الرئيسيةبحث

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل


فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة

  • قال علي بن أحمد : اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها .

فقالت طائفة : كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي ، إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي .

وقالت طائفة : إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور ، وكذلك النهي ولا فرق ، وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي .

  • قال علي بن أحمد : وبهذا نقول لقول الله عز وجل : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .

ولإِخبار رسول الله ﷺ : أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار . حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ، ثنا ابن مفرج ، ثنا محمد بن أيوب الرقي ، أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ، ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع/ عن النبي ﷺ قال : «يُعْرَضُ عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى الأَصَمُّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئاً ، وَالأَحْمَقُ وَالهَرِمُ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ ، فَيَقُولُ الأَصَمُّ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الأَحْمَقُ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الَّذِي مَاتَ فِي الفَتْرَةِ : رَبّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنّهُ ، فَيُرْسِلُ الله تَعَالى إِلَيْهِمْ : ادْخُلُوا النَّار ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوها لكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلاماً» .

وبه إلى قتادة عن الحسن البصري ، عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره: «وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْها دَخَلَ النَّارَ» .

فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر ، وأنه لا يُكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه ، فصح يقيناً أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها .

واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله ﷺ : «إِذَا اجْتهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فسماه ﷺ مخطئاً ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به .

  • قال أبو محمد : وهذا الخبر لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة لنا وبه نقول ، لأنه قد يكون مخطئاً من لا يوافق الحق ، وإن لم يكن مأموراً بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد ، فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا ، وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه ، فهو مخطىء بلا شك ، وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل ، وأدخل في الدين ما ليس منه ، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق ، وهو غير حق ، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه .

فإن قال قائل : لو كان ما قلتم لكان الدين لازماً لبعض الناس لا لكلهم .

قلنا وبالله التوفيق : ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإِنس إذا بلغهم ، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خُلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك ، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ .

فإن قالوا : فكيف حال من لم يبلغه الأمر ، أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟

فإن قلتم : هو مأمور بما أمره الله تعالى به ، وإن لم يبلغه فهو قولنا ؛ وإن قلتم : هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به ، أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغباً بشيعاً .

قلنا وبالله التوفيق : لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول : هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلاً حتى يبلغه ، وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ .

فإن قالوا : فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامداً فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به .

قلنا لهم : هذا السؤال لازم لكم ولنا .

فأما نحن فنقول وبالله التوفيق : إنه ليس في ذلك مطيعاً ولا عاصياً ، لكنه مستسهل لمخافة الحق ، هام بترك الحق ، إلا أنه لم يفعل ذلك بعد . هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقًّا ولا واقع باطلاً .

  • قال أبو محمد : أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام :

فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ ، وليس أحد من هؤلاء موجوداً بعد موت رسول الله ﷺ ، لأن النسخ بطل بعد موته ﷺ واستقرت الشرائع .

وقسم ثان : علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص .

وقسم ثالث : بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ ، أو تأولوا فيهما تأويلاً قاصدين إلى الحق .

فإما من كان في عصر رسول الله ﷺ فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ ، لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ، ولا يسقط اليقين إلا بيقين .

برهان هذا : أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة ، وبأقصى جزيرة العرب ، فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله ﷺ ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة ، وتحريم بعض ما لم يكن حراماً كالحق ، وإمساك المشركات وغير ذلك . فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه .

وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك ، فلا شك أيضاً في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ ، بل كان فرضاً عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا ، والحمد لله يقيناً لا مجال للشك فيه .

وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب ، إذ لم يبلغهما نهي النبي ﷺ عن إقرارهم فيها ، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك ، بل فعلا ما أمرا به .

ولو قال قائل : إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق ، لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة ، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما ، وبالله تعالى التوفيق .

فإن قيل : فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .

قلنا : لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ ، وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه .

  • قال أبو محمد : ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامداً قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة ، وهذا باطل ، وأما لو أن إنساناً اليوم خفيت عليه دلائل القبلة ، فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما ، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة ، فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة ، وهو بذلك فاسق ، لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالماً أنه أمر به فيها ، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته ، فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك .
  • قال أبو محمد : وأما من كان بعد رسول الله ﷺ فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص ، فإنه أيضاً مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص ، لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك ، بل افترض عليه خلافاً لذلك طاعة أمره تعالى جملة ، والمنسوخ من أمره فلا شك، فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق .

ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمراً يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه ، وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان ، قال عز وجل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ، ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالاً والتباساً ، ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقيناً.

وأما من بلغه الناسخ والخاص ، ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك ، لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه ، لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة ، مأجور بقصده الخير ، ومعذور بجهله ونسيانه ، فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح، وبالله تعالى التوفيق .

فإن احتج محتج بحديث رسول الله ﷺ إذ فرضت الصلاة ليلة الإِسراء ، وفيه قول موسى عليه السلام : «كَمْ فَرَضَ الله عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ خَمْسِينَ صَلاةً أَوْ نَحْوَها» فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة .

قلنا : إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا .

وبرهان ذلك : أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها . هذا ما لا خلاف فيه . فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ ، وبعد انتهاء الشرع إليه ، وبعد دخول الوقت : وبهذا تتألف الأخبار كلها ، وبالله تعالى التوفيق .

برهان ذلك : أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ، ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصياً لله تعالى ، فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين ، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي ﷺ وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه ؛ فهذا هو مبلغ ، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه ، لأنه لم يتجانف لإِثم ، والأعمال بالنيات ، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير ، وإلى طاعة الله ورسوله ﷺ ، فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل ، بخلاف الرسول ، إما بعلمه فقط فهو فاسق ، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق .