وأما إن كان المتعدي مرجوحاً في جهة اقتضائه بالنسبة إلى الوصف القاصر فالوصف القاصر أولى نظراً إلى المحافظة على زيادة المناسبة المعتبرة بثبوت الحكم على وفقها والنظر إليها وإن أوجب إهمال فائدة المتعدية أولى لما فيه من زيادة المصلحة وصلاح المكلف وما يتعلق به من زيادة التعقل وسرعة الانقياد في ابتداء ثبوت الحكم لأنه الأصل في كون الحكم معللاً. وفائدة التعدية إنما تعرف بعد تعرف تعليل الحكم بما علل به بنظر ثان متأخر عن النظر فيما علل به الحكم في الأصل ولا شك أن ما هو أشد مناسبة للحكم يكون أسبق إلى الفهم بالتعليل للحكم الثابت في الأصل فكان التعليل به أولى. وإن كانت جهة التساوي والأرجحية غير معلومة ولا ظاهرة فالتعليل بالمتعدي أولى نظراً إلى أن العمل به أولى على تقدير أن يكون مساوياً وعلى تقدير أن يكون راجحاً. وإنما يمتنع العمل به على تقدير أن يكون مرجوحاً في نفس الأمر.ولا يخفى أن العمل بما العمل به يتم على تقدير من التقديرين أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه. وعلى ما فصلناه في طرف الإثبات يكون الحكم في طرف النفي. هذا كله إن كان الوصف المتعدي خارجاً عن العلة القاصرة وأما إن كان داخلاً فيها بأن كان المعارض معللاً بمجموع الوصفين: الوصف القاصر والمتعدي معاً فالقاصر أولى وسواء كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي وسواء كان المتعدي راجحاً على القاصر أو مرجوحاً أو مساوياً. أما في طرف الإثبات فلأن التعليل بالعلة المتعدية يلزم منه إهمال الوصف القاصر وتعطيله ولا كذلك بالعكس.ولايخفى أن الجمع أولى من التعطيل. فإن قيل: إلا أنه على تقدير أن يكون الوصف المتعدي راجحاً لو جعلنا الوصف القاصر داخلاً في التعليل فيلزم منه أن يتخلف الحكم في الفرع عن الوصف المتعدي الراجح رعاية لما فات من الوصف المرجوح وهو ممتنع. قلنا: هذا إنما يستقيم علي تقدير أن يكون رجحانه ظاهراً ولا يستقيم على تقدير أن يكون مرجوحاً أو مساوياً. ولا يخفى أن احتمال وقوع العمل بما يتم على تقدير من تقديرين أولى من العمل بما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه. كيف وإن العمل بالقاصر وإن كان يفضي إلى إهمال الوصف المتعدي في الفرع إلا إنه لا يلزم منه إهماله مطلقاً إذ هو داخل في العلة ولو عملنا بالوصف المتعدي فقط يلزم منه إهمال القاصر وتعطيله مطلقاً فالعمل بالقاصر يكون أولى وعلى هذا يكون الحكم إن كان ذلك في طرف النفي أيضاً بل أولى لما فيه من تقليل مخالفة المقتضي للإثبات. هذا إن ظهر الترجيح وأما إن تحققت المعارضة من غير ترجيح بعد البحث التام فعلى مقتضى ما أسلفناه من القول بالتخيير عند التعارض مع التنافي فلا مانع من الجري على تلك القاعدة هاهنا. الاعتراض السادس عشر: سؤال التركيب وهو الوارد على القياس المركب.وقد بينا معنى القياس المركب وأقسامه ووجه تسميته بذلك والسؤال الوارد عليه وجوابه في شرط حكم الأصل. الاعتراض السابع عشر: سؤال التعدية وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل: ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فالذي عللت به أيضاً قد تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر. وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إجبار البكر البالغ: بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة فعارضه الحنفي بالصغر وقال: البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغة فالصغر متعدً إلى الثيب الصغيرة. وهذا أيضاً مما اختلف فيه والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية. وجوابه بإبطال ما عارض به المعترض وحذفه عن درجة الاعتبار بما أسلفناه في سؤال المعارضة في الأصل. ومهما حقق شيء من تلك الطرق فقد اندفع ولا أثر لما أشير إليه من التسوية خلافاً للداركي. الاعتراض الثامن عشر: منع وجود الوصف المعلل به في الفرع وجوابه كجواب منع وجوده في الأصل وقد عرف. الاعتراض التاسع عشر المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدل إما بنص أو إجماع ظاهر أو بوجود مانع الحكم أو بفوات شرط الحكم. ولا بد من بيان تحققه وطريق كونه مانعاً أو شرطاً على نحو طريق إثبات المستدل كون الوصف الذي علل به من التأثير أو الاستنباط.
وقد اختلف في قبوله فمنع منه قوم تمسكاً منهم بأن المعارضة استدلال وبناء وحق المعترض أن يكون هادماً لا بانياً. وقبله الأكثرون وهو المختار إذ يلزم منه هدم ما بناه المستدل لمقاومة دليله لدليله ولا حجر عليه في سلوك طرق الهدم ولا سيما إذا تعين ذلك طريقاً في الهدم بأن لم يكن له هادم سواه فلو لم يقبل منه لبطل مقصود المناظرة واختلت فائدة البحث والاجتهاد. والوجه في جوابه عند توجهه أن يقدح فيه المستدل بكل ما للمعترض أن يقدح به فيه أن لو كان المستدل متمسكاً به وإن عجز عن جميع ذلك فقد اختلفوا في جواز دفعه بالترجيح: فمنهم من لم يجوز ذلك اعتماداً منهم على أن ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحا بالنسبة إلى ما ذكره المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه اعتراضاً. ومنهم من جوزه وهو المختار لأنه مهما ترجح ما ذكره المستدل بوجه من وجوه الترجيحات الآتية كان العمل به متعيناً. وهل يجب على المستدل أن يذكر في دليله ما يومىء إلى الترجيح منهم من أوجبه لتوقف العمل بالدليل عليه فكان من الدليل فلو لم يذكره لم يكن ذاكراً للدليل أولا بل لبعضه ومنهم من لم يوجبه لما في التكليف به من الحرج والمشقة. والمختار أن يقال: إما أن يكون ما به الترجيح يرجع إلى العلة بأن يكون وصفاً من أوصافها أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا بد من ذكره في الدليل أولاً ليكون ذاكراً للدليل. وإن كان الثاني فلا لأنه مسؤول عن الدليل وقد أتى بمسماه حقيقة والترجيح بأمر خارج عن الدليل إنما هو من توابع ورود المعارضة فذكره بعد المعارضة وإن توقف عليه إعمال الدليل بدفع المعارض لا يوجب أن يكون داخلاً في مسمى الدليل حتى يقال إنه لم يكن ذاكرا للدليل أولاً. الاعتراض العشرون: الفرق واعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى إنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً ولهذا اختلفوا فمنهم من قال: إنه غير مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع. ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع ذلك في كونه سؤالين أو سؤالاً واحداً.فقال ابن سريج إنه سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق. وقال غيره: بل هو سؤال واحد لاتحاد مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت صيغته.ومن المتقدمين من قال: ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما هو عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخل في التعليل ولا وجود له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع. وجوابه على كل تقدير لا يخرج عما ذكرناه في جواب المعارضة في الأصل والفرع. الاعتراض الحادي والعشرون إذا اختلف الضابط بين الأصل والفرع واتحدت الحكمة. كما لو قيل في شهود القصاص: تسببوا في القتل عمداً عدواناً فلزمهم القصاص زجراً لهم عن التسبب كالمكره. فللمعترض أن يقول: ضابط الحكمة في الأصل إنما هو الإكراه وفي الفرع الشهادة والمقصود منهما وإن كان متحداً وهو الزجر فلا يمكن تعدية الحكم به وحده وما جعل ضابطا له في الأصل غير موجود في الفرع والضابط في الفرع يحتمل أن لا يكون مساوياً لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود فامتنع الإلحاق. وجوابه إما بأن يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشترك فيه الضابط من التسبب المضبوط عرفاً أو بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود أكثر من إفضاء ضابط الأصل فكان أولى بالثبوت. وذلك كما لو كان أصله في مثل هذه المسألة المغرى للحيوان من حيث إن انبعاث الولي للتشفي والانتقام في الفرع لغلبة إقدام المكره بالإكراه على القتل طلبا لخلاص نفسه أغلب من إقدام الحيوان بالإغراء على الآدمي بسبب غلبة نفرته عنه وبالجملة فيبين الغلبة بما يساعد في آحاد المسائل. الاعتراض الثاني والعشرون إذا اتحد الضابط بين الأصل والفرع واختلف جنس المصلحة كما لو قال الشافعي في مسألة اللواط أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً فوجب به الحد كالزنا.
فللمعترض أن يقول: الضابط وإن كان متحداً غير أن الحكمة التي في الفرع وهي صيانة النفس عن رذيلة اللياطة مخالفة لحكمة الأصل وهي دفع محذور اختلاط المياه واشتباه الأنساب المفضي إلى تضييع المولود وانقطاع نسل جنس الإنسان. وعند ذلك فلا يلزم من اعتبار الضابط في الأصل لما لزمه من الحكمة اعتباره في الفرع لغير تلك الحكمة لجواز أن لا تكون قائمةً مقامها في نظر الشارع. وجوابه أن يقال: التعليل إنما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع والتعرض لحذف خصوص ما اختص به الأصل من الزنى ومقصوده اللازم عنه وحذفه بطريق من طرق الحذف التي سبق بيانها في السبر والتقسيم. الاعتراض الثالث والعشرون أن يقال حكم الفرع مخالف الأصل فلا قياس لأن القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما ومع اختلاف الحكم فحكم الأصل لا يكون متعديا إلى الفرع فلا قياس. وجوابه ببيان اتحاد الحكم إما عيناً وذلك كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة وقياس صحة البيع على صحة النكاح وأن الاختلاف إنما هو عائد إلى المحل وهو غير قادح في صحة القياس لكونه شرطاً فيه وإما جنساً كما في قياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل الأنفس بالنفس الواحدة وأن الاختلاف إنما هو في عين الحكم فكان إما ملائماً إن كان الاشتراك في جنس العلة أو مؤثراً إن كان الاشتراك في عينها على ما سبق تحقيقه وذلك غير مبطل للقياس عند القائلين به. وأما إن كان الحكم مختلفا جنساً ونوعاً كما في إلحاق الإثبات بالنفي أو الوجوب بالتحريم وبالعكس فقد بينا وجه الاختلاف في صحته وأن المختار إبطاله. الاعتراض الرابع والعشرون :سؤال القلب وهو قسمان: الأول قلب الدعوى والآخر قلب الدليل. أما قلب الدعوى فضربان وذلك لأن الدعوى إما أن يكون الدليل مضمراً فيها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو كما لو قال الأشعري أعلم بالضرورة أن كل موجود مرئي فهذه دعوى فيها إضمار الدليل وتقديره لأنه موجود إذ الوجود هو المصحح للرؤية عنده فقال المعتزلي: أعلم بالضرورة أن كل ما ليس في جهة لا يكون مرئياً. فهذه الدعوى مقابلة للأولى من جهة أن الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة وإلى ما ليس في جهة فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا يقابل قول القائل: كل موجود مرئي ودليلها مضمر فيها وتقديره أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية. وأما إن لم يكن الدليل مضمراً فيها فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم أو في مسألة التحسين والتقبيح مثلاً: أعلم بالضرورة أن النظر لا يفضي إلى العلم وأن الكفر قبيح لعينه والشكر حسن لعينه. فقال المعترض أعلم بالضرورة أن النظر يفضي إلى العلم وأن الكفر ليس قبيحاً لعينه ولا الشكر حسناً لعينه وهذا هو عين مقابلة بالفاسد والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى الضرورة من خصمه في محل الخلاف فيقال: وهذا لازم لك أيضاً وقد أورد الجدليون في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدعيين تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل فقال الحنفي: وتحكيم القائف في ذلك أيضاً تحكم بلا دليل. قالوا والمقصود منه أيضاً استنطاق المدعي بأن ما ذكره ليس بتحكم بل له مأخذ صحيح فيقول المعترض: وكذلك ما ذكرته وهو في غاية البعد فإنه إما أن يعترف المدعى بأن ما ذهب إليه تحكم أو أن يبين مأخذه فيه فإن كان تحكماً فلا تغني معارضته بتحكمه في مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه وإن بين له مأخذاً فلا يلزم منه أن يكون ما استبعده من مذهب خصمه كذلك وإن تعرض المعترض لبيان المأخذ فيما استبعده المدعي فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب.
وأما قلب الدليل وهو عبارة عن بيان كون ما ذكره المستدل يدل عليه ثم لا يخلو إما أن يسلم المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه أو يبين أنه لا دلالة له على مذهب المستدل ولا من وجه فإن بين أن ما ذكره لا يدل له وهو دليل عليه فهذا قلما يوجد له مثال في غير المنصوص وذلك كما لو استدل في توريث الخال بقوله عليه السلام:" الخال وارث من لا وارث له " فقال المعترض: المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له معناه نفي كون الجوع زاداً والصبر حيلة. ويدل على إرادة هذا الاحتمال أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من قوله:" لا وارث له " نفي كل وارث فتوريث الخال لا يتوقف عند من يراه وارثاً على نفي جميع الوراث لإرثه مع الزوج والزوجة وإما نفي من عداه من الوراث بجهة العصوبة فتخصيص الخال بالذكر لا يكون مفيداً لأن من عداه من ذوي الأرحام كذلك وهذا النوع من القلب وإن دل على مذهب المعترض فهو شبيه بفساد الوضع من حيث إنه لا يدل على مذهب المستدل. وإن سلم أن ما ذكره المستدل يدل له من وجه فهذا النوع من القلب ثلاثة أقسام وذلك لأن المعترض إما أن يتعرض في القلب لتصحيح مذهبه أو لإبطال مذهب المستدل: وإن تعرض لإبطال مذهب المستدل فإما أن يتعرض له صريحاً بأن يجعله حكماً للدليل بلا واسطة أو لا بصريحه بل بطريق الالتزام بأن يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل. فإن كان من القسم الأول فهو كما لو قال الحنفي مثلاً في مسألة الاعتكاف لبث محض فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة فقال المعترض لبث محض فلا يشترط الصوم في صحته كالوقوف بعرفة فكل واحد منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه غير أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحاً وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلاً بمناسب يقتضي نفي القربة بل بانتفاء المناسب من حيث إن اللبث المحض لا يناسب ولا يشم منه رائحة المناسبة للقرابة وتعليل المعترض بأمر طردي فإنه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم وقد يتفق أن يكون المستدل قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا والمعترض كذلك كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فقال المعترض: طهارة تراد لأجل الصلاة فتصبح بغير الماء كطهارة الحدث فكل واحد منهما متعرض في الدليل لتصحيح مذهبه صريحاً والعلة في الطرفين شبهية. وإن كان من القسم الثاني: وهو أن يتعرض المعترض في القلب لإبطال مذهب المستدل صريحاً فمثاله ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس: عضو من أعضاء الوضوء فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء. فقال الشافعي: عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء فكل واحد منهما قد صرح في دليله بإبطال مذهب خصمه وليس في ذلك ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه ليس يلزم من إبطال مذهب كل واحد منهما تصحيح مذهب الآخر لجواز أن يكون الصحيح هو مذهب مالك وهو وجوب الاستيعاب. نعم لو كان القائل في المسألة قائلان والاتفاق منهما واقع على نفي قول ثالث فإنه يلزم من تعرض كل واحد منهما لإبطال مذهب الآخر تصحيح مذهبه ضرورة الاجتماع على إبطال قول ثالث وذلك كالحكم بالأولوية في مسألة التخلي للعبادة. وإن كان من القسم الثالث: فهو كما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح فقال الشافعي: عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح فإن المعترض في هذا المثال لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل في القول بالصحة صريحاً بل بطريق الالتزام. وذلك أن من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية فخيار الرؤية لازم الصحة فإذا بطل خيار الرؤية فقد انتفى اللازم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
ويلتحق بأذيال هذا القسم الثالث قلب التسوية ومثاله قول الحنفي في مسألة إزالة النجاسة بالخل: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتحصل به الطهارة كالماء فيقول الشافعي: مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء فإنه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث والحكم بالتسوية. واعلم أن أعلى مراتب أنواع القلب ما بين فيه أنه يدل على المستدل ولا يدل له ثم يليه النوع الثاني وهو ما بين فيه أنه يدل له وعليه وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح فيه بإثبات مذهب المعترض وهو القسم الأول منه ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنه دون ما قبله من حيث إنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه على ما تقدم وهو القسم الثاني منه ثم القسم الثالث فإنه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدل إلا أنه يدل عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه فكان شبيهاً بالمعارضة وإن فارقها من جهة أنه معارضة نشأت من نفس دليل المستدل. وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق معنى القلب وأقسامه فقد اختلف في قبوله: فقبله قوم من حيث إنه يشير إلى ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل ورده آخرون من حيث إن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل أو إلى غيره: فإن كان الأول فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل لاستحالة اجتماع حكمين متقابلين مجمع عليهما في صورة واحدة وإن كان الثاني فلا يكون ذلك اعتراضاً على الدليل. والحق في ذلك أنه وإن تعرض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحاً فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد كما ذكرناه من مثال إزالة النجاسة في القسم الأول وإن تعرض لغيره فيصح القلب إذا كان ذلك لازماً عما ذكره المعترض كما ذكرناه من المثال في القسم الثاني من النوع الثاني من التمثيل في مسألة بيع الغائب ومن التمثيل بقلب التسوية في إزالة النجاسة وإنما يمتنع قبوله لأن ما ذكره المستدل إما أن يكون مقصود الشارع من الحكم المرتب عليه ملازماً له أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فتعليل المعترض به لمقابل حكم المستدل إما أن يكون بحيث يلزمه مقصود من مقابل الحكم أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فإما أن يكون ذلك من جهة ما علل به المستدل أو من غيرها: فإن كان الأول فمحال أن يكون الوصف الواحد من جهة واحدة يناسب الحكم ومقابله وإن كان الثاني فما ذكره ليس بقلب إذ القلب لا بد فيه من اتحاد العلة في القياسين بل هو معارضة بدليل آخر وإن كان بحيث لا يلازمه المقصود فهو بالنسبة إلى حكم المعترض طردي ووصف المستدل مناسب أو شبهي فلا يكون قادحاً فيه وإن كان ما ذكره المستدل طردياً بالنسبة إلى ما رتبه عليه فهو باطل في نفسه لتعذر التعليل بالطردي المحض ولا حاجة إلى شيء من الاعتراضات. الاعتراض الخامس والعشرون: سؤال القول بالموجب وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكماً لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه ومهما توجه على هذا الوجه كان المستدل منقطعاً لتبين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقاً بمحل النزاع وهو منحصر في قسمين وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركاً لمذهب خصمه. فإن كان الأول: فهو كما لو قال الشافعي في الملتجىء إلى الحرم وجد سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزاً فقال الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن استيفاء القصاص عندي جائز.وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم. وإن كان الثاني فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه: وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين أو قال في مسألة القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه.
فقال الخصم: أقول بموجب هذا الدليل وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط. وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام فإنه قلما يتفق الذهول عنها. ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك فكان احتمال الخطإ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطإ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه. وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع فقال بعضهم: لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب فقد يقول بذلك عناداً قصداً لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى. وقال آخرون: لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه فوجب تصديقه كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً ولا يخفى ما فيه من الخبط. وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ترويحاً لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق. الأول أن يقول: المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه. الثاني: أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي فقال المعترض: هو عندي غير جائز بل واجب فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب. الثالث: أن يقول المستدل القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره فلا يكون قولاً بموجبه وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل: حيوان تجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة قياساً على الإبل. فقال المعترض: عندي تجب فيه زكاة التجارة والنزاع إنما هو في زكاة العين فيقول المستدل إذا كان النزاع في زكاة العين فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود وأيضاً فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة وهو غير متجه لأن موجب الدليل التعميم فالقول ببعض الموجب لا يكون قولاً بالموجب بل ببعضه. وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة: مائع لا يزيل الحدث فلا يزيل الخبث كالمرقة فقال المعترض: أقول به فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث فيقول المستدل: ظاهر كلامي إنما هو الخل الطاهر ضرورة وقوع النزاع فيه وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولاً بمدلوله وموجبه بل بغيره فلا يكون مقبولاً وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضاً طرق الأول: أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولاً لدليله وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولاً. وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول بالاعتبار الأول أيضاً الثاني: أن يبين لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار كما سبق تقريره أولاً.
الثالث: أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفيةً والشروط متحققة.فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعاً فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهراً. وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل فيرد عليهما كل ما كان وارداً على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع فإنها لا ترد عليهما أما قياس الدلالة فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة وأما القياس في معنى الأصل فلعدم ذكر الجامع فيه. والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي الأصل فالطرف المعصوم يساوي النفس فيه دليله الموجب الثاني وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدةً أو متعددةً :فإن كانت واحدةً فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل. وإن كانت متعددةً فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر. والسؤال الوارد عليه أن يقال: لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت أما إذا اتحدت فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم أن يكون الحكم الثابت في الفرع ثابتاً بغير علة الأصل وهو الأولى لما فيه من تكثير مدارك الحكم فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلةً بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل. وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل لما ذكرناه وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازماً في الفرع. وجوابه أن يقال: ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهراً على وجود علته التي ثبت بها في الأصل وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل. والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردةً إلا أنها غير منعكسة والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه بخلاف غير المنعكسة فكانت أولى. فإن قيل: وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر. قلنا: بل العمل بما ذكرناه أولى لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى وهي مختلف في صحة التعليل بها فكان ما ذكرناه أولى. خاتمة لهذا الباب في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس والاعتراضات الواردة على القياس أما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها. فإن كان الأول فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معاً إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال. وإن كان الثاني فلا يخلو: إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة: فإن كانت غير مرتبة فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط.
ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها وإن أفضت إلى النشر فالجمع بينها مقبول من غير خلاف بين الجدليين وإن كانت مرتبةً فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ومشعر بتسليم وجوده لأنه لو بقي مصراً على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال. وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة ومنهم من لم يمنع منه وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدراً لتسليم وجود الوصف وذلك بأن يقول: وإن سلم عن المنع تقديراً فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ولا شك أنه أولى لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وهو المختار. وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه. ثم بعده سؤال فساد الاعتبار لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص. ثم بعده منع الحكم في الأصل ويجب أن يكون مقدماً على ما يتعلق بالنظر في العلة لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله ثم بعده منع وجود العلة في الأصل. ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلية الوصف كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه. ثم بعده النقض والكسر لكونه معارضاً لدليل العلية ثم بعده المعارضة في الأصل لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخراً عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره. ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب. ثم بعد ذلك القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه وهذا آخر الأصل الخامس. الأصل السادس في معنى الاستدلال وأنواعه أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب. وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارةً بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره ويطلق تارةً على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا. وهي عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً. فإن قيل: تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه. قلنا: إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس. وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم: وجد السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً ولا يخفى لزوم المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلاً وليس هو نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً فكان استدلالاً. فإن قيل: تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دوراً ممتنعاً وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقراً إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا. قلنا: أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور. وإذا اختلفت الجهة فلا دور وما ذكروه في تحقيق كونه قياساً فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصاً ولا إجماعاً كما تقرر قبل والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية. ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: الحكم يستدعي دليلاً ولا دليل فلا حكم أما أنه يستدعي دليلاً فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلاً من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال. وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها اعتراضاً وانفصالاً فعليك بالالتفات إليها. ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر.وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه. فإن كان الأول فيسمى اقترانياً وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما.وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر في المقدمتين ويسمى حداً أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب حداً أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حداً أصغر والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى. ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلاً وهيئته في النسبة إما بكونه محمولاً على الحد الأصغر وموضوعاً للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول وإما بكونه محمولاً عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعاً للأصغر ومحمولاً على الأكبر ويسمى الشكل الرابع. وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة. أما الشكل الأول منها: فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو منتج للمطالب الأربعة الكلي موجباً وسالباً والجزئي موجباً وسالباً. وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه. وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية. واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية. الضرب الثاني: من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا: كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية. الضرب الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية. الضرب الرابع: بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية. الشكل الثاني: وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه. وضروبه المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح. الضرب الثاني: من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله. الضرب الثالث: من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح. الضرب الرابع: من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله.
والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها. وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقةً فكان لازماً عن نقيض المطلوب فكان محالاً وإلا لما لزم عنه المحال وإذا كان نقيض المطلوب محالاً كان المطلوب الأول هو الصادق. الشكل الثالث: وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب.وضروبه المنتجة ستة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل برً مطعوم وكل برً ربوي ولازمه بعض المطعوم ربوي. الضرب الثاني: من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا: بعض البر مطعوم وكل برً ربوي ولازمه كلازم ما قبله. الضرب الثالث: من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله. الضرب الرابع: من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه متفاضلاً. الضرب الخامس: من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله. الضرب السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله. وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب. وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها. وإن شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني.ويلزمه صدق المطلوب الأول. وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائياً. ولا بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب. والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه. فإن كان الأول فتسمى تلك القضية شرطيةً متصلةً وأحد جزئيها وهو ما دخل عليه حرف الشرط مقدماً والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء تالياً وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً شرطياً متصلاً. وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي مقدمة فيه يسمى قياساً منفصلاً أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كليةً أي دائمةً وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساوياً له. ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة.وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساوياً له.
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم.وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود الأخص. وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازماً لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا: دائماً إن كان هذا الشيء إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنساناً. وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معاً أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع. فإن كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا: دائماً إما أن يكون العدد زوجاً وإما أن يكون فرداً لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج. وإن كان الثاني فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا: دائماً إما أن يكون الجسم جماداً وإما حيواناً لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد. فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه. وإن كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا: دائماً إما أن يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض. فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه. فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة.ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن. ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها. ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان : المسألة الأولى في الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه.ومن هؤلاء من جوز به الترجيح لا غير. وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات على ما سبق تحقيقه.وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه. الأول: أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققاً دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة الثانية وهو خلاف الإجماع. وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل. إما أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وكل ذلك ممتنع. الوجه الثاني: أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام خاصة به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك الحالة ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك. الثالث: أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجوداً أو عدماً. وأما التغير فمتوقف على ثلاثة أمور: وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان.
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما. الوجه الرابع: إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال: غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى. وذلك لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون هو عين ما كان ثابتاً أو شيئاً متجدداً: الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض. وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه مؤثراً وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه. وأما المتجدد سواء كان عدماً أو وجوداً فإنه قد ينتفي تارةً لعدم مقتضيه وتارةً لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد. وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع. بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه. فإن قيل: لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه. الأول: أنا نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية. ولكن لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحاً. ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا بد لهذا من دليل. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل شيء.لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء والاستمرار. وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرةً بل مرجوحة أو مساوية. وما ذكرتموه من الوجه الثالث لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير. وما ذكرتموه من زيادة توقف التغير على تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس معارض بما يتوقف عليه البقاء من تجدد مثل السابق وإن سلمنا أن ما يتوقف عليه التغير أكثر لكن لا نسلم أنه يدل على غلبة البقاء على التغير لجواز أن تكون الأشياء المتعددة التي يتوقف عليها التغير أغلب في الوجود من الأعداد القليلة التي يتوقف عليها البقاء أو مساويةً لها. وإن سلمنا أن البقاء أغلب من التغير ولكن لا نسلم كونه غالباً على الظن لجواز أن يكون الشيء أغلب من غيره وإن غلب على الظن عدمه في نفسه. سلمنا دلالة ذلك على الأغلبية لكن فيما هو قابل للبقاء أو فيما ليس قابلاً له؟ الأول مسلم والثاني ممنوع. فلم قلتم بأن الأعراض التي وقع النزاع في بقائها قابلة للبقاء؟ كيف وإنها غير قابلة لما علم في الكلاميات. وما ذكرتموه من الوجه الرابع لا نسلم أن الباقي لا يفتقر إلى مؤثر.وما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه وذلك لأن الباقي في حالة بقائه إما أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً لذاته الأول محال وإلا لما تصور عليه العدم وإن كان ممكناً فلا بد له من مؤثر وإلا لانسد علينا باب إثبات واجب الوجود. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في كل متحقق دوامه لكنه معارض بما يدل على عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول: أنه لو كان الأصل في كل شيء استمراره ودوامه لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها وهو خلاف الأصل.
الثاني: أن الإجماع منعقد على أن بينة الإثبات تقدم على بينة النفي ولو كان الأصل في كل متحقق دوامه لكانت بينة النفي لاعتضادها بهذا الأصل أولى بالتقدم. الثالث: أن مذهب الشافعي أنه لا يجزي عتق العبد الذي انقطع خبره عن الكفارة ولو كان الأصل بقاءه لأجزأ. سلمنا أن الأصل هو البقاء والاستمرار ولكن متى يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان محصلاً لأصل الظن أو غلبة الظن؟ الأول ممتنع وإلا كانت شهادة العبيد والنساء المتمحضات والفساق مقبولةً لحصول أصل الظن بها. والثاني مسلم ولكن لا نسلم أن مثل هذا الأصل يفيد غلبة الظن وذلك لأن الأصل عدم هذه الزيادة بنفس ما ذكرتم. سلمنا كون ذلك مغلبا على الظن لكن قبل ورود الشرع أو بعده؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وبيانه أن قبل ورود الشرع قد أمنا الدليل المغير فكان الاستصحاب لذلك مغلباً وبعد ورود الشرع لم نأمن التغير وورود الدليل المغير فلا يبقى مغلبا على الظن. والجواب عن منع الإجماع على التفرقة فيما ذكرناه من الصورتين أن المراد به إنما هو الإجماع بين الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الأئمة فكان ما ذكرناه حجة على الموافق دون المخالف. وعن السؤال الأول على الوجه الأول أنه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحة الصلاة تحصيلا لمصلحة الصلاة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية. وأما النوم فإنما امتنعت معه الصلاة لكونه سبباً ظاهراً لوجود الخارج الناقض للطهارة لتيسر خروج الخارج معه باسترخاء المفاصل على ما قال عليه السلام:" العينان وكاء السته ". وقال: "إذا نامت العينان انطلق الوكاء" وإذا كان النوم مظنة الخارج المحتمل وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا على حقيقه الخروج دفعاً للعسر والحرج عن المكلفين.وبه يقع الجواب عن الإغماء والمس. ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحة الصلاة زجرا له عن التقرب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث فإنه قبيح عقلاً وشرعاً ولذلك نهي عنه والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى. قولهم إنه لا تأثير للحدث المظنون عندكم قلنا: إنما لا يكون مؤثراً بتقدير أن لا نقول باستصحاب الحال كالتقدير الذي نحن فيه وإلا فلا. وعن السؤال الثاني: أنه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضى الدليل في كل متحقق لكان الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأعم أغلب إن كان عدم الاستمرار هو الأغلب أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان الاستمرار هو الأغلب وهو على خلاف الأصل وإن تساوى الطرفان فهو احتمال من ثلاثة احتمالات ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه. وعن السؤال الثالث: أنا إنما ندعي أن الأصل البقاء فيما يمكن بقاؤه إما بنفسه كالجواهر أو بتجدد أمثاله كالأعراض وعليه بناء الأدلة المذكورة وعلى هذا فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله. وأما الحركات فإما أن تكون من قبيل ما يمكن بقاؤه واستمراره أو لا من هذا القبيل فإن كان الأول فهو من جملة صور النزاع وإن كان الثاني فالنقض به يكون مندفعاً. وعما ذكروه على الوجه الثاني أن الإقدام على الفعل لغرض موهوم غير ظاهر إنما يكون فيما لا خطر في فعله ولا مشقة كما ذكروه من المثال. وأما ما يلزم الخطر والمشقة في فعله فلا بد وأن يكون لغرض ظاهر راجح على خطر ذلك الفعل ومشقته على ما تشهد به تصرفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار ومعاناة المشاق من الأسفار فإنهم لا يرتكبون ذلك إلا مع ظهور المصلحة لهم في ذلك ومن فعل ذلك لا مع ظهور المصلحة في نظره عد سفيهاً مخبطاً في عقله وما وقع به الاستشهاد من تنفيذ الودائع وإرسال الرسل إلى من بعدت مدة غيبته والشهادة بالدين على من تقدم إفراره من هذا القبيل فكان الاستصحاب فيه ظاهراً. وعما ذكروه على الوجه الثالث أولاً فجوابه بزيادة افتقار التغير إلى تجدد علة موجبة للتغير بخلاف البقاء لإمكان اتحاد علة المتجددات. وما ذكروه ثانياً فجوابه من وجهين : الأول: أن الشيء إذا كان موقوفاً على شيء واحد والآخر على شيئين فما يتوقف على شيء واحد لا يتحقق عدمه إلا بتقدير عدم ذلك الشيء وما يتوقف تحققه على أمرين يتم عدمه بعدم كل واحد من ذينك الأمرين.
ولايخفى أن ما يقع عدمه على تقديرين يكون عدمه أغلب من عدم ما لا يتحقق عدمه إلا بتقدير واحد.وما كان عدمه أغلب كان تحققه أندر وبالعكس مقابله. فإن قيل عدم الواحد المعين إما أن يكون مساوياً في الوقوع لعدم الواحد من الشيئين أو غالباً أو مغلوباً ولا تتحقق غلبة الظن فيما ذكرتموه بتقدير غلبة الواحد المعين ومساواته وإنما يتحقق ذلك بتقدير كونه مغلوباً. ولا يخفى أن وقوع أحد أمرين لا بعينه أغلب من وقوع الواحد المعين كما ذكرتموه. قلنا: إذا نسبنا أحد الشيئين لا بعينه إلى ذلك الواحد المعين فإما أن يكون عدمه أغلب من ذلك المعين أو مساوياً له أو مغلوباً فإن كان الأول لزم ما ذكرناه وإن كان الثاني فكذلك أيضاً لترجحه بضم عدم الوصف الآخر إليه وإن كان مغلوباً فنسبة الوصف الآخر إليه لا تخلو من الأقسام الثلاثة ويترجح ما ذكرناه بتقديرين آخرين منها وإنما لا يترجح ما ذكرناه بتقدير أن يكون كل واحد من الوصفين مرجوحاً فإذا ما ذكرناه يتم على تقديرات أربعة ولا يتم على تقدير واحد وفيه دقة فليتأمل. الوجه الثاني: أن العاقل إذا عن له مقصودان متساويان وكانت المقدمات الموصلة إلى أحدهما أكثر من مقدمات الآخر فإنه يبادر إلى مقدماته أقل ولولا أن ذلك أفضى إلى مقصوده وأغلب لما كان إقدامه عليه أغلب لخلوه عن الفائدة المطلوبة من تصرفات العقلاء. قولهم وإن كان البقاء أغلب من التغير فلا يلزم أن يكون غالباً على الظن قلنا إذا كان البقاء أغلب من مقابله فهو أغلب على الظن منه ويجب المصير إليه نظراً إلى أن المجتهد مؤاخد بما هو الأظهر عنده. قولهم: إنما يدل ما ذكرتموه على غلبة الظن فيما هو قابل للبقاء.قلنا: الأعراض إن كانت باقية فلا إشكال وإن لم تكن باقية بأنفسها فممكنة البقاء بطريق التجدد كسواد الغراب وبياض الثلج. وعلى كل تقدير فالكلام إنما هو واقع فيما هو ممكن التجدد من الأعراض لا فيما هو غير ممكن. وعما ذكروه على الوجه الرابع أن يقال: مجرد الإمكان غير محوج إلى المؤثر بل المحوج إليه إنما هو الإمكان المشروط بالحدوث أو الحدوث المشروط بالإمكان. وعن المعارضات أما الحوادث فإنما خالفنا فيها الأصل لوجود السبب الموجب للحدوث ونفي حكم الدليل مع وجوده لمعارض أولى من إخراجه عن الدلالة وإبطاله بالكلية مع ظهور دلالته. وأما تقديم الشهادة المثبتة على النافية وإن كانت معتضدة بأصل براءة الذمة فإنما كان لاطلاع المثبت على السبب الموجب لمخالفة براءة الذمة وعدم اطلاع النافي عليه لإمكان حدوثه حالة غيبة النافي عن المنكر وتعذر صحبته له واطلاعه على أحواله في سائر الأوقات. وأما مسألة العبد فهي ممنوعة وبتقدير تسليمها فلأن الذمة مشغولة بالكفارة يقيناً ولا تحصل البراءة منها إلا بيقين وجود العبد ولا يقين.فمن ادعى وجود مثل ذلك فيما نحن فيه فعليه الدليل. قولهم إنما يمكن التمسك به في الأحكام الشرعية إذا كان مفيدا لغلبة الظن لا نسلم ذلك بل أصل الظن كاف وبه يظهر الشيء على مقابله وأما رد الشهادة في الصور المذكورة فلم يكن لعدم صلاحيتها بل لعدم اعتبارها في الشرع بخلاف ما نحن فيه من استصحاب الحال فإنه معتبر بدليل ما ذكرناه من صورة الشاك في الطهارة والحدث. قولهم إنه مغلب على الظن قبل ورود الشرع لا بعده ليس كذلك فإنا بعد ورود الشرع إذا لم نظفر بدليل يخالف الأصل بقي ذلك الأصل مغلباً على الظن. نعم غايته أنه قبل ورود الشرع أغلب على الظن لتيقن عدم المعارض منه بعد ورود الشرع لظن عدم المعارض. المسألة الثانية اختلفوا في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف فنفاه جماعة من الأصوليين كالغزالي وغيره وأثبته آخرون وهو المختار. وصورته ما لو قال الشافعي مثلا في مسألة الخارج النجس من غير السبيلين إذا تطهر ثم خرج منه خارج من غير السبيلين فهو بعد الخروج متطهر ولو صلى فصلاته صحيحة لأن الإجماع منعقد على هذين الحكمين قبل الخارج والأصل في كل متحقق دوامه لما تحقق في المسألة التي قبلها إلا أن يوجد المعارض النافي والأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل.
فإن قيل القول بثبوت الطهارة وصحة الصلاة في محل النزاع إما أن يكون لدليل أو لا لدليل: لا جائز أن يكون لا لدليل فإنه خلاف الإجماع وإن كان لدليل فإما نص أو قياس أو إجماع فإن كان بنص أو قياس فلا بد من إظهاره ولو ظهر لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء على الاستصحاب بل بناء على ما ظهر من النص أو القياس. وإن كان بالإجماع فلا إجماع في محل الخلاف وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتاً. قلنا: متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل إذا قيل بنزوله منزلة الجواهر أو الأعراض؟ الأول ممنوع بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل لما سبق تقريره في المسألة المتقدمة والثاني مسلم ولكن لم قلتم إنه نازل منزلة الأعراض؟ سلمنا أنه نازل منزلة الأعراض وأنه لا بد له من دليل ولكن لا نسلم انحصار الدليل المبقى فيما ذكروه من النص والإجماع والقياس إلا أن يبينوا أن الاستصحاب ليس بدليل وهو موضوع النزاع. سلمنا أن الاستصحاب بنفسه لا يكون دليلا على الحكم الباقي بنفسه ولكنه دليل الدليل على الحكم وذلك لأنا بينا في المسألة المتقدمة وجود غلبة الظن ببقاء كل ما كان متحققا على حاله وذلك يدل من جهة الإجمال على دليل موجب لذلك الظن. القسم الثاني فيما ظن أنه دليل صحيح وليس كذلك وهو أربعة أنواع : النوع الاول شرع من قبلنا. وفيه مسألتان : المسألة الأولى : اختلفوا في النبي عليه السلام قبل بعثته هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله ؟ فمنهم من نفى ذلك كأبي الحسين البصري وغيره ومنهم من أثبته ثم اختلف المثبتون فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ومنهم من نسبه إلى شرع إبراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى. ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي والقاضي عبد الجبار وغيرهما من المحققين وهو المختار. أما الجواز فثابت وذلك لأنه لو امتنع إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في ذلك أو لمعنى آخر الأول ممتنع فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته في العقل محال. والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة من قبله. والثالث فلا بد من إثباته إذ الأصل عدمه. وأما الوقوع فيستدعي دليلاً والأصل عدمه وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه فمع عدم دلالتها في أنفسها متعارضة كما يأتي وليس التمسك بالبعض منها أولى من البعض. فإن قيل الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبداً بشريعة أحد قبله أنه لو كان متعبداً بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها كما هو الجاري من عادة كل متشرع بشريعة وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك. وأيضاً فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم.ولم ينقل شيء من ذلك. سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ويدل على ذلك أمران. الأول: أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم. الثاني: أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة وذلك كله مما لا يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع. والجواب عن الاعتراض الأول أنه مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبداً بشيء منها لظهر منه التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به. واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرةً على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. وعن الاعتراض الأول للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة المكلفين إلى اتباعه فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به. وبتقدير نقله فيحتمل أن يكون زمان نبينا عليه السلام زمان اندراس الشرائع المتقدمة وتعذر التكليف بها لعدم نقلها وتفصيلها ولذلك بعث في ذلك الزمان. وعن الاعتراض الثاني أنا لا نسلم ثبوت شيء مما ذكروه بنقل يوثق به وبتقدير ثبوته لا يدل ذلك على أنه كان متعبداً به شرعاً لاحتمال أن تكون صلاته وحجته وعمرته وتعظيمه للبيت بطريق التبرك بفعل مثل ما نقل جملته عن أفعال الأنبياء المتقدمين واندرس تفصيله. وأما أكل اللحم وذبح الحيوان واستسخاره للبهائم فإنما كان بناء منه على أنه لا تحريم قبل ورود الشرع. وأما تركه للميتة بناء على عيافة نفسه لها كعيافته لحم الضب أما أن يكون متعبداً بذلك شرعاً فلا. المسألة الثانية اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم ؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها. ومذهب الأشاعرة والمعتزلة المنع من ذلك وهو المختار ويدل على ذلك أمور أربعة. الأول: أن النبي عليه السلام لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً قال له:" بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله.قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي" ولم يذكر شيئاً من كتب الأنبياء الأولين وسننهم والنبي عليه السلام أقره على ذلك ودعا له وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله" ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها. الثاني: أنه لو كان النبي عليه السلام متعبداً بشريعة من قبله وكذلك أمته لكان تعلمها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا خلو للشرائع الماضية عنها ولوجب أيضاً على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم كمسألة الجد والعول وبيع أم الولد والمفوضة وحد الشرب وغير ذلك على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في ذلك وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم. الثالث: أنه لو كان متعبداً باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض لما نسب شيء من شرعنا إليه على التقدير الأول ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته وهو خلاف الإجماع من المسلمين. الرابع: أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبداً بها لكان مقرراً لها ومخبراً عنها لا ناسخاً لها ولا مشرعاً وهو محال. فإن قيل على الحجة الأولى: إنما لم يتعرض معاذ لذكر التوراة والإنجيل إكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل على اتباعهما على ما يأتي ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل لكونهما من الكتب المنزلة. وأما الحجة الثانية: لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها. ولهذا نقل عنه مراجعة التوارة في مسألة الرجم وما لم يراجع فيه شرع من تقدم إما لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له أو لأنه ما كان متعبداً باتباع الشريعة السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح اليه به. وأما عدم بحث الصحابة عنها فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه وما كان منها منقولاً على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به. وأما الحجة الثالثة: فإنما ينسب إليه ما كان متعبداً به من الشرائع بأنه من شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته وإن لم يكن هو الشارع له. وأما الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفاً لشرع من تقدم فهو ناسخ له وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم فلا. ولهذا فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعاً قبله كوجوب الإيمان وتحريم الكفران والزنى والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع من تقدم.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة. أما من جهة الكتاب فآيات. الأولى: قوله تعالى في حق الأنبياء:" أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام90 أمره باقتدائه بهداهم وشرعهم من هداهم فوجب عليه اتباعه. الثانية: قوله تعالى:" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 وقوله تعالى:" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً" الشورى13 فدل على وجوب اتباعه لشريعة نوح. الثالثة: قوله تعالى:" ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم" النحل 123 أمره باتباع ملة إبراهيم والأمر للوجوب. الرابعة: قوله تعالى:" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون" المائدة 44 والنبي عليه السلام من جملة النبيين فوجب عليه الحكم بها. وأما السنة فما روي عن النبي ﷺ أنه رجع إلى التوراة في رجم اليهودي وأيضاً ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت فقال: "كتاب الله يقضي بالقصاص" وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة وهو قوله تعالى فيها: "السن بالسن " المائدة 45 وأيضاً ما روي عنه أنه قال:" من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها" وتلا قوله تعالى:" أقم الصلاة لذكري طه 14 وهو خطاب مع موسى عليه السلام. والجواب قولهم: إنما لم يذكر معاذ التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه. وإن سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافياً عن ذكرهما كما لو لم يكن ما في القرآن من ذكر السنة والقياس على ما بيناه كافيا عن ذكرهما أو أن لا يكون إلى ذكر السنة والقياس في خبر معاذ حاجة وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل. قولهم: إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ليس كذلك لأن المتبادر من إطلاق لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل: قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله ليس غير القرآن. وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة. قولهم لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضاً على الكفاية قلنا لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر على كافة المجتهدين في ذلك وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة وإنكاره اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما سوى ذلك. وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح لأن ما نقل من ذلك متواتراً إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصاً عنه ولم ينقل عن أحد من الصحابة شيء من ذلك كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من أحبار اليهود وهو ثقة مأمون كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ولم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك. وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع. وما ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران أحدهما رفع أحكامها والثاني أنه غير متعبد بها. فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به. ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر. والجواب عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم والناسخ والمنسوخ منه لاستحالة اتباعه وامتثاله والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد والأدلة العقلية الهادية إليه وليس ذلك من شرعهم في شيء. ولهذا قال:" فبهداهم اقتده" الأنعام 90 ولم يقل بهم وبتقدير أن يكون المراد من الهدي المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم.
وعن قوله تعالى:" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح" النساء 163 أنه لا دلالة له على أنه موحى إليه بعين ما أوحي به إلى نوح والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه لشريعتهم بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا لاستبعاد ذلك وإنكاره. وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما أوحى به إلى غيره من النبيين فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره. وعن قوله تعالى:" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً" الشورى 13 أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته. ولهذا لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة نوح وذلك مع التعبد بها في حقه ممتنع وحيث خصص نوحاً بالذكر مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية بالتوحيد كان تشريفاً له وتكريما كما خصص روح عيسى بالإضافة إليه والمؤمنين بلفظ العباد وعن قوله تعالى :" ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى بالعبادة دون الفروع الشرعية ويدل على ذلك أربعة أوجه الأول أن لفظ الملة لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال ملة الشافعي وملة أبي حنيفة لمذهبيهما في الفروع الشرعية. الثاني: أنه قال عقيب ذلك وما كان من المشركين ذكر ذلك في مقابلة الدين ومقابل الشرك إنما هو التوحيد. الثالث: أنه قال: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة 130 ولو كان المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها وهو محال. الرابع: أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأموراً بها وذلك مع اندراسها ممتنع ثم وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها بما أوحى ولهذا قال: ثم أوحينا إليك. وعن قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة " المائدة 44 الاية أن قوله :" يحكم بها النبيون صيغة إخبار لا صيغة أمر وذلك لا يدل على وجوب اتباعها وبتقدير أن يكون ذلك أمراً فيجب حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء وهو التوحيد دون الفروع الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف التنزيل على الفروع الشرعية كيف وإن هذه الآيات متعارضةً والعمل بجميعها ممتنع وليس العمل بالبعض أولى من البعض. وعن الخبر الأول: وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق. وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ودليله قوله تعالى:" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " البقرة 194 وهو عام في السن وغيره. وعن الخبر الثالث: أنه لم يذكر الخطاب مع موسى لكونه موجباً لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان وإنما أوجب ذلك بما أوحى إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك كما أمر موسى عليه السلام. ثم ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود "وكل نبي بعث إلى قومه والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء المتقدمين فلا يكون متعبداً بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه رأى مع عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال ألم آت بها بيضاء نقية لو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي أخبر بأن موسى لو كان حياً لما وسعه إلا اتباعه فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعاً لموسى بعد موته أولى وربما عورض أيضاً بقوله تعالى :" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " المائدة 48 والشرعة الشريعة والمنهاج الطريق وذلك يدل على عدم اتباع الأخير لمن تقدم من الأنبياء لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع لها ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء. وباعتبار ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفةً وذلك كما يقال لكل إمام مذهب باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها. وربما أورد النفاة في ذلك طرقاً أخرى شتى ضعيفةً آثرنا الإعراض عن ذكرها.
وكما أن النبي عليه السلام لم يكن متعبداً بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن قبل بعثته على ما كان قومه عليه بل كان متجنباً لأصنامهم معرضاً عن أزلامهم ولا يأكل من ذبائحهم على النصب هذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأئمة المسلمين. ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد. النوع الثاني: مذهب الصحابي وفيه مسألتان : المسألة الأولى اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجةً على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً. واختلفوا في كونه حجةً على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين: فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحجة وذهب مالك بن انس والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد بن حنبل في رواية له إلى أنه حجة مقدمة على القياس وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما. والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً. وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك. الحجة الأولى قوله تعالى :" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " النساء 59 أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول فالرد إلى مذهب الصحابي يكون تركاً للواجب وهو ممتنع. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله تعالى: " فردوه إلى الله والرسول " يدل على الوجوب على ما سبق تقريره فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركاً للواجب. وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبيناً في الكتاب أو السنة: وأما بتقدير أن لا يكون مبيناً فيهما فلا ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة. الحجة الثانية قالوا: أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ولو كان مذهب الصحابي حجةً لما كان كذلك وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال. ولقائل أن يقول: الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجةً على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم لا مجتهدة الصحابة فلم يكن الإجماع دليلاً على محل النزاع. الحجة الثالثة: أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين. ولقائل أن يقول: لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام:" خير القرون القرن الذي أنا فيه وقال عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم. الحجة الرابعة: أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر كما في مسائل الجد مع الأخوة وقوله: أنت علي حرام كما سبق تعريفه فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفةً متناقضةً ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض. ولقائل أن يقول: اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججاً في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ويكون العمل بالواحد منها متوققاً على الترجيح ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير كما عرف فيما تقدم. الحجة الخامسة: أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ فلا يقدم على القياس كالتابعي. ولقائل أن يقول: اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي لما بيناه من الفرق بينهما. الحجة السادسة: أن التابعي المجتهد متمكن من تحصيل الحكم بطريقه فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول. ولقائل أن يقول: اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليداً له إن لو لم يكن قوله حجةً متبعةً وهو محل النزاع وخرج عليه الأصول فإن القطع واليقين معتبر فيها ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة فكان اتباعه في مذهبه تقليداً من غير دليل وذلك لا يجوز والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " أوجب الاعتبار وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجةً وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس. فإن قيل: لا نسلم دلالة على وجوب اتباع القياس وقد سبق تقريره من وجوه سلمنا دلالته على ذلك لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى :" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف " آل عمران 110 وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف والأمر بالمعروف واجب القبول. وأما السنة فقوله عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "وقوله عليه السلام:" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "ولا يمكن حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم. وأما الإجماع فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولي علياً رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً. وأما المعقول فمن وجوه. الأول: أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال مستند أو يكون: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلاً في الشريعة بحكم لا دليل عليه وهو محرم وحال الصحابي العدل ينافي ذلك وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل فكان حجةً متبعة. الثاني: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجةً فكان حجةً مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام. الثالث: أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد فإن كان الأول كان حجةً وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي فوجب اتباعه له. والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه. وعن القوادح ما سبق. وعن المعارضة بالكتاب أنه لا دلالة فيه لما سبق في إثبات الإجماع وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجةً أن يكون قول الواحد والاثنين حجةً. وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضاً لما سبق في الإجماع ولأن الخبر الأول وإن كان عاماً في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه. وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي ﷺ وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني. وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجةً على غيره من الصحابي المجتهدين كيف وإنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجباً وإما على عثمان وعبد الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرماً وذلك ممتنع. عن المعارضة الأولى: من المعقول أنها منتقضة بمذهب التابعي فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق. وعن الثانية: أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون ذلك إجماعاً أم لا يكون إجماعاً فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقاً كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجةً ولا يكون حجةً بتقدير عدم انتشاره إجماعاً. وعن الثالثة: لا نسلم أن مستنده النقل لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه لأنه من العلوم النافعة وقد قال عليه السلام:" من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار "وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجةً على غيره من المجتهدين بعده لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد وإن كان متميزاً بما ذكروه من الصحبة ولوازمها. ولهذا قال عليه السلام:" فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "ثم هو منتقض بمذهب التابعي فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه. المسألة الثانية إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟ أما العامي فيجوز له ذلك من غير خلاف وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم فيجوز له تقليده إن جوزنا تقليد العالم للعالم وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد العالم من التابعين للعالم من الصحابة فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في القديم غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارةً والمختار امتناع ذلك مطلقاً لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى. النوع الثالث: الاستحسان وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال من استحسن فقد شرع. ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول. الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازاً وامتناعاً لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة. أما الكتاب فقوله تعالى:" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى:" وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الأعراف 145 وأما السنة فقوله عليه السلام:" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل ولا تقدير مدة السكون فيها وتقدير أجرته واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه. وقد نقل عن الشافعي أنه قال: أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهماً وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة وقال في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا تقطع. فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك هو محز الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك. وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه بحده: فمنهم من قال إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه. والوجه في الكلام عليه أنه إن تردد فيه بين أن يكون دليلاً محققاً ووهماً فاسداً فلا خلاف في امتناع التمسك به وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به أيضاً وإن كان ذلك في غاية البعد وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ولا حاصل للنزاع اللفظي. ومنهم من قال إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب أو السنة أو العادة. أما الكتاب فكما في قول القائل: مالي صدقة فإن القياس لزوم التصدق بكل مال له وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في قوله تعالى :" خذ من أموالهم صدقة " التوبة 103 ولم يرد به سوى مال الزكاة. وأما السنة فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسياً الله أطعمك وسقاك. وأما العادة فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام وتقدير السكنى فيها ومقدار الأجرة كما ذكرناه فيما تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك. ومنهم من قال إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه.
وقال الكرخي: الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل المخصص والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس باستحسان عندهم. وقال أبو الحسين البصري: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارىء على الأول وقصد بقوله: غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظاً شاملاً وبقوله: وهو في حكم الطارىء الاحتراز عن قولهم: تركنا الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحساناً من حيث إن القياس الذي ترك له الاستحسان ليس في حكم الطارىء بل هو الأصل وذلك كما لو قرأ أية سجدة في آخر سورة فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزىء بالركوع ومقتضى القياس أن يجتزىء بالركوع فإنهم قالوا بالعدول هاهنا عن الاستحسان إلى القياس. وهذا الحد وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعاً مانعاً غير أن حاصله يرجع إلى تفسير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارىء عليه أقوى منه من نص أو إجماع أو غيره ولا نزاع في صحة الاحتجاج به. وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل له وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة وهو أن يقال: إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأمة من أهل الحل والعقد فهو حق وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع. وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به. وإذا تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجةً مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه والإشارة إلى جهة ضعفها. وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى:" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18 وقوله تعالى:" واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر 55. ووجه الاحتجاج بالآية الأولى ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ولولا أنه حجة لما كان كذلك. وأما السنة فقوله عليه السلام:" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسناً. وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة. والجواب عن الآية الأولى أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول وهو محل النزاع. وعن الآية الثانية: أنه لا دلالة أيضاً فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل فضلاً عن كونه أحسن ما أنزل. وعن الخبر كذلك أيضاً فإن قوله:" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "إشارة إلى إجماع المسلمين والإجماع حجة ولا يكون الا عن دليل وليس فيه دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسناً أنه حسن عند الله وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين حسناً أن يكون حسناً عند الله وهو ممتنع. وعن الإجماع على استحسان ما ذكروه لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على صحته بل الدليل ما دل على استحسانهم له وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك. النوع الرابع: المصالح المرسلة وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق غير القسم الثالث وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل وهذا أوان النظر فيه.
وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ولعل النقل إن صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعاً لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه قطعي وذلك كما لو تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ولو رمينا الترس وقتلناهم اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعاً غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا جريمة له. فهذا القتل وإن كان مناسباً في هذه الصورة والمصلحة ضرورية كلية قطعية غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة. وإذا عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى. فإن قيل: ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل وهو غير متصور وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في بعض الأحكام وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر وكان من قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم وقد قلتم به قلنا وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبراً ملغى بالنظر إلى حكم واحد وهو محال. وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبراً بالجنس القريب منه لنأمن إلغاءه والكلام فيما إذا لم يكن كذلك. القاعدة الثالثة في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين وتشتمل على بابين: الباب الأول في المجتهدين ويشتمل على مقدمة ومسائل. أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه. أما الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال اجتهد في حمل خردلة. وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه. فقولنا: استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات وغيرها. وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح الأصوليين اجتهاداً معتبراً. وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان. الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققاً. ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها. وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأن يكون عارفاً بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية عالما باللغة والنحو ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمين والالتزام والمفرد والمركب والكلي منها والجزئي والحقيقة والمجاز والتواطىء والاشتراك والترادف والتباين والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله. وذلك كله أيضاً إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه. وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثرة بالغاً رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها. فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألةً فقال في ست وثلاثين منها لا أدري. وأما ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فقولنا: من الأحكام الشرعية تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها. وقولنا: دليله ظني تمييز له عما كان دليله منها قطعياً كالعبادات الخمس ونحوها فإنها ليست محلاً للاجتهاد فيها لأن المخطىء فيها يعد آثماً والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطىء فيها باجتهاده آثماً. هذا ما أردناه من بيان المقدمة وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة. المسألة الاولى اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف إنه كان متعبداً به وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إنه لم يكن متعبداً به. وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون الأحكام الشرعية. والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً. أما الجواز العقلي فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له: حكمي عليك أن تجتهد وتقيس لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك. وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى:" فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار على العموم لأهل البصائر والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك فكان داخلاً في العموم وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات القياس على منكريه. وأيضاً قوله تعالى:" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 وما أراه يعم الحكم بالنص والاستنباط من النصوص وأيضاً قوله تعالى:" وشاورهم في الأمر" آل عمران 159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي. وأيضاً قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في أسارى بدر وقد أطلقهم:" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الأنفال 67 فقال عليه السلام: لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر لأنه كان قد أشار بقتلهم وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا بالوحي. وأيضا قوله تعالى:" عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصاً بالنبي عليه السلام بل كان غيره أيضاً من الأنبياء متعبداً بذلك. ويدل عليه قوله تعالى:" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " الأنبياء 78 الآية وقوله:" ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.
وأما السنة فما روى الشعبي أنه كان رسول الله ﷺ يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به فيترك ما قضى به على حاله ويستقبل ما نزل به القرآن والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد. وأيضاً ما روي عنه أنه قال في مكة لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس: إلا الأذخر فقال عليه السلام: إلا الأذخر ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد. وأيضاً ما روى عنه عليه السلام أنه قال:" العلماء ورثة الأنبياء "وذلك يدل على أنه كان متعبداً بالاجتهاد والا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه وهو خلاف الخبر. وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص لظهوره وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب لقوله عليه السلام لعائشة:" ثوابك على قدر نصبك "وقوله عليه السلام:" أفضل العبادات أحمدها "أي أشقها فلو لم يكن النبي عليه السلام عاملاً بالاجتهاد مع عمل أمته به لزم اختصاصهم بفضيلة لم توجد له وهو ممتنع فإن آحاد أمة النبي ﷺ لا يكون أفضل من النبي في شيء أصلاً. الثاني: أن القياس هو النظر في ملاحظة المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه وإلحاق نظير المنصوص به بواسطة المعنى المستبنط والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره وبعده عن الخطإ والإقرار عليه. وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات الحكم في الفرع ضرورة فلو لم يقض به لكان تاركاً لما ظنه حكماً لله تعالى على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع. فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان الجواز العقلي فالاعتراض عليه يأتي فيما نذكره من المعقول. وأما الآية الأولى: فقد سبق الاعتراض عليها فيما تقدم. وأما قوله تعالى:" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 أي بما أنزل إليك. وأما الآية الثالثة فالمراد منها المشاورة في أمور الحروب والدنيا وكذلك العتاب في قوله تعالى:" عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 وأما عتابه في أسارى بدر فلعله كان مخيراً بالوحي بين قتل الكل أو إطلاق الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بإطلاق البعض دون البعض فنزل العتاب للذين عينوا لا لرسول الله ﷺ غير أنه ورد بصيغة الجمع في قوله تريدون عرض الدنيا والمراد به أولئك خاصة. وأما الخبر الأول: فهو مرسل ولا حجة في المراسيل كما سبق وإن كان حجة غير أنه يحتمل أنه كان يقضي بالوحي والوحي الثاني يكون ناسخاً للأول. أما الخبر الثاني: فيحتمل أن النبي ﷺ كان مريدا لاستثناء الإذخر فسبقه به العباس. وأما الخبر الثالث: فيدل على أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء ولا نسلم أن الاجتهاد كان للأنبياء حتى يكون موروثاً عنهم كيف ويحتمل أنه أراد به الإرث في تبليغ أحكام الشرع إلى العامة كما كان الأنبياء مبلغين للمبعوث إليهم ويحتمل أنه أراد به الإرث فيما كان للأنبياء في حفظ قواعد الشريعة. وأما الوجه الأول: من المعقول فالثواب فيما عظمت مشقته وإن كان أكثر ولكن لا يلزم منه ثبوته للنبي عليه السلام وإلا لما ساغ له الحكم إلا بالاجتهاد تحصيلاً لزيادة الثواب وهو ممتنع واختصاص علماء الأمة بذلك دون النبي عليه السلام لا يوجب كونهم أفضل من النبي ﷺ مع اختصاصه بمنصب الرسالة ورتبة النبؤة وتشريفه بالبعثة وهداية الخلق بعد الضلالة على جهة العموم. وأما الوجه الثاني: وإن كان النبي عليه السلام أشد علماً من غيره بمعرفة القياس وجهات الاستنباط إلا أن وجوب العمل به في حقه مشروط بعدم معرفة الحكم بالوحي وهذا الشرط مما لم يتبين في حقه عليه السلام فلا مشروط وهذا بخلاف علماء أمته فافترقا. وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعبده بالقياس والاجتهاد غير أنه معارض بما يدل على عدمه. وبيانه من جهة الكتاب والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وقوله تعالى:" ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وذلك ينفي أن يكون الحكم الصادر عنه بالاجتهاد. وأما المعقول فمن عشرة أوجه: الأول: أن النبي عليه السلام نزل منزلاً فقيل له: إن كان ذلك عن وحي فالسمع والطاعة وإن كان ذلك عن رأي فليس ذلك منزل مكيدة فقال: بل هو بالرأي فدل على أنه تجوز مراجعته في الرأي وقد علم أنه لا تجوز مراجعته في الأحكام الشرعية فلا تكون عن رأي. الثاني: أنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل أصلاً لغيره وأن يخالف فيه وأن لا يكفر مخالفه لأن جميع ذلك من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد. الثالث: لو كان متعبداً بالاجتهاد لأظهره ولما توقف على الوحي فيما كان يتوفق فيه في بعض الوقائع لما فيه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد واللازم ممتنع. الرابع: أن الاجتهاد لا يفيد سوى الظن والنبي عليه السلام كان قادرا على تلقي الأحكام من الوحي القاطع والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له الاجتهاد فيها. الخامس: أن الأمور الشرعية مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها فلو قيل للنبي عليه السلام احكم بما ترى كان ذلك تفويضاً إلى من لا علم له بالأصلح وذلك مما يوجب اختلال المصالح الدينية والأحكام الشرعية. السادس: أن لنا صواباً في الرأي وصدقاً في الخبر وقد أجمعنا على أن النبي عليه السلام ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقاً فكذلك لا يجوز له الحكم بما لا علم له بصوابه. السابع: أنه لو جاز أن يكون متعبداً بالاجتهاد لجاز أن يرسل الله رسولاً ويجعل له أن يشرع شريعة برأيه وأن ينسخ ما تقدمه من الشرائع المنزلة من الله تعالى وأن ينسخ أحكاما أنزلها الله تعالى عليه برأيه وذلك ممتنع. الثامن: أنه لو جاز صدور الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده فربما أورث ذلك تهمة في حقه وأنه هو الواضع للشريعة من تلقاء نفسه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو ممتنع. التاسع: أن الاجتهاد عرضة للخطإ فوجب صيانة النبي عليه السلام عنه. العاشر: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص وهذا الشرط غير متحقق في حق النبي عليه السلام لأن الوحي متوقع في حقه في كل حالة. والجواب عما ذكروه على الآية الأولى قد سبق فيما تقدم أيضاً. وعما ذكروه على الآية الثانية من وجهين: الأول: أن الحكم بما استنبط من المنزل يكون حكماً بالمنزل لأنه حكم بمعناه ولهذا قال في آخر الآية:" فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 الثاني: أن حكمه بالاجتهاد حكم بما أراه الله فتقييده بالمنزل خلاف الإطلاق وعما ذكروه على الآية الثالثة: أنه إنما أمر بالمشاورة في أمر الفداء وهو من أحكام الدين لتعلقه بأعظم مصالح العبادات وبتقدير أن يكون كما ذكروه فهو حجة على من خالف فيه وبه دفع ما ذكروا على الآية الرابعة. وعما ذكروه على العتاب في أسارى بدر فهو على خلاف عموم الخطاب الوارد في الآية وتخصيص من غير دليل فلا يصح. وعما ذكروه على الخبر الأول من السنة بما بيناه فيما سبق من أن المرسل حجة. وقولهم: يحتمل أنه كان يحكم بالوحي والوحي الثاني ناسخ له قلنا: النسخ خلاف الأصل لما فيه من تعطليل الدليل المنسوخ وذلك وإن كان نسخاً لما حكم به النبي عليه السلام غير أن تعطيل دليل الاجتهاد بنسخ حكمه أولى من تعطيل القرآن. وعما ذكروه على الخبر الثاني أنه لو كان الإذخر مستثنىً فيما نزل إليه لكان تأخيره إلى ما بعد قول العباس تأخيراً للاستثناء عن المستثنى منه مع دعو الحاجة إلى اتصاله به حذراً من التلبيس خلاف الأصل. وعما ذكروه على الخبر الثالث أن الظاهر من قوله:"العلماء ورثة الأنبياء "فيما اختصوا به من العلم مطلقاً فلو لم تكن علومهم الاجتهادية موروثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييداً للمطلق وتخصيصاً للعام من غير ضرورة وهو ممتنع وبه يبطل ما ذكروه من التأويلات. وعما ذكروه على الوجه الأول من المعقول إنما يصح أن لو كان ذلك ممكناً في جميع الأحكام وليس كذلك فان الاجتهاد بالقياس يستدعي أصلاً ثابتاً لا بالاجتهاد قطعاً للتسلسل. قولهم: إنه قد اختص بمنصب الرسالة فلا يكون أحد أفضل منه قلنا: وإن كان كذلك غير أن زيادة الثواب بزيادة المشقة نوع فضيلة فيبعد اختصاص أحد من أمته بفضيلة لا تكون موجودة في حق النبي عليه السلام وإلا كان أفضل منه من تلك الجهة وهو بعيد.
وعما ذكروه على الثاني من المعقول أنه باطل باجتهاد أهل عصره فإنه كان واقعاً بدليل تقريره لمعاذ على قوله: أجتهد رأيي ولم يكن احتمال معرفة الحكم بورود الوحي إلى النبي عليه السلام مانعا من الاجتهاد في حقه وإنما المانع وجود النص لاحتمال وجوده. وعن المعارضة بالآية الأولى أنها إنما تتناول ما ينطق به واجتهاده من فعله لا من نطقه والخلاف إنما هو في الاجتهاد لا في النطق. فإن قيل فإذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عما ظنه من الحكم فتكون الآية متناولةً له ومن المعلوم أن ما ينطق به إذا كان مستنده الاجتهاد فليس عن وحي وإن لم يكن عن هوى. قلنا: إذا كان متعبداً بالاجتهاد من قبل الشارع وقيل له مهما ظننت باجتهادك حكما فهو حكم الشرع فنطقه بذلك يكون عن وحي لا عن هوىً. وعن الآية الثانية: أنها إنما تدل على أن تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه وإنما هو بالوحي والنزاع إنما وقع في الاجتهاد والاجتهاد وإن وقع في دلالة القرآن فذلك تأويل لا تبديل. وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول أن المراجعة إنما كانت في أمر دنيوي متعلق بالحروب وليس ذلك من المراجعة في أحكام الشرع في شيء. وعن الثانية: لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد بدليل إجماع الأمة على الاجتهاد واجتهاد النبي عليه السلام لا يتقاصر عن اجتهاد الأمة الذين ثبتت عصمتهم بقول الرسول إن لم يكن مترجحاً عليه. وعن الثالثة: أنه لا مانع أن يكون متعبداً بالاجتهاد وإن لم يظهره صريحاً لمعرفة ذلك لما ذكرناه من الأدلة.وأما تأخره عن جواب بعض ما كان يسأل عنه فلاحتمال انتظار النص الذي لا يجوز معه الاجتهاد إلى حين اليأس منه أو لأنه كان في مهلة النظر في الاجتهاد فيما سئل عنه فأن زمان الاجتهاد في الأحكام الشرعية غير مقدر. وعن الرابعة: النقض بما وقع الإجماع عليه من تعبد النبي عليه السلام بالحكم بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض مع إمكان انتظاره في ذلك لنزول الوحي الذي لا ريب فيه. وعن الخامسة: أنها مبنية على وجوب اعتبار المصالح وهو غير مسلم على ما عرفناه في علم الكلام وإن سلمنا ذلك فلا مانع من إلهام الله تعالى له بالصواب فيما يجتهد فيه من الحوادث كيف وإن ما ذكروه منتقض بتعبد غيره بالاجتهاد. وعن السادسة من ثلاثة أوجه: الأول: أنها تمثيل من غير جامع صحيح فلا تكون حجةً. الثاني: الفرق وهو أن الإخبار بما لا يعلم كونه صادقاً قد لا نأمن فيه الكذب وهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك مما لا يجوز لأحد الإقدام عليه. وأما الاجتهاد فعلى قولنا بأن كل مجتهد مصيب فالنبي أولى أن يكون مصيباً في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد مبني على أن الحكم عند الله تعالى واحد في كل واقعة في نفس الأمر وليس كذلك بل الحكم عند الله في كل واقعة ما أدى إليه نظر المجتهد على ما يأتي تقريره. الثالث: أن ما ذكروه منتقض بإجماع الأمة إذا كان عن اجتهاد. وعن السابعة: أنها أيضاً تمثيل من غير جامع صحيح كيف وإنا لا نمنع من إرسال رسول بما وصفوه لا عقلاً ولا شرعاً فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ولا سيما إذا قلنا بأن المصالح غير معتبرة في أفعاله تعالى وإن قلنا إنها معتبرة فلا يبعد أن يعلم الله تعالى المصلحة للمكلفين في إرسال رسول بهذه المثابة ويعصمه عن الخطإ في اجتهاده كما في إجماع الأمة. وعن الثامنة: أن التهمة منفية عنه في وضع الشريعة برأيه بما دل على صدقه فيما يدعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة من المعجزة القاطعة. وعن التاسعة: أنا لا نسلم أن كل اجتهاد في الأحكام الشرعية عرضة للخطإ بدليل إجماع الصحابة على الاجتهاد. واجتهاد النبي عليه السلام غير متقاصر عن اجتهاد أهل الإجماع فكان معصوما فيه عن الخطإ. وعن العاشرة: أن المانع من الاجتهاد دائماً هو وجود النص لا إمكان وجود النص ثم ما ذكروه منتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي عليه السلام. المسألة الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام واختلفوا في جواز الاجتهاد لمن عاصره فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلاً ومنع منه الأقلون. ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور : الأول: منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ومنهم من جوزه مطلقاً. الثاني: أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقاً إذا لم يوجد من ذلك منع ومنهم من قال لا يكتفي في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ومنهم من قال السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف. الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به سمعاً: فمنهم من قال إنه كان متعبدا به ومنهم من توقف في ذلك مطلقاً كالجبائي ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار. والمختار جواز ذلك مطلقاً وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظناً لا قطعاً. أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة. وأما بيان الوقوع: أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي قتادة حيث قتل رجلاً من المشركين فأخذ سلبه غيره لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.فقال النبي عليه السلام:" صدق وصدق في فتواه" ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد. وأيضاً ما روي عن النبي عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي فقال عليه السلام:" لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ". وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني أن يحكما بين خصمين وقال لهما:" إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة " وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن. فإن قيل: الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام. والقادر على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحاً والقبيح لا يكون جائزاً. وأيضاً فإن الحكم بالرأي في حضرة النبي عليه السلام من باب التعاطي والافتيات على النبي عليه السلام وهو قبيح فلا يكون جائزاً وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه السلام.وأيضاً فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه السلام ولو كان الاجتهاد جائزاً لهم لم يرجعوا إليه. وأما ما ذكرتموه من أدلة الوقوع فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية وبتقدير أن تكون حجةً فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة. والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام. وعن الثاني أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه. وعن قولهم: إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد وإن ظهر غير أن القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقاً يتوصل به إلى الحكم فالرجوع إلى النبي عليه السلام أيضاً طريق آخر. وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد فهو كذلك غير أن المدعي إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع. قولهم يحتمل أن يكون ذلك خاصاً بمن وردت تلك الأخبار في حقه قلنا :المقصود من الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره. المسألة الثالثة مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر. وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور بخلاف المعاند. وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك.
وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح. ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً. وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى:" ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار: ص 27 وقوله:" وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فصلت23 وقوله تعالى:" ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون" المجادلة 18 ووجه الاحتجاج بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك. وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله العادة.ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه. وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ. فإن قيل: أما الآية الأولى فغاية ما فيها ذم الكفار وذلك غير متحقق في محل النزاع لأن الكفر في اللغة مأخوذ من الستر والتغطية ومنه يقال: لليل كافر لأنه ساتر للحوادث وللحارث كافر لسترة الحب وذلك غير متصور إلا في حق المعاند العارف بالدليل مع إنكاره لمقتضاه كيف وإنه يجب حمل هذه الآية والآيتين بعدها على المعاند دون غيره جمعاً بينه وبين ما سنذكره من الدليل. وأما ما ذكرتموه من قتل النبي عليه السلام الكفار فلا نسلم أنه كان على ما اعتقدوه عن اجتهادهم بل على إصرارهم على ذلك وإهمالهم لترك البحث عما دعوا إليه والكشف عنه مع إمكانه. وأما الإجماع فلا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف كيف وإنه يمكن حمل فعل أهل الإجماع على ما حمل عليه فعل النبي عليه السلام. ودليل هذه التأويلات أن تكليفهم باعتقاد نقيض معتقدهم الذي أدى إليه اجتهادهم واستفرغوا الوسع فيه تكليف بما لا يطاق وهو ممتنع للنص والمعقول. أما النص فقوله تعالى:" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" البقرة 286. وأما المعقول فهو أن الله تعالى رؤوف بعباده رحيم لهم فلا يليق به تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه. ولهذا كان الإثم مرتفعاً عن المجتهدين في الأحكام الشرعية مع اختلاف اعتقاداتهم فيها بناء على اجتهاداتهم المؤدية إليها كيف وقد نقل عن بعض المعتزلة أنهم أولوا قول الجاحظ وابن العنبري بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها بين المسلمين ولا تكفير فيها كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن ونحو ذلك لأن الأدلة فيها ظنية متعارضة. الجواب عما ذكروه على الآية أنه خلاف الإجماع في صحة إطلاق اسم الكافر على من اعتقد نقيض الحق وإن كان عن اجتهاد. وقولهم إن الكفر في اللغة مأخوذ من التغطية مسلم ولكن لا نسلم انتفاء التغطية فيما نحن فيه وذلك لأنه باعتقاده لنقيض الحق بناء على اجتهاده مغط للحق وهو غير متوقف على علمه بذلك. وما ذكروه من التأويل ففيه ترك الظاهر من غير دليل وما يذكرونه من الدليل فسيأتي الكلام عليه. وما ذكروه على السنة فبعيد أيضاً وذلك لأنه إن تعذر قتلهم وذمهم على ما كانوا قد اعتقدوه عن اجتهادهم واستفراغ وسعهم فهو لازم أيضاً على تعذر قتلهم وذمهم على عدم تصديقه فيما دعاهم إليه لأن الكلام إنما هو مفروض فيمن أفرغ وسعه وبذل جهده في التوصل إلى معرفة ما دعاه النبي ﷺ إليه وتعذر عليه الوصول إليه. وما ذكروه في امتناع التمسك بالإجماع في محل الخلاف إنما يصح فيما كان من الإجماع بعد الخلاف أو حالة الخلاف وأما الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف وقد بينا سبقه.
وما ذكروه من التأويل فجوابه كما تقدم.قولهم إن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق لا نسلم ذلك فإن الوصول إلى معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه ووجود العقل الهادي وغايته امتناع الوقوع باعتبار أمر خارج وذلك لا يمنع من التكليف به وإنما يمتنع التكليف بما لا يكون ممكناً في نفسه كما سبق تقريره في موضعه. وما ذكروه فقد سبق تخريجه أيضاً في مسألة تكليف ما لا يطاق. وأما رفع الإثم في المجتهدات الفقهية فإنما كان لأن المقصود منها إنما هو الظن بها وقد حصل بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب فيها ليس هو الظن بل العلم ولم يحصل. وما ذكروه من التأويل إن صح أنه المراد من كلام الجاحظ وابن العنبري ففيه رفع الخلاف والعود إلى الحق ولا نزاع فيه. المسألة الرابعة اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم ونفاة القياس كالظاهرية. والإمامية إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق. وحجة أهل الحق في ذلك ما نقل نقلاً متواتراً لا يدخله ريبة ولا شك وعلم علماً ضروريا من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل الفقهية كما بيناه فيما تقدم مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم ولم يصدر من أحد منهم نكير ولا تأثيم لأحد لا على سبيل الإبهام ولا التعيين مع علمنا بأنه لو خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنى والقتل لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه. فلو كانت المسائل الاجتهادية نازلة منزلة هذه المسائل في كونها قطعية ومأثوماً على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم حسب مبالغتهم في الإنكار على من خالف في وجوب العبادات الخمس وفي تأثيمه لاستحالة تواطئهم على الخطإ ودلالة النصوص النازلة منزلة التواتر على عصمتهم عنه كما سبق تقريره في مسائل الإجماع. فإن قيل: فقد وقع الإنكار من بعضهم على بعض في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية كما ذكرناه في إثبات القياس على منكريه ومع الإنكار فلا إجماع. وإن سلمنا عدم نقل إنكارهم لذلك فيحتمل أنهم أنكروا ولم ينقل إلينا.وبتقدير عدم صدور الإنكار منهم ظاهرا فيحتمل أنهم أضمروا الإنكار والتأثيم تقية وخوفاً من ثوران فتنة وهجوم آفة. قلنا: أما السؤال الأول فقد أجبنا عنه فيما تقدم.وأما الثاني فهو خلاف مقتضى العادة فإنه لو وجد الإنكار لتوفرت الدواعي على نقله واستحال في العادة كتمانه كما نقل عنهم الإنكار على الخوارج ومانعي الزكاة وغير ذلك وبمثل هذا يندفع أيضا ما ذكروه من السؤال الثالث. المسألة الخامسة المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون : فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها :فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه. وقال آخرون: المصيب فيها واحد ومن عداه مخطىء لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيناً لأن الطالب يستدعي مطلوباً وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر بحيث لو نزل نص لكان نصا عليه. لكن منهم من قال بأنه لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يظفر به حالة الاجتهاد بحكم الاتفاق فمن ظفر به فهو مصيب ومن لم يصبه فهو مخطىء. ومنهم من قال عليه دليل لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال إنه قطعي ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال بتأثيم المجتهد بتقدير عدم الظفر به ونقض حكمه كأبي بكر الأصم وابن علية وبشر المريسي ومنهم من قال بعدم التأثيم لخفاء الدليل وغموضه فكان معذوراً ومنهم من قال إنه ظني فمن ظفر به فهو مصيب وله أجران ومن لم يصبه فهو مخطىء وله أجر واحد وهذا هو مذهب ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني. ومنهم من نقل عنه القولان التخطئة والتصويب كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأشعري. وأما إن كان في المسألة نص فإن قصر في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره فيما كلف به من الطلب.
وإن لم يقصر فيه وأفرغ الوسع في طلبه لكن تعذر عليه الوصول إليه إما لبعد المسافة أو لإخفاء الراوي له وعدم تبليغه فلا إثم لعدم تقصيره وهل هو مخطىء أو مصيب؟ ففيه من الخلاف ما سبق. والمختار إنما هو امتناع التصويب لكل مجتهد غير أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى: من جهة الكتاب قوله تعالى:" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان" الأنبياء 78-79. ووجه الاحتجاج به أنه خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة وذلك يدل على عدم فهم داود له وإلا لما كان التخصيص مفيداً وهو دليل اتحاد حكم الله في الواقعة وأن المصيب واحد وأيضا قوله تعالى:" لعلمه الذين يستنبطونه منهم" النساء83 وقوله تعالى:" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" آل عمران 7 ولولا أن في محل الاستنباط حكماً معيناً لما كان كذلك وأيضاً قوله تعالى:" ولا تفرقوا فيه" الشورى 13 "ولا تنازعوا فتفشلوا " الأنفال 46 "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 وذلك أيضاً يدل على اتحاد الحق في كل واقعة. ولقائل أن يقول على الآية الأولى: غاية ما فيها تخصيص سليمان بالفهم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود إلا بطريق المفهوم وليس بحجة على ما تقرر في مسائل المفهوم. وان سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكماً واحداً ثم نسخ الله الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه. والذي يدل على هذا قوله تعالى:" وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد أتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً. وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفاً لكن يحتمل أنهما حكماً بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان بسبب ذلك. وإن سلمنا أن داود كان مخطئاً في تلك الواقعة غير أنه يحتمل أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص. وعلى الآية الثانية والثالثة: أنه يجب حملهما على الأمور القطعية دون الاجتهادية. ودليله قوله تعالى:" لعلمه الذين يستنبطونه منهم" النساء 83 وقوله تعالى:" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 والقضايا الاجتهادية لا علم فيها وإن سلمنا أن المراد بهما القضايا الاجتهادية فقوله تعالى:" لعلمه الذين يستنبطونه منهم" النساء 83 وقوله تعالى:" وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" آل عمران 7 يدل على تصويب المستنبطين والراسخين في العلم وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون البعض بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حق العوام ومن ليس من أهل الاستنباط والرسوخ في العلم. وعلى الآيات الدالة على النهي عن التفرق أن المراد منها إنما هو التفرق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن. ويدل على ذلك أن القائلين بجواز الاجتهاد مجمعون على أن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومنهي عن مخالفته وهو أمر بالاختلاف ونهي عن الاتفاق في المجتهدات. الحجة الثانية: من جهة السنة قوله عليه السلام:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد" وذلك صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطإ وصواب. ولقائل أن يقول: نحن نقول بموجب الخبر وأن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد غير أن الخطأ عندنا في ذلك إنما يتصور فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي وخفي عليه بعد البحث التام عنه وذلك غير متحقق في محل النزاع أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه من رد المال إلى مستحقه بسبب ظنه صدق الشهود وهم كاذبون أو مغالطة الخصم لكونه أخصم من خصمه وألحن بحجته لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى. ولهذا قال عليه السلام" إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بمجته من صاحبه فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".
الحجة الثالثة: من جهة الإجماع أن الصحابة أجمعوا على إطلاق لفظ الخطإ في الاجتهاد فمن ذلك ما روى عن أبي بكر أنه قال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ومن ذلك ما روي عن عمر أنه حكم بحكم فقال رجل حضره هذا والله! الحق.فقال عمر أن عمر لا يدري أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهداً وروي عنه أنه قال لكاتبه: اكتب هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن يكن صواباً فمن الله وأيضاً قوله في جواب المرأة التي ردت عليه النهي عن المبالغة في المهر أصابت امرأة وأخطأ عمر ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك أرى عليك الدية ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ومن ذلك ما روي أن عليا وابن مسعود وزيداً رضي الله عنهم خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول وأنكر عليهم ابن عباس قولهم بالعول بقوله من شاء أن يباهلني باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهباً بالمال فأين موضع الثلث ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا إلى غير ذلك من الوقائع ولم ينكر بعضهم على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعاً على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا واحداً. ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر وقوع الخطإ في الاجتهاد لكن فيما إذا لم يكن المجتهد أهلاً للاجتهاد أو كان أهلا لكنه قصر في اجتهاده أو إن لم يقصر لكنه خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو في مطلوبه دون ما وجب عليه من حكم الله كما سبق تقريره في جواب السنة وأما ما تم فيه الاجتهاد من أهله ولم يوجد له معارض مبطل فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة ما يدل على وقوع الخطإ فيه. الحجة الرابعة: من جهة المعقول من ستة أوجه : الأول: أن الاجتهاد مكلف به بالإجماع فعند اختلاف المجتهدين في حكم الحادثة ومصير كل واحد إلى مناقضة الآخر إما أن يكون اجتهاد كل واحد منهما مستنداً إلى دليل أو لا دليل لواحد منهما أو أن الدليل مستند أحدهما دون الآخر فإن كان الأول فالدليلان المتقابلان إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر أو هما متساويان فإن كان أحدهما راجحاً فالذاهب إليه مصيب ومخالفه مخطىء. وإن كان الثاني فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجازم بالنفي أو الإثبات يكون مخطئاً.وإن كان لا دليل لواحد منهما فهما مخطئان. وإن كان الدليل لأحدهما دون الآخر فأحدهما مصيب والآخر مخطىء لا محالة. الثاني: أن القول بتصويب المجتهدين يفضي عند اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات أو الحل والحرمة في مسألة واحدة إلى الجمع بين النقيضين وهو محال وما أفضى إلى المحال يكون محالاً. الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين ولو كان كل واحد مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه مخالفه حق وأنه مصيب فيه. والمناظرة: إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب أو لرده عنه فإن كان الأول ففيه تحصيل الحاصل. وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً. الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده إما أن يكون له مطلوب أو يكون فإن كان الأول فهو محال إذ المجتهد طالب وطالب لا مطلوب له محال. وإن كان الثاني فمطلوبه متقدم على اجتهاده ونظره وذلك مع عدم تعين المطلوب في نفسه محال. الخامس: أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين لوجب عند الاختلاف في الآنية بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاد المأموم صحة صلاة إمامه. السادس: أن القول بتصويب المجتهدين يلزم منه أمور ممتنعة فيمتنع.
