الرئيسيةبحث

اقتضاء الصراط المستقيم/17


وذكر محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد ومحمد بن إسماعيل وغيرهما عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله ﷺ الذي فيه قبره هو بيت عائشة الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة وأن الذي يلي القبلة منه أطوله والشرقي والغربي سواء والشامي أنقصها وباب البيت مما يلي الشام وهو مسدود بحجارة سود وقصة

ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك هذا البناء الظاهر وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد النبي ﷺ وذلك أن رسول الله ﷺ قال كما حدثني عبد العزيز بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وحدثني مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك هو من المنكرات عندهم

ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي ﷺ أو قبور غيره من الصالحين وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك

فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم

وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي ﷺ فشكا إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي الناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ وأعرف من هذه الوقائع كثيرا

وكذلك سؤال بعضهم للنبي ﷺ أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس هو مما نحن فيه

وعليك أن تعلم أن إجابة النبي ﷺ أو غيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل ﷺ إن أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل

وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة

فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا

فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك

وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها ونزول العذاب بمن استهان بها فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك

وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذر منها الشارع كما تقدم فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك

الوجه الرابع أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد وربما اجتمع القبوريون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي ﷺ بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وبقوله ﷺ لا تتخذوا القبور مساجد فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد

حتى إن بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم من السنة ويسافرون إليها لإقامة العيد إما في المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها

وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء وبعضها في يوم عرفة وبعضها في النصف من شعبان وبعضها في وقت آخر بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة وكما يقصد مصلى المصر يوم العيدين بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد

ومنها ما يسافر إليه من الأمصار في وقت معين أو وقت غير معين لقصد الدعاء عنده والعبادة هناك كما يقصد بيت الله الحرام لذلك وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في تحريمه والنهي عنه إلا أن يكون خلافا حادثا وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور

فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة أو إقامة العيد أو نحو ذلك فهذا لا ريب فيه حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول نريد الحج إلى قبر فلان وفلان

ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع

وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ بقوله لا تتخذوا قبري عيدا

فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال وقد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسين

وقد ذكرت فيما تقدم أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجيء بها السنة فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين

ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه وقبر الحسين وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وقبر موسى بن جعفر ومحمد ابن علي الجواد ببغداد وعند قبر أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وغيرها وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي وكان يفعل نحو ذلك بحران عند قبر يسمى قبر الأنصاري إلى قبور كثيرة في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها كما أنهم بنوا كثيرا منها مساجد وبعضها مغصوب كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم

وهؤلاء الفضلاء من الأمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم وإحياء ما أحيوه من الدين والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان ونحو ذلك

فأما اتخاذ قبورهم أعيادا فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيدا كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي ﷺ أنه كائن في هذه الأمة

وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب لانمحي ذلك كله فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراما كالصلاة عندها وأولى وكان ذلك فتنة للخلق وفتحا لباب الشرك وإغلاقا لباب الإيمان

فصل

قد تقدم أن النبي ﷺ نهى عن اتخاذها مساجد وعن الصلاة عندها وعن اتخاذها عيدا وأنه دعا الله ان لا يتخذ قبره وثنا يعبد

وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك

وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها والأمر بالسلام عليها والدعاء لها

وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء أو الدعاء ضمنا وتبعا

وتمام الكلام في ذلك بذكر سائر العبادات فالقول فيها جميعا كالقول في الدعاء فليس في ذكر الله هناك أو القراءة عند القبر أو الصيام عنده أو الذبح عنده فضل على غيره من البقاع ولا قصد ذلك عند القبور مستحبا

وما علمت أحدا من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك أو الصيام والقراءة أفضل منه في غير تلك البقعة

فأما ما يذكره بعض الناس من أنه ينتفع الميت بسماع القرآن بخلاف ما إذا قرئ في مكان آخر فهذا إذا عنى به أنه يصل الثواب إليه إذا قرئ عند القبر خاصة فليس عليه أحد من أهل العلم المعروفين بل الناس على قولين

أحدهما أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة وغيرهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالاجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب الشافعي ومالك وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الموضع

والثاني أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك وما من أحد من هؤلاء يخص مكانا بالوصول أو عدمه

فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق لكن الميت ما بقي يثاب بعد الموت على عمل يعمله هو بعد الموت من استماع أو غيره وإنما ينعم أو يعذب بما كان قد عمله في حياته هو أو بما يعمل غيره بعد الموت من أثره أو بما يعامل به كما قد اختلف في تعذيبه بالنياحة ! عليه وكما ينعم بما يهدي إليه وكما ينعم بالدعاء له وإهداء العبادات المالية بالإجماع وكذلك قد ذكر طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي فقد يقال أيضا إنه يتنعم بما يسمعه من القراءة وذكر الله

وهذا لو صح لم يوجب استحباب القراءة عنده فإن ذلك لو كان مشروعا لبينه رسول الله ﷺ لأمته

وذلك لأن هذا وإن كان نوع مصلحة ففيه مفسدة راجحة كما في الصلاة عنده وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه وغير ذلك من العبادات يحصل له به من النفع أعظم من ذلك وهو مشروع ولا مفسدة فيه ولهذا لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائما للقراءة عنده إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن ذلك ليس مما شرعه النبي ﷺ لأمته لكن اختلفوا في القراءة عند القبور هل هي مكروهة أم لا تكره والمسألة مشهورة وفيها ثلاث روايات عن أحمد

إحداها أن ذلك لا بأس به وهي اختيار الخلال وصاحبه وأكثر المتأخرين من أصحابه وقالوا هي الرواية المتأخرة عن أحمد وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح سورة البقرة وخواتيمها ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة

والثانية أن ذلك مكروه حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صلى عليها في المقبرة وفيه عن أحمد روايتان وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه كعبد الوهاب الوراق وأبي بكر المروزي ونحوهما وهي مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وهشيم بن بشير وغيرهم ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحدا يفعل ذلك

فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه

والثالثة أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها كما نقل ابن عمرو رضي الله عنهما وعن بعض المهاجرين وأما القراءة بعد ذلك مثل الذين ينتابون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا

وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها لما فيها من التوفيق بين الدلائل والذين كرهو القراءة عند القبر كرهها بعضهم وإن لم يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة فان أحمد نهى عن القراءة في صلاة الجنازة هناك

ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر ومع هذا فالفرق بين ما يفعل ضمنا وتبعا وما يفعل لأجل القبر بين كما تقدم والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القرآن وأنها رزق لحافظ القرآن وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته

وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته فهو مما يحفظ به الدين كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر وقد قال ﷺ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

وبسط الكلام في الوقوف وشروطها قد ذكر في موضع آخر وليس هذا هو المقصود هنا

فأما ذكر الله هناك فلا يكره لكن قصد البقعة للذكر هناك بدعة مكروهة فإنه نوع من اتخاذها عيدا وكذلك قصدها للصيام عندها ومن رخص في القراءة فانه لا يرخص في اتخاذها عيدا مثل أن يجعل له وقت معلوم يعتاد فيه القراءة هناك أو يجتمع عنده للقراءة ونحو ذلك كما أن من يرخص في الذكر والدعاء هناك لا يرخص في اتخاذه عيدا لذلك كما تقدم

وأما الذبح هناك فنهى عنه مطلقا ذكره أصحابنا وغيرهم لما روى أنس عن النبي ﷺ قال لا عقر في الإسلام رواه أحمد وأبو داود وزاد قال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة

قال أحمد في رواية المروزي قال النبي ﷺ لا عقر في الإسلام كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره فنهى النبي ﷺ عن ذلك كره أبو عبد الله أكل لحمه

قال صحابنا وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه فهذه أنواع العبادات البدنية أو المالية أو المركب منهما

فصل

ومن المحرمات العكوف عند القبر والمجاورة عنده وسدانته وتعليق الستور عليه كأنه بيت الله الكعبة

فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة محرم بدلالة السنة فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام بل عند بعضهم العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام إذ من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله

بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وقد أسست على تقوى من الله ورضوان

وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور إما قبر نبي أو شيخ أو بعض أهل البيت أفضل من حج البيت الحرام ويسمى زيارتها الحج الأكبر ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي ﷺ أفضل من حج البيت وبعضهم إذا وصل إلى المدينة رجع ولم يذهب إلى البيت الحرام وظن أنه حصل له المقصود وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها والتوسل بها وسؤال الميت ودعائه

ومعلوم أن النبي ﷺ أفضل من الكعبة ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه وأن المقصود بزيارة القبور هو الدعاء لها كما يقصد بالصلاة على الميت لزال هذا الشرك عن قلوبهم ولهذا نجد كثيرا من هؤلاء يسأل الميت والغائب كما يسأل ربه فيقول اغفر لي وارحمني وتب علي ونحو ذلك

وكثير من الناس تتمثل له صورة الشيخ المستغاث به ويكون ذلك شيطانا قد خاطبه كما تفعل الشياطين بعبدة الأوثان

وأعظم من ذلك قصد الدعاء عنده والنذر له أو للسدنة العاكفين عليه أو المجاورين عنده من أقاربه أو غيرهم واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة أو كشف عنه البلاء

فإنا قد بينا بقول الصادق المصدوق أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير وأن الله لم يجعله سببا لدرك حاجة كما جعل الدعاء سببا لذلك فكيف بنذر المعصية الذي لا يجوز الوفاء به

واعلم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى به وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع

فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادا وأوثانا فيه غص من كرامة أصحابها بل هو من باب إكرامهم

وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقه مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه

ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم كما قال ﷺ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء

إنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة

إما من الأدعية وإما من الأسفار وإما من السماعات ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع أو بعضه أعني لإعراض قلوبهم وإن قاموا بصورة المشروع وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلا لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتما بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خيرا من جنسها

ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة مالا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره

ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته

فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه

فصل

فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه فيها لكنهم لا يتخذوها مساجد

فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين

أحدهما النهي عن ذلك وكراهته وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع مثل أن يكون النبي ﷺ قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك

والقول الثاني أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي ﷺ وإن كان النبي قد سلكها اتفاقا لا قصدا

قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي ﷺ أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي ﷺ وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه

وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها فقال أما على حديث ابن أم مكتوم وأنه سأل النبي ﷺ أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا أو على ما كان يفعل ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي ﷺ حتى إنه رؤي يصب في موضع الماء فسئل عن ذلك فقال كان النبي ﷺ يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده رواهما الخلال في كتاب الأدب

فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم

وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة قال موسى وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة

فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه

وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ب ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لئيلاف قريش في الثانية فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا قالوا مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم أتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض

فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي ﷺ عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا

وفي رواية عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي ﷺ فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها

وروى محمد بن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ بيعة الرضوان لأن الناس كانوا يذهبون تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم

وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك المشاهد

فقال محمد بن وضاح كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبا واحدا ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها

فهؤلاء كرهوها مطلقا لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا وإلى التشبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي ﷺ

والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي ﷺ تكون بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا قصد النبي ﷺ العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد

وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات

واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها

وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيرا لهن إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم

ومثله ما أخرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي ﷺ فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله ﷺ وأبو بكر معه بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله

عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام رسول الله ﷺ فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم

ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبنى مسجده في موضع صلاة رسول الله ﷺ فلا بأس به وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته

ولكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي ﷺ ليكون النبي ﷺ هو الذي يرسم المسجد بخلاف مكان صلى فيه النبي ﷺ اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة إلى المسجد لكن لا لأجل صلاته فيه

فأما الأمكنة التي كان النبي ﷺ يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله ﷺ واتباعا له كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب

ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي ﷺ يتحرى الصلاة عندها

وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي ﷺ كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة

وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي ﷺ كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا

نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان

فيجب الفرق بين اتباع النبي ﷺ والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به

وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله ﷺ فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه

وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما فإن النبي ﷺ كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة

فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة

فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي وصلى فيها اتفاقا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي ﷺ

ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال ﷺ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة

وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة

وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه وقصد جبل ثور والصلاة فيه وقصد الأماكن التي يقال إن الأنبياء قاموا فيها كالمقامين اللذين بجبل قاسيون بدمشق اللذين يقال إنهما مقام إبراهيم وعيسى والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما

ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور فإنه يقال إن هذا مقام نبي أو قبر نبي أو ولي بخبر لا يعرف قائله أو بمنام لا تعرف حقيقته ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى شرك مبني على إفك والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص

ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين ثم قرأ قول الله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به

وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم اللذين كنتم تزعمون إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون

وقال تعالى عن الخليل إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون

وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة إلى قوله إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار وضل عنكم ما كنتم تزعمون

وقال تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إلى قوله

وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون

وقال تعالى ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

وقال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين

قال أبو قلابة هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة وهو كما قال

فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به

والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجمعات والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد

فقال تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يقل مشاهد الله

وقال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ولم يقل عند كل مشهد

وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ولم يقل مشاهد الله بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك

وقال تعالى في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب

وقال تعالى ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولم يقل وأن المشاهد لله

وكذلك سنة رسول الله ﷺ الثابتة بقوله في الحديث الصحيح من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ولم يقل مشهدا

وقال أيضا في الحديث صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة

وقال أيضا في الحديث الصحيح من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة كانت خطواته إحداها ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدث

وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول ﷺ فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ولم يأمرنا ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا على غير قبر نبي ولا على مقام نبي ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ ولا عند قبر غيره من الأنبياء وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ﷺ وعلى صاحبيه

واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي ﷺ لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما يستقبل قبره ويسلم عليه

وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصا عنه وقال أبو حنيفة بل يستقبل القبلة ويسلم عليه وهكذا في كتاب أصحابه

وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو ولكن يسلم ويمضي

وقال أيضا في المبسوط لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي ﷺ فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر

فقيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده

وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر أو منحرفا عنه وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس في ائمة المسلمين من استحب للمار أن يستقبل قبر النبي ﷺ ويدعو عنده

وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وذم قوما فقال إن الذن ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله ﷺ فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله الآية

فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه فانه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي ﷺ ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره

فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء

ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام وهو يسمي ذلك دعاء فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي ﷺ يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده

وقد تقدم قوله إنه يصلي عليه ويدعو له

ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال ﷺ في الحديث الصحيح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة

فقول مالك في هذه الحكاية ان كان ثابتا عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو بطاعته وفعل ما يشفع له به يوم القيامة كسؤال الله له الوسيلة ونحو ذلك

وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب إذا سلم على النبي ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم يعني دعاءه للنبي ﷺ وصاحبيه

فهذا الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم ويدعي له بأبي هو وأمي ﷺ

وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة

وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية فهي والله أعلم باطلة فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل النبي ﷺ بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا

وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ... يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم ... نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ...

ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع

وليس كل من قضيت حاجته لسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعا مأمورا به فقد كان ﷺ يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل

وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع

وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها