ومنه قوله تعالى:" فما أصبرهم على النار " البقرة 175 وقوله تعالى:" إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 ومنه يقال لدوا للموت وابنوا للخراب وبتقدير إرادة الفور فلا يمتنع التخصيص كما خص بأثقال تكاليفه المبتدأة وابتلائه في الأبدان والأموال كما سبق تقريره وما ذكرناه من الأدلة الدالة على وقوع ذلك صالح لتخصيص هذه الآية. وعن الآية الثانية: أنه يجب حملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المآل حتى لا يلزم منه كثرة التخصيص بابتداء التكاليف وما وقع به الابتلاء في الدنيا في الأبدان والأموال ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب المجتلب بالمعاصي أنه يسر لا عسر. وإن سلمنا أن المراد به إرادة اليسر وعدم إرادة العسر العاجل لكنه يجب تخصيصه بما ذكرناه جمعاً بين الأدلة. وعن الآية الثالثة: أنه لا يلزم من وضع الأصر والثقل الذي كان على من قبلنا عنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا. وعن الآية الرابعة: أنه لو كان ذلك عائداً إلى نسخ التلاوة فلا حجة فيه إذ النزاع إنما هو في نسخ الحكم الأخف بالأثقل وإن كان عائداً إلى نسخ حكم الآية فالخير في الأمور الدينية يرجع إلى ما هو أكثر في الثواب. ومنه يقال الفرض خير من النفل بمعنى أنه أكثر في الثواب وإن كان أشق من النفل على النفس وفي الأمور الدنيوية يرجع إلى ما هو خير في العاجل وأصلح ولا يختص ذلك بالأسهل. ولهذا يحسن أن يقول الطبيب للمريض الجوع والعطش أصلح لك وخير من الشبع والري وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون التكليف بالأشق أكثر ثواباً وأصلح في المآل على ما قال تعالى:" ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله " التوبة 120 إلى قوله:" إلا كتب لهم به عمل صالح " التوبة 120 وقال تعالى:" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة 7-8 وقال تعالى:" جزاء بما كانوا يعملون " الواقعة 24 وقال ﷺ لعائشة رضي الله "عنها ثوابك على قدر نصبك "فكان التكليف بالأشق خيراً من الأخف. المسألة السادسة اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة ويدل على ذلك العقل والنقل: أما العقل فهو أن جواز تلاوة الآية حكم ولهذا يثاب عليها بالإجماع وقد قال ﷺ:" من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات "وما يترتب عليها من الوجوب والتحريم وغير ذلك حكم وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقت ومفسدة في وقت وأن لايكون إثبات أحدهما مصلحةً مطلقاً وإثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت وإذا كان كذلك جاز رفعهما معاً ورفع أحدهما دون الآخر كما سبق تقريره. وأما النقل أما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة أنها قالت فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس وليس في المصحف عشر رضعات محرمات ولا حكمها فهما منسوخان. وأما نسخ الحكم دون التلاوة فكنسخ حكم آية الاعتداد بالحول ونسخ حكم آية الوصية للوالدين. وأما نسخ التلاوة دون الحكم فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله فإنه منسوخ التلاوة دون الحكم. وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث ويتلوها الجنب فذلك مما تردد الأصوليون فيه والأشبه المنع من ذلك. فإن قيل: الحكم مع التلاوة ينزل منزلة العلم مع العالمية والحركة مع المتحركية والمنطوق مع المفهوم وكما لا يمكن الانفكاك بين العلم والعالمية والمنطوق مع المفهوم فكذلك التلاوة مع حكمها. وأما ما يخص نسخ الحكم دون التلاوة فهو أن الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمةً بقاء الحكم وذلك مما يعرض المكلف إلى اعتقاد الجهل والحكيم يقبح منه ذلك وأيضاً إذا بقيت التلاوة دون حكمها تبقى عرية عن الفائدة ويمتنع خلو القرآن عن الفائدة. وأما ما يخص نسخ التلاوة دون الحكم فوجهان: الأول: أن الآية ذريعة إلى معرفة الحكم فإذا نسخت الآية دون الحكم أشعر ذلك بارتفاع الحكم وفيه تعريض المكلف لاعتقاد الجهل وهو قبيح من الشارع.
الثاني: أن نسخ التلاوة دون حكمها يكون عرياً عن الفائدة حيث إنه لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه وما عرى من التصرفات عن الفائدة كان عبثاً والعبث على الله محال. والجواب عن الأول: لا نسلم أولا أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذات ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصح التمثيل. وإن سلمنا جميع ذلك ولكن لا نسلم أن التلاوة مع الحكم نازلة منزلة ما ذكروه بل هي نازلة منزلة الأمارة والعلامة على الحكم في ابتداء ثبوته دون حالة دوامه. وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه وكذلك لا يلزم من انتفاء الحكم لدليل انتفاء الأمارة الدالة عليه. وعن قولهم إن التلاوة إذا ثبتت بعد نسخ الحكم عرضت المكلف لاعتقاد الجهل متى إذا نصب الله تعالى دليلاً على نسخ الحكم أو إذا لم ينصب؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. وذلك لأن الناظر إذا كان مجتهداً عرف دليل النسخ وإن كان مقلداً فغرضه تقليد المجتهد العارف بدليل النسخ ثم وإن كان كما ذكروه فلا نسلم أن ذلك ممتنع في حق الله تعالى إلا على فاسد أصل من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه. وعن قولهم إنه ليس في بقاء التلاوة فائدة بعد نسخ الحكم أن ذلك مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير مسلم وإن سلما ذلك فلا يمتنع أن يكون الباري تعالى قد علم في ذلك حكمةً استأثر بها ونحن لا نشعر بذلك. وعن قولهم إن الآية إذا نسخت عرضت المكلف لاعتقاد الجهل إنما يلزم ذلك ان لو كان يلزم من انتفاء الدلالة على الحكم في الدوام انتفاء الحكم وهو غير مسلم ولا يلزم من الدليل الدال على نسخ التلاوة أن يكون دالاً على نسخ الحكم. وعن قولهم إنه لا فائدة في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ما سبق في قولهم إن بقاء التلاوة غير مفيد مع نسخ الحكم. المسألة السابعة فيما يتعلق بنسخ الأخبار. والنسخ إما أن يكون لنسخ الخبر أو لمدلوله وثمرته: فإن كان الأول فإما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا به بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الأخبار وكل واحد من الأمرين جائز من غير خلاف بين القائلين بجواز النسخ وسواء كان ما نسخت تلاوته ماضياً أو مستقبلاً وسواء كان ما نسخ تكليف الإخبار به مما لا يتغير مدلوله كالإخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم أو يتغير كالإخبار بكفر زيد وإيمانه لأن كل ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز أن يكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في وقت آخر لكن هل يجوز أن ينسخ تكلفنا بالإخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالإخبار بنقيضه ؟. قالت المعتزلة: لا يجوز لأنه كذب والتكليف بالكذب قبيح وهو غير متصور من الشارع وهو مبني على أصولهم في التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه وعلى هذا فلا مانع من نسخ التكليف بالخبر بنقيض الخبر. وأما إن كان النسخ لمدلول الخبر وفائدته فذلك المدلول إما أن يكون مما لا يتغير كمدلول الخبر بوجود الإله سبحانه وحدوث العالم أو مما يتغير: فإن كان الأول فنسخه محال بالإجماع وأما إن كان مدلوله مما يتغير وسواء كان ماضياً كالإخبار بما وجد من إيمان زيد وكفره أو مستقبلاً وسواء كان وعداً أو وعيداً أو حكماً شرعياً. فقد اختلف في رفعه ونسخه فذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من المتكلمين والفقهاء إلى امتناع رفعه. وذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إلى جوازه ومنهم من فصل بين الخبر الماضي والمستقبل فمنعه في الماضي وجوزه في المستقبل. والمختار جوازه ماضياً كان أو مستقبلاً وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكرراً والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبيناً لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وإن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي. فإن قيل: الفرق بين الخبر وبين الأمر والنهي أن نسخ الخبر يؤذن بكونه كذباً ولهذا فإنه لو قال: أهلك الله زيداً ثم قال: ما أهلك الله زيداً كان كذباً بخلاف الأمر والنهي وإن سلمنا إمكان نسخ مدلول الخبر لكن إذا كان مدلوله حكماً شرعياً تكليفاً.
أما إذا لم يكن كذلك فلا وذلك لأنه إذا كان حكمه تكليفاً كان الخبر في معنى الأمر والنهي والأمر يجوز نسخ حكمه كما لو قال: أمرتكم ونهيتكم وأوجبت عليكم بخلاف ما إذا لم يكن كذلك. والجواب عن الأول أن ذلك إنما يفضي إلى الكذب إن لو لم يمكن حمل الناسخ على غير ما أريد من الخبر وليس الأمر كذلك على ما حققناه وأما إذا قال: أهلك الله زيداً فإهلاكه إنما لم يدخله النسخ لأنه لا يتكرر حتى يمكن رفع بعضه وتبقية البعض بل إنما يقع دفعة واحدة فلو أخبر عن عدمه مع اتحاده كان كذباً لاتحاد المثبت والمنفي. وعن الثاني أنهم إن أرادوا بقولهم إن الخبر بالحكم الشرعي في معنى الأمر أن صيغته كصغيته فهو خلاف الحسن وإن أرادوا به أنه يفيد إيجاب الفعل كما في الأمر فمسلم ولكن لا يلزم أن يكون هو هو فإنه لا يلزم من اشتراك شيئين مختلفين في لازم واحد عام لهما اتحادهما وغايته تسليم نسخ مدلول بعض الأخبار وليس فيه ما يدل على امتناع نسخ غيره مما قد بينا. المسألة الثامنة اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن لتساويه في العلم به ووجوب العمل وذلك كما بيناه من نسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله:" أأشفقتم " المجادلة 13 ونسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة بقوله تعالى:" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً " الأنفال 66 واتفقوا أيضاً على جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة منها ونسخ الآحاد منها بالمتواتر ونسخ الآحاد بالآحاد كما روي أنه ﷺ حرم زيارة القبور بنهيه عنها ثم نسخ ذلك بقوله:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها "وكما روي عنه ﷺ أنه قال:" في شارب الخمر فإن شربها الرابعة فاقتلوه "فنسخ ذلك بما روي عنه أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله. وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد فقد اتفقوا على جوازه عقلاً واختلفوا في وقوعه سمعاً فأثبته داود وأهل الظاهر ونفاه الباقون. وقد احتج النافون لذلك بالإجماع والمعنى: أما الإجماع فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وأيضاً ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه ووجه الاحتجاج به أنهما لم يعملا بخبر الواحد ولم يحكما به على القرآن وما ثبت من السنة تواتراً وكان ذلك مشتهراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر فكان ذلك إجماعاً. وأما المعنى فهو أن الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى. ولقائل أن يقول: عدم قبول خبر الواحد فيما ذكر لا يمنع من قبول خبر الواحد مطلقاً وذلك لأنه لا مانع أن يكون امتناع قبوله لعدم حصول الظن بصدقه ولهذا قال عمر: لا ندري أصدقت أم كذبت وقال علي في الأعرابي ما قال. وإلا فكيف يمكن القول بعدم قبول خبر الواحد معما بينا من كون خبر الواحد حجة ومعما بيناه من جواز تخصيص التواتر بالآحاد وما ذكروه من المعنى فهو باطل بالتخصيص على ما سبق كيف وإنه وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحاداً إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصاً والمتواتر عاماً. والظن الحاصل من الخاص إذا كان آحاداً أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر لأن تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه وتطرق الضعف إلى العام من جهة تخصيصه واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض واحتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الخطإ والكذب إلى العدل فكان الظن المستفاد من خبر الواحد أقوى. وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل والمعنى. أما النقل فمن وجهين: الأول أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة المتواترة لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه وإن أهل قبا كانوا يصلون إلى بيت المقدس بناء على السنة المتواترة فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله ﷺ فقال لهم:" إن القبلة قد حولت "فاستداروا بخبره والنبي ﷺ لم ينكر عليهم فدل على الجواز. الثاني أن النبي ﷺ كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجباً.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أن النسخ أحد البيانين فكان جائزاً بخبر الواحد كالتخصيص. الثاني أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه فنسخ السنة المتواترة به أولى. ولقائل أن يقول: أما قصة أهل قبا فمن أخبار الآحاد ولا نسلم ثبوت مثل هذه القاعدة به كيف وإنه يحتمل أن يكون قد اقترن بقوله قرائن أوجبت العلم بصدقه من قربهم من مسجد رسول الله ﷺ وسماعهم لضجة الخلق في ذلك نازلاً منزلة الخبر المتواتر. وأما تنفيذ الآحاد للتبليغ فإنما يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد وما لا فلا. وما ذكروه من المعنى الأول فحاصله يرجع إلى قياس النسخ على التخصيص وهو إنما يفيد في الأمور الظنية فلم قالوا إنما نحن فيه من هذا القبيل كيف والفرق حاصل وذلك أن النسخ رفع لما ثبت بخلاف التخصيص على ما سبق معرفته فلم قالوا بأنه إذا قبل خبر الواحد فيما لا يقتضي الرفع لما ثبت يقبل في رفع ما ثبت. وأما المعنى الثاني فلا نسلم صحة نسخ القرآن بخبر الواحد على ما يأتي. المسألة التاسعة المنقول عن الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه إنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. ومذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء جوازه عقلاً ووقوعه شرعاً. احتج المثبتون على الجواز العقلي والوقوع الشرعي. أما الجواز العقلي فهو أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى على ما قال تعالى:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 غير أن الكتاب متلو والسنة غير متلوة ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلاً. ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخاً للسنة لما لزم عنه لذاته محال عقلاً. وأما الوقوع الشرعي فيدل عليه أمور: الأول أن النبي ﷺ صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلماً رده حتى إنه رد أبا جندل وجماعةً من الرجال فجاءت امرأة فأنزل الله تعالى:" فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " الممتحنة وهذا قرآن نسخ ما صالح عليه رسول الله ﷺ وهو من السنة. الثاني أن التوجه إلى بيت المقدس لم يعرف إلا من السنة وقد نسخ بقوله تعالى:" فول وجهك شطر المسجد الحرام " البقرة 144 ولا يمكن أن يقال بأن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوماً بالقرآن وهو قوله:" فثم وجه الله " البقرة 115 لأن قوله فثم وجه الله تخيير بين القدس وغيره من الجهات والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عيناً وذلك غير معلوم من القرآن. الثالث أن المباشرة في الليل كانت محرمة على الصائم بالسنة وقد نسخ ذلك بقوله تعالى:" فالآن باشروهن " البقرة 187. الرابع أن صوم عاشوراء كان واجباً بالسنة ونسخ بصوم رمضان في قوله تعالى:" فمن شهد منكم الشهر فليصمه " البقرة 185. الخامس أن تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال كان جائزاً بالسنة ولهذا قال يوم الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم ناراً لحبسهم له عن الصلاة وقد نسخ ذلك الجواز بصلاة الخوف الواردة في القرآن. فإن قيل ما ذكرتموه من صور نسخ السنة بالقرآن ما المانع أن يكون الحكم في جميع ما ذكرتموه ثابتا بقرآن نسخ رسمه وبقي حكمه؟ وإن سلمنا أنه ثابت بالسنة ولكن ما المانع أن يكون النسخ وقع بالسنة ودلالة ما ذكرتموه من الآيات على أحكامها ليس فيه ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة ويدل على أن الأمر على ما ذكرناه أن الشافعي كان من أعلم الناس بالناسخ والمنسوخ وأحكام التنزيل وقد أنكر نسخ السنة بالقرآن ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما كان إنكاره صحيحاً. ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على نسخ السنة بالقرآن غير أنه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى:" لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 جعل السنة بياناً فلو نسخت لخرجت عن كونها بياناً وذلك غير جائز. وأما المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو نسخت السنة بالقرآن لزم تنفير الناس عن النبي ﷺ وعن طاعته لإيهامهم أن الله تعالى لم يرض ما سنه الرسول وذلك مناقض لمقصود البعثة ولقوله تعالى:" وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله "النساء 64.
الثاني أن السنة ليست من جنس القرآن لأن القرآن معجزة ومتلو ومحرم تلاوته على الجنب ولا كذلك السنة وإذا لم يكن القرآن من جنس السنة امتنع نسخه لها كما يمتنع نسخ القرآن بحكم دليل العقل وبالعكس. والجواب عن السؤال الأول أن إسناد إثبات ما ذكرناه من الأحكام المنسوخة إلى ما وجد من السنة من أفعال النبي ﷺ وأقواله وتقريراته صالح لإثباتها وقد اقترن بها الإثبات فكان الإثبات مستنداً إليها وكذلك الكلام في إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة للنسخ من ترتب النسخ عليها فبتقدير وجود خطاب آخر يكون إسناد الأحكام المذكورة إليه بتقدير نسخه وكذلك تقدير وجود سنة ناسخة لها مع عدم الاطلاع عليها وإمكان إسناد نسخها إلى ما وجد من الآيات الصالحة لنسخها من غير ضرورة يكون ممتنعاً. ولو فتح هذا الباب لما استقر لأحد قدم في إثبات ناسخ ولا منسوخ لأن ما من ناسخ يقدر إلا ويحتمل أن يكون الناسخ غيره وما من منسوخ حكمه يقدر إلا ويحتمل أن يكون إسناد ذلك الحكم إلى غيره وهو خلاف إجماع الأمة في الاكتفاء بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه. وعن المعارضة بالنص من وجهين: الأول أن المراد بقوله:" لتبين للناس " النحل 44 إنما هو التبليغ وذلك يعم تبليغ الناس من القرآن وغيره وليس فيه ما يدل على امتناع كون القرآن ناسخاً للسنة. الثاني وإن سلمنا أن المراد بقوله: لتبين للناس إنما هو بيان المجمل والعام والمطلق والمنسوخ لكن لا نسلم دلالة ذلك على انحصار ما ينطق به في البيان بل جاز مع كونه مبيناً أن ينطق بغير البيان ويكون محتاجاً إلى بيان. وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه: الأول: أن ذلك إنما يصح أن لو كانت السنة من عند الرسول من تلقاء نفسه وليس كذلك بل إنما هي من الوحي على ما قال تعالى:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 الثاني: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولا غير مرضي لامتنع نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف إجماع القائلين بالنسخ. الثالث: أن ما ذكروه إنما يدل على أن المشروع أولاً غير مرضي أن لو كان النسخ رفع ما ثبت أولاً وليس كذلك بل هو عبارة عن دلالة الخطاب على أن الشارع لم يرد بخطابه الأول ثبوت الحكم في وقت النسخ دون ما قبله. وعن المعارضة الثانية أنه لا يلزم من اختلاف جنس السنة والقرآن بعد اشتراكهما في الوحي بما اختص بكل واحد منهما امتناع نسخ أحدهما بالآخر. وعلى هذا فنقول القرآن يكون رافعاً لحكم الدليل العقلي وإن لم يسم ناسخاً. المسألة العاشرة قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج واختلف هؤلاء في الوقوع. والمختار جوازه عقلاً لما ذكرناه في المسألة المتقدمة وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن الوصية للوالدين والأقربين نسخت بقوله ﷺ:" ألا لا وصية لوارث" قالوا: ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث لأن الجمع ممكن من حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب وهو ضعيف لما فيه من نسخ حكم القرآن المتواتر بخبر الآحاد وهو ممتنع على ما يأتي ولأنه لا يلزم من كون الميراث مانعاً من الوصية للوارث أن يكون مانعاً من الوصية لغير الوارث. واحتجوا أيضاً بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى:" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " النور 2 نسخ بالرجم الثابت بالسنة وهو ضعيف لما فيه من نسخ القرآن بآحاد السنة وهو ممتنع على ما يأتي وفي حق الشيخ والشيخة من جهة أنه أمكن أن يقال إن نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه وهو ما روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ورسوله.
ولا يمكن أن يقال إن ذلك لم يكن قرآنا بما روي عن عمر أنه قال: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت: الشيخ والشيخة إذا زنيا على حاشية المصحف وذلك يدل على أنه لم يكن قرآناً. لأنا نقول: غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآناً. فإن قيل: الشيخ والشيخة لم يثبت بالتواتر بل بقول عمر ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع على ما يأتي وسواء كان ذلك قرآناً أو سنة. قلنا: والسنة وهو رجم النبي ﷺ للزاني لم يثبت بالتواتر بل بطريق الآحاد وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم والإجماع ليس بناسخ بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته. وأما النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية: أما النقلية فمن خمسة أوجه: الأول: قوله تعالى:" لتبين للناس ما نزل إليهم " النحل 44 وصف نبيه بكونه مبيناً والناسخ رافع والرفع غير البيان. الثاني: قوله تعالى:" وإذا بدلنا آية مكان آية " النحل 101 أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة الثالث: أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا: إنما أنت مفتر فأزال الله تعالى وهمهم بقوله:" قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل 102 وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس. الرابع: قوله تعالى:" قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وهو دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن. الخامس: قوله تعالى:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " البقرة 106 وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية. وبيانه من وجوه: الأول: أنه قال:" نأت بخير منها أو مثلها " والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله. الثاني: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة. الثالث: وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل أما المثل فظاهر وأما ما هو خير. فلأنه لو قال القائل لغيره لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول. الرابع قوله:" ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وذلك هو القرآن دون غيره. وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول: أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في قوله تعالى:" وما أتاكم به الرسول فخذوه " الحشر 7 وقوله: فاتبعوه وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس. الثاني: أن القرآن أقوى من السنة ودليله من ثلاثة أوجه. الأول: قول النبي ﷺ لمعاذ بم تحكم؟ قال بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قدمه في العمل به على السنة والنبي ﷺ أقره على ذلك وذلك دليل قوته. الثاني: أنه أقوى من جهة لفظه لأنه معجز والسنة ليست معجزة. الثالث: أنه أقوى من جهة حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته عن الجنابة والحيض وفى مس مسطوره مطلقاً والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف. والجواب عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يجب حمل قوله لتبين للناس على معنى لتظهر للناس لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل شيء حتى المنسوخ وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن. الثاني: أن نسخ حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله لتبين للناس وتبين القرآن أعم من تبيينه بالقرآن الثالث: أنه وإن لم يكن النسخ بياناً غير أن وصف النبي ﷺ بكونه مبيناً لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخاً. وعن الآية الثانية من وجهين: الأول: أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية النزاع إنما هو في تبديل حكم الآية وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى.