الأول: أنه إذا تزوج شافعي بحنفية وكانا مجتهدين وقال لها أنت بائن فإنه بالنظر إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة تجوز له المراجعة والمرأة بالنظر إلى ما تعتقده من امتناع الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه وذلك مما يفضي إلى منازعة بينهما لا سبيل إلى رفعها شرعاً وهو محال. الثاني: أنه إذا نكح واحد امرأةً بغير ولي ونكحها آخر بعده بولي فيلزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين وهو محال. الثالث: أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم فإما أن يعمل بقوليهما وهو محال أو بقول أحدهما ولا أولوية وإما لا بقول واحد منهما فيكون متحيراً وهو ممتنع ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن المختار إنما هو القسم الأول من أقسامه. قولهم: الدليلان إما أن يتساويا أو يترجح أحدهما على الآخر قلنا في نفس الأمر أو في نظر الناظر الأول ممنوع وذلك لأن الأدلة في مسائل الظنون ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر متساوية في جهة دلالتها أو متفاوتة وإن كان في نظر الناظر فلا نسلم صحة هذه القسمة بل كل واحد منهما راجح في نظر الناظر الذي صار إليه وذلك لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية كما أن ما وافق غرض زيد فهو حسن بالنسبة إليه وإن كان قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه وعلى هذا فلا تخطئة على ما ذكروه. وإن سلمنا أن الدليلين في نفسيهما لا يخرجان عن المساواة أو الترجيح لأحدهما على الآخر غير أن النزاع إنما هو في الخطإ بمعنى عدم الإصابة لحكم الله في الواقعة لا بمعنى عدم الظفر بالدليل الراجح ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل الراجح عدم الظفر بحكم الله في الواقعة لأن حكم الله تعالى عندنا عبارة عما أدى إليه نظر المجتهد وظنه لا ما أدى إليه الدليل الراجح في نفس الأمر. وعلى الوجه الثاني أن التناقض إنما يلزم أن لو اجتمع النفي والإثبات والحل والحرمة في حق شخص واحد من جهة واحدة أما بالنظر إلى شخصين فلا. ولهذا فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره وإفطار رمضان مباح للمريض والمسافر ومن له عذر دون غيره. وفيما نحن فيه كذلك فأن من وجب عليه الحكم بالحل الذي أداه نظره إليه غير من وجب عليه الحكم بالتحريم الذي أداه نظره إليه. ثم لو كان ذلك ممتنعاً لما وجب على كل واحد من المجتهدين في القبلة إذا أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر التوجه إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها جهة القبلة كتحريم التوجه إليها بالنسبة إلى الآخر ولما حرم على كل واحد ما وجب على الآخر وهو ممتنع. وعلى الثالث: أن فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب. فالأولى: كالمناظرة لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد أو لطلب تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو الإثبات أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطاً بعدم الترجيح. والثانية: كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد والقوة على استثمار الأحكام من الأدلة واستنباطها منها وشحذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام ومآخذها لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ قواعد الشريعة. وعلى الرابع: أن مطلوب المجتهد ما يؤدي إليه نظره واجتهاده لا غير وذلك غير معين لا عنده ولا عند الله تعالى. وعلى الخامس: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كان القضاء بصحة صلاة المأموم مطلقاً وليس كذلك وإنما هي صحيحة بالنسبة إليه غير صحيحة بالنسبة إلى مخالفه. وشرط صحة اقتداء المأموم بالإمام اعتقاد صحة صلاة إمامه بالنسبة إليه. وعلى السادس: أما الإلزام الأول فلا نسلم إفضاء ذلك إلى منازعة لا ترتفع لأنه يمكن رفعها فيما فرضوه من الصورة برفع الأمر إلى حاكم من حكام المسلمين أو محكم منهم فما حكم به وجب اتباعه كيف وإن ما ذكروه لم يكن لازما من القول بتصويب المجتهدين بل إنما كان لازماً من القول بأنه يجب على كل مجتهد اتباع ما أوجبه ظنه وسواء كان مخطئاً أو مصيباً لأن المصيب غير معين وذلك متفق عليه فما هو جواب لهم ها هنا فهو جواب الخصم في قوله بالتصويب.
وإما الإلزام الثاني فنقول أي النكاحين وجد من معتقد صحته أولاً فهو صحيح والنكاح الثاني باطل لكونه نكاحاً لزوجة الغير وإن صدر الأول ممن لا يعتقد صحته كالنكاح بلا ولي من الشافعي فهو باطل والثاني صحيح. وأما الإلزام الثالث فنقول: حكم العامي عند تعارض الفتاوى في حقه حكم تعارض الدليلين في حق المجتهد من غير ترجيح. وحكم المجتهد في ذلك إما التوقف أو التخيير على ما يأتي والأقرب في ذلك أن يقال الأصل عدم التصويب والأصل في كل متحقق دوامه إلا ما دل الدليل على مخالفته. والأصل عدم الدليل المخالف فيما نحن فيه فيبقى فيه على حكم الأصل. غير أنا خالفناه في تصويب واحد غير معين للإجماع ولا إجماع فيما نحن فيه فوجب القضاء بنفيه. فإن قيل: وإن كان الأصل عدم الدليل المخالف للنفي الأصلي إلا أنه قد وجد ودليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى في حق داود وسليمان:" وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان ما صار إليه حكماً لله ولا علماً. وأما السنة فقوله عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ووجه الاحتجاج به أنه عليه السلام جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى مع اختلافهم في الأحكام نفياً وإثباتاً كما بيناه قبل.فلو كان فيهم مخطىء لما كان الاقتداء به هدى بل ضلالة. وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقوا على تسويغ خلاف بعضهم لبعض من غير نكير منهم على ذلك بل ونعلم أن الخلفاء منهم كانوا يولون القضاة والحكام مع علمهم بمخالفتهم لهم في الأحكام ولم ينكر عليهم منكر. ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة وكل منكر أنكروه. وأما من جهة المعقول فمن سبعة أوجه : الأول: أنه لو كان الحق متعيناً في باب الاجتهاد في كل مسألة لنصب الله تعالى عليه دليلاً قاطعاً دفعاً للإشكال وقطعا لحجة المحتج كما هو المألوف من عادة الشارع في كل ما دعا إليه ومنه قوله تعالى:" رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" النساء 165 وقوله تعالى:" وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم 4 وقوله تعالى:" ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً " طه 134 ولو كان عليه دليل قاطع لوجب الحكم على مخالفه بالفسق والتأثيم كالمخالف في العقليات. الثاني: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده وليس كذلك. وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين فإن الشرع لا يخير إلا في حالة التساوي. الثالث: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لوجب نقض كل حكم خالفه كما قاله بشر المريسي والأصم.وحيث لم ينقض دل على التساوي. الرابع: أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما وجب على كل واحد من المجتهدين اتباع ما أوجبه ظنه ولا كان مأموراً به لأن الشارع لا يأمر بالخطإ وحيث كان مأموراً باتباعه دل على كونه صواباً. الخامس: أنه لا خلاف في ترجيح الأدلة المتقابلة في المجتهدات بما لا يستقل بإثبات أصل الحكم ولا نفيه فدل على أن الدليل من الجانبين ما هو خارج عن الترجيح فالدليل على كل واحد من الحكمين قائم فكان حقاً. السادس: أن حصر الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج وهو منفي بقوله تعالى:" وما جعل عليكم في الدين من حرج" الحج 78 وقوله تعالى:" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" البقرة 185. السابع: أنه لو كان المجتهد مخطئا لما علم كونه مغفوراً له واللازم ممتنع وبيان الملازمة أنه لو كان مخطئاً فلا يخلو إما أن لا يجوز كونه مخطئاً أو يجوز كونه مخطئاً الأول محال فإن من قال بالتخطئة لم يعين الخطأ في واحد بل أمكن أن يكون قائلاً بالنفي أو الإثبات. والثاني فلا يخلو: إما أن يعلم مع تجويز كونه مخطئاً أنه قد انتهى في النظر إلى الرتبة التي يغفر له بترك ما بعدها أو لا يعلم ذلك الأول محال فإن المجتهد لا يميز ما بين الرتبتين.
وإن كان الثاني فهو مجوز لترك النظر الذي إذا أخل به بعد النظر الذي انتهى إليه لا يكون مغفوراً له وذلك ممتنع مخالف لإجماع الأمة على ثواب كل مجتهد وغفران ما أخل به من النظر. والجواب عن الآية أن غايتها الدلالة على أن كل واحد منهما أوتي حكماً وعلماً وهو نكرة في سياق الإثبات فيخص وليس فيه ما يدل على أنه أوتي حكما وعلما فيما حكم به. وقد أمكن حمل ذلك على أنه أوتي حكما وعلما بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها وطرق الاستنباط فلا يبقى حجة في غيره. وعن السنة أن الخبر وإن كان عاما في الأصحاب والمقتدين بهم غير أن ما فيه الاقتداء غير عام ولا يلزم من العموم في الأشخاص العموم في الأحوال. وعلى هذا فقد أمكن حمله على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه السلام لا في الرأي والاجتهاد. وقد عمل به فيه فلا يبقى حجة فيما عداه ضرورة إطلاقه. وعن الإجماع أنه إنما لم ينكر بعض الصحابة على بعض المخالفة لأن المخطىء غير معين ومع ذلك فهو مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومثاب عليه. والذي يجب إنكاره من الخطإ ما كان مخطئه معينا وهو منهي عنه وما نحن فيه ليس كذلك. وعن الشبهة الأولى من المعقول: لا نسلم أنه لو كان الحكم في الواقعة معيناً لنصب الله عليه دليلاً قاطعاً إذ هو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة ولكن لا مانع أن تكون الحكمة طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية لا طلب العلم به لنيل ثواب النظر والاجتهاد. فإن ثوابه لزيادة المشقة فيه أزيد على ما قال عليه السلام:" ثوابك على قدر نصبك "وإن لم تظهر فيه حكمة فلا مانع من اختصاصه بحكمة لا يعلمها سوى الرب تعالى. وعن الثانية أنه إنما خير العامي في التقليد لمن شاء لكونه لا يقدر على معرفة الأعلم دون معرفة مأخذ المجتهدين ووجه الترجيج فيه وذلك مما يخرجه عن العامية ويمنعه من جواز الاستفتاء بل غاية ما يقدر على معرفته كون كل واحد منهما عالماً أهلاً للاجتهاد ومن هذه الجهة قد استويا في نظره فلذلك كان مخيراً حتى إنه لو قدر على معرفة الأعلم ولو بإخبار العلماء بذلك لم يجز له تقليد غيره. وعن الثالثة: أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفة الصواب من الخطإ. وعن الرابعة: أنها منقوضة بما إذا كان في المسألة نص أو إجماع ولم يعلم به المجتهد بعد البحث التام فان الحكم فيها معين ومع ذلك فالمجتهد مأمور باتباع ما أوجبه ظنه. وعن الخامسة: أنا وإن سلمنا أن الترجيح قد يكون بما لا يستقل بالحكم فلا يمنع ذلك من اعتباره جزءاً من الدليل وعلى هذا فالمرجوح لا يكون دليلاً وإن كان دليلاً لكن لا نسلم جواز ترتب الحكم على المرجوح مع وجود الراجح في نفس الأمر. وعن السادسة: أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق أن لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعاً أما إذا كان ذلك مفوضاً إلى ظنونهم واجتهاداتهم فلا كيف ويلزم على ما ذكروه ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع فإن الحكم فيها يكون معيناً وإن لزم منه الحرج. وعن السابعة: بمنع ما ذكروه من الملازمة وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا علم المجتهد من نفسه انتهاءه في الاجتهاد واستفراغ الوسع إلى حد يقطع بانتفاء قدرته على المزيد عليه وذلك هو ضابط العلم بكونه مغفوراً له ما وراءه. المسألة السادسة اتفقوا في الأدلة العقلية المتقابلة بالنفي والإثبات على استحالة التعادل بينها. وذلك لأن دلالة الدليل العقلي يجب أن يكون مدلولها حاصلاً فلو تعادل الدليلان في نفسيهما لزم من ذلك حصول مدلوليهما كالدليل الدال على حدوث العالم والدال على قدمه ويلزم من ذلك اجتماع النقيضين وهو محال. واختلفوا في تعادل الأمارات الظنية فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع من ذلك وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وابنه وأكثر الفقهاء إلى جوازه وهو المختار. وذلك لأنه لو استحال تعادل الأمارتين في نفسيهما فإما أن يكون ذلك محالاً في ذاته أو لدليل خارج: الأول ممتنع فإنا لو قدرنا ذلك لم يلزم عنه لذاته محال عقلاً وإن كان الدليل من خارج عقلياً كان أو شرعياً فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: إذا قيل بتعادل الأمارتين فإما أن يعمل بكل واحدة منهما: أو بأحديهما دون الأخرى أو لا يعمل ولا بواحدة منهما الأول محال لما فيه من الجمع بين النقيضين والثاني محال لأنه إما أن يعمل بواحدة منهما على طريق التعيين أو الإبهام: فإن كان على طريق التعيين فلا أولوية مع التساوي وإن كان على سبيل التخيير فهو ممتنع لوجوه ثلاثة. الأول: أن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلفين في مسائل الاجتهاد. الثاني: أن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وهو ممتنع لما سبق. الثالث: أنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للمتخاصمين وكذلك المفتي للعامي بين الحكم ونقيضه وأن يحكم لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه وأن يحكم في يوم بحكم وفي الغد بنقيضه وذلك محال والثالث أيضا محال لما فيه من الجمع بين النقيضين ولأن وضع الأمارتين يكون عبثاً والعبث في تصرفات الشارع ممتنع وأيضاً فإن الحكم عند الله تعالى في الواقعة لا يكون إلا واحداً على ما سبق تقريره في المسألة المتقدمة وهو الذي وقع عليه اختياركم فلو تعادلت الأمارتان لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق وهو ممتنع على الشارع الحكيم. والجواب عن الشبهة الأولى بمنع الحصر فيما ذكروه إذ قد أمكن قسم ثالث وهو العمل بمجموعهما بأن يكونا كالدليل الواحد ومقتضاهما الوقف أو التخيير وإن سلمنا امتناع ذلك فما المانع من العمل بإحداهما على طريق التخيير بأن يعمل المكلف بما شاء منهما إن شاء أثبت وإن شاء نفي. قولهم: إن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلف في مسائل الاجتهاد قلنا: متى إذا ترجح في نظره إحدى الأمارتين أو إذا تعادلتا الأول مسلم والثاني ممنوع ولا بعد في التخيير عند التعارض مع التساوي نازلاً منزلة ورود التخيير من الشارع بلفظ التخيير كما في خصال الكفارة أو كما في التخيير بين إخراج الحقاق وبنات اللبون عندما إذا اجتمع في ماله مائتان من الإبل بقوله عليه السلام:" في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حق "فإنه إن أخرج أربع حقاق فقد عمل بالنص وإن أخرج خمس بنات لبون فقد عمل بالنص. قولهم: إن التخيير إباحة للفعل والترك وهو عمل بأمارة الإباحة وترك للأمارة الوجوب قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو كان التخيير بين الفعل والترك مطلقاً وليس كذلك. وإنما هو تخيير في العمل بأحد الحكمين مشروطا بقصد العمل بدليله كما في التخيير بين القصر في السفر والإتمام بشرط قصد العمل بدليل الرخصة أو دليل الإتمام. قولهم إنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للخصمين والمفتي للعامي بين الحكمين المتناقضين ليس كذلك بل التخيير إنما هو للحاكم والمفتي في العمل بإحدى الأمارتين عند الحكم والفتوى فلا بد من تعين ما اختاره دفعاً للنزاع بين الخصوم وللتحير عن المستفتى. وأما حكمه لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه فغير ممتنع كما لو تغير اجتهاده وكذلك الحكم في يوم وبنقيضه في الغد وإنما يمتنع ذلك أن لو كان المحكوم عليه واحداً لما فيه من إضرار المحكوم عليه بالحكم له بحل النكاح والانتفاع بالملك في وقت وتحريمه عليه في وقت آخر وإن سلمنا امتناع التخيير فما المانع من ترك العمل بهما والقول بتساقطهما. قولهم إنه يلزم منه الجمع بين النقيضين إنما يلزم ذلك أن لو اعتقد نفي الحل والإباحة وأما إذا لم يعتقد شيئا من ذلك فلا. قولهم إن وضع الأمارتين يكون عبثاً فهو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في مواضعه وبتقدير التسليم فلا يمتنع استلزام ذلك لحكمة استأثر الله تعالى بالعلم بها دون المخلوقين كيف وقد أمكن أن تكون الحكمة فيه إيقاف المجتهد عن الجزم بالنفي أو الإثبات. وعن الشبهة الثانية: أنا وإن سلمنا أن الحكم في المسألة لا يكون إلا واحداً ولكن ما المانع من تعادل الأمارات. قولهم يلزم منه التحير والتضليل إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفاً بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى وليس كذلك وإنما هو مكلف بما أوجبه ظنه على ما سبق فإن لم يغلب على ظنه شيء ضرورة التعادل كان الواجب التخيير أو التوقف أو التساقط. المسألة السابعة فيما يصح نسبته من الأقوال إلى المجتهد وما لا يصح ولا خلاف في صحة اعتقاد الوجوب والتحريم أو النفي والإثبات معاً في مسألتين مختلفتين كوجوب الصلاة وتحريم الزنى وفي اعتقاد الجمع بين الأحكام المختلفة التي لا تقابل بينها في شيء واحد كالتحريم ووجوب الحد ونحوه وفي اعتقاد وجوب فعلين متضادين على البدل كالاعتداد بالأطهار والحيض أو فعلين غير متضادين كخصال الكفارة. وأما اعتقاد حكمين متقابلين في شيء واحد على سبيل البدل فقد اختلفوا فيه وبينا مأخذ القولين في المسألة المتقدمة وما هو المختار في ذلك. وأما ما يقال في هذه المسألة: للمجتهد الفلاني قولان فلا يخلو إما أن يكونا منصوصين في تلك المسألة أو أحدهما منصوص عليه والآخر منقول فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون التنصيص عليهما في وقتين أو في وقت واحد فإن كان ذلك في وقتين فلا يخلو إما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم: فإن كان الأول فالقول الثاني ناسخ للأول وهو الذي يجب إسناده إليه دون الأول لكونه مرجوعاً عنه. وإن قيل إن الأول قوله فليس إلا بمعنى أنه كان قولاً له لا بمعنى انه الآن قوله ومعتقده وإن كان الثاني فيجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه والرجوع عن الآخر وإن لم يكن ذلك معلوماً ولا معيناً. وعلى هذا فيمتنع العمل بأحدهما قبل التبيين لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المرجوع عنه وهذا كما إذا وجدنا نصين وعلمنا أن أحدهما ناسخ للآخر ولم يتبين لنا الناسخ من المنسوخ فإنه يمتنع العمل بكل واحد منهما لاحتمال أن يكون ما عمل به هو المنسوخ وكذلك الراوي فإنه إذا سمع كتاباً من الأخبار سوى خبر واحد منه وأشكل عليه ما سمعه عن غيره فإنه لا يجوز له رواية شيء منه لاحتمال أن يكون ذلك ما لم يروه. وأما إن كان التنصيص عليهما في وقت واحد فإما أن ينص على الراجح منهما بأن يقول: وهذا القول أولى أو يفرع عليه دون الآخر فيظهر من ذلك أن قوله وما يجب أن يكون معتقداً له هو الراجح دون المرجوح. وأما أن لا يوجد منه ما يدل على الترجيح كما نقل عن الشافعي ذلك في سبع عشرة مسألة فلا يخلو إما أنه ذكر ذلك بطريق الحكاية لأقوال من تقدم فلا تكون أقوالاً له وإما أن يكون ذلك بمعنى اعتقاده للقولين وهو محال. وذلك لأن دليلي القولين إما أن يكون أحدهما راجحاً على الآخر في نظره أو هما متساويان فإن كان الأول فاعتقاده لحكم الدليل المرجوح ممتنع وإن كان الثاني فاعتقاده للتحريم والإباحة معاً في شيء واحد من جهة واحدة محال. وإن كان معنى القولين التخيير بين الحكمين أو التردد والشك كتردد الشافعي في التسمية هل هي آية من أول كل سورة ؟فذلك مما لا يصح معه نسبة القولين إليه ولهذا فإن من قال بالتخيير بين خصال الكفارة لا يقال إن له في الكفارة أقوالاً. وكذلك من شك في شيء وتردد فيه لا يقال له فيه أقوال وإنما يمكن تصحيح ذلك بأن يحمل قوله: في المسألة قولان على أنه قد وجد فيها دليلين متعارضين ولا موجود سواهما إما نصان أو استصحابان كما إذا أعتق عن كفارته عبداً غائباً منقطع الخبر. فإن الأصل بقاء حياته والأصل بقاء اشتغال الذمة أو أصلان مختلفان والمسألة مشابهة لكل واحد من الأصلين على السوية ويمكن أن يقول بكل واحد منهما قائل فقوله بوجود هذا الاحتمال وهذا الاحتمال قولان لكنه ليس قولا بحكم شرعي. وأما إن كان منصوصاً عليه والآخر منقولاً فذلك إنما يتصور في صورتين متناظرتين وعند ذلك فلا يخلو إما أن يظهر بين الصورتين فارق أو لا يظهر: فإن ظهر بينهما فارق فالنقل يكون ممتنعاً وإن لم يظهر بينهما فارق وكان الإمام قد نص على حكم الصورتين فلا يخلو إما أن يكون قد نص عليهما في وقتين أو في وقت واحد. فإن كان في وقتين: فإما أن يكون التاريخ معلوماً أو غير معلوم فإن كان معلوماً فتنصيصه على الحكم الأخير يستلزم ثبوت مثله في الصورة المنصوص عليها أولا ضرورة عدم الفرق ويلزم من ذلك رجوعه عن الحكم المنصوص عليه أولاً. وإن لم يكن التاريخ معلوماً فيجب اعتقاد اشتراك الصورتين في أحد الحكمين وهو ما نص عليه آخراً وإن لم يكن معلوماً بعينه وعلى هذا فلا يمكن العمل بأحدهما على سبيل التعيين لجواز أن يكون هو المرجوع عنه كما أسلفناه وأما إن نص على حكمي الصورتين في وقت واحد فهو كما لو نص عليهما في صورة واحدة وقد عرف ما فيه. المسألة الثامنة اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم فإنه لو جاز نقض حكمه إما بتغيير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر لأمكن نقض الحكم بالنقض ونقض نقض النقض إلى غير النهاية. ويلزم من ذلك اضطراب الأحكام وعدم الوثوق بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب الحاكم لها وإنما يمكن نقضه بأن يكون حكمه مخالفاً لدليل قاطع من نص أو إجماع أو قياس جلي وهو ما كانت العلة فيه منصوصةً أو كان قد قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كما سبق تحقيقه. ولو كان حكمه مخالفاً لدليل طني من نص أو غيره فلا ينقض ما حكم به بالظن لتساويهما في الرتبة ولو حكم على خلاف اجتهاده مقلداً لمجتهد آخر فقد اتفقوا على امتناعه وإبطال حكمه ولو كان الحاكم مقلداً لإمام وحكم بحكم يخالف مذهب إمامه فإن قضينا بصحة حكم المقلد ضرورة عدم المجتهد في زماننا فنقض حكمه مبني على الخلاف في أنه هل يجوز له تقليد غير إمامه فإن منعنا من ذلك نقض وإلا فلا. وأما المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم في حق نفسه كتجويز نكاح المرأة بلا ولي ثم تغير اجتهاده فإما أن يتصل بذلك حكم حاكم آخر أو لا يتصل: فإن كان الأول لم ينقض الاجتهاد السابق نظراً إلى المحافظة على حكم الحاكم ومصلحته. وإن كان الثاني لزمه مفارقة الزوجة وإلا كان مستديماً لحل الاستمتاع بها على خلاف معتقده وهو خلاف الإجماع وأما إن كان قد أفتى بذلك لغيره وعمل ذلك الغير بفتواه. ثم تغير اجتهاده فقد اختلفوا في أن المقلد هل يجب عليه مفارقة الزوجة لتغير اجتهاد مفتيه والحق وجوبه كما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القبلة من هو من أهل الاجتهاد فيها ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له فإنه يجب عليه التحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده هو في نفسه. المسألة التاسعة المكلف إذا اجتهد في مسألة حصلت له أهلية الإجتهاد فيها اتفقوا على أنه لا يجوز له تقليد غيره في خلاف ما أوجبه ظنه المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه. وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا فيه فقال أبو علي الجبائي: الأولى له أن يجتهد وإن لم يجتهد وترك الأولى جاز له تقليد الواحد من الصحابة إذا كان مترجحاً في نظره على غيره ممن خالفه وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم وبه قال الشافعي في رسالته القديمة. ومن الناس من قال: يجوز له تقليد الواحد من الصحابة أو التابعين دون من عداهم قال محمد بن الحسن: يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله أو دونه وسواء كان من الصحابة أو غيرهم وقال ابن سريج يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وسفيان الثوري يجوز تقليد العالم للعالم مطلقاً. وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان وقال بعض أهل العراق: يجوز تقليد العالم فيما يفتي به وفيما يخصه ومنهم من قال بجواز ذلك فيما يخصه دون ما يفتى به ومن هؤلاء من خصص ذلك بما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد.وذهب القاضي أبو بكر وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم للعالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن وهو المختار. إلا أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى: أن من له أهلية الاجتهاد متمكن من الاجتهاد فلا يجوز مع ذلك مصيره إلى قول غيره كما في العقليات. الثانية: أنه لو كان قد اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدى إليه اجتهاده فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد لإمكان أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلده. الثالثة: أنه لو جاز لغير الصحابة تقليد الصحابة مع تمكنه من الاجتهاد لجاز لبعض الصحابة من المجتهدين تقليد البعض ولو جاز ذلك لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافية معنى.
الرابعة: أن الصحابة كانت تترك ما رأته باجتهادها لما تسمعه من الخبر عن النبي ﷺ فكان عمل غيرهم بالخبر وترك العمل برأيهم أولى. ولقائل أن يقول على الحجة الأولى: إنما لم يجز التقليد العقليات ضرورة أن المطلوب فيها هو العلم وهذا غير حاصل بالتقليد بخلاف مسائل الاجتهاد فإن المطلوب فيها هو الظن وهو حاصل بالتقليد فافترقا. وعلى الثانية: أنه إذا اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فوثوقه به أتم من وثوقه بما يقلد فيه الغير لأنه مع مساواة اجتهاده لاجتهاد الغير يحتمل أن لا يكون الغير صادقا فيما أخبر به عن اجتهاده والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده. وقبل أن يجتهد لم يحصل له الوثوق بحكم ما فلا يلزم من امتناع التقليد مع الاجتهاد امتناعه مع عدمه. وعلى الثالثة: أن من المخالفين في هذه المسألة من يجوز تقليد الصحابة بعضهم لبعض إذا كان المقلد أعلم كما سبق في تفصيل المذاهب في أول المسألة وبتقدير التسليم فلا يخفى أن الوثوق باجتهاد الصحابي لمشاهدة الوحي والتنزيل ومعرفة التأويل والاطلاع على أحوال النبي ﷺ وزيادة اختصاص الصحابة بالتشدد في البحث عن قواعد الدين وتأسيس الشريعة وعدم تسامحهم فيها أشد من غيرهم على ما قال عليه السلام:" خير القرون القرن الذي أنا فيه" أتم من الوثوق باجتهاد غير الصحابي. وما مثل هذا التفاوت فغير واقع بين الصحابة وعلى هذا فلا يلزم من جواز تقليد غير الصحابي للصحابي تقليد الصحابي للصحابي. وعن الرابعة: أن الخبر لا يخلو إما أن يكون صريحاً في مناقضة مذهب الصحابي أو لا يكون صريحاً بل دلالته على ذلك ظنية اجتهادية: فإن كان الأول فلا خفاء في امتناع تقليد الصحابي معه كما يمتنع على الصحابي العمل برأيه مع ذلك الخبر. وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يجب على الصحابي الرجوع إليه مع استمراره على اعتقاد ما رآه أولاً وترجيح ما أداه إليه اجتهاده على ذلك الخبر وعلى ذلك فلا يمتنع تقليد الصحابي مع وجود ذلك الخبر. والمعتمد في المسألة أن يقال: القول بجواز التقليد حكم شرعي ولا بد له من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم وهو قادر عليه ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه لما سبق. فإن قيل: دليل جواز التقليد في حق من لم يجتهد وإن كانت له أهلية الاجتهاد الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 أمر بالسؤال وأدنى درجاته جواز اتباع المسؤول واعتقاد قوله وليس المراد به من لم يعلم شيئاً أصلاً بل من لم يعلم تلك المسألة ومن لم يجتهد في المسألة وإن كانت له أهلية الاجتهاد فيها غير عالم بها فكان داخلاً تحت عموم الآية وأيضاً قوله تعالى:" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء 59 والمراد بأولي الأمر العلماء أمر غير العالم بطاعة العالم وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه. وأما السنة فقوله عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "وقوله ﷺ:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين "من بعدي وقوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وأما الإجماع فهو أن عمر رجع إلى قول علي رضي الله عنه وإلى قول معاذ وبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان على اتباع سنة الشيخين أبي بكر وعمر ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة مع أن المقلد كان أهلاً للاجتهاد فصار ذلك إجماعاً. وأما المعقول: فهو أنه لا يقدر باجتهاده على غير الظن واتباع المجتهد فيما ذهب إليه مفيد للظن والظن معمول به في الشرعيات على ما سبق تقريره فكان اتباعه فيه جائزاً. والجواب عن الآية الأولى: أن المراد بأهل الذكر أهل العلم أي المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه لا من العلم بالمسألة المسؤول عنها حاضر عتيد لديه. فإن أهل الشيء من هو متأهل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك الشيء والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فتخص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم كالعامي لمن هو أهل له.
وما نحن فيه فهو من أهل العلم بالتفسير المذكور فلا يكون داخلاً تحت الآية لأن الآية لا دلالة لها على أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم فإنه ليس السائل أولى بذلك من المسؤول. وعن الآية الثانية أن المراد بأولي الأمر الولاة بالنسبة إلى الرعية والمجتهدين بالنسبة إلى العوام بدليل أنه أوجب الطاعة لهم واتباع المجتهد للمجتهد وإن جاز عند الخصوم فغير واجب بالإجماع فلا يكون داخلاً تحت عموم الآية. وعن السنة ما سبق في مسألة مذهب الصحابي هل هو حجةً أو لا ؟ وعن الإجماع: أما عمر فإنه لم يكن مقداً لعلي ولمعاذ فيما ذهبا إليه بل لأنه اطلع من قوليهما على دليل أوجب رجوعه إليه. وأما قصة عبد الرحمن بن عوف فقد سبق جوابها في المسائل المتقدمة. وعن المعقول أنه لو اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره في خلاف ما أدى إليه اجتهاده إجماعاً فلو جاز له التقليد مع عدم الاجتهاد لكان ذلك بدلا عن اجتهاده والبدل دون المبدل والأصل أن لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل مبالغة في تحصيل الزيادة من مقصوده اللهم إلا أن يرد نص بالتخيير يوجب إلغاء الزيادة من مقصود المبدل أو نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود كما في بنت مخاض وابن لبون عن خمس وعشرين من الإبل فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون ولا يمتنع ذلك عند عدمها. والأصل عدم ذلك النص كيف وإن ما ذكروه معارض بقوله تعالى:" فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 وقوله تعالى:" وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى:" واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " الأعراف 3 وقوله تعالى:" ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 وبقوله عليه السلام:" اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له "وتقليد العالم للعالم يلزم منه ترك الاعتبار وترك العمل بحكم الله ورسوله وترك ما أنزل واقتفاء ما ليس له به علم وترك الاجتهاد المأمور به وهو خلاف ظاهر النص وإذا تعارضت الأدلة سلم لنا ما ذكرناه أولاً. المسألة العاشرة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقال للمجتهد: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا: فقال موسى بن عمران بجواز ذلك مطلقاً للنبي وغيره من العلماء وقال أبو علي الجبائي بجواز ذلك للنبي خاصةً في أحد قوليه وقد نقل عن الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون. والمختار جوازه دون وقوعه لكن لا بد من الإشارة إلى حجج عول عليها المجوزون بعضها يدل على الجواز وبعضها يدل على الوقوع والتنبيه على ضعفها كالجاري من عادتنا ثم نذكر بعد ذلك ما هو المعتمد في هذه المسألة. وقد احتجوا بالنص والإجماع والمعقول. أما النص فمن جهة الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى:" كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " آل عمران 93 أضاف التحريم إليه فدل على كونه مفوضاً إليه وأما السنة فمن وجوه. منها ما روي عن النبي عليه السلام أنه لما قال في مكة "لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها" قال له العباس: إلا الإذخر فقال النبي عليه السلام:"إلا الإذخر" ومعلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه لعلمنا بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ولولا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك. ومنها قوله عليه السلام:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". ومنها قوله عليه السلام:" عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ومنها ما روي أنه لما قيل: له أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ؟فقال:" بل للأبد ولو قلت نعم لوجب" أضاف الوجوب والعفو إلى أمره وفعله ولولا أنه مفوض إلى أختياره لما جاز. ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه أمر منادياً يوم فتح مكة "أن اقتلوا ابن حبابة وابن أبي سرح ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة "ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان. ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر فأنشدته. ما كان ضرك لو مننت وربمامن الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه السلام:" أما إني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته "ولو كان قتله بأمر من الله لما خالفه وإن سمع شعرها. ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قيل له إن ماعزاً رجم فقال:" لو كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره "وذلك يدل على أن حكم الرجم كان مفوضاً إلى رأيه ومنها قوله عليه السلام:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها "وذلك يدل على تفويض الحل والحرمة في ذلك إليه. وأما الإجماع فما نقل عن آحاد الصحابة فيما حكم به إن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أضاف الحكم إلى نفسه ولم ينكر عليه منكر فصار ذلك إجماعاً ومن ذلك ما شاع وذاع من رجوع آحاد الصحابة عما حكم به أولا من غير نكير عليه ولو لم يكن ذلك من تلقاء نفسه بل عن دليل من الشارع لما شاع ذلك منه ولما جاز تطابق الصحابة على عدم الإنكار عليه وأما المعقول فمن وجوه الأول: أنه إذا جاز تفويض الشارع إلى المكلف اختيار واحدة من خصال الكفارة جاز مثله في الأحكام. الثاني: أنه إذا جاز أن يفوض إلى العامي العمل بما شاء من فتوى أي المجتهدين شاء من غير دليل جاز مثله في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين. الثالث: أنه إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطإ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره المجتهد من غير دليل وإن جاز عدو له عن جهة الصواب. ولقائل أن يجيب عن الآية: بأن إسرائيل لم يكن من جملة بنيه حتى يكون داخلاً في عموم الآية وعند ذلك فيحتمل أن إسرائيل حرم ما حرم على نفسه بالاجتهاد مستنداً إلى دليل ظني لا أنه عن غير دليل. وعن الخبر الأول: أنه قد قيل إن الإذخر ليس من الخلا فلا يكون داخلاً فيما حرم وعلى هذا فإباحته تكون بناء على استصحاب الحال والاستثناء من العباس والنبي عليه السلام كان تأكيداً وبتقدير أن يكون مستثنىً حقيقةً مما حرم بطريق التأسيس لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق وهو الأولى لقوله تعالى في حق رسوله:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا. وعن الخبر الثاني: أنه من الجائز أن الوحي نزل بتخييره في أمرهم بالسواك الشاق عند كل صلاة وعدم أمرهم بذلك لا أن أمره لهم بالسواك يكون من تلقاء نفسه ويجب اعتقاد ذلك لما سبق في الآية. وعن الخبر الثالث: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه بمعنى أنه لم يأخذ صدقة الخيل والرقيق منهم لا بمعنى أنه المسقط لها ودليله ما سبق في الآية. وعن الخبر الرابع: أن قوله ولو قلت نعم لوجب لا يدل على أن الوجوب مستند إلى قوله: نعم من تلقاء نفسه بل لأنه لا يقول ما يقول إلا بوحي لما سبق في الآية. وعن الخامس: أنه يجوز أن يكون قد أبيح القتل وتركه بالوحي بدليل ما سبق في الآية وهو الجواب عن قصة النضر بن الحارث وماعز. وعن الخبر الأخير أنه إنما نهى وأباح بعد النهي بطريق الوحي لا أن ذلك من تلقاء نفسه. وعن الإجماع أما إضافة الخطإ إلى أنفسهم فلا يدل على أن من حكم منهم أنه حكم من غير دليل بل يمكن أن يكون حكمه بناء على ما ظنه دليلاً وهو مخطىء فيه ولو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً. وأما رجوع آحاد الصحابة عما حكم به إلى غيره فإنما كان ذلك لظهور الخطإ له فيما ظنه دليلاً على الحكم أولا وقد سوغ له الحكم به أما أن يكون ذلك من غير دليل فلا. وعن الوجه الأول: من المعقول أنه لا يلزم من التخيير في خصال الكفارة من غير اجتهاد جواز ذلك في الأحكام الشرعية بدليل أن العامي له أن يتخير في خصال الكفارة ومن قال بجواز التخيير في الأحكام الشرعية لم يقض بجوازه لغير المجتهد ولو وقع التساوي بين الصورتين لجاز ذلك للعامي وهو ممتنع بالإجماع. وبمثله يخرج الجواب عن الوجه الثاني. وعن الوجه الثالث: أنه لا يلزم من جواز العمل بالأمارة مع كونها مفيدة للظن العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم. والمعتمد في المسألة أن يقال: لو امتنع ذلك إما أن يمتنع لذاته أو لمانع من خارج الأول محال فأنا إذا قدرناه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل وإن كان لمانع من خارج فالأصل عدمه وعلى من يدعيه بيانه.
فإن قيل: يمتنع ذلك لأن الباري تعالى إنما شرع الشرائع لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد فاختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحةً وبين أن يكون مفسدة فلا نأمن من اختياره للمفسدة وذلك خلاف ما وضعت له الشريعة. والجواب عن هذا الإشكال أنه مبني على رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في موضعه وإن سلمنا اعتبار ذلك في أفعاله تعالى ولكن قد أمنا في ذلك من اختيار المفسدة لقول الله اختر فإنك لا تختار إلا الصواب. فإن قيل: يمتنع على الشارع قول ذلك لاستحالة استمرار المكلف على اختيار الصلاح دون الفساد كما لا يجوز اتفاق الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم ثم لو جاز ذلك في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي وليس كذلك. قلنا: دليل جواز ذلك من الشارع أنا لو قدرنا وروده منه لم يلزم عنه لذاته محال. قولهم: إنه لا يتفق اختيار الصلاح في الأفعال الكثيرة قلنا: متى إذا أخبر الصادق بذلك أو إذا لم يخبر؟ الأول ممنوع. والثاني مسلم.وعلى هذا فلو قال للعامي مثل ذلك كان جائزاً عقلاً. ثم وإن سلمنا أنه لا يتفق اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة لكن متى إذا كانت المصلحة خارجة عن الفعل المختار أو إذا كانت المصلحة هي نفس الفعل المختار الأول مسلم والثاني ممنوع. فإن قيل: فيلزم من ذلك الإباحة وإسقاط التكليف قلنا: ليس كذلك بل هو إيجاب التخيير وإيجاب التخيير تكليف لا أنه إباحة وإسقاط للتكليف. فإن قيل: إنما يحسن إيجاب ما يمكن الخلو منه ويمتنع الخلو من الفعل والترك فلا يحسن إيجابه قلنا هذا وإن استمر في إيجاب الفعل وتركه فلا يستمر في التخيير بين الأحكام التي يتصور الخلو منها كالتخيير بين أن يكون الفعل محرماً أو واجباً. وذلك بأن يقال له: اختر إما التحريم وإما الوجوب وأيهما اخترت فلا تختر إلا ما المصلحة فيه ولا يخفى جواز الخلو منهما بالإباحة. وإن سلمنا أن المصلحة خارجة عن نفس الفعل المختار وأنه يمتنع اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة ولكن ما المانع من ذلك في الأفعال القليلة. فإن قيل: إنه إما أن يكون قد أوجب عليه اختيار ما المصلحة فيه أو خيره بين المصلحة والمفسدة فإن كان الأول فقد كلفه ما لا يطاق حيث أوجب عليه اختيار المصلحة من غير دليل وإن كان الثاني فهو محال على الشارع لما فيه من الإذن منه في فعل المفسدة وهو خارج عن العدل. قلنا: إن أوجب عليه اختيار المصلحة وإن كان تكليفا بما لا يطاق فهو جائز على ما سبق تقريره. وإن خيره بين أمرين فلا يمتنع ذلك كما أنه يوجب عليه الحكم بما أوجبه ظنه من الأمارة الظنية وإن كان مخطئاً مرتكباً للمفسدة كما تقرر قبل. وإذا جاز إيجاب فعل ما هو مفسدة مع عدم علم المكلف به جاز التخيير بين المصلحة والمفسدة مع عدم علم المكلف بذلك. المسألة الحادية عشرة القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه السلام اختلفوا في جواز الخطإ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك.وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول. أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى:" عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " التوبة 43 وذلك يدل على خطئه في إذنه لهم. وقوله تعالى في المفاداة في يوم بدر:" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" الأنفال67 إلى قوله تعالى:" لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم "الأنفال 68 حتى قال النبي عليه السلام:" لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر" لأنه كان قد أشار بقتلهم ونهى عن المفاداة وذلك دليل على خطئه في المفاداة. وقوله تعالى:" إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 أثبت المماثلة بينه وبين غيره. وقد جاز الخطأ على غيره فكان جائزاً عليه لأن ما جاز على أحد المثلين يكون جائزاً على الآخر. وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:" إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" وذلك يدل على أنه قد يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر. وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال:" إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ". وأيضاً ما اشتهر عنه عليه السلام من نسيانه في الصلاة وتحلله عن ركعتين في الرباعية في قصة ذي اليدين وقول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم سهوت؟ فقال النبي عليه السلام:" أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. وأما المعقول فإنه لو امتنع وقوع الخطإ منه في اجتهاده فإما أن يكون ذلك لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يقال بالأول فإنا لو فرضناه لم يلزم عنه المحال لذاته عقلاً وإن كان لأمر خارج فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من ثلاثة أوجه : الأول: أنا قد أمرنا باتباع حكمه على ما قال تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " النساء 65 فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لكنا قد أمرنا باتباع الخطإ والشارع لا يأمر بالخطإ. الثاني: أن الأمة إذا أجمعت على حكم مجتهد فيه كان إجماعهم معصوماً عن الخطإ كما سبق بيانه. ولو جاز على النبي الخطأ في اجتهاده لكانت الأمة أعلى رتبة منه وذلك محال. الثالث: أن المقصود من البعثة وإظهار المعجزة اتباع النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إقامة لمصالح الخلق فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لأوجب ذلك التردد في قوله والشك في حكمه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو محال. والجواب عن الإشكال الأول: أنه يلزم على ما ذكروه أمر الشارع للعامي باتباع قول المفتي مع جواز خطئه فما هو جواب لهم في صورة الإلزام فهو جواب لنا في محل النزاع. وعن الإشكال الثاني: أن من الناس من منع من تصور انعقاد الإجماع عن الاجتهاد فضلاً عن وقوعه وامتناع الخطأ فيه. ومنهم من جوزه وجوز مع ذلك مخالفته لإمكان الخطإ فيه كما سبق ذكره في مسائل الإجماع وبتقدير التسليم لانعقاد الإجماع عن الاجتهاد وامتناع الخطإ فيه فلا مانع منه ولا يلزم من ذلك علو رتبة الأمة على رتبة النبي عليه السلام مع اختصاصه بالرسالة وكون عصمة الإجماع مستفادةً من قوله وأنه الشارع المتبع وأهل الإجماع متبعون له ومأمورون بأوامره ومنهيون بنواهيه.ولا كذلك بالعكس. وعن الثالث: أن المقصود من البعثة إنما هو تبليغه عن الله تعالى أوامره ونواهيه. والمقصود من إظهار المعجزات إظهار صدقه فيما يدعيه من الرسالة والتبليغ عن الله تعالى وذلك مما لا يتصور خطؤه فيه بالإجماع. ولا كذلك ما يحكم به عن اجتهاده فإنه لا يقول ما يقوله فيه عن وحي ولا بطريق التبليغ بل حكمه فيه حكم غيره من المجتهدين فتطرق الخطإ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة والرسالة. المسألة الثانية عشرة اختلفوا في النافي هل عليه دليل أو لا ؟ منهم من قال: لا دليل عليه وسواء كان ذلك من القضايا العقلية أو الشرعية. ومنهم من أوجب ذلك عليه في الموضعين ومنهم من أوجبه عليه في القضايا العقلية دون الشرعية. والمختار إنما هو التفصيل وهو أن النافي إما أن يكون نافياً بمعنى ادعائه عدم علمه بذلك وظنه أو مدعياً للعمل أو الظن بالنفي فإن كان الأول فالجاهل لا يطالب بالدليل على جهله ولا يلزمه ذلك كما لا يطالب على دعواه أني لست أجد ألما ولا جوعاً ولا حراً ولا برداً إلى غير ذلك. وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يدعي العلم بنفي ما نفاه ضرورةً أو لا بطريق الضرورة فإن كان الأول فلا دليل عليه أيضاً لأنه إن كان صادقاً في دعوى الضرورة فالضروري لا يطالب بالدليل عليه. وإن لم يكن صادقاً في دعواه الضرورة فلا يطالب بالدليل عليه أيضاً فإنه ما ادعى حصوله له عن نظر. ويكفي المنع في انقطاعه حيث إنه لا يقدر على تحقيق الضرورة في ذلك والنظر غير مدعى له وإن ادعى العلم بنفيه لا بطريق الضرورة فلا يخلو إما أن لا يكون قد حصل له بطريق مفض إليه أو يكون بطريق مفض إليه لا جائز أن يقال بالأول لأن حصول علم غير ضروري من غير طريق يفضي إليه محال.
وإن كان الثاني فلا بد عند الدعوى والمطالبة بدليلها من ذكره وكشفه لينظر فيه.وإلا كان قد كتم علماً نافعاً مست الحاجة إلى إظهاره ودخل تحت قوله عليه السلام:" من كتم علماً نافعاً فقد تبوأ مقعده من النار" ولأنه لا فرق في ذلك في دعوى الإثبات والنفي وقد وجب على مدعي الإثبات ذكر الدليل فكذلك في دعوى النفي كيف وإن الإجماع منعقد على أن من ادعى الوحدانية لله تعالى وقدمه أنه يجب عليه إقامة الدليل وإن كان حاصل دعوى الوحدانية نفي الشريك وحاصل دعوى القدم نفي الحدوث والأولية. ولهذا نبه الله تعالى على نفي آلهة غير الله على الدليل في قوله تعالى:" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " الآية الأنبياء 22. فإن قيل: فماذا تقولون فيما إذا ادعى رجل أنه نبي ولم تقم على دعواه بينة؟ هل يلزم المكرين لنبوته إقامة الدليل على أنه ليس بنبي أو لا يلزم؟ وكذلك من أنكر وجوب صلاة سادسة أو صوم شوال أو المدعى عليه بحق إذا أنكر ما ادعي عليه به هل يلزمه إقامة الدليل على ما نفاه أو لا إن قلتم بالأول فهو خلاف الإجماع وإن قلتم بالثاني مع كونه نافياً في قضية غير ضرورية فقد سلمتم محل النزاع. قلنا: النفي في جميع هذه الصور لم يخل عن دليل يدل على النفي غير أنه قد يكتفي بظهوره عن ذكره وهو البقاء على النفي الأصلي واستصحاب الحال مع عدم القاطع له وهو ما يدل على النبوة وما يدل على وجوب صلاة سادسة وعلى وجوب صوم شوال وشغل الذمة. وإذا قيل إن النافي عليه دليل فالدليل المساعد في ذلك إما نص وارد من الشارع يدل على النفي أو إجماع من الأمة وإما التمسك باستصاحب النفي الأصلي وعدم الدليل المغير القاطع وإما الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم. وهل يمكن الاستدلال على النفي بالقياس الشرعي؟ اختلفوا فيه بناء على الاختلاف في جواز تخصيص العلة ولا فرق في ذلك بين قياس العلة والدلالة والقياس في معنى الأصل. الباب الثاني في التقليد والمفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء وما يتشعب عن ذلك من المسائل أما التقليد فعبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة وهو مأخوذ من تقليده بالقلادة وجعلها في عنقه وذلك كالأخذ بقول العامي وأخذ المجتهد بقول من هو مثله. وعلى هذا فالرجوع إلى قول النبي عليه السلام وإلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين ورجوع العامي إلى قول المفتي وكذلك عمل القاضي بقول العدول لا يكون تقليدا لعدم عروه عن الحجة الملزمة. أما في قبول قول الرسول فما دل على وجوب تصديقه من المعجزة ووجوب قبول قول الإجماع قول الرسول ووجوب قبول قول المفتي والشاهدين الإجماع على ذلك وإن سمي ذلك تقليدا بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ. وأما المفتي فلا بد وأن يكون من أهل الاجتهاد وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفاً بالأدلة العقلية كأدلة حدوث العالم وأن له صانعاً وأنه واحد متصف بما يجب له من صفات الكمال والجلال منزه عن صفات النقص والخلل وأنه أرسل محمداً ﷺ وأيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته وتبليغه للأحكام الشرعية وأن يكون مع ذلك عارفاً بالأدلة السمعية وأنواعها واختلاف مراتبها في جهات دلالاتها والناسخ والمنسوخ منها والمتعارضات وجهات الترجيح فيها وكيفية استثمار الأحكام منها على ما سبق تعريفه وأن يكون عدلاً ثقة حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية ويستحب له أن يكون قاصداً للإرشاد وهداية العامة إلى معرفة الأحكام الشرعية لا بجهة الرياء والسمعة متصفا بالسكينة والوقار ليرغب المستمع في قبول ما يقول كافا نفسه عما في أيدي الناس حذراً من التنفير عنه. وأما المستفتي فلا يخلو إما أن يكون عالماً قد بلغ رتبة الاجتهاد أو لم يكن كذلك فإن كان الأول قد اجتهد في المسألة وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فلا خلاف في امتناع اتباعه لغيره في خلاف ما أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا في جواز اتباعه لغيره من المجتهدين فيما أدى إليه اجتهاده وقد سبق الكلام فيه بجهة التفصيل وما هو المختار وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يخلو إما أن يكون عامياً صرفاً لم يحصل له شيء من العلوم التي يترقى بها إلى رتبة الاجتهاد أو أنه قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في رتبة الاجتهاد فإن كان الأول فقد اختلف في جواز اتباعه لقول المفتي والصحيح أن وظيفته اتباع قول المفتي على ما يأتي. وإن كان الثاني فقد تردد أيضاً فيه والصحيح أن حكمه حكم العامي. وأما ما فيه الاستفتاء فلا يخلو إما أن يكون من القضايا العلمية أو الظنية الاجتهادية فإن كان الأول فقد اختلف أيضاً في جواز اتباع قول الغير فيه والحق امتناعه كما يأتي. وإن كان الثاني فهو المخصوص بجواز الاستفتاء عنه ووجوب اتباع قول المفتي. وإذ أتينا على ما حققناه فلنرجع إلى المسائل المتشعبة عنه وهي ثمان. المسألة الاولى اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه فذهب عبيد الله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه.وربما قال بعضهم إنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام.وذهب الباقون إلى المنع منه وهو المختار لوجوه. الأول: أن النظر واجب وفي التقليد ترك الواجب فلا يجوز. ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى:" إن في خلق السماوات والأرض " آل عمران 190 الآية قال عليه السلام:" ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها" توعد على ترك النظر والتفكر فيها فدل على وجوبه. الثاني: أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز فالتقليد إما أن يقال إنه محصل للمعرفة أو غير محصل لها القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوه الأول أن المفتي بذلك غير معصوم ومن لا يكون معصوماً ولا يكون خبره واجب الصدق وما لا يكون واجب الصدق فخبره لا يفيد العلم. الثاني أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلاً لمن قلد في حدوث العالم ولمن قلد في قدمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثاً وقديماً. الثالث أنه لو كان التقليد مفيداً للعمل فالعلم بذلك إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً لا جائز أن يكون ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء ولأنه لو خلاً الإنسان ودواعي نفسه من مبدإ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلاً والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادعاه لا بد له من بيانه الوجه الثالث: من الوجوه الأول أن التقليد مذموم شرعاً فلا يكون جائزاً غير أنا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي المجتهد وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق لقيام الدليل على ذلك والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه فنبقي على مقتضي الأصل. وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم:" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم لهم. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه الأول أن النظر غير واجب لوجوه. الأول: أنه منهي عنه ودليل النهي عنه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقوله تعالى:" وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " غافر4 والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال فكان منهياً عنه. وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال: "إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا " وقال عليه السلام:" عليكم بدين العجائز" وهو ترك النظر ولو كان النظر واجباً لما كان منهياً عنه. الثاني: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقاً ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية ولو كان النظر في ذلك واجباً لكانوا أولى بالمحافظة عليه. الثالث: أنه لم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الصحابة والتابعين إلى زمننا هذا الإنكار على من كان في زمانهم من العوام ومن ليس له أهلية النظر على ترك النظر مع أنهم أكثر الخلق بل كانوا حاكمين بإسلامهم مقرين لهم على ما هم عليه.
الرابع: لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجباً فإما أن يجب على العارف أو على غير العارف الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه أن يكون الجهل بالله تعالى واجباً ضرورة توقف النظر الواجب عليه وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأنه يلزم منه توقف معرفة إيجاب الله تعالى على معرفة ذاته ومعرفة ذاته على النظر المتوقف على إيجابه وهو دور. المعارضة الثانية: أن النظر مظنة الوقوع في الشبهات واضطراب الآراء والخروج إلى الضلال بخلاف التقليد فكان سلوك ما هو أقرب إلى السلامة أولى.ولهذا صادفنا أكثر الخلق على ذلك فكان أولى بالاتباع. الثالثة: أن أدلة الأصول فيما يرجع إلى الغموض والخفاء أشد من أدلة الفروع فإذا جاز التقليد في الفروع مع سهولة أدلتها دفعاً للحرج فلأن يجوز ذلك في الأصول أولى. الرابعة: أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول. والجواب عن المعارضة الأولى بمنع النهي عن النظر وأما الآية فالمراد بهما إنما هو الجدال بالباطل على ما قال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " غافر 5 دون الجدال بالحق ودليله قوله تعالى:" وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125 وقوله تعالى:" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " العنكبوت 46 ولو كان الجدال بالحق منهياً عنه لما كان مأموراً به ثم كيف يكون النظر منهياً عنه وقد أثنى الله تعالى على الناظرين بقوله تعالى:" ويتفكرون في خلق السموات والأرض " آل عمران 191 أورد ذلك في معرض الثناء والمدح والمنهي عنه لا يكون ممدوحاً عليه. وبه يخرج الجواب عن نهيه عن النظر في القدر.وقوله عليه السلام:" عليكم بدين العجائز" لم يثبت ولم يصح. وإن صح فيجب حمله على التفويض إلى الله تعالى فيما قضاه وأمضاه جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة. قولهم: لم ينقل عن أحد من الصحابة النظر في ذلك يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع كون الواحد منا عالماً بذلك وهو محال. وإذا كانوا عالمين بذلك فليس العلم بذلك من الضروريات فتعين إسناده إلى النظر والدليل وإنما لم تنقل عنهم المناظرة في ذلك لصفاء أذهانهم وصحة عقائدهم وعدم من يحوجهم إلى ذلك وحيث نقل عنهم ذلك في مسائل الفروع فلكونها اجتهادية والظنون فيها متفاوتة بخلاف المسائل القطعية. قولهم: إن النبي ﷺ والصحابة لم ينكروا على العامة ترك النظر قلنا: إنما لم ينكروا ذلك لأن المعرفة الواجبة كانت حاصلةً لهم وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. قولهم: إن وجوب النظر يلزم منه وجوب الجهل بالله تعالى إنما يلزم ذلك أن لو كان الجهل مقدورا للعبد وهو غير مسلم. قولهم: يلزم منه الدور لا نسلم ذلك فإن الواجب الشرعي عندنا غير متوقف على النظر كما سبق في مسألة شكر المنعم. قولهم: إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتردي في الضلالات قلنا فاعتقاد من يقلده إما أن يكون عن تقليد أو نظر ضرورة امتناع كونه ضرورياً فإن كان الأول فالكلام فيمن قلده كالكلام فيه وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فالمحذور اللازم من النظر لازم في التقليد مع زيادة وهو احتمال كذب من قلده فيما أخبره به بخلاف الناظر مع نفسه فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره. قولهم إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم.قلنا: ذلك لا يدل على أنه أقرب إلى السلامة لأن التقليد في العقائد المضلة أكثر من الصحيحة على ما قال تعالى:" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الأنعام 116 وقال تعالى:" وقليل ما هم ص 24 وقال عليه السلام:" تفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقةً واحدة ناجية والباقي في النار" وإنما كان ذلك لأن أدلة الحق دقيقة غامضة لا يطلع عليها سوى أصحاب الأذهان الصافية والعقول الراجحة مع المبالغة في الجد والاجتهاد وذلك مما يندر ويقل وقوعه. قولهم: إن أدلة الأصول أخفى فكان التقليد فيها أولى من الفروع ليس كذلك فإن المطلوب في الأصول القطع واليقين بخلاف الفروع فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل من التقليد فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول. وبه يكون الجواب عن المعارضة الأخيرة أيضاً. المسألة الثانية العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد وان كان محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين. ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا لا يجوز ذلك الا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله. ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس. والمختار إنما هو المذهب الأول.ويدل عليه النص والإجماع والمعقول. أما النص فقوله تعالى:" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 وهو عام لكل المخاطبين ويجب أن يكون عاماً في السؤال عن كل ما لا يعلم بحيث يدخل فيه محل النزاع وإلا كان متناولاً لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض وهو خلاف الأصل. وإذا كان عاماً في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله فاسألوا الجواز وهو خلاف مذهب الخصوم. وأما الإجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقاً. وأما المعقول فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية إما أن لا يكون متعبدا بشيء وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم أو بالتقليد الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وبقوله عليه السلام:" لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهو عام في كل حرج وضرار ضرورة كونه نكرة في سياق النفي. غير أنا خالفناه في امتناع التقليد في أصول الدين لما بيناه من الفرق في مسألة امتناع التقليد في أصول الدين ولأن الوقائع الحادثة الفقهية أكثر بأضعاف كثيرة من المسائل الأصولية التي قيل فيها بامتناع التقليد فكان الحرج في إيجاب الاجتهاد فيها أكثر فبقينا فيما عدا ذلك عاملين بقضية الدليل وهو عام في المسائل الاجتهادية وغيرها. فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى:" وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهياً عنه وأيضاً. قوله تعالى حكاية عن قوم:" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم للتقليد والمذموم لا يكون جائزاً. وأما السنة فقوله عليه السلام:" طلب العلم فريضة على كل مسلم" وقوله عليه السلام:" اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له" والنصان عامان في الأشخاص وفي كل علم وهما يدلان على وجوب النظر. وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العامي لو كان مأموراً بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئاً في اجتهاده وأنه كاذب فيما أخبره به فيكون العامي مأموراً باتباع الخطإ والكذب وذلك على الشارع ممتنع. الثاني: أن الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما أخبر به لجاز ذلك في الأصول. والجواب عن الآية الأولى: أنها مشتركة الدلالة فإن النظر أيضاً والاجتهاد في المسائل الاجتهادية قول بما ليس بمعلوم ولا بد من سلوك أحد الأمرين. وليس في الآية دليل على تعيين امتناع أحدهما كيف ويجب حملها على ما لا يعلم فيما يشترط فيه العلم تقليلا لتخصيص العموم ولما فيه من موافقة ما ذكرناه من الأدلة. وعن الآية الثانية: بوجوب حملها على ذم التقليد فيما يطلب فيه العلم جمعا بينها وبين ما ذكرناه من الأدلة. وعن الخبر الأول: أنه متروك بالإجماع في محل النزاع فإن القائل فيه قائلان قائل بأن الواجب التقليد وقائل إن الواجب إنما هو النظر والعلم غير مطلوب فيهما إجماعاً.
وعن الثاني: لا نسلم دلالته على الوجوب على ما سبق تعريفه وإن دل على وجوب الاجتهاد لكنه لا عموم له بالنسبة إلى كل مطلوب حتى يدخل فيه محل النزاع وإن كان عاما بلفظه لكن يجب حمله على من له أهلية الاجتهاد جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة. وعن الوجه الأول: من المعقول أنه وإن اجتهد العامي فلا نأمن من وقوع الخطإ منه بل هو أقرب إلى الخطإ لعدم أهليته والمحذور يكون مشتركاً وعن الوجه الثاني: ما سبق من الفرق. المسألة الثالثة القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة بأن يراه منتصباً للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه وعلى امتناعه فيمن عرفه بالضد من ذلك. واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة. والحق امتناعه على مذهب الجمهور وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسؤول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول. ولا يخفى أن احتمال العامية قائم بل هو أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد نظراً إلى أن الأصل عدم ذلك وإلى أن الغالب إنما هو العوام وأن اندراج من جهلنا حالة تحت الأغلب أغلب على الظن. ولهذا امتنع قبول قول مدعي الرسالة وقبول قول الراوي والشاهد إذا لم يقم دليل على صدقه. فإن قيل: إذا لم يعرف العامي السائل عدالة المفتي فلا يخلو إما أن يقال إنه يجب عليه البحث عن عدالته أو لا يجب فإن قيل بالأول فهو خلاف ما الناس عليه في العادة من غير نكير وإن قيل بالثاني فلا يخفى أن احتمال عدم العدالة مقاوم لاحتمال العدالة وعند ذلك فاحتمال صدقه فيما يخبر به مقاوم لاحتمال كذبه. وعند ذلك إما أن يلزم من جواز الاستفتاء مع الجهل بالعدالة جوازه مع الجهل بالعلم أو لا يلزم فإن لم يلزم فما الفرق وإن لزم فهو المطلوب. قلنا: لا نسلم جريان العادة بما ذكروه عند إرادة الاستفتاء وعلى هذا فلا بد من السؤال عن العدالة بما يغلب على الظن من قول عدل أو عدلين. وإن سلمنا أنه لا يحتاج إلى البحث عن ذلك فالفرق ظاهر وذلك لأن الغالب من حال المسلم ولا سيما المشهور بالعلم والاجتهاد إنما هو العدالة وهو كاف في إفادة الظن ولا كذلك في العلم لأنه ليس الأصل في كل إنسان أن يكون عالما مجتهدا ولا الغالب ذلك. المسألة الرابعة إذا استفتى العامي عالما في مسألة فأفتاه ثم حدث مثل تلك الواقعة فهل يجب على المفتي أن يجتهد لها ثانياً ولا يعتمد على الاجتهاد الأول ؟ اختلفوا فيه فمنهم من قال لا بد من الاجتهاد ثانياً لاحتمال أن يتغير اجتهاده ويطلع على ما لم يكن اطلع عليه أولا. ومنهم من قال لا حاجة إلى اجتهاد آخر لأن الأصل عدم اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولا. والمختار إنما هو التفصيل وهو أنه إما أن يكون ذاكرا للاجتهاد الأول أو غير ذاكر له فإن كان الأول فلا حاجة إلى اجتهاد آخر كما لو اجتهد في الحال. وإن كان الثاني فلا بد من الاجتهاد لأنه في حكم من لم يجتهد. المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟ فمنع منه قوم كالحنابلة وغيرهم وجوزه آخرون وهو المختار وذلك لأنه لو امتنع لامتنع إما لذاته أو لأمر من خارج الأول محال فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلا وإن كان الثاني فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه. فإن قيل: دليل امتناعه النص والمعقول. أما النص فقوله عليه السلام:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال" وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال:" واشوقاه إلى إخواني! قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي إخواني قوم يأتون بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس" وأيضا قوله عليه السلام:" العلماء ورثة الأنبياء" وأحق الأمم بالوراثة هذه الأمة وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه نبي هذه الأمة. وأما المعقول فمن وجهين : الأول أن التفقه في الدين والاجتهاد فيه فرض على الكفاية بحيث إذا اتفق الكل على تركه أثموا.فلو جاز خلو العصر عمن يقوم به لزم منه اتفاق أهل العصر على الخطإ والضلالة وهو ممتنع لما سبق.
الثاني أن طريق معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد فلو خلا العصر عن مجتهد يمكن الاستناد إليه في معرفة الأحكام أفضى إلى تعطيل الشريعة واندراس الأحكام وذلك ممتنع لأنه على خلاف عموم ما سبق من النصوص. والجواب عما ذكروه من النصوص أنها معارضة بما يدل على نقيضها فمن ذلك قوله عليه السلام": بدىء الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ" وقوله عليه السلام:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وقوله عليه السلام:" تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى" وقوله عليه السلام:" لتركبن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة" وقوله ﷺ:" خير القرون القرن الذي أنا" فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم وإذا تعارضت النصوص سلم لنا ما ذكرناه من الدليل أولاً. وما ذكروه من الوجه الأول من المعقول فجوابه أن يقال متى يكون التفقه في الدين والتأهل للاجتهاد فرضاً على الكفاية في كل عصر إذا أمكن اعتماد العوام على الأحكام المنقولة إليهم في كل عصر عمن سبق من المجتهدين في العصر الأول بالنقل المغلب على الظن أو إذا لم يمكن الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك. وهذا هو الجواب عن الوجه الثاني من المعقول أيضاً. المسألة السادسة من ليس بمجتهد هل تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين كما هو المعتاد في زمننا هذا ؟ اختلفوا فيه فذهب أبو الحسين البصري وجماعة من الأصوليين إلى المنع من ذلك لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند غيره ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي وهو محال مخالف للإجماع.ومنهم من جوزه إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله. والمختار أنه إذا كان مجتهدا في المذهب بحيث يكون مطلعا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه وأقواله متمكن من الفرق والجمع والنظر والمناظرة في ذلك كان له الفتوى. تمييزاً له عن العامي ودليله انقطاع الإجماع من أهل كل عصر على قبول مثل هذا النوع من الفتوى وإن لم يكن كذلك فلا. المسألة السابعة إذا حدثت للعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها فإما أن يكون في البلد مفت واحد أو أكثر فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون فمنهم من قال لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين مصيراً منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى فكان المصير إليه أولى. وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء وسواء تساووا أو تفاضلوا وهو المختار. ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم ولهذا قال عليه السلام:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقال عليه السلام:" أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه ويتأيد ذلك بقوله عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى. المسألة الثامنة إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة فليس له الرجوع عنه إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره. وهل له اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر ؟ اختلفوا فيه: فمنهم من منع منه ومنهم من أجازه وهو الحق نظراً إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك ولو كان ذلك ممتنعاً لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت عن الإنكار عليه ولأن كل مسألة لها حكم نفسها فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى. وأما إذا عين العامي مذهباً معيناً كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال أنا على مذهبه وملتزم له فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل ؟ اختلفوا فيه: فجوزه قوم نظراً إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له ومنع من ذلك آخرون لأنه بالتزامه المذهب صار لازما له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة. والمختار إنما هو التفصيل وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها. القاعدة الرابعة في الترجيحات وتشتمل على مقدمة وبابين. أما المقدمة ففي بيان معنى الترجيح ووجوب العمل بالراجح وما فيه الترجيح. أما الترجيح فعبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر. فقولنا: اقتران أحد الصالحين احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما. وقولنا: مع تعارضهما احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه وهو عام للمتعارضين مع التوافق في الاقتضاء كالعلل المتعارضة في أصل القياس كما يأتي وللمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفياً وإثباتاً. وقولنا: بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية ولا مدخل له في التقوية والترجيح. وأما أن العمل بالدليل الراحح واجب فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختفلة على وجوب تقديم الراجح من الظنين وذلك كتقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله:" إنما الماء من الماء" وما روت عن النبي عليه السلام أنه كان يصبح جنباً وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام :"من أصبح جنباً فلا صوم له" لكونها أعرف بحال النبي عليه السلام. وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما. ويدل على ذلك أيضا تقرير النبي عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً على ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض كما سبق تقريره غير مرة ولأنه إذا كان أحد الدليلين راجحاً فالعقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراحج. والأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات العرفية.ولهذا قال عليه السلام:" ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول. أما النص فقوله تعالى:" فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار مطلقاً من غير تفصيل. وأيضا قوله عليه السلام:" نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" والدليل المرجوح ظاهر فجاز العمل به. وأما المعقول فهو أن الأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة والترجيح غير معتبر في البينات حتى إنه لا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين. قلنا: أما الآية فغايتها الأمر بالنظر والاعتبار وليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح فإن إيجاب أحد الأمرين لا ينافي إيجاب غيره. وأما الخبر فيدل على جواز العمل بالظاهر والظاهر هو ما ترجح أحد طرفيه على الآخر ومع وجود الدليل الراجح فالمرجوح المخالف له لا يكون راجحاً من جهة مخالفته للراجح فلا يكون ظاهراً فيه. وأما المعقول فلا نسلم امتناع الترجيح في باب الشهادة بل عندنا يقدم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا. وإن سلمنا أنه لا اعتبار بالترجيح في باب الشهادة فإنما كان لأن المتبع في ذلك إنما هو إجماع الصحابة.وقد ألف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب الشهادة. وأما ما فيه الترجيح فهي الطرق الموصلة إلى المطلوبات. وهي تنقسم إلى قطعي وظني. أما القطعي فلا ترجيح فيه لأن الترجيح لا بد وأن يكون موجباً لتقوية أحد الطريقين المتعارضين على الآخر. والمعلوم المقطوع به غير قابل للزيادة والنقصان فلا يطلب فيه الترجيح ولأن الترجيح إنما يكون بين متعارضين وذلك غير متصور في القطعي لأنه إما أن يعارضه قطعي أو ظني الأول محال لأنه يلزم منه إما العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو امتناع العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في النفي أو العمل بأحدهما دون الآخر ولا أولوية مع التساوي. والثاني أيضاً محال لامتناع ترجح الظني على القاطع وامتناع طلب الترجيح في القاطع كيف وإن الدليل القاطع لا يكون في مقابلته دليل صحيح فلم يبق سوى الطرق الظنية والطرق الظنية منقسمة إلى شرعية وعقلية وليس من غرضنا بيان العقلية بل الشرعية وهي إما أن تكون موصلة إلى الظن بأمر مفرد وهي الحدود أو الظن بأمر مركب وهي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال كما سبق تحقيقه. فلنرسم في ترجيحات كل واجد من الطريقين باباً. الباب الأول في ترجيحات الطرق الموصلة إلى التصديقات الشرعية. والتعارض إما أن يكون بين منقولين أو معقولين أو منقول ومعقول فلنرسم في كل واحد قسماً. القسم الأول في التعارض الواقع بين منقولين والترجيح بينهما منه ما يعود إلى السند ومنه ما يعود إلى المتن ومنه ما يعود إلى المدلول ومنه ما يعود إلى أمر من خارج. فأما ما يعود إلى السند فمنه ما يعود إلى الراوي ومنه ما يعود إلى ومنه ما يعود إلى المروي ومنه ما يعود إلى المروي عنه. فأما ما يعود إلى الراوي فمنه ما يعود إلى نفسه ومنه ما يعود إلى تزكيته. فأما ما يعود إلى نفس الراوي فترجيحات. الأول: أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر فما رواته أكثر يكون مرجحاً خلافا للكرخي لأنه يكون أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن. ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حتى ينتهي إلى القطع ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب بالزنى من أكبر الحدود وآكدها جعلت الشهادة عليه أكثر عدداً من غيره وأن النبي عليه السلام لم يعمل بقول ذي اليدين" أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر ولم يعمل أبو بكر بخبر المغيرة أن النبي ﷺ أطعم الجدة السدس حتى اعتضد بخبر محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى حتى اعتضد بخبر أبي سعيد الخدري. الثاني: أن يكون راوي أحد الحديثين مشهوراً بالعدالة والثقة بخلاف الآخر أو أنه أشهر بذلك فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى. الثالث: أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن. الرابع: أن يكون أحد الراويين حالة روايته ذاكرا للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر فهو أرجح لأنه يكون أبعد من السهو والغلط. الخامس: أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته. السادس: أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه بخلاف الآخر فرواية الأول تكون أولى السابع: أن يكون راوي أحد الخبرين مباشراً لما رواه والآخر غير مباشر فرواية المباشر تكون أولى لكونه أعرف بما روى وذلك كرواية أبي رافع أن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهو حلال فإنه يرجح على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام لأن أبا رافع كان هو السفير بينهما والقابل لنكاحها عن رسول الله. الثامن: أن يكون أحد الراويين هو صاحب القصة كما روت ميمونة أنها قالت: "تزوجني رسول الله ونحن حلالان" فإنها تقدم على رواية ابن عباس لكونها أعرف بحال العقد من غيرها لشدة اهتمامها خلافا للجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. التاسع: أن يكون أحد الراويين أقرب إلى النبي عليه السلام حال سماعه من الآخر فروايته تكون أولى وذلك كرواية ابن عمر إفراد النبي عليه السلام فإنها مقدمة على من روى أنه قرن لأنه ذكر أنه كان تحت ناقته حين لبى النبي عليه السلام وأنه سمع إحرامه بالإفراد. العاشر: إذا كان أحد الراويين من كبار الصحابة والآخر من صغارهم فرواية الأكبر أرجح لأن الغالب أنه يكون أقرب إلى النبي عليه السلام حالة السماع لقوله عليه السلام ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ولأن محافظته على منصبه مما يوجب التحرز عن الكذب أكثر من الصغير. الحادي عشر: إذا كان أحد الراويين متقدم الإسلام على الراوي الآخر فروايته أولى إذ هي أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام وتحريره فيه. الثاني عشر: أن يكون أحد الراويين فقيها والآخر غير فقيه أو هو أفقه وأعلم بالعربية فخبره يكون مرجحاً لكونه أعرف بما يرويه لتمييزه بين ما يجوز وما لا يجوز. الثالث عشر: أن يكون أحد الراويين أفطن وأذكى وأكثر تيقظاً من الآخر فروايته أولى لكثرة ضبطه. الرابع عشر: أن يكون أحد الراويين روايته عن حفظ والآخر عن كتاب فالراوي عن الحفظ أولى لكثرة ضبطه. الخامس عشر: إن كان أحد الراويين مشهور النسب بخلاف الآخر فروايته أولى لأن احترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة يكون أكثر. السادس عشر: إذا كان في رواة أحد الخبرين من يلتبس اسمه باسم بعض الضعفاء بخلاف الآخر فالذي لا يلتبس اسمه أولى لأنه أغلب على الظن. السابع عشر: أن يكون أحد الراويين قد تحمل الرواية في زمن الصبي والآخر في زمن بلوغه فرواية البالغ أولى لكثرة ضبطه. وأما ما يعود إلى التزكية فترجيحات. الأول: أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر من الآخر أو أن يكون المزكي له أعدل وأوثق فروايته مرجحة لأنها أغلب على الظن. الثاني: أن تكون تزكية أحدهما بصريح المقال والآخر بالرواية عنه أو بالعمل بروايته أو الحكم بشهادته فرواية من تزكيته بصريح المقال مرجحة على غيرها لأن الرواية قد تكون عمن ليس بعدل وكذلك العمل بما يوافق الرواية والشهادة قد تكون بغيرها وهو موافق لها ولا يكون ذلك بهما ولا كذلك التزكية بصريح المقال. الثالث: تزكية أحد الراويين بالحكم بشهادته والآخر بالرواية عنه فرواية المعمول بشهادته أولى لأن الاحتياط في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل أكثر منه في الرواية والعمل بها. ولهذا قبلت رواية الواحد والمرأة دون شهادتهما وقبلت رواية الفرع مع إنكار الأصل لها على بعض الآراء ومن غير ذكر الأصل بخلاف الشهادة. الرابع: أن تكون تزكية أحدهما بالعمل بروايته والآخر بالرواية عنه فالأول أرجح لأن الغالب من العدل أنه لا يعمل برواية غير العدل ولا كذلك في الرواية لأن كثيرا ما يروي العدل عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف في حاله. وبالجملة فاحتمال العمل برواية غير العدل أقل من احتمال الرواية عن غير العدل. واحتمال العمل بدليل غيره وإن كان قائماً إلا أنه بعيد عن البحث التام مع عدم الاطلاع عليه وأما ما يعود إلى نفس الرواية فترجيحات. الأول: أن يكون أحد الخبرين متواتراً والآخر آحاداً فالمتواتر لتيقنه أرجح من الآحاد لكون مظنوناً. الثاني: أن يكون أحد الخبرين مسندا والآخر مرسلا فالمسند أولى لتحقق المعرفة براويه والجهالة براوي الآخر.ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل ولا تقبل إذا شهد مرسلاً فإن قيل: الراوي إذا كان عدلاً ثقةً وأرسل الخبر فالغالب أن لا يكون إلا مع الجزم بتعديل من روي عنه وإلا كان ذلك تلبيساً على المسلمين وهو بعيد في حقه وهذا بخلاف ما إذا ذكر المروي عنه فإنه غير جازم بتعديله فكان المرسل أولى قلنا: التلبيس إنما يلزم بروايته عمن لم يذكره إذا لم يكن لي نفس الأمر عدلاً أن لو وجب اتباعه في قوله وإنما يجب اتباعه في قوله أن لو ظهرت عدالة الأصل وهو دور كيف وإنه لو كان ذلك تعديلاً منه فهو غير مقبول لكونه تعديلاً مطلقاً وإن كان مقبولاً فإنما يقبل إذا كان مضافاً إلى شخص معين لم يعرف بفسق. وأما إذا كان غير معين فلا لاحتمال أن يكون بحيث لو عينه لاطلعنا من حاله على فسق قد جهله الراوي. ثم ولو كان تعديلاً مقبولاً إلا أنه إذا كان مذكوراً مشهور الحال وقد عدل بمثل ذلك التعديل أو أعلى منه كان قبول قوله أولى وأغلب على الظن وعدم جزم الراوي بعدالة المروي عنه إذا كان مصرحاً به وجزمه بعدالة من سكت عن ذكره بعد أن ظهر تعديل المذكور بتعديل غيره لا يكون موجباً للترجيح بل من ظهرت عدالته بطريق متفق عليه يكون أولى ممن ظهرت عدالته بطريق مختلف فيه. الثالث: أن يكون أحد الخبرين من مراسيل التابعين والآخر من مراسيل تابعي التابعين فما هو من مراسيل التابعين أولى لأن الظاهر من التابعي أنه لا يروي عن غير الصحابي وعدالة الصحابة بما ثبت من ثناء النبي عليه السلام وتزكيته لهم في ظواهر الكتاب والسنة أغلب على الظن من العدالة في حق غيرهم من المتأخرين. ولهذا قال عليه السلام:" خير القرون القرن الذي أنا فيه" وقال عليه السلام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولم يرو مثل ذلك في حق غيرهم. الرابع: أن يكون أحدهما معنعناً وطريق ثبوت الآخر الشهرة مع عدم النكير أو الإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمعنعن أولى لأنه أغلب على الظن أما بالنسبة إلى الطريق الأول فلمساواته له في عدم النكير وزيادته عليه برواية العدل عن العدل وأما بالنسبة إلى الطريق الثاني فلأنه أسلم من الغلط والتلبيس وأبعد عن التبديل والتصحيف. الخامس: أن يكون أحدهما ثابتاً بطريق الشهرة والآخر بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمسند إلى كتب المحدثين أولى من جهة أن احتمال تطرق الكذب إلى ما دخل في صنعة المحدثين وإن لم يكن من كتبهم المشهورة بهم والمنسوبة إليهم أبعد من احتمال تطرقه إلى ما اشتهر وهو غير منسوب إليهم. ولهذا فإن كثيرا ما اشتهر مع كذبه ورد المحدثين له. السادس: أن يكون أحدهما مسنداً إلى كتاب موثوق بصحته كمسلم والبخاري والآخر مسنداً إلى كتاب غير مشهور بالصحة ولا بالسقم كسنن أبي داود ونحوها فالمسند إلى الكتاب المشهور بالصحة أولى. السابع: أن تكون رواية أحدهما بقراءة الشيخ عليه والآخر بقراءته هو على الشيخ أو بإجازته أو مناولته له أو بخط رآه في كتاب. فما الرواية فيه بقراءة الشيخ أرجح لأنه أبعد عن غفلة الشيخ عما يرويه. الثامن: أن تكون رواية أحدهما بالمناولة والآخر بالإجازة فالمناولة أولى لأن الإجازة غير كافية وهو أن يقول خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان وعند ذلك فتكون إجازة وزيادة. والإجازة تكون راجحة على رؤية الخط في الكتاب لأن الخطوط مما تشتبه ولا احتمال في نسبة لفظه إليه بالإجازة. وكذلك لو قال الشيخ هذا خطي فالإجازة تكون أولى لأن دلالة لفظ الشيخ على الرواية عمن روى عن أظهر من دلالة خطه عليها. وإذا كانت الإجازة أولى من الرواية عن الخط والمناولة أولى من الإجازة كانت المناولة أولى من الرواية عن الخط. التاسع: أن يكون أحد الخبرين أعلى إسناداً من الآخر فيكون أولى لأنه كلما قلت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب. العاشر: أن يكون أحد الخبرين قد اختلف في كونه موقوفاً على الراوي والآخر متفق على رفعه إلى النبي عليه السلام فالمتفق على رفعه أولى لأنه أغلب على الظن. الحادي عشر: أن تكون رواية أحد الخبرين بلفظ النبي والآخر بمعناه فرواية اللفظ أولى لكونها أضبط وأغلب على الظن بقول الرسول.
الثاني عشر: أن تكون إحدى الروايتين بسماع من غير حجاب والأخرى مع الحجاب وذلك كرواية القاسم بن محمد عن عائشة من غير حجاب لكونها عمة له أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا فإنها تقدم على رواية أسود عنها أن زوجها كان حراً لسماعه عنها مع الحجاب لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية مع الحجاب في السماع وزادت تيقن عين المسموع منه. الثالث عشر: إذا كانت إحدى الروايتين قد اختلفت دون الأخرى فالتي لا اختلاف فيها أولى لبعدها عن الاضطراب. وأما ما يعود إلى المروي فترجيحات. الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي عليه السلام والرواية الأخرى عن كتاب فرواية السماع أولى لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط. الثاني: أن تكون إحدى الروايتين عن سماع من النبي عليه السلام والأخرى عما جرى في مجلسه أو زمانه وسكت عنه فرواية السماع أولى لكونها أبعد عن غفلة النبي عليه السلام وذهوله بخلاف الرواية عما جرى في مجلسه وسكت عنه فرواية السماع أولى مما جرى في زمانه خارجا عن مجلسه. الثالث: أن تكون إحدى الروايتين عما خطره مع السكوت عنه أعظم من خطر المسكوت عنه في الرواية الاخرى فما خطره أعظم يكون أرجح لكون السكوت عنه أغلب على الظن في تقريره. الرابع: أن تكون إحدى الروايتين عن صيغة النبي عليه السلام والأخرى عن فعله فرواية الصيغة تكون راجحة لقوة دلالتها وضعف الفعل. ولهذا أن من خالف في دلالة الفعل وجواز الاحتجاج به لم يخالف في الصيغ لأن ما يفعله النبي عليه السلام إلى الاختصاص به أقرب من اختصاصه بمدلول الصيغة ولأن تطرق الغفلة إلى الإنسان في فعله أكثر منها في كلامه ولهذا قلما يتكلم الإنسان غافلاً بخلاف الفعل. الخامس: أن يكون أحدهما خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى بخلاف الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله قريب من الكذب وذلك كمن تفرد بنقل قتل الملك في وسط السوق بمشهد من الخلق.ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله. وأما ما يعود إلى المروي عنه فترجيحات. الأول: أن يكون أحد الراويين قد روى عمن أنكر روايته عنه كما في حديث الزهري بخلاف الراوي الآخر فما لم يقع فيه إنكار المروي عنه يكون أرحج لكونه أغلب على الظن. الثاني: أن يكون الأصل في أحد الخبرين قد أنكر رواية الفرع عنه إنكار نسيان ووقوف والآخر إنكار تكذيب وجحود فالأول أولى لأن غلبة الظن بالرواية عنه أكثر من غلبة الظن بالثاني. وأما الترجيحات العائدة إلى المتن. الأول: منها أن يكون أحدهما أمراً والآخر نهياً فالنهي من حيث هو نهي مرجح على الأمر لثلاثة أوجه. الأول أن الطلب فيه الترك أشد.ولهذا لو قدر كون كل واحد منهما مطلقاً فإن أكثر من قال بالخروج عن عهدة الأمر بالفعل مرة واحدة نازع في النهي. الثاني: أن محامل النهي وهي تردده بين التحريم والكراهة لا غير أقل من محامل الأمر لتردده بين الوجوب والندب والإباحة على بعض الآراء. الثالث: أن الغالب من النهي طلب دفع المفسدة ومن الأمر طلب تحصيل المصلحة واهتمام العقلاء بدفع المفاسد أكثر من اهتمامهم بتحصيل المصالح. الترجيح الثاني: أن يكون أحدهما آمراً والآخر مبيحاً فالآمر وإن ترجح على المبيح نظراً إلى أنه إن عمل به لا يصير مخالفاً للمبيح ولا كذلك بالعكس لاستواء طرفي المباح وترجح جانب المأمور به إلا أن المبيح يترجح على الآمر من أربعة أوجه : الأول: أن مدلول المبيح متحد ومدلول الآخر متعدد كما سبق تعريفه فكان أولى. الثاني: أن غاية ما يلزم من العمل بالمبيح تأويل الآخر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد والعمل بالآمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية والتأويل أولى من التعطيل. الثالث: أن المبيح قد يمكن العمل بمقتضاه على تقديرين على تقدير مساواته للآمر ورجحانه والعمل بمقتضى الآمر متوقف على الترجيح وما يتم العمل به على تقديرين يكون أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد. الرابع: أن العمل بالمبيح بتقدير أن يكون الفعل مقصوداً للمكلف لا يختل لكونه مقدوراً له والعمل بالآخر يوجب الإخلال بمقصود الترك بتقدير كون الترك مقصوداً له.
الترجيح الثالث: أن يكون أحدهما أمراً والآخر خبراً فالخبر يكون راجحاً لثلاثة أوجه. الأول: أن مدلول الخبر متحد بخلاف الأمر على ما سبق فكان أولى لبعده عن الاضطراب. الثاني: أن الخبر أقوى في الدلالة ولهذا امتنع نسخه على بعض الآراء بخلاف الأمر. الثالث: أن العمل يلزمه محذور الكذب في الخبر من كلام الشارع وهو فوق المحذور اللازم من فوات مقصود الأمر فكان الخبر أولى. الترجيح الرابع: أن يكون أحدهما ناهياً والآخر مبيحاً فالمبيح يكون مقدماً على ما عرف في الأمر. الخامس: أن يكون أحدهما نهياً والآخر خبراً فالخبر مقدم على النهي على ما عرف في الأمر أيضاً. السادس: أن يكون أحدهما مبيحاً والآخر خبراً فالخبر مقدم لما سبق في الوجه الثاني والثالث في الأمر إذا عارض الخبر. السابع: أن يكون أحدهما مشتركاً والآخر غير مشترك بل متحد المدلول فما اتحد مدلوله أولى لبعده عن الخلل. الثامن: أن يكون مدلول أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً فالحقيقي أولى لعدم افتقاره إلى القرنية المخلة بالتفاهم. التاسع: أن يكونا مشتركين إلا أن مدلولات أحدهما أقل من مدلولات الآخر فالأول أولى لقلة اضطرابه وقرب استعماله فيما هو المقصود منه. العاشر: أن يكونا مجازين إلا أن أحدهما منقول مشهور في محل التجوز كلفظ الغائط بخلاف الآخر فالمنقول أولى لعدم افتقاره إلى القرنية. الحادي عشر: أن يكون المصحح للتجوز في أحدهما أظهر وأشهر من الآخر فهو أولى الثاني عشر: أن يكون لفظ أحدهما مشتركاً والآخر مجازاً غير منقول وقد ذكرنا ما يستحقه كل واحد منهما من الترجيح في الأمر بطريق الاستقصاء فعليك باعتباره والالتفات إليه. الثالث عشر: أن يكونا حقيقيين إلا أن أحدهما أظهر وأشهر فالأظهر مرجح. الرابع عشر: أن تكون إحدى الحقيقتين متفقاً عليها والأخرى مختلفا فيها فالمتفق عليه أولى لأنه أغلب على الظن. الخامس عشر: أن تكون دلالة أحدهما غير محتاجة إلى إضمار ولا حذف بخلاف الأخرى فالذي لا يحتاج إلى ذلك أولى لقلة اضطرابه. السادس عشر: أن يكون أحدهما يدل على مدلوله بالوضع الشرعي والآخر بالوضع اللغوي وكل واحد منهما مستعمل في الشرع فها هنا يظهر أن العمل باللفظ اللغوي يكون أولى لأنه من لسان الشارع مع كونه مقرراً لوضع اللغة وما هو عرفه ومصطلحه وإن كان من لسانه إلا أنه مغير للوضع اللغوي ولا يخفى أن العمل بما هو من لسان الشارع من غير تغيير أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير ولأنه أبعد عن الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أطلق لفظا واحداً وكان له مدلول لغوي وقد استعاره الشارع في معنى آخر وصار عرفا له فإنه مهما أطلق الشارع ذلك اللفظ فيجب تنزيله على عرفه الشرعي دون اللغوي لأن الغالب من الشارع أنه إذا أطلق لفظا وله موضوع في عرفه أنه لا يريد به غيره. السابع عشر: أن يكون العمل بأحدهما يلزم منه الجمع بين مجازين والآخر لا يلزم منه غير مجاز واحد فالذي فيه مجاز واحد أولى لأنه أبعد عن الاضطراب وأقرب إلى الأصل. الثامن عشر: أن يكون أحدهما دالاً على مطلوبه من وجهين أو أكثر والآخر لا يدل إلا من جهة واحدة فالذي كثرت جهة دلالته أولى لأنه أغلب على الظن. التاسع عشر: أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة دون الأخرى فالمؤكدة أولى لأنه أقوى دلالة وأغلب على الظن وذلك كما في قوله عليه السلام:" فنكاحها باطل باطل باطل ". العشرون: أن تكون دلالة أحدهما على مدلوله بطريق المطابقة والآخر بدلالة الالتزام فدلالة المطابقة أولى لأنها أضبط. الحادي والعشرون: أن يكونا دالين بجهة الاقتضاء إلا أن العمل بأحدهما في مدلوله ضرورة صدق المتكلم أو لضرورة وقوع الملفوظ به عقلا والآخر لضرورة وقوع الملفوظ به شرعاً كما سبق تعريفه فما يتوقف عيله صدق المتكلم فوقوع الملفوظ به عقلاً أولى نظراً إلى بعد الخلف في كلام الشارع وامتناع مخالفة المعقول وقرب المخالفة في المشروع.
الثاني والعشرون: أن يكونا دالين بجهة التنبيه والإيماء إلى أن أحدهما لو لم يقدر كون المذكور فيه علة للحكم المذكور معه كان ذكره عبثاً وحشواً والآخر من قبيل ما رتب فيه الحكم على الوصف بفاء التعقيب فالذي لو لم يقدر فيه التعليل كان ذكره عبثاً أولى من الآخر نظراً إلى محذور العبث في كلام الشارع وإلغاؤه أتم من محذور المخالفة الدلالة حرف الفاء على التعليل وإمكان تأويلها بغير السببية بل وهو أولى من سائر أنواع التنبيه والإيماء لما ذكرناه من زيادة المحذور وما دل على العلية بفاء التعقيب لظهورها مقدم على ما عداه من باقي أقسام التنبيه والإيماء. الثالث والعشرون: أن يكونا دالين بجهة المفهوم إلا أن أحدهما من قبيل مفهوم المخالفة والآخر من قبيل مفهوم الموافقة فقد يمكن ترجيح مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة من جهة أنه متفق عليه ومختلف في مقابله وقد يمكن ترجيح مفهوم المخالفة عليه من وجهين الأول أن فائدة مفهوم المخالفة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع فكان مفهوم المخالفة أولى الثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان وجوده في محل السكوت وأن اقتضاءه للحكم في محل السكوت أشد. وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربعة أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد. الرابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء ودلالة الآخر من قبيل دلالة الإشارة فدلالة الاقتضاء أولى لترجحها بقصد المتكلم لها بخلاف دلالة الإشارة. الخامس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة التنبيه والإيماء فدلالة الاقتضاء أولى لتوقف صدق المتكلم أو مدلول منطوقه عليه بخلاف دلالة التنبيه والإيماء. السادس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة المفهوم فدلالة الاقتضاء أولى لوقوع الاتفاق عليها ووقوع الخلاف في مقابلها ولأن ما يعترض دلالة الاقتضاء من المبطلات أقل مما يعترض المفهوم وبهذا كان ما كان من قبيل دلالة التنبيه والإيماء مقدماً على دلالة المفهوم. السابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل المنطوق والآخر من قبيل دلالة غير المنطوق فالمنطوق أولى لظهور دلالته وبعده عن الالتباس بخلاف مقابله. الثامن والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً فالخاص مقدم على العام لثلاثة أوجه الأول أنه أقوى في الدلالة وأخص بالمطلوب الثاني أن العمل بالعام يلزم منه إبطال دلالة الخاص وتعطيله ولا يلزم من العمل بالخاص تعطيل العام بل تأويله وتخصيصه ولا يخفى أن محذور التعطيل فوق محذور التأويل. الثالث أن ضعف العموم بسبب تطرق التخصيص إليه وضعف الخصوص بسبب تأويله وصرفه عن ظاهره إلى مجازه ولا يخفى أن تطرق التخصيص إلى العمومات أكثر من تطرق التأويل إلى الخاص ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصةً وأكثر الظواهر الخاصة مقررة وبهذا يكون المطلق الدال على واحد لا بعينه مرجحاً على العام. التاسع والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً مخصصاً والآخر غير مخصص فالذي لم يدخله التخصيص أولى لعدم تطرق الضعف إليه وعلى هذا فما كان عاماً من وجه وخاصا من وجه يكون مرجحاً على ما هو عام من كل وجه وكذلك المطلق من وجه والمقيد من وجه مرجح على ما هو مطلق من كل وجه وما هو منطوق من كل وجه مقدم على ما هو حقيقي من وجه دون وجه. الثلاثون: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما من قبيل الشرط والجزاء والآخر من قبيل النكرة المنفية فقد يمكن ترجح دلالة الشرط والجزاء لكون الحكم فيه معللاً بخلاف النكرة المنفية والمعلل أولى من غير المعلل وقد يمكن ترجح دلالة نفي النكرة بأن دلالته أقوى. ولهذا كان خروج الواحد منه يعد خلفاً في الكلام عند ما إذا قال لا رجل في الدار وكان فيها رجل بخلاف مقابله وبهذا تكون دلالة النكرة المنفية أولى من جميع أقسام العموم.
الحادي والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الشرط والجزاء والآخر من قبيل أسماء الجموع فالأول أولى لأن أكثر من خالف في صيغ العموم وافق على صيغة الشرط والجزاء ولأن الدلالة فيه مشيرة إلى الحكم والعلة بخلاف مقابله وبهذا يكون أولى من باقي أقسام العموم. الثاني والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل الجمع المعرف والآخر جمع منكر فالمعرف أولى لوجهين الأول أن بعض من وافق على عموم الجمع المعرف خالف في المنكر فكان أقوى لقربه إلى الوفاق. الثاني أنه لا يدخله الإبهام بخلاف المنكر فكان أولى وربما رجح المنكر بكونه دالا على عدد أقل من الجمع المعرف فكان أقرب إلى الخصوص فكان أولى. الثالث والثلاثون: أن يكون أحدهما اسم جمع معرف والآخر اسم جنس دخله الألف واللام فاسم الجمع أولى لإمكان حمل اسم الجنس على الواحد المعهود بخلاف الجمع المعرف فكان أقوى عموما وبهذا يكون مقدما على من و ما فمن وما أولى لعدم احتمالهما للعهد واحتمال ما قابلهما له. الرابع والثلاثون: أن يكون أحد الظاهرين مضطرباً في لفظه بخلاف الآخر فغير المضطرب أولى لأنه أدل على الحفظ والضبط. الخامس والثلاثون: أن يكون أحدهما قد دل على الحكم وعلته والآخر دل على الحكم دون علته فالدال على العلة أولى لأنه أقرب إلى الإيضاح والبيان. السادس والثلاثون: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً فالقول أولى لأنه أبلغ في البيان من الفعل وإن كان أحدهما قولاً وفعلاً والآخر قول فقط فالقول والفعل أولى لأنه أقوى في البيان. السابع والثلاثون: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لم يتعرض الآخر لها كرواية من روى أنه عليه السلام كبر في صلاة العيد سبعا فإنها مقدمة على رواية من روى أربعاً لاشتمالها على زيادة علم خفي على الآخر. الثامن والثلاثون: أن يكون أحد المنقولين الظاهرين إجماعاً والآخر نصاً وسواء كان من الكتاب أو السنة فالإجماع مرجح لأن النسخ مأمون فيه بخلاف النص. التاسع والثلاثون: أن يكونا إجماعين ظاهرين إلا أن أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر والآخر لم يدخل فيه سوى أهل الحل والعقد فالذي دخل فيه الجميع أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف فيه. الأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه مع أهل الحل والعقد الفقهاء الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فقهاء وخرج عنه العوام والآخر بالعكس فالأول أولى لقربهم من المعرفة والإحاطة بأحكام الشرع واستنباطها من مداركها وبهذا المعنى يكون أيضاً ما دخل فيه الأصولي الذي ليس بفقيه ولم يدخل فيه الفقيه أولى مما هو بالعكس لأن الأصولي أعرف بمدارك الأحكام وكيفية تلقي الأحكام من المنطوق والمفهوم والأمر والنهي وغيره الحادي والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع الذي ليس بكافر بخلاف الآخر فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى لأن الظاهر من حاله الصدق ولأنه أبعد عن الخلاف. الثاني والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع دون العوام والفروعيين الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فروعيين والآخر بعكسه فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى إذ الخلل في قوله إنما هو من جهة كذبه فيما يقول والخلل في قول من عداه من المذكورين إنما هو من جهله وعدم إحاطته وعدم كماله. ولا يخفى أن احتمال وقوع الخلل بجهة الكذب من الفاسق لحرمته وتعلق الإثم به أنذر من الخلل الناشىء بسبب الجهل وعدم الإحاطة. الثالث والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين من الصحابة والآخر من التابعين فإجماع الصحابة أولى للثقة بعدالتهم وبعد تقاعدهم عن تحقيق الحق وإبطال الباطل وغلبة جدهم وكثرة اجتهادهم في تمهيد أحكام الشريعة ولأنه أبعد عن خلاف من خالف في إجماع غير الصحابة. وعلى هذا فإجماع التابعين يكون مقدماً على إجماع من بعدهم لقربهم من العصر الأول ولقوله عليه السلام:" خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه" فإجماعهم يكون أغلب على الظن. الرابع والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين قد انقرض عصره بخلاف الآخر فما انقرض عصره يكون أولى لاستقراره وبعده عن الخلاف.
الخامس والأربعون: أن يكون أحدهما مأخوذاً عن انقسام الأمة في مسألة من المسائل على قولين في أنه إجماع على نفي قول ثالث والإجماع الآخر على إثبات القول الثالث فالإجماع على إثباته أولى لأنه أبعد عن اللبس وعما يقوله المنازع في الأول من وجوه القدح ويبديه من الاحتمالات. السادس والأربعون: أن يكون أحدهما مسبوقاً بالمخالفة بخلاف الآخر فالذي لم يسبق بالمخالفة أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف. السابع والأربعون: أن يكون أحدهما قد رجع بعض المجتهدين فيه عما حكم به موافقا للباقين لدليل ظهر له بخلاف الآخر فما لم يرجع فيه بعض المجتهدين أولى لبعده عن المناقضة والخلاف فيه. الثامن والأربعون: أن يكون أحدهما إجماع الصحابة إلا أنه لم يدخل فيه غير المجتهدين والآخر من إجماع التابعين إلا أنه قد دخل فيه جميع أهل عصرهم فإجماع الصحابة أولى للوثوق بعدالتهم وزيادة جدهم كما سبق تقريره وفي معنى هذا يكون قد رجع واحد من الصحابة عن الواقعة بخلاف التابعين. التاسع والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر إلا أنه لم ينقرض عصرهم والآخر بالعكس فما دخل فيه جميع أهل العصر أولى لأن غلبة الظن فيه متيقنة واحتمال الرجوع بسبب عدم انقراض العصر موهوم وفي معناه أن يكون ما لم ينقرض عصره قد دخل فيه المجتهد المبتدع أو الأصولي الذي ليس فروعياً أو الفروعي الذي ليس بأصولي والآخر بخلافه. الخمسون: أن يكون أحدهما غير مأخوذ من انقسام الأمة على قولين كما سبق إلا أنه ينقرض عصره والآخر بعكسه فالأول أولى نظراً إلى أن جهة الإجماع فيه أقوى بيقين أو رجوع الواحد عنه قبل انقراض العصر موهوم وفي معناه ما إذا كان أحد الإجماعين قد انقرض عصره إلا أنه مسبوق بالمخالفة والآخر بعكسه. الحادي والخمسون: أن يكون أحد الإجماعين مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين إلا أنه غير مسبوق بمخالفة بعض المتقدمين والآخر بعكسه فالذي لم يكن مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين أولى لقوة الإجماع فيه. وأما الترجيحات العائدة إلى المدلول. الأول: منها أن يكون حكم أحدهما الحظر والآخر الإباحة وهذا مما اختلف فيه فذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط. والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن ملابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المباح فكان أولى بالاحتياط. ولهذا فإنه لو اجتمع في العين الواحدة حظر وإباحة كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل قدم التحريم على الإباحة وكذلك إذا طلق بعض نسائه بعينها ثم أنسيها حرم وطء الجميع تقديما للحرمة على الإباحة وإليه الإشاره بقوله عليه السلام:" ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال" وقال عليه السلام:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" غير أنه قد يمكن ترجيح ما مقتضاه الإباحة من جهة أخرى وهي أنا لو عملنا بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة من الترك مطلقاً ولو عملنا بما مقتضاه الإباحة فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر لأن الغالب أنه إذا كان حراما فلا بد وأن تكون المفسدة ظاهرة وعند ذلك فالغالب أن الملكف يكون عالماً بها وقادراً على دفعها لعلمه بعدم لزوم المحذور من ترك المباح ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعاً بخلاف استفادة الحرمة من النهي لتردده بين الحرمة والكراهة فكان أولى وعلى هذا فلا يخفى وجه الترجيح بين ما مقتضاه الحرمة وما مقتضاه الندب. الثاني: أن يكون مدلول أحدهما الحظر والآخر الوجوب فما مقتضاه التحريم أولى لوجهين: الأول هو أن الغالب من الحرمة إنما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها وفي الوجوب تحصيل مصلحة ملازمة للفعل أو تكميلها واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفاسد أتم من اهتمامهم بتحصيل المصالح. ولهذا فإن من أراد فعلاً لتحصيل مصلحة ينفر عنه إذا عارضه في نظرة لزوم مفسدة مساوية للمصلحة كمن رام تحصيل درهم على وجه يلزم منه فوات مثله وإذا كان ما هو المقصود من التحريم أشد وآكد منه في الواجب كانت المحافظة عليه أولى. ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه من فعل المحرمات أكثر من ترك الواجبات وأشد كالرجم المشروع في زنا المحصن.
الوجه الثاني أن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده فكانت المحافظة عليه أولى. وذلك لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك وذلك كاف مع القصد له أو مع الغفلة عنه ولا كذلك فعل الواجب. وأيضاً فإن ترك الواجب وفعل المحرم إذا تساويا في داعية الطبع إليهما فالترك يكون أيسر وأسهل من الفعل لتضمن الفعل مشقة الحركة وعدم المشقة في الترك.وما يكون حصول مقصوده أوقع يكون أولى بالمحافظة عليه. الثالث: أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة فالحظر أولى لمساواته الكراهة في طلب الترك وزيادته عليه بما يدل على اللوم عند الفعل ولأن المقصود منهما إنما هو الترك لما يلزمه من دفع المفسدة الملازمة للفعل والحرمة أوفى لتحصيل ذلك المقصود فكانت أولى بالمحافظة. وأيضاً فإن العمل بالمحرم لا يلزم منه إبطال دلالة المقتضي للكراهة وهو طلب الترك والعمل بالمقتضي للكراهة مما يجوز معه الفعل وفيه إبطال دلالة المحرم ولا يخفى أن العمل بما لا يفضي إلى الإبطال يكون أولى وبما حققناه في ترجيح المحرم على المقتضي للكراهة يكون ترجيح الموجب على المقتضي للندب. الرابع: أن يكون حكم أحدهما إثباتاً والآخر نفياً وذلك كخبر بلال بأن النبي عليه السلام دخل البيت وصلى وخبر أسامة أنه دخل ولم يصل فالنافي مرجح على المثبت خلافاً للقاضي عبد الجبار في قوله إنهما سواء. والمثبت وإن كان مترجحاً على النافي لاشتماله على زيادة علم غير أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس وفائدة التأسيس أولى لما سبق تقريره فكان القضاء بتأخيره أولى. فإن قيل: إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ورفع حكمه دون تقدمه. قلنا: هو معارض بمثله فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافياً لحكمه ورافعاً له. فإن قيل: المثبت وإن كان رافعاً لحكم النافي على تقدير تأخره عنه فرافع لما فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلاً لما فائدته التأسيس فكان فرض تأخر المثبت أولى. قلنا: إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعاً لحكم تأسيسي وهو الباقي على الحال الأصلي وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ولا كذلك ما لو كان النافي متأخراً فإنه لا يرفع غير التأسيس وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معاً وما يقال من أن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق والنافي غير مجمع على إفادته لحكم شرعي. والغالب من الشارع أنه لا يتولى بيان غير الشرعي فمع أنه غير سديد من جهة أن الحكم الشرعي غير مقصود لذاته وإنما هو مقصود لحكمته لكونه وسيلة إليها وحكمة الإثبات وإن كانت مقصودة فكذلك حكمة النفي فهو معارض من جهة أن الغالب من الشارع على ما هو المألوف منه إنما هو التقرير لا التغيير وعلى هذا فالحكم للنفي الأصلي يكون أولى من المغير. الخامس: أن يكون حكم أحدهما معقولاً والآخر غير معقول فما حكمه غير معقول وإن كان الثواب بتلقيه أكثر لزيادة مشقته كما نطق به الحديث إلا أن مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتم مما ليس بمعقول نظراً إلى سهولة الانقياد وسرعة القبول وما شرعه أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع يكون أولى. ولهذا كان شرع المعقول أغلب من شرع غير المعقول حتى إنه قد قيل إنه لا حكم إلا وهو معقول حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما ظن أنه غير معقول ولأن ما يتعلق بالمعقول من الفائدة بالنظر إلى محل النص بالتعدية والإلحاق أكثر منه في غير المعقول فكان أولى وما كانت جهة تعقله أقوى كما يأتي وجه التفصيل فيه في العلل فهو أولى.
السادس: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لا وجود لها في الآخر كموجب الجلد مع الموجب للجلد والتغريب فالموجب للزيادة يكون أولى لأن العمل بالزيادة غير موجب لإبطال منطوق الآخر فيما دل عليه من وجوب الجلد وإجزائه عن نفسه والعمل بالموجب للجلد فقط موجب لإبطال المنطوق في الدلالة على وجوب الزيادة وما لا يفضي إلى إبطال حكم الدليل أولى مما يفضي إلى الإبطال ولأن دلالة الموجب للجلد على نفي الزيادة غير مأخوذة من منطوق اللفظ ووجوب الزيادة مأخوذ من منطوق اللفظ ومخالفة ما ليس بمنطوق بالمنطوق أولى من العكس لما تقدم. السابع: أن يكون موجب أحدهما الجلد والآخر الدرء فالدارىء يكون أولى نظراً إلى ما حققناه في ترجيح ما حكمه النفي على ما حكمه الإثبات ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطإ في تحقيقها على ما قال عليه السلام :"لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة" ولأن ما يعترض الحد من المبطلات أكثر مما يعترض الدرء فكان أولى لبعده عن الخلل وقربه إلى المقصود ولأنه على خلاف الدليل النافي للحد والعقوبة. الثامن: أن يكون حكم أحدهما وقوع الطلاق أو العتق وحكم الآخر نفيه قال الكرخي ما حكمه الوقوع أولى لأنه على وفق الدليل النافي لملك البضع وملك اليمين والنافي لهما على خلافه ويمكن أن يقال بل النافي لهما أولى لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النفي له. التاسع: أن يكون حكم أحدهما تكليفياً وحكم الآخر وضعيا فالتكليفي وإن اشتمل على زيادة الثواب المرتبط بالتكليف وكان لأجله راجحا فالوضعي من جهة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل يكون مترجحاً. العاشر: أن يكون حكم أحدهما أخف من الآخر فقد قيل إن الأخف أولى لأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى:" يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وقال تعالى:" ما جعل عليكم في الدين من حرج" الحج 78 وقال عليه السلام:" لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقيل إن الأثقل أولى نظراً إلى الشرعية إنما يقصد بها مصالح المكلفين والمصلحة في الفعل الأشق أعظم منها في الفعل الأخف على ما قال عليه السلام:" ثوابك على قدر نصبك" ولأن الغالب على الظن إنما هو تأخره عن الأخف نظراً إلى المألوف من أحوال العقلاء فإن من قصد تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ولم يحصل به لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه بل بما هو أعلى منه فبتقدير تقدم الأخف على الأثقل يكون موافقا لنظر أهل العرف فكان أولى ولأن زيادة ثقله تدل على تأكد المقصود منه على مقصود الأخف فالمحافظة عليه تكون أولى. الحادي عشر: أن يكون كل واحد من الخبرين خبراً واحداً إلا أن حكم أحدهما مما تعم به البلوى بخلاف حكم الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله أقرب إلى الكذب كما تقرر قبل ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله. وأما الترجيحات العائدة إلى أمر خارج. الأول: منها أن يكون أحد الدليلين موافقاً لدليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو عقل أو حسً والآخر على خلافه فما هو على وفق الدليل الخارج أولى لتأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ولأن العمل به وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أولى مما يلزم منه مخالفة دليلين. الثاني: أن يكون أحدهما قد عمل بمقتضاه علماء المدينة أو الأئمة الأربعة أو بعض الأمة بخلاف الآخر فما عمل به يكون أولى أما ما عمل به أهل المدينة فلأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل وكذلك الأئمة والخلفاء الراشدون لحث النبي عليه السلام على متابعتهم والاقتداء بهم على ما سبق تعريفه وذلك يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته عن المعارض وعلى هذا أيضا ما عمل بمقتضاه بعض الأمة يكون أغلب على الظن فكان أولى وفي معنى هذا أن يعتضد كل واحد منهما بدليل غير أن ما عضد أحدهما راجح على ما عضد الآخر أو أن يعمل بكل واحد منهما بعض الأمة غير أن من عمل بأحدهما أعرف بمواقع الوحي والتنزيل فيكون أولى.
الثالث: أن يكون كل واحد منهما مؤولاً إلا أن دليل التأويل في أحدهما أرجح من دليل التأويل في الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن. الرابع: أن يكون أحدهما دالا على الحكم والعلة والآخر على الحكم دون العلة فما يدل على العلة يكون أولى لقربه إلى المقصود بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ولدلالته على الحكم من جهة لفظه ومن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة وما دل على الحكم بجهتين يكون أولى ولأن العمل به يلزمه مخالفة ما قابله من جهة واحدة والعمل بالمقابل يلزم منه مخالفة الدليل الآخر على الحكم من جهتين فكان أولى وربما رجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم إلا أنه مرجوح بالنظر إلى مقصود التعقل ولذلك كان هو الأغلب. الخامس: أن يدل كل واحد منهما على الحكم والعلة إلا أن دلالة أحدهما على العلية أقوى من دلالة الآخر عليها كما بيناه فيما تقدم فالأقوى يكون أولى لكونه أغلب على الظن. السادس: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما ورد على سبب خاص بخلاف الآخر وعند ذلك فتعارضهما إما أن يكون بالنسبة إلى ذلك السبب الخاص أو بالنسبة إلى غيره فإن كان الأول فالوارد على ذلك السبب يكون أولى لكونه أمر به ولأن محذور المخالفة فيه نظراً إلى أن تأخير البيان عما دعت الحاجة إليه يكون أتم من المحذور اللازم من المخالفة في الآخر لكونه غير وارد فيها. وإن كان الثاني فالعام المطلق يكون أولى لأن عمومه أقوى من عموم مقابله لاستوائهما في صيغة العموم وغلبة الظن بتخصيص ما ورد على الواقعة بها نظراً إلى بيان ما دعت الحاجة إليه وإلى أن الأصل إنما هو مطابقة ما ورد في معرض البيان لما مست إليه الحاجة ولأن ما ورد على السبب الخاص مختلف في تعميمه عند القائلين بالعموم بخلاف مقابله وعلى هذا فمحذور المخالفة في العام المطلق يكون أشد. السابع: أن يكون أحدهما قد وردت به المخاطبة على سبيل الإخبار بالوجوب أو التحريم أو غيره كما في قوله تعالى": والذين يظاهرون منكم من نسائهم " المجادلة 2 أو في معرض الشرط والجزاء كما في قوله تعالى:" ومن دخله كان آمناً " آل عمران 98 والآخر وردت المخاطبة به شفاها كما في قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " البقرة 183. فإن تقابلا في حق من وردت المخاطبة إليه شفاها فخطاب المشافهة أولى وإن كان ذلك بالنظر إلى غير من وردت المخاطبة إليه شفاها كان الآخر أولى لما حققناه في معارضة العام المطلق والوارد على السبب المعين ولأن الخطاب شفاهاً إنما يكون للحاضر من الموجودين وتعميمه بالنسبة إلى غيرهم إنما يكون بالنظر إلى دليل آخر إما من إجماع الأمة على أنه لا تفرقة أو من قوله عليه السلام:" حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ". الثامن: أن يكون أحدهما مما يجوز تطرق النسخ إليه أو قد اختلف في تطرق النسخ إليه بخلاف الآخر فالذي لا يقبل النسخ يكون أولى لقلة تطرق الأسباب الموهية إليه. التاسع: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما قد اتفق على العمل به في صورة بخلاف الآخر فما اتفق على العمل به وإن كان قد يغلب على الظن زيادة اعتباره إلا أن العمل بما لم يعمل به في صورة متفق عليها أولى إذ العمل به مما لا يفضي إلى تعطيل الآخر لكونه قد عمل به في الجملة والعمل بما عمل به يفضي إلى تعطيل ما لم يعمل به وما يفضي إلى التأويل أولى مما يفضي إلى التعطيل. وما عمل به في الصورة المتفق عليها وإن لزم أن يكون فيها راجحاً على العام المقابل إلا أنه يحتمل أن يكون الترجيح له لأمر خارج لا وجود له في محل النزاع وهو وإن كان المرجح الخارج بعيد الوجود لكن يجب اعتقاد وجوده نفيا لإهمال العام الآخر. فإن قيل: لو كان له مرجح من خارج لوقفنا عليه بعد البحث التام وقد بحثنا فلم نجد شيئاً من ذلك واحتمال مخالفة السبر أيضاً بعيد فهو معارض بمثله فإنه لو كان رجحانه لمعنى يعود إلى نفسه لوقفنا عليه بعد البحث وقد بحثنا فلم نجده. وعند ذلك فيتقاوم الكلامان وقد يسلم لنا ما ذكرناه أولاً.
العاشر: أن يكون أحدهما قد قصد به بيان الحكم المختلف فيه بخلاف الآخر فالذي قصد به البيان للحكم يكون أولى لأنه يكون أمس بالمقصود وذلك كما في قوله تعالى:" وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" النساء 23 فإنه قصد به بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين فإنه مقدم على قوله تعالى:" أو ما ملكت أيمانكم " حيث لم يقصد به بيان الجمع. الحادي عشر: أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط وبراءة الذمة بخلاف الآخر فالأقرب إلى الاحتياط يكون مقدما لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة. الثاني عشر: أن يكون أحدهما يستلزم نقص الصحابي كحديث القهقهة في الصلاة بخلاف الآخر فالذي لا يستلزم ذلك أولى لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحال الصحابي ووصف الله له بالعدالة على ما قال تعالى:" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " البقرة 143 أي عدولاً الثالث عشر: أن يقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله فإنه يكون مرجحاً على ما ليس كذلك لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه. الرابع عشر: أن يذكر أحد الراويين سبب ورود ذلك النص بخلاف الآخر فالذاكر للسبب أولى لأن ذلك يدل على زيادة اهتمامه بما رواه. الخامس عشر: أن يكون قد اقترن بأحد الخبرين ما يدل على تأخيره عن الآخر كالخبر الذي ظهر بعد استظهار النبي عليه السلام وقوة شوكته بخلاف الآخر فالظاهر بعد قوة شوكة النبي عليه السلام أولى لأن احتمال ظهور مقابله قبل قوة الشوكة أكثر من احتمال وقوع ما ظهر بعد قوة الشوكة فكان تأخيره أغلب على الظن فكان أولى. وفي معناه أن يكون أحد الراويين متأخر الإسلام عن الآخر فالغالب أن ما رواه عن النبي عليه السلام بعد إسلامه فروايته أولى لأن رواية الآخر يحتمل أن تكون قبل إسلام المتأخر ويحتمل أن تكون بعد إسلامه فكان تأخير ما رواه متأخر الإسلام أغلب على الظن وفي معناه أن يعلم أن موت متقدم الإسلام كان متقدماً على إسلام المتأخر وكذلك إذا علمنا أن غالب رواية أحد الراويين قبل الغالب من رواية الآخر فروايته تكون مرجوحة لأن الغالب تقدم ما رواه وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيق دون الآخر فاحتمال تقدم غير المؤرخة يكون أغلب وكذلك إذا كان أحد الخبرين يدل على التخفيف والآخر على التشديد فاحتمال تأخر التشديد أظهر لأن الغالب منه عليه السلام أنه ما كان يشدد إلا بحسب علو شأنه واستيلائه وقهره ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئاً فشيئاً. القسم الثاني في التعارض الواقع بين معقولين والمعقولان إما قياسان أو استدلالان أو قياس واستدلال فإن كان التعارض بين قياسين فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس وقد يكون بما يعود إلى فرعه وقد يكون بما يعود إلى مدلوله وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج. فأما ما يعود إلى الأصل فمنه ما يعود إلى حكمه ومنه ما يعود إلى علته فأما ما يعود إلى حكم الأصل فترجيحات. الأول: أن يكون الحكم في أصل أحدهما قطعياً وفي الآخر ظنياً فما حكم أصله قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل بسبب حكم الأصل منفي ولا كذلك الآخر فكان أغلب على الظن وفي معنى هذا ما يكون الحكم في أصل أحدهما ممنوعا وفي الآخر غير ممنوع فغير الممنوع يكون أولى. الثاني: أن يكون حكم الأصل فيهما ظنياً غير أن الدليل المثبت لأحدهما أرجح من المثبت للآخر فيكون أولى. الثالث: أن يكون حكم الأصل في أحدهما مما اختلف في نسخه بخلاف الآخر فالذي لم يختلف في نسخه أولى لبعده عن الخلل. الرابع: أن يكون الحكم في أصل أحدهما غير معدول به عن سنن القياس كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن سنن القياس أولى لكونه أبعد عن التعبد وأقرب إلى المعقول وموافقة الدليل. الخامس: أن يكون حكم الأصل في أحدهما قد قام دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه ولا كذلك الآخر فما قام الدليل فيه على وجوب تعليله وجواز القياس عليه أولى وإن لم يكون ذلك شرطاً في صحته كما سبق لما فيه من الأمن من غائلة التعبد والقصور على الأصل ولبعده عن الخلاف. السادس: أن يكون حكم أحد الأصلين مما اتفق القياسون على تعليله والآخر مختلف فيه فما اتفق على تعليله أولى إذ هو أبعد عن الالتباس وأغلب على الظن. السابع: أن يكون حكم أحد الأصلين قطعياً لكنه معدول به عن سنن القياس والآخر ظني لكنه غير معدول به عن سنن القياس فالظني الموافق لسنن القياس أولى لكونه موافقاً للدليل وأبعد عن التعبد. الثامن: أن يكون حكم أحدهما في الأصل قطعياً إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه وحكم الآخر ظني إلا أنه قد قام الدليل على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه فما حكمه قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل إنما هو بسبب قربه من احتمال التعبد والقصور على الأصل المعين وما يتطرق إلى الظني من الخلل فمن جهة أن يكون الأمر في نفسه خلاف ما ظهر واحتمال التعبد والقصور على ما ورد الشرع فيه بالحكم أبعد من احتمال ظن الظهور لما ليس بظاهر والترك للعمل بما هو ظاهر. التاسع: أن يكون حكم أصل أحدهما قطعياً إلا أنه لم يتفق على تعليله وحكم الآخر ظني إلا أنه متفق على تعليله فالظني المتفق على تعليله أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هو فرع تعقل العلة في الأصل وتحقق وجودها في الفرع واحتمال معرفة ذلك فيما هو متفق عليه أغلب واحتمال الخلل بالنظر إلى الحكم الظني وإن كان قائماً ومأموناً في جانب الحكم القطعي إلا أن احتمال قطع القياس فيما لم يتفق على تعليله لعدم الاطلاع على ما هو المقصود من حكم الأصل أغلب من احتمال انقطاع القياس لخلل ملتحق بالظاهر الدال على حكم الأصل مع ظهور دليله وعدم الاطلاع عليه بعد البحث التام فيه. العاشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أصل أحدهما أرحج من الآخر إلا أنه مختلف في نسخه بخلاف الآخر فما دليله راجح أولى لأن الأصل عدم النسخ وقول النسخ معارض بقول عدم النسخ فكان احتمال عدم النسخ أرجح. الحادي عشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أحدهما راجحا على دليل حكم أصل الآخر إلا أنه معدول به عن سنن القياس والقاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لأنه يلزم من العمل به الجري على وفق القاعدة العامة التي ورد الحكم في القياس الآخر على خلافها غير أنه يلزم منه إهمال جانب الترجيح في الآخر وما يلزم من العمل بالآخر فإنما هو اعتبار ظهور الترجيح لكن مع مخالفة القاعدة المتفق عليها واحتمال مخالفة القواعد العامة المتفق عليها أبعد من احتمال مخالفة الشذوذ من ظواهر الأدلة كيف وإن العمل بما دليل ثبوت حكم أصله ظني محافظة على أصل الدليل الظني والقاعدة العامة والعمل بما ظهر الترجيح في دليل ثبوت حكمه فيه الموافقة لما ظهر من الترجيح ومخالفة القاعدة وأصل الدليل الآخر ولا يخفى أن العمل بما يلزم منه موافقة ظاهرين ومخالفة ظاهر واحد أولى من العكس. الثاني عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما راجحاً على دليل الآخر إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه بخلاف الآخر فما ظهر الترجيح في دليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان الحكم قطعياً. الثالث عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما أرجح من دليل الآخر إلا أنه غير متفق على تعليله بخلاف الآخر فما اتفق على تعليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان حكم الأصل في أحدهما قطعياً والآخر ظنياً. الرابع عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما مما اتفق على عدم نسخه إلا أنه معدول به عن القاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لما سبق تحقيقه. الخامس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه بخلاف الآخر فما هو على وفق القاعدة العامة أولى لأن العمل به عمل بأغلب ما يرد به الشرع والعمل بمقابله بالعكس ولأن أكثر من قال باشتراط كون الحكم في الأصل غير معدول به عن القاعدة العامة خالف في اشتراط قيام الدليل على وجوب تعليل الحكم وجواز القياس عليه ولم يشترط غير الشذوذ فكونه غير معدول به عن القاعدة العامة أمس بالقياس.
السادس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يتفق على تعليله والآخر بعكسه فما اتفق على تعليه أولى لأن كل واحد من القياسين وإن كان مختلفاً فيه إلا أن احتمال وقوع التعبد في القياس يبطله قطعا ومخالفة القاعدة العامة غير مبطلة للقياس قطعا وما يبطل القياس قطعاً بتقدير وقوعه يكون مرجوحاً بالنسبة إلى ما لا يبطله قطعاً. وأما الترجيحات العائدة إلى علة حكم الأصل فمنها ما يرجع إلى طريق إثباتها ومنها ما يرجع إلى صفتها. أما الترجيحات العائدة إلى طرق إثباتها. فالأول: منها أن يكون وجود علة أحد القياسين مقطوعاً به في أصله بخلاف علة الآخر فما وجود علته في أصله قطعي أولى وسواء كان وجودها معقولاً أو محساً مدلولاً عليه أو غير مدلول لكونه أغلب على الظن. وفي معنى هذا أن يكون وجود العلتين مظنوناً غير أن ظن وجود إحداهما أرجح من الاخرى فقياسها أولى لأنها أغلب على الظن. الثاني: أن يكون دليل علية الوصف في أحد القياسين قطعياً وفي الآخر ظنياً فيكون أولى لأنه أغلب على الظن. الثالث: أن يكون دليل العلتين ظنياً غير أن دليل إحدى العلتين أرجح من دليل الأخرى فما دليلها أرجح فقياسها أولى لأنه أغلب على الظن. الرابع: أن يكون طريق علية الوصف فيهما الاستنباط إلا أن دليل إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى المناسبة فما طريق ثبوت العلية فيه السبر والتقسيم يكون أولى لأن الحكم في الفرع كما يتوفف على تحقق مقتضيه في الأصل يتوقف على انتفاء معارضه في الأصل والسبر والتقسيم فيه التعرض لبيان المقتضي وإبطال المعارض بخلاف إثبات العلة بالإحالة فكان السبر والتقسيم أولى. فإن قيل: وصف العلة لا بد وأن يكون مناسباً في نفس الأمر أو شبهياً لامتناع التعليل بالوصف الطروي ولا يخفى أن احتمال عدم المناسبة بعد إظهارها بالطريق التفصيلي أبعد من احتمال عدمها في السبر والتقسيم حيث لم يتعرض فيه لبيانها تفصيلا فكان طريق المناسبة أولى. قلنا: إلا أن التعرض لمناسبة الوصف لا دلالة له بوجه على نفي المعارض في الأصل فإنه لامتناع من اجتماع مناسبين في محل واحد على حكم واحد ودلالة البحث والسبر على مناسب في الأصل غير الوصف المشترك مع أن الأصل أن يكون الحكم معقول المعنى وأن يدل على أن الوصف المشترك مناسب ولا يخفى أن ما يدل على مناسبة العلة وعلى انتفاء معارضها أولى مما يدل على مناسبتها ولا يدل على انتفاء معارضها. فإن قيل: إلا أن طريق إثبات العلة بالمناسبة أو الشبه أدل على مناسبة الوصف بعد إظهارها من دلالة السبر والتقسيم على انتفاء وصف آخر لاحتمال أن يصدق الناظر في قوله وأن يكذب وبتقدير صدقه فظهور ذلك مختص به دون غيره بخلاف طريق المناسبة فإنه ظاهر بالنظر إلى الخصمين. قلنا: بل العكس أولى وذلك لأن الخلل العائد إلى دليل نفي المعارض إنما هو بالكذب أو الغلط لعدم الظفر بالوصف ولا يخفى أن وقوع الغلط مع كون الوصف المبحوث عنه ظاهراً جلياً ووقوع الكذب مع كون الباحث عدلاً أبعد من احتمال وقوع الغلط فيما أبدى من المناسبة مع كونها خفية مضطربةً. الخامس: أن يكون نفي الفارق في أصل أحد القياسين مقطوعاً به وفي الآخر مظنونا فما قطع فيه بنفي الفارق يكون أولى لكونه أغلب على الظن. السادس: أن يكون طريق ثبوت إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى الطرد والعكس فما طريق ثبوته السبر والتقسيم أولى إذ هو دليل ظاهر على كون الوصف علة وما دار الحكم معه وجوداً وعدماً غير ظاهر العلية لأن الحكم قد يدور مع الأوصاف الطردية كما في الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة الدائرة مع تحريم الشرب وجوداً وعدماً مع أنها ليست علة لأن العلة لا بد وأن تكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة كما سبق تقريره. والرائحة الفائحة ليست باعثة إذ لا يشم منها رائحة المناسبة وكما أنه غير ظاهر في الدلالة على علية الوصف فلا دلالة له على ملازمة العلة لما قدمناه في إبطال الطرد والعكس. وبهذا يكون القياس الذي طريق إثبات العلية فيه المناسبة أولى مما طريق إثباتها فيه الطرد والعكس. وأما الترجيحات العائدة إلى صفة العلة.
فالأول: منها أنه إذا كانت علة الأصل في أحد القياسين حكماً شرعياً وفي الآخر وصفاً حقيقياً فما علته وصف حقيقي أولى لوقوع الاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله فكانت أغلب على الظن. الثاني: أن تكون علة الحكم الثبوتي في أحدهما وصفاً وجودياً وفي الآخر وصفاً عدمياً فما علته ثبوتية أولى للاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله. الثالث: أن تكون علة أحدهما بمعنى الباعث وفي الآخر بمعنى الأمارة فما علته باعثة أولى للاتفاق عليه. الرابع: أن تكون علة أحدهما وصفاً ظاهراً منضبطاً وفي الآخر بخلافه فما علته مضبوطة أولى لأنه أغلب على الظن لظهوره ولبعده عن الخلاف. الخامس: أن تكون علة أحدهما وصفاً متحداً وفي الآخر ذات أوصاف فما علته ذات وصف واحد أولى لأنه أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخلاف. السادس: أن تكون علة أحدهما أكثر تعديةً من علة الآخر فهو أولى لكثرة فائدته. السابع: أن تكون علة أحدهما مطردةً بخلاف الآخر فما علته مطردة أولى لسلامتها عن المفسد وبعدها عن الخلاف. وفي معنى هذا أن تكون علة أحدهما غير منكسرة بخلاف علة الآخر فما علته غير منكسرة أولى لبعدها عن الخلاف. الثامن: أن تكون علة أحدهما منعكسة بخلاف علة الآخر فما علته منعكسة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف. التاسع: أن تكون علة أحدهما غير متأخرة عن الحكم بخلاف الآخر فما علته غير متأخرة أولى لبعده عن الخلاف. العاشر: أن تكون علة أحدهما مطردة غير منعكسة وعلة الآخر منعكسة غير مطردة فالمطردة أولى لما بيناه من اشتراط الاطراد وعدم اشتراط الانعكاس ولهذا فإن من سلم اشتراط الاطراد خالف في اشتراط الانعكاس. الحادي عشر: أن يكون ضابط الحكمة في علة أحد القياسين جامعاً للحكمة مانعاً لها بخلاف ضابط حكمة العلة في القياس الآخر كما بيناه فالجامع المانع أولى لزيادة ضبطه وبعده عن الخلاف. الثاني عشر: أن تكون العلة في أحدهما غير راجعة على الحكم الذي استنبطت منه برفعه أو رفع بعضه بخلاف الآخر فهو أولى لسلامة علته عما يوهيها وبعدها عن الخلاف. الثالث عشر: أن تكون علة أحد القياسين مناسبة وعلة الآخر شبهية فما علته مناسبة أولى لزيادة غلبة الظن بها وزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف. الرابع عشر أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من قبل والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ولهذا فإنه لم تخل شريعة عن مراعاته وبولغ في حفظه بشرع أبلغ العقوبات. الخامس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من الحاجات الزائدة ومقصود الأخرى من باب التحسينات والتزيينات فما مقصوده من باب الحاجات الزائدة أولى لتعلق الحاجة به دون مقابله. السادس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من مكملات المصالح الضرورية ومقصود الأخرى من أصول الحاجات الزائدة فما مقصوده من مكملات الضروريات وإن كان تابعا لها ومقابله أصل في نفسه يكون أولى ولهذا أعطى حكم أصله حتى شرع في شرب قليل الخمر ما شرع في كثيره. السابع عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظراً إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصوداً من أجله على ما قال تعالى:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى مبني على الشح والمضايقة وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمداً عدواناً فإنا نقتله قصاصاً لا بكفره.
وأيضا فإنا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق. وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح. قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله كيف وإن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق والقتل بالفعل إنما هو لتحقيق الوعيد به والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما كيف وإن تقديم حق الآدمي ها هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقاً لبقاء العقوبة الأخروية وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبة البدنية مطلقاً فكان لذلك أولى. وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديماً لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه وفروع الشيء غير أصل الشيء ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر وكذلك صلاة المريض قاعداً بالنسبة إلى صلاته قائماً وهو صحيح فالمقصود لا يختلف. وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقاً بل يفوت إلى خلف وهو القضاء وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضاً وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدماً على غيره من المقاصد الضرورية أما بالنظر إلى حفظ النسب فلأن حفظ النسب إنما كان مقصوداً لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعاً لا مربي له فلم يكن مطلوبا لعينه وذاته بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات. وأما بالنظر إلى حفظ العقل فمن جهة أن النفس أصل والعقل تبع فالمحافظة على الأصل أولى ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقاً فالمحافظة بالمنع مما يفضي إلى الفوات مطلقاً أولى وعلى هذا أيضاً يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل ومقدم على ما يفضي إلى حفظ المال لكونه مركب الأمانة وملاك التكليف ومطلوباً للعبادة بنفسه من غير واسطة ولا كذلك المال ولهذا كانت هذه الرتب مختلفة في العقوبات المرتبة عليها على نحو اختلافها في أنفسها.وبمثل تفاوت هذه الرتب يكون التفاوت بين مكملاتها. الثامن عشر: أن يكون الوصف الجامع في أحد القياسين نفس علة حكم الأصل والآخر دليل علة الأصل وملازمها فالذي فيه الجامع نفس العلة أولى لظهورها وركون النفس إليها. التاسع عشر: أن تكون علة الأصل في أحد القياسين ملائمةً وعلة الآخر غريبة فما علته ملائمة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف. العشرون: أن تكون علة الأصلين منقوضةً إلا أنه قد ظهر في صورة النقض في أحدهما ما يمكن إحالة النقض عليه من وجود مانع أو فوات شرط بخلاف الأخرى فهي أولى لأنها أغلب على الظن. الحادي والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد يتخلف عنها مدلولها في صورة بطريق الاستثناء على خلاف القاعدة العامة والأخرى يتخلف عنها حكمها لا على جهة الاستثناء فالتي يتخلف عنها حكمها بجهة الاستثناء تكون أولى لقربها إلى الصحة وبعدها عن الخلاف. الثاني والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد خلفها في صورة النقض ما هو أليق بها لكون مناسبتها فيها أشد كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الأخرى فهي أولى لتبين عدم إلغائها بخلاف الأخرى.
الثالث والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين لا مزاحم لها في أصلها بخلاف الأخرى فالتي لا مزاحم لها أولى لأنها أغلب على الظن وأقرب إلى التعدية وعلى هذا يكون ما رجحانها على مزاحمها أكثر مقدمة أيضاً. الرابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للإثبات والأخرى مقتضيةً للنفي فالنافية تكون أولى لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها وعلى تقدير مساواتها ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين. فإن قيل: إلا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق بخلاف النافية وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى وأيضاً فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل كيف وإن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين وعلى هذا فيتساوى القدمان. قلنا: أما كون حكم إحدى العلتين شرعي فلا يرجح به لأن الحكم إنما كان مطلوباً لا لنفسه بل لما يفضي إليه من الحكم به والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم يود تحصيلها بواسطة نفيه كيف وإن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي والمثبتة على خلافه فكانت أولى. وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع فهو معارض بمثله في المثبتة وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلاً لمخالفة الدليل النافي وليس أحدهما أولى من الآخر والتخيير وإن كان مقولاً به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله كيف وإن الحكم إنما يثبت لما يصلح أو يكون مقصوداً وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساويه لا يصلح أن يكون مقصودا فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده. الخامس والعشرون أن تكون حكمة إحدى العلتين قد اختلت احتمالاً لمانع أخل بها دون الأخرى فالتي لا يختل حكمها احتمالاً أولى لقربها إلى الظن وبعدها عن الخلل والخلاف. السادس والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين أفضى إلى تحصيل مقصودها من الأخرى فتكون أولى لزيادة مناسبتها بسبب ذلك. السابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مشيرة إلى نقيض المطلوب ومناسبة له من وجه بخلاف الأخرى فما لا تكون مناسبةً لنقيض المطلوب تكون أولى لكونها أظهر في إفضائها إلى حكمها وأغلب على الظن وأبعد عن الاضطراب. الثامن والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين متضمنة لمقصود يعم جميع المكلفين والأخرى متضمنة لمقصود يرجع إلى آحادهم فالأولى أولى لعموم فائدتها. التاسع والعشرون أن تكون علة أحد القياسين أكثر شمولاً لمواقع الخلاف من الأخرى فتكون أولى لعموم فائدتها. وأما الترجيحات العائدة إلى الفرع فأربعة : الأول أن يكون فرع أحد القياسين مشاركاً لأصله في عين الحكم وعين العلة وفرع الآخر مشاركاً لأصله في جنس الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وعين العلة أو بالعكس فما المشاركة فيه في عين العلة وعين الحكم أولى لأن التعدية باعتبار الاشتراك في المعنى الأخص والأعم أغلب على الظن من الاشتراك في المعنى الأعم. وعلى هذا فما المشاركة فيه بين الأصل والفرع عين أحد الأمرين: إما الحكم أو العلة تكون أولى مما المشاركة فيه بين أصله وفرعه في جنس الأمرين وإن كان فرع أحدهما مشاركاً لأصله في عين العلة وجنس الحكم والآخر بعكسه فما المشاركة فيه في عين العلة وجنس الحكم أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هي فرع تعدية العلة فهي الأصل في التعدية وعليها المدار. الثاني أن يكون الفرع في أحد القياسين متأخراً عن أصله وفي الآخر متقدماً فما الفرع فيه متأخر أولى لسلامته عن الاضطراب وبعده عن الخلاف وعلمنا بثبوت الحكم فيه بما استنبط من الأصل. الثالث أن يكون وجود العلة في أحد الفرعين قطعياً وفي الآخر ظنياً فما وجود العلة فيه قطعي أولى لأن أغلب على الظن وأبعد عن احتمال القادح فيه. الرابع أن يكون حكم الفرع في أحدهما قد ثبت بالنص جملةً لا تفصيلاً بخلاف الآخر فإنه يكون أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
وأما الترجيحات العائدة إلى حكم الفرع وإلى أمر خارج فعلى ما أسلفناه في المنقولات وقد يتركب مما ذكرناه من الترجيحات ومقابلات بعضها لبعض ترجيحات أخر خارجة عن الحصر لا يخفى إيجادها في مواضعها على من أخذت الفطانة بيده. وقد أشرنا إلى جملة منها في كتابنا الموسوم بمنتهى المسالك في رتب السالك فعليك بمراجعته. وعلى هذا فلا يخفى الترجيح المتعلق بالاستدلالات المتعارضة بالنظر إلى ذواتها وطرق إثباتها. وأما التعارض الواقع بين المنقول والمعقول فالمنقول إما أن يكون خاصاً وإما عاماً. فإن كان خاصاً فإما أن يكون دالاً بمنظومه أو لا بمنظومه فإن كان الأول فهو أولى لكونه أصلاً بالنسبة إلى الرأي وقلة تطرق الخلل إليه. وإن كان الثاني فمنه ما هو ضعيف جداً ومنه ما هو قوي جدا ومنه ما هو متوسط بين الرتبتين. والترجيح إذ ذاك يكون على حسب ما يقع في نفس المجتهد من قوة الدلالة وضعفها وذلك مما لا ينضبط ولا حاصر له بحيث تمكن الإشارة إليه في هذا الكتاب وإنما هو موكول إلى الناظرين في آحاد الصور التي لا حصر لها. وأما إن كان المنقول عاماً فقد قيل بتقدم القياس عليه وقيل بتقدم العموم وقيل بالتوقف وقيل يتقدم على جلي القياس دون خفيه وقيل يتقدم القياس على ما دخله التخصيص دون ما لم يدخله. والمختار إنما هو تقديم القياس وسواء كان جلياً أو خفياً لأنه يلزم من العمل بعموم العام إبطال دلالة القياس مطلقاً ولا يلزم من العمل بالقياس إبطال العام مطلقا بل غاية ما يلزم منه تخصيصه وتأويله. ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين على وجه يلزم منه تأويل أحدهما أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر ولأن القياس يتناول المتنازع فيه بخصوصه والمنقول يتناوله بعمومه والخاص أقوى من العام. فإن قيل: إلا أن العموم أصل والقياس فرع والأصل مقدم على الفرع وأيضاً فإن تطرق الخلل إلى العموم أقل من تطرقه إلى القياس على ما سبق تقريره فكان أولى. قلنا: أما الأول فإنما يلزم أن لو كان ما قيل بتقديم القياس عليه هو أصل ذلك القياس وليس كذلك بل جاز أن يكون فرعاً لغيره. فإن قيل: وإن لم يكن فرعاً لذلك العام بعينه فهو فرع بالنسبة إلى ما هو من جنسه. قلنا: إلا أن ذلك لا يمنع من تخصيص العموم بالقياس وإلا لما جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لكونه فرعاً بالنسبة إلى ما هو من جنسه وهو ممتنع على ما سبق. وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بمثله فإن العام وإن كان ظاهراً فيحتمل الخصوص واحتمال ذلك في الشرع أغلب من احتمال الغلط من المجتهد المتبحر على ما لا يخفى. ولهذا قيل إنه ما من عام إلا وهو مخصوص إلا في قوله تعالى:" والله بكل شيء عليم" البقرة 282 ولا كذلك القياس. الباب الثاني في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية واعلم أن الحدود على اختلاف أنواعها منقسمة إلى عقلية وسمعية كانقسام الحجج. غير أن ما هو متعلق غرضنا هاهنا إنما هو السمعية ومن السمعية ما كان ظنياً وعند تعارض الحدين السمعيين فقد يقع الترجيح بينهما من وجوه. الأول أن يكون أحدهما مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعادة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة بل بطريق المطابقة أو التضمن بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أقرب إلى الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب. الثاني أن يكون المعرف في أحدهما أعرف من المعرف في الآخر فهو أولى لكونه أفضى إلى التعريف. الثالث أن يكون أحدهما معرفا بالأمور الذاتية والآخر بالأمور العرضية فالمعرف بالأمور الذاتية أولى لأنه مشارك للمعرف بالأمور العرضية في التمييز ومرجح عليه بتصوير معنى الحدود. الرابع أن يكون أحد الحدين أعم من الآخر فقد يمكن أن يقال الأعم أولى لتناوله محدود الآخر وزيادة وما كان أكثر فائدة فقد يمكن أن يقال بأن الأخص أولى نظراً إلى أن مدلوله متفق عليه ومدلول الآخر من الزيادة مختلف فيه وما مدلوله متفق عليه أولى. الخامس أن يكون أحدهما قد أتي فيه بجميع ذاتياته والآخر ببعضها مع التمييز فالأول يكون أولى لأنه أشد تعريفاً. السادس أن يكون أحدهما على وفق النقل السمعي والآخر على خلافه فالموافق يكون أولى لبعده عن الخلل ولأنه أغلب على الظن. السابع أن يكون طريق اكتساب أحدهما أرجح من طريق اكتساب الآخر فهو أولى لأنه أغلب على الظن. الثامن أن يكون أحدهما موافقاً للوضع اللغوي والآخر على خلافه أو أنه أقرب إلى موافقته والآخر أبعد فالموافق أو ما هو أكثر موافقةً للوضع اللغوي يكون أولى لأن الأصل إنما هو التقرير دون التغيير لكونه أقرب إلى الفهم وأسرع إلى الانقياد. ولهذا كان التقرير هو الغالب وكان متفقا عليه بخلاف التغيير فكان أولى. التاسع أن يكون أحدهما مما قد ذهب إلى العمل به أهل المدينة أو الخلفاء الراشدون أو جماعة من الأمة أو واحد من المشاهير بالاجتهاد والعدالة والثقة بما يقول بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن وأقرب إلى الانقياد. العاشر أن يلزم من العمل بأحدهما تقرير حكم الحظر والآخر تقرير الوجوب أو الكراهة أو الندب فما يلزم منه تقرير الحظر أولى لما قدمناه في الحجج. الحادي عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم النفي والآخر الإثبات فالمقرر للنفي أولى لما سبق في الحجج. الثاني عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم معقول ومن الآخر حكم غير معقول فما يلزم منه تقرير حكم معقول أولى لما سبق في الحجج. الثالث عشر أن يلزم من أحدهما درء الحد والعقوبة ومن الآخر إثباته فالدارىء للحد أولى لما سبق أيضاً. الرابع عشر أن يكون أحدهما يلازمه الحرية أو الطلاق والآخر يلازمه الرق أو إبقاء النكاح فالحكم فيه ما سبق في الحجج. وقد يتشعب من تقابل هذه الترجيحات ترجيحات أخرى كثيرة خارجة عن الحصر لا تخفى على متأملها. وهذا آخر ما أردناه ونهاية ما رتبناه.اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.