► | ☰ |
اللهم يا مجيب السائلين وغياث المستغيثين وناصر السالكين مسالك الهدى وخاذل الهائمين في مهاوي الردى الناكبين عن الصراط السوي، نحمدك على أن هديتنا للاتباع وحفظتنا عن الزيغ والابتداع وأيدتنا بالدليل الجلي والبرهان القطعي. ونصلي ونسلم على من أنزلت عليه القرآن والزمن من الشدة قد فرغ وبعثته مؤيدا بالمعجزات الباهرات لينذر الحاضرين ومن بلغ، فصدع بالحكم الشرعي ونصرته بالرعب قبل المشرفي؛ وعلى صاحبه المخصوص بفضيلة {ثاني اثنين} ومن هو في القبر مضاجعه كهاتين، هذا وقد كانا رفيقين إذ الزمان جاهلي؛ وعلى عمر الذي كانت الشياطين تفر عن ظله وتتفرق هيبة من أجله إذا سمعوا خفق نعله هربوا من الأحوذي؛ وعلى عثمان مصابر البلاء من أيدي الأعداء الذي تستحي منه ملائكة السماء، سلام الله تعالى على ذلك الحيي؛ وعلى علي الذي ملئ علما وخوفا وعاهد على ترك الدنيا فأوفى ونحن والله نحبه أوفى من حب الرافضي؛ وعلى آله وسائر أصحابه وأزواجه وأتباعه الدارجين على منهاجه ما أحرق الشهاب كل شيطان مارد غوي.
أما بعد، فيقول أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه: بينما علماء العراق الذين طار صيتهم إلى سائر الآفاق يجرون أذيال أفكارهم في رياض العلوم ويجرون جريال أنظارهم في حياض سرها المكتوم -زمن خلافة مجد ونظام الدين والدنيا ومجدد جهات العدالة العليا ستر الله تعالى في العالم الأكبر والمعير من بعض أنوار جلاله وجماله قرصي الشمس والقمر رب السطوات التي لا تبارى والغرمات التي غرت أن تجارى ظل الله تعالى المبسوط في بسيطته خليفته الأعظم في خليقته السلطان بن السلطان بن السلطان محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان، جعل الله تعالى حبات قلوب أعاديه منثورة بانتظام نظام مواليه ولا زالت رؤوس الملوك خاضعة لجلاله وأوابها الأيابي مقيدة بين يدي أقواله وأفعاله- إذ وفد عليهم من بلاد لاهور وافد وارتاد في محافل رياضهم رائد، فحط رحله حيث تحط الرجال رحالها وأنزل أصله حيث تبلغ النفوس آمالها، وذلك حضرة فرع الشجرة القادرية وعرف الغالية المحمدية نقيب الأشراف وفخر آل عبد مناف واحد الأحدين وثالث القمرين السيد السند ومقيم الأود الطائر مجده بجناحي البازالي النسر الطائر المقتفي آثار أجداده نجوم الهدى والسادة الأكابر السيد محمود أفندي ابن الحاج زكريا لا زال ثرى مواطئ أقدامه كحلا لعين الثريا. ثم أبرز له ألوكة من علماء لاهور وفقهم الله تعالى لما فيه اغتنام الأجود مشتملة على الاستفتاء عن حكم مسئلة وقعت هنالك وتشعبت في تحقيقها على ما نقل المذاهب والمسالك وتلخيصها: ما قول علماء الدين وأئمة المسلمين ومرشدي الطريقة وجامعي الشريعة والحقيقة -من ساكني دار السلام ومجاوري حضرت علم الأعلام الغوث الرباني والهيكل الصمداني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا وإياكم بره- في جماعة ظهروا في بلادنا يزعمون أنهم من أهل السنة ويسبون الصحابة «رضي الله ع» خصوصا من خاض لجة الفتنة كمعاوية بن أبي سفيان ومن وافقه في ذلك الشأن، ألهذا أصل أصيل أم هو حديث خرافة من جملة الأباطيل انتهى. ومعها أيضا ورقة فيها أجوبة حقة قد حررها علماء أجلاء ومشايخ فضلاء ورقم كل منهم وراء أجوبة اسمه وختم تحته ليصدق ختمه رقمه، فعرض النقيب جميع ذلك لدى حضرت الوزير الخطير والبدر المنير الفائز بالرياستين الدينية والدنيوية والحائز الحكمتين العلمية والعملية.
ثبت الجنان من وثباته ** وثباته يوم الوغى أسد الشرى
يقظ يكاد يقول عما في عنيد ** ببديهة أغنته أن يتفكرا
بعفو عن الدين العظيم تكرما ** ويصدّ عن قول الخفي متكبرا
بين الملوك الغابرين وبينه ** في الفضل ما بين الثريا والثرا
جالب قلوب أهل العراق بأنواع الإحسان على محبة سلطانه والمتمثل لأوامره الخاقانية في سره وإعلانه المتفضل على العلماء بما يضيق عن نطاق الحصر والمحب للأولياء قدست أسرارهم في المسمى والجهر جابر كسرى والمنعم علي بما لا يؤدى معشار عشر حقه وإن كنت أبا الثناء شكري مولاي علي رضا باشا لا زال له الرضاء غطاء والعلى فراشا، فأرسلها أيده الله تعالى إلى بعض علماء عصره والفضلاء المعول عليهم في مصره ليرى ماذا يجيبون وبم يرجع المرسلون. فرجعوا بعد برهة لرد من ارتكب السبب فعصى برسالتين إحداهما لعمري سيف والأخرى عصا. ثم أمرني بالجواب وتحرير الكلام في ذلك الباب مع ما أنا فيه الاشتغال بالتفسير وضيق وقتي عن منادمة سمير، فلم أر بدا من الامتثال لأمر من أوجب طاعته الملك المتعال متذكرا ما ورد عن النبي المختار ﷺ: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» فشرعت في تأليف هذه العجالة وترصيف هذه الرسالة معتمدا على فيض أكرم مسئول، مرتبا لها على مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول.
المقدمة في تعريف الصحابي
فأقول أما المقدمة ففي تعريف الصحابي: اعلم أن الصحابي في اللغة كما قال شيخ الإسلام القاضي زكريا من صحب غيره ما يطلق عليه اسم الصحبة وإن قلت وهو نسبة إلى الصحابة وهي إحدى المصادر التي جاء فيها فتح التاء وكسرها وعد منها غير قليل أبو محمد بن قتيبة وتكون جمع صاحب وقيدها ابن الأثير بالفتح ثم قال: ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا، والذي يقتضيه كلام بعض أجلة اللغويين أن الصحابة مصدرا كان أو جمعا يجوز في فائه الفتح والكسرة ولعله المعول عليه والنسبة على تقدير المصدرية من نسبة الشخص إلى من هو منهم وذلك على ما قيل بعد تنزيل الصحابة منزلة أسماء القبائل كتميم وقيس أو الأحياء كقريش وثقيف وإلا فالقياس صاحبي فليفهم. واختلفوا في تعريفه اصطلاحا فذهب الأكثرون ومنهم المحدثون والإمام أحمد وبعض الأصوليين وبعض أصحاب الإمام الشافعي عليه الرحمة إلى أنه من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان. وبعضهم قال من رأى النبي بدل من اجتمع بالنبي. ويدخل على الأول مثل ابن أم مكتوم «رضي الله ع» ولا يدخل على الثاني إلا بتمحل، لكن يخرج عنه من رآه من بعينه حيث لا يعد ذلك اجتماعا عرفا. وقد عد أئمة الحديث هذا الصنف في الصحابة، ويمكن أن يقال أن عدهم ذلك على سبيل التوسع لشرف منزلة النبي ﷺ. فأعطوا كل من رآه حكم الصحبة كما صرح بذلك أبو المظفر بن السمعاني وأيده كما قال الشمني بما رواه شعبة عن موسى السيلاني قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب النبي ﷺ غيرك؟ قال: قد بقي ناس من الأعراب قد رأوه وأما من صحبه فلا. انتهى. ففرق «رضي الله ع» بين من له صحبة ومن له رؤية. والظاهر أن المراد من قولهم من اجتمع بالنبي من اجتمع به حال نبوته. ويشهد له أنهم لم يترجموا في الصحابة من ولد له ﷺ قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم وترجموا من ولد بعدها كإبراهيم. وعليه يخرج زيد بن عمرو بن نفيل جد سعيد أحد العشرة الذي قال فيه ﷺ إنه يبعث أمة وحده، لأنه اجتمع معه ﷺ قبل النبوة ومات قبل البعثة على الصحيح بخمس سنين على الدين الحنفي. لكن ذكره أبو عبد الله بن منده والبغوي وغيرهما في الصحابة، ولعله مبني على التوسع أيضا. وقد كان «رضي الله ع» يعلم قرب بعثة نبي لكن لم يعلم أنه نبينا محمد "عليه الصلاة والسلام بخصوصه. فقد أخرج الفاكهي أنه قال من حديث: وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي. ومن الغريب نقل الجلال الدواني القول بنبوته وأيده بعضهم بأنه كان يستند إلى الكعبة ثم يقول: هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل غيري. وأنت تعلم أن هذا التأييد أضعف من دين ماني. ولم نر نحن هذا النقل عن أحد في الكتب المعول عليها في هذا الباب لغير الجلال والظن فيه حسن. وقولهم مؤمنا حال من فاعل اجتمع، فيخرج من اجتمع به "عليه الصلاة والسلام غير مؤمن. وقولهم ومات على الإيمان يخرج من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات -والعياذ بالله تعالى- كافرا كربيعة بن أمية وعبد الله بن جحش وعبد الله بن خطل. ثم ظاهر الكلام أن تخلل الردة لا يضر في إطلاق وصف الصحبة، وهو كذلك عند جمع سواء كان الرجوع إلى الإسلام في حياته ﷺ أم بعد وفاته، لأن أشعث بن قيس ارتد بعد النبي "عليه الصلاة والسلام ثم رجع إلى الإسلام بين يدي الصديق الأكبر «رضي الله ع» وزوّجه أخته. ولم يختلف أحد من المحدثين في عده في الصحابة «رضي الله ع» وقال بعض: يشترط عدم تخلل الردة. والمراد من قولهم من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان الاستمرار على الإيمان لا اعتبار الطرفين فقط. وهذا الخلاف على ما قيل ناشئ من الخلاف في أنه هل الردة وحدها تحبط العمل أو هي بشرط الموت عليها. فمن قال بالأول لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ذهب إلى الثاني، ومن ذهب إلى الثاني لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} الآية وهي مقيدة للآية المطلقة لا أنها على التوزيع قال بالأول. وقد حققنا ذلك في تفسيرنا روح المعاني. وهل يدخل من اجتمع به ﷺ ميتا قبل أن يدفن كما وقع لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر إن صح محل نظر، ورجح الحافظ العسقلاني عدم الدخول. واستشعر بعضهم من التعريف أنه لا بد أن يكون من يطلق عليه الصحابي مميزا عاقلا، فلا يدخل الأطفال الذين حنّكهم ﷺ كعبد الله بن الحارث بن نوفل وغيره. ويمكن أن يقال بدخولهم بناء على أن الاجتماع أعم من أن يكون بالنفس والاختيار أو بالغير والاضطرار، وأن الإيمان أعم من أن يكون حقيقة أو حكما أو تبعا، كذا قيل. وأنت تعلم أنه لا ينبغي تعميم الإيمان بحيث يشمل إيمان المنافقين لأنهم ليسوا بصحابة قطعا ولا عبرة بإيمانهم وإن أجريت عليهم أحكام المؤمنين من الدفن في مقابرهم ونحو ذلك. وذهب جمهور الأصوليين إلى أن الصحابي من طالت صحبته مدة يثبت معها إطلاق الصاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدارها، وقيل: مقدار ستة أشهر، وقال ابن المسيب: مقدار سنة، وإلا فيشترط الغزو. وقيل: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته أو حفظت روايته أو ضبط أنه غزى معه ﷺ أو استشهد بين يديه "عليه الصلاة والسلام وقيل غير ذلك. والأصح المختار عند المحققين هو الأول فليحفظ.
الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة عدول
وأما الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة «رضي الله ع» عدول
اعلم أن أهل السنة -إلا من شذ- أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم. فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نفلا وفرضا واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضا، فإذا أبصرتهم رأيت قلوبا صحيحة وأجساما مرضى وعيونا قد ألفت السهر فما تكاد تطعم غمضا؛ بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تتقضى، ولله تعالى در من قال فيهم شعرا:
لله در أناس أخلصوا عملا ** على اليقين ودانوا بالذي أمروا
أولاهم نعما فازداد شكرهم ** ثم ابتلاهم فارضوه بما صبروا
وفوا له ثم وافوه بما عملوا ** به سيوفهم يوما إذا نشروا
ومن ارتكب منهم من يخالف بعض هذه الأوصاف لم يمت إلا وهو أنقى من ليلة الصدر غير مدنس بوصمة ولا مصر على سيئة. قال الخطيب في الكفاية: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. وسرد في ذلك آيات كثيرة وأحاديث شهيرة وتخصيص عموماتها خلاف الأصل ولا دليل عليه وجعل السبب دليلا مما لا يلتفت إليه فقد قالوا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا لبقي كثير من الأحكام الشرعية بلا دليل وأشكل قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} كما لا يخفى. ومن سبر الآيات والأخبار والسير والآثار وجد أن الله تعالى قد عدّلهم وأعدّ لهم من الكرامة والزلفى ما أعد لهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى إلى تعديل أحد من الخلق. و"إذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معيقل". ولو لم يرد من الله سبحانه ورسوله ﷺ شيء من ذلك لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرتهم الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطعَ بتعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون إثرهم. وهذا مذهب كافة العلماء ممن يعتمد قوله. ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي عليه الرحمة أنه قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول "عليه الصلاة والسلام حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة «رضي الله ع» والمنتقصون لهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى» انتهى. وقال المازري في شرح البرهان: في الصحابة عدول وغير عدول ولا نقطع إلا بعدالة الذين لازموه ﷺ ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأما عدالة كل من رآه "عليه الصلاة والسلام يوما أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف فلا نقطع بها بل هي محتملة وجودا وعدما. وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب. وتعقبه الشيخ صلاح الدين العلائي بأنه قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحوريث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه "عليه الصلاة والسلام ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يدر مقدار إقامته من أعراب القبائل، وفي ذلك ما فيه. وذهبت الشيعة إلى أن أكثر الصحابة غير عدول؛ بل روى سليم بن قيس الهلالي منهم في كتاب وفات النبي ﷺ عن ابن عباس عن أمير المؤمنين وعن غير واحد عن الصادق: أن الصحابة ارتدوا بعد النبي ﷺ إلا أربعة، وفي رواية عن الصادق: إلا ستة. وسبب ارتدادهم بزعمهم تقديمهم أبا بكر «رضي الله ع» على علي كرم الله تعالى وجهه في الخلافة وعدم عملهم بحديث الغدير الذي هو نص عندهم في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد رسول الله ﷺ بلا فصل، وثبوته بزعمهم ضروري عند جميع الصحابة من حضر الغدير منهم ومن لم يحضر، والخلافة أخت النبوة ولا فرق بين نافي النبوة عن النبي ﷺ ونافي الخلافة عن علي كرم الله تعالى وجهه في أن كلا منهما كافر، وكذا لا فرق بين الإخلال بشأن النبي "عليه الصلاة والسلام والإخلال بشأن الأمير كرم الله تعالى وجهه فإن كلا منهما كفر، وقد جحد الجميع وأخلوا إلا الأربعة أو الستة بشأنه «رضي الله ع» فكفروا، والعياذ بالله تعالى.
ولا يخفى أن هذا المذهب في غاية البطلان ونهاية الفساد لأنه يلزم عليه عدم إمكان إثبات مطلب ما من المطالب الدينية، لأن الأدلة عندهم أربعة: كتاب وخبر وإجماع وعقل. وأما الكتاب فنقلته هم الصحابة المرتدون -وحاشاهم- بزعمهم وهم قد حرّفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره وغيروا ترتيبه وفعلوا فيه ما فعلوا، والقرآن الحق غير موجود في أيدي الناس وإنما الموجود في أيديهم المصحف المحرف الذي هو أشد تحريفا من التوراة والإنجيل ونقلته أسوء حالا من نقلتهما.
فقد روى الكليني عن سالم بن مسيلمة قال: قرء رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس ما يقرؤه الناس فقال أبو عبد الله: مه اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله تعالى على حده.
وفي كتاب الكافي للكليني وغيره أمثال هذه الرواية. وحينئذ يجوز أن تكون الأحكام المذكورة في هذا القرآن منسوخة أو مخصصة بما أسقط منه أو بعضها منسوخا وبعضها مخصصا ويجوز أن يكون كل منها مبدلا مغيرا بما يخالفه.
وأما الخبر فحاله عندهم أشهر من نار على علم وهو أيضا لا بد له من ناقل، فهو إما من الشيعة أو من غيرهم، ولا اعتبار لغيرهم عندهم أصلا لأن منتهى وسائطهم في رواياتهم المرتدون المحرفون لكتاب الله تعالى المعادون المعاندون للأمير كرم الله تعالى وجهه وسائر أهل بيته.
وأما الشيعة فيقال لهم: كون الخبر حجة إما لأنه قول المعصوم أو وصل بواسطة المعصوم الآخر وعصمة أحد بعينه لا تثبت إلا بخبر لأن الكتاب ساكت عن ذلك وهذا لا يصح التمسك به والعقل عاجز، والمعجزة على تقدير الصدور أيضا موقوفة على الخبر لأن مشاهدة التحدي ورؤية المعجزة لم تتيسر للكل، والإجماع إنما يكون أيضا حجة بدخول المعصوم، مع أن في نقل إجماع الغائبين لا بد من الخبر وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره أو يخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح. وأيضا كون الخبر حجة متوقف على نبوة نبي أو إمامة إمام وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت هو. والتواتر ساقط من حين الاعتبار عندهم لأن كتمان الحق والزور في الدين قد وقع من نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وخبر الآحاد غير معتبر في هذه المطالب بالإجماع. وأما الإجماع فبطلانه أظهر لأن ثبوته فرع ثبوت الشرع وإذا لم يثبت الأصل لا يثبت الفرع. وأيضا كون الإجماع حجة عندهم ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه. فالمدار على قول المعصوم، وثبوت المعصوم قد علم حاله. وأيضا دخول المعصوم في الإجماع لا يثبت إلا بخبر وقد مر آنفا ما فيه. وأما العقل فالتمسك به إما في الشرعيات أو في غيرها. أما في الشرعيات فيرجع الأمر إلى القياس وهم لا يقولون بحجيته. وأما في غيرها فيتوقف على تجريده من شوائب الوهم والألف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب ونحوه، والعلم بخلوصه مما يخل يتوقف على مرتبة معصوم كنبي وإمام يحكم بذلك، ولا يمكن أن يكون الحاكم العقل إذ يعود الكلام في خلوص حكمه عما ذكر ويلزم ما يلزم، على أن الكلام في الأمور الدينية لا غير والعقل الصرف عاجز عن معرفتها تفصيلا. نعم يمكن العقل ذلك إذا كان مستمدا من الشريعة كأن يكون أصل الحكم مأخوذا من الشارع فحينئذ يقاس عليه. ولما كان القياس باطل عند هذه الفرقة تعذرت تلك المعرفة وبطل حكم العقل. وقد يقال إنهم لو التزموا صحة القياس لا يجديهم نفعا لأنه يبقى الكلام في طريق ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه، وقد انسد عليهم كل طريق كما لا يخفى.
والحاصل أن القول بارتداد كل الصحابة «رضي الله ع» بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا أربعة أو ستة مع ما ورد فيهم وعنهم ولهم مما لا يقدم عليه أحد ممن يؤمن بالله تعالى ورسوله ﷺ واليوم الآخر. ولظهور شناعة هذا القول وبطلانه عدل عنه بعض الشيعة زاعما ارتداد كبار الصحابة وعلمائهم فقط كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق «رضي الله ع» وأما العوام منهم فهم معذورون في اتباعهم باقون على إيمانهم، بل إن من العلماء من هو معذور أيضا لكونه مستضعفا في الأرض لا يقدر على شيء ولكن بشرط إنكاره في قلبه ما فعله القوم وكراهته لهم وموالاته للأمير كرم الله وجهه. ولا يخفى أنه من البطلان بمكان أيضا لما فيه من تكذيب الآيات الدالة على أنهم أفضل المؤمنين وأنه سبحانه قد رضي عنهم وهم قد رضوا عنه، ومنزلة الرضا غاية قصد العابدين. وحديث الغدير كما أوضحناه في التفسير لا يدل على الخلافة على الوجه الذي يزعمه الشيعة أصلا، وإلا لزم الطعن بالأمير كرم الله وجهه بترك الانتهاض لطلب حقه كما انتهض له حين انتهت النوبة إليه عندنا بعد وفاة عثمان «رضي الله ع». والتقية التي يزعمونها مما لا وجه لارتكابها أولا وتركها أخيرا. ودعوى أنه أمر بالأمرين حسبما وقعا مما لا دليل عليها. والشيعة بيت الكذب. وقد أبطلنا القول بالتقية في روح المعاني وفي النفحات القدسية بما لا مزيد عليه. ومن الناس من قال: على فرض دلالة ذلك الخبر على الخلافة إنا لا نسلم كفر من ارتكب خلافه، غاية ما في الباب كونه مرتكب الكبيرة ومرتكب الكبيرة ليس بكافر إلا عند الخوارج.
وأنت تعلم أن الشيعة بنوا القول بالكفر على أن الخلافة أخت النبوة فالإخلال بأمرها كالإخلال بأمر النبوة، فحيث كان الإخلال بأمر النبوة كفرا كان الإخلال بأمرها كذلك، وذلك غير مسلم ودون إثباتها خرط القتاد. والحق الحقيق بالقبول أن القوم «رضي الله ع» لم يرتكبوا في ذلك مكروها فضلا عن حرام فضلا عن كبيرة. ويشهد لذلك حسن معاملة الأمير كرم الله وجهه للخليفتين الأولين والامتثال لأمرهما والنصح لهما والأدب معهما في حياتهما وبعد موتهما.
فقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الشيعي في آخر كتاب طوق الحمامة في مباحث الإمامة عن سويد بن غفلة أنه قال: مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر «رضي الله ع» فأخبرت عليا كرم الله تعالى وجهه وقلت: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، فقال: نعوذ بالله سبحانه من ذلك رحمهما الله تعالى، ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته فجعلت دموعه تتحدر عليها وجعل ينظر للبقاع حتى اجتمع الناس ثم خطب فقال: «ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ﷺ ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا برئ مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله ﷺ بالوفاء والجد في أمر الله تعالى، يأمران وينهيان ويعاقبان، لا يرى رسول الله ﷺ كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حبا لما يرى من عزمهما في الله عز وجل، فقبض وهو عنهما راض والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ﷺ وأمره في حياته وبعد موته فقبضا على ذلك رحمهما الله تعالى، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق وحبهما قرب وبغضهما مرد» إلى آخر الحديث وفي رواية: «لعن الله تعالى من أضمر لهما إلا الحسن الجميل»
فانظر وفقك الله تعالى هذا المدح العظيم من الأمير كرم الله وجهه على منبر الكوفة ومقر الخلافة الذي يجعل احتمال التقية كرماد اشتدت به الريح، هل يبقى معه القول بارتدادهما -والعياذ بالله تعالى- وارتداد أتباعهما. سبحانك هذا بهتان عظيم.
وفي نهج البلاغة وهو من أصح الكتب عند الشيعة أن عليا كرم الله وجهه قال: «لله تعالى بلاء أبي بكر، لقد قوم الأود وداوى العلل وأقام السنة، ذهب نقي الثوب أصاب خيرها وأبقى شرها، أدى لله تعالى طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدى فيها الضال ولا يستيقن المهتدي»
وقد حذف مؤلفه حفظا لمذهبه "أبا بكر" وأثبت بدله لفظ "فلان" وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر. ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال بعضهم: هو هو، وقال آخرون: هو عمر «رضي الله ع». وأيا ما كان فهو مما يُلقم الشيعة الحجر. وغاية ما أجابوا عنه أن ذلك كله لاستجلاب قلوب الناس فإنهم كانوا يميلون إلى الشيخين غاية الميل. ولا يخفى على المنصف أن فيه نسبته الكذب إلى المعصوم كرم الله تعالى وجهه لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس منه حاصلا وفيه تضييع غرض الدين بالمرة. وحاشا ثم حاشا الأمير من ذلك. وفي الصحيح أن «مدح الفاسق غضب الرب» فما ظنك بالكافر. وأيضا أية ضرورة تلجيه إلى هذه التأكيدات والمبالغات، والاستجلاب الذي زعمه الشيعة يحصل بدونها والعبارات شتى وهو «رضي الله ع» من أفصح الناس. وأيضا في هذا المدح تضليل الأمة وترويج الباطل وذلك محال من الإمام، بل الواجب عليه بيان حقيقة الحال لمن بين يديه بموجب ما صح: «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس» وأجاب بعض الإمامية بأن المراد من فلان رجل من الصحابة مات على عهد رسول الله ﷺ واختار هذا الراوندي، وهو مما يقضى منه العجب فهل كان يمكن لغيره "عليه الصلاة والسلام في زمنه الشريف تقويم الأود ومداواة العلل وإقامة السنة، وهل يعقل أن رجلا مات على عهد رسول الله ﷺ وترك الناس فيما ترك ورسول الله ﷺ قائم يصدع بالحق ويهدي إلى صراط مستقيم. هذا لعمري الخرق العظيم والخطب الجسيم. وأجاب بعض آخر منهم بأن الغرض من هذا الكلام مجرد التعريض بذم عثمان «رضي الله ع» وهو أيضا مما يتعجب منه لأن التعريض كان ممكنا بدون ارتكاب هذا الأسلوب. وأيضا ما الداعي للتعريض دون التصريح وهو في الكوفة بين شيعته وأنصاره.
وجاء أيضا في النهج عن الأمير كرم الله وجهه في وصف الصحابة مطلقا: «كانوا إذا ذكر الله تعالى همت أعينهم حتى تبل ثيابهم وماروا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب»
والأخبار في ذلك من طرق الشيعة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه كثيرة، ومن طريق الجماعة أكثر، ولو آمنوا بها من هذا الطريق لذكرناها.
وجاء مدح أبي بكر «رضي الله ع» عن الأئمة «رضي الله ع» ففي كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن عيسى الأردبيلي الإمامي أنه سئل الإمام جعفر الصادق «رضي الله ع» عن حلية السيف هل تجوز؟ فقال: «نعم قد حلّى أبو بكر الصديق «رضي الله ع» سيفه بالفضة» فقال السائل: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: «نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق -ثلاثا- فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله تعالى قوله في الدنيا وفي الآخرة»
وفي ذلك من المدح ما لا يخفى، فإن مرتبة الصديقية بعد مرتبة النبوة كما أشبعنا الكلام عليه في التفسير، ولا أقل من كونها صفة مدح فوق العدل. فكيف يتأتى احتمال الكفر مع ذلك. وغاية ما أجابوا عما ذكر ونحوه أنه تقية، وهي كعكازه الأعمى عندهم. وقد أبطلنا القول بها في غير موضع من كتبنا كما أشرنا إليه سابقا. على أن الظاهر كون السائل شيعيا فلا معنى للتقية منه، واحتمال حضور سني مما لا يلتفت إليه.
وإذا ثبت بهذه الأخبار كون الصديق «رضي الله ع» أهلا للمدح ومحلا للثناء وهو الخليفة الأول ثبت أن أمر الخلافة ليس كما يزعمه الشيعة وأن الذين بايعوه وعزروه لم يرتدوا بذلك، وإلا لكان هو الأحق بنسبة الارتداد إليه وحاشاه ولكان حريا بالذم الشنيع من المعصوم بدل ذلك المدح الجليل والثناء الجزيل.
وزعم بعض الشيعة أن مما يوجب الكفر أيضا قتال الأمير كرم الله وجهه وإيجابه ذلك من فروع جعل الخلافة أخت النبوة وهو أظهر من إيجاب مجرد مبايعة غيره على الخلافة لكفر. فأهل وقعة الجمل ووقعة صفين كلهم كفار عندهم الصحابة وغيرهم في ذلك سواء. وسيأتي استدلالهم على ذلك مع رده في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
واستدل بعض علمائهم على ارتداد الصحابة بعد رسول الله ﷺ بما روى عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: «ليردن علي إناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي رواية «فأقول سحقا سحقا» والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم أن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتقدم في المقدمة بل المراد بهم مطلق المؤمنين به ﷺ المتبعين له، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين، وعبارات الفقهاء ملئ من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم أنه وقع في بعض الروايات: «أمتي ولم أره» وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين، ومعرفته ﷺ أنهم من أمته من إمارات تلوح عليهم. فقد جاء في الخبر أن طائعيهم يمتازون على طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم، ويلحق بذلك دعاؤه ﷺ بقوله: «سحقا سحقا» وسجله بعضهم من قبيل قوله "عليه الصلاة والسلام لصفية «رضي الله ع»: «عقرى حلقى» وليس بشي. وثانيا فإذا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى السابق إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق «رضي الله ع» وقوله ﷺ فيهم «أصحابي» لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عندما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنفي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا لأنا لا ننكر ارتداد أحد الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاث ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة، والحديث لا يدل على ذلك أصلا. فإن قلت إن إناسا في الحديث كما لا يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة فما الدليل على ما أردت؟ أجيب بأن ما جاء عن الله سبحانه والنبي ﷺ من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة، وحينئذ يتعين ما أردناه من ذلك حذرا من إلغاء الحديث، وزعم بعض منا أن المراد بأولئك الأناس المنافقون وفيه أنه ﷺ لم يمت حتى علم حالهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار فكيف يقول «أصحابي أصحابي» فتأمل.
واستشكل القول بعدالة جميع الصحابة «رضي الله ع» بأن الله تعالى حكم بفسق البعض في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الآية فإن جمهور المفسرين بل كلهم كما قال ابن عبد البر على أنها نزلت في الوليد بن عقبة أخي عثمان «رضي الله ع» حين بعثه ﷺ مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنهم مقاتلوه، فرجع وقال لرسول الله ﷺ إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهمّ "عليه الصلاة والسلام بقتالهم فجاؤا معتذرين ونزلت الآية، فسماه الله تعالى فاسقا وقد عده أئمة الحديث من الصحابة «رضي الله ع» وجعله الحافظ العسقلاني ـ عليه الرحمة ـ في القسم الأول من الأقسام الأربعة. على أن قصة صلاته بعد رسول الله ﷺ بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهودة وفي كتب الأخبار مذكورة، وقصة جلد عمر «رضي الله ع» له بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مخرجة في الصحيحين وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وذلك ينافي العدالة قطعا. وأجيب بأنه ليس مرادنا من كون الصحابة «رضي الله ع» جميعهم عدولا أنهم لم يصدر عن أحد منهم مفسق أصلا ولا ارتكب ذنبا قط فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات ويرتكبون ما يُحدّون عليه، وإنكار ذلك مكابرة صرفة وعناد محض وجهل بموارد الآيات والأحاديث؛ بل مرادنا أنهم لم ينتقلوا من هذه العار إلى دار القرار إلا وهم طاهرون مطهرون تائبون آيبون ببركة صحبتهم للنبي ﷺ ونصرتهم إياه وبذل أنفسهم وأموالهم في محبته وتعظيمهم له أشد التعظيم سرا وعلانية، كما يدل على ذلك الكتاب وتشهد له الآثار. ومما يفصح عن تعظيمهم له ما رواه الموافق والمخالف أن عروة بن مسعود لما أتى النبي ﷺ في قضية الحديبية وكلمه ثم رجع إلى الصحابة قال لهم: أي قوم والله هؤلاء ولقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ﷺ، إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما. إلى آخر ما قال. ولا يرد على هذا المنافقون لأنهم بمعزل عن الاتصاف بذلك، ولا يعلم ارتداد متصف بما ذكره وموته على الردة ليقال هلا رجع إلى الإيمان ببركة ذلك. وإن سلمنا وجود مرتد كان متصفا بما ذكر وقد مات على الردة فهو أعز من بيض الأنوق.
وقد يستشهد لما قلنا بقوله تعالى بعد تلك الآية: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} فإن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه سبحانه حبب إلى هؤلاء المؤمنين الذين لو أطاعهم رسول الله ﷺ في كثير من الأمر لفشلوا ووقعوا في المشقة والإثم الإيمانَ وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ومن أخبر سبحانه عنه بذلك لا يكاد يموت إلا طاهرا راشدا. ويدخل في هؤلاء المخاطبين الوليد «رضي الله ع» بلا ريب لأن العنت كان ظاهرا على تقدير إطاعته والعمل بموجب ما أخبر به كما لا يخفى. وكذا بقوله عز وجل: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} وقوله سبحانه: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} وقوله جل وعلى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآية فإن فيها التعبير بالمضارع المفيد للاستمرار التجددي كما قيل بمعونة المقام واستمرار الابتغاء الذي هو من أفعال القلب مما يقضي بعدم إصرارهم على الذنب إن صدر منهم. كذا قرره بعضهم وللنظر فيه مجال.
واستشكل القول بالعدالة أيضا بأن كثيرا من الصحابة فر من الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف من أكبر الكبائر. وبأن الكثير منهم انفض عن رسول الله ﷺ حين أقبلت العير من الشام يوم الجمعة كما قص الله تعالى ذلك بقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} الآية. وقد أخرج هذا مخرج الذم فلا أقل من أن يكون مفسقا. وبأن النبي ﷺ طلب في مرض موته دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر «رضي الله ع» عنه ما قال وكثر اللغط فقال رسول الله ﷺ: «اخرجوا عني» فقد خالفوا أمره "عليه الصلاة والسلام والله تعالى يقول: {وأطيعوا الله والرسول} الآية. وبأن مسلما روى في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم» فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى، فقال رسول الله ﷺ: «كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة وذلك ينافي العدالة.
وأجيب عن الأول بأن الفرار يوم أحد كان قبل النهي، ولئن قلنا كان بعده فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله سبحانه: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}
وعن الثاني بأن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعد عليه ولم يعاتبهم رسول الله ﷺ والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار وأن الحسنات يذهبن السيئات.
وعن الثالث بأن الأمر منه "عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله ﷺ بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله وجهه فإنه بقي "عليه الصلاة والسلام حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال كان ناشئا عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه "عليه الصلاة والسلام ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله وجهه ولا قائل به بالإجماع. وقد وقع للأمير «رضي الله ع» بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية فإنه كتب في كتاب الصلح: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله تعالى، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمره "عليه الصلاة والسلام أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل، حتى محاه "عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله وجهه ما يرى أشد من ذلك؛ فقد صح من طرق متعددة: أن النبي ﷺ ذهب إلى بيت الأمير والبتول «رضي الله ع» ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها فقال الأمير: والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا، فرجع "عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره ﷺ بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما هو فيه من المرض. وكلام عمر «رضي الله ع» لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كلام المحبة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية.
وعن الرابع بأن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب؛ فتعين أنهم من التابعين. وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك بن الأشتر وإضرابه ولا كلام لنا فيهم.
واستشكل أيضا بغير ذلك وأجيب بما أجيب. وأجاب بعضهم عن جميع ذلك بأنا لم ندع العصمة في الصحابة وإنما ادعينا العدالة فيهم، ومجرد وقوع ما يخل بها في وقت من أحدهم لا يستدعي سلبها عنه دائما. وكثرة الآيات والأخبار والآثار الواردة في مدحهم الناطقة بوفور ما أعد الله تعالى تقتضي أنهم لم يذهبوا إلى ربهم إلا وهم طاهرون مطهرون فلا ينبغي الخوض فيهم والطعن فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وهو في معنى جواب الذي ذكرناه فيما تقدم عن الوليد «رضي الله ع». وزعم بعضهم -لاضطراب الأدلة عليه- أنه فيهم عدولا وغير عدول وفصّل ذلك بأنهم قسمان القسم الأول من مات قبل الفتنة والقسم الثاني من مات بعدها، فمن تحقق ارتكابه لمفسق من القسم الأول ولم تتحقق توبته عنه -وقليل ما هم- حكم بفسقه، ومن لم يتحقق منه ذلك بأن تحقق منه الصلاح والمآثر الحسان أو كان مستور الحال حكم بعدالته، ومن خالط الفتنة ولم ينصر الإمام الحق فإن كان عن اجتهاد وكان من أهله فهو عدل وإن كان مخطئا في الواقع، وكذا حكم من اعتزل الفئتين كابن عمر «رضي الله ع» ومن خالط ولم ينصر الإمام ولم يكن ذلك عن اجتهاد بل لمحض اتباع الهوى وحب الرياسة فهو فاسق إلى أن تحقق توبته. وأما المقلدون فإن كانوا قد قلدوا الباغي مع العلم بما ورد في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه فهم فسقة أيضا. وإن كانوا قد قلدوا مع الجهل فيقرب بالقول بأنهم عدول معذورون انتهى. وأنت تعلم أن هذا القول خلاف المعول عليه عند أهل السنة فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الصحابة الذين أدركوا الفتنة إنه اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم وأنهم معذورون فيما صدر منهم وما صدر إلا عن اجتهاد. ويعلم من ذلك حكم من لم يدرك الفتنة كما لا يخفى وأنا لا أجزم بأن جميع ما صدر إنما صدر عن اجتهاد ولا اعتقد أن جميع الصحابة بالمعنى السابق الشامل لمن اجتمع معه ﷺ ساعة مجتهدون ومع هذا أقول: لا ينبغي الخوض في أحد منهم والقول بعدم عدالته فإن الخطر في ذلك عظيم وقد قال الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولا ينبغي لمن يعرف نفسه أن يكون دون نملة سليمان ـ عليه السلام ـ في الأدب مع أصحاب نبيه ﷺ، ألا تسمع قولها لأخواتها: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فقيدت بقولها {وهم لا يشعرون} حذارا من توهم نسبته هذا الفعل إليهم عالمين، وذلك غاية الأدب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
الفصل الثاني فيما شجر بين الصحابة
وأما الفصل الثاني ففيما شجر بين الصحابة «رضي الله ع» وتلخيص الكلام فيه وبيان حكم الطائفتين وهو كالتتمة للفصل الذي قبله
اعلم أن أعظم ما تداولته الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة الكرام «رضي الله ع» ما وقع زمن خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فنشأ منه وقعتان عظيمتان وقعة الجمل ووقعة صفين. والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان «رضي الله ع». وأنكر الهشامية تلك الوقعتين، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمعا لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه.
