القصيدة لـ أبو القاسم الشابي
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ
|
|
فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
|
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي
|
|
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
|
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ
|
|
تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
|
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ
|
|
مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
|
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ
|
|
وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
|
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ
|
|
وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
|
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ
|
|
رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
|
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ
|
|
وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
|
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ
|
|
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
|
فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ
|
|
وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر
|
وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ
|
|
وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر
|
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ :
|
|
"أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"
|
"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ
|
|
وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
|
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ
|
|
وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
|
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ
|
|
وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
|
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ
|
|
وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
|
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم
|
|
لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
|
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ
|
|
مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"
|
وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ
|
|
مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر
|
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ
|
|
وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
|
سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ
|
|
لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟
|
فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ
|
|
وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر
|
وَقَالَ لِيَ الْغَـابُ في رِقَّـةٍ
|
|
مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر
|
يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ
|
|
شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر
|
فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ
|
|
وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
|
وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ
|
|
وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر
|
وَتَهْوِي الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا
|
|
وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر
|
وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ في كُلِّ وَادٍ
|
|
وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر
|
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ
|
|
تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
|
وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ
|
|
ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
|
وَذِكْرَى فُصُول، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ
|
|
وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر
|
مُعَانِقَـةً وَهْيَ تَحْـتَ الضَّبَابِ
|
|
وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر
|
لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذي لا يُمَـلُّ
|
|
وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِيِّ الخَضِر
|
وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّيُـورِ
|
|
وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر
|
وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ
|
|
حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر
|
فصدّعت الأرض من فوقـها
|
|
وأبصرت الكون عذب الصور
|
وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه
|
|
وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر
|
وقبلّـها قبـلاً في الشفـاه
|
|
تعيد الشباب الذي قد غبـر
|
وقالَ لَهَا : قد مُنحـتِ الحياةَ
|
|
وخُلّدتِ في نسلكِ الْمُدّخـر
|
وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي
|
|
شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر
|
ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ
|
|
يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر
|
إليك الفضاء ، إليك الضيـاء
|
|
إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر
|
إليك الجمال الذي لا يبيـد
|
|
إليك الوجود الرحيب النضر
|
فميدي كما شئتِ فوق الحقول
|
|
بِحلو الثمار وغـض الزهـر
|
وناجي النسيم وناجي الغيـوم
|
|
وناجي النجوم وناجي القمـر
|
وناجـي الحيـاة وأشواقـها
|
|
وفتنـة هذا الوجـود الأغـر
|
وشف الدجى عن جمال عميقٍ
|
|
يشب الخيـال ويذكي الفكر
|
ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ
|
|
يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر
|
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء
|
|
وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر
|
وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ
|
|
بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر
|
وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ
|
|
في هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر
|
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ
|
|
لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
|
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ
|
|
فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ
|