الرئيسيةبحث

الأخلاق والسير في مداواة النفوس/الصفحة الأولى

الأخلاق والسير في مداواة النفوس فصل في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة
المؤلف: ابن حزم


  • فصل في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة
  • لذة العاقل بتمييزه ولذة العالم بعلمه ولذة الحكيم بحكمته ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم من لذة الآكل بأكله والشارب بشربه والواطيء بوطئه والكاسب بكسبه واللاعب بلعبه والآمر بأمره . وبرهان ذلك أن الحكيم العاقل والعالم والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا كما يجدها المنهمك فيها ويحسونها كما يحسها المقبل عليها وقد تركوها وأعرضوا عنها وآثروا طلب الفضائل عليها وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر .
  • إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك وانتهيت في آخر فكرتك - باضمحلال جميع أحوال الدنيا-إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك وإما بذهابك عنه ولا بد من أحد هذين الشيئين إلا العمل لله عز وجل فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل . أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس وإنك به معظم من الصديق والعدو وأما في الآجل فالجنة.
  • تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً وهو طرد الهم فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم و مطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم فمن مخطيء وجه سبيله ومن مقارب للخطأ ومن مصيب وهو الأقل [من الناس في الأقل من أموره , والله أعلم .

فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه إذ في الناس من لا دين له فلا يعمل للآخرة وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت , وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه على وجوده ككثير من الأنبياء عليهم السلام ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة. وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقد المال على اقتنائه وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة , وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها. وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرده عن نفسه.

فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان - الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح - على السعي له فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة , وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها. وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن نفسه هم فوتها وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه. وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب , وأكتنز من أكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.

وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها وذهاب ما يوجد منها والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً سوء شح بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس أو طعن حاسد أو اختلاس راغب أو اقتناء عدو مع الذم والإثم وغير ذلك , ووجدت للعمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة ووجدت العامل للآخرة أن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب وزايد في الغرض الذي إياه يقصد , ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤاخذاً بذلك فهو غير مؤثر في ما يطلب . ورأيته إن قصد بالأذى سر وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبداً وغيره بخلاف ذلك أبداً فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف .

  • لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق وفي حماية الحريم وفي دفع هوانٍ لم يوجبه عليك خالقك تعالى وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى .
  • لا مروءة لمن لا دين له .
  • العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة .
  • لإبليس في ذم الرياء حبالة , وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء, فإذا اطرقك منه هذا , فامض على فعلك , فهو شديد الألم عليه .
  • باب عظيم من أبواب العقل والراحة، وهو اطراح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هذا باب العقل والراحة كلها , من قدّر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسره فقد صار مسروراً بالكذب وهذا نقص شديد , وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص , وإن كان بباطل وبلغه فصبر اكتسب فضلاً , زائداً بالحلم والصبر وكان مع ذلك غانماً لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل فيحظى بها في دار الجزاء أحوج ما يكون إلى النجاة , بأعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون , وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه فكلامهم وسكوتهم سواء وليس كذلك ذمهم إياه لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم أو لم يبلغه. ولولا قول رسول الله ﷺ في الثناء الحسن : {ذلك عاجل بشرى المؤمن} , لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل أكثر من رغبته في المدح بالحق ولكن إذا جاء هذا القول فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل، فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح .
  • ليس بين الفضائل والرذائل ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط. فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات وليس هاهنا إلا صنع الله تعالى وحفظه .
  • طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة وطالب الشر متشبه بالشياطين وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع وطالب اللذات متشبه بالبهائم وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه ولكنه يشبه الغدران التي في الكهوف في المواضع الوعرة لا ينتفع بها شيء من الحيوان إلا ما قل من الطائر , ثم تجفف الشمس والريح مابقي منها , كذلك المال الذي لاينفق في معروف .
  • العاقل لا يغتبط بصفه يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة , فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منهن وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً ومن سر بحمله , الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته فأي فخر وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه. لكن من قوى تمييزه واتسع علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس .
  • قول الله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . جامع لكل فضيلة لأن نهي النفس عن , الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبي وعن الطبع الشهواني لأن كليهما واقع تحت موجب الهوى فلم يبق إلا استعمال النفس للنطق الموضوع فيها الذي به بانت عن البهائم والحشرات والسباع .
  • قول رسول الله ﷺ للذي استوصاه : {لَا تَغْضَبْ} , وأمره ﷺ {أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه} جامعان لكل فضيلة لأن في نهيه عن الغضب ردع النفس ذات القوة الغضبية عن هواها وفي أمره ﷺ أن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه ردع النفس عن القوة الشهوانية وجمع لأزمة العدل الذي هو فائدة النطق الموضوع في النفس الناطقة .
  • رأيت أكثر الناس إلا من عصم الله تعالى وقليل ما هم يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً من نيات خبيثة يضبون عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب له وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه. وإنهم لو صفوا , نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم ولا قتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه أو يمنع كونه . فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عليها وأي سعد أعظم من التي دعونا إليه ؟ .
  • إذا حققت مدة الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط . وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن فمن أضل ممن يبيع باقياً خالداً بمدة هي أقل من كرّ الطرف .
  • إذا نام المرء خرج عن الدنيا ونسي كل سرور وكل حزن فلو رتب نفسه في يقظته على ذلك أيضاً لسعد السعادة التامة .
  • من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم. ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم. ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم .