الفصل الثاني في أن الشبه مع قران الحكم به دليل على كون الوصف علةً
وبيانه أنا إذا رأينا حكماً ثابتاً عقيب وصفين وأحد الوصفين شبهي بالتفسير الأخير والآخر طردي فلا يخلو: إما أن يكون الحكم ثابتاً لمصلحة أو لا لمصلحة لا جائز أن يقال بالثاني إذ الحكم الشرعي لا يخلو عن مصلحة وإن لم يكن ذلك بطريق الوجوب كما تقرر قبل فلم يبق غير الأول وهو أنه ثابت لمصلحة وتلك المصلحة لا تخلو: إما أن تكون في ضمن الوصف الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما ولا يخفى أن اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب على الظن من اشتمال الطردي عليها لأن الطردي مجزوم بنفي مناسبته والشبهي متردد فيه على ما تقرر وإذا كان ذلك هو الغالب على الظن فالظن معمول به في الشرعيات على ما تقدم تقريره. الفصل الثالث زعم بعض أصحابنا أن الشبهي إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عينه لا يكون حجةً بخلاف الوصف المناسب مصيراً منه إلى أن الشبهي إذا ظهر تأثير عينه في عين الحكم فالظن المستفاد منه في أدنى درجات الظن فإذا انحط عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس فقد اضمحل الظن بالكلية لأنه ليس تحت أدنى درجات الظن درجة سوى ما ليس بظن وما ليس بمظنون لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب فإن الظن المستفاد منه باعتبار العين في العين قوي جداً فنزوله عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس وإن فات معه ذلك الظن الغالب فقد بقي له أصل الظن فكان حجةً. وأيضاً فإن الوصف الشبهي إنما صار شبهياً باعتبار الشارع له في جنس الحكم المعلل وذلك في إفادة الظن دون المناسب المرسل والمناسب المرسل ليس بحجة لما سيأتي تقريره فما هو دونه أولى أن لا يكون حجةً وهذا بخلاف المناسب المتأيد بشهادة الجنس في الجنس فإنه فوق المناسب المرسل فلا يلزم من كون المرسل ليس بحجة أن يكون ذلك ليس بحجة. ولقائل أن يقول: أما الأول فهو مبني على أن الشبهي المتأيد بشهادة العين في العين في أدنى درجات الظنون وهو غير مسلم بل للخصم أن يقول: ما هو في أدنى درجات الظنون إنما هو الشبهي المتأيد بشهادة الجنس في الجنس والنزول عن تلك الدرجة إلى ما دونها لا يوجب انمحاق الظن بالكلية كما قيل. وأما الثاني فهو وإن سلم أن الشبهي إنما صار شبهياً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام وأنه أدنى من المناسب المرسل من حيث إن مناسبة المرسل ظاهرة ومناسبة الشبهي غير ظاهرة بل موهومة متردد فيها. غير أن الشبهي بعد أن ثبت كونه شبيهاً بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام إذا رأينا الشارع قد اعتبر جنسه في جنس الحكم المعلل فقد صار معتبراً ولا كذلك المرسل فإنه غير معتبر ولا يلزم من عدم الاحتجاج بما ليس معتبرا عدم الاحتجاج بالمعتبر. المسلك السابع: إثبات العلة بالطرد والعكس. وقد اختلف فيه: فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علةً. لكن اختلف هؤلاء: فمنهم من قال إنه يدل على العلية قطعاً كبعض المعتزلة ومنهم من قال يدل عليها ظناً كالقاضي أبي بكر وبعض الأصوليين وهو مذهب أكثر أبناء زماننا. والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعاً ولا ظناً وهو المختار وصورته ما إذا قيل في مسألة النبيذ مثلاً مسكر فكان حراماً كالخمر وأثبت كون المسكر علة للتحريم بدورانه مع التحريم وجوداً وعدماً في الخمر فإنه إذا صار مسكراً حرم وإن زال الإسكار عنه بأن صار خلا فإنه لا يحرم وقد احتج القائلون إنه ليس بحجة بأمرين: الأول ما ذكره الغزالي وهو أن قال حاصل الاطراد يرجع إلى سلامة العلة عن النقض وسلامة العلة عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد فصحة الشيء لا تكون بسلامته عن المفسدات بل لوجود المصحح والعكس ليس شرطاً في العلل فلا يؤثر. وهذه الحجة ضعيفة فإنه وإن سلم أن كل واحد من الأمرين على انفراده لا دلالة له على العلية فلا يلزم منه عدم التأثير بتقدير الإجتماع ودليله إجزاء العلة فإن كل واحد منها لا يستقل بإثبات الحكم ولم يلزم من ذلك عدم استقلال المجموع. الحجة الثانية لبعض أصحابنا: قال إن الصور التي دار الحكم فيها مع الوصف وجوداً وعدماً لا بد أن تكون متمايزة بصفات خاصة بها وإلا كانت متحدةً لا متعددةً. وعند ذلك فللخصم أن يأخذ الوصف الخاص بكل صورة من صور الطرد والعكس في العلة في تلك الصورة ويجعل العلة في كل صورة مجموع الوصفين وهما الوصف المشترك والوصف الخاص بها وهي من النمط الأول إذ لقائل أن يقول: الترجيح للتعليل بالوصف المشترك لكونه مطرداً في جميع مجاري الحكم فيكون أغلب على الظن بخلاف التعليل بالمركب من الوصف الخاص والمشترك. فإن قيل: بل التعليل بالمركب أولى لما فيه من تعدد مدارك الحكم فإنه أولى من اتحاده لكونه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم فهو مقابل بأن التعليل بالوصف المشترك يكون منعكساً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة ولا يخفى أن التعليل بالمطرد المنعكس أولى من التعليل بالمطرد الذي لا ينعكس للاتفاق عليه ولأن التعليل بالوصف المشترك يكون متعدياً بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة فإنه يكون قاصراً والتعليل بالمتعدية أولى للاتفاق عليها والاختلاف في القاصرة. والحق في ذلك أن يقال: مجرد الدوران لا يدل على التعليل بالوصف لوجهين: الأول أنه يجوز أن يكون الوصف وصفاً ملازماً للعلة وليس هو العلة وذلك كالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بدلالة البحث والسبر أو بأن الأصل عدمه. ويلزم من ذلك الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهو كاف في الاستدلال على العلية. الثاني أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين كالمتضايفين وليس أحدهما علة للآخر وكذلك فإن الدوران كما وجد في جانب الحكم مع الوصف فقد وجد في جانب الوصف مع الحكم وليس الحكم علة للوصف. فإن قيل: نحن لا ندعي أن مطلق الدوران دليل على علية الوصف ليلزم ما قيل بل بقيود ثلاثة وهي أن يكون حدوث ذلك الأثر مرتباً على وجود ذلك الوصف ترتباً عقلياً بحيث يصدق قول القائل: وجد هذا الشيء فحدث ذلك الأثر. وأن لا يقطع بخروج هذا الوصف عن أن يكون علةً وموجباً لحدوث ذلك الأثر وأن لا يقطع بوجود علة أخرى لهذا الحكم سوى هذا الوصف ومهما وجد الدوران على هذه القيود كان دليلاً على العلية. وذلك كما إذا دعي الإنسان باسم فغضب منه وإذا لم يدع به لم يغضب ورأينا ذلك منه مراراً مرة بعد مرة وجوداً وعدما فإنه يغلب على الظن أن ذلك الاسم هو سبب الغضب حتى إن الصبيان يعلمون ذلك منه ويتبعونه في الدروب داعين له بذلك الاسم المغضب له والدوران بهذه القيود متحقق في السكر مع التحريم فكان دليلاً على كونه علةً وخرج عليه ما ذكر من الرائحة الفائحة حيث قطعنا أنها ليست علةً وكذلك الحكم في كل واحد من المتضايفين بالنسبة إلى الآخر ولأنه يمتنع ترتيب كل واحد على الآخر في الوجود بالتفسير المذكور وكذلك الكلام في نسبة الحكم إلى الوصف وخرج عليه أيضاً ما إذا ظهر ثم علة مغايرة للمدار. قلنا: ما ذكروه من دوران غضب الإنسان مع دعائه ببعض الأسماء بالقيود المذكورة لا نسلم غلبة الظن بكون ذلك الاسم علة بل به أو بملازمه وإنما يظهر كونه علة مع ظهور انتفاء الملازم والطريق في ذلك إنما هو التمسك بالعدم الأصلي أو بعدم الاطلاع عليه بعد البحث والسبر والتقسيم ويلزم منه الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهي كافية في التعليل. وقد ترد عليه أسئلة أخرى مشهورة الجواب آثرنا الإعراض عن ذكرها اكتفاء في إبطال الدوران بما ذكرناه فإنه في غاية القوة والدقة. وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلاً على العلية فالاطراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلاً نظراً إلى أن الاطراد عبارة عن السلامة عن النقض المفسد والسلامة عن مفسد واحد غير موجبة للتصحيح. خاتمة في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحكم وهو العلة. ولما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه أما تحقيق المناط فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها وسواء كانت معروفةً بنص أو إجماع أو استنباط أما إذا كانت معروفةً بالنص فكما في جهة القبلة فإنها مناط وجوب استقبالها وهي معروفة بإيماء النص وهو قوله تعالى:" وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره " البقرة 144.
وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنظر في الأمارات وأما إذا كانت معلومةً بالإجماع فكالعدالة فإنها مناط وجوب قبول الشهادة وهي معلومة بالإجماع وأما كون هذا الشخص عدلاً فمظنون بالاجتهاد. وأما إذا كانت مظنونةً بالاستنباط فكالشدة المطربة فإنها مناط تحريم الشرب في الخمر فالنظر في معرفتها في النبيذ هو تحقيق المناط ولا نعرف خلافا في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العلة فيه معلومة بنص أو إجماع وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مدرك معرفتها الاستنباط. وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علةً من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة كما علم فيما تقدم مما ذكرناه من التعليل بالوقاع في قصة الأعرابي فإنه وإن كان مومى إليه بالنص غير أنه يفتقر في معرفته عيناً إلى حذف كل ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد وذلك بأن يبين أن كونه أعرابياً وكونه شخصاً معيناً وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه وذلك اليوم بعينه وكون الموطوءة زوجة وامرأة معينةً لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك حتى يتعدى إلى كل من وطىء في نهار رمضان عامداً وهو مكلف صائم وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول. وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون عليته وذلك كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة علة لتحريم شرب الخمر وكون القتل العمد العدوان علةً لوجوب القصاص في المحدد وكون الطعم علة ربا الفضل في البر ونحوه حتى يقاس عليه كل ما ساواه في علته وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولذلك أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من المعتزلة البغداديين. بسم الله الرحمن الرحيم الباب الثالث في أقسام القياس وأنواعه وهي خمس قسم: القسمة الأولى: القياس ينقسم إلى ما المعنى الجامع فيه باقتضاء الحكم في الفرع أولى منه في الأصل وإلى ما هو مساو وإلى ما هو أدنى. فالأول كتحريم ضرب الوالدين بالنسبة إلى تحريم التأفيف لهما وما في معناه وسواء كان قطعياً أو ظنياً كما سبق تقريره في مسائل المفهوم. وإن كان الثاني فكما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق وكما في إلحاق نجاسة الماء بصب البول فيه من كوز بنجاسته بالبول فيه ونحوه. وإن كان الثالث فكما في إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب الحد ونحوه غير أن هذا النوع الثالث متفق على كونه قياساً ومختلف في النوعين الأولين كما سبق. القسمة الثانية: القياس ينقسم إلى جلي وخفي. فالجلي ما كانت العلة فيه منصوصةً أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره فالأول كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما بعلة كف الأذى عنهما. والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنه لا فارق بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع وعلمنا عدم التفات الشارع إلى ذلك في أحكام العتق خاصة. وأما الخفي فما كانت العلة فيه مستنبطةً من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على المحدد ونحوه. القسمة الثالثة. القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم. أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعاً عليها. والثاني ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم أو عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم. وأما الملائم فما أثر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه ومن الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أثر عينه في عين الحكم لا غير والملائم ما بعده من الأقسام. القسمة الرابعة. القياس ينقسم إلى قياس علة ودلالة والقياس في معنى الأصل. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد صرح به أو لم يصرح به فإن صرح به فلا يخلو إما أن يكون هو العلة الباعثة على الحكم في الأصل أو لا يكون هو العلة بل هو دليل عليها. فإن كان الأول فيسمى قياس العلة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بواسطة الشدة المطربة ونحوه وإنما سمي قياس العلة للتصريح فيه بالعلة. وإن كان الثاني فيسمى قياس الدلالة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة أو الجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلة في الأصل استدلالاً به على الموجب الآخر كما في الجمع بين قطع الجماعة ليد الواحد وقتل الجماعة للواحد في وجوب القصاص بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم بتقدير إيجابها. وأما إن كان الوصف الجامع لم يصرح به في القياس كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق بواسطة نفي الفارق بينهما فيسمى القياس في معنى الأصل. القسمة الخامسة. القياس لا يخلو إما أن يكون طريق إثبات العلة المستنبطة فيه المناسبة أو الشبه أو السبر والتقسيم أو الطرد والعكس كما سبق تحقيقه. فإن كان الأول فيسمى قياس الإحالة. وإن كان الثاني فيسمى قياس الشبه. وإن كان الثالث فيسمى قياس السبر. وإن كان الرابع فيسمى قياس الاطراد. الباب الرابع في مواقع الخلاف في القياس وإثباته على منكريه وفيه ست مسائل. المسألة الأولى يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلاً وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالة ورود التعبد به عقلاً وإن اختلفوا في مأخذ الإحالة العقلية كما سنبينه وقال القفال من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري بأن العقل موجب لورود التعبد بالقياس. والمختار إنما هو الجواز ويدل على ذلك الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول: لا يقضي القاضي وهو غضبان لأن الغضب مم يوجب اضطراب رأيه وفهمه فقيسوا على الغضب ما كان في معناه كالجوع والعطش والإعياء المفرط وأن يقول: حرمت عليكم شرب الخمر ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعدواة والبغضاء لتغطيتها على العقل فقيسوا عليها كل ما في معناه من النبيذ وغيره ولو كان ذلك ممتنعاً عقلاً لما حسن ورود الشرع بذلك. وأما من جهة التفصيل فمن وجهين: الأول هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله أدرك بالأمارات الحاضرة المدلولات الغائبة وذلك كمن رأى جداراً مائلاً منشقاً فإنه يحكم بهبوطه أو رأى غيماً رطباً وهواءً بارداً حكم بنزول المطر أو رأى إنساناً خارجاً من بيت فيه قتيل وبيده سكين مخضبة بالدم حكم بكونه قاتلاً فإذا رأى الشارع قد أثبت حكماً في صورة من الصور ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعياً إلى إثبات ذلك الحكم ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام والسبر الكامل فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها ولم يظهر له أيضاً ما يعارضه فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك. الثاني أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر على ما قال عليه السلام ثوابك على قدر نصبك وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف فالعقل لا يحيله بل يجوزه. فإن قيل: ما ذكرتموه من جواز التعبد بالقياس بناء على ظن حصول المصلحة ودفع المضرة إنما يحسن إذا لم يكن الوصول إلى ذلك بطريق يقيني وأما إذا أمكن فلا وذلك لأنه مهما أمكن الوصول إلى المطلوب بطريق يؤمن فيه الخطأ فالعقل يمنع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ فما لم تثبتوا أنه لم يوجد دليل شرعي قاطع يدل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أمة فاتباع الظن يكون ممتنعاً عقلاً. سلمنا أنه لم يوجد دليل قطعي على ذلك لكن إنما يسوغ العقل التمسك بالظن إذا لم يوجد دليل ظني راجع على ظن القياس مفض إلى حكم القياس وإلا كان العمل بما الخطأ فيه أقرب مما ترك وهو ممتنع عقلاً سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تجويز العقل لذلك غير أنه منقوض ومعارض.
أما النقض فبصور: منها أن قول الشاهد الواحد بل العبيد والنساء المتمحضات في الحقوق المالية والدماء والفروج بل الفساق مغلب على ظن القاضي الصدق ومع ذلك لا يجوز له العمل به ومنها أن مدعى النبوة إذا غلب على الظن صدقه من غير دلالة المعجزة عليه لا يجوز اتباعه والعمل بقوله ومنها أن المصالح المرسلة وإن غلبت على الظن لا يجوز العمل بها ومنها أنه لو اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة منها وإن وجدت علامات مغلبة على الظن. وأما المعارضة فمن خمسة وعشرين وجهاً: الأول: قال النظام إن العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها والشارع قد رأيناه فرق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات وهو على خلاف قضية العقل وذلك يدل على أن القياس الشرعي غير وارد على مذاق العقل فلا يكون العقل مجوزاً له. أما تفرقته بين المتماثلات فإنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً دون البول والمذي وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش عليه من بول الغلام ونقص من عدد الرباعية في حق المسافر الشطر دون الثنائية وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز القبيحة المنظر وأباحه في حق الأمة الحسناء وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير وأوجب الجلد بالقذف بالزنى دون القذف بالكفر وقبل في القتل شاهدين دون الزنى وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل استبراء الرحم بحيضة واحدة في حق الأمة والحرة المطلقة بثلاث حيضات وأوجب تطهير غير الموضع الذي خرجت منه الريح مع أن القياس كان مقتضياً للتسوية في جميع هذه الصور بل ربما كان بعض الصور التي لم يثبت فيها الحكم أولى به مما ثبت فيها. وأما تسويته بين المختلفات فإنه سوى بين قتل الصيد عمداً وخطأ في إيجاب الضمان وسوى في إيجاب القتل بين الردة والزنى وسوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في رمضان والظهار مع الاختلاف وذلك مما يبطل الاعتبار بالأمثال ويوجب امتناع العمل بالقياس. الثاني: قالت الشيعة: إن القول بالتعبد بالقياس يفضي إلى الاختلاف وذلك عند ما إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر والاختلاف ليس من الدين لقوله تعالى:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 وقوله تعالى:" وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " الشورى 13 وقوله:" ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال 46 وقوله:" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً " الأنعام 159 وقوله تعالى:" ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 ذكر ذلك في معرض الذم ولا ذم على ما يكون من الدين وقد ذم الصحابة الاختلاف حتى قال عمر لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافاً وأنه لما سمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب رسول الله ﷺ اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلياً يأمر بها فقلت إن بينكما لشراً. وكتب علي إلى قضاته أيام خلافته أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي. الثالث: أنه إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه أن يكون الشيء ونقيضه حقاً وهو محال وإما أن يقال بأن المصيب واحد وهو أيضاً محال فإنه ليس تصويب أحد الظنين مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس. الرابع: قال النبي ﷺ أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة الربوية قصداً لقياس ما عداها من المطعومات عليها مع أنه كان قادراً على ما هو أصرح منه وللخلاف والجهل أدفع وهو أن يقول حرمت الربا في كل مطعوم لكان عدولاً منه عن الظاهر المفهوم إلى الخفي الموهوم وهو غير لائق بفصاحته وحكمته وهو خلاف نصه.
الخامس: أن الحكم في أصل القياس إن كان ثابتاً بالنص امتنع إثباته في الفرع لعدم وجود النص في الفرع وامتناع ثبوته فيه بغير طريق حكم الأصل وإلا لما كان تابعاً للأصل ولا فرعاً له وإن كان ثابتاً بالعلة فهو ممتنع لوجهين: الأول أن الحكم في الأصل مقطوع والعلة مظنونة والمقطوع به لا يثبت بالمظنون. الثاني أن العلة في الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه والمتفرع على الشيء لا يكون مثبتاً لذلك الشيء وإلا كان دورا ممتنعاً. السادس: أنه لو كانت العلة منصوصة كما لو قال حرمت الربا في البر لكونه مطعوماً فإنه لا يقتضي التحريم في غير البر فالمستنبطة أولى بعدم التعدية وبيان أن المنصوصة لا تقتضي التحريم في غير محل النص قصور دلالة اللفظ عن ذلك. ولهذا فإنه لو قال: أعتقت كل عبد لي أسود عتق كل السودان من عبيده ولو قال: أعتقت عبدي سالماً لسواده أو لسوء خلقه فإنه لا يعتق غانم وإن كان أشد سواداً من سالم وأسوأ خلقاً. السابع: أن حكم القياس إما أن يكون موافقاً للبراءة الأصلية أو مخالفاً لها: فإن كان الأول لم يكن القياس مفيداً لأنه لو قدر عدمه كان مقتضاه متحققاً بالبراءة الأصلية وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن البراءة الأصلية متيقنة والقياس مظنون واليقين تمتنع مخالفته بالظن. الثامن: أنه لو جاز التعبد بالقياس عقلا في الفروع لظن المصلحة لجاز مثل ذلك في أصول الأقيسة وهو محال لما فيه من التسلسل. التاسع: أن الشرعيات مصالح فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبد بالإخبار عن كون زيد في الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات وهو ممتنع. العاشر: أن الرجم بالظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفاً لحكم الله تعالى. الحادي عشر: أنه لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم بذاتها وعلل الشرع ليس كذلك فلا قياس. الثاني عشر: أن حكم الله تعالى خبره وذلك إنما يعرف بالتوقيف لا بالقياس لأن القياس من فعلنا لا من توقيف الشارع. الثالث عشر: أن جلي الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فكذلك خفيها كالمدركات فإن جليها وخفيها لا يدرك بغير الحس. الرابع عشر: أنه لو كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها عن أحكامها كما في العلل العقلية فإنه يستحيل انفكاك الحركة القائمة بالجسم عن كون متحركاً لما كانت الحركة علة لكونه متحركاً وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال. الخامس عشر: أنه لو كان القياس صحيحاً لكان حجة مع النص وذلك ممتنع بالإجماع. السادس عشر: أن نظر القائس لا بد وأن يقع في منظور فيه والمنظور فيه ليس سوى النص والحكم وهو الواجب والحرام مثلاً وليس المنظور فيه هو النص إذ هوغير متناول للفرع والحكم فهو فعل المكلف ويلزم من ذلك أنه إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصح القياس: ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس الشرعي السابع عشر: أنه لو جاز التعبد بتحريم شيء أو وجوبه عند ظننا أنه مشابه لأصل محرم أو واجب بناء على أمارة لجاز أن يتعبد بذلك عند ظننا المشابهة من غير أمارة وهو محال. الثامن عشر: أنه لو جاز التعبد بالقياس الشرعي لكان على عليته دلالةً والدلالة عليها إما النص والعلة المستنبطة التي فيها الخلاف غير منصوصة وإما العادات والعادات تكون مثبتةً للأحكام الشرعية فلا تكون مثبتة لأماراتها. التاسع عشر: لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلة على ثبوب الأحكام في الفروع لم يقف كونها أدلةً على شيء سواها كما في النصوص والاتفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل والمحتاج إلى الدليل لا يكون دليلاً كما في الأحكام. العشرون: أنه إذا غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر إما لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتاً أو مالاً فلا بد من رعاية المصلحة في ذلك وأي مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته. الحادي والعشرون: أنه لو صح معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبياً بالقياس لصح معرفة الأمور الغيبية بالقياس وهو محال. الثاني والعشرون: أن القياس فعل القائس وذلك مما لا يجوز أن يتوصل به إلى معرفة المصالح.
الثالث والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل جاز أن يكون معللاً وجاز أن لا يكون معللا وبتقدير كونه معللاً يحتمل أن يكون الحكم ثابتاً بغير ما استنبط وبتقدير أن يكون ثابتاً بما استنبط يحتمل أن لا يكون متحققاً في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنيا وما هذا شأنه لا يصلح للدلالة. الرابع والعشرون: أنه لو جاز التعبد بالقياس لأفضى ذلك إلى تقابل الأدلة وتكافئها وأن يكون الرب تعالى موجباً للشيء ومحرماً له وهو محال على الله تعالى وبيان ذلك أنه قد يتردد الفرع بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وذلك محال. الخامس والعشرون: أن القياس لا بد فيه من علة جامعة والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل العقلية والعلة الشرعية يجوز عند القائلين بالقياس أن تكون ذات أوصاف والعلة العقلية ليست كذلك فإنها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحل الذي قامت به متحركاً واستقلال السواد بكون محله أسود ونحوه. وأما من زعم أن العقل موجب للتعبد بالقياس الشرعي فقد احتج بثلاث شبه. الأولى أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فلا تمكن إحاطة النصوص بها فاقتضى العقل وجوب التعبد بالقياس. الثانية أنه إذا غلب على الظن أن المصلحة في إثبات الحكم بالقياس وأنه أنفى للضرر فيجب اتباعه عقلاً تحصيلاً للمصلحة ودفعاً للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والهلاك في النهوض. الثالثة أن العلل الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل فكان العقل موجباً لورود التعبد بها كما توجب أحكام العلل العقلية. والجواب عن السؤال الأول أنه إذا سلم أن القياس مغلب على الظن وجود المصلحة فهو بيان وهو وإن كان البيان فيه مرجوحاً بالنسبة إلى البيان القاطع فليس ذلك مما يمنع من التعبد به مع عدم الظفر بالبيان القاطع وإن كان ممكن الوجود وإلا لما جاز التعبد بالنصوص الظنية وأخبار الآحاد مع إمكان أن يخلق الله تعالى لنا العلم الضروري بالأحكام وإمكان وجود النصوص القاطعة الجلية. وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الثاني أيضاً. وعن النقض بما ذكروه من الصور أن العقل يجوز ورود التعبد بكل ما هو مغلب عن الظن غير أنه لما ورد التعبد من الشارع بامتناع العمل به كان ذلك لمانع الشرع لا لعدم الجواز العقلي. وعن المعارضة الأولى أن كل ما ظن فيه الجامع بين الأصل والفرع وظهرت صلاحيته للتعليل فالعقل لا يمنع من ورود التعبد من الشارع فيه بالإلحاق وحيث فرق الشارع في الصور المذكورة فلم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبد بالقياس بل إنما كان ذلك إما لعدم صلاحية ما وقع جامعاً أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع وحيث جمع بين مختلفات الصفات فإنما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصورة وإن اتحد نوع الحكم أن تعلل بعلل مختلفة لا أن الحكم ثبت في الكل بالقياس. وعلى هذا نقول: ما لم يظهر تعليله وصحة القياس عليه إما لعدم صلاحية الجامع أو لتحقق الفارق أو لظهور دليل التعبد فلا قياس فيه أصلاً وإنما القياس فيما ظهر كون الحكم في الأصل معللاً فيه وظهر الاشتراك في العلة وانتفى الفارق. وعن الثانية أن ذلك وإن أفضى إلى الاختلاف بين المجتهدين فإن ذلك غير محذور مطلقاً فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله وهي مختلفة ولا محذور فيها وإلا لما كانت مشروعةً من عند الله كيف وإن الأمة الإسلامية معصومة عن الخطإ على ما عرف. فلو كان الاختلاف مذموماً ومحذوراً على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية مخطئةً بل الأمة قاطبةً وذلك ممتنع. وعلى هذا فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله والقيام بنصرته وفيما المطلوب فيه القطع دون الظن والاختلاف بعد الوفاق واختلاف العامة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد وبالجملة كل ما لا يجوز فيه الاختلاف جمعاً بين الأدلة بأقصى الإمكان.
وقوله تعالى:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " النساء 82 إنما المراد به نفي التناقض والاضطراب والاختلاف المناقض للبلاغة عن القرآن لا نفي الاختلاف في الأحكام الشرعية. وأما إنكار عمر على ابن مسعود وأبي بن كعب فيجب أيضاً حمله على اختلافهما فيما سبق فيه الإجماع أو على اختلافهما بالنظر إلى مستفت واحد حذراً من تحيره. وأما قول جرير لعلي وعمر عند اختلافهما في مسألة المتعة فيجب حمله على ما ظنه من إفضاء ذلك إلى فتنة وثوران أمر. وأما ما كتبه علي إلى قضاته فيجب حمله أيضاً على خوفه من انفتاق فتق بسبب نسبته إلى تعصب لمخالفة من سبق. وعن الثالثة باختيار تصويب كل مجتهد بناء على أن الحكم عند الله تعالى في حق كل واحد ما أدى إليه اجتهاده وذلك مما لا يمنع من كون الشيء ونقيضه حقاً بالنسبة إلى شخصين مختلفين كما في الصلاة وتركها بالنسبة إلى الحائض والطاهر وكالجهات المختلفة في القبلة حال اشتباهها بالنسبة إلى شخصين وبالنسبة إلى شخص واحد في حالتين مختلفتين وكجواز ركوب البحر في حق من غلب على ظنه السلامة وتحريمه في حق من غلب على ظن الهلاك. وهذا بخلاف القضايا العقلية وما الحق فيه في نفس الأمر لا يكون إلا واحداً معيناً كحدوث العالم وقدمه ووجود الصانع وعدمه. وعن الرابعة من وجهين: الأول أنه لو كان العدول من أصرح الطريقين وأبينهما إلى أدناهما مما يمتنع ويخل بالبلاغة لما ساغ ورود الكتاب بالألفاظ المجملة وإرادة المعين والعامة وإرادة الخاص والمطلقة وإرادة المقيد والألفاظ المحتملة ولما ساغ أيضا مثل ذلك من الرسول مع إمكان الإتيان بألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب وهو ممتنع خلاف الواقع. الوجه الثاني: أنه غير بعيد أن يكون الله تعالى ورسوله قد علم أن في التعبد بالقياس والاجتهاد مصلحةً للمكلفين لا تحصل من التنصيص وذلك بسبب بعث دواعيهم على الاجتهاد طلباً لزيادة الثواب الحاصل به على ما نطق به النص في حق عائشة حتى تبقى الشريعة مستمرة غضةً طرية. وعن الخامسة أن الحكم في الأصل وإن كان ثابتاً بالنص أو الإجماع لا بالعلة وأن ذلك غير متحقق في الفرع فلا نسلم وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق إثبات حكم الأصل بل يمكن أن يكون إثبات الحكم في الأصل مع كونه مقطوعاً به بدليل مقطوع به وفي الفرع بوجود ما كان قد ظهر كونه باعثاً على الحكم في الأصل ولا يلزم من كون الفرع تابعاً في حكمه للأصل اتحاد الطريق المثبت للحكم فيهما وإلا لما كان أحدهما تابعاً للآخر بل التبعية متحققة بمجرد إثبات الحكم في الفرع بما عرف كونه باعثاً على الحكم في الأصل. وعن السادسة من وجهين: الأول قال بعضهم: إن علم قطعاً قصده للسواد عتق كل عبد أسود له وقال بعضهم: لا يكفي مجرد القصد بل لا بد مع ذلك من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإنه كاف في عتق كل عبد له أسود وغايته إطلاق اللفظ الخاص وإرادة العام وهو سائغ لغةً كما حمل قوله تعالى:" ولا تأكلوا أموالهم " النساء 2 على النهي عن الإتلاف العام وكما حمل قول القائل والله لا أكلت لفلان خبزاً ولا شربت من مائه جرعةً إذا قصد به دفع المنة على أخذ الدراهم وغيرها من العروض حتى إنه يحنث بكل ذلك. وقال بعضهم: لا يكفي ذلك لأن مجرد النية والإرادة لذلك غير كافية في العتق بل إن قال مع ذلك وقيسوا عليه كل أسود عتق كل عبد له أسود وهذا هو اختيار الصيرفي من أصحاب الشافعي وهو أقرب من الذي قبله. الثاني: أنه لا يلزم من امتناع التعدية هاهنا امتناع التعدية في العلل المستنبطة الشرعية وذلك لأن العتق من باب التصرف في أملاك العبيد بالزوال ولا كذلك في الأحكام الشرعية وعند ذلك فلا يلزم من امتناع التعدية هاهنا مبالغة في صيانة ملك العبيد مثله في الأحكام الشرعية. ولهذا فإنه لو اجتمع في المحل الواحد حقان لله وللآدمي وتضايق المحل عن استيفائهما كما لو وجب القتل على شخص بالردة وبالقتل الموجب للقصاص فإنه يقدم حق الآدمي على حق الله تعالى ويقتل قصاصاً لا بالردة.
ولهذا طرد أهل اللغة مثل ذلك وعدوه فيما لا يقتضي زوال ملك الآدمي فإنه لو قال القائل لغيره لا تأكل هذا الطعام فأنه مسموم ولا تشرب هذا الشراب فأنه مسهل ولا تجالس فلاناً لسواده فإن أهل اللغة يعدونه إلى كل ما هو من جنسه مشارك له في العلة. وعلى هذا نقول إنه لو قال لوكيله بع هذا العبد لسواده أو لسوء خلقه وكان قد قال له مهما ظهر لك رضائي بشيء من التصرفات بقرائن الأحوال دون صريح الأقوال فافعله وعلم أن العلة في إطلاق البيع السواد وسوء الخلق خاصةً فله بيع كل ما شاركه في تلك العلة على وزان ذلك في الشرع. وعن السابعة: أنها منقوضة بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية وبالإقرار والشهادة والفتوى وغير ذلك. وعن الثامنة: أنه لو لم يرد النص بالحكم في أصول الأقيسة وإلا كان التعبد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر جائزا وإن امتنع ذلك لما فيه من التسلسل فلا يرد به التعبد لاستحالته في نفسه. وعن التاسعة: أنه لا يمتنع في العقل أيضاً ورود التعبد بإخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت أمارة كونه في الدار. وعن العاشرة: أنها مبينة على فاسد أصول الخصوم في وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو باطل على ما عرف من أصلنا وإن سلمنا وجوب رعاية المصلحة فلا يمتنع أن يكون في التعبد بالقياس مصلحة وقد استأثر الرب تعالى بالعلم بها كيف وإن ما ذكروه منقوض بورود التعبد بالنصوص الظنية وقبول الشهادة والاجتهاد في القبلة حالة الاشتباه وبقبول قول العدول في قيم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات. وعن الحادية عشرة أن العلة في القياس إنما هي بمعنى الأمارة والعلامة على الحكم في الفرع وذلك مما لا يمتنع التعبد باتباعه ولهذا فإنه لو قال الشارع مهما رأيتم وصف الشدة المطربة فاعلموا أني قضيت بتحريم ذلك المشتد المطرب كان واجب الاتباع. وعن الثانية عشرة: أنه مهما لم يقم دليل يدل على وجوب التعبد بالقياس من نص أو إجماع فإنا لا نثبت به الحكم ولا ننفيه وإن كان يجوز ورود التعبد به عقلاً. فإذا قال الشارع قد تعبدتكم بالقياس فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنونكم أنه ثبت لعلة وأنها وأنها متحققة في صورة أخرى فقيسوها كان ذلك إخباراً عن إثبات الحكم في الفرع وإن لم يرد مثل هذا النص فانعقاد الإجماع على ذلك يكون كافياً. وعن الثالثة عشرة أنها قياس تمثيلي من غير جامع فلا يصح وقد أجاب بعضهم بأن كثيرالزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك وخفيه إنما يعلم بإخبار من شاهده لا بنفس الإدراك وليس بحق فإن الخبر مستند إلى المشاهدة. فإن قيل: الحكم في الفرع أيضاً مستند إلى الحكم الثابت بالنص فكان جلي الأحكام وخفيها مستنداً إلى النص. قيل النص الوارد في الأصل لم يكن واردا في الفرع ولو ورد في الفرع لما احتيج إلى القياس وعن الرابعة عشرة أنا لا نسلم أن كون المتحرك متحركاً يزيد على قيام الحركة بالمحل فلا علة ولا معلول وإن سلمنا أن المتحركية معللة بالحركة ولكن ما ذكروه تمثيل من غير جامع وذلك لأن اسم العلة مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية لأن العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث ولا يمتنع أن يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الأزمان دون البعض اتباعا لوضع الشارع ولا يمتنع أن يكون الوصف باعثاً لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون البعض كما أبيحت الخمرة في زمان وحرمت في زمان وجوز الصوم في زمان وحرم في زمان ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف في وقت وإلغاءه في وقت آخر. وعن الخامسة عشرة أن القياس عندنا حجة مع النص الموافق ولا يلزم أن يكون حجةً مع النص المخالف الراجح بدليل خبر الواحد فإنه حجة وإن لم يكن حجة مع النص المخالف الراجح. وعن السادسة عشرة أن نظر القائس في الفرع وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع والدلالة على عليته وفي الحكم في الفرع وليس الحكم هو فعل المكلف بل الحكم إنما هو الوجوب أو التحريم المتعلق بفعله. وعن السابعة عشرة أنه إن غلب على الظن مشابهة شيء لشيء محرم وأمكن ذلك من غير أمارة فالعقل يجوز ورود الشرع بالتعبد بتحريمه وإن لم يرد الشرع به.
وعن الثامنة عشرة بمنع الحصر فيما ذكروه وما المانع من طريق آخر يعرف كون الوصف الجامع علة من الإيماء أو غيره من طرق التخريج كما عرف. وعن التاسعة عشرة: أن العلل المستنبطة من الأصول وإن كانت أدلةً على الأحكام في الفروع فليست أدلةً لذواتها وصفات أنفسها الذاتية كما في العلل العقلية بل إنما كانت أدلة بالوضع والتوقيف وجعل الشارع لها أدلة فلذلك افتقرت في جعلها أدلة إلى غيرها. وعن العشرين: أن الكلام في هذه المسألة غير مختص بتصحيح القياس في آحاد الصور بل إنما هو في جواز ورود التعبد بالقياس في الجملة كيف وإن الوجه في ظهور المصلحة في التعليل بمطعوم جنس أو مكيل جنس أو غير ذلك مما قد تكلف بيانه في مسائل الفروع فعلى الناظر في ذلك بالاعتبار حتى إن كل ما لم يظهر فيه وجه المصلحة ولا دفع المفسدة من الأوصاف المستنبطة بدليله فالقياس فيه غير جائز. وعن الحادية والعشرين أن كل ما هو غيب عنا لو جعل الله عليه أمارة تدل عليه كما جعل ذلك في الأحكام الشرعية كان الحكم في معرفته كما في الأحكام وحيث لم يجعل له أمارةً تدل عليه لم يكن معلوماً. وعن الثانية والعشرين: لا نسلم أن التوصل إلى معرفة المصالح بفعل القائس وإنما فعل القائس وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع تبع لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم الأصل. وعن الثالثة والعشرين: أنه متى غلب على ظن القائس كون الحكم معللاً وظهرت له علة في نظره مجردة عن المعارض وتحقق وجودها في الفرع كان له القياس وإلا فلا. وعن الرابعة والعشرين: أنه مهما تقابل في نظر القائس قياسان على التحليل والتحريم مثلاً فكل واحدة من العلتين غير موجبة لحكمها لذاتها فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين وعلى هذا إن ترجحت إحداهما على الأخرى كان العمل بها وإن تعارضا من كل وجه أمكن أن يقال بالوقف إلى حين ظهور الترجيح وأمكن أن يقال بتخيير المجتهد في العمل بأي القياسين شاء على ما عرف من مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل. وعن الخامسة والعشرين: لا نسلم أن العلل الشرعية على وزان العلل العقلية وإنما هي بمعنى الأمارات والعلامات وما كان بمعنى الأمارة والعلامة لا يمتنع أن يكون الظن الحاصل منه من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها وذلك كالظن الحاصل بنزول المطر عند طلوع الغيم وتكاثفه ودنوه من الأرض وهبوب الهواء البارد وكذلك ظن سقوط الجدار بميله وانشقاقه وتخلخل أجزائه إلى غير ذلك. والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بكون العقل موجباً لورود التعبد بالقياس أن الذي لا يتناهى إنما هو الجزئيات الداخلة تحت الأجناس الكلية أما الأجناس الكلية فلا نسلم أنها غير متناهية وعلى هذا فقد أمكن التنصيص على كل واحد من الأجناس بأن يقول الشارع كل مطعوم ربوي وكل مسكر حرام وكل قاتل عمداً عداوناً مقتول وكل سارق من حرز مثله لا شبهة له فيه مقطوع إلى نظائره والحكم في كل صورة من جزئيات ذلك الجنس يكون ثابتا بالنص. وإن افتقرنا فيه إلى الاجتهاد في إدراج كل واحد تحت جنسه ليتم إثبات الحكم فيه بالنص فذلك إنما هو من باب تحقيق متعلق الحكم لا أنه قياس وعلى هذا فلا حاجة إلى القياس وإن سلمنا امتناع التعميم بغير القياس فإنما يجب التعبد به أن لو كان النبي عليه السلام مكلفاً بالتعميم وهو غير مسلم بل يمكن أن يقال بأنه إنما كلف بما يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة وما ذكروه مبني على وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات. وعن الثانية أنها مبنية على كون العقل موجباً وعلى وجوب رعاية المصلحة وهو باطل على ما عرفناه وإن سلمنا أن العقل موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل لكن متى إذا كان علم الله تعالى متعلقاً بما ظنه العبد على وفق ما ظنه العبد أو على خلافه الأول مسلم والثاني ممنوع وعند ذلك فمن الجائز أن يكون الرب تعالى قد علم أنه لا مصلحة للمكلفين في القياس وأنه مضر في حقهم على خلاف مظنون العبد. ومع ذلك فلا يكون العقل موجبا للقياس وإن سلمنا إيجاب ذلك مطلقا لكن إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بطريق غير القياس أو إذا لم يمكن؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقد بينا إمكان ذلك في دفع الشبهة التي قبلها.
وعن الثالثة أنها مبينة على كون العقل موجباً وعلى وجوب رعاية المصلحة وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الحكم في الفرع سوى القياس وعلى أن الله تعالى عالم بأن المصلحة في القياس كما ظنه العبد وكل ذلك ممنوع وأيضاً فإن العلة الجامعة قد لا يكون طريق إثباتها المناسبة كما سبق تعريفه. وبتقدير أن يكون لا طريق سوى المناسبة وأنه لا طريق إلى معرفتها إلا بالعقل فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجوب التعبد بها عقلاً وما ذكروه من العلل العقلية مبني على العلة والمعلول العقليين وهو غير مسلم. وبتقدير تحقق ذلك فالعقل إنما يقضي بملازمة معلول العلة العقلية لها لكونها مقتضيةً لمعلولها بذاتها ولا كذلك العلل الشرعية فإنها إنما كانت عللاً بمعنى الأمارات والعلامات فلا يصح القياس. المسألة الثانية الذين اتفقوا على جواز التعبد بالقياس عقلاً اختلفوا فمنهم من قال لم يرد التعبد الشرعي به بل ورد بحظره كداود بن علي الأصفهاني وابنه القاشاني والنهرواني ولم يقضوا بوقوع ذلك إلا فيما كانت علته منصوصة أو مومى إليها. وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما بيناه في المسألة المتقدمة وأومأنا إلى إبطاله. ثم الدليل السمعي هل هو قاطع أو ظني اختلفوا فيه فقال الكل إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري فإنه قال إنه ظني وهو المختار. وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فمنها كتابية وإجماعية ومعنوية أما الكتابية فقوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" النساء 59 ووجه الاحتجاج به أنه أمر بطاعة الله والرسول. والمراد من ذلك إنما هو امتثال أمرهما ونهيهما فقوله ثانياً:" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء والظاهر من الرد هو القياس ولأنه لو أراد به اتباع أوامرهما ونواهيهما لكان ذلك تكراراً فلم يبق إلا أن يكون المراد به الرد إلى ما استنبط من الأمر والنهي. ولقائل أن يقول لا نسلم أن المراد من قوله تعالى:" فردوه" القياس على ما أمر الله ورسوله بل يمكن أن يكون المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا حتى يدخل تحت قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فالأمر الأول بالطاعة للأمر والنهي والثاني بالبحث عن المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا فلا تكرار. وإنما يمكن حمل الرد على القياس مع كونه مختلفاً في الاحتجاج به أن لو تعذر حمل لفظ الرد على غيره وليس بمتعذر. وإن سلمنا امتناع حمله على البحث عن كون المتنازع فيه مأموراً أو منهياً أمكن أن يكون المراد بقوله:" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" النساء 59 فيما أمركم به ونهاكم عنه والمراد من قوله:" فإن تنازعتم في شيء" أي فيما لم يسبق فيه أمر ولا نهي فردوه إلى الله والرسول بالسؤال للرسول لينبئكم عن مقتضى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله. فإن قيل: هذا يوجب اختصاص الآية بمن وجد في زمن النبي عليه السلام لتعذر ذلك بالنسبة إلى من بعدهم والإجماع منعقد على تعميم وجوب الطاعة والرد إلى الله والرسول في كل زمان فلو كان معنى الرد السؤال للرسول لما تصور ذلك في حق من وجد بعد النبي عليه السلام. قلنا: وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أن وجوب الرد ثابت في كل زمان لأنه إن حمل الرد على القياس فهو محل النزاع وإن حمل على السؤال للنبي عليه السلام فظاهر أنه غير واجب على من لم يره. فإن قيل: الضمير في المخاطب بالرد عائد إلى المخاطب بالطاعة فإذا كان الخطاب بالطاعة عاماً فكذلك الخطاب بالرد وإذا تعذر حمل الرد على السؤال في حق الكل تعين أن يكون المراد به القياس.
قلنا: وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أنها واجبة بقوله:" أطيعوا الله وأطيعو الرسول " لأنها خطاب مشافهة على ما سبق تقريره في الأوامر وإن سلمنا عموم خطاب الأمر بالطاعة فغايته أن يكون الضمير في قوله:" فردوه إلى الله والرسول "ظاهراً في العود إلى كل من أمر بالطاعة فعوده إلى البعض وهو من كان في زمن النبي عليه السلام لضرورة حمل الرد على السؤال للنبي عليه السلام غايته أن يكون تخصيصا للعموم وهو مقابل بمثله في حمل الرد على القياس وذلك لأن الآية عامة في حق كل مجتهد وعامي ويلزم من حمل لفظ الرد على القياس تخصيص الآية بالمجتهدين دون غيرهم وليس مخالفة أحد العمومين والتمسك بالآخر أولى من العكس وأيضا قوله تعالى:" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 والاستنباط هو القياس وهو ضعيف أيضاً. ولك لأنه إنما يجب حمل الاستنباط في الآية على القياس أن لو تعذر حمله على غيره وليس كذلك إذ أمكن أن يراد به استخراج الحكم من دليله وهو أعم من القياس. ولهذا يصح أن يقال لمستخرج الحكم من دلالة النص إنه مستنبط كيف وإن المذكور في صدر الآية إنما هو الأمن والخوف بقوله تعالى:" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف "النساء 83 فيجب أن يكون الضمير في قوله أذاعوا به وفي قوله:" ولو ردوه "وفي قوله:" لعلمه " وفي قوله:" يستنبطونه "عائداً إليه لأنه المذكور لا إلى غيره لكونه غير مذكور وليس ذلك من القياس في شيء. وأيضاً قوله تعالى:" إن أنتم إلا بشر مثلنا " يس 15 ووجه الاحتجاج به أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد أباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية ولم ينكر عليهم ذلك وهو عين القياس فكان حجة وهو ضعيف أيضاً لوجهين: الأول: لا نسلم عدم النكير عليهم فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك ولذلك قال تعالى:" إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " إبراهيم 11. الثاني: أنه وإن كان قياسا وتشبيها في الأمور الحقيقية فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضاً وهو محل النزاع. وأما الإجماعية فمنها أنهم قالوا الأمة قد علقت من قوله تعالى:" ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 تحريم الشتم والضرب بطريق القياس وهو غير صحيح لإمكان قول الخصم إن ذلك إنما عقل من دلالة اللفظ وفحوى الخطاب على ما سبق وإن كان ذلك بطريق القياس غير أن العلة فيه معلومة بدلالة النص وهي كف الأذى عن الوالدين ولا يلزم مثله فيما كانت العلة فيه مستنبطة مظنونة كما قاله النظام. ومنها أن الأمة مجمعة على رجم الزاني المحصن قياساً على رجم النبي ﷺ: لماعز وهو ضعيف وأيضاً لإمكان أن يقال بل إنما حكموا بذلك بناء على قوله ﷺ حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ومنها أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى تعبدنا بالاستدلال بالإمارات على جهة القبلة عند اشتباهها وذلك أيضاً مما لا يمكن التمسك به لأن الخصم لا يمنع من التمسك بالأمارات مطلقاً بل يجوز ذلك في القبلة وفي تقويم أروش الجنايات وقيم المتلفات وتقدير النفقات وفيما كانت الأمارات فيه خفيةً ولا يلزم مثله في الأمارات الشرعية والأقيسة كيف وإن من الخصوم من يمنع من صحة الاجتهاد عند اشتباه القبلة ويوجب التوجه إلى الجهات الأربع حتى يخرج عن العهدة بيقين. وأما الحجة المعنوية فهي أن النص والإجماع مما يقل في الحوادث ويندر.فلو لم يكن القياس حجة أفضى ذلك إلى خلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وهو خلاف المقصود من بعثة الرسل وذلك ممتنع وهي ضعيفة أيضاً وذلك لأن الوقائع التي خلت عن النصوص والإجماع إنما يلزم خلوها عن الأحكام الشرعية أن لو لم يكن نفي الحكم الشرعي بعد ورود الشرع حكماً شرعياً وأما إذا كان حكماً شرعياً وكان مدركه شرعياً وهو استصحاب الحال وانتفاء المدارك الشرعية المقتضية للأحكام الإثباتية فلا.
وإن سلمنا أن انتفاء الحكم عند انتفاء النص والإجماع ليس حكماً شرعياً ولكن إنما يمتنع ذلك أن لو كنا مكلفين بإثبات الأحكام الشرعية في كل قضية وهو غير مسلم وذلك لأن الشارع كما يورد إثبات الأحكام في بعض الوقائع قد يورد نفيها في بعض آخر على حسب اختلاف المصالح ثم يلزم على ما ذكروه أن تكون المصالح المرسلة الخلية عن الاعتبار حججاً في الشريعة وهو محال وذلك لأنه ليس كل واقعة يمكن وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها. فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجةً أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها والعذر إذ ذاك يكون مشتركاً. والمعتمد في المسألة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى:" فاعتبروا يا أولي الأبصار" الحشر2 أمر بالاعتبار والاعتبار هو الانتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق في القياس حيث إن فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع. ولهذا قال ابن عباس في الأسنان اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية أطلق الاعتبار وأراد به نقل حكم الأصابع إلى الأسنان والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا ثبت أن القياس مأمور به فالأمر إما أن يكون للوجوب أو للندب على ما سبق في الأوامر وعلى كلا التقديرين فالعمل بالقياس يكون مشروعاً. فإن قيل لا نسلم أنه أمر بالاعتبار وصيغة افعلوا مترددة بين الأمر وغيره كما سبق في الأوامر وليس جعلها ظاهرةً في البعض أولى من البعض سلمنا أنها للأمر ولكن لا نسلم أن الاعتبار ما ذكرتموه بل هو عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه أمران: الأول قوله تعالى:" إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" آل عمران13 وقوله:" وإن لكم في الأنعام لعبرة " النحل 66 والمراد به الاتعاظ إذ هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ الثاني أن القائس في الفروع إذا أقدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال إنه غير معتبر ولو كان القياس هو الاعتبار لما صح سلب ذلك عنه سلمنا أن الاعتبار ظاهر في القياس لكنه قد وجد في الآية ما يمنع من الحمل عليه ويصرفه إلى الاعتبار بمعنى الاتعاظ وذلك قوله تعالى :" يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 ولو كان الاعتبار بمعنى القياس لما حسن ترتيبه على ذلك وإنما يحسن ذلك عند إرادة الاتعاظ. سلمنا أن المراد به القياس غير أنه ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس فكانت الآية مطلقة والمطلق إذا عمل به في صورة أو صور لا يبقى حجةً فيما عداها ضرورة الوفاء بالعمل بدلالته وقد عملنا بذلك في القياس العقلي والقياس الذي علته منصوصة أو مومى إليها وبقياس الفروع على الأصول في امتناع إثباتها بالقياس سلمنا العموم لكنه قد خص بما كلفنا فيه باليقين وبما كان منصوصا عليه وبما لم نعلم له أصلاً ولا وصفاً جامعاً فإن القياس غير مأمور به في ذلك كله وكذلك إذا قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يجوز تعدية ذلك إلى سالم وإن كان مسوداً والعام بعد التخصيص لا يبقى حجةً وإن بقي حجة ففي أقل ما يتناوله الاسم العام على ما سبق في العموم. وإن سلمنا أنه يبقى حجةً فيما عدا محل التخصيص غير أن الآية خطاب مع الموجودين فيختص ذلك بمن كان موجوداً في وقت نزول الوحي بالآية وإن عم جميع الأزمان ولكنه أمر مطلق فلا يكون مفيداً للفور ولا للتكرار وإن كان مفيدا لذلك لكن بطريق ظني لا قطعي والمسألة قطعية لا ظنية. والجواب عن السؤال الأول أنا قد بينا أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب وأن الطلب لا يخرج عن اقتضاء الوجوب أو الندب في الأوامر وأي الأمرين قدر كان دليلاً على شرع القياس. قولهم: لا نسلم أن الاعتبار عبارة عما ذكرتموه قلنا: دليله ما ذكرناه. قولهم: يطلق بمعنى الاتعاظ قلنا: عنه جوابان الأول المنع ويدل عليه قولهم اعتبر فلان فاتعظ ولو كان الاعتبار هو الاتعاظ لما حسن هذا الكلام والترتيب ولأن ترتيب الشيء على نفسه ممتنع الثاني أن الاعتبار بمعنى الانتقال من الشيء إلى غيره هو القياس وهو متحقق في الاتعاظ وذلك لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال وذلك هو القياس وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآيتين.
قولهم: القائس إذا كان معرضاً عن أمر آخرته يقال إنه غير معتبر قلنا لا يصح ذلك بالنظر إلى كونه قائساً وإنما صح ذلك بالنظر إلى أمر الآخرة وإنما أطلق النفي بطريق المجاز نظراً إلى إخلاله بأعظم المقاصد وهو أمر المعاد. وعن الثالث أنه إذا كان الانتقال متحققاً في الاتعاظ على ما قدمناه وذلك هو القياس فلا نسلم امتناع ترتيب القياس على ما ذكروه. وعن الرابع أن اللفظ إن كان عاماً فهو المطلوب وإن كان مطلقاً فيجب حمله على القياس الشرعي نظرا إلى أن الغالب من الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها وهو إما أن تكون العلة فيه منصوصةً أو مستنبطةً والأول ليس بقياس على ما حققناه قبل وإن كانت مستنبطةً فقد سلم صحة الاحتجاج ببعض الأقيسة المختلف فيها ويلزم من ذلك تسليم الباقي ضرورة أن لا قائل بالفرق. وعن الخامس أن العام بعد التخصيص يكون حجةً فيما وراء صور التخصيص على ما سبق في العموم. وعن قولهم إنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يعم قلنا: لا نسلم أنه لا يعم بتقدير الوجود والفهم وإن سلمنا أنه لا يعم بلفظه فهو عام بمعناه نظراً إلى انعقاد الإجماع عل أن أحكام الخطاب الثابث في زمن النبي عليه السلام عامة في حق من بعد النبي ﷺ فإذا لم يكن الخطاب عاماً بلفظه وجب أن يكون عاماً بمعناه ضرورة انعقاد الإجماع على ذلك وبتقدير أن لا يكون عاما لا بلفظه ولا بمعناه فهو حجة على الخصوم في بعض صور النزاع ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أن لا قائل بالتفصيل. وبهذا الجواب يكون الجواب عن قولهم: إن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التكرار. وعن السؤال الأخير أن المسألة ظنية غير قطعية. وأما من جهة السنة فما روي عن النبي ﷺ أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي والنبي ﷺ أقره على ذلك. وقال:" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله "واجتهاد الرأي لا بد وأن يكون مردوداً إلى أصل وإلا كان مرسلا والرأي المرسل غير معتبر وذلك هو القياس. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن بم تقضيان؟ فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به صرحوا بالعمل بالقياس والنبي ﷺ أقرهما عليه فكان حجةً. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك ووجه الاحتجاج به كما تقدم في الخبر الأول. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحج إن حججت عنه أينفعه ذلك فقال: لها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك قالت: نعم قال فدين الله أحق بالقضاء ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس كما سبق تحقيقه. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم هل أخبرته أني أقبل وأنا صائم وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه. وأيضاً ما روي عنه أنه أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه وأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم فقال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها حكم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه علل كثيراً من الأحكام والتعليل موجب لاتباع العلة أين كانت وذلك هو نفس القياس. فمن ذلك قوله عليه السلام" كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها ". وقوله "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة ". ومنا قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فقال فلا إذاً.
ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً. ومنها قوله في حق شهداء أحد "زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك " ومنها قوله في الهرة "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " وقوله:" إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده " وقوله في الصيد:" فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله " وأيضاً قوله:" أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي "والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحاداً. فإن قيل: أما حيث معاذ فإنه مرسل وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجةً وهو مما تعم به البلوى والمرسل ليس بحجة عند الشافعي وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمال معاذ على معرفه ما به يقضي فالسؤال عما علم لا معنى له وأيضاً فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب. والأول على خلاف قوله تعالى :" ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وعلى خلاف قوله :" ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة. سلمنا صحته وأنه حجة غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما على التمسك بالبراءة الأصلية ولفظه غير عام في كل رأي فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره. سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومى إليها وإلى ما علته مستنبطة بالرأي واللفظ أيضاً مطلق وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام. سلمنا أنه حجة مطلقاً في كل قياس ولكن قبل إكمال الدين أو بعده؟ على ما قال تعالى :" اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة 3 الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته. وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبد في إثباته بالظن لا باليقين والقياس ليس من هذا الباب. وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضاً. وأما حديث الجارية الخثعمية فالورود عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ويخصه أن النبي ﷺ إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء أما أن يكون ذلك بطريق القياس فلا. وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي ﷺ حجة متبعة أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي ﷺ فلا. وأما حديث سعد بن معاذ فليس فيه أيضاً ما يدل على صحة القياس فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة ولذلك قال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله. وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقاً وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به فالمراد به تحريم التصرف مطلقاً بدليل قوله تعالى :" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " البقرة 188 وقوله :" ولا تقربوا مال اليتيم " وقوله :" ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " النساء 2 والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق.
وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام فليس يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة إذ هو محل النزاع وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق بل التعليل إنما كان لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها وبتقدير دلالتها على الإلحاق فالعلل فيها منصوصة ومومى إليها ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام وقوله عليه السلام :"إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي" فهو على خلاف قوله تعالى :" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم وبتقدير أن يكون بالقياس فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي عليه السلام مع كونه معصوماً عن الخطإ مسدداً في أحكامه جواز ذلك لغيره. والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة وأما سؤال معاذ عما به يقضي فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بأعلام الغير بأهليته للقضاء وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى :" ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب لا أن المراد به بيان كل شيء فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله وقوله بيان للقياس وغيره وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ويجب تنزيله على ذلك ضرورة الجمع بين تقرير النبي عليه السلام له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة. وعن السؤال الثاني: أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة لأن قوله فإن لم تجد عام في الجلي والخفي بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ليس بحجة على ما يأتي فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستنداً للحكم وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل فلا يكون مفتقراً إلى اجتهاد الرأي. وعن السؤال الثالث: أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياس على ما سيأتي وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام فهو حجة على غيره. وعن الرابع: أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة على ما بيناه وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط. وعن الخامس: ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود. وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار. وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضاً فإنه لو لم يكن مدرك الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي لما كان التعرض لذكره مفيداً بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم. وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتاً في حقنا ولا معنى للقياس سوى ذلك. وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضاً لأن حكمه لو كان مستنداً إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه وقد قال أحكم فيهم برأيك وقوله عليه السلام:" لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع فالحكم المستند إليه يكون حكماً لله ولرسوله.
وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء وإلى الدابة تحريم الركوب وإلى الدار تحريم السكنى وكذلك في كل شيء على حسبه وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه فتحريم البيع لا يكون مأخوذاً من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس. وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه. وأما الإجماع وهو أقوى الحجج في هذه المسألة فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم : فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف. ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد. ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأةً من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأةً لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى التشريك بينهما في السدس. ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم. ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة. ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك. ومن ذلك قول عمر أقضي في الجد برائي وأقول فيه برائي وقضى فيه بآراء مختلفة. ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا. ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم. ومن ذلك أنه لما قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها قال: قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها. ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهداً لا قاذفاً. ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما. ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي. ومن ذلك قول علي عليه السلام في حد شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترين قاس حد الشارب على القاذف. ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة فقال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم ؟ قال: نعم. قال: فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة. ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن حتى قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها أما المأثم فأرجو أن يكون منحطاً عنك ورأى عليك الدية فقال له: عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي يعني قومه وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب وقالا: إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك. ومن ذلك قول ابن عباس لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال له زيد: أقول برأيي وتقول برأيك. ومن ذلك قوله في مسألة الجد ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا.
ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك. ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة. ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته أنت علي حرام حتى قال أبو بكر وعمر: هو يمين وقال علي وزيد: هو طلاق ثلاث وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة وقال ابن عباس هو ظهار إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس. ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار فكان إجماعاً سكوتياً وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور وذلك لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصاً وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص إقامة لعذره ورداً لغيره عن الخطإ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها لكانت العادة تحيل عدم نقلها فحيث لم تنقل دل على عدمها وإذا لم يكن نصاً تعين أن يكون قياساً واستنباطاً. فإن قيل: لا نسلم أن أحداً من الصحابة عمل بالقياس وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص وترجيح أحد النصين على الآخر والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية. قولكم: لو كان ثم نص لظهر قلنا: ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضاً فعدم نقلها يدل على عدمها وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وما نقل عن الصحابة من التصريح بالعمل بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياساً فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص. سلمنا أنهم عملوا بالقياس غير أنا لا نسلم عمل الكل به فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم.
قولكم إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك وبيان وجود الإنكار ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال: إياكم والمكايلة فسئل عن ذلك فقال: المقايسة وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر اقض بما في كتاب الله فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطؤوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله وقال: إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وروي عن ابن عمر أنه قال: السنة ما سنة رسول الله لا تجعلوا الرأي سنة وقال أيضاً إن قوماً يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون وقال أيضاً: اتهموا الرأي على الدين فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم الله وحرمتم كثيراً مما حلل الله وقال أيضاً: قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً يقيسون ما لم يكن بما كان وقالت عائشة أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة وقد أنكر التابعون ذلك أيضاً حتى قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش وقال مسروق لا أقيس شيئاً بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول أول من قاس إبليس. ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع. سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة لما ذكر في الإجماع سلمنا أنه عن موافقة لكنه لا حجة في إجماع الصحابة وكيف يقال بذلك وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت وكتموا النص على علي رضي الله عنه غصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم وهذا السؤال مما أورده الرافضة. سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع وكون القياس حجةً أمر قد تعبدنا فيه بالعلم فلا يكون مستفاداً من الدليل الظني سلمنا صحة الاحتجاج به ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني سلمنا عملهم بكل قياس لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " الحجرات 1 والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله لأنه حكم بغير قوليهما وقوله تعالى :" وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 وقوله تعالى :" ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 والحكم بالقياس قول بما لا يعلم وقوله تعالى:" إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله تعالى:" إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وقوله تعالى :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله" المائدة 49 والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله. وقوله تعالى:" وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى:" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 والحكم بالقياس لا يكون حكماً لله ولا مردوداً إليه وقوله تعالى:" ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله تعالى:" ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس. وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي ﷺ قال ستفترق أمتي فرقاً أعظمها فتنةً الذين يقيسون الأمور بالرأي وأيضاً ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال تعمل هذه الأمة برهةً بكتاب الله وبرهةً بسنة رسول الله وبرهةً بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح. والجواب قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس قلنا: دليله ما ذكرناه. قولهم: يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية قلنا لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه. قولهم: ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص قلنا: منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم وهو قوله إنما الدنيا بلاغ وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء وتصريح عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب. ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع ولهذا فإن العادة جارية من بعض الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به زجراً له ولغيره عن التجسس عليه وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه فإذا رأينا ملكاً قد قتل جاسوساً أو أحسن إليه ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئاً كان ذلك كافياً في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها فدعت الحاجة إلى التصريح بها. وعلى هذا فمن قال منهم في قوله: أنت علي حرام إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه ومن جعله طلقةً واحدةً نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ومن جعله ظهاراً ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ولا لفظ الإيلاء ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر. ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها. ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات ويدل على ما ذكرناه تصريح أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي. قولهم: اجتهاد الرأي أعم من القياس قلنا: وإن كان الأمر على ما قيل غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستنداً إلى النصوص فتعين استناده إلى القياس والاستنباط. قولهم: لا نسلم عمل الكل بالقياس قلنا: وإن عمل به البعض فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعاً.
قولهم: قد وجد الإنكار لا نسلم ذلك وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادراً عن الجهال ومن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفاً للنص وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعاً بين النقلين. هذا من جهة الإجمال وأما من جهة التفصيل: أما قول أبي بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستنداً إلى محض السمع عن النبي ﷺ وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية. وأما قول عمر إياكم وأصحاب الرأي الخبر إلى آخره فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل مشروط بعدم النصوص. وقوله: إياكم والمكايلة أي المقايسة فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه. وأما قوله لأبي موسى الأشعري فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم وإلا فبتقدير أن يكون واجداً له فلا. وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه. وأما قول عثمان وعلي لو كان الدين بالقياس ...الخبر.فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس. وأما قول ابن عباس إن الله قال لنبيه الخبر ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه. وقوله: إياكم والمقاييس يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين. وقوله: إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق. وأما قول ابن عمر السنة ما سنه رسول الله ﷺ فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول. وقوله لا تجعلوا الرأي سنة أراد به الرأي الذي لا اعتبار له وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجاً عن السنة. وقوله: إن قوماً يفتون بآرائهم ...الخبر ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل. وقوله اتهموا الرأي على الدين غايته الدلالة على احتمال الخطإ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله. وقوله:" وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة. وأما قول ابن مسعود: إذا قلتم في دينكم بالقياس ...الخبر يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق. وقوله ويتخذ الناس رؤوسا جهالاً... إلى آخره فالمراد به أيضا القياس الباطل ولهذا وصفهم بكونهم جهالاً وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين جمعاً بين النقلين كما سبق تقريره. قولهم: لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة قلنا: دليله ما سبق في مسائل الإجماع. قولهم: لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضاً. وما ذكروه من القوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة الضلال وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب أبكار الأفكار في المواضع اللائقة بذلك. قولهم: إنه حجة ظنية قلنا: والمسألة أيضاً عندنا ظنية. قولهم: ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها عنه أجوبة ثلاثة : الأول: أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام. الثاني: أنه إذا كانت العلة منصوصةً فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم بها في غير محل النص فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتاً بالاستدلال أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس.
الثالث: أن ذلك يكون حجةً على من أنكر القياس مطلقاً وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله. قولهم: لا يلزم أن يكون القياس حجةً بالنسبة إلى غير الصحابة قلنا: القائل قائلان: قائل يقول بالقياس مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقائل بنفيه مطلقاً بالنسبة إلى الكل وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقاً. وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدماً بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله وذلك متوقف على كون الحكم به تقدماً بين يدي الله ورسوله فلا يكون حجةً. وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه : الأول: أنا نقول بموجب الآيتين وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم. الثاني: أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعاً بينهما وبين ما ذكرناه من الأدلة. الثالث: أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية فكانت مشتركة الدلالة. وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى :" وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وقوله :" إن بعض الظن إثم " الحجرات 12 وأما قوله تعالى :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المائدة 49 فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل كيف وأن ذلك خطاب مع الرسول ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره. وقوله تعالى:" وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله:" فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 غير مانع من القياس لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول وأما من قال بإبطال القياس فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما فكان ذلك حجةً عليه لا له. وقوله تعالى:" ما فرطنا في الكتاب من شيء " الأنعام 38 وقوله :" ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " الأنعام 59 فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه كيف وإنه مخصوص بالإجماع فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية بل وكثير من الأحكام الشرعية كمسائل الجد والإخوة وأنت علي حرام والمفوضة ومسائل العول ونحوه وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها حذراً من مخالفة عموم اللفظ. وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعاً بين الأدلة. المسألة الثالثة إذا نص الشارع على علة الحكم هل يكفي ذلك في تعدية الحكم بها إلى غير محل الحكم المنصوص دون ورود التعبد بالقياس بها ؟اختلفوا فيه : فقال أبو إسحاق الاسفرايني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر: لا يكفي ذلك. وقال أحمد بن حنبل والنظام والقاشاني والنهرواني وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة والكرخي: يكفي ذلك في إثبات الحكم بها أين وجدت وإن لم يتعبد بالقياس بها. وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت العلة المنصوص عليها علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافياً في تحريم الفعل بها أين وجدت وإن كانت علة لوجوب الفعل أو ندبه لم يكن ذلك كافيا في إيجاب الفعل بها ولا في ندبه أين وجدت دون ورود التعبد بالقياس لأن من تصدق على فقير لفقره بدرهم لا يجب أن يتصدق على كل فقير ومن أكل شيئاً من السكر لأنه حلو لا يجب عليه أن يأكل كل سكر وهذا بخلاف من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك كل رمانة حامضة.
والمختار هو القول الأول لأنه إذا قال الشارع حرمت الخمر لأنه مسكر ولم يرد التعبد بإثبات التحريم بالمسكر في غير الخمر فالقضاء بالتحريم في غير الخمر كالنبيذ إما أن يكون ذلك لأن اللفظ اقتضى بعمومه تحريم كل مسكر وأن قوله: حرمت الخمر لأنه مسكر نازل منزلة قوله: حرمت كل مسكر كما قاله النظام ومن قال بمقالته وإما لوجود العلة في غير الخمر لعدم إمكان قسم ثالث. فإن كان الأول: فهو ممتنع من حيث إن قوله: حرمت الخمر لإسكاره لا دلالة له من جهة اللغة على تحريم كل مسكر كدلالة قوله: حرمت كل مسكر ولهذا فإنه لو قال: أعتقت عبيدي السودان عتق كل عبد أسود له ولو قال: أعتقت سالماً لسواده فإنه لا يعتق كل عبد له أسود وإن كان أشد سواداً من سالم وكذلك إذا قال لوكيله: بع سالما لسوء خلقه لم يكن له التصرف في غيره من العبيد بالبيع وإن كان أسوأ خلقاً من سالم. وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول أنه لو كان وجود ما نص على عليته كافياً في إثبات الحكم أينما وجدت العلة دون التعبد بالقياس للزم من قوله:أعتقت سالماً لسواده عتق غانم إذا كان مشاركاً له في السواد وهو ممتنع. الثاني: أنه من الجائز أن يكون ما وقع التنصيص عليه هو عموم الإسكار ومن الجائز أن يكون خصوص إسكار الخمر لما علم الله فيه من المفسدة الخاصة به التي لا وجود لها في غير الخمر وإذا احتمل واحتمل فالتعدية به تكون ممتنعةً إلا أن يرد التعبد بالتعدية. فإن قيل: لم قلتم إن اللفظ لا يقتضي بعمومه تحريم كل مسكر وقوله: أعتقت عبدي سالماً لسواده دال على عتق غانم أيضاً إذا كان أسود ولهذا فإن أهل اللسان وكل عاقل يناقضه في ذلك عند عدم إعتاقه ويقول له: فغانم أيضاً أسود فلم خصصت سالماً بالعتق ؟ وكذلك القول في قوله لوكيله: بع سالماً لسواده. هذا بالنظر إلى المفهوم من اللفظة لغةً وحيث لم يقع العتق بغير سالم ولا جاز بيعه شرعاً فإنما كان لأن اللفظ وإن كان له على ذلك دلالة لكنها غير صريحة فالشارع قيد التصرف في أملاك العبيد بصريح القول نظراً لهم في عاقبة الأمر لجواز طرو الندم والبداء عليهم بخلاف تصرف الشارع في الأحكام الشرعية. ولهذا فإنه لو قال الشارعً حرمت الخمر لإسكاره وقيسوا عليه كل مسكر لزم منه تحريم كل مسكر ولو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود فإنه لا ينفذ تصرفه بذلك وإن سلمنا أنه لا عموم في اللفظ ولكن لم قلتم إنه يمتنع إثبات الحكم لوجود العلة ؟ وما ذكرتموه من ً الأول: فالعذر عنه ما ذكرناه من تقييد الشارع التصرف في أملاك العبيد بصريح القول دون غيره. وما ذكرتموه من الوجه الثاني: فغير صحيح لستة أوجه: الأول: أن العرف شاهد بأن الأب إذا قال لولده: لا تأكل هذا فإنه مسموم وكل هذا لأنه غذاء نافع فإنه يفهم منه المنع من أكل كل طعام مسموم وجواز أكل كل غذاء نافع ولو أمكن أن يكون لخصوص الإضافة تأثير أو احتمل أن تكون داخلةً في التعليل لما تبادر إلى الفهم التعميم من ذلك والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وفق التصرفات العرفية. الثاني: أن الغالب من العلة المنصوص عليها أن تكون مناسبةً للحكم حتى تخرج عن التعبد ولا مناسبة في خصوص إضافة الإسكار إلى الخمر بل المناسبة في كونه مسكراً لا غير. الثالث: أنه لو لم يكن الوصف المنصوص عليه علةً بعمومه بحيث يثبت به الحكم في موضع آخر بل العلة خصوص إضافة ذلك الوصف إلى محله لم يكن للتنصيص عليه فائدة وذلك لأن اختصاص الخمر بوصف الإسكار ملازم له غير مفارق فكان يكفيه أن يقول: حرمت الخمر لا غير. الرابع: أن أخذ خصوص إضافة الوصف المنصوص على عليته في التعليل على خلاف الظاهر في جميع التعاليل ولهذا فإن عقلاء العرب ما نطقوا بعلة إلا وطردوها في غير المحل الذي أضافوها إليه ولهذا فإنهم إذا قالوا: اضرب هذا الأسود لكونه سارقاً فإنهم يلغون خصوص إضافة السرقة إلى الأسود حتى إن السرقة لو وجدت من أبيض كانت مقتضيةً لضربه. الخامس: أنه لو أمكن أخذ خصوص إضافة الصفة إلى محلها في التعليل لما صح قياس أصلاً وذلك ممتنع.
السادس: أنه إذا قال الشارع: حرمت التأفيف للوالدين فإنه يفهم منه كل عاقل تحريم ضربهما لما كان الشارع مومياً إلى العلة وهي كف الأذى عنهما فإذا صرح بالعلة ونص عليها كان ذلك أولى بالتعدية ولو كان لخصوص الأذى بالتأفيف مدخل في التعليل لما فهم تحريم الضرب سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع التعدية فيما إذا قال: حرمت الخمر لكونها مسكرةً لكنه غير مطرد فيما إذا قال: علة تحريم الخمر الإسكار حيث إنه لا إضافة. والجواب: قولهم: لم قلتم إن اللفظ بعمومه لا يقتضي ذلك قلنا: لما ذكرناه. قولهم: إن قوله: أعتقت سالماً لسواده مقتض بلفظه عتق غيره من العبيد السودان غير صحيح فإن اللفظ الدال على العتق إنما هو قوله: أعتقت سالماً وذلك لا دلالة له على غيره وإن قيل إنه يدل عليه من جهة التعليل فهو عود إلى الوجه الثاني. قولهم إن العقلاء يناقضونه في ذلك بغانم قلنا: ليس ذلك بناء على عموم لفظ العتق لهما وإنما ذلك منهم طلباً لفائدة التخصيص لسالم بالعتق مع ظنهم عموم العلة التي علل بها وإذا بطل القول بتعميم اللفظ فالعتق يكون منتفياً في غانم لعدم دلالة اللفظ على عتقه لا لما ذكروه كيف وإنه يجب اعتقاد ذلك حتى لا يلزم منه نفي العتق مع وجود دليله في حق غانم لأنه لو دل اللفظ عليه لكان الأصل اعتبار لفظه في مدلوله نظراً إلى تحصيل مصلحة العاقل التي دل لفظه عليها. قولهم إنه لو قال لوكيله: بع سالماً لسواده وقس عليه كل أسود من عبيدي لا ينفذ تصرفه في غير سالم لا نسلم ذلك فإنه لو قال له: مهما ظهر لك من إرادتي ورضائي بشيء بالاستدلال دون صريح المقال فافعله فله فعله فإذا قال: أعتق سالما لسواده وقس عليه غيره فإذا ظهر أن العلة السواد الجامع بين سالم وغانم وأنه لا فارق بينهما فقد ظهر له إرادته لعتق غانم فكان له عتقه. قولهم: لم قلتم بامتناع الحكم لوجود العلة ؟ قلنا: لما ذكرناه من الوجهين وما ذكروه على الوجه الأول فإنما يصح أن لو كان ما ذكروه من العلة موجباً للحكم في غير محل النص ويجب اعتقاد انتفاء الحكم لانتفاء العلة حذراً من التعارض فإنه على خلاف الأصل والجواب عما ذكروه على الوجه الثاني من الإشكال الأول أنا إنما قضينا فيما ذكروه بالتعميم نظراً إلى قرينة حال الآباء مع الأبناء وأنهم لا يفرقون في حقهم بين سم وسم وغذاء نافع وما في معناه من الأغذية النافعة وهذا بخلاف ما إذا حرم الله شيئاً أو أوجبه فإن العادة الشرعية مطردة بإباحة مثل ما حرم وتحريم مثل ما أوجب حتى أنه يوجب الصوم في نهار رمضان ويحرمه في يوم العيد ويبيح شرب الخمر في زمان ويحرمه في زمان ويوجب الغسل من بول الصبية والرش من بول الغلام ويوجب الغسل من المني دون البول والمذي مع اتحاد مخرجهما ويوجب الحائض قضاء الصوم دون الصلاة ويبيح النظر إلى وجه الرقيقة الحسناء دون الحرة العجوز الشوهاء إلى غير ذلك مما ذكرناه فيما تقدم من التفرقة بين المتماثلات وعلى عكسه الجمع بين المختلفات وذلك لما علمه الله تعالى من اختصاص أحد المثلين بمصلحة مقارنة لزمانه لا وجود لها في مثله إذ ليست المصالح والمفاسد من الأمور التابعة لذوات الأوصاف وطباعها حتى تكون لازمة لها بل ذلك مختلف باختلاف الأوقات هذا كله إن قلنا بوجوب رعاية المصالح وإلا فلله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وعن الإشكال الثاني: أن النظر في التعليل إلى مناسبة القدر المشترك وإلغاء ما به الافتراق من الخصوصية إما أن يكون دالاً على وجوب الاشتراك بين الأصل والفرع أو لا يكون موجبا له: فإن كان موجباً فهو دليل التعبد بالقياس والتنصيص على العلة دونه لا يكون كافياً في تعدية الحكم وهو المطلوب وإن لم يكن موجباً للتعدية فلا أثر لإيراده. وعن الإشكال الثالث: بأن فائدة التنصيص على العلة أن تعلم حتى يكون الحكم معقول المعنى إن كان الوصف مناسباً للحكم فإنه يكون أسرع في الانقياد وأدعى إلى القبول وأن ينتفي الحكم في محل التنصيص عند انتفائها ولمثل هذه الفائدة يكون التنصيص على الوصف وإن لم يكن مناسباً للحكم. وعن الإشكال الرابع: ما ذكرناه في حل الإشكال الأول.
وعن الإشكال الخامس: أنه لا يلزم من إمكان أخذ خصوص المحل في التعليل إبطال القياس لجواز أن يقوم الدليل على إبطال أخذه في التعليل في آحاد الصور ومهما لم يقم الدليل على ذلك فالقياس يكون متعذراً. وعن السادس: أنه إنما فهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف لهما نظراً إلى القرينة الدالة على ذلك من إنشاء الكلام وسياقه لقصد إكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما ولا يخفى أن اقتضاء ذلك لتحريم الضرب أشد منه لتحريم التأفيف ولذلك كان سابقاً إلى الفهم من تحريم التأفيف والتنبيه بالأدنى على الأعلى أما أن يكون ذلك مستفاداً من نفس اللفظ والتنصيص على العلة بمجرده فلا. وعن الإشكال الأخير أنه مهما قال: جعلت شرب المسكر علةً للتحريم فالحكم يكون ثابتاً في كل صورة وجد فيها شرب المسكر بالعلة المنصوص عليها بجهة العموم حتى في الخمر وذلك من باب الاستدلال لا من باب القياس فإنه ليس قياس بعض المسكر هاهنا على البعض أولى من العكس لتساوي نسبة العلة المنصوصة إلى الكل ولا كذلك فيما نحن فيه وعلى هذا فلا معنى لما ذكره أبو عبد الله البصري من التفصيل بين الفعل والترك وذلك لأنه لا مانع ولا بعد في تحريم الخمر لشدة الخمر خاصة دون غيره من المسكرات ولعلم الله باختصاصه بالحكمة الداعية إلى التحريم وأن يشرك بين المتماثلات في إيجاب الفعل أو تركه أو ندبه لعلمه باشتراكها في الحكمة الداعية إلى الإيجاب والندب وأما من أكل سكراً فلم يأكله لمجرد حلاوته بل لحلاوته وصدق شهوته عند فراغ معدته فإذا زالت الشهوة بالأكل وامتلأت المعدة وتبدلت الحالة الأولى إلى مقابلها امتنع لزوم الأكل لكل سكر مرة بعد مرة حتى إنه لو لم تتبدل الحال لعم ذلك كل سكر وحلو. المسألة الرابعة مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس جواز إثبات الحدود والكفارات بالقياس خلافاً لأصحاب أبي حنيفة. ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول. أما النص فتقرير النبي ﷺ لمعاذ في قوله "اجتهد رأيي" مطلقاً من غير تفصيل وهو دليل الجواز وإلا لوجب التفصيل لأنه في مظنة الحاجة إليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. وأما الإجماع فهو أن الصحابة لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري. قاسه على حد المفتري ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك نكير فكان إجماعاً. وأما المعقول فهو أنه مغلب على الظن فجاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام:" نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وقياساً على خبر الواحد. فإن قيل: ما ذكرتموه من الدلائل ظنية والمسألة أصولية قطعية فلا يسوغ التمسك بالظن فيها سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ولكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك من ثلاثة أوجه : الأول: أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها والقياس فرع تعقل علة حكم الأصل فما لا تعقل له من الأحكام علة فالقياس فيه متعذر كما في أعداد الركعات وأنصبة الزكاة ونحوها . الثاني: أن الحدود عقوبات وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة والقياس مما يدخله احتمال الخطإ وذلك شبهة والعقوبات مما تدرأ بالشبهات لقوله عليه السلام:" ادرؤوا الحدود بالشبهات". الثالث: أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة ولم يوجبه بمكاتبة الكفار مع أنه أولى بالقطع وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكراً وزوراً ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى دل على امتناع جريان القياس فيه. والجواب عن الأول: لا نسلم أن المسألة قطعية. وعن المعارضة الأولى: أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب وذلك معقول بما علم في مسائل الخلاف لا أنه مجهول. وعن الثانية: لا نسلم احتمال الخطإ في القياس على قولنا إن كل مجتهد مصيب وإن سلمنا احتمال الخطإ فيه لكن لا نسلم أن ذلك يكون شبهةً مع ظهور الظن الغالب بدليل جواز إثبات الحدود والكفارات بخبر الواحد مع احتمال الخطإ فيه لما كان الظن فيه غالباً.
وعن الثالثة من وجهين: الأول أن غاية ما يقدر أن الشارع قد منع من إجراء القياس في بعض صور وجوب الحد والكفارة وذلك لا يدل على المنع مطلقاً بل يجب اعتقاد اختصاص تلك الصور بمعنى لا وجود له في غيرها تقليلاً لمخالفة ما ذكرناه من الأدلة. الثاني الفرق.وذلك أما بين السرقة ومكاتبة الكفار فلأن داعية الأراذل وهم الأكثرون متحققة بالنسبة إليها فلولا شرع القطع لكانت مفسدة السرقة مما تقع غالباً ولا كذلك في مكاتبة الكفار. وأما بين الظهار والردة فهو أن الحاجة إلى شرع الكفارة في الردة دون الحاجة إلى شرعها في الظهار وذلك لما ترتب على الردة من شرع القتل الوازع عنها بخلاف الظهار وربما أورد الأصحاب مناقضة على أصحاب أبي حنيفة في منعهم من إيجاب الكفارة بالقياس بإيجاب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان بالقياس على المجامع وهو غير لازم على من قال منهم بذلك وذلك لأن العلة عندهم في حق المجامع لإيجاب الكفارة مومى إليها في قصة الأعرابي وهي عموم الأفساد فالحكم في الأكل والشرب يكون ثابتاً بالاستدلال أي بعلة مومى إليها لا بالقياس وذلك لأن القياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل إذ هو أحد أركان القياس لضرورة اعتبار العلة الجامعة. والعلة إذا كانت منصوصة أو مومى إليها فقد ثبت اعتبارها بالنص لا بحكم الأصل ومهما كان الحكم في الأصل غير ملتفت إليه في اعتبار العلة لاستقلال النص باعتبارها فلا يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالقياس لأن العمل بالقياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل. وقد قيل إنه لا نظر إليه بل غايته أن النص قد دل في الوقاع على الحكم وعلى العلة فالحكم في الفرع إذا كان ثابتاً بالعلة المنصوصة لا يكون حكماً بالقياس ولا بالنص لعدم دلالة النص عليه وإن دل على العلة. ولا إجماع لوقوع الخلاف فيه وما كان ثابتاً لا بنص ولا إجماع ولا قياس فالذي ثبت به هو المعبر عنه بالاستدلال. المسألة الخامسة ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى جواز إجراء القياس في الأسباب ومنع من ذلك أبو زيد الدبوسي وأصحاب أبي حنيفة وهو المختار. وصورته إثبات كون اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا.ودليل ذلك أن الحكمة وهي كونه إيلاج فرج في فرج محرم مشتهى طبعاً التي يكون الوصف سبباً بها وهي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتاً وعند ذلك فقياس أحد الوصفين على الآخر في حكم السببية لا بد وأن يكون لاشتراكهما في حكمة الحكم بالسببية. وتلك الحكمة إما أن تكون منضبطةً بنفسها ظاهرةً جليةً غير مضطربة وإما أن تكون خفيةً مضطربةً. فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يقال بأن الحكمة إذا كانت منضبطةً بنفسها يصح تعليل الحكم بها أو لا يصح؟ إذ الاختلاف في ذلك واقع فإن قيل بالأول كانت مستقلة بإثبات الحكم وهو الحد المرتب على الوصف ولا حاجة إلى الوصف المحكوم عليه بكونه سبباً للاستغناء عنه وإن كان الثاني فقد امتنع التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها. وأما إن كانت خفيةً مضطربةً فإما أن تكون مضبوطة بضابط أو لا فإن كانت مضبوطة بضابط فذلك الضابط لها هو السبب وهو القدر المشترك بين الأصل والفرع ولا حاجة إلى النظر إلى خصوص كل واحد من الوصفين المختلفين وهما الزنا واللواط هنا المقتضي على أحدهما بالأصالة والآخر بالفرعية. وإن لم تكن مضبوطة بضابط فالجمع بها يكون ممتنعاً إجماعاً لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع فإن الحكم مما يختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال.
فإن قيل: ما المانع أن يكون الوصف الجامع بينهما هو الحكمة؟ وما ذكرتموه من كون الحكمة إذا كانت خفيةً مضطربة يمتنع الجمع بها لاحتمال التفاوت فيها قلنا: احتمال التفاوت وإن كان قائماً غير أن احتمال التساوي راجح وذلك لأنه يحتمل أن تكون الحكمة التي في الفرع مساوية لما في الأصل ويحتمل أن تكون راجحةً ويحتمل أن تكون مرجوحةً: وعلى التقديرين الأولين فالمساواة حاصلة وزيادة على التقدير الثاني منهما وإنما تكون مرجوحة على التقدير الثالث وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب وقوعاً من احتمال واحد بعينه فكان الجمع أولى ثم كيف وقد جعلتم القتل بالمثقل سبباً لوجوب القصاص بالقياس على القتل بالمحدد وجعلتم اللواط سبباً للحد بالقياس على الزنا وجعلتم النية في الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بالقياس على نية التيمم. والجواب: أما ما ذكروه من دليل ظهور التساوي في الحكمة فلا يخلو إما أن يكون ذلك كافياً في الجمع أو لا يكون كافياً: فإن كان كافياً فليجمع بين الأصل والفرع في الحكم المرتب على السبب ولا حاجة إلى الجمع بالسبب وإن لم يكن ذلك كافياً فهو المطلوب. وما ذكروه من الإلزامات فلا وجه لها. أما قياس القتل بالثقل على المحدد فلم يكن ذلك في السببية وإنما ذلك في إيجاب القصاص بجامع القتل العمد العدوان وهو السبب لا غير. وأما قياس اللواط على الزنا فإنما كان ذلك في وجوب الحد بجامع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً وذلك هو السبب مع قطع النظر عن خصوصية الزنا واللواط. وأما قياس الضوء على التيمم فإنما هو في اعتبار النية بجامع الطهارة المقصودة للصلاة وذلك هو السبب لا أن القياس في الاشتراط. وعلى هذا النحو كل ما يرد من هذا القبيل. المسألة السادسة اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية فأثبته بعض الشذوذ مصيراً منه إلى أن جميع الأحكام الشرعية من جنس واحد ولهذا تدخل جميعها تحت حد واحد وهو حد الحكم الشرعي وتشترك فيه وقد جاز على بعضها أن يكون ثابتاً بالقياس وما جاز على بعض المتماثلات كان جائزاً على الباقي وهو غير صحيح. وذلك أنه وإن دخلت جميع الأحكام الشرعية تحت حد الحكم الشرعي وكان الحكم الشرعي من حيث هو حكم شرعي جنساً لها غير أنها متنوعة ومتمايزة بأمور موجبة لتنوعها. وعلى هذا فلا مانع أن يكون ما جاز على بعضها وثبت له أن يكون ذلك له باعتبار خصوصيته وتعينه لا باعتبار ما به الاشتراك وهو عام لها. كيف وإن ذلك مما يمتنع لثلاثة أوجه. الأول: أنا قد بينا امتناع إجراء القياس في الأسباب والشروط وبينا أن حكم الشارع على الوصف بكونه سبباً وشرطاً حكم شرعي. الثاني: أن ذلك مما يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً وبيان لزوم ذلك أن كل قياس لا بد له من أصل يستند إليه على ما علم فلو كان كل حكم يثبت بالقياس لكان حكم أصل القياس ثابتاً بالقياس وكذلك حكم أصل أصله فإن تسلسل الأمر إلى غير النهاية امتنع وجود قياس ما لتوقفه على أصول لا نهاية لها وإن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس على أصل آخر فهو خلاف الفرض. الثالث: أن من الأحكام ما ثبت غير معقول المعنى كضرب الدية على العاقلة ونحوه وما كان كذلك فإجراء القياس فيه متعذر وذلك لأن القياس فرع تعقل علة حكم الأصل وتعديتها إلى الفرع فما لا يعقل له علة فإثباته بالقياس يكون ممتنعاً. خاتمة لهذا الباب القياس مأمور به لقوله تعالى:" فاعتبروا يا أولي الأبصار" الحشر2 كما سبق تقريره وهو منقسم إلى واجب ومندوب. والواجب منه منقسم إلى ما هو واجب على بعض الأعيان وذلك في حق كل من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين ولا يقوم غيره فيها مقامه مع ضيق الوقت وإلى ما هو واجب على الكفاية وذلك بأن يكون كل واحد من المجتهدين يقوم مقام غيره في تعريف حكم ما حدث من الواقعة بالقياس. وأما المندوب وهو القياس فيما يجوز حدوثه من الوقائع ولم يحدث بعد فإن المكلف قد يندب إليه ليكون حكمه معداً لوقت الحاجة وهل يوصف القياس بكونه ديناً لله تعالى فذلك مما وصفه به القاضي عبد الجبار مطلقاً ومنع منه أبو الهذيل وفصل الجبائي بين الواجب والمندوب منه فوصف الواجب بذلك دون المندوب. والمختار أن يقال: إن عني بالدين ما كان من الأحكام المقصودة بحكم الأصالة كوجوب الفعل وحرمته ونحوه فالقياس واعتباره ليس بدين فإنه غير مقصود لنفسه بل لغيره. وإن عني بالدين ما تعبدنا به كان مقصودا أصلياً أو تابعاً فالقياس من الدين لأنا متعبدون به على ما سبق.وبالجملة فالمسألة لفظية. الباب الخامس في الاعتراضات الواردة على القياس وجهات الانفصال عنها أما الاعتراضات الواردة على قياس العلة فخمسة وعشرون اعتراضاً الاعتراض الأول: الاستفسار وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور وإنما يحسن ذلك إذا كان اللفظ مجملاً متردداً بين محامل على السوية أو غريباً لا يعرفه السامع المخاطب فعلى السائل بيان كونه مجملا أو غريباً لأن الاستفسار عن الواضح عناد أو جهل. ولهذا قال القاضي أبو بكر: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ولذلك وجب أن يكون سؤال الاستفسار أولاً وما سواه متأخرا عنه لكونه فرعاً على فهم معنى اللفظ. وصيغه متعددة : فمنها الهمزة كقوله أعندك زيد؟ وهي الأصل في الاستفسار إذ لا ترد لغيره بخلاف غيرها من الأسئلة فإنها قد ترد لغير الاستفهام. فمن ذلك هل وهي تلي الهمزة في الرتبة إذ هي أصل في الاستفهام كقولك هل زيد موجود ؟ ولكنها قد ترد نادراً للتأكيد كقوله تعالى:" هل أتى على الإنسان حين من الدهر" الإنسان1 والمراد به: قد أتى. ومن ذلك ما فإنها قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك ما عندك؟ ولكنها قد ترد للنفي كقولك ما رأيت أحداً وللتعجب كقولك ما أحسن زيداً! إلى معان أخر ولذلك كانت متأخرة في الرتبة عن هل. ومن ذلك من وهي قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك من عندك؟ وقد ترد بمعنى الشرط والجزاء كقوله عليه السلام:" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقد ترد بمعنى الخبر كقولك جاءني من أحبه وهي مختصة بمن يعقل دون ما لا يعقل وهي متأخرة في الرتبة عن ما لأن ما قد ترد لما لا يعقل ولمن يعقل كقوله تعالى:" والسماء وما بناها" الشمس 5 أي: ومن بناها. ومن ذلك أين وهي سؤال عن المكان. ومتى عن الزمان. وكيف عن الكيفية. و كم عن الكمية. و أي عن التمييز. والهمزة تقوم مقام الكل في السؤال. وإذا ثبت أن شرط قبول الاستفسار كون اللفظ مجملاً أو غريباً فيجب على السائل بيان ذلك لصحة سؤاله. فإن قيل: لا خفاء بأن ظهور الدليل شرط في صحة الدليل كما سبق وإنما يتم الظهور أن لو لم يكن اللفظ مجملاً فنفي الإجمال إذاً شرط في الدليل وبيان شرط الدليل على المستدل لا على المعترض. قلنا: ظهور الدليل وإن كان متوقفاً على نفي الإجمال غير أن الأصل عدم الإجمال. وسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل فكان بيانه على المستفهم ولا تقبل منه دعوى الإجمال بجهة الاشتراك أو الغرابة بناء على أنه لم يفهم منه شيئا فيما كان ظاهراً مشهوراً في ألسنة أهل اللغة والشرع لانتسابه إلى العناد لعدم خفائه عليه في الغالب لكن إن بين الإجمال بجهة الغرابة بطريقة أو بجهة الاشتراك بسبب تردده بين احتمالين كفاه ذلك من غير احتياج إلى بيان التسوية بينهما لأن الأصل عدم الترجيح ولعدم قدرته على بيان التسوية وقدرة المستدل على الترجيح وطريق المستدل في جواب دفع الإجمال بجهة الغرابة التفسير إن عجز عن إبطال غرابته وفي جواب دفع الإجمال بجهة الاشتراك منع تعدد محامل اللفظ إن أمكن أو بيان الظهور في أحد الاحتمالين وله فيه طريق تفصيلي بالنقل عن أهل الوضع أو الشرع أو ببيان أنه مشهور فيه والشهرة دليل الظهور والحقيقة غالباً وطريق إجمالي وهو أن يقول الإجمال على خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم فيجب اعتقاد ظهوره في أحد الاحتمالين نفياً للإجمال عن الكلام وهو وإن لزم منه التجوز في أحدهما وهو خلاف الأصل أيضاً غير أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز كما سبق تقريره. وإن تعذر عليه بيان ذلك فقد يقدر على دفع الإجمال أيضاً بدعوى كون اللفظ متواطئا فيهما لموافقته لنفي الإجمال والتجوز أو أن يفسر لفظه بما أراد منهما. الاعتراض الثاني: فساد الاعتبار ومعناه أن ما ذكرته من القياس لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه لا لفساد في وضع القياس وتركيبه وذلك كما إذا كان القياس مخالفاً للنص فهو فاسد الاعتبار لعدم صحة الاحتجاج به مع النص المخالف له. وقد مثل ذلك أيضاً بقياس الكافر على المسلم في صحة الطهارة وبقياس الصبي على البالغ في إيجاب الزكاة من جهة الظهور الفرق بين الأصل والفرع. وعلى هذا النحو كل قياس ظهر الفارق في بين الأصل والفرع وأقرب هذه الأمثلة إنما هو المثال الأول لأنه مهما ثبت أن القياس مخالف للنص كان باطلاً لما سبق تقريره. وأما باقي الأمثلة فحاصلها يرجع إلى إبداء الفرق بين الأصل والفرع وهو سؤال آخر غير سؤال فساد الاعتبار وسيأتي الكلام عليه. وجوابه إما بالطعن في سند النص إن أمكن أو بمنع الظهور أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بنص آخر ليسلم له القياس أو أن يبين أن القياس من قبيل ما يجب ترجيحه على النص المعارض له بوجه من وجوه الترجيحات المساعدة له. الاعتراض الثالث: فساد الوضع واعلم أن صحة وضع القياس أن يكون على هيئة صالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه وفساد الوضع لا يكون على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه. وقد مثله الفقهاء بما تلقي الحكم فيه من مقابله كتلقي التضييق من التوسيع والتخفيف من التغليظ والإثبات من النفي وبالعكس وأن يكون ما جعله علة للحكم مشعراً بنقيض الحكم المرتب عليه وذلك كقولهم في النكاح بلفظ الهبة لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجارة فإنه من حيث إنه ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد لأن الاعتبار يقتضي الاعتبار لا عدم الاعتبار. وعلى هذا فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار وليس كل فاسد الاعتبار يكون فاسد الوضع لأن القياس قد يكون صحيح الوضع وإن كان اعتباره فاسداً بالنظر إلى أمر خارج كما سبق تقريره ولهذا وجب تقديم سؤال فساد الاعتبار على سؤال فساد الوضع لأن النظر في الأعم يجب أن يتقدم على النظر في الأخص لكون الأخص مشتملاً على ما اشتمل عليه الأعم وزيادة. وإذا عرف ما قررناه في سؤال فساد الوضع فلقائل أن يقول اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتب عليه أما أن يدعي أنه يراد به اقتضاؤه له أنه مناسب نقيض الحكم على ما هو إشعار اللفظ وأما اعتبار الوصف في نقيض الحكم في صوره كما قاله بعض المتأخرين فإن كان الأول فإما أن يدعي أنه مناسب لنقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل أو من جهة أخرى. فإن كان ذلك من الجهة التي تمسك بها المستدل فيلزم منه أن يكون وصف المستدل غير مناسب لحكمه ضرورة أن الوصف الواحد لا يناسب حكمين متقابلين من جهة واحدة ولكن يرجع حاصله إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير لا أنه سؤال آخر. وإن كان ذلك من جهة أخرى فلا يمتنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة التي تمسك بها. ثم لا يخلو إما أن تكون جهة المناسبة لنقيض الحكم معتبرة في صوره أو غير معتبرة فإن لم تكن معتبرة كان ما يبديه المستدل من جهة المناسبة كافياً في دفع السؤال ضرورة كونها معتبرة ومناسبة المعترض غير معتبرة. وإن كانت مناسبة المعترض معتبرة فإن أورد المعترض ما ذكره في معرض المعارضة فقد انتقل عن سؤاله الأول إلى سؤال المعارضة ووجب على المستدل الترجيح لما ذكره ضرورة التساوي في المناسبة والاعتبار وإن لم يورد ذلك في معرض المعارضة وبقي مصرا على السؤال الأول فلا يحتاج المستدل إلى الترجيح لكونه خاصاً بالمعارضة. وهذا من مستحسنات صناعة الجدل فليتأمل. الاعتراض الرابع: منع حكم الأصل ولما كان منع حكم الأصل من قبيل النظر في تفصيل القياس كان متأخراً عما قبله لكون ما قبله نظرا في القياس من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. والنظر في الجملة يتقدم على النظر في التفصيل.ومثاله ما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة مثلاً: مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن. فقال الحنفي: لا أسلم الحكم في الأصل فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.
وقد اختلف الفقهاء في انقطاع المستدل بتوجيه منع حكم الأصل عليه: فمنهم من قال بانقطاعه لأنه أنشأ الكلام للدلالة على حكم الفرع لا على حكم الأصل فإذا منع حكم الأصل فإما أن يشرع في الدلالة عليه أولاً يشرع: فإن لم يشرع في الدلالة عليه لم يتم دليله على مقصوده وهو انقطاع وإن شرع في الدلالة عليه فقد ترك ما كان بصدد الدلالة عليه أولاً وعدل عما أنشأه من الدليل على حكم الفرع إلى الدلالة على حكم الأصل ولا معنى للانقطاع سوى هذا. ومنهم من قال: لا يكون منقطعاً لأنه إنما أنشأ الدليل على حكم الفرع إنشآء من يحاول تمشيته وتقريره وبالدلالة على حكم الأصل يحصل هذا المقصود لا أنه تارك لما شرع فيه أولاً ولا منع من ذلك فإن الحكم في الفرع كما يتوقف على وجود علة الأصل في الأصل وكونها علة فيه وعلى وجودها في الفرع يتوقف علي ثبوت حكم الأصل وكل ذلك من أركان القياس ولم يمنع أحد من محاولة تقرير القياس عند منع وجود علة الأصل ومنع كونها علة فيه ومنع وجودها في الفرع من الدلالة على محل المنع فكذلك حكم الأصل ضرورة التساوي بين الكل في افتقار صحة القياس إليه. ومنهم من فصل بين أن يكون المنع خفياً وبين أن يكون ظاهراً فحكم بانقطاعه عند ظهور المنع وبعدم انقطاعه عند خفائه لظهور عذره وهذا هو اختيار الاستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني . ومنهم من قال: يجب اتباع عرف المكان الذي هو فيه ومصطلح أهله في ذلك وهذا هو اختيار الغزالي. والمختار أنه لا يعد منقطعا إذا دل على موقع المنع لما قررناه فيما تقدم وقد بينا شرط الدلالة على حكم الأصل في أركان القياس. وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا يفتقر إلى الدلالة على محل المنع بل له أن يقول: إنما قست على أصلي ولا وجه لذلك فإنه إن قصد إثبات الحكم على أصل نفسه فالخصم غير منازع له في ثبوت حكم الفرع على أصله ولا وجه للمناظرة بينهما في ذلك. وإن قصد إثبات الحكم في الفرع بالنسبة إلى الخصم بحيث يوجب الانقياد إليه فذلك متعذر مع منع حكم الأصل وعدم ثبوته بالدلالة وإنما يتصور الاستغناء عن الدلالة على حكم الأصل إذا كان اللفظ الدال على حكم الأصل عاماً وهو منقسم إلى ممنوع وغير ممنوع كالدهن فإنه وإن منع الحكم في الطاهر منه فهو غير ممنوع في الدهن النجس وعند ذلك فله أن يقول: إنما قست على الدهن النجس دون الطاهر وإن كان قياسي عليهما فغايته القياس على أصلين وقد بطل التمسك بأحدهما فيبقى التمسك بالآخر. وإذا ذكر الدليل على موقع المنع فمنهم من حكم بانقطاع المعترض لتبين فساد المنع وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدل لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أول النظر ومنهم من قال لا يعد منقطعاً ولا يمنع من الاعتراض على دليل المنع ولا يكتفي من المستدل بما يدعيه دليلاً وإلا لما كان لقبول المنع معنى بل الانقطاع إنما يتحقق في حق كل واحد بعجزه عما يحاوله نفياً وإثباتاً وهذا هو المختار. الاعتراض الخامس :التقسيم وهو في عرف الفقهاء عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين أحدهما ممنوع والآخر مسلم غير أن المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إما أنه لا بد من ترديده بين احتمالين لأنه لو لم يكن محتملاً لأمرين لم يكن للترديد والتقسيم معنى بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه وإما أنه لا بد وأن يكون احتمال اللفظ لهما على السوية لأنه لو كان ظاهراً في أحدهما لم يكن للتقسيم أيضاً وجه بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه كان ممنوعاً أو مسلماً. وذلك كما لو قال المستدل في البيع بشرط الخيار وجد سبب ثبوت الملك للمشتري فوجب أن يثبت وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل من المحل فقال المعترض :السبب هو مطلق بيعٍ أو البيع المطلق أي الذي لا شرط فيه :الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده.
ولقائلٍ أن يقول: التقسيم وإن كان من شرطه تردد اللفظ بين احتمالين على السوية فليس من شرطه أن يكون أحد الإحتمالين ممنوعاً والآخر مسلماً بل كما يجوز أن يكون كذلك يجوز أن يشترك الاحتمالان في التسليم ولكن بشرط أن يختلفا باعتبار ما يرد على كل واحد منهما من الاعتراضات القادحة فيه وإلا فلو اتحدا فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع التساوي في التسليم لم يكن للتقسيم معنى بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختص به. ولا خلاف أنهما لو اشتركا في المنع أن التقسيم لا يكون مفيداً وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه فيكفيه بيان إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين من غير تكليف ببيان التساوي بينهما في دلالة اللفظ عليهما بجهة التفصيل لأن ذلك مما يعسر من جهة أن ما من وجه يبين التساوي فيه إلا وللمستدل أن يقول ولم قلت بعدم التفاوت من وجه آخر؟ بلى لو قيل إنه يكلف التساوي بينهما من جهة الإجمال وهو أن يقول: التفاوت يستدعي ترجح أحدهما على الآخر وزيادته عليه والأصل عدم تلك الزيادة لم يكن ذلك شاقاً وكان وافياً بالدلالة على شرط التقسيم ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الالتجاء إلى الحرم: وجد سبب استيفاء القصاص فيجب استيفاؤه وبين وجود السبب بالقتل العمل العدوان فقال المعترض متى يمكن القول بالاستيفاء إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. ولكن لم قلت إنه لم يوجد وبيان وجوده أن الحرم مانع وبينه بطريقة لم يخل إما أن يورد ذلك بناء على أن لفظ المستدل متردد بين الاحتمالين المذكورين أو على دعواه الملازمة بين الحكم ودليله:فإن كان الأول فهو باطل لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين وإن كان الثاني فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع فهو غير مقبول لما تقرر في الاصطلاح من حط مؤنة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض فحاصل السؤال يرجع إلى المعارضة ولا حاجة إلى التقسيم وإذا اتجه سؤال التقسيم على التفسير الأول. فجوابه من جهة الجدل من ستة أوجه: الأول: أن يعين المستدل بعض محامل لفظه ويبين أن اللفظ موضوع بإزائه حقيقة في لغة العرب إما بالنفل عن أهل الوضع أو الشارع الصادق أو ببيان كونه مشهوراً به في الاستعمال فيكون حقيقة لأنه الغالب وبما يساعد من الأدلة ومع بيان ذلك فالتقسيم يكون مردوداً لتبين فوات شرطه من التساوي في الدلالة. الثاني: أن يقول إنه وإن لم يكن ظاهراً بحكم الوضع فيما عينته من الاحتمال غير أنه ظاهر بعرف الاستعمال كما في لفظ الغائط ونحوه. الثالث: أنه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين إلا أنه ظاهر في عرف الشرع كلفظ الصلاة والصوم ونحوه. الرابع: أنه وإن تعذر كونه ظاهراً بأحد الأنحاء المذكورة لكنه ظاهر بحكم ما اقترن به من القرائن المساعدة له في كل مسألة. الخامس: أنه وإن تعذر بيان الظهورية بأحد الطرق المفصلة فله دفع التقسيم بوجه إجمالي وهو أن يقول: الإجمال على خلاف الأصل فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ ومع ذلك فالتقسيم لا يكون وارداً. وقد يقدر على بيان كون اللفظ ظاهراً فيما عينه بهذا الطريق الإجمالي وهو أن يقول: إذا ثبت أنه لا بد وأن يكون اللفظ ظاهراً في بعض محامله نفياً للإجمال عن الكلام فيجب اعتقاد ظهوره فيما عينه المستدل ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما عداه أما عند المعترض فلضرورة دعواه الإجمال في اللفظ وأما عند المستدل فلضرورة دعواه أنه ظاهر فيما ادعاه دون غيره. السادس: أن يبين أن اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرض له المعترض بالمنع والتسليم وأنه مراده إلا أن يحترز المعترض عن ذلك بأن يعين مجملاً ويقول إن أردت هذا فمسلم ولكن لم قلت ببناء الغرض عليه وإن أردت ما عداه فممنوع فما مثل هذا الجواب لا يكون متجهاً وإن أراد المستدل الجواب الفقهي فإن كان قادراً على تنزيل كلامه على أحد القسمين فالأولى في الاصطلاح تنزيله على أحدهما حذراً من التطويل وليكن منزلا على أسهلهما في التمشية والقرب إلى المقصود إن أمكن وإن كان الجمع جائزاً شرعاً وإن لم يقدر على شيء من ذلك كان منقطعاً.
وأما موقع سؤال التقسيم فيجب أن يكون بعد منع حكم الأصل لكونه متعلقاً بالوصف المتفرع عن حكم الأصل وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد وإن يكون مقدماً على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعي علة لكونه مشعراً بترديد لفظ المستدل بين أمرين والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولاً للفظ لا غير ضرورة تخصيصه بالكلام عليه وإلا كان التخصيص به غير مفيد وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتحاد المدلول يكون متناقضاً. وقد علل ذلك بعض أرباب الاصطلاح بأن المطالبة بتأثير الوصف تستدعي تسليم وجود الوصف والتقسيم مشتمل على منع الوجود ومنع الوجود بعد تسليم الوجود لا يكون مقبولاً لما فيه من التناقض وهو غير صحيح لوجهين: الأول أن ما ذكره إنما هو مبني على أن أحد القسمين لا بد وأن يكون ممنوع الوجود وليس كذلك لما سبق في مبدأ السؤال وبتقدير أن يكون أحد القسمين ممنوع الوجود فإنما يلزم التناقض والمنع بعد التسليم أن لو كان ما أورد عليه سؤال المطالبة أو لا هو نفس القسم الذي منع وجوده في التقسيم وبتقدير أن يكون غيره فلا وبالجملة فيمتنع أيضاً قبول سؤال التقسيم بعد سؤال الاستفسار لأن المسؤول إن كان قد دفع سؤال الاستفسار جدلاً بنفي الإجمال فالتقسيم بعده لا يرد ضرورة توقفه على الإجمال وقد انتفى وإن أجاب عنه بتعيين ما قصده بكلامه فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم بل يجب ورود الاعتراض على عينه دون غيره. الاعتراض السادس: منع وجود العلة في الأصل ولكون النظر في علة الأصل متفرعاً عن حكم الأصل وجب تأخيره عن النظر في حكم الأصل وعن التقسيم لما ذكرناه في السؤال الذي قبله. ومثاله ما لو قال الشافعي في مسألة جلد الكلب مثلاً: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعاً فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير فيقول الخصم لا أسلم وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعاً. وجوابه بذكر ما يدل على وجوده من العقل أو الحس أو الشرع على حسب حال الوصف في كل مسألة أو أن يفسر لفظه بما لا يمكن الخصم منعه وإن كان احتمال اللفظ له بعيداً وذلك كما لو قال في المثال المذكور أعني به ما إذا لم يغلب على ظنه الطهارة. وإن فسر لفظه بما له وجود في الأصل غير أن لفظه لا يحتمله لغة فالمختار أنه لا يقبل وإن ذهب إلى قبوله بعض المتأخرين وذلك لأن وضع اللفظ إنما كان لقصد تحصيل المعنى منه وأن يعرف كل أحد ما في ضميره لغيره بواسطة اللفظ المستعمل وذلك مشروط بضبط الوضع ضبطاً يمتنع معه دخول الزيادة والنقصان وإذا قبل من كل أحد تفسير لفظه بما لا يحتمله لغة حالة عجزه عن تقرير كلامه أفضى ذلك إلى اضطراب اللغة وإبطال فائدة وضعها كيف وإن إطلاقه لذلك اللفظ دليل ظاهر على إرادة مدلوله وعدوله عند المنع مشعر بالانقطاع في تقريره. الاعتراض السابع: منع كون الوصف المدعى علة ولما كانت العلية صفة للوصف المذكور ومتوفقةً على وجوده وجب أن يكون النظر فيها نفياً وإثباتاً متأخراً عن النظر في وجود الوصف وهذا هو أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم وروده على كل ما يدعى كونه علة واتساع طرق إثباته وتشعب مسالكه كما تقدم تقريره وقد اختلف العلماء في قبوله نفيا وإثباتا والمختار لزوم قبوله. وذلك لأن إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد إثبات حكم الأصل دون جامع بينهما والجامع يجب أن يكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة على ما سبق تقريره والوصف الطردي لا يصلح أن يكون باعثاً فيمتنع التمسك به في القياس فلو لم يقبل منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره أفضى ذلك إلى التمسك بالأوصاف الطردية ثقة من المتكلم بامتناع مطالبته بالتأثير ولا يخفى وجه فساده. وأيضاً فإن الأصل عدم الدليل الدال على جواز التمسك بالقياس غير أنا استثنينا منه ما كانت علة القياس فيه مخيلة أو شبهية لإجماع الصحابة عليه ولم ينقل عنهم أنهم تمسكوا بقياس علته طردية فبقينا فيه على حكم الأصل فلذلك وجب قبول سؤال منع التأثير وبيان كون الوصف مؤثراً وعند هذا فلا بد من ذكر شبه الرادين له وتحقيق جوابها. وقد احتجوا بشبه.
الأولى: أنه لو قبل سؤال منع التأثير فما من دليل يذكره المستدل على كون الوصف علةً إلا وهذا السؤال وارد عليه إلى ما لا يتناهى فيجب رده حفظاً للكلام عن الخبط والنشر. الثانية: أنه لا معنى للقياس سوى رد الفرع إلى الأصل بجامع وقد أتى به المستدل وخرج عن وظيفته فعلى المعترض القدح فيه. الثالثة: أن الأصل أن كل ما ثبت الحكم عقيبه في الأصل أن يكون علةً فمن ادعى أن الوصف الجامع ليس بعلة احتاج إلى بيانه. الرابعة: أنا بحثنا فلم نجد سوى هذه العلة فعلى المعترض القدح فيها أو إبداء غيرها. الخامسة: أنهم قالوا عجز المعترض عن الاعتراض على الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة فالمنع من الصحة مع وجود دليل الصحة لا يكون مقبولاً السادسة: قولهم حاصل هذا السؤال يرجع إلى المنازعة في علة الأصل ويجب أن يكون متنازعاً فيها ليتصور الخلاف في الفرع. السابعة: أن حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل والشبه حجة وقد تحقق ذلك بما ذكر من الوصف الجامع فلا حاجة إلى إبداء غيره. الثامنة: قولهم: هذا الوصف مطرد لم يتخلف حكمه عنه في صورة فكان صحيحاً والجواب عن الأولى: أن التسلسل منقطع بذكر ما يفيد أدنى ظن بالتعليل من الطرق التي بيناها قبل فإن المطالبة بعلية ما غلب على الظن كونه علةً بعد ذلك يكون عناداً وهو مردود إجماعاً. وعن الثانية: بمنع تحقق القياس بجامع لا يغلب على الظن كونه علة. وعن الثالثة: بمنع أن الأصل علية كل ما ثبت الحكم معه من الأوصاف. وعن الرابعة: أن البحث مع عدم الاطلاع على غير الوصف المذكور طريق من طرق إثبات العلة كما سبق فكان ذلك جواباً عن سؤال المطالبة وقبولاً له لا أنه رد له. وعن الخامسة: أنه لو كان عجز المعترض عن الاعتراض دليل صحة العلة لكان عجز المستدل عن تصحيح العلة دليل فسادها ولا أولوية ولكان عجز المعترض عن الاعتراض على إبطال ما ادعى من الحكم في الفتوى دليلاً على ثبوت الحكم ولم يقل به قائل. وعن السادسة: أن علة الأصل وإن كانت متنازعاً فيها فلا بد من دليل ظني يدل على كونها علة كما في الحكم المختلف فيه. وعن :السابعة أن إثبات الحكم في الفرع متوقف على ظن إثباته ولا نسلم أن مطلق المشابهة بين الأصل والفرع في مطلق وصف مفيد للظن. وعن الثامنة: أن حاصلها يرجع إلى الاكتفاء بالوصف الطردي لكونه غير منتقض وهو باطل بما سبق في طرق إثبات العلة. وإذا علم أنه لا بد من قبول سؤال المطالبة بالتأثير وأنه لا بد من الدلالة على كون الوصف علةً وطريق إثبات ذلك ما يساعد من الأدلة التي قررناها قبل. الاعتراض الثامن: سؤال عدم التأثير وهو إبداء وصف في الدليل مستغنى عنه في إثبات الحكم أو نفيه وقد قسمه الجدليون أربعة أقسام: الأول: عدم التأثير في الوصف وذلك بأن يكون الوصف المأخوذ في الدليل طردياً لا مناسبة فيه ولا شبه وذلك كما يقال في صلاة الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا تقدم في الأداء على وقتها كالمغرب فإن عدم القصر وصف طردي بالنسبة إلى الحكم المذكور. الثاني: عدم التأثير في الأصل وهو أن يكون الوصف قد استغني عنه في إثبات الحكم في الأصل المقيس عليه بغيره وذلك كما إذا قال المستدل في بيع الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء والسمك في الماء فإن ما وجد في الأصل من العجز عن التسليم مستقل بالحكم. وهذا النوع مما اختلف فيه فرده الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ومن تابعه مصيراً منهم إلى أنه إشارة إلى علة أخرى في الأصل ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلتين ومنهم من قبله مصيراً منهم إلى امتناع تعليل الحكم بعلتين وقد سبق تقرير كل واحد من المأخذين وما هو المختار منهما. الثالث: عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفاً لا تأثير له في الحكم المعلل وذلك كما لو قال المستدل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فإن الإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان ضرورة الاستواء في الحكم عندهم بين الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام وحاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور إن كان طردياً أو إلى سؤال الإلغاء إن كان مؤثراً.
الرابع: عدم التأثير في محل النزاع وهو أن يكون الوصف المذكور في الدليل لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسباً وذلك كما لو قال المستدل في مسألة ولاية المرأة: زوجت نفسها من غير كفوء فلا يصح نكاحها وذلك من حيث إن النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفء وغير الكفء وهذا أيضاً مما اختلف في قبوله فرده قوم مصيراً منهم إلى منع جواز الفرض في الدليل وقبله من لم يمنع من ذلك وهو المختار على ما عرفناه في كتاب الجدل. وإذا بطل القسم الرابع وهو عدم التأثير في محل النزاع ورجع حاصل القسم الثالث وهو عدم التأثير في الحكم إلى عدم التأثير في الوصف أو الإلغاء فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وعدم التأثير في الأصل. وعدم التأثير في الوصف راجع إلى بيان انتفاء مناسبة الوصف وسؤال المطالبة يغني عنه وجوابه جوابه فلا يجتمعان وعدم التأثير في الأصل فحاصله يرجع إلى المعارضة في الأصل لا أنه غيره. وجوابه جوابه كما يأتي ومع ذلك كله فقد يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مفيداً بأن يكون مشيراً إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض أو وجود الشرط الفائت فيها لقصد دفع النقض أو مشيراً إلى قصد الفرض في الدليل في بعض صور النزاع كما ذكر من مثال أخذ الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين ولا يكون عديم التأثير إذ هو غير مستغنى عنه في إثبات الحكم إما لقصد دفع النقض أو لقصد الفرض. الاعتراض التاسع: القدح في مناسبة الوصف المعلل به وذلك بما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه لتحصيل المصلحة المطلوبة منه وجود مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها وقد بينا وجه الاختلاف فيه وأن المختار إبطاله لا أن يبين ترجيح المصلحة على المفسدة إما بطريق إجمالي أو تفصيلي كما بيناه فيما سبق . الاعتراض العاشر القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علل به من المقصود. وذلك كما لو عللت حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء إلى سد باب الفجور بالحرمة المؤبدة وعلم الرجل امتناع وصوله إلى الأنثى على الوجه المشروع حتى ينسد عليه باب الطمع في مقدمات الهم بها والنظر إليها فإن للمعترض أن يقول: هذا الحكم غير صالح لإفضائه إلى هذا المقصود من حيث إن سد باب النكاح أدعى إلى محذور الوقوع في الزنا. وجوابه أن الحرمة المؤبدة مما تمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة والامتناع العادي على مر الزمان يلتحق بالامتناع الطبعي وبه يتحقق انسداد باب الفجور. الاعتراض الحادي عشر أن يكون الوصف المعلل به باطناً خفياً. وذلك لو علل بالرضا أو القصد فإنه قد يقال القصد والرضا من الأوصاف الباطنة الخفية التي لا يطلع عليها بأنفسها فلا تكون علة للحكم الشرعي الخفي ولا معرفةً له. وجوابه أن يبين ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة وضبط القصد بما يدل عليه من الأفعال الظاهرة.وكل ذلك معلوم في الخلافيات. الاعتراض الثاني عشر أن يكون الوصف المعلل به مضطرباً غير منضبط كالتعليل بالحكم والمقاصد مثل التعليل بالحرج والمشقة والزجر والردع ونحوه. فإنه قد يقال: مثل هذه الأوصاف مما تضطرب وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر والحرج عن الناس في البحث عنها ومنعاً للاضطراب في الأحكام عند اختلاف الصور بسبب الاختلاف في هذه الأوصاف بالزيادة والنقصان. وجوابه إما ببيان كون ما علل به مضبوطاً بنفسه أو بضابطه كضبط الحرج والمشقة بالسفر ونحوه. الاعتراض الثالث عشر: النقض وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعى كونه علةً له وقد أومأنا في مسألة تخصيص العلة إلى وجه دلالة ذلك على إبطالها ووجه الانفصال عنه فيما إذا كانت العلة منصوصةً أو مجمعاً عليها أو مستنبطة وفي صورة النقض مانع أو فوات شرط بالاستقصاء التام المفصل والذي يختص بما نحن فيه هاهنا وجوه أخر في الجواب الأول منع وجود العلة في صورة النقض إن أمكن. وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة فقال المعترض: هذا ينتقض بالحلي المحظور فإنه غير نام ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه.
فقال المستدل: لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعاً للنقض لأن النقض وجود العلة ولا حكم فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض لكن اختلفوا في المعترض هل له الدلالة على وجود العلة في صورة النقض عند منع المستدل لوجودها؟ فمنهم من قال: له ذلك إذ به يتحقق انتقاضها وهدم كلام المستدل فكان له ذلك كغيره من الاعتراضات. ومنهم من منع من ذلك لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً. والواجب إنما هو التفصيل وهو أنه إن تعين ذلك طريقاً للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تحققاً لفائدة المناظرة وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا نعم لو كان المستدل قد دل على وجود العلة في محل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض فإذا منع وجود العلة فإن قال المعترض فقد انتقض الدليل الذي دللت به على وجود العلة لا يكون مسموعاً لكونه انتقالاً من النقض على نفس العلة إلى النقض على دليلها. وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تبييت النية وتعيينها أي بمسمى الصوم فوجب أن يصح كما في محل الوفاق ودل على وجود الصوم بقوله إن الصوم عبارة في الإمساك مع النية وهو موجود فيما نحن فيه. فقال المعترض: هذا منتقض بما إذا نوى بعد الزوال. وإن قال المعترض للمستدل ابتداء أمرك لا يخلو من حالين إما أن تعتقد وجود الصوم في صورة النقض أو لا تعتقده. فإن كان الأول فقد انتقضت علتك وإن كان الثاني فقد انتقض ما ذكرته من الدليل على وجود العلة كان متجهاً. وإن أورد ذلك لا في معرض نقض دليل وجود العلة بل في معرض الدلالة به على وجود العلة ي صورة النقض فالحكم فيه على ما سبق في الدلالة على نفي الحكم في صورة النقض فهو غير مسموع على ما يأتي: الثاني: منع تخلف الحكم وإنما كان ذلك دافعاً للنقض لما ذكرناه في منع وجود العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إخبارها كالثيب البالغ فقال المعترض هذا منقوض: بالثييب المجنونة فإنه يجوز إجبارها. فقال المستدل: لا نسلم صحة إجبار الثيب المجنونة.والكلام في تمكين المعترض من الاستدلال على تخلف الحكم في صورة النقض كالكلام في دلالته على وجود العلة وقد عرف ما فيه. الثالث: أن يكون النقض على أصل المستدل خاصةً وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الرطب بالتمر: باع مال الربا بجنسه متفاضلاً فلا يصح كما لو باع صاعاً بصاعين فقال الحنفي: هذا منتقض على أصلك بالعرايا فإنه يصح وإن باع مال الربا بجنسه متفاضلاً. وجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن يبين في صورة النقض مناسباً يقتضي النفي من مانع أو فوات شرط مع قران الحكم به على أصله. الثاني أن يقول: النقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل العلة فتخلف الحكم عن العلة إنما هو على مذهب أحد الفريقين وثبوت الحكم على وفق العلة المعلل بها بالاتفاق ولا مساواة بين المتفق عليه والمختلف فيه فلا يقع في معارضة دليل العلة. الثالث: أن يبين أن تخلف الحكم عن العلة في معرض الاستثناء والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به كما في صورة العرايا المذكورة. الرابع: أن يكون إبداء النقض على أصل المعترض لا غير وتوجيهه أن يقول المعترض: هذا الوصف مما لم يطرد على أصلي فلا يلزمني الانقياد إليه. وجوابه أن يقول المستدل: ما ذكرته حجة عليك في الصورتين إذ هي محل النزاع ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في درء الاحتجاج وإلا كان حجة في محل النزاع وهو محال. وهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله عن النقض؟ اختلفوا: فمنهم من قال بوجوبه لقربه من الضبط وبعده عن النشر والخبط ولأن ما أشار إليه المستدل من الوصف المعلل به إذا كان منتقضاً فإما أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لا لمعارض أو لمعارض: فإن كان الأول فلا يكون الوصف علةً لما سبق تقريره في مسألة تخصيص العلة. وإن كان الثاني فقد ثبت أن للعلة معارضاً متفقاً عليه فلا بد من نفيه في الدليل لأن المناظر تلو الناظر وليس للناظر الجزم بالحكم عند ظهور سببه دون ظهور انتفاء معارضه فكذلك المناظر غير أنا أسقطنا عنه كلفة نفي المعارض المختلف فيه لعسر نفيه فبقينا فيما عداه على حكم الأصل.
ومنهم من لم يوجبه تمسكاً منه بأن ما يقع به الاحتراز عن النقض إما أن يكون من جملة أجزاء العلة أو خارجاً عنها: فإن كان الأول فالعلة لا تكون علةً دونه وما مثل هذا لا خلاف في وجوب ذكره في العلة لعدم تمام العلة دونه ومن نازع فيه فقد نازع في أنه: هل يجب على المستدل ذكر العلة أو لا وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون مشيراً إلى نفي المعارض أو لا يكون كذلك فإن كان الأول. فقد تعرض لما لم يسأل عنه لكونه مسؤولاً بعد الفتوى عن الدليل المقتضي للحكم وانتفاء المعارض ليس من الدليل ولو قيل إنه من الدليل كان خلاف الغرض في هذا القسم. وإن كان الثاني فالنقض غير مندفع به لأن النقض عبارة عن وجود العلة ولا حكم فإذا كان المذكور خارجاً عن العلة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض فالعلة ما دونه وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض فكان النقض متجهاً. وإن قيل إن الوصف المأخوذ للاحتراز من جملة العلة لتعلق فائدة دفع النقض به وإن لم يكن مناسباً فقد سبق إبطاله في تخصيص العلة. الاعتراض الرابع عشر: الكسر وهو النقض على المعنى. وقد ذكرنا طريق إيراده ووجه الانفصال عنه في شروط العلة. ويخصه من الأجوبة هاهنا منع وجود المعنى المشار إليه في صورة النقض ومنع تخلف الحكم عنه وباقي الأجوبة التي أوردناها في سؤال النقض قبله. الاعتراض الخامس عشر المعارضة في الأصل بمعنى وراء ما علل به المستدل وسواء كان مستقلاً بالتعليل كمعارضة من علل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم أو بالكيل أو بالقوت أو غير مستقل بالتعليل على وجه يكون داخلاً في التعليل وجزءا من العلة وذلك كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه. وقد اختلف الجدليون في قبوله فمنهم من رده بناء منه على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين كما سبق تقريره ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد ما ذكر المستدل مجرداً عن المعارض صح التعليل به إجماعاً وإنما صح التعليل به لصلاحية فيه لا لعدم المعارض فإن العدم لا يكون علةً ولا داخلاً فيها لما سبق تقريره. فإذا صح التعليل به مع عدم المعارض صح مع وجوده ولأنه لا معنى للعلة إلا ما يثبت الحكم عقيبها وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كل واحد علةً. ومنهم من قبله وأوجب جوابه على المستدل وهو المختار.وذلك لأنه إذا وجد في الأصل وصفان فإما أن يكون كل واحد علةً مستقلةً أو لا يكون كذلك لا جائز أن يكون كل واحد علةً مستقلةً لما سبق تقريره في امتناع ذلك سواء كانت العلة بمعنى الأمارة أو الباعث. وإن كان القسم الثاني فإما أن يكون الحكم ثابتاً لما ذكره المستدل لا غير أو لما ذكره المعترض لا غير أو لهما جميعاً بحيث تكون العلة مجموع الوصفين وكل واحد منهما جزؤها. لا جائز أن يقال بالأول ولا بالثاني.فإنه ليس تعيين أحدهما للتعليل وإلغاء الآخر مع تساويهما في الاقتضاء أولى من الآخر فلم يبق غير الثالث. ويلزم منه امتناع تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع. وبتقدير تساوي الاحتمالات الثلاثة فلا يخفى أن التعدية تمتنع بتقدير أن تكون العلة ما ذكره المعترض.وبتقدير أن تكون العلة هي الهيئة الاجتماعية من الوصفين. وإنما يصح بتقدير التعليل بما ذكره المستدل لا غير.ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه. ومع ذلك فالتعدية تكون ممتنعةً لكن بشرط أن يكون ما أبداه المعترض صالحاً للتعليل أو لدخوله فيه عند كون ما أبداه المستدل صالحاً وإلا فلا معارضة وهل يجب على المعترض نفي ما أبداه معارضاً في الأصل عن الفرع اختفوا فيه: فمنهم من قال: لا يجب عليه ذلك فإنه إن كان موجوداً في الفرع فيفتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق. وإن لم يبين ذلك فقد انقطع الجمع.ومنهم من قال لا بد له من نفيه عن الفرع لأن مقصوده الفرق.وذلك لا يتم دون نفيه عن الفرع.
والمختار أنه إن قصد المعترض الفرق فلا بد له من نفيه وإن لم يقصد الفرق بأن يقول: هذا الوصف قد ثبت أنه لا بد من إدراجه في التعليل لما دل عليه من الدليل فإن كان غير موجود في الفرع فقد ثبت الفرق وإن كان موجوداً في الفرع فالحكم يكون ثابتاً في الفرع بمجموع الوصفين ونتبين أن المستدل لم يكن ذاكراً للعلة في الابتداء بل لبعضها. وأي الأمرين قدر فالإشكال لازم. هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه أصلاً واحداً.وإن كان المقيس عليه أصولاً متعددةً فمنهم من منع من ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها ومنهم من جوز ذلك لكونه أقوى في إفادة الظن. ومن جوز ذلك اختلفوا في جواز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد فمنهم من جوزه لأن المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعض الأصول فقد تم مقصود المعترض من إبطال غرض المستدل ومنهم من قال: لا بد من المعارضة في كل أصل لأنه إذا عارض في البعض دون البعض فقد بقي قياس المستدل صحيحاً على الأصل الذي لم يعارض فيه وبه يتم المقصود من إثبات الحكم أو نفيه والذين أوجبوا المعارضة في جميع الأصول منهم من أوجب اتحاد المعارض في الكل دفعاً لانتشار الكلام ولأن يكون مقابلاً في اتحاده لاتحاد وصف المستدل ومنهم من جوز المعارضة في كل أصل بغير ما في الأصل الآخر لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة. ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال يجوز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد إذ به يتم مقصوده ومنهم من لم يجوز ذلك حيث إن المستدل التزم صحة القياس على الكل وعلى هذا يقع الخلاف فيما لو عارض في بعض الأصول هل يجب على المستدل الجواب أو لا ؟ والوجه في الجواب من ستة أوجه : الأول: منع وجود الوصف المعارض به في الأصل. الثاني: المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلة من جانب المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم. الثالث: أن يبين كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه. الرابع: أن يبين أنه ملغى في جنس الحكم المعلل وإن كان مناسباً وذلك كالذكورة في باب العتق. الخامس: أن يبين أنه قد استقل بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به وعند ذلك فيمتنع أن يكون علةً مستقلةً في محل التعليل لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله وهو ممتنع. فإن عارض المعترض في صورة الإلغاء بوصف آخر غير ما عارض به في الأصل فلا بد من إبطاله وإلا فالقياس متعذر ولا يمكن أن يقال في جوابه إن كل وصف اختص بصورة فهو ملغى بالصورة الأخرى. وهذا هو المسمى في الاصطلاح بتعدد الوضع.فإن للمعترض أن يقول العكس غير لازم في العلل الشرعية لجواز ثبوت الحكم في كل صورة بعلة غير علة الصورة الأخرى وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلتين مختلفتين فلا يلزم من إثبات الحكم في كل صورة بعلة مع عدم علة الصورة الأخرى فيها إلغاء ما وجد في تلك الصورة. السادس: أن يبين رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات التي يأتي ذكرها وعند ذلك.فيمتنع جعل ما عارض به المعترض علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إهمال الراجح واعتبار المرجوح ويمتنع أن يكون داخلاً في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع بتخلف الحكم عنه مع رجحانه ضرورة إنتفاء الوصف المرجوح. وهاهنا ترجيح آخر وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعديا والآخر قاصراً وذلك لا يخلو إما أن يكون في طرف الإثبات أو النفي: فإن كان في طرف الإثبات فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي جزءاً من العلة أو خارجاً عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير فإن كان خارجاً عنها فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي مساوياً للقاصر في جهة اقتضائه أو أن الترجيح لأحدهما فإن كان مساوياً للقاصر من جهة الاقتضاء فالتعليل بالمتعدي أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل. أما الإجمال فهو أن التعليل بالمتعدي متفق عليه بخلاف التعليل بالقاصر والتعليل بالمتفق عليه أولى.
وأما التفصيل فهو أن فائدة المتعدي أكثر من القاصر لأن فائدة القاصر إنما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد وسهولة القبول والمتعدي مشارك للقاصر في هذا المعنى وزيادة التعريف للحكم في الفرع وهو أعظم فوائد العلة عند الأكثرين وهو وإن لزم من التعليل به إهمال المناسب القاصر فمقابل بمثله حيث إنه يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدي مع كونه راجحاً. والتعليل بالقاصر وإن كان على وفق النفي الأصلي في الفرع والتعليل بالمتعدي على خلافه إلا أنه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ولو عملنا بالقاصر لموافقة النفي الأصلي لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الاتفاق على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتفاق على مخالفته وهو الوصف المتعدي فكان مرجوحاً. فإن قيل: إلا أن التعليل بالوصف المتعدي يلزم منه مخالفة ما لم يتفق على مخالفته من الوصف القاصر وما اتفق على مخالفته من النفي الأصلي فكان فيه مخالفة ظاهرين: أحدهما متفق على مخالفته والآخر عير متفق على مخالفته. والتعليل بالوصف القاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ومخالفة ظاهر واحد وهو الوصف المعتدي. قلنا: هذا مقابل بمثله فإنه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى وإن كان قاصراً فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساوياً لوصف الأصل في الاقتضاء نظراً إلى تماثل مقصود الشارع والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي لكون النفي الأصلي مخالفاً في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع. وعند ذلك فيترجح ما ذكرناه من جهة أن العمل بالوصف المتعدي عمل به وبأصل مترجح على النفي الأصلي والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا فكان ما ذكرناه أولى. فإن قيل ربما كان المانع للحكم قائماً مطلقاً وعند ذلك فالتعليل بالقاصر أولى لما فيه من موافقة الدليل الشرعي النافي وموافقة النفي الأصل بخلاف المتعدي. قلنا: المانع في الفرع بستدعي وجود المقتضي وإلا فالحكم يكون فيه منتفياً لانتفاء ما يقتضيه لا لوجود منافيه فدعوى وجود المانع في الفرع مع وجوب قصور العلة المقتضية للإثبات على الأصل تناقض لا حاصل له كيف وإن ما مثل هذا المانع مرجوح عند الخصم بالنسبة إلى الوصف القاصر والمتعدي على ما وقع به الفرض في ابتداء الكلام مساو للقاصر في المقصود فكان مرجوحاً بالنسبة إلى المتعدي أيضاً فكان المتعدي أولى كما بيناه في النفي الأصلي. فإن قيل: كما أن المتعدية قد تعرف إثبات الحكم في الفرع فالقاصرة تعرف نفيه عن الفرع وكما أن معرفة ثبوت الحكم في الفرع مقصود للشارع فمعرفة انتفائه أيضاً عنه مقصود له. قلنا: هذا إنما يستقيم أن لو لم يوجد في الفرع ما هو مساو للعلة القاصرة في الأصل فيما يرجع إلى جهة الاقتضاء. والمقصود المطلوب للشارع من إثبات الحكم لأن تعريف العلة القاصرة لنفي الحكم في الفرع إنما هو بناء على انتفاء مقصود الحكم ولن يتصور ذلك مع وجود ما هو مساو في الطلب والاقتضاء لما هو المقصود في الأصل فلا ينتهض الوصف القاصر في الأصل علامةً على انتفاء الحكم في الفرع مع وجود الوصف المتعدي فيه ومساواته للقاصر في الاقتضاء على ما وقع به الفرض كيف وإن العلة القاصرة غير مستقلة بتعريف انتفاء الحكم في الفرع إلا مع ضميمة انتفاء علة غيرها وانتفاء النص والإجماع بخلاف العلة المتعدية في طرف الإثبات فما استقل بالتعريف يكون أولى مما لا يستقل. نعم قد يتوقف العمل بالعلة المثبتة على انتفاء المعارض لا أن انتفاء المعارض من جملة المعرف ولا الداعي بخلاف ما تتوقف عليه العلة القاصرة في تعريفها نفي الحكم في الفرع. والعمل بما هو معرف بنفسه من غير توقف في تعريفه على غيره أولى. وعلى هذا يكون الحكم إن كان الوصف المتعدي راجحاً في جهة اقتضائه أولى والوصف المتعدي وإن توقف استقلاله على إخراج القاصر عن التعليل فليس إخراج القاصر موقوفاً على استقلال المتعدي ليلزم الدور لجواز اتفاقهما في إخراجهما عن التعليل كيف وإنه مقابل بدور آخر حيث إنه يتوقف إدخال القاصر في التعليل على عدم استقلال المتعدي وكذلك بالعكس.