الهلاك في الثاني فإنه يجب سلوك أقرب الطريقين إلى السلامة. [عند ذلك] فسلوكه لأقربهما هلاكا، يكون به تاركا للواجب ويخرج بذلك عن كونه معصوما.

قولهم: إن القائم المهدي إنما اختفى للخوف من أعدائه مع ظهورهم واستيلائهم.

قلنا: فكان الواجب أن لا يختفي من شيعته.

قولهم: غير ممتنع أن يكون ظاهرا لبعض شيعته الذين لا يخشى من جهتهم إشاعة خبره.

قلنا: لا يخفى أن الأحوال تختلف باختلاف الأماكن والأوقات، ونحن نعلم بالضرورة أن أولياءه قد يستظهرون في بعض الأوقات وفى بعض الأماكن على أعدائه وتكون الغلبة لهم عليهم، فلو كان ممن يظهر لبعض شيعته عند أمنه من الخوف لظهر عند ظهور شيعته واستيلائهم على أعدائه في بعض الأماكن والأوقات. وقد اتفق ذلك كثيرا في كثير من الأزمان وكثير من الأماكن، ولم يتفق ظهوره لهم أصلا.

وبهذا يبطل قولهم: إنه إنما لم يظهر مطلقا خوفا من توقع الإشاعة، فإنه لا ضرر عليه في الظهور في محل استيلاء شيعته على أعدائه، وإن شعر به أعداؤه فكان من الواجب ظهوره بينهم. ثم يلزم من ذلك عدم الفائدة في إبقائه.

قولهم: فائدة بقائه توقع ظهوره عند زوال المخافة.

قلنا: ليس ذلك أولى من عدمه ووجوده عند زوال المخافة.

قولهم: عهدة ما يفوت من المصالح عليهم باختفاء شخصه خوفا منهم تكون عائدة عليهم، بخلاف ما إذا أعدمه الله تعالى.

قلنا: وإذا كان عدمه لبطلان فائدة وجوده، وبطلان فائدة وجوده مستند إلى الخوف منهم، فالعهدة أيضا فيما يفوت عليهم من المصالح حالة عدمه تكون راجعة عليهم.

قولهم: في الإلزام الخامس إن الأنبياء معصومون فقد أبطلناه فيما تقدم.

قولهم: وإن قدر أن النبي ليس بمعصوم لا يلزم أن يكون الإمام أفضل منه.

قلنا: دليله ما ذكرناه.

قولهم: إن النبي يعرف ذنبه بالوحي [فيتوب] بخلاف الإمام.

قلنا: هذا إنما يلزم أن لو لزم نزول الوحي بذلك وهو غير مسلم. وبتقدير التسليم فقد يتوب عن ذلك وقد لا يتوب، وبتقدير لزوم التوبة إذا كان الذنب بترك واجب فغايته انتفاء الإثم، ولكن لا يلزم منه الثواب عليه، بخلاف من أتى به ولم يتركه فإنه مثاب عليه، ولا معنى للأفضل إلا أن ثوابه أكثر.

فلئن قالوا: إذا تاب فلا بد وأن يقضي ما فاته من الواجب.

قلنا: وقد لا يتفق قضاؤه، وبتقدير قضائه فلا يخفى أن ثواب الأداء أكثر من ثواب القضاء، لقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه: «لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم»، وبتقدير أن يكون مساويا له في الثواب يلزم أن يكون الإمام مساويا للنبي في الفضيلة، وهو محال مخالف للإجماع.

قولهم: ما ذكرتموه معارض بما يدل على [وجود] العصمة، لا نسلم وجود المعارض.

قولهم: في الشبهة الأولى: إن الاحتياج إلى الإمام إنما كان لتكون الأمة أبعد عن فعل الخطأ وأقرب إلى فعل الواجب، فهو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وأحكامه، وقد أبطلناه في التعديل والتجوير.

وإن سلمنا أنه لا بد من رعاية الحكمة ولكن لا نسلم أن الغرض من نصب الإمام ما ذكروه بل إنما الغرض من ذلك ما ذكرناه من حصول الأمن الذي لا يحصل إلا بنصب الإمام وتدبير الأمور السياسية، كما سبق تفصيل القول فيه في الفصل الأول من هذا الأصل، وذلك غير متوقف على عصمة الإمام.

وإن سلمنا أن الغرض ما ذكروه لكن القدر الذي يحصل من ذلك بنصب الإمام مطلقا أو من نصب الإمام المعصوم؟ الأول: مسلم. والثاني: ممنوع، فلم قلتم بأن ما زاد على ذلك القدر يكون مطلوبا للشارع.

قولهم في الشبهة الثانية: إن الإمام تجب متابعته. إما أن يريدوا بذلك الوجوب العقلي أو السمعي.

فإن كان الأول: فهو ممنوع على ما عرفناه من امتناع الوجوب العقلي.

وإن كان الثاني: فقد قصروا في الدلالة عليه، أما ما ذكروه من جهة اللغة فلأن اللغة لا دلالة لها على الوجوب الشرعي. وأما ما ذكروه من الإجماع فلأن الاحتجاج بالإجماع عندهم إنما يصح بتقدير دخول الإمام المعصوم فيه، وهو فرع دلالة الإجماع فيكون دورا.

وإن سلمنا صحة ما ذكروه من الدلالة على وجوب متابعة الإمام ولكن لا نسلم دلالة ذلك على عصمته.

وما ذكروه من الدلالة عليه فهو منقوض بالقاضي، فإنه يجب على الرعية متابعة [حكمه، ومنقوض بالشاهد فإنه يجب] متابعة الحاكم له في قبول قوله، ولم يشترطوا العصمة في القاضي والشاهد إجماعا. وكل ما يذكرونه في ذلك فهو جواب في فصل الإمام.

قولهم في الشبهة الثالثة: إن الشريعة لا بد لها من ناقل معصوم.

سلمنا أنها لا بد لها من ناقل لكن لا نسلم أنه يجب أن يكون معصوما، ولم قلتم إنه لا يكفي أن يكون قول الناقل مغلبا على الظن؟

وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون معصوما لكن لم قلتم إنه الإمام؟ وما المانع أن يكون الناقل المعصوم هم الأمة؟

قولهم: عصمة الأمة موقوفة على دلالة النصوص، ممنوع بل عصمة الأمة إنما هو مستفاد من دليل العادة، وهو استحالة اجتماعهم على الخطأ عادة كما هو معروف في كتب الأصول.

وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على كون الناقل لذلك إنما هو الإمام المعصوم لكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك لأنه لو كان الإمام المعصوم شرطا في نقل الشريعة للزم منه تعطيل الشريعة في وقتنا هذا، وأن لا يكون الخصوم على دين الإسلام ضرورة اختفاء الناقل المعصوم وعدم معرفته كما هو مذهبهم.

قولهم في الشبهة الرابعة: لو لم يكن الإمام معصوما فبتقدير وقوعه في المعصية، إما أن يجب الإنكار عليه أو لا يجب، الخ. يلزم عليه القاضي والسلطان المنصوب من جهة الإمام فإنه غير معصوم بالإجماع فبتقدير وقوعه في المعصية: إما أن يجب الإنكار عليه أو لا يجب. فإن كان الأول: فإما أن يجب ذلك على الرعية وحدهم، أو [على] الإمام وحده، أو على الإمام والرعية معا. فإن كان الأول: لزم الدور كما ذكروه. وإن كان الثاني: فهو محال لأن الإمام بتقدير انفراده بالإنكار وحده قد لا يقدر على الإنكار على من نصبه لقوة شوكته فلا يكون الإنكار عليه واجبا. وإن كان الثالث: فقد لزم الدور أيضا وكل ما يقال في الجواب عن الأمير والقاضي فهو جواب له عن الإمام.

قولهم في الشبهة الخامسة: إن الأمة قد اختلفت في أحكام ليست في كتاب الله ولا السنة المتواترة، مسلم، ولكن لم قلتم إنه لا بد من الإمام المعصوم، وما المانع أن يكون طريق معرفتها القياس وخبر الواحد واستصحاب الحال، كما قد عرف كل ذلك في كتب الأصول.

قولهم: إن ذلك لا يفيد غير الظن، والظن غير معمول به للآية المذكورة.

قلنا: فيلزمهم على هذا أن لا تكون الظواهر من الكتاب والسنة أيضا حججا في الشريعة، وهو خلاف إجماع المسلمين، وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وعلى هذا فيجب تخصيص قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} بالقطعيات دون الظنيات.

قولهم في الشبهة السادسة: إن القرآن قد دخله التحريف والتبديل، ليس كذلك بل هو محفوظ مضبوط لما بيناه من تواتره وتواتر جميع آياته عن النبي ﷺ، وما ذكروه من دلائل ذلك: فقد سبق جوابها في النبوات.

قولهم: إنه مشتمل على ألفاظ مجملة.

قلنا: ما كان منه نصا وجب اتباعه، وما كان منه ظاهرا في معنى ومحتملا لمعنى [آخر] فيجب أيضا حمله على ظاهره إلا أن يقوم دليل الاحتمال البعيد. وما كان منه مجملا فيتوقف فيه إلى حين ظهور دليل أحد مدلولاته فإن ظهر: عمل به، وإلا وجب البقاء على الوقف. وأما أن يتوقف ذلك على أخبار المعصوم فلا. ودليله إجماع الصحابة على العمل بالظواهر، وقول النبي ﷺ: "نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر".

قولهم في الشبهة السابعة: إن الإمام لا بد وأن يكون منصوصا عليه، باطل بما سبق. وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون منصوصا عليه لكن لم قلتم أنه لا بد وأن يكون معصوما.

قولهم: لأنه لا يجوز على الحكيم تولية من يعلم باطنه الفساد، فهو مبني على التقبيح العقلي وهو باطل بما سبق. وإن سلمنا التقبيح عقلا فما المانع من ذلك بتقدير أن يعلم الله تعالى صلاحنا في اتباع ذلك الشخص وفي توليته علينا وإن كان غير معصوم في نفسه. وعلى هذا فالتنصيص عليه لا يكون قبيحا. وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تولية من ليس بمعصوم لكنه منقوض بتنصيص الرسول على القاضي والأمير، فإنه تولية منه له وإن لم يكن معصوما بالإجماع.

قولهم في الشبهة الثامنة: إن معرفة الله تعالى واجبة، مسلم.

قولهم: إما أن يكون العقل مستقلا بالمعرفة أو غير مستقل بها.

قلنا: المستقل بالمعرفة لا مطلق نظر بل النظر الصحيح على ما تقدم في قاعدة النظر. وعلى هذا فلا نسلم إفضاء النظر [الصحيح] إلى المذاهب المتناقضة.

قولهم: يجب تفويض أمر كل واحد إلى نظره.

قلنا: النظر الصحيح أو الفاسد؟ الأول: مسلم، والثاني: ممنوع.

وعلى هذا فالإنكار الحق إنما يتصور من الناظر النظر الصحيح على من نظره غير صحيح.

قولهم: يلزم من ذلك الاستغناء عن الإمام والنبي.

قلنا: فيما يتعلق بالمعرفة أو مطلقا؟ الأول: مسلم. والثاني: ممنوع.

وبيانه: أن الحاجة إلى النبي في تعريف ما لا يستقل العقل بمعرفته من الأمور الشرعية.

وأما الإمام: فللأمن من المخاوف والفتن وتدبير الأمور السياسية التي لا يستقل بها من ليس بإمام على ما سبق.

وما ذكروه في إبطال النظر العقلي: إما أن يكون صحيحا أو لا يكون صحيحا.

[فإن لم يكن صحيحا] فلا حاجة إلى جوابه.

وإن كان صحيحا: فقد اعترفوا بصحة النظر.

وإن سلمنا امتناع استقلال العقل بذلك لكن لم قالوا بأنه لا بد من الإمام المعصوم؟

قولهم: لا يخلو إما أن يفتقر في ذلك إلى معلم أو لا يفتقر إليه.

قلنا: لا يفتقر إليه.

قولهم: فهذا تعليم بأنه لا حاجة إلى التعليم، لا نسلم بل هو إبطال للتعليم مطلقا.

وإن سلمنا أنه لا بد من التعليم لكن لم قلتم إن المعلم هو الإمام المعصوم؟

قولهم: لأنه إما أن يكون المعلم معصوما أو غير معصوم.

قلنا: معصوم ولكن لا نسلم انحصار المعلم المعصوم في الإمام، بل جاز أن يكون والنبي ﷺ ووصول خبره إلينا بالتواتر المفيد لليقين.

وإن سلمنا أن المعلم المعصوم هو الإمام، ولكن متى تحصل المعرفة بقوله إذا عرفت عصمته أو اذ لم تعرف؟ الأول: مسلم. والثاني ممنوع.

وعند ذلك فمعرفة عصمته: إما أن تكون بمجرد قوله أو لا لمجرد قوله.

الأول: محال، إذ ليس تصديقه في دعواه العصمة بمجرد قوله أولى من تصديق غيره.

وإن كان الثاني: فلا بد من معرّف آخر ويلزم منه إبطال القول بأنه لا معرف إلا قول الإمام المعصوم.

وإن سلمنا [أن] معرفة عصمته بمجرد قوله ولكن إنما تحصل المعرفة بقوله بتقدير ظهوره، وأما بتقدير اختفائه فلا، والإمام عندهم غير ظاهر ويلزم أن لا يكونوا عارفين بالله تعالى بل جاهلين به لعدم تعريف الإمام لهم.

وأما قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما} فقد سبق جوابه في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وأما قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فغايته أنه أمر بطاعة أولي الأمر وليس فيه ما يدل على عصمتهم.

قولهم: لو لم يكونوا معصومين لكنا مأمورين بطاعتهم فيما هم مخطئون فيه وهو محال، فهو باطل بأمرنا بطاعة القاضي والأمير المنصوب من جهة الإمام، وكذلك أمر العبد بطاعة سيده والزوجة بطاعة زوجها فإنه جائز من الله ورسوله بالاتفاق، وإن لم يكن المأمور بطاعته في هذه الصور كلها معصوما.

الفصل الرابع في إثبات إمامة إمام الأئمة أبي بكر الصديق

ودليل إثباتها اتفاق الأمة بعد وفاة رسول الله ﷺ على نصبه وعقد الإمامة له واتباع الناس له في أيام حياته وموافقتهم له في غزواته ونصبه للولاة والحكام ونفوذ أوامره ونواهيه في البلدان، وذلك مما شاع وذاع وعلم بالتواتر علما لا ريب فيه، كما علم وجود النبي ﷺ ودعواه بالرسالة. وذلك دليل على إثبات إمامته وصحة نصبه وإقامته.

فإن قيل: أولا لا نسلم أنه كان من أهل الإمامة ولا مستجمعا لشروطها المعتبرة فيها حتى تصح إمامته فلا بد من بيان الأهلية أولا.

ثم بيان عدم أهليته لذلك من ثمانية أوجه:

الأول: قوله تعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.

ووجه الاحتجاج به: أنه أخبر أنه لا ينال عهد الله وهو الإمامة الظالمين، وأبو بكر كان ظالما فلا يكون أهلا للإمامة.

وبيان أنه كان ظالما من وجهين:

الأول: أنه كان كان كافرا قبل البعثة. والكافر ظالم لقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون}.

الثاني: أنه ظلم فاطمة، وبيان ظلمه لها أنه منعها من حق كان ثابتا لها بميراثها من أبيها.

وبيان ذلك أن فدك كانت للنبي ﷺ ومات عنها وفاطمة كانت مستحقة لنصفها بحق الميراث، ودليله أمران:

الأول: قوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} الثاني: أن فاطمة كانت معصومة عن الخطأ.

وبيان عصمتها من وجهين:

الوجه الأول: أنها كانت من أهل البيت بالاتفاق، وأهل البيت معصومون بدليل الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}، أورد ذلك في معرض الامتنان والإنعام عليهم والتعظيم لهم، وإنما يتم ذلك أن لو انتفى عنهم الرجس مطلقا، وإلا لبطلت فائدة ذلك لمشاركة غيرهم لهم في ذلك، فيلزم أن تكون فاطمة معصومة عن الخطأ مطلقا.

وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني» والنبي ﷺ معصوم فبضعته تكون معصومة.

وإذا كانت معصومة فقد ادعت استحقاقها للميراث فتكون صادقة في دعواها.

الوجه الثاني: في بيان عدم أهليته: أن النبي ﷺ لم يوله شيئا في حال حياته، وحين بعث به إلى مكة ليقرأ سورة براءة على الناس في الموسم نزل جبريل على النبي ﷺ بعد ذلك: «إنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فبعث عليا في أثره [وأمره] أن يتناول منه السورة ويقرأها على أهل مكة، وعزل أبا بكر عن ذلك، وذلك دليل على أنه ليس أهلا للإمامة ولا لتأدية أمر الله تعالى عنه.

الوجه الثالث: أنه عليه لصلاة والسلام عزله عن الإمامة بالناس لما أمّ بهم بأمر بلال عن عائشة، ومن لا يكون أهلا للإمامة في الصلاة لا يكون أهلا لإمامة الأمة.

الوجه الرابع: أن شرط الإمام أن يكون معصوما على ما تقدم، وأبو بكر لم يكن معصوما،

ودليله أمور أربعة:

الأول: اتفاق الأمة على ذلك.

الثاني: أنه قد نقل عنه بالنقل الصحيح أنه قام على منبر رسول الله وقال: "إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن عصيت فتجنبوني".

وعند ذلك فلا يخلو: إما أن يكون صادقا فيه أو كاذبا.

فإن كان كاذبا فلا يكون معصوما.

وإن كان صادقا فقد ثبت أنه كان يعصي فلا يكون معصوما أيضا.

الثالث: أنه خالف أمر رسول الله ﷺ، ومخالفة أمره معصية.

وبيان ذلك: أنه لما جهز النبي ﷺ جيش أسامة في مرضه الذي مات فيه، وقال: "ملعون من تخلف عنه"، وكان عمر وعثمان فيه ومن جملة من يلزمه الخروج فيه، فحبس أبو بكر عمر عن الخروج معه.

الرابع: أنه سمى نفسه خليفة رسول الله، وخليفة رسول الله من استخلفه، ولم يكن استخلفه، فكان كاذبا.

الوجه الخامس: في بيان عدم أهليته: أن شرط الإمام أن يكون أفضل الأمة كما تقدم بيانه، وأبو بكر لم يكن كذلك، ودليله قوله: "وليتكم [ولست] بخيركم، أقيلوني" فهو لا يخلو إما أن يكون كاذبا في ذلك أو صادقا. فإن كان كاذبا: فالكاذب لا يكون خير الأمة. وإن كان صادقا: فهو المطلوب.

الوجه السادس: هو أن شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة كما تقدم. وأبو بكر لم يكن كذلك، فإنه لم يكن عالما بالشرائع، فإنه أحرق فجاءة بالنار وهو يقول أنا مسلم. وقطع يسار يد السارق وذلك على خلاف الشرع. وروي أنه سألته جدة عن ميراثها فقال: لا أجد لك في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله شيئا، ارجعي حتى أسأل الناس، فأخبره المغيرة بن شعبة وغيره أن النبي ﷺ أعطاها السدس، فجعله لها. إلى غير ذلك وذلك دليل نقصه في العلم بالشريعة.

الوجه السابع: أنه قال: "وودت أني سألت رسول الله ﷺ عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه أهله" وذلك منه دليل على شكه في استحقاقه للإمامة.

الوجه الثامن: أن عمر بن الخطاب مع أنه وليه وحميمه، وناصره والمتولي للعهد من قبله، قد نقل عنه ما يدل على ذمه والإنكار عليه وأن بيعته وقعت لا عن أصل يبنى عليه، وهو أدل الأشياء على عدم استحقاقه للإمامة.

أما ذمه: فما روي عنه أنه جاءه عبد الرحمن بن أبي بكر يشفع في الحطيئة الشاعر فقال: "دويبة سوء لهو خير من أبيه".

وأما إنكاره عليه، حيث لم يقتل خالد بن الوليد ولم يعزله وقد قتل مالك بن نويرة وهو مسلم طمعا في التزويج بامرأته لجمالها، حتى قال له عمر: "إن وليت الأمر لأقيدنك به".

وأما أن بيعته كانت عن غير أصل: فقول عمر: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه".

وإن سلمنا أنه كان أهلا لاستحقاق الإمامة، غير أنا لا نسلم إجماع الأمة على عقد الإمامة له، فإنه قد روي أن النبي ﷺ لما قبض وبويع أبو بكر تخلف عن البيعة سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والزبير بن العوام وجماعة من أجلاء الصحابة.

وأما علي فإنه تأخر عن البيعة ستة أشهر وأنه كان يقول إذا دعي إلى البيعة: "إني لأخو رسول الله ﷺ لا يقولها غيري إلا كذاب، وأنا والله أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي"، حتى أنفذ إليه عمر مع جماعة فضربوا الباب فلما سمع علي عليه السلام أصواتهم لم يتكلم، وتكلمت امرأة فقالت: من هؤلاء؟ فقالوا: قولي لعلي يخرج يبايع فرفعت فاطمة صوتها وقالت: يا رسول الله ماذا لقينا من أبي بكر وعمر بعدك، فبكى كثير ممن سمع صوتها وانصرفوا فوثب عمر في ناس معه فأخرجوه وانطلقوا به إلى أبي بكر حتى أجلسوه بين يديه. فقال أبو بكر: بايع، قال: فإن لم أفعل، قال: إذن والله الذي لا إله هو نضرب عنقك فالتفت علي عليه السلام إلى القبر وقال: {يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} ثم بايع عن كره واضطرار.

وروي أنه لما بويع أبو بكر غضب جماعة من المهاجرين والأنصار وقالوا: أبويع من غير مشورة ولا رضى منا، وغضب علي والزبير، ودخلا بيت فاطمة وتخلفا عن البيعة، فجاءهم عمر في جماعة وفيهم مسلمة بن أسلم فصاح عمر: اخرجوا أو لنحرقها عليكم، فأبوا أن يخرجوا، فأمر عمر مسلمة بن أسلم فدخل عليهما وأخذ أسيافهما أو أسيف أحدهما فضرب به الجدار حتى كسره، ثم أخرجهما يسوقهما حتى بايعا كرها وإلجاء.

وعلى هذا فأي إجماع ينعقد في عصر فيه علي والزبير وهما غير داخلين فيه اختيارا.

وإن سلمنا انعقاد الإجماع على ذلك لكن لا نسلم أن الإجماع حجة على ما تقدم.

سلمنا أنه حجة لكن متى، إذا لزم منه مخالفة النص أو إذا لم يلزم؟ الأول: ممنوع، والثاني: مسلم.

وبيان مخالفته للنص ما بيناه من التنصيص على علي «رضي الله ع».

(رد الآمدي)

والجواب: قولهم: لا نسلم أنه كان أهلا للإمامة.

قلنا: دليله الإجمال والتفصيل.

أما الإجمال: فهو أن إجماع الأمة على عقد الإمامة له يدل على كونه أهلا لها ومستجمعا لشرائطها، وإلا كان إجماعهم على الخطأ وهو محال.

وأما التفصيل: فهو أن الشروط المعتبرة في الإمامة كلها متحققة في حقه، فإنه كان ذكرا حرا قرشيا مشهور النسب بالغا عاقلا من غير خلاف، وكان مسلما عدلا ثقة، لأنه كان متظاهرا بالإسلام والتزام أحكامه والإقرار بالشهادتين محافظا على أمور دينه رشيدا في دينه ودنياه، ولم يعلم منه صدور كبيرة ولا مداومة على صغيرة. ولا معنى للمسلم العدل إلا هذا.

وكان من أهل الحل والعقد، والاجتهاد في المسائل الشرعية والأمور السمعية، وله في ذلك الأقوال المشهورة والمذاهب المأثورة في أحكام الفرائض وغيرها، كما هو معروف في مواضعه، مضافا إلى ما كان يعلم من أنساب العرب ووقائعها والعلوم الأدبية والأمور السياسية التي لا ريب فيها إلا لجاحد معاند.

وكان مع ذلك خبيرا بأمور الحرب وترتيب الجيوش وحفظ الثغور، بصيرا بالأمور السياسية، لم يلف في تصرفه مدة ولايته خلل ولا زلل.

وكان شجاعا [مقدما] مقداما شديد البأس قوي المراس ثابت الجنان وقت التحام الشدائد واصطلام الأهوال، بدليل صبره مع النبي ﷺ في ساعة الخوف واستتاره في الغار من الكفار ووضع عقبه على كوة في الغار وقد لسعته الأفعى ولم يتأوه مخافة استيقاظ النبي ﷺ.

وقصته المشهورة مع المرتدين وقد تخاذل الصحابة عنهم وقوله: "لأقاتلنهم ولو بابنتي هاتين". وأنه لم يتخلف عن رسول الله ﷺ في وقعة من الوقائع ولا مشهد من المشاهد إلا وهو أول القوم وآخرهم في نصرة الدين والذب عن حوزة المسلمين، وأنه كان مطاعا مهابا نافذ الأمر صيب النظر، بدليل رجوع الصحابة في وقت اضطرابهم وتشويش أحوالهم عند ما قبض النبي ﷺ واختلافهم في موته ومحل دفنه ومن يقوم بالأمر بعده إلى قوله، والرجوع إليه في ذلك وفى كل ما كان ينوب من الأمور المعضلة والقضايا المشكلة، على ما سبق تقريره.

قولهم: إنه كان ظالما، لا نسلم [ذلك].

قولهم: إنه كان كافرا قبل البعثة، فقد سبق الجواب عنه.

قولهم: إنه ظلم فاطمة بمنعها من ميراثها؛ لا نسلم أنه كان لها ميراث حتى يقال بمنعها منه، قوله تعالى: {فلها النصف} معارض بما روي عنه عليه السلام أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة».

فإن قيل: إنما تصح المعارضة بذلك أن لو كان خبر الواحد حجة، وهو غير مسلم. وبتقدير التسليم بذلك، فإنما يكون حجة إذا لم يكن الراوي له متهما. وأما إذا كان متهما فيه فلا.

وبيان وجود التهمة من وجهين: الأول: أن الراوي له أبو بكر، وهو الخصم في هذه المسألة، ورواية الخصم لا يحتج بها على خصمه، كشهادته عليه فلا تقبل لكونه متهما فيه.

الثاني: أنه قد انفرد بسماعه من النبي ﷺ مع عدم حاجته إلى معرفته دون من حاجته داعية إلى معرفته: كالعباس وفاطمة، وذلك موجب للتهمة.

وإن سلمنا خلوه عن التهمة ولكن إنما يكون حجة إذا لم يكن مرجوحا، وهو مرجوح من جهة السند والمتن.

أما من جهة السند: فلأنه آحاد ونص التوريث متواتر، والمتواتر أقوى من الآحاد.

وأما من جهة المتن: فمن وجهين:

الأول: أن قوله تعالى: {فلها النصف} قاطع في دلالته على توريث النصف. وقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» يحتمل أن يكون المراد به لا نورث ما تصدقنا به، والقاطع راجح على المحتمل.

الثاني: أن آية الميراث مترجحة بموافقة قوله تعالى: {وورث سليمان داود} وقوله تعالى حكاية عن زكريا عليه الصلاة والسلام: {يرثني ويرث من آل يعقوب} والخبر على خلافه.

قلنا: أما منع كون خبر الواحد حجة فلا يستقيم لوجهين: الأول: أنه مجمع على قبوله بين الصحابة، ويدل عليه رجوع الصحابة في الأحكام الشرعية إلى أن أخبار الآحاد من غير نكير منهم فكان إجماعا.

فمن ذلك رجوع عمر بن الخطاب في إيجاب غرة الجنين إلى خبر حمل بن مالك.

وفى توريث المرأة من دية زوجها، إلى خبر الضحاك.

وفى إجراء المجوس على سنة أهل الكتاب إلى خبر عبد الرحمن بن عوف.

وفى وجوب الغسل من التقاء الختانين إلى خبر عائشة.

ومن ذلك رجوع عثمان في الحكم بالسكنى إلى خبر فريعة بنت مالك.

وما اشتهر عن علي عليه السلام من قبوله لخبر الواحد مع يمينه، وقوله: "كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله ﷺ نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره حلفته [وإذا حلف] صدقته".

ومن ذلك رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد في التحول عن بيت المقدس إلى القبلة في أثناء الصلاة. إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عددا.

الثاني: أنا نعلم علما ضروريا بأخبار التواتر أن النبي ﷺ كان يبعث الواحد من القضاة والرسل ليبلغ الشرائع والأحكام وقبض الصدقات، وذلك كتأميره أبا بكر في الموسم سنة تسع، وإيفاده بسورة براءة مع علي عليه السلام لقراءتها على أهل الموسم، وتولية عمر على الصدقات، إلى غير ذلك. مع اتفاق الإجماع وأهل النقل أن النبي عليه السلام كان يوجب على أهل الأطراف قبول ذلك واتباعه، وإلا فلو افتقر في ذلك إلى تنفيذ عدد التواتر ربما كان ذلك لا يفي بجميع الصحابة، وتحقق ذلك مستقصى لائق بالأصول الفقهية.

وإن سلمنا أن خبر الواحد ليس بحجة، غير أن أبا بكر هو الحاكم، ولم يعمل بخبر الواحد بل بخبر الرسول الصادق حيث سمعه عنه.

قولهم: إنه كان متهما فيه لا نسلم.

قولهم: إنه الخصم، لا نسلم، بل الحاكم، والحاكم غير متهم.

وقولهم: إنه انفرد بروايته، لا نسلم. فإنه قد نقله جماعة من الصحابة كبشر بن مالك وسعد بن عبادة الأنصاري وغيرهما.

قولهم: إنه مرجوح، لا نسلم ذلك.

قولهم: إنه آحاد، ونص التوريث متواتر.

قلنا: إلا أنه خاص يتناول إرث النبيين بخصومه. وآية التوريث تتناوله بعمومها. والخاص أقوى من العام، وذلك أن ضعف العموم، بسبب تطرق التخصيص إليه، وأكثر العمومات مخصصة، وضعف الآحاد بسبب تطرق الكذب إليه، وهو بعيد في حق العدل؛ فكان الظن بخبر الواحد الخاص أولى وأقوى.

قولهم: دلالة الآية قاطعة في توريث النصف، ودلالة الخبر مظنونة.

قلنا: وإن كانت دلالة الآية قاطعة في توريث النصف، غير أنها ظنية بالنظر إلى آحاد البنات لاحتمال تطرق التخصيص إليها، وقد تطرق بالمقابلة والمخالفة في دين الإسلام، فدلالتها على توريث فاطمة تكون ظنية لا قطعية.

ثم الترجيح مع ذلك لدلالة الخبر، فإن إخراج فاطمة عن التوريث غايته تخصيص عموم، وهو غالب على ما تقدم.

وصرف الخبر إلى نفي التوريث فيما ترك صدقه مخالفة للظاهر من لفظ الخبر، وما هو متبادر إلى الفهم منه عند إطلاقه، وأكثر الظواهر مقررة لا مغيرة، فكان الخبر أقوى.

كيف وأن حمل الخبر على ما قيل مما يبطل فائدة تخصيص النبيين بالذكر، من حيث أن غيرهم مشارك لهم في ذلك بالإجماع.

قولهم إن الآية مترجحة لموافقة قوله تعالى: {وورث سليمان داود} وقول زكريا: {يرثني ويرث من آل يعقوب}.

قلنا: يحتمل أن يكون المراد به وراثة العلم، ووراثة العلم سابقة لقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} وقوله عليه الصلاة والسلام: «العلماء ورثة الأنبياء» ويجب الحمل على هذا المعنى لأمور أربعة:

الأول: ما فيه من الجمع بين الأدلة بأقصى الإمكان.

الثاني: أن قوله تعالى: {وورث سليمان داود} إنما ذكره في معرض التعظيم له والإجلال لشأنه، وذلك إنما يليق بوراثة العلم لا بوراثة المال.

الثالث: أنه قد كان لداود أولاد أخر لم يذكرهم، ولو كان المراد به وراثة المال لما اختص به سليمان دونهم.

الرابع: قول سليمان: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} وذلك دليل [على] أنه أراد بالميراث العلم دون غيره، ولما كانت وراثة العلم أشرف من وراثة المال فيجب أيضا حمل قول زكريا عليه.

كيف وأنه قد قيل: إن زكريا كان رجلا فقيرا لا مال له غير قدوم ومنشار، وليس ذلك مما يعظم عند نبي كريم حتى أنه يطلب حرمان مستحقيه عنه. فتعين أن يكون المراد به وراثة العلم، ولا يلزم من كونه طلب ولدا يرث علمه أن يكون قد بخل بوصول علمه إلى غير ولده ليكون حراما، فإنه لا يمتنع مع ذلك أن يكون ولده وغير ولده وارثا لعلمه.

وأيضا فإنه قد قيل: إنه لم يرد بقوله: {فهب لي من لدنك وليا} ولدا، ولهذا قال: {أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا}. وإنما أراد به: وليا يقوم مقامه في العلم وأمر الدين.

وقوله في موضع آخر: {هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء}، وليس فيه ما يدل على طلب الولد بل من يكون من ذرية طيبة يكون لي وليا، ولهذا لم يقل من ذريتي.

قولهم: إن فاطمة كانت معصومة عن الخطأ، لا نسلم.

قولهم: إنها كانت من أهل البيت، مسلم، ولكن لا نسلم أن أهل [البيت] معصومون.

والآية فقد نقل الضحاك أنه لما نزلت هذه الآية قالت عائشة: "يا نبي الله، أنحن من أهل بيتك الذين قد أذهب الله عنهم الرجس بالتطهير"، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا عائشة أوما تعلمين أن زوجة الرجل هي أقرب إليه في التودد والتحبب من كل قريب. وأن زوجة الرجل مسكن له، والذي بعثني بالحق نبيا لقد خص الله بهذه الآية فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وعليا والحسن والحسين وجعفرا وأزواج محمد وخاصته وأقرباءه". وإذا ثبت ذلك فالآية تتناول الكل تناولا واحدا.

وقد أجمعنا على أنها غير مقتضية لعصمة الزوجات وعصمة العباس وغيره من الأقارب، فكذلك في غيرهم.

قولهم: يلزم من ذلك إبطال فائدة التخصيص، ليس كذلك فإنه جاز أن يكون ما صرف عن أهل البيت من الرجس الخاص غير مصروف عن غيرهم.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني» فإن كان من أخبار الآحاد فليس هو عندهم حجة، إلا أنه لا يمكن حمله على الحقيقة، فإن البضعة من الشخص جزء الشخص وجزء الشخص ما ينقص ذلك الشخص بنقصانه وينمو بنموه ويغتذي بغذائه ويتألم بما يرد عليه من الآلام، وفاطمة بالنسبة إلى النبي ﷺ ليست كذلك، فأمكن حمل قوله: «بضعة مني» أي كبضعة مني فيما يرجع إلى الحنو والشفقة. وإن سلمنا أنها بضعة منه حقيقة ولكن لا نسلم أنه يجب أن تكون معصومة.

قولهم: لأن النبي عليه السلام معصوم، ممنوع على ما تقدم.

وإن سلمنا أنه معصوم فلا نسلم أنه يلزم من وصف الجملة بوصف وصف جزئها به.

فلئن قالوا: وإن لم يثبت الإرث، فقد ادعت أن النبي ﷺ نحلها بها، وشهد لها علي والحسن والحسين وأم أيمن فرد شهادة الكل ولم يقبل دعواها.

قلنا: أما أنه لم يقبل شهادة الحسن والحسين فلأنه رأى في اجتهاده امتناع قبول شهادة الولد لوالديه وهو رأي أكثر أهل العلم. ونصاب البينة لم يتم بعلي وأم أيمن. ولعله أيضا لم ير الحكم بالشاهد الواحد واليمين فإنه مذهب كثير من العلماء.

قولهم: إنه لم يوله شيئا في حال حياته، لا نسلم ذلك فإنه قد أمره على الحجيج في سنة تسع واستخلفه في الصلاة بالناس في مرضه وصلى خلفه. ويدل على ذلك ما روى جابر بن عبد الله أنه قال: "لما ثقل رسول الله ﷺ في مرضه حين أهل ربيع الأول أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وكان إن وجد خفة وأطاق الصلاة قائما خرج فصلى بنا قائما، وإن وجد خفة ولم يستطع القيام خرج وصلى جالسا وأبو بكر يصلي بالناس لأنه عليه السلام نهانا أن يصلي القاعد بالقائم".

وأيضا ما روى عن عبد الله بن زمعة أنه قال: «جاء بلال في أول ربيع الأول فأذن بالصلاة فقال رسول الله: «مروا أبا بكر يصلي بالناس»، فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام عمر فلما كبر وكان رجلا صيتا، فلما سمع رسول الله ﷺ صوته بالتكبير فقال: «أين أبو بكر، يأبي الله ذلك والمسلمون» ثلاث مرات، «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق القلب إذا قام في مقامك غلبه البكاء، فقال: «أنتن صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس».

وأيضا ما روى المغيرة عن إبراهيم أنه قال: «صلى النبي خلف أبي بكر». وأيضا ما روي عن ابن عباس أنه قال "لم يصل النبي عليه السلام خلف أحد من أمته إلا خلف أبي بكر، وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة".

وأيضا ما روي عن رافع بن عمرو عن أبيه أنه قال: "لما ثقل النبي ﷺ عن الخروج أمر أبا بكر أن يقوم مقامه فكان يصلي بالناس، وكان النبي ﷺ ربما خرج بعد ما يدخل أبو بكر في الصلاة فيصلي خلفه، ولم يصل النبي خلف أحد غيره غير ركعة صلاها في سفر خلف عبد الرحمن بن عوف".

ولا يخفى أن التولية في الصلاة تولية في القراءة وغيرها.

ثم وإن سلمنا مع الاستحالة أنه لم يوله شيئا في حياته فليس في ذلك ما يدل على أنه لم يكن أهلا للإمامة، فإنه لم ينقل أنه ولى الحسن شيئا في حال حياته وهو عندهم أهل للإمامة.

قولهم: إنه عزله عن قراءة سورة براءة، لا نسلم ذلك. بل المروي أنه ولاه الحج وردفه بعلى لقراءة سورة براءة.

وقوله: «لا يؤدي عني إلا رجل مني».

قلنا: إنما كان كذلك لأنه كان من عادة العرب أنهم إذا أرادوا نبذ العهود والمواثيق لا يفعل ذلك إلا صاحب العهد أو رجل من بني أعمامه، فجرى رسول الله ﷺ على سابق عهدهم.

قولهم: إنه عزله عن الصلاة، غير صحيح بدليل ما ذكرناه من الروايات الصحيحة، وكل ما يقال في ذلك فإنما هو من الأكاذيب التي لا تثبت لها عند المحصلين من أرباب النقل. بل الصحيح ما رواه الزهري عن أنس بن مالك أنه قال: "صلى أبو بكر صبيحة اثنتي عشرة، فخرج النبي ﷺ والناس في صلاة الصبح عاصبا رأسه حتى وقف على باب حجرة عائشة، فلما رآه الناس تحوزوا، وذهب أبو بكر يستأخر فأشار إليه النبي ﷺ أن صل فصلوا وعاج وانصرف".

قولهم: إن شرط الإمام أن يكون معصوما، فقد أبطلناه فيما تقدم.

قولهم: إنه قال: "إن لي شيطانا يعتريني" لا يمكن حمله على أنه كان به خبل مع ما بيناه من عقله وفضله وسياسته وطواعية الناس له. وإنما معناه: أنه يلحقني وساوس وذهول على سبيل التواضع وكسر النفس، وما من أحد إلا وله شيطان بهذا الاعتبار، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «وما منكم إلا وله شيطان يعتريه» قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا، إلا أن الله أعانني عليه» وليس المراد به إلا ما ذكرناه.

قولهم: إنه خالف أمر رسول الله، لا نسلم ذلك.

قولهم: إن عمر كان في جيش أسامة.

قلنا: غايته أنه كان داخلا فيه نظرا إلى عموم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك لإصلاح الدين، ولعله رأى أن المصلحة في إقامة عمر في المدينة أكثر للدين، وتخصيص العموم بالرأي جائز عنده وعلى أصول أهل الحق، كما في علم الأصول.

قولهم: إنه سمى نفسه خليفة رسول الله.

قلنا: إنما سمى نفسه بذلك لاستخلافه له في الصلاة كما قدمناه ولم يكن كاذبا فيه، ويمكن أن يقال إنه إنما سمى نفسه بذلك لأنه قام مقام النبي عليه السلام فيما كان بصدده من إقامة الدين وسياسة المسلمين بوجه شرعي وهو انعقاد الإجماع عليه، فإن كل من قام مقام شخص فيما كان ذلك الشخص بصدده فإنه يصح أن يقال: خلفه فيه، ولهذا يصح أن يقال: فلان خليفة فلان في العلم: أي أنه قائم مقامه فيه، وإن لم يكن ذلك باستخلاف من ذلك الشخص.

قولهم: إن شرط الإمام أن يكون أفضل الأمة، ممنوع على ما تقدم. وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أنه لم يكن أفضل.

وقوله: "وليتكم ولست بخيركم أقيلوني".

قلنا: أما قوله: "وليتكم ولست بخيركم" فيحتمل أنه أراد به التولية في الصلاة على عهد رسول الله ﷺ، ومن المعلوم أنه لم يكن خير قوم فيهم رسول الله، ويكون فائدة ذكر ذلك الاحتجاج على جواز توليته بعد الرسول بطريق التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويحتمل أنه أراد بقوله: "لست بخيركم" أي في العشيرة والقبيلة، فإن الهاشمي أفضل من القرشي، وإن لم يكن شرطا في الإمامة كما سبق. وعلى كل واحد من التقديرين يكون صادقا ولا ينافي أفضليته.

وأما طلبه القيلولة فليس فيه ما يدل على عدم الأهلية أيضا، ولا سيما مع اتفاق الأمة عليه وقولهم: "لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا" بل لعل ذلك إنما كان للفرار من حمل أعباء المسلمين والتقلد لأمور الدين أو للامتحان ليعرف الموافق من المخالف، أو غير ذلك من الاحتمالات. ومع ذلك فلا ينتهض ما ذكروه شبهة في نفي الاستحقاق للإمامة.

قولهم: شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة لا نسلم ذلك كما تحقق من قبل.

قولهم: إنه ما كان عالما بأحكام الشرع.

إن أرادوا به أنه ما كانت جميع أحكام الشرع حاضرة عنده على سبيل التفصيل فهذا مسلم. ولكن لا نسلم أن ذلك من خواص أبي بكر بل جميع الصحابة في ذلك على السوية.

وإن أرادوا به: أنه لم يكن من أهل الحل والعقد والاجتهاد في المسائل الشرعية والقدرة على معرفتها باستنباطها من مداركها، فهو ممنوع على ما تقدم. ولهذا فإنه ما من مسألة في الغالب إلا وله فيها قول معتبر بين أهل العلم.

قولهم: إنه أحرق فجاءة بالنار.

قلنا: إذا كان مجتهدا فكل مجتهد مؤاخذ بما أوجبه ظنه، وإذا كان قد رأى ذلك في اجتهاده كان هو حكم الله في حقه ولم يسبقه في ذلك إجماع قاطع ليكون حجة عليه، وما عدا ذلك من الأدلة فهي عرضة للتأويل والمعارضة.

قولهم: إن فجاءة كان يقول أنا مسلم عند الإحراق، لم يثبت. وإن ثبت فلعله ثبت عنده أنه كان زنديقا، والزنديق غير مقبول التوبة على رأي صحيح.

قولهم: إنه قطع يسار السارق.

قلنا: لعل ذلك كان من غلط الجلاد وأضيف إليه لأن أصل القطع [كان] بأمره. ويحتمل أنه كان ذلك في المرة الثالثة على ما هو رأي أكثر أهل العلم.

وأما وقوفه في مسألة الجدة ورجوعه إلى الصحابة في ذلك، فليس بدعا من المجتهدين أن يبحثوا عن مدارك الأحكام ويسألوا من أحاط بها النقل والإعلام. ولهذا رجع علي في حكم المذي إلى قول المقداد، وفي بيع أمهات الأولاد إلى عمر. وما دل ذلك على عدم علمه بأحكام الشريعة.

قولهم: إنه قال: "وددت أني سألت رسول الله ﷺ عن هذا الأمر فيمن هو".

قولنا: ليس ذلك شكا منه في صحة إمامته، بل إنما ذلك للمبالغة في طلب الحق ونفي الاحتمال البعيد، فإنه يحتمل أن تكون الإمامة في نفس الأمر منصوصا عليها، وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا مع جزمه في الظاهر بنفيه.

قولهم: إن عمر ذمه بما يقولوه من قصة عبد الرحمن بن أبي بكر، فهو من الأكاذيب الباردة، فإن عاقلا لا يشك في عقل عمر ومعرفته بالأمور، وهو فإنما كان يستدل على صحة إمامته بعهد أبي بكر إليه، فكيف يليق به مع هذا التظاهر بذمه والقدح فيه؟ فإن ذلك مما يوجب القدح في إمامته وصحة توليته.

قولهم: إنه أنكر عليه حيث لم يقتل خالد بن الوليد ولم يعزله بقتل مالك بن نويرة وتزوجه بامرأته.

قلنا: ليس في ذلك ما يدل على القدح في إمامة أبي بكر أيضا، ولا كان ذلك مقصودا لعمر لما تقدم، بل إنما أنكر على أبي بكر ذلك لغلبة ظنه بخطإ خالد، كما ينكر بعض المجتهدين على بعض، وليس في ذلك ما يدل على خطأ أبي بكر في ظنه عدم الخطأ في حق خالد.

وذلك لأنه قد قيل: إن خالدا إنما قتل مالكا لأنه تحقق منه الردة وتزوج بامرأته في دار الحرب لأنه من المسائل المجتهد فيها بين أهل العلم.

وقيل: إن خالدا لم يقتل مالكا، وإنما قتله بعض أصحابه خطأ لظنه أنهم ارتدوا، وأن خالدا قال للقوم لفظا يريد به تدفئة أسراهم، وكان ذلك اللفظ في لغة المخاطب معناه اقتلوهم، فظن ذلك الشخص أنه قد أمر بقتل الأسارى فقتل مالكا. ولم يبق إلا تزويجه بامرأته، ولعلها كانت مطلقة منه وقد انقضت عدتها.

وقوله عمر: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها" فلا ينبغي أن يحمل ذلك على أن بيعته لم تكن صحيحة ولا مجمعا عليها، وإلا كان ذلك قدحا في إمامة نفسه، كما تقدم، وهو غاية الخرق، فلا يليق نسبته إليه. بل المراد بقوله فلتة أي بغتة فجأة.

وقوله: "وقى الله شرها" أي شر الخلاف الذي كاد أن يظهر عندها بين المهاجرين والأنصار وقول الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير" لا أن البيعة كانت شرا. وذلك أنه قد يضاف الشيء إلى الشيء إذا ظهر عنده وإن لم يكن منه، كقوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} وأضاف المكر إلى الليل والنهار، وليس المكر منهما بل يظهر عندهما منه.

وقوله: "فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه" أي إلى مثل الخلاف الموجب لتبديل الكلمة كقول الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير".

قولهم: لا نسلم إجماع الأمة على عقد الإمامة له.

قلنا: دليله ما سبق. ومن تأخر عن بيعته مثل علي وغيره، لم يكن عن شقاق ومخالفة، وإنما كان لعذر وطرو أمر. ولهذا اقتدوا به ودخلوا في آرائه وأخذوا من عطائه وكانوا منقادين له في جميع أوامره ونواهيه، معتقدين صلاحيته وصحة بيعته، حتى قال علي: «خير هذه الأمة بعد النبيين أبو بكر وعمر» على ما تقدم ذكره.

وأما ما ذكروه من الأخبار الدالة على نقيض ذلك، فمن تخرصات الأعداء وتشنيعات السفساف [الأغبياء]. ولهذا فإنه لم ينقل شيء من ذلك على ألسنة الثقات وأرباب العدالة من الرواة.

قولهم: لا نسلم أن الإجماع حجة، سبق جوابه في قاعدة النظر.

كيف وأن منع كون الإجماع حجة بعد تسليم وقوعه، مما لا يستقيم على مذهب الإمامية، لأنه لا يتصور ذلك عندهم إلا وفيهم الإمام المعصوم، فلو لم يكن إجماع الأمة حجة لما كان قول المعصوم حجة، وهو خلاف مذهبهم.

قولهم: إنما يكون الإجماع حجة إذا لم يلزم منه مخالفة النص الجلي.

قلنا: لا نسلم وجود النص الجلي على ما تقرر قبل.

الفصل الخامس في إثبات إمامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

وطريق إثباتها أن أبا بكر «رضي الله ع» كان إماما حقا على ما تقدم ذكره، وقد رآه أهلا للإمامة ووضع الأمر فيه، فعهد إليه بالإمامة، وأجمعت الصحابة على جعل العهد طريقا في انعقاد الإمامة، فكانت إمامة عمر «رضي الله ع» منعقدة.

وبيان عهده إليه: أن ذلك مما شاع وذاع ونقل بالتواتر نقلا لا ريب فيه، هذا من جهة الجملة.

وأما من جهة التفصيل: فما روي عن أبي بكر «رضي الله ع» أنه استدعى في مرضه عثمان بن عفان وأمره أن يكتب العهد المشهور الذي كان يقرأ على المنابر وهو: "هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالعقبى، حالة يبر فيها الفاجر ويؤمن فيها الكافر، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن أحسن السيرة فذاك ظني به والخير أردت، وإن تكن الأخرى وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" إلى آخره.

(مطاعن الشيعة في إمامة عمر)

وأما أن الأمة من الصحابة أجمعوا على جعل ذلك طريقا في انعقاد الإمامة ما تواتر من اتفاقهم على مبايعته وصحة إمامته وتصرفاته في أموال المسلمين بالجمع والتفرقة ونصبه للولاة والحكام وقبول أوامره ونواهيه وطواعية الكل له فيما يتعلق بالأمور الدينية والدنيوية من غير نكير.

فإن قيل: لا نسلم إجماع الأمة على صحة العهد إليه، فإنه قد نقل أن طلحة وهو أحد العشرة قال لأبي بكر: "ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا" وذلك يدل على عدم موافقته.

ثم كيف يدعى الإجماع على ذلك مع ما علم من حال علي وأتباعه إنكار ذلك ودعواه أن صرف ذلك الأمر عنه ظلم وعدوان، وأنه المستحق له دون غيره، كما تقدم تقريره في إمامة أبي بكر.

والذي يدل على عدم إجماع الأمة على ذلك: أنهم لو أجمعوا لكان أهلا للإمامة، وهو لم يكن أهلا للإمامة وبيانه:

أنه غير ما كان مشروعا على عهد رسول الله ﷺ وبدل كثيرا من سنته، وكان جاهلا بالقرآن وعلم الشريعة، وشاكا في دين الإسلام وفى إسلام نفسه، ومات النبي ﷺ وهو عنه غير راض. ومن هذا شأنه لا يكون أهلا للإمامة.

أما أنه بدل وغير ما شرعه الرسول: فمن ثلاثة عشر وجها:

الأول: أنه صعد المنبر وقال: "أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: وهي متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل".

الثاني: أن الناس كانوا على عهد رسول الله ﷺ لا يسوغون الجمع بين الطلقات الثلاث في مجلس واحد حتى أن واحدا طلق امرأته ثلاثا على عهد رسول الله ﷺ فردها عليه وأمره بإمساكها وأن يطلقها للسنة، وعمر جوز ذلك. وأيضا: ما روي أن واحدا طلق زوجته بين يدي النبي ﷺ ثلاثا فغضب وقال: «أتلعبون بكتاب الله» اللعب بكتاب الله حرام، وعمر جوز ذلك.

الثالث: أن النبي ﷺ جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، على ما رواه ابن عباس، وعمر منع ذلك.

الرابع: أنه وضع العطاء للمجاهدين اتباعا لسنة الأكاسرة، وجعلهم يجاهدون بالأجرة، ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ﷺ.

الخامس: أنه اشترط الكفاءة في تزويج ذوات الأحساب، ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ﷺ.

السادس: أن النبي ﷺ سبى كثيرا من قبائل العرب فأعتق واسترق وأطلق، وقال عمر: "ليس على عربي ملك".

السابع: أنه نهى عن جلد العرب ورجمها وخالف في ذلك كتاب الله وسنة رسوله.

الثامن: أنه فضل في القسمة المهاجرين على الأنصار، والأنصار على غيرهم، والعرب على العجم، ولم يكن ذلك معهودا في زمن النبي ﷺ ولا زمن أبي بكر.

التاسع: أنه أجلى أهل نجران وخيبر عن ديارهم بعد إقرار النبي لهم فيها.

العاشر: أن السنة على عهد رسول الله ﷺ كانت جارية بأخذ دينار عن كل حالم من أهل العهد، فغيره عمر برأيه ووضع ذلك على أقدارهم.

الحادي عشر: أنه أمر بالتراويح في شهر رمضان، ولم تكن معهودة في زمن الرسول ولا [زمن] أبي بكر. أبدع ذلك.

الثاني عشر: أنه ولى معاوية بن أبي سفيان أمور المسلمين فخطب على منابرهم، وخالف أمر الرسول حيث قال: "إذا رأيتم معاوية على منبري هذا فاقتلوه".

الثالث عشر: أنه منع أهل البيت من الخمس وغير ما كان في عهد رسول الله ﷺ وخالف النص.

وأما أنه كان جاهلا بالقرآن: فما روي أنه لما قبض الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: "لا تتركون هذا القول حتى تقطع أيدي رجال وأرجلهم"، ولم يسكن إلى موت النبي ﷺ حتى تلا أبو بكر قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} وذلك يدل على أنه لم يكن عالما بالقرآن وآياته.

وأيضا ما روي أن رجلا أتاه فسأله عن معنى قول الله تعالى: {والذاريات ذروا}، وعن {والنازعات غرقا}، وعن {والمرسلات عرفا} فعلاه بدرته، ثم أمر به فحبس، فجعل يخرجه في كل يوم فيضربه خمسين جريدة مدة أيام، ثم نفاه إلى البصرة وأمر أهل البصرة أن لا يجالسوه ولا يعاملوه. ومن المعلوم أنه لم يكن في السؤال عن ذلك مما يوجب هذا الأمر، وإنما فعل ذلك ليسد عليه باب السؤال لأنه كان جاهلا بالقرآن وما يتعلق به.

وأما أنه كان جاهلا بالأحكام الشرعية: فيدل عليه أمور سبعة:

الأول: ما روي: "أن رجلا من اليهود أصيب مقتولا في سكك المدينة فخطب عمر بالناس، وناشدهم بالله، فقام إليه رجل معه سيف مضرج بالدم وقال: يا أمير المؤمنين، إن أخي خرج غازيا في جيش وخلفني في أهله أتعهدهم، وإني أتيت منزله فإذا أنا بهذا اليهودي قاعد مع أهله، فلم أملك نفسي أن دخلت إليه فضربته بهذا السيف حتى برد، فقال عمر: "اقتل وأنا شريكك". وذلك منه جهل بأحكام الشرع حيث أنه أهدر دما محرما، بمجرد قول المقر بالقتل، ولم يقم عليه الحد بقذف امرأة أخيه.

الثاني: أنه هم أن يرجم حاملا فقال له معاذ: "وإن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على حملها" فأمسك وقال: "لولا معاذ لهلك عمر".

الثالث: أنه هم برجم مجنونة، فقال له علي: القلم مرفوع عن المجنون فأمسك وقال: "لولا علي لهلك عمر".

الرابع: أنه كان ينهى عن المغالاة في مهور النساء حتى قامت إليه امرأة وقالت: قال تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} فقال: "كل الناس أفقه من عمر حتى النساء".

الخامس: أنه لم يكن على ثبت مما يقوله ويحكم به من الأحكام الشرعية. ولذلك روى عنه أنه قضى في الجد بتسعين قضية.

السادس: أنه لما شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ بالزنا وتقدم الرابع ليشهد، فنظر في وجهه وقال: يا سلح القرد ما تقول أنت؟ ثم قال: إنى لأرى وجه رجل ما كان الله ليفضح بشهادته رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ، ثم جهم ثم لعنه، فخلط في الشهادة وقال: رأيت منظرا قبيحا وسمعت نفسا عاليا، ولم أر الذي منه ما فيه، فقال عمر: الله أكبر، ما كان للشيطان أن يشمت برجل من أصحاب رسول الله ﷺ. ثم جلد الشهود الثلاث، وهم من أصحاب رسول الله ﷺ وأشمت بهم الشيطان، وعطل حدا، ولقن الشاهد المداهنة في شهادته، ولما كرر واحد من الشهود الشهادة بعد أن جلده أراد عمر أن يكرر الجلد عليه، فقال له علي عليه السلام: "إن جلدته رجمت صاحبك" فرجع عنه. وكل ذلك يدل على الجهل بأحكام الشرع والمداهنة في دين الله.

السابع: أنه أخبر بقوم يشربون الخمر فتسور عليهم فقالوا له: إنك أخطأت من ثلاثة أوجه: الأول أن الله تعالى نهى عن التجسس وقد تجسست، الثاني أنك دخلت بغير إذن، الثالث أنك لم تسلم. وذلك كله جهل بأحكام الشرع.

وأما أنه كان شاكا في دين الإسلام: فيدل عليه ما روي أن النبي ﷺ لما وادع يوم الحديبية قريشا وكتب بينهم وبينه كتابا، على أن من خرج من قبله إليهم لم يردوه ومن خرج من أهل مكة إلى النبي عليه السلام رده إليهم، فغضب عمر وقال لصاحبه: يزعم أنه نبي وهو يرد الناس إلى المشركين، ثم إنه أتى النبي ﷺ فجلس بين يديه، وقال له: ألست رسول الله حقا؟ قال: بلى، قال: ونحن المسلمون حقا، قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي ﷺ: "إنما أعمل ما يأمرني به ربي". فقال عمر يومئذ: والله ما شككت في دين الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك، ثم إنه قام من عند رسول الله ﷺ متسخطا لأمر الله وأمر رسوله غير راض بذلك. ثم إنه أقبل يمشي في الناس ويؤلب على رسول الله ويعرض به ويقول وعدنا برؤياه التي يزعم أنه رآها أنه يدخل مكة وقد صددنا عنها ومنعنا منها، ثم نحن الآن ننصرف، وقد أعطينا الدنية في ديننا، والله لو أن معي أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا. هذا وقد كان أعطى الأعوان يوم أحد وقيل له: قاتل، ففر بأعوانه فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال له: إنه قد بلغني قولك، فأين كنتم يوم أحد وأنتم تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم. وذلك كله يدل على الشك في دين الإسلام.

وأما أنه كان شاكا في إسلام نفسه: فيدل عليه ما روي عنه أنه سأل حذيفة بن اليمان -وقد كان عرّفه رسول الله المنافقين- وقال له: هل أنا من المنافقين. وذلك منه شك في إسلامه.

وأما أن النبي ﷺ مات غير راض عنه: فيدل عليه ما روي عن النبي ﷺ أنه يوم ثقل قال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لا تختلفوا بعده، وأغمي عليه، فقال عمر: إنه ليهجر، حسبنا كتاب الله وسنة رسوله، فلما أفاق قالوا: يا رسول الله، ألا نأتيك بالصحيفة والدواة التي طلبت لتكتب لنا ما لا نختلف بعده. فقال: الآن بعد ما قلتم يهجر. ولم يفعل. وذلك يدل دلالة قاطعة على عدم رضاه عنه.

(رد الآمدي على هذه المطاعن)

والجواب قولهم: إن طلحة خالف، لا نسلم أن طلحة كان منكرا لصحة العهد وصحة إمامة عمر، بل غايته أنه نقم ما كان يتوهمه من فظاظته وغلطته لا غير، ولهذا فإنه لم يزل متبعا له مقتديا به آخذا لعطائه وداخلا في رأيه معينا له في قضاياه. وذلك كله مع إنكار صحة إمامته بعيد.

وأما دعوى مخالفة علي وشيعته في ذلك: فجوابه بما سبق في إمامة أبي بكر «رضي الله ع».

قولهم: إنه لم يكن أهلا للإمامة لا نسلم ذلك، ودليله الإجمال والتفصيل. كما سبق في حق أبي بكر.

وأما ما ذكروه في الدلالة على إبطال أهليته فباطل من جهة الإجمال والتفصيل.

أما الإجمال: فهو أنه قد ورد في حقه من النصوص والأخبار ما يدرأ عنه ما قيل عنه من الترهات. وهي وإن كانت أخبارها آحادا، غير أن مجموعها ينزل منزلة التواتر، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إن من أمتي لمحدثين وإن عمر منهم"، وقوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». وقوله عليه الصلاة والسلام في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «هما سيدا كهول أهل الجنة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لو لم أبعث لبعثت يا عمر".

فإن قيل: في متن هذا الحديث ما يدل على ضعفه لأنه لو صح لكانت بعثة النبي ﷺ نقمة في حق عمر لا نعمة حيث أن ببعثته امتنع عليه الوصول إلى أعلى الرتب، وهي رتبة النبوة، وهو على خلاف قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

قلنا: أما أولا، فلا نسلم صيغة العموم في العالمين، كما عرف من أصلنا، وإن سلمنا صيغة العموم غير أنها مخصوصة بالكفار، فإنهم من العالمين ولم تكن رسالته رحمة لهم بل زيادة في النقمة عليهم، حيث كفروا به، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة لما تقدم تقريره. وإن سلمنا أنه يبقى حجة فلا نسلم أن رسالته ليست رحمة لعمر.

قولهم: لأنه فات عليه بسبب ذلك أعلى المراتب.

قلنا: وفوات أعلى المراتب عليه لا ينافي وجود أصل الرحمة بإرسال النبي في حقه.

وأيضا ما روي "أن جبريل نزل على محمد ﷺ وقال له: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: أقرئ عمر السلام وقل له: أهو راض عني كرضائي عنه"، وهذا وإن كانت صورته صورة الاستفهام غير أن معناه للتقرير، فلا يكون ممتنعا في حق الله تعالى كما في قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى}.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "عمر سراج أهل الجنة".

وقوله عليه الصلاة والسلام يوم بدر: "لو نزل من السماء عذاب، لما نجا منه غير عمر"، ولا منافاة بين هذا الخبر وبين قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} إذ الآية جازمة في انتفاء العذاب عنهم ورسول الله فيهم، وهو في الخبر معلق على نزوله، ونزوله عليهم ممتنع والرسول فيهم.

ومما يدل على علو رتبته وعظم شأنه وكرامته على الله عز وجل كما اشتهر وشاع وذاع أنه نادى وهو بالمدينة: يا سارية الجبل. وكان سارية في فارس فسمع صوته وانحاز إلى الجبل.

ومن ذلك ما ظهر له من حسن السيرة واستقامة الأمور وحمل الناس على المحجة البيضاء واستئصال أعداء الله تعالى وظهور كلمة الإسلام شرقا وغربا وفتح البلاد واستقرار العباد، مع خشونته في دين الله وتواضعه لعباد الله تعالى. ومن هو بهذه المنزلة من الله ورسوله وإجماع الأمة وله هذه المناقب والصفات ومتحل بهذه الفضائل والكمالات، فيبعد عند العاقل إصغاؤه إلى ما قيل في حقه من الأكاذيب والالتفات إلى ما لا أصل له عند الثقات من أهل الروايات. هذا من جهة الإجمال.

وأما التفصيل عما ذكروه:

أما تحريمه للمتعتين وحي على خير العمل إنما كان لأنه ظهر عنده المحرم لذلك بعد الجواز، والمجتهد تبع لما أوجبه ظنه.

وأما حكمه بجواز الجمع بين الطلقات الثلاث فلقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} نفى الحرج عند التطليق فيدخل فيه الجمع لأنه تطليق.

قولهم: إنه لم يكن ذلك مسوغا في عهد رسول الله ﷺ، لا نسلم ذلك. وما ذكروه من الخبر الأول فلم ينقل على ألسنة العدول. وبتقدير أن ينقله العدل فهو خبر واحد فلا يقع في مقابلة القرآن المتواتر. وهذا هو الجواب عن الخبر الثاني. كيف وأنه واقع في عين يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم فيها، فلا تكون حجة.

وبيان تطرق الاحتمال: أنه يحتمل أنه كان قد طلقها وهي حائض أو في طهر جامعها فيه، فكان غضبه عليه السلام لذلك، لا للجمع بين الطلقات.

وأما قول ابن عباس: إن النبي ﷺ جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر، ليس فيه ما يدل على الجمع من غير عذر أصلا لجواز أنه جمع مع المطر. وعلى هذا فلا يكون [عمر] مخالفا للرسول عليه السلام.

قولهم: إنه وضع العطاء للمجاهدين.

قلنا: ليس في ذلك ما يقدح فيه، فإنه لم يحرم ما كان في عهد رسول الله ﷺ ولا منع من تجويزه، وما فعله لم يكن محرما، وعدم فعله لا يدل على تحريمه، بل غايته أنه ترجح ذلك في نظره في زمانه ولم يكن ذلك راجحا في زمن النبي ﷺ فلذلك صار إليه.

قولهم: إنه اشترط الكفاءة في فروج ذوات الأحساب ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ﷺ. لا نسلم أنه لم يكن معهودا، ودليله ما روى عن النبي ﷺ أنه قال: «تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم»، أمر بذلك، والأمر للوجوب. وحكمته ما فيه من دفع العار اللاحق بها وبأوليائها، فكان في ذلك موافقا لقول النبي ﷺ لا أنه مخالف له.

قولهم: إنه قال: "لا يسترق العرب"، وهو مخالف لفعل النبي ﷺ.

قلنا: إن صح ذلك عنه، فلعله اطلع على ناسخ ومعارض لم يظهر عليه غيره.

قولهم: إنه خالف كتاب الله وسنة رسوله في منعه من جلد العرب ورجمها.

قلنا: كيف يصح دعوى ذلك وهو أول من جلد ولده حتى مات، وجلد شهود المغيرة بن شعبة وكانوا من العرب. ولو صح ذلك عنه لما كان ممتنعا لجواز ظهوره على معارض أو ناسخ في نظره كما سبق.

قولهم: إنه فاضل في القسمة بين الناس.

قلنا: ليس في ذلك أيضا ما يوجب القدح فيه، وأنه مع ما رآه في نظره واجتهاده من المصلحة في ذلك لم يحرم التساوي ولا أوجب التفاضل، فلم يكن في ذلك مخالفا لما قضى النبي ﷺ به من التساوي.

قولهم: إنه أجلى أهل نجران وخيبر عن ديارهم.

قلنا: لعله فعل ذلك لإخلالهم بشرط أقرهم النبي عليه السلام عليه وقد عرفه دون غيره، فلم يكن بذلك مخالفا للنبي عليه السلام بل موافقا له.

قولهم: إن العادة [كانت] جارية بأخذ دينار من كل حالم من أهل العهد.

قلنا: لم يكن ذلك التقدير بطريق الوجوب بل غايته أنه كان ذلك على وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك الوقت، ولعله رأى المصلحة بعد ذلك في الزيادة مع تقرير ما كان واجبا على عهد رسول الله ﷺ، وهو من أهل الاجتهاد فيه.

قولهم: إنه أبدع التراويح، لا نسلم، فإنه قد روي أن النبي ﷺ صلاها ليالي وصلوها معه، ثم تأخر وصلاها في بيته باقي الشهر حتى لا يظن أنها واجبة. ولم يثبت نسخها. فعمر فعل ما كان مسنونا، لا أنه فعل ما لم يكن.

قولهم: إنه خالف أمر الرسول في تولية معاوية، لا نسلم ما ذكروه عن النبي عليه الصلاة والسلام في حق معاوية، فلم يثبت ولم يصح. ولا سيما وهو كان كاتب الوحي وخال المؤمنين.

وبتقدير الصحة فلا نسلم أن عمر خالف أمر النبي ﷺ، فإنه قال: "إذا رأيتم معاوية على منبري هذا -بطريق التعيين- فاقتلوه"، وما لزم من توليته على إقليم الشام المنع من قتله، بتقدير أن يرى على منبر رسول الله ﷺ، حتى يكون مخالفا لأمره.

قولهم: إنه منع أهل البيت من الخمس.

قلنا: لعله اطلع في اجتهاده على معارض اقتضى ذلك وعارض به نص الكتاب. وبالجملة: فمخالفة المجتهد في الأمور الظنية لما هو ظاهر لغيره لا يوجب القدح فيه، وإلا لزم ذلك في كل واحد من المجتهدين المختلفين، وهو ممتنع.

قولهم: إنه كان جاهلا بالقرآن، لا نسلم ذلك.

وأما قصته في حالة موت النبي عليه السلام مع أبي بكر فذلك مما لا يدل على جهله بالقرآن، فإن تلك الحالة كانت حالة تشويش البال واضطراب الأحوال والذهول عن الجليات وخفاء الواضحات بسبب موت النبي ﷺ، حتى أنه نقل أن بعض الصحابة في تلك الحالة غمي وبعضهم خرس وبعضهم جن وبعضهم هام على وجهه وبعضهم صار مقعدا لا يقدر على القيام. فما ظنك بالغفلة عما قيل من الآيات.

وأما قصته مع السائل عن الآيات المذكورة: فإنما فعل به ما فعل لا لأنه كان جاهلا بمعانيها، وكيف يظن به ذلك وقد كان من بلغاء العرب وفصحاء أهل الأدب، ومن شاهد التنزيل وعرف التأويل وشواهد ذلك في أقواله، والمسائل المأثورة عنه كثيرة غير قليلة، مع أن عادة العقلاء غير جارية بأذى من سأل عما لا يعرف المسئول جوابه؛ بل إنما فعل به ذلك لأنه ظهر له منه أنه قاصد الإزراء والتنقص والامتحان دون قصد الفائدة. والإمام له تأديب من هو من هذا القبيل. ثم لو كان سؤاله عما لم يعرف عمر جوابه موجبا لضربه وأذاه، أو أن الموجب لذلك سد باب السؤال عليه، لكان فعل ذلك بالمرأة المعترضة عليه في منعه من المغالاة في مهور النساء وإفحامه بين الناس حتى قال: "كل الناس أفقه من عمر حتى النساء" أولى.

قولهم: إنه كان جاهلا بالأحكام الشرعية، إن أرادوا به أنه لم يكن قادرا على معرفتها بالاجتهاد فممنوع.

وإن أرادوا به أنها لم تكن عنده حاضرة مفصلة فمسلم، لكن ذلك مما لا يوجب القدح فيه إذ هو مشارك لجميع أئمة الاجتهاد في ذلك.

وما ذكروه من قصة [اليهودي] : فلا نسلم صحة قوله: "اقتل وأنا معك". وأما أنه لم يقم على المقر حد قذف المرأة فلأنها لم تطالب به، والمطالبة شرط فيه.

قولهم: إنه أهدر دم اليهودي بمجرد قول المقر، لا نسلم ذلك. بل غايته أنه لم يوجب عليه القصاص لأنه ما كان يرى قتل المسلم بالذمي. وإما أنه لم يوجب عليه الدية لأن شرط إلزامه بها مطالبة ولي القتيل ولم يطالب بها. وإما أنه لم يوجب عليه كفارة، فلعله كان لا يرى إيجاب الكفارة في القتل العمد.

وقولهم: إنه هم برجم حامل ومجنونة.

قلنا: لعله لم يعلم بالحمل والجنون.

وقوله: "لولا على لهلك عمر، لولا معاذ لهلك عمر" أي بسبب ما كان يناله من المشقة بتقدير العلم بحالهما بعد الرجم لعدم المبالغة في البحث عن حالهما.

قولهم: إنه كان ينهى عن المغالاة في المهور.

قلنا: لم يكن ذلك منه نهيا عما اقتضاه نص الكتاب على جهة التشريع، بل بمعنى أنه وإن كان جائزا شرعا فتركه أولى نظرا إلى الأمر المعيشي، لا بالنظر إلى الأمر الشرعي.

وقوله: "كل الناس أفقه من عمر" فعلى طريق التواضع وكسر النفس.

قولهم: إنه قضى في الجد بتسعين قضية.

قلنا: لأنه كان مجتهدا، وكان يجب عليه اتباع ما يوجبه ظنه في كل وقت وإن اتحدت الواقعة كما هو دأب سائر المجتهدين.

وأما قصته مع المغيرة بن شعبة فغير موجبة للطعن فيه أيضا.

أما قوله: ما كان الشيطان ليشمت برجل من أصحاب رسول الله: أي بوقوعه في معصية الزنا، فظاهر أنه غير موجب للقدح.

قولهم: إنه أشمت الشيطان بالشهود وهم من أصحاب رسول الله، إن أرادوا بذلك أنه أشمت الشيطان بهم بإقامة الحد عليهم مع وجوبه حيث صارت أقوالهم قذفا لنقصان نصاب الشهادة، ولم يجد لدفع ذلك عنهم سبيلا، فذلك غير موجب للقدح، وإلا كان الإمام منهيا عن إقامة الحدود الواجبة وهو محال. وإن أرادوا غير ذلك فهو ممنوع.

قولهم: إنه عطل حدا، لا نسلم ذلك لأن التعطيل يستدعي سابقة الوجوب، والحد على المغيرة لم يجب لنقصان نصاب الشهادة.

قولهم: إنه لقن الشاهد المداهنة في الشهادة، لا نسلم بل غايته أنه قال: إنى لأرى وجه رجل ما كان الله ليفضح بشهادته رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ، [معناه أني أتفرس فيه أنه ليس معه شهادة يفضح بها رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ]، وليس في ذلك ما يوجب التعليم بالمداهنة.

قولهم: إنه أراد أن يقيم الحد مرة ثانية على بعض الشهود حيث كرر الشهادة بعد إقامة الحد عليه، إنما كان كذلك لأنه ظن أنه قذف ثان غير القذف الأول، فلما قال له علي عليه السلام إن جلدته رجمت صاحبك، معناه: إن حددته لظنك أن ما صدر منه من الشهادة ثانيا غير الشهادة الأولى فقد كمل نصاب الشهادة على الزنا فيلزم أن ترجم المغيرة، فرجع عما ظنه. وليس ذلك بدعا من أحوال المجتهدين، كما رجع علي عليه السلام عن المنع من بيع أمهات الأولاد إلى بيعهن.

قولهم: إنه أخطأ في صورة الإنكار من ثلاثة أوجه، لا نسلم ذلك.

قولهم: إنه تجسس لا نسلم [ذلك] بل أخبر بذلك خبرا حصل له به الظن الموجب للإنكار.

قولهم: إنه دخل بغير إذن، مسلم، ولكن لا نسلم أن الاستئذان في مثل هذه الحالة واجب ليكون مخطئا بتركه، وذلك لأن إنكار المنكر واجب على الفور ويلزم من الاستئذان تأخيره فلا يجب.

قولهم: إنه لم يسلم.

قلنا: لأن السلام ليس واجبا بل غايته أنه يكون مندوبا، ومن ترك مندوبا لا يعد مخطئا، فإن استيعاب الأوقات بالعبادات مندوب، وتارك ذلك لا يعد مخطئا، وإلا كان النبي في كل وقت لا يؤدي فيه عبادة تطوعا مخطئا، وهو ممنوع.