الثاني: أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية. وذلك كما لو قال القائل لغيره إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق. وعن قوله:" قل نزله روح القدس " النحل 102 أن ذلك لا يدل عل امتناع نسخ القرآن بالسنة إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس وليس كذلك إذ السنة من الوحي وإن كانت لا تتلى ما سبق تقريره. وعن الآية الرابعة من وجهين: الأول: أن قوله:" إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي في تبديل آية مكان آية وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية. الثاني: أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعاً إلا ما يوحى إليه به. وعن الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم الآية بغير الآية قولهم في الوجه الأول إن السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله. قلنا: قوله:" ما ننسخ من آية " البقرة 106 إما أن يراد به نسخ رسمها أو نسخ حكمها فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيراً منها والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض. وإن كان الثاني فذلك يدل على أن الحكم الناسخ يكون خيراً من الحكم المنسوخ أو مثله ونحن نقول إنه لا يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف. وأما الوجه الثاني فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخةً فالآتي بما هو خير إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآناً بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك. وأما الوجه الثالث فلا دلالة فيه على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه لأنه وصفه بكونه خيراً والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق. وعلى هذا فلا نسلم أنه إذا قال له ما آخذ منك درهماً إلا وآتيك بخير منه أنه يدل على المجانسة فإن ما هو خير أعم من الجنس فكأنه قال: آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك والمذكور أولاً. وإن كان هو الآية والضمير في قوله بخير منها وإن كان عائداً إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر. وأما الوجه الرابع فنحن قائلون بموجبه فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل. الوجه الثاني أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير منها أو مثلها ضرورة الإخبار ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلاً عن الآية الأولى وإن كان الناسخ غيرها. الثالث أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية والأصل تنزيل اللفظ على حقيقته وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز وهو خلاف الأصل والنزاع إنما وقع في نسخ الحكم لا في نسخ الرسم. وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه. الأول أن ذلك إنما يمتنع إن لو كانت السنة رافعةً لما هي فرع عليه من القرآن وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعاً عليه. الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على خلاف ما ذكروه. الثالث أن السنة ليست رافعةً للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه وحكمه ليس أصلاً لها فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع. وعن المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزاً في نظمه وبلاغته ومتلواً ومحترماً فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من الأدلة ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمةً عليه وكذلك أيضاً لو تعارضت آية ودليل عقلي فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها. وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في الترجيحات وعلى هذا فلا يمتنع رفع حكم الآية بدليل السنة كيف وإن السنة الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية بل مبينة ومخصصة على ما سبق. المسألة الحادية عشرة اختلفوا في جواز نسخ الحكم الثابت بالإجماع فنفاه الأكثرون وأثبته الأقلون.
والمختار مذهب الجمهور ودليله أن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله ﷺ وانقراض زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن يكون بنص من كتاب أو سنة أو بإجماع آخر أو قياس: لا جائز أن يكون بنص لأن ذلك النص لا بد وأن يكون موجوداً في زمن النبي ﷺ سابقاً على هذا الإجماع لاستحالة حدوث نص بعد وفاة رسول الله ﷺ ولو كان ذلك النص متقدماً على الإجماع لكان إجماعهم على خلاف مقتضاه خطأ وهو غير متصور من الأمة ولا جائز أن يكون بإجماع آخر لأن الإجماع الثاني إما أن يكون بناء على دليل رافع لحكم الإجماع الأول أو لا بناء على دليل فإن لم يكن مبيناً على دليل كان خطأ والأمة مصونة عنه وإن كان ذلك بدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: لا جائز أن يكون نصاً لأنه لا بد وأن يكون متقدماً على الإجماعين متحققاً في زمن النبي ﷺ ويلزم من ذلك الخطأ في الإجماع الأول وهو محال ولا جائز أن يكون قياساً لأنه لا بد له من أصل والحكم في ذلك الأصل إما أن يكون بدليل متجدد بعد الإجماع الأول أو سابق عليه: فإن كان بدليل متجدد فهو إما إجماع أو قياس لاستحالة تجدد النص. فإن كان إجماعاً فلا بد له من دليل وذلك الدليل لا بد وأن يكون نصاً أو قياساً على أصل آخر فإن قياسا على أصل آخر فالكلام في ذلك الأصل كالكلام في الأول فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى أصل ثابت بالنص والتسلسل محال والثاني يلزم منه أن يكون النص على أصل القياس سابقاً على الإجماع الأول. وعند ذلك فصحة القياس عليه مشروطة بعدم الإجماع الأول على مناقضته ونسخ الإجماع الأول به متوقف على صحته وهو دور ممتنع. هذا كله إن كان دليل أصل القياس الذي هو مستند الإجماع متجدداً وإن كان سابقاً على الإجماع الأول فعدول أهل الإجماع عنه دليل على عدم صحة القياس عليه وإلا كان إجماعهم خطأ وهو محال. وأما إن كان الناسخ لحكم الإجماع الأول هو القياس فلا بد وأن يكون مستنداً إلى أصل ثابت بالنص والكلام في نسخ النص به مما يفضي إلى الدور كما قررناه قبل. فإن قيل: فلو اختلفت الأمة في المسألة على قولين فقد أجمعت على أن المقلد له الأخذ بأي القولين شاء ولو أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فقد أجمعت على حصر ما أجمعت أولا عل تجويزه وهو نسخ حكم الإجماع بالإجماع. قلنا: نحن لا نسلم تصور انعقاد الإجماع الثاني على ما سبق في مسائل الإجماع. المسألة الثانية عشرة مذهب الجمهور أن الإجماع لا ينسخ به خلافاً لبعض المعتزلة وعيسى بن أبان. ودليل الامتناع أن المنسوخ به إما أن يكون حكم نص أو إجماع أو قياس: الأول محال لأن الإجماع إما أن يكون مستنداً إلى دليل أو ليس مستنداً إلى دليل فإن لم يكن مستنداً إلى دليل فهو خطأ. وإن كان مستنداً إلى دليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً لا جائز أن يكون قياساً لما سنبينه بعد وإن كان نصاً فالناسخ ذلك النص لا الإجماع وإن قيل إن الإجماع ناسخ فليس إلا بمعنى أنه يدل على الناسخ وإن كان ناسخاً لحكم إجماع سابق فهو باطل بما في المسألة التي قبلها. وإن كان ناسخاً لحكم قياس فالقياس إما أن يكون صحيحاً أو لا يكون صحيحاً: فإن كان صحيحاً فإجماع الأمة على خلاف مقتضاه إن كان لا لدليل فهو خطأ وإن كان لدليل فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً: فإن كان نصاً فالرافع لحكم ذلك القياس هو النص وإن كان قياساً فإما أن يكون راجحاً على القياس الأول أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً فالأول لا يكون مقتضاه ثابتاً لأن شرط ثبوت الحكم رجحان مقتضيه وكذلك إن كان مساوياً وإن كان القياس الأول راجحاً فالإجماع على القياس الثاني خطأ وهو ممتنع. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنقل والمعنى. أما النقل فهو أن ابن عباس حين قال لعثمان كيف تحجب الأم عن الثلث بالأخوين والله تعالى يقول:" فإن كان له إخوة فلأمه السدس " النساء 11 والأخوان ليسا بإخوة؟ قال عثمان حجبها قومك يا غلام وذلك دليل النسخ بالإجماع. وأما المعنى فهو أن الإجماع دليل من أدلة الشرع القطعية فجاز النسخ به كالقرآن والسنة المتواترة.
قلنا: أما قصة ابن عباس مع عثمان إنما يصح الاستدلال بها إن لو كان حكم الأم مع الأخوين منسوخاً وليس كذلك إلا أن يكون الأخوان ليسا بإخوة وليس كذلك على ما سبق بيانه في مسائل العموم. وما ذكروه من المعنى فحاصله يرجع إلى إثبات كونه ناسخاً بالقياس على النص وهو غير مسلم الصحة في مثل هذه المسائل وإن كان صحيحاً غير أنه مما يمتنع التمسك به لما بيناه. المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في نسخ حكم القياس فمنهم من منع من ذلك مطلقاً كالحنابلة والقاضي عبد الجبار في بعض أقواله مصيراً منهم إلى أن القياس إذا كان مستنبطاً من أصل فالقياس باق ببقاء الأصل فلا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله ومنهم من جوز ذلك مطلقاً كأبي الحسين البصري لكنه فصل بين القياس الموجود في زمن النبي ﷺ والقياس الموجود بعده فقال: إن كان القياس موجوداً في زمن النبي ﷺ بأن يكون قد نص على أصل كتنصيصه على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً وتعبد الناس بقياس غير البر على البر بواسطة الكيل مثلاً بإمارة تدل عليه فإذا قضى بتحريم بيع الأرز بناء على القياس على البر فلا يمتنع نسخه بالنص وبالقياس: أما النص فبأن ينص بعد ذلك على إباحة بيع الأرز وينسخ تحريمه وأما القياس فبأن ينص على إباحة بيع بعض المأكولات ويتعبد بالقياس عليه بواسطة كونه مأكولاً بأمارة هي أقوى من الإمارة الدالة على أن علة تحريم البر هي الكيل. وإن كان القياس موجوداً بعد النبي ﷺ بأن يكون قد اجتهد بعض المجتهدين فأداه القياس إلى تحريم شيء بعد البحث عن الأدلة المعارضة وعدم الظفر بها ثم اطلع بعد ذلك على نص أو إجماع متقدم أو قياس أرجح من قياسه فإنه يلزم من ذلك رفع حكم قياسه الأول وإن كان ذلك لا يسمى نسخاً. قال: وهذا كله إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب حيث إنه تعبد بالقياس الأول ثم رفع وأما من لا يقول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يقول بتعبده بالقياس الأول فرفعه لا يكون متحققاً وهذا جملة ما ذكره أبو الحسين. وأما نحن فنقول: العلة الجامعة في القياس إما أن تكون منصوصةً أو مستنبطةً بنظر المجتهد. فإن كانت منصوصةً فهي في معنى النص وما مثل هذا القياس فليكن نسخ حكمه بنص أو بقياس في معناه ولو ذهب إليه ذاهب بعد النبي ﷺ لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث عنه فإنه وإن كان متعبداً باتباع ما أوجبه ظنه فرفع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخاً متحدداً بل تبين أنه كان منسوخاً وفرق بين الأمرين. وأما إن كانت العلة الجامعة مستنبطة بنظر المجتهد فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه لا يكون نسخاً على قولنا إن النسخ رفع حكم خطاب على ما قررناه وإن كانت مشاركاً للنسخ في رفع الحكم وقطع استمراره وسواء قلنا إن كل مجتهد مصيب أو لم نقل بذلك. المسألة الرابعة عشرة اختلفوا في النسخ بالقياس على ثلاثة أقوال ثالثها الفرق بين القياس الجلي والخفي وهو قول أبي القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي. والمختار أنه إن كانت العلة الجامعة في القياس منصوصةً فهي في معنى النص فيصح النسخ به وإن كانت غير منصوصة فإما أن يكون القياس قطعياً أو ظنياً بأن تكون العلة فيه مستنبطة بنظر المجتهد. فإن كان قطعياً كقياس الأمة على العبد في تقويم النصيب على السيد المعتق فإنه وإن كان مانعاً من إثبات حكم دليل آخر كان نصاً أو قياساً فلا يكون ذلك نسخاً وإن كان في معنى النسخ لكونه ليس بخطاب عل ما بيناه من أن النسخ إنما هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب آخر. وإن كان القياس ظنياً فيمنع أن يكون ناسخاً لأن المنسوخ حكمه إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً: الأول والثاني محال إن كان النص والإجماع خاصاً لكون النص الخاص والإجماع مقدماً على القياس الظني بالاتفاق وإن كان عاماً فلا نسخ لأن القياس ليس بخطاب على ما سبق وإن كان قياساً فلا بد وأن يكون القياس الثاني راجحاً على الأول.
وعند ذلك فتارة نقول إن القياس الأول لا يكون قياساً لعدم ترجحه وإن الترجح شرط في الاقتضاء وتارة نقول إنه وإن لزم منه رفع حكمه فهو في معنى النسخ ولكنه ليس بنسخ لما بيناه من أن النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب وهو غير متحقق فيما نحن فيه. وللمخالف شبهتان: الأولى: قوله تعالى:" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله " الأنفال 66 أوجب نسخ ثبات الواحد للعشرة وليس مصرحاً به وإنما هو منبه عليه وذلك هو نفس نسخ حكم النص بالقياس. الثاني: أنهم قالوا النسخ أحد البيانين فجاز بالقياس كالتخصيص. والجواب عن الأولى أنها إنما تصح إن لو كان ثبوت الواحد للاثنين الرافع ثبوت الواحد للعشرة مستفاداً من القياس وليس كذلك بل استفادته إنما هي من نفس مفهوم اللفظ. وعن الثانية أنها منقوضة بالإجماع وبدليل العقل وبخبر الواحد فإنه يخصص به ولا ينسخ به. المسألة الخامسة عشرة اتفق الكل على جواز النسخ بفحوى الخطاب كدلالة قوله تعالى:" ولا تقل لهما أف " الإسراء 23 على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى وعلى جواز نسخ حكمه وإنما اختلفوا في جواز نسخ الأصل دون الفحوى والفحوى دون الأصل غير أن الأكثر على أن نسخ الأصل يفيد نسخ الفحوى لأن الفحوى تابع للأصل ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع. وأما نسخ الفحوى دون الأصل فقد تردد فيه قول القاضي عبد الجبار فجوزه تارةً نظراً إلى أن ذلك جار مجرى التنصيص على تحريم التأفيف وتحريم الضرب العنيف فكأنه قال: لا تقل لهما أف ولا تضربهما فرفع حكم أحدهما يفيد رفع حكم الآخر ومنع منه تارةً ووافقه على المنع أبو الحسين البصري مصيراً منهما إلى أن تحريم التأفيف إنما كان إعظاماً للوالدين فإذا أبيح ضربهما كان ذلك نقضاً للغرض من تحريم التأفيف. والمختار في ذلك أن يقال. إثبات تحريم الضرب في محل السكوت إما أن يقال إنه ثابت بالقياس على تحريم التأفيف في محل النطق أو أنه ثابت بدلالة اللفظ لغةً على اختلاف المذاهب فيه. فإن كان الأول فيجب أن يقال بأن نسخ حكم الأصل يوجب رفع حكم الفرع لاستحالة بقاء الفرع دون أصله وإن لم يسم ذلك نسخاً لما سبق وإن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل إذ لا يلزم من رفع التابع رفع المتبوع. وإن كان الثاني فلا يخفى أن دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى تحريم الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير أن دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق وعند ذلك أمكن أن يقال بأن رفع حكم إحدى الدلالتين لا يلزم منه رفع حكم الدلالة الأخرى. فإن قيل: فإذا كانت دلالة الفحوى تابعةً لدلالة المنطوق فرفع الأصل مما يمتنع معه بقاء التابع وأيضاً فإن الغرض من دلالة المنطوق إعظام الوالدين فرفع حكم الفحوى مما يخل بالغرض من دلالة المنطوق فيمتنع معه بقاء حكم المنطوق. قلنا: أما الأول فمندفع وذلك لأن دلالة الفحوى وإن كانت تابعةً لدلالة المنطوق فنسخ حكم المنطوق ليس نسخاً لدلالته بل نسخاً لحكمه ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا أنها تابعة لحكمه ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل نسخه فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو المرتفع ليس أصلاً للفحوى. وأما الثاني فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ولا يخفى أن غرض إثبات التحريم للتأفيف مغاير لغرض تخصيصه بالذكر تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الغرض الآخر. المسألة السادسة عشرة اختلفوا في نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع أو لا؟ فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى بقائه والباقون إلى امتناعه وهو المختار لأن ثبوت الحكم في الفرع تابع لاعتبار علته بحكم الأصل فإذا نسخ حكم الأصل خرجت العلة المستنبطة منه عن أن تكون معتبرةً في نظر الشارع فبطل ما كان تابعا لاعتبارها.
فإن قيل: يلزم مما ذكرتموه نسخ حكم الفرع بالقياس على حكم الأصل حيث جعلتم رفع حكم الفرع تابعاً لرفع حكم الأصل والنسخ بالقياس غير جائز على ما قررتموه ثم ما ذكرتموه من انتفاء التابع لانتفاء المتبوع متى يلزم ذلك إذا كان الحكم يفتقر في دوامه إلى دوام سببه أو إذا لم يفتقر؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بافتقاره إليه؟ وإن سلمنا ذلك ولكن ما ذكرتموه منتقض بالأب فإنه يتبعه ولده الطفل في الإسلام والكفر ولو زال إسلام الأب بالردة لم يلزم منه زوال ما كان ثابتاً للولد من الإسلام تبعاً له. قلنا: جواب الأول أنا لا نسلم أن رفع الحكم في الفرع كان بالقياس على رفع حكم الأصل وإلا لافتقر إلى علة جامعة نافية لهما وليس كذلك وإنما قيل برفعه لانتفاء علته وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء موجبه وبين انتفائه بالقياس. وجواب الثاني أنه إن قيل بافتقار الحكم في دوامه إلى دوام علته فهو المطلوب وإن لم يقل بذلك فلا خلاف بين أئمة الفقه أنه وإن لم يفتقر الحكم في دوامه إلى دوام ضابط حكمة الحكم المعرف للحكم في الفرع في ابتدائه انه لا بد من دوام احتمال الحكمة حتى إنه لو انتهت حكمة الحكم قطعاً امتنع بقاؤه بعدها وإذا لم يكن بد من دوام احتمال الحكمة فلا بد من أن تكون معتبرة لاستحالة بقاء الحكم لحكمة غير معتبرة وبنسخ حكم الأصل زال اعتبارها وانتفاء ما لا بد منه في دوام الحكم يوجب رفع الحكم. وعلى هذا فقد اندفع النقض فإنا لا نسلم أن إسلام الأب علة موجبة لإسلام الابن حتى يلزم من انتفاء إسلامه انتفاء إسلام الابن ولا أن دوام إسلام الأب معتبر في دوام إسلام الابن ليلزم من انتفائه انتفاؤه. المسألة السابعة عشرة لا نعرف خلافا بين الأمة في أن الناسخ إذا كان مع جبريل عليه السلام لم ينزل به إلى النبي ﷺ لم يثبت له حكم في حق المكلفين بل هم في التكليف بالحكم الأول على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبريل وإنما الخلاف فيما إذا ورد النسخ إلى النبي ﷺ ولم يبلغ الأمة هل يتحقق بذلك النسخ في حقهم أو لا؟. فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى الإثبات وبعضهم إلى النفي وبه قال أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وهو المختار. وبيانه أن النسخ له لازم وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق وامتناع الخروج بالفعل الواجب أولاً عن العهدة ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ والأثم بتركه والثواب على فعله وهذه اللوازم منتفية ويلزم من انتفاء اللازم. انتفاء الملزوم أما أن الحكم السابق لم يرتفع فهو أن المكلف يثاب على فعله ويخرج به عن العهدة ويأثم بتركه له قبل بلوغ النسخ إليه بالإجماع ولهذا فإن أهل قبا لما بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة استداروا والنبي ﷺ اعتد لهم بالركعات التي أتوا بها بعد نزول النسخ قبل علمهم بالنسخ ولم ينكر عليهم. وأما أن الخطاب بالنسخ غير لازم للمكلف قبل البلوغ فبيانه بالنص والحكم. أما النص فقوله تعالى:" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " الإسراء 15 وقوله تعالى:" لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء 165 وقوله تعالى:" وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً " القصص 59. وأما الحكم فهو أن المكلف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ على وجهها كان آثماً عاصياً غير خارج به عن العهدة كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه ولو كان مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة ولما كان عاصياً بفعل ما خوطب به وللمخالفين خمس شبه. الشبهة الأولى أن المكلف متصرف بالإذن من الشارع فلزم رفعه برفع الشرع له وإن لم يعلم المكلف بالرفع كما لو عزل الموكل الوكيل عن التصرف فإنه لا ينعقد تصرفه بعد ذلك وإن لم يعلم بعزله. الثانية أن النسخ إسقاط حق لا يعتبر فيه رضي من يسقط عنه فلا يعتبر فيه علمه كالطلاق والعتق والإبراء. الثالثة أن النسخ إباحة ترك الفعل بعد إيجابه أو إباحة فعله بعد خطره فلا يتوقف ذلك على علم من أبيح له كما لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها من حيث لا تعلم فإنه يثبت حكم الإباحة في حق الزوجة ولا يقع الطلاق بخروجها.
الرابعة أن نسخ الحكم إباحة ترك المنسوخ الذي هو حق الشارع فوجب أن يثبت قبل علم المباح له كما لو قال القائل أبحت ثمرة بستاني لكل من دخله فإنه يباح لكل داخل وإن لم يعلم بذلك. الخامسة أن رفع الحكم يتحقق بعد علم المكلف بالنسخ فرفعه إما أن يكون بعلمه أو بالنسخ والعلم غير مؤثر في الرفع فكان الرفع بالنسخ ولزم رفعه عند تحقق النسخ. والجواب عن الأول بمنع عزل الوكيل قبل علمه بالعزل. وعن الثانية لم قالوا بأن النسخ إذا لم يتوقف على رضى المنسوخ عنه لا يتوقف على علمه ولا يلزم من عدم اعتبار العلم في صورة الاستشهاد عدم اعتباره في النسخ فإنه لا مانع أن يكون عدم اعتبار العلم ثم لعدم تضمنه رفع حكم خطاب سابق بخلاف ما نحن فيه فكان العلم مشترطاً فيه لما ذكرناه. وعن الثالثة والرابعة بمنع الحكم فيما ذكروه من صوره الاستشهاد. وعن الخامسة أن رفع الحكم بالنسخ مشروط بالعلم ولا تحقق للمشروط دون شرطه. المسألة الثامنة عشرة الزيادة على النص هل تكون نسخاً وقد اتفق العلماء على أن الزيادة إذا كانت عبادةً منفردةً بنفسها عن العبادة المزيد عليها أنها لا تكون نسخاً لحكم المزيد عليه وذلك كزيادة صلاة على صلوات أو صوم أو حجة أو زكاة إلا ما نقل عن بعض العراقيين أنهم قالوا: إن زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس يكون نسخاً من جهة أن الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها في قوله تعالى:" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " تخرج عن كونها وسطى وهو غير صحيح لوجهين: الأول: أن النسخ إنما يكون لحكم شرعي على ما تقدم وكون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بحكم شرعي. الثاني: أنه يلزم عليه أن لو أوجب الشارع أربع صلوات ثم أوجب صلاة خامسة أو زكاة أو صوماً أن يكون ذلك نسخاً لإخراج العبادة الأخيرة عن كونها أخيرة وإخراج العبادات السابقة عن كونها أربعاً وهو خلاف الإجماع. وإنما اختلفوا في غير هذه الزيادة كزيادة ركعة على ركعات صلاة واحدة وزيادة جلدات على جلدات حد واحد وزيادة صفة في رقبة الكفارة كالإيمان إلى غير ذلك من الزيادات: فذهبت الشافعية والحنابلة وجماعة من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم إلى أنها لا تكون نسخاً وقالت الحنفية تكون نسخاً ومنهم من فصل. ثم القائلون بالتفصيل منهم من قال إن كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة والشرط كانت الزيادة نسخاً كإيجاب الزكاة في معلوفة الغنم فإنه خلاف ما أفاده قوله ﷺ:" في الغنم السائمة زكاة "من نفي الزكاة عن المعلوفة وإلا فلا. ومنهم من قال إن كانت الزيادة مغيرةً لحكم المزيد عليه في المستقبل كزيادة التغريب في المستقبل على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف كانت نسخاً وإن لم تغير حكمه في المستقبل فإنها لا تكون نسخاً وسواء كانت الزيادة لا تنفك عن المزيد عليه كما لو وجب علينا ستر الفخذ فإنه يجب ستر بعض الركبة ضرورة أن ما لا يتم الواجب. إلا به فهو واجب أو كانت الزيادة عند تعذر المزيد عليه وذلك كإيجاب قطع رجل السارق بعد قطع يديه وهذا هو مذهب الكرخي وأبي عبد الله البصري من المعتزلة. ومنهم من قال إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيراً شرعياً بحيث صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حسب ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه كزيادة ركعة على ركعتي الفجر كان ذلك نسخاً أو كان قد خير بين فعلين فزيد فعل ثالث فإنه يكون نسخاً لتحريم ترك الفعلين السابقين وإلا فلا وذلك كزيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على حد القذف وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كزيادة الوضوء وهذا هو مذهب القاضي عبد الجبار. ومنهم من قال إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وإن لم تكن الزيادة كذلك كزيادة عشرين جلدةً على حد القذف فلا تكون نسخاً. وهذا هو الذي اختاره الغزالي والمختار أنه إن كانت الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه وكانت رافعةً لحكم شرعي كان ذلك نسخاً ووجب النظر في دليل الزيادة فإن كان مما يجوز بمثله نسخ حكم النص فهو نسخ وإلا فلا.
وإن لم تكن الزيادة متأخرةً عن المزيد عليه أو كانت رافعةً لحكم العقل الأصلي لا غير لم يكن ذلك نسخاً شرعياً وإن كان نسخاً لغوياً وجاز بكل ما يصلح أن يكون دليلاً في موضعه وإن لم يجز به النسخ كالقياس وخبر الواحد ونحوه وهذا هو اختيار أبي الحسين البصري. وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل فلا بد من النظر فيما يتفرع على هذه المذاهب من المسائل الفرعية والكشف عن وجه الحق في كل واحدة منها تتمةً للمقصود وهي عشرة فروع: الفرع الأول إذا وجبت الزكاة في معلوفة الغنم لا يكون ذلك نسخاً لحكم قوله ﷺ في الغنم السائمة زكاة لأنه لا يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة كما سبق في إبطال دليل الخطاب وإنما يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة بناء على حكم العقل الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً لما تقدم وإن سلمنا أن دليل الخطاب حجة وأنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة فلا يخفى أن وجوب الزكاة فيها يكون رافعاً لما اقتضاه دليل الخطاب فيكون نسخاً. الفرع الثاني إذا زيدت ركعة على ركعتي الصبح بحيث صارت صلاة الصبح ثلاث ركعات قال أبو الحسين البصري هذا ليس بنسخ لحكم الدليل الدال على وجوب صلاة الصبح لأن زيادة الركعة إما أن تكون نسخاً للركعتين أو نسخاً لأجزائها ووجوبها أو نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين: لا جائز أن يكون نسخاً للركعتين لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال كيف وإن الركعتين قارتان لم يرتفعا ولا جائز أن يكون نسخاً لأجزائها وإلا كان زيادة غسل عضو آخر في طهارة الصلاة ناسخاً لأجزائها ووجوبها الذي كان قبل إيجاب غسل العضو الزائد ولم يقل به من قال بهذا المذهب كالقاضي عبد الجبار كما عرف من مذهبه ولا جائز أن يكون نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين لأنه إنما كان واجباً آخر الصلاة وذلك غير مرتفع ولا متغير وإنما المتغير آخر الصلاة فإن آخرها كان بآخر الركعتين والآن صار آخر الثلاث. وقد قيل في إبطاله لا نسلم الحصر فإنه كان يحرم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وليس بحق إذ لقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو كان الأمر بالركعتين مقتضياً للنهي عن الزيادة عليهما وليس كذلك بل أمكن أن يكون ذلك مستفاداً من دليل آخر فزيادة الركعة على الركعتين لا يكون نسخا لحكم الدليل الدال على وجوب الركعتين. وقد قيل في إبطاله أيضاً إن النسخ إنما هو لأجزاء الركعتين بتقدير انفرادهما وهو حكم شرعي وقد ارتفع بالزيادة وفيه نظر إذ يمكن أن يقال: معنى كون الركعتين مجزية أنه يخرج بها عن عهدة الأمر ومعنى الخروج بها عن العهدة أنه لا يجب مع فعلها شيء آخر وليس ذلك حكماً شرعياً ليكون رفعه نسخاً شرعياً بل هو من مقتضيات النفي الأصلي وإنما طريق الرد عليه أن يقال: ما ذكره من الإلزام باشتراط غسل العضو الزائد وإن كان لازماً على القاضي عبد الجبار فغير لازم لغيره كالغزالي ونحوه من القائلين يكون ذلك نسخاً فلا بد من الدلالة عليه ولم يتعرض لذلك وإن قدر لزوم ذلك فلا يخفى أن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي وقد ارتفع بزيادة الركعة. والقول بأن المغير إنما هو آخر الصلاة ليس كذلك فإن التشهد كان واجبا عقيب الركعتين وبالزيادة صار غير واجب. الفرع الثالث زيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين جلدةً على الثمانين ليس بنسخ لأن النسخ يستدعي رفع ما ثبت للثمانين من الحكم الشرعي ولا تحقق له إذ الأصل بقاء ما كان لها من الحكم قبل الزيادة بعدها. فإن قيل: بيان ارتفاع حكم الثمانين من خمسة أوجه: الأول: أن الثمانين قبل الزيادة كانت كل الحد الواجب وقد صارت بعد الزيادة بعض الحد. الثاني: أن الثمانين كانت مجزئة قبل الزيادة وقد ارتفع إجزاؤها بالزيادة. الثالث: الثمانون وحدها كان يتعلق بها التفسيق ورد الشهادة وبعد الزيادة زال تعلق ذلك بالثمانين. الرابع: أن الثمانين قبل الزيادة كان يجب الاقتصار عليها وبعد الزيادة زال هذا الوجوب. الخامس: أن قبل الزيادة كانت الزيادة غير واجبة وقد زال هذا الحكم بإيجاب الزيادة. والجواب عن الأول أنه لا معنى لكون الثمانين قبل الزيادة كل الواجب إلا أنها واجبة وغيرها ليس بواجب ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع بالزيادة عدم وجوب الزيادة وذلك معلوم بالبراءة الأصلية فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً.
وعن الثاني ما سبق في الفرع الذي قبله. وعن الثالث لا نسلم أن التفسيق ورد الشهادة متعلق بالثمانين بل بالقذف وإن سلمنا تعلق ذلك بالثمانين إلا أن معنى التفسيق يرجع إلى عدم موافقة أمر الشارع ورد الشهادة إلى عدم قبولها وذلك معلوم بالنفي الأصلي ورد الشهادة وإن كان معلوماً من قوله تعالى:" ولا تقبلوا لهم شهادة " فليس من مقتضيات دليل إيجاب الثمانين فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً. وعن الرابع أن معنى وجوب الاقتصار على الثمانين قبل الزيادة أنها واجبة ولا تجوز الزيادة عليها ووجوبها لم يرتفع وإنما المرتفع عدم الجواز المستند إلى البراءة الأصلية وذلك ليس بنسخ على ما تقدم وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الإلزام الخامس أيضاً. الفرع الرابع إذا أوجب الله تعالى غسل الرجلين على التعيين ثم خيرنا بين ذلك وبين المسح على الخفين أو خيرنا في الكفارة بين الإطعام والصيام ثم زاد ثالثاً وهو الإعتاق هل يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الرجلين على التعيين ووجوب التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين؟ الحق إنه نسخ لغسل الرجلين وليس نسخاً للتخيير بين الإطعام والصيام لأن التخيير بين الإطعام والصيام على التعيين معناه أن الواجب واحد منهما وأن غيرهما لايقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا يقوم مقامهما ووجوب أحدهما لا بعينه غير مرتفع وإنما المرتفع كون غيرهما لايقوم مقامهما وذلك حكم ثابت بمقتضى النفي الأصلي فرفعه لايكون نسخاً شرعياً. الفرع الخامس إذا وقف الله تعالى الحكم على شاهدين بقوله:" فاستشهدوا شهيدين " البقرة 282 فإذا جوز الحكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فهل يكون ذلك نسخاً للحكم بالشاهدين على التعيين؟ الحق أنه ليس بنسخ وذلك لأن مقتضى الآية جواز الحكم بالشاهدين وأن شهادتهما حجة وليس فيه ما يدل على امتناع الحكم بحجة أخرى إلا بالنظر إلى المفهوم ولا حجة فيه على ما تقدم وإن كان حجةً فرفعه يكون نسخاً ولا يجوز بخبر الواحد. الفرع السادس إذا أوجب الله تعالى عتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار فتقييدها بعد ذلك بالإيمان إن ثبت أن الله تعالى أراد بكلامه الدلالة على أجزاء الرقبة الكافرة وغيرها كان التقييد بالإيمان نسخاً ولا يجوز بدليل العقل والقياس وخبر الواحد وإلا كان تقييداً للمطلق لا نسخاً. الفرع السابع إذا أوجب الله تعالى قطع يد السارق ورجله على التعيين فإباحة قطع رجله الأخرى بعد ذلك إن كان رافعا لعدم الإباحة الثابتة بحكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً وإن كان رافعاً للتحريم وإن جاز أن يكون نسخاً فليس نسخا لمقتضى النص الأول لعدم دلالته عليه. الفرع الثامن إذا زيد في الطهارة اشتراط غسل عضو زائد على الأعضاء الستة فلا يكون ذلك نسخاً لوجوب غسل الأعضاء الستة إذ هي واجبة مع وجوب غسل العضو الزائد ولا لإجزائها عند الاقتصار عليها لأن معنى كونها مجزئة أن امتثال الأمر بفعلها غير متوقف على أمر آخر وامتثال الأمر بفعلها غير مرتفع وإنما المرتفع عدم التوقف على شرط آخر وذلك المرتفع وهو عدم اشتراط أمر آخر إنما كان مستنداً إلى حكم العقلي الأصلي فلا يكون رفعه نسخاً شرعياً وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا زيد في الصلاة شرط آخر. الفرع التاسع قوله تعالى:" ثم أتموا الصيام إلى الليل " البقرة 187 دال على جعل أول الليل غاية للصوم فإيجاب صوم أول الليل بعد ذلك هل يكون نسخاً لما دلت عليه الآية من كون أول الليل غاية للصوم وظرفاً له؟ والحق في ذلك أن يقال: إن قلنا إن مفهوم الغاية ليس بحجة وأنه لا يدل على مد الحكم إلى غاية أن يكون الحكم فيما بعد الغاية على خلاف ما قبلها فإيجاب صوم أول الليل لا يكون نسخاً لمدلول الآية وإلا كان نسخاً وامتنع ذلك بدليل العقل وخبر الواحد. الفرع العاشر إذا قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فاشتراط شرط آخر لا يكون نسخاً لأنه إما أن يكون نسخاً لوجوب الصلاة مع الطهارة أو لأجزائها أو لما فيه من رفع عدم اشتراط شرط آخر أو لشيء آخر: لا سبيل إلى الأول لأن الوجوب مع الطهارة لم يرتفع والثاني لا سبيل إليه لما سبق في الفرع الثامن ولا سبيل إلى الثالث لأنه رفع حكم العقل الأصلي فلا يكون نسخاً شرعياً والرابع لا بد من تصويره لأن الأصل عدمه.
وعلى هذا أيضاً قوله تعالى:" وليطوفوا بالبيت العتيق " الحج 29 موجب للطواف مطلقاً مع الطهارة ومن غير طهارة فاشتراط الطهارة بقوله ﷺ الطواف بالبيت صلاة لا يكون نسخاً لوجوب الطواف لبقاء وجوبه ولا لإجزائه ولا لعدم اشتراط الطهارة لما بيناه ولذلك منع الشافعي من الإجزاء بقوله الطواف بالبيت صلاة. وأبو حنيفة لما لم يسعه مخالفة الخبر قال بوجوب الطهارة مع بقاء الطواف مجزئاً من غير طهارة حيث اعتقد أن رفع الإجزاء يكون نسخاً لحكم الكتاب بخبر الواحد. المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نسخ سنة من سنن العبادة لا يكون نسخا لتلك العبادة كنسخ ستر الرأس والوقوف على يمين الإمام في الصلاة واختلفوا في أن نسخ ما تتوقف عليه صحة العبادة هل يكون نسخاً لتلك العبادة؟ فذهب الكرخي وأبو الحسين البصري إلى أن ذلك لا يكون نسخاً للعبادة. وسواء كان المنسوخ جزءاً من مفهوم العبادة كالركعة من صلاة الظهر مثلاً أو شرطاً خارجاً عن مفهوم الصلاة كالوضوء. ومن المتكلمين من قال: إنه نسخ للعبادة مطلقاً وإليه ميل الغزالي ومنهم من فصل بين الجزء والشرط وأوجب نسخ العبادة بنسخ جزئها دون شرطها كالقاضي عبد الجبار. والمختار أنه لا يكون ذلك نسخا للعبادة مطلقاً أما إذا كانت الصلاة أربع ركعات فكل ركعتين منها واجبة فنسخ أحد الواجبين لا يوجب نسخ الواجب الآخر وكذلك إذا كانت الصلاة واجبةً والطهارة شرط فيها فنسخ اشتراط الطهارة لا يكون موجباً لنسخ وجوب الصلاة بل الوجوب باق بحاله فلا نسخ. فإن قيل: إذا أوجب الشارع أربع ركعات ثم نسخ منها وجوب ركعتين فقد نسخ وجوب أصل العبادة لا أنه نسخ للبعض وتبقية للبعض فإن الركعتين الباقيتين ليست بعض الأربع بل هي عبادة أخرى وإلا فلو كانت بعضاً منها لكان من صلى الصبح أربع ركعات آتياً بالواجب وزيادة كما لو أوجب عليه التصدق بدرهم فتصدق بدرهمين. وإن سلمنا أن وجوب الركعتين باق بحاله غير أنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الركعتين الزائدتين حيث صارت تجزىء وكان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع وقد ارتفع ذلك وهو عين النسخ وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا نسخ شرط العبادة فإنها كانت قبل النسخ لا تجزىء وقد ارتفع ذلك بنسخ الشرط. والجواب: قولهم إن نسخ الركعتين نسخ لوجوب أصل العبادة ليس كذلك بدليل بقاء وجوب الركعتين. قولهم الركعتان عبادة أخرى غير العبادة الأولى إن أرادوا بالغيرية أنها بعض منها والبعض غير الكل فمسلم ولكن لا يكون نسخاً للركعتين وإن كان نسخاً لوجوب الكل وإن أرادوا به أنها ليست بعضاً من الأربع فهو غير مسلم. قولهم لو كانت بعضاً من الأربع لكان من صلى الصبح أربعاً قد أتى بالواجب وزيادة قلنا: ولو لم تكن بعضاً من الواجب الأول بل عبادةً أخرى لافتقرت في وجوبها إلى ورود أمر يدل على وجوبها وهو خلاف الإجماع وحيث لم تصح صلاة الصبح عند الإتيان بأربع ركعات فإنما كان لإدخال ما ليس من الصلاة فيها. قولهم إنها كانت قبل نسخ الركعتين لا تجزىء قلنا: إن أريد به عدم امتثال الأمر والثواب عليها فذلك مستند إلى النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً وإن أريد به وجوب القضاء فهو نسخ لكن لا لنفس العبادة. قولهم إنه كان يجب تأخير التشهد إلى ما بعد الأربع ليس كذلك فإن التشهد بعد الركعتين جائز نعم غايته أنه لم يكن واجباً وعدم وجوبه فلبقائه على النفي الأصلي فرفعه لا يكون نسخاً شرعياً على ما عرف نعم لو قيل برفع جوازه بحكم الشرع كان ذلك نسخاً. وعلى هذا عرف الجواب عن قولهم إن العبادة كانت لا تجزىء دون الطهارة ثم صارت مجزئةً. المسألة العشرون اتفق العلماء على جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل الذي هو شرط في التكليف وأنه يستحيل أن يكلف الله أحداً بالنهي عن معرفته إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق وذلك لأن تكليفه بالنهي عن معرفته يستدعي العلم بنهيه والعلم بنهيه يستدعي العلم بذاته فإن من لا يعرف الباري تعالى يمتنع عليه أن يكون عالماً بنهيه فإذا تحريم معرفته متوقف على معرفته وهو دور ممتنع. وإنما الخلاف في أمرين: الأول أنه هل يتصور نسخ وجوب معرفة الله تعالى وشكر المنعم ونسخ تحريم الكفر والظلم والكذب وكذلك كل ما قيل بوجوبه لحسنه وتحريمه لقبحه في ذاته: فذهبت المعتزلة بناء على فاسد أصولهم في اعتقاد الحسن والقبح الذاتي ورعاية الحكمة في أفعال الله تعالى إلى امتناع نسخ هذه الأحكام لاعتقادهم أن المقتضى لوجوبها وتحريمها إنما هو صفات ذاتية لا يجوز تبديلها ولا تغييرها ونحن قد أبطلنا هذه الأصول ونبهنا على فسادها فيما تقدم. الثاني أنه وإن جاز نسخ هذه الأحكام فبعد أن كلف الله العبد هل يجوز أن ينسخ عنه جميع التكاليف أو لا؟اختلفوا فيه نفياً وإثباتاً واختار الغزالي المنع من ذلك مصيراً منه إلى أن المنسوخ عنه يجب عليه معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه. فهذا النوع من التكليف لا يمكن نسخه بل هو باق بالضرورة وليس بحق فإنا وإن قلنا بأن النسخ لا يحصل في حق المكلف دون علمه بنزوله النسخ فلا يمتنع تحقق النسخ لجميع التكاليف في حقه عند علمه بالنسخ وإن لم يكن مكلفاً بمعرفة النسخ. خاتمة في طريق معرفة الناسخ والمنسوخ فنقول: النصان إذا تعارضا إما أن يتعارضا من كل وجه أو من وجه دون وجه: فإن تنافيا من كل وجه فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فإن كانا معلومين أو مظنونين فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر أو اقترانهما أو لا يعلم شيء من ذلك: فإن علم تأخر أحدهما عن الآخر فهو ناسخ والمتقدم منسوخ وذلك قد يعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ كما لو قال النبي ﷺ هذا ناسخ وهذا منسوخ أو أجمعت الأمة على ذلك وإما بالتاريخ وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر كقوله ﷺ:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم كقوله: كان هذا في السنة الفلانية وهذا في السنة الفلانية وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستوياً. وليس من الطرق الصحيحة في معرفة النسخ أن يقول الصحابي كان الحكم كذا ثم نسخ فإنه ربما قال ذلك عن اجتهاد ولا أن يقول في أحد المتواترين إنه كان قبل الآخر لأنه يتضمن نسخ المتواتر بقول الواحد ولا يلزم ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش ضمناً من قبول قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وأن النسب لا يثبت بقولها ابتدأ مثل ذلك هاهنا كما قاله القاضي عبد الجبار فإن غاية ذلك الجواز ولا يلزم منه الوقوع ولا أن يكون أحدهما مثبتاً في المصحف بعد الآخر لأنه ليس ترتيب الآيات في المصحف على ترتيبها في النزول ولا أن يكون راوي أحدهما من أحداث الصحابة لأنه قد ينقل عمن تقدمت صحبته. وإن روى عن النبي ﷺ من غير واسطة فلجواز أن تكون رواية متقدم الصحبة متأخرةً ولا أن يكون إسلام أحد الراويين بعد إسلام الآخر لما ذكرناه في رواية الحدث ولا أن يكون أحد الراويين متجدد الصحبة بعد انقطاع صحبة الراوي الآخر لجواز سماعه عمن تقدمت صحبته ولا أن يكون أحد النصين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية والآخر على خلافه فإنه ليس تقدم الموافق لذلك أولى من المخالف. وأما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك. وأما إن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فالعمل بالمعلوم واجب سواء تقدم أو تأخر أو جهل الحال في ذلك لكنه إن كان متأخراً عن المظنون كان ناسخاً وإلا كان مع وجوبه العمل به غير ناسخ. هذا كله فيما إذا تنافياً من كل وجه وأما إن تنافيا من وجه دون وجه بأن يكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه دون وجه كما في قوله ﷺ:" من بدل دينه فاقتلوه "فإنه خاص بالمبدل وعام في النساء والرجال وقوله:" نهيت عن قتل النسوان "فإنه خاص في النساء وعام بالنسبة إلى المبدل فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه فعليك بالاعتبار والله أعلم. الأصل الخامس في القياس ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب. أما المقدمة ففي تحقيق معنى القياس