وقعة الجمل
وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان «رضي الله ع» صبرا توجع المسلمون فسار طلحة والزبير وعائشة -وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها- نحو البصرة فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم واعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ففاتوه وأرسل ابنه الحسن وعمار يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله وجهه حاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار ومنهم قتلة عثمان «رضي الله ع» بالتحريش ورموا بنار الفتنة، فحمي الوطيس وقامت الحرب على ساق وكان ما كان، وانتصر علي كرم الله وجهه وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة. ولما ظهر علي «رضي الله ع» جاء إلى أم المؤمنين «رضي الله ع» فقال: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. ثم أنزلها دار عبد الله بن خليل وهي أعظم دار في البصرة على صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا. ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي كرم الله وجهه فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يغتب بعضكم بعضا إنه والله ما كان بيني وبين علي «رضي الله ع» في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه لمن الأخيار. فقال علي كرم الله وجهه: أنت والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها زوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة. وسار معهما مودعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. وكانت «رضي الله ع» بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع منها تبكي حتى تبل خمارها. ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله وجهه دليل على خلاف ما يزعمه الشيعة من كفرها، وحاشاها «رضي الله ع» وفي ندمها وبكاها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار تلك المعركة. على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك. وقال غير واحد: إنها اجتهدت ففعلت لكنها أخطأت في اجتهادها، ولا أثم على المجتهد المخطئ بل له أجر على اجتهاده وكونها «رضي الله ع» من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. وآية {وقرن في بيوتكن} إلخ خطابا لنساء النبي ﷺ لا تأبى ذلك إذ ليس المراد منها إلا تأكيد أمر التستر والحجاب وإلا لما أخرجهن ﷺ بعد نزول الآية للحج والعمرة مثلا، ولما جاز خروجهن لذلك ولا لعيادة المرضى والأقارب. والسفر لا ينافي التستر والحجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب. نعم قالت الشيعة إنه يبطل اجتهادها أنه ﷺ قال يوما لأزواجه: «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحؤب فإياك أن تكوني يا حميراء» الحوءب -كجعفر- منزل بين البصرة ومكة، وقد نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث، وهو صريح في النهي ولم ترجع. والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحؤب، على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها فيما بين أهل السنة، فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد. على أنه لو كان لا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه، وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من أصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة. وقد شُبه حالها «رضي الله ع» في ذلك بحال شخص رأى من بعيد طفلا يريد أن يقع في بئر فسعى ليمنعه من ذلك فمر بلا شعور بين يدي مصل فإنه يذهب لما قصد لأنه لو رجع لم يحصل له تلافي ما وقع وفاتَه تخليص الطفل المأمور به.
وأما طلحة والزبير «رضي الله ع» فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه أما طلحة فقد روى الحاكم عن ثور بن مجزأة أنه قال: «مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي «رضي الله ع» فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي فبايعني وقال: هذه بيعة علي، وفاضت نفسه. فأتيت عليا «رضي الله ع» فأخبرته فقال: الله أكبر، صدق الله تعالى ورسوله ﷺ، أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه»
وأما الزبير «رضي الله ع» فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي ﷺ له: «لتقاتلن عليا وأنت له ظالم» فقال: لقد أذكرتني شيئا أنسانيه الدهر لا جرم لا أقاتلك أبدا. فخرج من المعسكرين نادما وقُتل بوادي السباع مظلوما، قتله عمرو بن جرموز. وقد روى الموافق والمخالف أنه جاء بسيفه واستأذن على الأمير كرم الله وجهه فلم يأذن له فقال: أنا قاتل الزبير، فقال: أبقتل ابن صفية تفتخر! سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» والشيعة كما في أبكار الأفكار للآمدي يزعمون أن استحقاقه للنار ليس لقتل الزبير بل لما علمه منه في عاقبة أمره، وذلك أن ابن جرموز قدم بعد ذلك على الأمير كرم الله وجهه مع أهل النهروان وقتل هناك، وإلا لقتله الأمير «رضي الله ع». والجواب أنا نعلم ضرورة أن النبي ﷺ إنما ذكر ذلك الخبر في حق الزبير «رضي الله ع» من معرض التعظيم له والتفخيم من أمره، وذلك يأبى كون استحقاق قاتله النار لأمر آخر غير قتله. ولو كان المقصود ما ذكر لكان الكلام من باب الألغاز المنافي لحاله ﷺ الموجب لارتفاع الوثوق بأوامره ونواهيه "عليه الصلاة والسلام لاحتمال أن يريد بها معنى لم يظهر لنا، كما هو مذهب الملاحدة الباطنية. وأما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل. ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن: «أن ناسا من الصحابة «رضي الله ع» ذهبوا يتطرقون فقتل واحد منهم رجلا قد فر وهو يقول إني مسلم إني مسلم فغضب رسول الله ﷺ من ذلك غضبا شديدا ولم يقتل القاتل» وكذا قتل أسامة «رضي الله ع» فيما أخرجه السدي رجلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلامه رسول الله ﷺ جدا ولم يقبل عذره وقال له: «كيف أنت ولا إله إلا الله» ونزل قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. وأجاب آخرون بأن العلماء اختلفوا في أنه هل يجب القصاص على الحاكم إذا لم يطلب الولي أم لا، ولعل الأمير كرم الله وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع. وروي أيضا أن الأمير «رضي الله ع» قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه: مرحبا بابن أخي، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} وهذا ونحوه يدل على أنهما «رضي الله ع» لم يذهبا إلا طاهرين مطهرين.
وقعة صفين
وأما تلخيص الوقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية «رضي الله ع» كان قد استنصره أبناء عثمان «رضي الله ع» ووكلوه في طلب حقهما من قتلة أبيهما، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات، فلما ورد الأمير «رضي الله ع» دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا وطلبوا منه قتلة عثمان وكانوا قد انحازوا إلى عسكره ولهم عشائر وقبائل، ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم، فمال «رضي الله ع» إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره، فأبى معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلا، وكثر القيل والقال حتى اتهم بنو أمية الأمير كرم الله وجهه بأنه الذي دلس على قتل عثمان «رضي الله ع» وكان كرم الله وجهه قد تصرف بسلاحه فقال لذلك قائلهم:
ألا ما لليلي لا تغور كواكبه ** إذا غار نجم لاح نجم يراقبه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم لا تعجلونا فإنه ** سواء علينا قاتلوه وسالبه
وإنا وإياكم وما كان منكم ** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه
بني هاشم كيف التعاقد بيننا ** وعند عليٍ سيفه وحرائبه
لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله ** وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه
هُمُ قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه
وكان الأمير كرم الله وجهه يلعن القتلة ويقول: يا معاوية لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان. وتصرفه «رضي الله ع» بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال. وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام. ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مرارا وبقي كرم الله وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة، وقيل تسعة؛ وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس، وليلة الهرير أمرها شهير. وآل الأمر إلى التحكيم. وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج، وذلك تقدير العزيز العليم. وأهل السنة إلا من شذ يقولون إن عليا كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين -خلافا للشيعة- ولا فاسقين خلافا للعمرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ولمن شذ من أهل السنة، ولا أن أحد الفريقين، من علي كرم الله وجهه ومقاتليه، لا بعينه فاسق خلافا للواصلية أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي. أما أن الحق مع علي كرم الله وجهه فغني عن البيان. وأما كون المقاتل باغيا فلأن الخروج على الإمام الحق بغي وقد صح أنه ﷺ قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقد قتله عسكر معاوية. وقوله حين أخبر بذلك: "قتله من أخرجه" مما لا يلتفت إليه، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله ﷺ قاتلُ حمزة وأضرابه ممن قتل معه "عليه الصلاة والسلام وكذا قول من قال: "المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أي لدم عثمان فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم". وأما كونه من ليس بكافر فلِما في نهج البلاغة أن عليا كرم الله وجهه خطب يوما فقال: «أصحبنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة» ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهما. وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم وأن يقاتلوا إذا بغت إحداهما حتى تفيء. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلا لأن الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم. واستدل بعضهم على كفر المقاتلين للإمام كرم الله وجهه بقوله ﷺ له: «حربك حربي» ولأهل العباء: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» وحرب آل بيته ﷺ كفر بلا ريب وبقوله "عليه الصلاة والسلام: «حب علي إيمان وبغضه كفر ونفاق» ولا بغض أظهر من الحرب فبه يثبت الكفر والنفاق. وأجاب أهل السنة بأن الخبر الأول لم يروه منا إلا ابن جرير وفي روايته عندنا وهن شهير. نعم ذكره الطوسي المنجم وغيره من الشيعة وهم بيت الكذب وأكثر رواتهم زنادقة بشهادة الأئمة «رضي الله ع» كما يشهد بذلك الكافي وغيره. وعلى تقدير صحة الرواية لا حجة فيه لأنه خارج مخرج التهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير كرم الله وجهه من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام. ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنة. أو يخصّ الحرب بما كان كحرب الخوارج صادرا عن بغض وعداوة وإنكار لياقة الأمير للخلافة باعتبار الدين وذلك كفر عند كل مؤمن، وأدلة التخصيص أكثر من أن تحصر. وقال بعض: لا شك أن المقصود التشبيه بحذف الأداة كزيد أسد فكأنه قيل حربك كحربي فإن كان الحرب فيه المصدر المبني للفاعل صح أن يكون وجه الشبه الوجوب أي أن حربك لمن حاربك وبغى عليك من المؤمنين واجب عليك كحربي لمن حاربني من الكافرين واشتراك الحربين في الوجوب لا يستدعى اشتراك المحاربين بصيغة اسم المفعول في الكفر وهو ظاهر، وإن كان الحرب فيه المصدر المبني للمفعول صح أن يكون وجه الشبه كونه حراما وضلالا مثلا ولا يتعين كونه كفرا. ومن أصحابنا من منع كون حرب الرسول "عليه الصلاة والسلام كفرا فقد قال سبحانه: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فإنها نزلت في آكلي الربا وهم ليسوا بكفار. وقال جل وعلا في قطاع الطريق: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية ولم تحكم الشيعة بكفرهم أيضا، وفيه تأمل لا يخفى وجهه. وبأن الخبر الثاني كالخبر الأول غير ثابت عندنا ولم يروه أحد منا أيضا. وقيل: إنه على تقدير الثبوت خارج مخرج التهديد لمن حارب أهل العباء على طرد ما تقدم في الخبر السابق. والخبر الأخير رواه مسلم لكن لا نسلم أن الحرب بغض فقد يحارب الإنسان من يحبه والحيثيات مختلفة كما لا يخفى.
ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن «رضي الله ع» مع معاوية وهو مما لا مجال لإنكاره. فقد روى المرتضى وصاحب فصول المهمة من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه «رضي الله ع» وبين معاوية خطب فقال: «إن معاوية نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» انتهى. وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالَح وأن المصالحة لم تقع إلا اختيارا. ولو كان المصالح كافرا لما جاز ذلك ولما صح أن يقال فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة إلخ فقد قال سبحانه وتعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ويدل على وقوع ذلك اختيارا أيضا ما رواه صاحب الفصول عن أبي مخنف من أن الحسين «رضي الله ع» كان يبدي كراهة الصلح ويقول: "لو خر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي" فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه «رضي الله ع» اختيارا، فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر.
وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية «رضي الله ع» ندم على ما كان منه من المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله وجهه فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال: قال معاوية لضرار: صف لي عليا، فقال: أوتعفيني؟ قال: بل تصفه، فقال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدينا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه -إلى أن قال- لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله فأشهد بالله تعالى لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجونه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم بي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها. انتهى.
وما يذكره المؤرخون من أن معاوية «رضي الله ع» كان يقع في الأمير كرم الله وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعوّل عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدري ما يجمع. فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخُطا مما لا يليق بشأنه عاقل فضلا عن فاضل. وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه لأن له معارضات مثله في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب وبرء من وصمة الوقوع في أصحاب رسول الله ﷺ حمل ذلك على أحسن المحامل وأوّله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة
وأما الفصل الثالث ففي بيان حكم سب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ وهو المقصود في الحقيقة من هذه الرسالة
اعلم أن السبّ في اللغة الشتم، ويكون بكل ما فيه تنقيص وله مراتب متفاوتة. وأجمع أهل السنة أنه مطلقا في حق الصحابة «رضي الله ع» منهي عنه، وإنما الخلاف في كفر مرتكبه. وستعلم قريبا إن شاء الله تعالى الحق في ذلك. واللعن مثل السب بل هو أدهى وأمر، وقد يقال له سب أيضا. ففي النهاية لابن الأثير: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ومن الخلق السب والدعاء انتهى. والشيعة جوزوا السب واللعن على أكثر الصحابة ومنهم من كتم النص وهو بزعمهم حديث الغدير وكذا من حارب الأمير كرم الله وجهه كعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم. بل اعتقدوا أن لعن هؤلاء وسبهم من أعظم العبادات وأقرب القربات، وذلك من الضلالة بمكان، فقد صحت أحاديث كثيرة في النهي عن اللعن مطلقا حتى لعن الحيوانات، وصرح بعض الحنفية بأن لعن الكلب من وجه كفر. وقد تواتر عند الفريقين نهي الأمير كرم الله وجهه عن لعن أهل الشام، فما ظنك بأصحاب النبي "عليه الصلاة والسلام بل بكبارهم «رضي الله ع» الذين ورد في حقهم من الآيات البينات ما ورد وأثنى عليهم رسول الله ﷺ بما لم يثن على أحد. فمن ذلك قوله سبحانه: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان «رضي الله ع» ورضوا عنه} الآية وقوله جل وعلا: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية وقوله تبارك وتعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} الآية وقوله سبحانه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. ومثلها الأخبار الواردة فيهم عموما وخصوصا. ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه كما لا يخفى. وليس لهم أن يقولوا بالردة والعياذ بالله تعالى لما علمت. وإن قالوا إنهم ارتكبوا من الذنوب ما سوغ لعنهم وإن لم يكن كفرا فإن مسوغ اللعن ليس مخصوصا به ردوا بأنا لا نسلم ارتكابهم لذلك ودون إثباته خرط القتاد، وعلى فرض التسليم قد قدمنا أن الصحابة «رضي الله ع» لما منّ الله تعالى عليهم من شرف صحبة النبي ﷺ وبذل الأنفس والأموال والأولاد بين يديه مع صدق النية وخلوص العزيمة وشدة المحبة لا يصرون على ذنب فعلوه وخطيئة ارتكبوها، فما ذهبوا إلى ربهم إلا بتوبة نصوح طاهرين من الآثام مكفرا عنهم ما يقتضى الملام، فلم يتحقق فيهم حال السب واللعن -والعياذ بالله تعالى- ما يسوغ ذلك. واعتبار ما كان لو صح لاقتضى جواز سب مثل حذيفة وسلمان «رضي الله ع» فإنهما كانا قبل أن يسلما كافرين، والشيعة لا يجوزون ذلك فيهما لأنهما عندهم من الصحابة الموالين للأمير كرم الله وجهه. وبالجملة اعتبار ذنب مغفور للقدح والطعن في غاية السفه وموجب لفساد عظيم ومن ذلك صحة إطلاق الكافر مثلا على كثير من المؤمنين، وهو كما ترى وقد قال سبحانه وتعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وأيضا الوارد في لعن المرتكبين لبعض الذنوب اعتبار عنوان الذنب ومفهوم الوصف كالظالمين والكاذبين دون القصد إلى واحد بخصوصه مما صدق عليه المفهوم كزيد الظالم وعمرو الكاذب، فيجوز لعن الله الظالمين ولعن الله الكاذبين مثلا دون لعن الله تعالى زيدا وعمرا الظالم والكاذب، بل نصوا على حرمة لعن كافر بعينه لم يتحقق بخبر المعصوم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب. وقوله ﷺ حين رأى حيوانا وسم على وجهه: «لعن الله من فعل هذا» ليس نصا في لعن مخصوص لجواز اعتبار العموم. ولعن الملائكة المرأة التي تخرج من بيتها بغير أذن زوجها حتى تعود أيضا كذلك. وعن بعض المحققين أن اللعن في مثل {ألا لعنة الله على الظالمين} متوجه بالحقيقة إلى الوصف لا إلى صاحبه، والمراد ذم ذلك الوصف والتنفير عنه، وأنه لو فرض توجهه إلى المتلبس به يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم كما هو عند الشيعة. وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع. وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} الآية ظاهر في طلب المغفرة وترك العداوة للمؤمنين. ونطق الصحابة -الذين تسبهم الشيعة- بكلمة الإيمان وإقامتهم لشعائر الدين أمر معلوم لا يحتمل الإنكار بوجه. وكون ذلك عن نفاق أو مستتبعا بما يخالفه مما يحتاج إلى دليل يثبته وبرهان يحققه، وهو أحد المستحيلات. ولو سلم لكل أحد كل ما يقوله من الاحتمالات العقلية وإن لم يبرهن عليها لسلم كلام النواصب والخوارج في حق الأمير كرم الله وجهه وترهاتهم التي تمجها الأسماع في شأنه «رضي الله ع» وفي ذلك من الفساد ما فيه. ومتى كان الإيمان ثابتا لا ينبغي إلا الترضي والاستغفار دون السب واللعن. وقد استدل بعض أصحابنا للنهي عن اللعن بقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما ذهب إليه الإمامية. وبالجملة حرمة سب الصحابة «رضي الله ع» مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو يتنازع فيه اثنان. وأطلق غير واحد القول بكفر مرتكب ذلك لما فيه من إنكار ما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم، ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة القائلين على أن لهم الزلفى من ربهم. ومن هنا كفر من كفر الرافضة. واستدل لكفرهم أيضا بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عنه ﷺ أنه قال: «يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون» وأشار إلى ذلك الصرصري في قصيدته النونية النبوية بقوله:
وكذاك أخبر أن سب صحابه ** ما للمصر عليه من غفران
علما بقوم يجهرون بسبهم ** من كل غمر فاحش لعان
وروي عن الإمام مالك أنه قال: من شتم أحدا من أصحاب النبي ﷺ أبا بكرا أو عمر أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكُفر قتل ولم يؤول له. وفي لفظ: يقتل من كفر الصحابة «رضي الله ع» كلهم أو واحدا منهم لأن من كفر مسلما فقد كفر فما بالك بالصحابة وهم أساس الإسلام وعماده. وذهب القاضي حسين إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه اكفارهما، وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية. والأصح من مذهب الشافعية أن السب بما فيه إكفار الصحابة «رضي الله ع» كفر وهو السب الذي اتخذه عبادة شيعة زماننا ودرج عليه الكُميلية من الشيعة أيضا. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يرتاب في كفرهم بناء على أن سبهم للصحابة بما فيه إكفارهم وحاشاهم «رضي الله ع» ويلزم من إكفارهم بغضهم وهو كفر أيضا كما صرح به الطحاوي وغيره. واستدل له بعض الأئمة بقوله تعالى في حقهم: {ليغيظ بهم الكفار} وكذا استحلال إيذائهم وهو كفر أيضا، كما لا يخفى. وفي الأنوار: لو استحل إيذاء أحد من الصحابة كفر. وفي الاعلام أن استحلال إيذاء غير الصحابة من المسلمين مكفر فما ظنك باستحلال إيذائهم «رضي الله ع». وكذا يلزم ذلك إنكار خلافة الخلفاء منهم. وفي البزازية أن من أنكر خلافة أبي بكر «رضي الله ع» فهو كافر في الصحيح وأن من أنكر خلافة عمر «رضي الله ع» فهو كافر في الأصح، وفي التاتارخانية مثل ذلك. والذي نعلمه من الشيعة اليوم التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النص ولم يبايعوا عليا كرم الله وجهه بعد وفات النبي ﷺ كما بايعوا أبا بكر «رضي الله ع» كذلك، وكذا التصريح ببغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبهم ولعنهم تهافت الفراش على النار. وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك. وما روي عن بعضهم من أن السابّ يضرب أو ينكل نكالا شديدا محمول على ما إذا لم يكن السب بما يوجب تكفيرهم «رضي الله ع» وكان خاليا عن دعوى بغض وارتداد واستحلال إيذاء، وليس مراده من أن حكم الساب مطلقا ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عليه الرحمة أن الصحابة «رضي الله ع» الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه بما أثنى -وهم الذين ولع الرافضة بسبهم وبغضهم- مثل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أن سبهم وطعنهم من العصيان بمكان. ونص كلامه ـ قدس سره ـ: ثم ينبغي أن يعلم ههنا دقيقة وهي أن سب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والطعن فيهم والعياذ بالله تعالى إنما صار حراما وكفرا لأن وجه السب وهو المعاصي والكفر لا يوجد في أولئك الكبار البتة بل يمتنع بالضرورة، وإنما الموجود فيهم ما يوجب تعظيمهم وتكريمهم وتوقيرهم والثناء الجميل عليهم والمحامد الحسنة لهم، ومن عداهم من جماعة المؤمنين الذين ثبت تعظيمهم وتكريمهم ومغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم بنصوص الكتاب المجيد فهم في حكمه لا محالة في حرمة السب والطعن والتحقير والإهانة، غاية الفرق بين الفريقين أن الأنبياء لم يوجد فيهم أصلا ما يوجب هذه الأمور وهؤلاء وجد فيهم فانعدم، والمعدوم بالعدم الطارئ كالمعدوم بالعدم الفطري في هذا الباب، ولهذا كانت نسبة الذنب السابق المتوب عنه إلى التائب حراما، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وليس لعوام الأمة ممن عدا الصحابة «رضي الله ع» هذه المرتبة، لأن تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم أمر معلوم لنا بالقطع من الوحي والتنزيل وقبول طاعاتهم وتعلق رضاء الله تعالى بأعمالهم على الخصوص أمر متيقن أيضا، فهم «رضي الله ع» متوسطون بين الأنبياء والأمة، ولهذا لن يصل أحد من غير الصحابة وإن كان مطيعا متقيا إلى درجتهم أصلا انتهى.
وهذا كلام حسن وفيه تأييد لما ذكرنا من أن اعتبار ذنب مغفور في غاية السفه. وكذا أجمع السادة الصوفية ـ قدس الله أسرارهم ـ من القادرية والنقشبندية والجشتية والكبروية والسهروردية وغير ذلك على وجوب محبة الصحابة كبارهم وصغارهم وتكريمهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم أفضل البشر بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحرمة سبهم وطعنهم وأن سابهم وطاعنهم من الضالين الخاسرين. وفي كتاب الغنية المنسوب لحضرة الغوث الرباني والهيكل الصمداني قطب دائرة العارفين ومربي المسترشدين والسالكين المحبوب السبحاني حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ قدس سره وغمرنا برّه - ما ينادي على ذلك بأعلى صوت، بل صرح ـ قدس سره ـ فيها بتشبيه الرافضة -عاملهم الله تعالى بعدله- باليهود والنصارى، وهو ظاهر في إكفارهم. ومن تتبع كتب القوم قدست أسرارهم رآهم أشد الخلق حبا لأصحاب رسول الله ﷺ بأسرهم وأكثر الناس بغضا للرافضة الطاغين فيهم. نعم إن للصوفية نوع اختصاص بعلي كرم الله وجهه حتى شاع أن الصوفية علوية لما أن سلاسل الطرائق منتهية إليه وواردة عليه فهو باب الولاية وأبو الإرشاد، ولا يجرهم هذا إلى الابتداع وتنقيص أحد من الصحابة الكرام «رضي الله ع». ومن نسب إليهم ذلك وحاشاهم فقد ضل ضلالا بعيدا.
وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا ظهر لك أن من سب أو طعن أو بغض أو كفر أحدا من الصحابة «رضي الله ع» لا سيما كبارهم كالخلفاء الراشدين وزعم حل ذلك عند أحد من أهل السنة والجماعة فقد أعظم الفرية بغير مرية. كيف لا وأحد الأمور التي ميزت أهل السنة عن الشيعة حبهم لأصحاب نبيهم "عليه الصلاة والسلام وتعظيمهم إياهم وقولهم فيهم إنهم أفضل البشر بعد النبيين والترضي عنهم أجمعين؛ لا كما عليه الشيعة من بغضهم لهم وتحقيرهم وقولهم فيهم إنهم شر الخلق ولعنهم وسبهم في كل وقت وحين، ولم يستثنوا أحدا من ذلك سوى ستة أو سبعة أو ما قارب ذلك. وبالجملة إن نسبة حل السب لأهل السنة في الكذب مثل قول القائل الضدان يجتمعان والأربعة فرد والثلاثة زوج وشريك الباري ممكن بالإمكان الخاص ونحو ذلك. ولا ينبغي أن يزاد في جواب زاعم ما ذكر من تلك النسبة على قول: {ألا لعنة الله على الكاذبين} لظهور كذبه وغنائه عن البيان عند من عرف معنى لفظ أهل السنة والجماعة.
هذا والكلام في خصوص حل سب معاوية «رضي الله ع» وإكفاره ولعنه يعلم أيضا حكمه مما تقدم وقد صرح الإمام مالك بأن من قال إنه كان على ضلال وكفر قتل. ويفهم من الرواية الأخرى أن من كفره فقد كفر وكذا من قال بحل لعنه كما يقتضيه كلامهم. فإنه من كبار الصحابة «رضي الله ع» وكان أحد الكتّاب لرسول الله ﷺ كما صح في مسلم وغيره. وفي حديث سنده حسن: «كان معاوية يكتب بين يدي رسول الله "عليه الصلاة والسلام» قال المدايني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي ﷺ على وحي ربه. وهي مرتبة رفيعة. وروى الترمذي وقال إنه حديث حسن «أن رسول الله "عليه الصلاة والسلام دعا له فقال: اللهم اجعله هاديا مهديا» ودعاءه "عليه الصلاة والسلام لأمته مستجاب ومتى كان هذا مستجابا كان في معاوية صفتان يقعدان لاعنه ومكفره على عجزه. وأخرج الملا في سيرته ونقله عنه المحب الطبري في رياضه أنه ﷺ قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله تعالى عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي ولكل نبي حواري وحواري طلحة والزبير وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله تعالى وأمين رسول الله ﷺ وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك» وفي هذا من الدلالة على فضله ما لا يخفى. وقد فاز «رضي الله ع» بمصاهرة النبي ﷺ فإن أم حبيبة أم المؤمنين أخته وقد قال "عليه الصلاة والسلام: «دعوا أصحابي وأصهاري فإن من حفظني فيهم كان معه من الله تعالى حافظ ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله تعالى منه ومن تخلى الله تعالى منه يوشك أن يأخذه» رواه الإمام الحافظ أحمد بن منيع. وروى الحارث بن أبي أسامة عن النبي "عليه الصلاة والسلام: «عزيمة من ربي وعهد عهده إلي أن لا أتزوج إلى أهل بيت ولا أزوج بيتا إلا كانوا رفقائي في الجنة» والأخبار المشعرة بفضله كثيرة. وما طعن به المخالف مردود عليه. وقد ألف العلامة ابن حجر للسلطان همايون من سلاطين الهند رسالة نفيسة في الذب عن معاوية «رضي الله ع» سماها تطهير اللسان والجنان عن الحظور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان، وأجاب عن الأخبار الموهمة للنقص في حقه «رضي الله ع». ونزول الحسن «رضي الله ع» له عن الخلافة ومبايعته عليها ووقوع الإجماع إذ ذاك على خلافته لا يبقي سبيلا إلى سبه، ويجعل القول بكفره والعياذ بالله تعالى كفرا لا شبهة فيه لما فيه من تضليل الأمة التي لا تجتمع على ضلالة أبدا، لا سيما ومن جملة المجمعين المعصوم وهو الحسن «رضي الله ع» على ما هو معتقد الشيعة. ودعوى الإكراه قد مر الجواب عنها فتذكر.
والكلام في عمرو بن العاص نظير الكلام في معاوية «رضي الله ع» كما علمت مما روي عن الإمام مالك وغيره. وقد كان النبي ﷺ يقربه ويدنيه بعد أن أسلم وولاه غزاة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح «رضي الله ع» ثم استعمله على عمان فتوفي "عليه الصلاة والسلام وهو أميرها. ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر «رضي الله ع» وهو الذي افتتح قنسرين وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية. وأخرج أحمد من حديث طلحة أحد العشرة رفعه: «عمرو بن العاص من صالحي قريش» ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة. وأخرجه البغوي وأبو يعلى من هذا الوجه وفيه زيادة: «نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وموافقته لمعاوية في قتال علي كرم الله وجهه ليس بكفر على ما علمت. ويدل على ذلك أيضا ما رواه الطبراني بسند رجاله موثقون على خلاف في بعضهم أن الأمير كرم الله وجهه قال: «قتلاي وقتلا معاوية في الجنة» فإنه ظاهر في أن الأمر كان عن اجتهاد وللمخطئ فيه أجر واحد وللمصيب أجران إلى عشرة أجور. وقد جاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس «رضي الله ع» ما يدل على أن معاوية كان من أهل الاجتهاد. ونص غير واحد على أن عمرو بن العاص أيضا كذلك. فهو معذور فيما صدر منه وإن كان مخطئا كسائر من بغى على علي كرم الله وجهه. والحكايات الدالة على أنه إنما وافق معاوية للدنيا لا للدين مما نقلها المؤرخون في كتبهم من غير سند لها لا يعول عليها، وحال المؤرخين في النقل معلومة فلا ينبغي الاغترار بنقلهم إلا إذا وجدت فيه شروط القبول. ومما لا يعول عليه من ذلك ما نقله ابن الوردي أن عمرا انحرف يوما عن معاوية فاستعتبه معاوية فأنشده:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ** به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصرا وتربح صفقتي ** شريت بها شخصا يضر وينفع
فولاه مصر وجهزه إليها لذلك. والثابت عند أهل الأخبار أنه ولي مصر وسار إليها بعد ما كان من أمر الحكمين وحكم فيها من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات. وأما أنه أنشد ما أنشد فغير ثابت. ومما ينتظم في هذا السلك بعض الأخبار المشعرة بذمه وذم اجتماعه مع معاوية؛ وهو ما روي أن شداد بن أوس دخل على معاوية وعمرو معه على فراشه فجلس بينهما وقال: أتدرون ما أجلسني بينكما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما فوالله ما اجتمعا إلا على غدرة فأحببت أن أفرق بينكما» انتهى فإن هذا الخبر لم يثبت لأن في سنده من قال الحافظ الهيثمي فيه: لا أعرفه. وبعض المحققين أجاب عنه على تقدير صحته بما لا يخلو عن نظر. نعم ضرر اجتماعهما «رضي الله ع» في قتال الأمير كرم الله تعالى وجهه والبغي عليه أمر ظاهر لا مساغ لإنكاره، إلا أنهما معذوران عند أكثر الجماعة أو مكفَّر عنهما ذلك على ما أشير إليه في ما سبق. ولو لم يُقل بهذا ولا ذاك فنهاية ما يمكن أن يقال كونهما آثمين، وأما الكفر وحل اللعن والسب فما لا يمكن أن يقال بوجه من الوجوه وحال من الأحوال. ومما هو ظاهر في أن عمرا لم يكفر بما فعل أن الأمير كرم الله وجهه تمكن من قتله في صفين كما هو مشهور عند الموافق والمخالف ولم يقتله ولو كان كما يزعمه الشيعة لما منعه من قتله مانع كما لا يخفى. وبالجملة تكفير أحد من الصحابة «رضي الله ع» الذين تحقق إيمانهم وصدقهم وعدم نفاقهم والإقدام على لعنه بمجرد شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت كفر صريح لا ينبغي أن يتوقف فيه. وللشيعة الذين في زماننا الحظ الأوفى من هذا الكفر لأنهم كفروا إناسا من الصحابة كان الأمير يصلي وراءهم ويقتدي بهم في الجمع والجماعات كأبي بكر وعمر وعثمان «رضي الله ع» وقد درج معهم على أحسن حال وأرفه بال، زوج ابنته أم كلثوم من عمر «رضي الله ع» ونكح هو كرم الله وجهه من سبي أبي بكر «رضي الله ع» خولة الحنفية «رضي الله ع» وصدر منه كرم الله وجهه من حسن المعاملة مع الخلفاء ما لا يقبل تأويلا. وهو مما يلقم الشيعة حجرا لكونهم أسوأ الخلق عقيدة وأكثرهم جرأة وأظهرهم ضلالا. قال في تبصرة الحقائق: الشاك في كفرهم إن شك في أن قولهم هل هو فاسد أم لا فهو كافر وإن علم أن قولهم ضلال وبدعة وشك في كونه كفرا ففي تكفير خلاف. وممن حكم بكفر الشيعة وإلحاق ديارهم بدار الحرب جماعة من المتأخرين كالعلامة ابن كمال وشيخ الإسلام أبي السعود وغيرهما. ولولا خوف الإطناب لأتيت من فضائحهم بالعجب العجاب، وفيما ذكرناه كفاية فيما نحن بصدده من الجواب. والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب.
الخاتمة في تفاوت الصحابة في الفضل
وأما الخاتمة ونسئل الله تعالى حسنها ففي تفاوت الصحابة «رضي الله ع» في الفضل
اعلم أن أفضل الخلق على الأصح وعليه أكثر الناس الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأفضلهم المرسلون وأفضلهم أولوا العزم وأفضلهم محمد ﷺ وهل هو "عليه الصلاة والسلام أفضل من المجموع كما أنه أفضل من كل واحد أم لا فيه خلاف، والذي أميل إليه الأول. وأفضل الأمم أمته "عليه الصلاة والسلام كما يشهد له الآيات والأخبار وأفضلهم صحابته للآيات أيضا وللأحاديث البالغة مبلغ التواتر وإن كانت تفاصيلها آحاد وأفضلهم الخلفاء الأربعة الراشدون وهم في الفضل كما روي عن أبي منصور الماتريدي وأبي الحسن الأشعري على ترتيبهم في الإمامة وعن مالك تقديم علي كرم الله وجهه على عثمان «رضي الله ع» وادعى غير واحد رجوعه إلى ما تقدم، ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان. وممن له مزية لا تنكر أهل العقبتين من الأنصار وكذلك السابقون الأولون. وقد تجتمع صفتان فأكثر في شخص واحد من الصحابة «رضي الله ع» فيكون بدريا أحديا من أهل بيعة الرضوان مثلا ولا يلزم من ذلك محذور تفضيل الشيء على نفسه كما لا يخفى. وقال بعضهم: أفضل الصحابة أهل الحديبية وأفضلهم أهل أحد وأفضلهم أهل بدر وأفضلهم العشرة وأفضلهم الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر «رضي الله ع». وزعمت الخطابية أن أفضلهم عمر بن الخطاب «رضي الله ع» والشيعة أن أفضلهم علي كرم الله وجهه وأنف بعضهم عن أن يقال فيه كرم الله وجهه إنه أفضل الصحابة «رضي الله ع» وأنشد في ذلك:
يقولون لي فضل عليا عليهم ** وكيف أقول الدر خير من الحصى
ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل هذا السيف خير من العصا
وزعمت الراوندية أن أفضل الصحابة العباس بن عبد المطلب «رضي الله ع» وتوقف بعض الناس على تفضيل أحد منهم بخصوصه وقال: الأسلم بعد اعتقاد جلالتهم عدم الخوض في التفضيل فليس هنا ما يفيد اليقين. وفي المواقف وشرحه بعد كلام في تعيين الأفضل من الصحابة «رضي الله ع» أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها من الجزم بها إذ لا دلالة للعقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل وليست مسألة يتعلق بها عمل فيكفي بها الظن بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين والنصوص بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنها بأسرها إما آحاد أو ظنية الدلالة وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادته قطعا لأن الثواب تفضل من الله تعالى عند أهل الحق فله أن لا يثيب المطيع ويثيب غيره وثبوت الإمامة وإن كان قطعيا لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن كيف ولا قطع بأن إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل لكنا أوجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا اتباعهم في ذلك القول وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله تعالى وإلى عدم الجزم ذهب الآمدي. انتهى المراد منه ولا تخفى متانته. وفي فتوحات الشيخ الأكبر ـ قدس سره ـ ما يوافق ذلك فإنه قال: إن تقديم الخلفاء بعضهم على بعض لا يقتضى الجزم بالتفضيل بل ذلك راجع إلى الله تعالى ولم يعلم به فالله سبحانه يحفظنا من الفضول. وفي كلام الشيخ السهروردي في عقيدته ما يوافقه أيضا. ونقل عن الباقلاني أيضا أن مسألة التفضيل على الترتيب المشهور ظنية، وفي ذلك مخالفة لما عليه الإمام الأشعري حيث ذهب إلى أنها قطعية، قيل: وعليه فضل علي كرم الله وجهه على سائر الصحابة مبتدع قطعا وعلى القول الآخر فيه لا قطع بابتداعه، والمشهور عند الجماعة إطلاق القول بابتداعه وأن من فضّله كرم الله وجهه بالمحبة مبتدع أيضا ما لم يكن من ذريته، وهو خلاف الإنصاف كما لا يخفى على منصف. ومن الناس من لم ير تفضيله على الكل ابتداعا لما ثبت من جلة من أئمة الحديث أنه ما ورد في صحابي ما ورد في علي كرم الله وجهه من الأخبار النبوية والمدائح المصطفوية مع ما تواتر عنه من الشجاعة والعلم والإيثار وملازمة النبي ﷺ صغيرا وكبيرا وغير ذلك، وكون غيره أشجع منه وأعلم وأكثر ملازمة له ﷺ في حيز المنع وجعل الابتداع عدم توفية الباقين حقهم من التفضيل، بل قد يجر ذلك إلى الكفر والعياذ بالله تعالى وأطال الكلام في ذلك وفيه نظر. ونقل عن آخرين أنه كرم الله وجهه ولما اجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره كان هو الخليفة بعد رسول الله ﷺ بلا فصل ولكن من طريق الباطن الذي يدور على الإرشاد وتربية المريدين وتصفية بواطنهم وغير ذلك مما تقتضيه الولاية، وأما أبو بكر «رضي الله ع» فهو خليفة رسول الله ﷺ أيضا بلا فصل أيضا ولكن من طريق الظاهر الذي يدور عليه سد الثغور وتجهيز الجيوش وتنفيذ الأحكام وحفظ بيضة الإسلام ونحو ذلك. ومن هنا كان معظم سلاسل السادة الصوفية قدست أسرارهم منتهية إلى علي كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة الكرام «رضي الله ع» انتهى. وأنت تعلم أن دعوى خلافتين ظاهرية وباطنية غير مسلمة عند أهل الظاهر وإثباتها عليهم صعب جدا فتأمل. واعلم أيضا أن المشهور أيضا من مذهب الجماعة أنه -وهو الحق- لا يبلغ أحد من الأمة إلى يوم القيامة درجة واحد من الصحابة «رضي الله ع» في الفضل ولو فعل ما فعل من الطاعات. ويشهد له ظواهر كثير من الآي والأخبار. وعلى هذا جاء ما نقل عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك ـ عليه الرحمة ـ أنه سئل فقيل له: يا أبا عبد الرحمن أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "والله إن الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله ﷺ فقال رسول الله "عليه الصلاة والسلام سمع الله لمن حمده فقال معاوية «رضي الله ع»: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا" الشرف الأعظم. وأما ما روي عن أنس «رضي الله ع» عن النبي ﷺ أنه قال: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم أخره» فلا يعارض ما تدل عليه تلك الظواهر لأن المراد منه كما قال ابن قتيبة تقريب آخر هذه الأمة إلى أولها في الفضل كما تقول لا أدري أوجه هذا الثوب خير أم مؤخره وقد علمت أن وجهه خير، ولكنك تؤيد تقريب مؤخره من وجهه في الجودة، وغير ذلك مما هو مذكور في محله.
هذا والحمد لله حمدا غضا والصلاة والسلام على نبيه النبيه حتى يرضى وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ورجوم الغواية ما ظهر الحق والصواب وأحرق شياطين الأوهام من فلك العلم شهاب. وكتب أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه سنة 1254 رمضان.
ثم طبع هذا الكتاب المستطاب الحري أن يكتب بالتبر المذاب على ذمة حضرة السيد أحمد شاكر أفندي وشبل المؤلف المرحوم لا زال راتعا في رياض الفضائل والعلوم وذلك سنة 1301 من ذي القعدة الحرام.