قولهم: إنه كان شاكا في دين الإسلام، معاذ الله أن يكون ذلك منه مع ما بيناه من الفضائل الواردة في حقه وإجماع الأمة على إمامته وما ظهر منه من حسن سيرته وتصلبه في إقامة الدين وتورعه الذي ما سبقه ولا لحقه [فيه] أحد من المسلمين كما بيناه.

وما ذكروه عنه من تلك الأقوال الشنيعة والأحاديث الفظيعة فمن أكاذيب أعداء الدين وتشنيعات الملحدين، قصدا لهضم الإسلام في أعين الضعفاء بالقدح فيمن كان عماد الإسلام وبه قوام الإسلام ابتداء وانتهاء، بدليل قوله ﷺ: "اللهم أيد الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب".

قولهم: إنه [كان] شاكا في إسلام نفسه بسؤاله لحذيفة بن اليمان، فقد سبق جوابه.

قولهم: إن النبي عليه السلام مات وهو غير راض عنه، لا نسلم. وكيف يكون ذلك مع ورود ما ورد عنه في مناقبه وتحقيق فضائله، كما تقدم تحقيقه.

وأما قضية الدواة والصحيفة: فلا نسلم أن عمر كان القائل عن النبي عليه السلام أنه يهجر، بل الذي رواه ابن عباس أن القائل لذلك واحد من أهل البيت، يعني الحاضرين، ولم يعين عمر.

وإن سلمنا أن القائل لذلك عمر فمعناه أن الألم والوجع قد غلب على رسول الله وغيب صوابه فكيف يكتب، وليس في ذلك ما يوجب سخط النبي عليه.

الفصل السادس في إثبات إمامة عثمان بن عفان رضي الله عنه

ولا خلاف بين الناس أن عمر «رضي الله ع» جعل الإمامة شورى في ستة نفر، وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وقال: "لو كان أبو عبيدة بن الجراح في الأحياء لما ترددت فيه". وإنما جعلها شورى بين الستة المذكورين لأنه كان يراهم أفضل خلق الله في زمانهم وأن الإمامة غير صالحة لمن عداهم، وقال في حقهم: "هؤلاء مات رسول الله ﷺ وهو عنهم راض"، غير أنه تردد في التعيين، ولم يترجح في نظره واحد منهم على الباقين، وأراد أن يستظهر برأي غيره في التعيين.

ولهذا قال: "إن انقسموا اثنين فأربعة فكونوا مع الأربعة"، ميلا منه إلى الكثرة، وأنها أغلب على الظن، "وإن استووا فكونوا في الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف".

ولهذا فإنه لم يعين واحدا منهم للصلاة [عليه]، مخافة أن يقال مال إليه وعينه، بل وصّى بذلك إلى صهيب، بل كان يدعو للخليفة بعده ويقول: «أوصي الخليفة بعدي بالمسلمين خيرا أوصيه بالمساكين".

ثم اتفق المسلمون بعده على عثمان لاستجماعه شرائط الإمامة وتحقيقها على ما قررناه في حق أبي بكر.

وكان مع ذلك له من الفضائل المأثورة والمناقب المشهورة ما لا خفاء به. فإنه جهز جيش العسرة، وسبل بئر رومة، وزاد في مسجد رسول الله، وجمع الناس على مصحف واحد عندما كاد وقوع الاختلاف بين الناس في القرآن، واختيار النبي ﷺ له في تزويج ابنتيه، وقوله عليه السلام له لما ماتت الثانية: "لو كان لنا ثالثة لزوجناك".

وما اشتهر من كف النبي رجله عند دخول عثمان عليه، وقوله في حقه: «كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة».

وقوله ﷺ: "وزنت بأمتي فوضعت في كفة وأمتي في كفة فرجحت بأمتي، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بأمتي، ثم وضع عمر مكانه فرجح بهم، ثم وضع عثمان مكانه فرجح بهم، ثم رفع الميزان".

وكان مع ذلك كله من الزهاد العباد المتهجدين يختم القرآن في كل ليلة بركعة واحدة، حتى نزل في حقه قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} الآية. وقال فيه حسان بعد قتله في أبيات قصيدة مطولة:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

فإن قيل: كيف يمكن أن يقال: جعل الإمامة شورى بين الستة المذكورين [وعينهم] دون غيرهم مع أنه قدح في كل واحد منهم. ودليل ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: "رأيت أمير المؤمنين عمر مفكرا، فقلت له: يا أمير المؤمنين لو حدثتك بما في نفسك، قال عمر: كنت أصدقك: فقلت: كأنك تفكر فيمن يصلح لهذا الأمر بعدك، فقال: ما أخطأت ما في نفسي. فقال ابن عباس فقلت: يا أمير المؤمنين ما تقول في عثمان؟ فقال: هو كلف بأقاربه يحمل أبناء أبي معيط، على رقاب الناس فيحطمونهم حطم الإبل بنت الربيع فيدخل الناس من هاهنا فيقتلونه. وأشار إلى مصر والعراق، والله إن فعلتم ليفعلن والله [إن فعل ليقتلن]. قلت: فطلحة؟ قال: صاحب بأو وزهو وهذا الأمر لا يصلح لمتكبر. قلت: فالزبير؟ قال: بخيل يظل طوال نهاره بالبقيع يحاسب به عن الصاع من التمر، وهذا الأمر لا يصلح إلا لمنشرح الصدر. قلت: فسعد؟ قال: صاحب شيطان إذا غضب، وإنسان إذا رضي، [فمن للناس إذا غضب]، قلت: فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: والله لو وزن إيمانه بإيمان الخلق لرجح لكنه ضعيف. قلت: فعلي: فصفق إحدى يديه على الأخرى فقال: هو لها، لولا دعابة فيه، ووالله إن ولي هذا الأمر ليحملنكم على المحجة البيضاء". ثم وإن سلمنا أنه لم يقدح فيهم ولكن لا نسلم إجماعهم على عثمان، وكيف يجمعون عليه ولم يكن أهلا للإمامة.

وبيان عدم أهليته من اثني عشر وجها:

الأول: أنه آوى الحكم طريد رسول الله ﷺ ورده، ولم يرده رسول الله ﷺ ولا أبو بكر ولا عمر.

الثاني: أنه أشخص أبا ذر من الشام وضربه بالسوط ونفاه إلى الربذة، وكان حبيب رسول الله، من غير ذنب موجب لذلك، سوى اتباع هوى معاوية وشكواه منه.

الثالث: أنه أحرق المصاحف بالنار.

الرابع: أنه ضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعين من أضلاعه عند إحراق مصحفه وحرمه العطاء سنتين.

الخامس: أنه ضرب عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه.

السادس: أنه ولى أقاربه ورفع أبناء أبي معيط على رقاب الناس بعد نهي عمر له عن ذلك وكراهية الناس لهم.

السابع: أنه ولى على المسلمين من لا يصلح للولاية عليهم، كتوليته للوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن أبي سرح ومعاوية. أما الوليد فلأنه شرب الخمر وصلى بالناس سكرانا. وأما سعيد بن العاص فلأنه لما ولاه على الكوفة فعل ما أوجب أن أخرجه أهلها منها. وأما عبد الله بن أبي سرح فلأنه لما ولاه مصر أساء التدبير حتى شكاه أهلها وتظلموا منه. وأما معاوية فلما ظهر بسببه من الفتن وأحدث من العظائم.

الثامن: أنه كان يبذر أموال بيت مال المسلمين ويفرقها على أقاربه، حتى أنه نقل عنه أنه دفع إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف دينار.

التاسع: أنه كان مضيعا لحدود الله، ويدل عليه أنه لم يقتل عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان، وكان مسلما، وأنه أراد أن يعطل حد شرب الخمر في حق الوليد بن عقبة فحده علي عليه السلام وقال: "لا يعطل حد الله تعالى وأنا حاضر".

العاشر: أنه كاتب ابن أبي السرح سرا بخلاف ما كتب إليه جهرا على يد محمد بن أبي بكر وأمره بقتل محمد بن أبي بكر ولم يوجد منه ما يقتضي ذلك، حتى آل أمر ذلك إلى ما آل إليه من خذلان الصحابة له وتمالأ الناس على قتله وتركه ثلاثة أيام لا يدفن.

الحادي عشر: أنه حمى لنفسه حمى وأتم الصلاة في السفر.

الثاني عشر: أنه رقي على المنبر إلى حيث كان يرقى النبي عليه السلام مساويا له بعد نزول أبي بكر درجة ونزول عمر درجتين.

وقد نقم الخصوم عليه أشياء كثيرة لا حاصل لها يظهر فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى تفطن. فلذلك آثرنا الإعراض عنها مقتصرين على ما ذكرناه لكونه أشبه ما قيل.

(رد الآمدي)

والجواب:

قولهم: إن عمر قدح في كل واحد من الستة.

قلنا: [لم يكن] مقصوده بذلك القدح فيهم والتنقيص بهم بل لأنه لما اعتقد أنهم أفضل أهل زمانهم وجعل الإمامة منحصرة فيهم، أراد أن ينبه الناس على ما يعلمه من كل واحد من الستة مما يوافق مصلحة المسلمين، ويخالفها مبالغة في التحري والنصح للمسلمين ليكون اختيارهم لمن يختارونه أوفق لمصلحتهم.

قولهم: لا نسلم إجماع الأمة على عثمان.

قلنا: طريق إثباته فعلى نحو طريق إثبات إمامة أبي بكر على ما سبق.

قولهم: إنه لم يكن أهلا للإمامة.

قلنا: دليله الإجمال والتفصيل كما تقدم في حق أبي بكر «رضي الله ع».

قولهم: إنه آوى طريد رسول الله ورده من الطائف.

قلنا: إنما رده لأن عثمان كان قد استأذن رسول الله في رده فأذن له في ذلك. ولم يتفق رده في زمن النبي عليه السلام، حتى آل الأمر إلى أبي أبكر وعمر، فذكر لهما ذلك فطلبا معه شاهدا آخر على ذلك فلم يتفق حتى آل الأمر إلى عثمان فحكم فيه بعلمه.

قولهم: إنه أشخص أبا ذر من الشام وضربه بالسوط ونفاه إلى الربذة.

قلنا: إنما أشخصه من الشام لأنه بلغه أنه كان في الشام إذا صلى الجمعة وأخذ الناس في ذكر مناقب الشيخين، يقول لهم: "لو رأيتم ما أحدث الناس بعدهما، شيدوا البنيان ولبسوا الناعم وركبوا الخيل وأكلوا الطيبات"، وكاد يفسد بأقواله الأمور ويشوش الأحوال، فاستدعاه من الشام فكان إذا رأى عثمان قال: {يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم} الآية فضربه عثمان بالسوط على ذلك تأديبا، وللإمام ذلك بالنسبة إلى كل من أساء أدبه عليه وإن أفضى ذلك التأديب إلى إهلاكه، ثم قال له: إما أن تكف، وإما أن تخرج إلى حيث شئت، فخرج إلى الربذة غير منفي ومات بها.

قولهم: إنه أحرق المصاحف بالنار.

قلنا: هذا من أعظم مناقبه حيث أنه جمع الناس على كلمة واحدة ومصحف واحد، ولولا ذلك لاضطرب الناس واختلفوا كل اختلاف بسبب اختلاف المصاحف، فإنها كانت مختلفة غير متفقة.

قولهم: إنه ضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعيه.

قلنا: إن صح ضربه له. فقد قيل إنه لما أراد عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب الله طلب مصحفه منه فأبى ذلك مع ما كان عليه من الزيادة والنقصان فأدبه على ذلك.

قولهم: إنه حرمه العطاء سنتين.

قلنا: احتمل أن يكون ذلك لأنه رأى صرفه إلى من هو أولى منه أو أنه كان قد استغنى عنه.

قولهم: إنه ضرب عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه.

قلنا: إنما فعل به ذلك بطريق التأديب، لأنه روي أنه دخل عليه وأساء عليه الأدب وأغلظ له في القول بما لا يجوز التجري بمثله على الأئمة، وللإمام التأديب لمن أساء الأدب عليه وإن أفضى ذلك إلى هلاكه، ولا إثم عليه لأنه وقع من ضرورة فعل ما هو جائز له. كيف وأن ما ذكروه لازم على الشيعة حيث أن عليا عليه السلام قتل أكثر الصحابة في حربه.

فلئن قالوا: إنما قتلهم بخروجهم عنه وإفتآتهم عليه.

قلنا: فإذا جاز القتل دفعا لمفسدة الافتئات على الإمام جاز التأديب أيضا.

قولهم: إنه ولى أقاربه.

قلنا: لأنهم كانوا أهلا للولاية.

قولهم: كان ذلك مع كراهية الناس لهم.

قلنا: إن أرادوا به كراهية كل الناس فممنوع، وإن أرادوا كراهية بعض الناس فهذا مسلم لكن ذلك مما لا يمنع من التولية، وإلا لما ساغ للإمام نصب قاض ولا وال ضرورة أنه ما من وال ولا قاض إلا ولا بد من كراهية بعض الناس له.

قولهم: إنه ولى من لا يصلح للولاية. لا نسلم ذلك.

قولهم: إنه ولى الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر وصلى بالناس سكرانا.

قلنا: إنما ولاه لظنه أنه أهل للولاية، وليس من شرط الوالي أن يكون معصوما، ولا جرم لما ظهر منه الفسق عزله وحدّه. وعلى هذا يكون الجواب عن كل من ولاه وظاهره الصلاح وإن لم يكن في نفس الأمر صالحا.

قولهم: إنه كان يكثر في العطاء لأقاربه.

قلنا: لا نسلم أن الزيادة على القدر المستحق كان من بيت المال، بل لعل ذلك من ماله وما يختص به.

قولهم: إنه كان مضيعا لحدود الله. لا نسلم.

قولهم: إنه لم يقتل عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان.

قلنا: لأنه كان مجتهدا وقد قال: هذا القتل جرى في غير سلطاني فلا يلزمني حكمه. وذلك لأنه كان قتله قبل عقد الإمامة لعثمان [وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله].

قولهم: إنه أراد أن لا يقيم الحد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر، لا نسلم ذلك بل لعله أخرّ استيفاء الحد ليكون على ثقة من شربه الخمر، ولهذا فإنه حده بعد ذلك.

قولهم: إنه كاتب ابن أبي السرح سرا بما يخالف كتابه له جهرا وأنه أمره بقتل محمد بن أبي بكر. لا نسلم ذلك فإنه قد حلف أنه ما فعل شيئا من ذلك وما أمر بقتل محمد بن أبي بكر. ولا يخفى ما كان عليه من الديانة والأمانة، فنسبة التزوير في كتابه والكذب في ذلك إلى غيره ممن تمالأ على قتله من السفساف الأوباش أولى.

قولهم: إنه حمى لنفسه حمى وأتم الصلاة في السفر.

قلنا: أما الحمى فلم يختص هو به فإنه كان في زمن الشيخين.

فلئن قالوا: إلا أنه زاد في ذلك.

قلنا: لاحتمال زيادة المواشي والأمور المصلحية مما يختلف باختلاف الأوقات بالزيادة والنقصان.

وأما إتمام الصلاة في السفر فإنما كان لأن الإتمام هو الأصل، وغايته أنه عدل عن الرخصة إلى العزيمة.

قولهم: إنه رقي في المنبر إلى موضع رسول الله ﷺ وخالف الشيخين.

قلنا: إن النزول عنه ليس من الواجبات بل غايته أن يكون من المندوبات، ومن ترك مندوبا لا يعد مخطئا كما سبق تقريره.

الفصل السابع في إثبات إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ولا يخفى أن عليا كان مستجمعا للخلال الشريفة والمناقب المنيفة التي ببعضها يستحق الإمامة، وأنه اجتمع فيه من فضائل الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة، [حتى إذا قيل من أشجع الصحابة] وأعلمها وأعبدها وأزهدها وأفصحها وأسبقها إيمانا وأكثرها مجاهدة بين يدي رسول الله ﷺ وأقربها نسبا وصهارة منه، كان عليا عليه السلام معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة حميدة. ولذلك قال فيه رباني هذه الأمة عبد الله بن عباس وقد سأله معاوية عنه فقال: "كان والله للقرآن تاليا وللشر قاليا وعن المين نائيا وعن المنكر ناهيا وعن الفحشاء ساهيا وبدينه عارفا ومن الله خائفا وعن الموبقات صادقا وبالليل قائما وبالنهار صائما ومن دنياه سالما وعلى العدل في البرية عازما وبالمعروف آمرا وعن المهلكات زاجرا وبنور الله ناظرا ولشهوته قاهرا، فاق المسلمين ورعا وكفافا وقناعة وعفافا وسادهم زهدا وأمانة وبرا وحياطة، كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ومحل الإيمان ومنتهى الإحسان وملاذ الضعفاء ومعقل الحنفاء، وكان للحق حصنا منيعا وللناس عونا متينا وللدين نورا وللنعم شكورا وفى البلاء صبورا. كان والله هجادا بالأسحار كثير الدموع عند ذكر النار دائم الفكر في الليل والنهار نهاضا إلى كل مكرمة سعاء إلى كل منجية فرارا من كل موبقة، كان والله علم الهدى وكهف التقى ومحل الحجى وبحر الندى وطود النهي وكنف العلم للورى ونور السفر في ظلام الدجى، كان داعيا إلى المحجة العظمى ومستمسكا بالعروة الوثقى عالما بما في الصحف الأولى وعاملا بطاعة الملك الأعلى عارفا بالتأويل والذكرى متعلقا بأسباب الهدى حائزا عن طرقات الردى ساميا إلى المجد والعلى وقائما بالدين والتقوى وتاركا للجور والعدوى وخير من آمن واتقى وسيد من تقمص وارتدى وأبر من انتقل وسعى وأصدق من تسربل واكتسى وأكرم من تنفس وقرا وأفضل من صام وصلى وأفخر من ضحك وبكى وأخطب من مشى على الثرى وأفصح من نطق في الورى بعد النبي المصطفى فهل يساويه أحد وهو زوج خير النسوان فهل يساويه بعل، وأبو السبطين فهل يدانيه خلق، وكان والله للأشداء قتالا وللحرب شعالا وفى الهزاهز ختالا" هذا مع ما ورد فيه من الأخبار الصحيحة الدالة على فضيلته والآثار المثبتة على علو شأنه ورتبته كما قررناه وأوردناه فيما تقدم.

هذا فيما يتعلق بالصفات الموجبة لاستحقاق الإمامة.

وأما الوجه الثاني في إثبات إمامته، فإجماع الأمة عليه بعد مقتل عثمان واتفاقهم على استخلافه [وإمامته واتباعهم له في حله وإبرامه ودخولهم تحت قضاياه وأحكامه من غير منازع ولا مدافع. وذلك دليل على إثبات إمامته] لما سبق في إثبات إمامة أبي بكر «رضي الله ع».

(شبه الطاعنين في إمامة علي)

فإن قيل: سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كونه أهلا للإمامة. لكنه معارض بما يدل على عدمها، وبيانه من وجهين:

الأول: أنه مالأ على قتل عثمان، مع اتفاق الأمة على تحريم قتله. ويدل عليه قول علي وقد سئل: هل قتلت عثمان؟ قال: "الله قتله، وأنا معه". وروي أنه قال: "دم عثمان في جمجمتي هذه".

والذي يؤكد ذلك أن قتلة عثمان كانوا في عسكره وكان قادرا عليهم ولم يقتلهم بل كانوا عضاده وأنصاره وبطانته، ولذلك كتب إليه معاوية كتابا ومن جملته: "إنك رضيت بقتل عثمان لأنك قبحت ذكره وألبت عليه الناس حتى جاءوا من هنا ومن هاهنا، ولو أنك قمت على بابه مقام صدق ونهنهت عنه بكلمة رجعوا. والدليل عليه أن قتلته أعضادك وأنصارك وبطانتك، فإن قتلتهم عنه أجبناك وأطعناك، وإن لم فوالله الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في البر والبحر".

الثاني: أن الخوارج كفرته حيث أنه حكم الرجال ولم يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وقد قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.

[وإن] سلمنا أنه كان أهلا للإمامة لكن لا نسلم إجماع الأمة على عقد الإمامة [له]، ويدل عليه أمران:

الأول: أنه روي أن طلحة والزبير، وهما من أجلاء الصحابة ومن جملة العشرة المقطوع لهم بالجنة، تخلفا عن بيعته، وأنهما أخرجا من منزليهما مكرهين، وقد أحاط بطلحة أهل البصرة، وبالزبير أهل الكوفة، وجيء بهما إلى علي فبايعاه مع الكراهة. ولذلك نقل عن طلحة بعد ذلك أنه قال: "بايعته أيدينا، ولم تبايعه قلوبنا"، ولهذا فإنهما خرجا عليه وقاتلاه بالبصرة فقتلا.

الثاني: أن جماعة من سادات الصحابة وأجلائهم، كعبد الله بن عمر وسعد ومحمد بن مسلمة الأنصاري، لم يعاضدوه على أعدائه ولم يوافقوه فيما عرض له من مهامه. ولو كان ممن انعقدت إمامته لما تخلفوا عن نصرته ولما تأخروا عن معاضدته، كما كان حالهم بالنسبة إلى من تقدم من الخلفاء الراشدين، لعلمهم أن ذلك من الواجبات وأن التخلف عنه من المحرمات.

(رد الآمدي)

والجواب: قولهم: إنه مالأ على قتل عثمان. لا نسلم، وذلك فإنه قد روي عنه عليه السلام أنه قال: "والله ما قتلته، ولا مالأت على قتله"، وأنه أنفذ إليه الحسن والحسين يستأذنه في نصرته، فقال عثمان: "لا حاجة لي في ذلك"، وقوله: "والله قتله وأنا معه"، لم يرد به أنه أعان على قتله بوجه من الوجوه بل معناه: والله يقتلني معه، وإنما ذكر مثل هذا اللفظ الموجه إرضاء للفريقين ومداراة للحزبين حتى لا يختل عليه الأمر ويتشوش الحال.

وقوله: "دم عثمان في جمجمتي" أمكن أن يكون على طريق الاستفهام ومعناه: أتظنون أن دمه في جمجمتي، وأمكن أن يكون معلقا بشرط في نفسه وتقديره: إن لم أستوفه مع القدرة عليه، ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين إنكاره والحلف عليه.

قولهم: إنه كان قادرا على قتل من قتل عثمان ولم يقتلهم به.

قلنا: إنما لم يقتلهم لأنه قد روي أنه كان يقول: "ليقم قتلة عثمان" فيقوم أكثر عسكره. فرأى المصلحة في تأخير ذلك إلى وقت الإمكان، وأنه لو أقدم على ذلك لتشوش عليه الحال واضطرب الأمر وآل الحال في حقه إلى ما آل إليه حال عثمان. وأمكن أن يقال: إن قتلة عثمان كانوا جماعة، ولم يكن ممن يرى قتل الجماعة بالواحد، فإن ذلك من المسائل الاجتهادية، وهو فقد كان من أهل الاجتهاد.

قولهم: إن الخوارج كفرته بتحكيمه للرجال.

قلنا: لا نسلم أن ذلك موجب للتكفير، وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} لا نسلم العموم في صيغة من وما على ما عرف من أصلنا.

سلمنا العموم فيها، ولكن غاية الآية الدلالة على تكفير من لم يحكم بما أنزل الله، ولم يثبت أن عليا لم يحكم بما أنزل الله، بل غايته أنه حكّم، ولا يلزم من التحكيم الحكم ولا عدم الحكم بما لم ينزل الله ليكون كافرا.

قولهم: لا نسلم إجماع الأمة على إمامته.

قلنا: دليله ما سبق.

قولهم: إن طلحة والزبير تخلفا عن بيعته وأنهما لم يبايعاه إلا كرها، ليس كذلك، بل إنما بايعاه طوعا، وما ذكروه في الدلالة على الكراهية، فمن أكاذيب كتب السير والتواريخ التي لا ثبت لها عند المحققين.

قولهم: إنهما قاتلاه وخرجا عليه.

قلنا: أمكن أن يكون ذلك لا لبطلان إمامته بل لظنهما أنه كان متمكنا من قتل قتلة عثمان ولم يقتلهم، وظنا باجتهادهما أن ذلك مما يسوغ قتاله والخروج عليه، وهما مخطئان فيه، ولهذا نقل عنهما أنهما تابا عن ذلك قبل قتلهما.

قولهم: إن جماعة من سادات الصحابة لم يعاضدوه ولم ينصروه كعبد الله بن عمر وسعد وغيرهما.

قلنا: لم يتركوا ذلك لاعتقادهم أنه ليس بإمام، بل لأنهم استعفوه من الخروج معه لضعف كان بهم، وعلم علي عليه السلام ضعفهم عن ذلك فأعفاهم منه. وأيضا: فإنهم كانوا مجتهدين، وقد غلب على ظنونهم جواز التخلف عنه خوف الوقوع في الفتنة لما روى سعد عن النبي ﷺ أنه قال: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي»، فأطاعوه في الإمامة وخالفوه في جواز التخلف عنه لكونه من المسائل الاجتهادية.

وعلى ما ذكرناه من عقد الإمامة بالإجماع على نصب الإمام عند كونه مستجمعا لشرائط الإمامة جرت العادة واطردت السنة في إقامة كل إمام في عصره، وهلم جرا إلى عصرنا هذا.

وقوله عليه السلام: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا عضوضا»، ليس فيه ما يدل على أن الخلافة منحصرة في الخلفاء الراشدين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حيث أن مدة خلافتهم وقعت ثلاثون سنة على وفق ما نطق به النبي ﷺ وأنه لا خلافة بعد الخلفاء الراشدين؛ بل المراد به أن الخلافة بعدي على ما يجب من القيام بوظائف الإمامة واتباع سنتي من غير زيادة ولا نقصان ثلاثون سنة، بخلاف ما بعدها فإن أكثر أحكامها أحكام الملوك. ويدل على بقاء الخلافة مع ذلك أمران:

الأول: إجماع الأمة في كل عصر على وجوب اتباع إمام ذلك العصر، وعلى كونه إماما وخليفة متبعا.

الثاني: أنه قال: «ثم تصير ملكا» والضمير في قوله: تصير ملكا، إنما هو عائد إلى الخلافة إذ لا مذكور يمكن عود الضمير إليه غير الخلافة، وتقدير الكلام: ثم تصير الخلافة ملكا، حكم عليها بأنها تصير ملكا، والحكم على الشيء يستدعي وجود ذلك الشيء.

الفصل الثامن في التفضيل

أما الصحابة فقد اختلف فيهم. فذهب أهل السنة وأصحاب الحديث: إلى أن أبا بكر أفضل من عمر وعمر أفضل من عثمان، وعثمان أفضل من علي، وعلي أفضل من باقي العشرة، والعشرة أفضل من باقي الصحابة، والصحابة أفضل من التابعين، والتابعين أفضل ممن بعدهم، لقوله عليه السلام: «خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه».

وقال الروافض: علي عليه السلام أفضل الصحابة، وزادوا على ذلك وقالوا: إنه أفضل من النبيين بعد رسول الله.

ومن أصحابنا من قال: إن قلنا إنه تصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل فلا سبيل إلى القطع بتفضيل البعض على البعض. وإن قلنا: إنه لا تصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل فأبو بكر أفضل من باقي الصحابة لانعقاد الإجماع على صحة إمامته، ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهم السلام.

والذي عليه اعتماد الأفاضل من أصحابنا: أنه لا طريق إلى التفضيل بمسلك قطعي. وأما المسالك الظنية فمتعارضة، وقد يظهر بعضها في نظر [بعض] المجتهدين وقد لا يظهر. وقبل الخوض في تحقيق الحق وإبطال الباطل، لا بد من تحقيق معنى الأفضلية ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد.

فنقول: اعلم أن التفضيل بين الأشخاص قد يطلق ويراد به اختصاص أحد الشخصين عن الآخر: إما بأصل فضيلة لا وجود لها في الآخر لكونه عالما والآخر ليس بعالم، أو بزيادة فيها كونه أعلم. وقد يطلق ويراد به اختصاص أحد الشخصين بأنه أكثر ثوابا عند الله تعالى من الآخر.

وعلى هذا، فإن أريد بالتفضيل الاعتبار الأول فلا يخفى أن دليل ذلك غير مقطوع به لتعارض أدلته، وذلك أنه ما من فضيلة تبين اختصاص بعض الصحابة بها إلا وقد يمكن بيان مشاركة الآخر له فيها، وبتقدير أن لا يشاركه فيها فقد يمكن بيان اختصاصه بفضيلة أخرى معارضة لفضيلته، ولا سبيل إلى الترجيح بكثرة الفضائل لاحتمال أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح من فضائل. وذلك إما لزيادة شرفها في نفسها أو لزيادة كميتها. وبالجملة فما يقال في ذلك فالظنون فيه متعارضة.

وإن أريد بالتفضيل الاعتبار الثاني: فلا يخفى أن معرفة ذلك مما لا يستقل به العقل، وإنما مستنده الأخبار الواردة من الله تعالى في ذلك على لسان رسوله. والأخبار الواردة في ذلك كلها أخبار آحاد لا تفيد غير الظن. ومع ذلك فهي متعارضة كما سبق. وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادة الثواب قطعا، إذ الثواب بفضل من الله على ما سبق في التعديل والتجوير، وقد يثيب غير المطيع ولا يثيب المطيع، بل إن كان ولا بد فليس إلا بطريق الظن، وعلى هذا وإن قلنا بأن إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل فليس ذلك مم ينتهض الحكم فيه إلى القطع بل غايته الظن. فإجماع الأمة على إمامة أحد وإن كان قاطعا في صحة إمامته فلا يكون قاطعا في لزوم تفضيله.

ولا خلاف بين أهل الحق أن الأنبياء أفضل من الأئمة وسائر الأمم.

وما ذهب إليه [غلاة] الروافض من تفضيل علي على غير محمد ﷺ من الأنبياء فظاهر البطلان لإجماع سلف الأمة على أن الأنبياء أفضل من غيرهم، ولأن الأنبياء عليهم السلام هم المبلغون عن الله تعالى والداعون إليه والقائمون بشرائعه والمخاطبون من الله تعالى شفاها أو بالوحي أكثر نفعا للخلق من غيرهم، وغيرهم فغايته أن يكون تابعا لسنتهم وسالكا لطريقتهم، فلا يكون غير الأنبياء أفضل منهم. ومع ذلك فمحمد ﷺ أفضل النبيين والمرسلين وسيد الأولين والآخرين لانعقاد الإجماع من الأمة على ذلك. ولقوله عليه السلام لعائشة: "أنا سيد العالمين" ولما ورد فيه من الآثار والأخبار التي مجموعها ينزل منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحادا.

وأما زوجات النبي ﷺ، فقد ذهب أهل السنة وأصحاب الحديث إلى أن عائشة أفضل نساء العالمين لقوله عليه السلام: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على غيره من الطعام»، ولما روي عنه عليه السلام أنه قال: "كل مع صاحبه في الدرجة". ولا يخفى أن درجة النبي ﷺ أعلى من درجات كل الخلق من الرجال، فنسبة درجة عائشة إلى درجات غيرها من النساء كنسبة درجة النبي إلى درجات غيره، ولأنها كانت مختصة بخدمته وتحمل أثقاله وكلفته إلى حالة مماته فكانت أفضل.

وقال الشيعة: أفضل زوجات النبي عليه السلام خديجة، وأفضل نساء العالمين فاطمة ومريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون. أما فاطمة: فلقوله عليه السلام: "فاطمة سيدة نساء العالمين" وقوله: «فاطمة بضعة مني» ونسبة بعض النبي إلى بعض غيره كنسبة النبي إلى غيره، والنبي أفضل من غيره فبعضه أفضل من بعض غيره.

وأما مريم ابنة عمران: فلقوله تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا}.

وأما آسية امرأة فرعون: فلقوله تعالى: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله}، ولسعيها في تخليص موسى عليه السلام من عدو الله تعالى فرعون على ما قال تعالى حكاية عنها: {وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه} الآية.

والحق أن كل هذه الأدلة ظنية، ومع كونها ظنية فمتعارضة ولا سبيل إلى القطع بشيء منها، وإن غلب على ظن بعض المجتهدين منها شيء فلا حرج.

وأما تفضيل الأنبياء على الملائكة فقد سبق ما فيه.

الفصل التاسع فيما جرى بين الصحابة من الفتن والحروب

وقد اختلف أهل الإسلام فيما شجر بين الصحابة من الفتن.

فمنهم من أنكر وقوعها أصلا: وقال إن عثمان لم يحاصر ولم يقتل غيلة، وإن وقعة الجمل وصفين لم توجد، كالهشامية من المعتزلة.

ومنهم من اعترف بوجودها.

ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من سكت عن الكلام فيها ولم يقل فيها بتخطئة ولا تصويب، وهم طائفة من أهل السنة.

ومنهم من تكلم فيها. ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من خطأ الفريقين وفسقهما معا: كالعمروية أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة.

ومنهم من قضى بتخطئة أحد الفريقين. ثم اختلف هؤلاء. فمنهم من قال بتخطئة أحد الفريقين، وتفسيقه لا بعينه، من عثمان وقاتليه، وعلي ومقاتليه. وحكموا بأن كل واحد من الفريقين لو شهد على باقة بقل لم تقبل شهادته لأن الفاسق منهما واحد لا بعينه واحتمل أن يكون من شهد هو الفاسق. وهؤلاء هم الواصلية أصحاب واصل بن عطاء من المعتزلة.

ومنهم من قال بتخطئة أحد الفريقين بعينه: ثم القائلون بهذا المذهب لا تعرف خلافا [فيما] بينهم في تعيين التخطئة في قتلة عثمان ومقاتلي علي عليه السلام، وكذلك كل من خرج على كل من اتفق على إمامته لكن اختلفوا:

فمنهم من قال بأن التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق: كالقاضي أبي بكر.

ومنهم من قال بالتفسيق: كالشيعة وكثير من أصحابنا.

وإذ قد أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل، فاعلم أن من أنكر وقوع ما جرى من الحروب وشجر من الفتن فقد أنكر ما تواترت به الأخبار وعلم ضرورة، وكان كمن أنكر وجود مكة وبغداد.

وأما السكوت عن الكلام في التخطئة والتصويب: فإما أن يكون ذلك لعدم ظهور دليل التخطئة والتصويب، أو لقصد كف اللسان عن ذكر مساوئ المخطئ منهما، مع عدم إيجابه.

فإن كان الأول: فهو ممتنع لأن الإجماع إذا انعقد على إمامة شخص ولم يظهر منه ما يوجد حل قتاله وقتله، فالخارج عليه يكون مخطئا خطأ ظاهرا، وعثمان وعلي رضي الله عنهما بهذه المثابة، فكان الخارج عليهما مخطئا.

وإن كان الثاني: فهو حق ولا بأس به، بل وهو الأولى، فإن السكوت عما لا يلزم الكلام فيه أولى من الخوض فيه وأبعد عن الزلل، وبهذا قال بعض المعتبرين من الأوائل: "تلك دماء طهر الله سيوفنا منها، أفلا نطهر ألسنتنا".

وأما تخطئة الفريقين فممتنع لما حققناه من انعقاد الإجماع على صحة إمامة الإمام مع عدم ظهور ما يقتضي تخطئته، وبه يظهر فساد قول من قال بتخطئة أحد الفريقين لا بعينه. فلم يبق إلا تخطئة أحدهما بعينه وهو الخارج على الإمام.

ثم لا يخلو إما أن يكون الخارج على الإمام مجتهدا متأولا [أو لا].

فإن كان الأول: فالظاهر أن خطأه لا ينتهي إلى التفسيق لأنه مجتهد، والمخطئ في المجتهدات ظاهرا لا يكون فاسقا.

وإن كان الثاني: فلا خلاف في فسقه، والله أعلم.

الأصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الفصل الثاني: فيمن يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن لا يجب عليه.

الفصل الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد اختلف أهل الإسلام في ذلك.

فذهب بعض الروافض إلى أن ذلك لا يجب ولا يجوز إلا بأمر الإمام العدل واستنابته كما في إقامة الحدود.

وذهب من عداهم إلى وجوبه سواء أمر به الإمام أم لم يأمر. ثم اختلف هؤلاء.

فذهبت الأشاعرة وأهل السنة: إلى وجوبه شرعا لا عقلا.

وذهب الجبائي وابنه: إلى وجوبه عقلا. لكن اختلفا، فقال الجبائي: بوجوبه مطلقا فيما يدرك حسنه وقبحه عقلا. وقال أبو هاشم: إن تضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفع ضرر عن الآمر والناهي وكان بحيث لا يندفع عنه إلا بذلك فهو واجب وإلا فلا.

وأما أنه لا يتوقف على استنابة الإمام: فقد احتج عليه أهل الحق بالإجماع من الصحابة.

ودليله: أنا نعلم علما ضروريا بنقل التواتر أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي ﷺ لم يزل أفرادهم وآحادهم يستقل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير توقف على إذن الإمام وأمره في ذلك.

وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم ولم يوجد له نكير. فكان ذلك إجماعا منهم على جوازه. فإنه لو لم يكن جائزا لكان فعله منكرا. ومع شيوعه فالعادة تحيل من الأمة تواطئهم على عدم إنكاره. ولو وقع الإنكار لاستحال في العادة أن لا ينقل مع توفر الدواعي على نقله. وحيث لم ينقل دل على أنه لم يقع. وقد استقصينا تقرير ذلك ودفع كل ما يرد عليه من الإشكالات في كتاب شرح الجدل وغيره من كتبنا. وعلى هذا لم يزل الناس في كل عصر وزمان إلى وقتنا هذا.

وأما أنه واجب: فدليله الإجماع والنصوص.

أما الإجماع: فهو أن القائل قائلان:

قائل يقول بالوجوب مطلقا من غير توقف على استنابة الإمام. وقائل يقول بالوجوب متوقفا على استنابة الإمام.

فقد وقع الإجماع على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجملة. وإذا بطل بالدليل توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على استنابة الإمام بقي الإجماع على الوجوب بحاله.

وأما النصوص: فمن جهة الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

أمرنا بالإصلاح وبإزالة [المنكر] وهو البغي، والأمر ظاهر في الوجوب.

أما أنه أمر فلأنه أتى بصيغة أفعل وهي إذا تجردت عن القرائن كانت بإطلاقها أمرا.

ولهذا فإنه إذا قال السيد لعبده افعل كذا فإنه بتقدير تجرد هذه الصيغة عن القرائن يعدها أهل العرف أمرا. ويقال: أمره، والسيد آمر، والعبد مأمور.

وأيضا: فإن أهل اللغة قسموا الكلام إلى أقسام.

فقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وغيره. والأمر هو قول القائل لغيره افعل. والنهي لا تفعل.

وأما أن الأمر للوجوب فلأن السيد لو أمر عبده بأمر ولم يمتثل له فإنه يستحق اللوم والتوبيخ والعقوبة من السيد عرفا، ولا معنى للوجوب إلا هذا. وإذا ثبت وجوب الأمر بالمعروف في هذه الصورة لزم وجوبه في باقي الصور ضرورة انعقاد الإجماع على عدم التفضيل بين صورة وصورة.

وأيضا: قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} أمر بأن يكون من الأمة من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر. والأمر ظاهر في الوجوب لما عرف.

وأما السنة:

فما روى عن النبي ﷺ أنه قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم».

تواعد على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو دليل الوجوب.

وأيضا ما روي عنه ﷺ أنه قال: "لتنكرن المنكر ولتأمرن بالمعروف أو ليدعكم الله لا يبالي من غلب" ووجه الاحتجاج كما سبق.

وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «أي قوم رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقابه» وذلك دليل الوجوب.

وأيضا: ما روى عنه عليه السلام أنه قال: «لا تقدس أمة لا يأخذ قويها لضعيفها الحق من قويها».

والأخبار في ذلك كثيرة بحيث ينزل مجموعها منزلة التواتر.

وأما الوجوب العقلي فقد أبطلناه فيما تقدم.

الفصل الثاني فيمن يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن لا يجب عليه

واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مكلف عالم بأن ما يأمر به معروف وينهى عن منكر، واجب قطعا إذا لم يقم به غيره وكان يرجى حصول ما أمر به وزوال ما نهى عنه من غير بحث وتجسس، وإلا فلا. وفيه قيود سبعة:

الأول: أن يكون مكلفا: أي أهلا لخطاب التكليف، وذلك لأن الوجوب من الأحكام الثابتة بخطاب التكليف، والتكليف لغير من له أهلية التكليف محال، كما في الحيوانات العجماوات والصبيان والمجانين.

الثاني: أن يكون عالما بأن ما يأمر به معروفا أو ينهى عنه منكرا، وإلا كان مكلفا بما لا يعلمه وهو تكليف بما لا يطاق. وليس من شرطه أن يكون فقهيا عالما، فإن من المعروف والمنكر ما يستقل بمعرفته الخواص والعوام كوجوب الصلاة وصوم رمضان مع عدم العذر وحرمة الزنا والقتل عمدا عدوانا. فالعامي يجب عليه في ذلك ما يجب على الفقيه لاستوائهما في معرفة كون ذلك الشيء معروفا ومنكرا. وأما ما لا يستقل بمعرفة كونه معروفا ومنكرا غير الفقيه فلا يجب الأمر به والنهي عنه على غير الفقيه.

ولا يشترط فيه أيضا أن يكون عدلا، بل يجب عليه وإن كان فاسقا حتى أنه يجب على متعاطي الكأس النهي عنه للجلاس، وذلك لأن النهي عن المنكر واجب والانكفاف عن المحرم واجب. والإخلال بفعل أحد الواجبين لا يمنع من وجوب فعل الواجب الآخر، فإنه لو كان عدلا كان أولى نظرا إلى غلبة إمضاء أمره ونهيه إلى المقصود، وعلى حسب الزيادة والنقصان في الورع والتقشف والاستكانة لله تعالى تكون الزيادة والنقصان في الأولوية والإفضاء إلى المقصود.

وعلى هذا: فالفاسق إذا شاهد ما يوجب مغرما أو عقوبة وكان مستور الحال ظاهر العدالة وجب عليه أداء الشهادة دفعا للظلامة لكونه صادقا، وإن كان ظاهر الفسق فلا لعدم إفضائه إلى المقصود.

الثالث: أن يكون ما يأمر به واجبا وما ينهى عنه محرما، إذ الأمر بما ليس واجبا والنهي عما ليس محرما لا يكون واجبا.

الرابع: أن يكون ذلك مقطوعا به، كوجوب الصلاة وتحريم الخمر.

وأما إذا كان مجتهدا فيه، كشرب النبيذ والنكاح بلا ولي والبسملة في أول كل سورة وغير ذلك من المسائل الاجتهادية، فالإنكار فيه غير واجب إذ ليس إنكار أحد القولين من القائل بنقيضه أولى من العكس.

الخامس: إذا لم يقم به غيره. وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس واجبا على الأعيان بل وجوبه وجوب كفاية، فإذا قام به في كل ناحية من تحصل الكفاية به سقط عن الباقين، وإلا أثم الكل إذا توافقوا على الترك. وإن توافقوا على الأمر والنهي أثيب كل واحد منهم ثواب الواجب. غير أن من انفرد بالعثور على منكر فليس له تركه اعتمادا على إنكار الغير له إذ ربما لا يطلع عليه ذلك الغير.

السادس: أن يرجى حصول ما أمر به وزوال ما نهي عنه. وأما إذا علم أن ذلك مما لا يفضي إلى المقصود فلا يجب بل يستحب إظهارا لشعائر الإسلام.

السابع: أن يكون ذلك من غير بحث وتجسس، للكتاب والسنة:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {ولا تجسسوا} ولأن التجسس سعي في إظهار الفاحشة وهو محرم لقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم}.

وأما السنة: فقوله عليه السلام: "من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه على رءوس الأشهاد الأولين والآخرين". ولأنه قد علم من حال النبي ﷺ أنه كان يأمر بالستر وترك التعرض لإشاعة الفاحشة لقوله: «من أتى من هذه القاذورات شيئا فليسترها بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله».

فإن قيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إما أن يكون معلقا بما مضى أو بالمستقبل. الأول محال لأن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو التغيير، وتغيير الماضي محال. وإن كان الثاني، فوقوعه غير متيقن، وقد قلتم: لا بد وأن يكون مقطوعا به.

قلنا: المراد إنما هو القسم الثاني. واشتراط القطع إنما كان عائدا إلى وجوب المأمور به وتحريم المنهي عنه، لا القطع في وقوعه.

وعلى هذا: فالمأمور به والمنهي عنه، وإن كان مستقبلا، لا يشترط فيه أن يكون مقطوعا بوقوعه بل أن يكون مظنون الوقوع بما يدل عليه من الأمارات والعلامات الدالة على استمراره والدوام عليه، ويمكن أخذ ظن الوقوع في المستقبل قيدا ثانيا في الوجوب.

وبما انتهينا إليه هاهنا تم الكتاب والله المسئول وهو المأمول أن يجعله نافعا في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى وأن يصلي على محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه أعلام الدين. الحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغ من تأليفه في منتصف شهر ذي الحجة من شهور سنة اثنتي عشرة وستمائة وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

هامش

  1. في اسناده محمد بن على الجرجاني وهو المتهم به، ومحمد بن شجاع الثلجي وهو كذاب. كما في اللآلئ المصنوعة 1 328
  2. المستدرك 3 70 وضعفه الذهبي في التلخيص