وبيان أركانه. أما القياس فهو في اللغة عبارة عن التقدير ومنه يقال: قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع أي قدرته بذلك وهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة فهو نسبة وأضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه. وأما في اصطلاح الأصوليين فهو منقسم إلى قياس العكس وقياس الطراد. أما قياس العكس فعبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم ما في غيره لافتراقهما في علة الحكم وذلك كما لو قيل: لو لو يكن الصوم شرطاً في الاعتكاف لما كان شرطاً له عند نذره أن يعتكف صائماً كالصلاة فإن الصلاة لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تكن من شرطه إذا نذر أن يعتكف مصلياً. فالأصل هو الصلاة والفرع هو الصوم وحكم الصلاة أنها ليست شرطاً في الاعتكاف والثابت في الصوم نقيضه وهو أنه شرط في الاعتكاف وقد افترقا في العلة لأن العلة التي لأجلها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف أنها لم تكن شرطاً فيه حالة النذر وهذه العلة غير موجودة في الصوم لأنه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعاً. وأما قياس الطرد فقد قيل فيه عبارات غير مرضية لا بد من الإشارة إليها وإلى إبطالها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فيه. فمنها قول بعضهم إنه عبارة عن إصابة الحق وهو منتقض بإصابة الحق بالنص والإجماع فإنه على ما قيل وليس بقياس كيف وإن إصابة الحق فرع للقياس وحكم له وحكم القياس لا يكون هو القياس. ومنها قول بعضهم إنه بذل الجهد في استخراج الحق وهو أيضاً باطل بما أبطلنا به الحد الذي قبله كيف وإن بذل الجهد إنما هو منبىء عن حال القائس لا عن نفس القياس وقد قيل في إبطاله إنه غير منعكس لوجود المحدود دون الحد وذلك أن من رأى حكماً منصوصاً عليه وعلى علته وكانت علته مما يشهد الحس بها في الفرع فإن ذلك مقتضى تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بطريق القياس وإن لم يوجد فيه بذل جهد في استخراج الحق فقد وجد المحدود دون حده وليس بحق فإنه وإن لم يلحق المكلف بذل جهد في معرفة الحكم وعلته لكونهما منصوصين ولا في معرفة وجود العلة في الفرع لكونها محسةً فيه فلا بد من الاجتهاد في معرفة صحة النص إن كان آحاداً وإن كان متواتراً ولا بد من البحث عن كونه منسوخاً أم لا. وإن لم يكن منسوخاً فلا بد من النظر في الأصل هل للعلة فيه معارض أو لا وإن لم يكن لها معارض في الأصل فلا بد من النظر في الفرع هل وجد فيه مانع أو فات شرط أو لا ثم وإن قدر انتفاء الاجتهاد مطلقاً في الصورة المفروضة فلا نسلم تحقق القياس فيها بل الحكم إنما يثبت في الفرع على هذا التقدير بالاستدلال لا بالقياس على ما يأتي تحقيقه. ومنها قول بعضهم إن القياس هو التشبيه ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات كالألوان والطعوم ونحوها قياساً شرعياً إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين وليس كذلك. ومنها قول بعضهم: القياس هو الدليل الموصل إلى الحق وهو باطل بالنص والإجماع. ومنهم من قال: هو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص والإجماع كيف وإن العلم غير حاصل من القياس فإنه لا يفيد غير الظن وإن كان حاصلاً منه فهو ثمرة القياس فلا يكون هو القياس. وقال أبو هاشم إنه عبارة عن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه وهو باطل من وجهين: الأول أنه غير جامع لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء الثاني أن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياساً وإن كان بجامع فيكون قياساً وليس في لفظه ما يدل على الجامع فكان لفظه عاماً للقياس ولما ليس بقياس. وقال القاضي عبد الجبار: إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول. وقال أبو الحسين البصري: القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقد أورد على نفسه في ذلك إشكالا وأجاب عنه. أما الإشكال فهو أن الفقهاء يسمون قياس العكس قياساً وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم كما سبق تحقيقه.
وأما الجواب فحاصله أن تسمية قياس العكس قياساً إنما كان بطريق المجاز لفوات خاصية القياس فيه وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة ويمكن أن يقال في جوابه أيضاً إنه وإن كان قياس العكس قياساً حقيقة غير أن اسم القياس مشترك بين قياس الطرد وقياس العكس فتحديد أحدهما بخاصيته لا ينتقض بالمسمى الآخر المخالف له في خاصيته وإن كان مسمى باسمه ولهذا فإنه لو حدت العين بحد يخصها لا ينتقض بالعين الجارية المخالفة لها في حدها وإن اشتركا في الاسم. والمحدود هاهنا إنما هو قياس الطرد المخالف في حقيقته لقياس العكس غير أن ما ذكره من الحد مدخول من وجهين. الأول: أن قوله تحصيل حكم الأصل في الفرع مشعر بتحصيل عين حكم الأصل في الفرع وهو ممتنع فكان من حقه أن يقول مثل حكم الأصل في الفرع. الثاني: أن تحصيل حكم الأصل في الفرع هو حكم الفرع ونتيجة القياس ونتيجة الشيء لا تكون هي نفس ذلك الشيء فكان الأولى أن يقول: القياس هو اشتباه الفرع والأصل في علة حكم الأصل في نظر المجتهد على وجه يستلزم تحصيل الحكم في الفرع. وقال القاضي أبو بكر: القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما وقد وافقه عليه أكثر أصحابنا وهو مشتمل على خمسة قيود: الأول قوله: حمل معلوم على معلوم. الثاني قوله: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما. الثالث قوله: بناء على جامع بينهما. الرابع قوله: من إثبات حكم أو صفة لهما. الخامس قوله: أو نفيه عنهما. أما القيد الأول فيستدعي بيان معنى الحمل وبيان فائدة إطلاق لفظ المعلوم وفائدة حمل المعلوم على المعلوم أما الحمل فمعناه مشاركة أحد المعلومين للآخر في حكمه وإنما أطلق لفظ المعلوم لأنه ربما كانت صورة المحمول والمحمول عليه عدميةً وربما كانت وجوديةً فلفظ المعلوم يكون شاملاً لهما فإنه لو أطلق لفظ الموجود لخرج منه المعدوم ولو أطلق لفظ الشيء لاختص أيضاً بالموجود على رأي أهل الحق ولو قال: حمل فرع على أصل ربما أوهم اختصاصه بالموجود من جهة أن وصف أحدهما بكونه فرعاً والآخر بكونه أصلاً قد يظن أنه صفة وجودية والصفات الوجودية لا تكون صفةً للمعدوم وإن لم يكن حقاً فكان استعمال لفظ المعلوم أجمع وأمنع وأبعد عن الوهم الفاسد. وإنما قال: حمل معلوم على معلوم لأن القياس يستدعي المقايسة وذلك لا يكون إلا بين شيئين ولأنه لولاه لكان إثبات الحكم أو نفيه في الفرع غير مستفاد من القياس أو كان معللاً بعلة غير معتبرة فيكون بمجرد الرأي والتحكم وهو ممتنع. وأما القيد الثاني فإنما ذكره لأن حمل الفرع على الأصل قد بان أن معناه التشريك في الحكم وحكم الأصل وهو المحمول عليه قد يكون إثباتاً وقد يكون نفيا وكانت عبارته بذلك أجمع للنفي والإثبات. وأما القيد الثالث فإنما ذكره لأن القياس لا يتم إلا بالجامع بين الأصل والفرع وإلا كان حمل الفرع على الأصل في حكمه من غير دليل وهو ممتنع. وأما القيد الرابع فإنما ذكره لأن الجامع بين الأصل والفرع قد يكون تارةً حكماً شرعياً كما لو قال في تحريم بيع الكلب نجس فلا يجوز بيعه كالخنزير وقد يكون وصفاً حقيقياً كما لو قال في النبيذ مسكر فكان حراماً كالخمر. وأما القيد الخامس فإنما ذكره لأن الجامع من الحكم أو الصفة قد يكون إثباتاً كما ذكرناه من المثالين وقد يكون نفياً أما في الحكم فكما لو قال في الثوب النجس إذا غسل بالخل غير طاهر فلا تصح الصلاة فيه كما لو غسله باللبن والمرق وأما في الصفة فكما لو قال في الصبي غير عاقل فلا يكلف كالمجنون. وقد أورد عليه تشكيكات لا بد في ذكرها والإشارة إلى دفعها الإشكال الأول أن القول بحمل المعلوم على المعلوم إما أن يراد به إثبات مثل حكم أحدهما للآخر أو شيء آخر: فإن كان الأول فالقول ثانياً في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما يكون تكراراً من غير فائدة. وإن كان الثاني فلا بد من بيانه كيف وإنه بتقدير أن يراد به شيء آخر فلا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل حكم أحد المعلومين للآخر بأمر جامع فكان ذكر ذلك الشيء زائداً عما يحتاج إليه.
الثاني أن قوله في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو محال من جهة أن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعاً على القياس كان دوراً. الثالث أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد ثبتت الصفة أيضاً بالقياس كقولنا في الباري تعالى:عالم فكان له علم كالشاهد فالقياس أعم من القياس الشرعي والعقلي. وعند ذلك إما أن تكون الصفة مندرجةً في الحكم أو لا تكون: فإن كان الأول كان القول بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما تكراراً لكون الصفة أحد أقسام الحكم وإن كان الثاني كان التعريف ناقصاً. الرابع أن المعتبر في ماهية القياس الجامع من حيث هو جامع لا أقسام الجامع وذلك إن ماهية القياس قد تنفك عن كل واحد من أقسامه بعينه وما تنفك عنه الماهية لا يكون داخلاً في حدها وأيضاً فإنه لو وجب في ذكر ماهية القياس ذكر أقسام الجامع فالحكم والصفة الجامعة أيضاً كل واحد منهما منقسم إلى أقسام كثيرة لا تحصى فكان يجب استقصاؤها في الذكر وإلا كان الحد ناقصاً وهو محال. الخامس أن كلمة أو للترديد والشك والتحديد إنما هو للتعيين والترديد ينافي التعيين. السادس أن القياس الفاسد قياس وهو غير داخل في هذا الحد وذلك لأن هذا القائل قد اعتبر في حده حصول الجامع ومهما حصل الجامع كان صحيحاً فالفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر لا يكون داخلا فيه فكان يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فإنه يعم القياس الفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر. والجواب عن الإشكال الأول أن المراد بحمل المعلوم على المعلوم إنما هو التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقاً وقوله بعد ذلك في إثبات حكم أو نفيه إشارة إلى ذكرها بفاصل ذلك الحكم وأقسامه وهي زائدة على نفس التسوية في مفهوم الحكم فذكرها ثانيا لا يكون تكراراً. وعن الثاني وإن كان هو أقوى الإشكالات الواردة هاهنا أن يقال: لا نسلم أن قول القائل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس حتى يلزم منه الدور لأن القياس على ما علم مركب من الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع بين الأصل والفرع والحكم في الأصل غير مستند في ثبوته ولا نفيه إلى مجموع هذه الأمور إذ هو غير متوقف على الفرع ولا على نفيه وإنما هو متوقف في ثبوته على الوصف الجامع وهو العلة حيث إن الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلا بناء عليه. ولهذا قال الحاد في هذه في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما والوصف الجامع ركن القياس وليس هو نفس القياس فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس بل بالعلة وليست هي نفس القياس وإنما الثابت والمنفي بالقياس إنما هو حكم الفرع لا غير. وعن الثالث من وجهين: الأول أنه مبني على تصور القياس في غير الشرعيات وهو غير مسلم على ما يأتي بيانه وما ذكروه من المثال فقد أبطلنا صحة القياس فيه في أبكار الأفكار. الثاني وإن سلمنا تصور القياس في غير الشرعيات غير أن الكلام إنما وقع في تحديد القياس الشرعي في مصطلح أهل الشرع وذلك لايكون إلا فيما كان حكم الأصل فيه شرعياً والصفة ليست حكماً شرعياً فلا تكون مندرجةً فيه وعلى هذا فخروج القياس العقلي عن الحد المذكور للقياس الشرعي لا يكون موجباً لنقصانه وقصوره. وعن الرابع أنه وإن كان ذكر أقسام الجامع من الحكم والصفة وتعيين كل واحد غير داخل في مفهوم القياس فذكره لم يكن لتوقف مفهوم القياس عليه حتى يقال بقصور التعريف بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام وذلك مما لا يخل بالحد ولا يلزم من ذلك الاستقصاء بذكر باقي أقسام الحكم والصفة لعدم وجوبه. وعن الخامس أن التحديد والتعريف قد تم بقولنا: حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما وما وقع فيه الترديد بحرف أو فقد بان التحديد والتعريف غير متوقف عليه وإنما ذكر لزيادة البيان والإيضاح فلا يكون ذلك مانعاً من تعريف المحدود كيف وإنه لا معنى للترديد سوى بيان صحة انقسام الحكم والجامع إلى ما قيد وصحة الانقسام من الصفات اللازمة التي لا ترديد فيها.
وعن السادس أن المطلوب إنما هو تحديد القياس الصحيح الشرعي والفاسد ليس من هذا القبيل فخروجه عن الحد لا يكون مبطلاً له لكنه يرد عليه إشكال مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع نفياً وإثباتاً متفرع على القياس إجماعاً وليس هو ركناً في القياس لأن نتيجة الدليل لا تكون ركناً في الدليل. لما فيه من الدور الممتنع وعند ذلك فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكون ركنا في القياس وهو دور ممتنع وقد أخذه في حد القياس حيث قال في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إشارة إلى الفرع والأصل. والمختار في حد القياس أن يقال إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عرية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها على ما تقدم. وإذا عرف معنى القياس فهو يشتمل على أربعة أركان: الأصل والفرع وحكم الأصل والوصف الجامع. أما الأصل فقد يطلق على أمرين الأول ما بني عليه غيره كقولنا: إن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول من حيث إن معرفة الرسول تنبني على معرفة المرسل. الثاني ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره وإن لم يبن عليه غيره وذلك كما تقوله في تحريم الربا في النقدين فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره. وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس وذلك كما إذا قسنا النبيذ على الخمر المنصوص عليه بقوله عليه السلام: حرمت الخمرة لعينها في تحريم الشراب هل الأصل هو النص أو الخمر أو الحكم الثابت في الخمر وهو التحريم مع اتفاق الكل على أن العلة في الخمر وهي الشدة المطربة ليست هي الأصل. فقال بعض المتكلمين: الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي بني عليه التحريم والأصل ما بني عليه. وقالت الفقهاء: الأصل إنما هو الخمر الثابتة حرمته لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردوداً إليه وهذا إنما يتحقق في نفس الخمر. وقال بعضهم: الأصل إنما هو الحكم الثابت في الخمر لأن الأصل ما انبنى عليه غيره وكان العلم به موصلاً إلى العلم بغيره أو الظن وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر فكان هو الأصل. قالوا: وليس الأصل هو النص لأن النص هو الطريق إلى العلم بالحكم ولو تصور العلم بالحكم في الخمر دون النص كان القياس ممكناً ولأنه لو كان النص هو الأصل لكونه طريقاً إلى معرفة الحكم لكان قول الراوي هو أصل القياس بطريق الأولى لكونه طريقاً إلى معرفة النص وليس كذلك بالاتفاق. وليس الأصل أيضاً هو الخمر لأنه يعلم الخمر ولا يعلم أن الحرمة جارية فيه ولا في الفرع بخلاف ما إذا علم الحكم فكان هو الأصل. واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي وذلك لأنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره فالحكم أمكن أن يكون أصلاً لبناء الحكم في الفرع عليه على ما تقرر وإذا كان الحكم في الخمر أصلا فالنص الذي به. معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل وعلى هذا أي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره أمكن أن يكون أصلاً وكذلك الخمر فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة فهو أيضاً أصل للأصل فكان أصلاً. والأشبه أن يكون الأصل هو المحل على ما قاله الفقهاء لافتقار الحكم والنص إليه ضرورةً من غير عكس فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم. وأما الفرع فهل هو نفس الحكم المتنازع فيه أو محله؟ اختلفوا فيه: فمن قال بأن الأصل هو الحكم في الخمر قال الفرع هو الحكم في النبيذ ومن قال أن الأصل هو المحل قال الفرع هو المحل وهو النبيذ وإن كان الأولى أن يكون الفرع هو الحكم المتفرع على القياس والمحل أصل الحكم المفرع على القياس فتسمية الخمر أصلاً أولى من تسمية النبيذ فرعاً من حيث إن الخمر أصل للتحريم الذي هو الأصل بخلاف النبيذ فإنه أصل للفرع لا أنه فرع له. وأما الوصف الجامع فهو فرع في الحكم لكونه مستنبطاً من محل حكم المنصوص عليه فهو تبع للنص والحكم ومحله وهو أصل في الفرع لكون الحكم المتنازع فيه في النبيذ مبنياً عليه وتسمية الوصف الجامع في الفرع أصلاً أولى من تسمية النص في الخمر والتحريم ومحله أصلاً للاختلاف في ذلك والاتفاق على كون الوصف في ذلك أصلاً. وإذا عرف معنى القياس وأركانه فلنشرع في بيان أبوابه: الباب الأول في شرائط القياس ويشتمل على مقدمة وأقسام. أما المقدمة فاعلم أن القياس على ما سبق تعريفه يستدعي أركانا لا يتم دونها وثمرةً هي نتيجته فأما الأركان فهي أربعة: الفرع المسمى بصورة محل النزاع وهي الواقعة التي يقصد تعدية حكمها إلى الفرع والحكم الشرعي الخاص بالأصل والعلة الجامعة بين الأصل والفرع. وأما ثمرته فحكم الفرع فإنه إذا تم القياس أنتج حكم الفرع وليس حكم الفرع من أركان القياس إذ الحكم في الفرع متوقف على صحة القياس فلو كان ركنا منه لتوقف على نفسه وهو محال. وعلى هذا فشروط القياس لا تخرج عن شروط هذه الأركان فمنها ما يعود إلى الأصل ومنها ما يعود إلى الفرع: وما يعود إلى الأصل فمنها ما يعود إلى حكمه ومنها ما يعود إلى علته فلنرسم في كل واحد منهما قسماً. القسم الأول في شرائط حكم الأصل وهي ثمانية الشرط الأول أن يكون حكماً شرعياً لأن الغرض من القياس الشرعي إنما هو تعريف الحكم الشرعي في الفرع نفياً وإثباتاً فإذا لم يكن الحكم في الأصل شرعياً فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلاً كيف وإنه إذا كان قضية لغوية فقد بينا امتناع جريان القياس فيه في اللغات. الشرط الثاني يكون ثابتاً غير منسوخ حتى يمكن بناء الفرع عليه وإلا فبتقدير أن لا يكون ثابتاً فلا ينتفع به ناظر ولا مناظر لأنه إنما تعدى الحكم من الأصل إلى الفرع بناء على الوصف الجامع وذلك متوقف على اعتبار الشارع له فإذا لم يكن الحكم المرتب على وصفه ثابتا في الشرع فلا يكون معتبراً. الشرط الثالث أن يكون دليل ثبوته شرعياً لأن ما لا يكون دليله شرعياً لا يكون حكماً شرعياً. الشرط الرابع أن لا يكون حكم الأصل متفرعاً عن أصل آخر وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا والكرخي خلافاً للحنابلة وأبي عبد الله البصري وذلك لأن العلة الجامعة بينه وبين أصله إما أن تكون هي العلة الجامعة بينه وبين فرعه أو هي غيرها: فإن كان الأول فالأصل الذي به الشهادة بالاعتبار إنما هو الأصل الأخير لا الأصل الأول فليقع الرد إليه وإلا فهو تطويل من غير فائدة وذلك كما لو قال الشافعي مثلاً في السفرجل مطعوم فجرى فيه الربا قياساً على التفاح ثم قاس التفاح في تحريم الربا على البر بواسطة الطعم أيضاً. وإن كان الثاني وهو أن تكون العلة في القياسين مختلفةً فلا تخلو إما أن تكون العلة التي عدي بها الحكم من الأصل الممنوع حكمه إلى فرعه مؤثرةً أي ثابتةً بنص أو إجماع أو مستنبطةً منه: فإن كان الأول فقد أمكن إثبات الحكم في الفرع الأول بالعلة المؤثرة ولم يبق للقياس على الأصل الممنوع حكمه وقياسه على الأصل الأخير حاجة بل هو تطويل غير مفيد. وإن كان الثاني وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة فسخ النكاح بالجذام عيب يثبت به الفسخ في البيع فيثبت به الفسخ في النكاح قياساً على الرتق والقرن ثم قاس الرتق والقرن عند توجيه منعه على الجب والعنة بواسطة فوات غرض الاستمتاع به فلا يصح القياس فيه وذلك لأن الحكم في الفرع المتنازع فيه أولاً إنما يثبت بما ثبت به حكم أصله. فإذا كان حكم أصله ثابتاً بعلة أخرى وهي ما استنبطت من الأصل الآخر فيمتنع تعدية الحكم بغيرها لأن غيرها لم يثبت اعتبار الشارع له ضرورة أن الحكم الثابت معه ثابت بغيره بالاتفاق فلو ثبت الحكم به في الفرع الأول مع عدم اعتباره كان ذلك إثباتاً للحكم بالمعنى المرسل الخلي عن الاعتبار وذلك ممتنع. وعلى هذا فإن قلنا بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مع كونه ممتنعاً كما يأتي تقريره فهو ممتنع هاهنا حيث إنا قطعنا بأن العلة المستنبطة من الأصل الممنوع مما لم يلتفت إليها الشارع في إثبات الحكم في أصلها للاتفاق على ثبوته بغيرها. والجمع بين العلل إنما يكون حيث يمكن الظن باعتبار الشارع لها من إثبات الحكم على وفقها هذا كله إن كان حكم الأصل مقولاً به من جهة المستدل ممنوعاً من جهة المعترض وأما إن كان مقولاً به من جهة المعترض ممنوعاً من جهة المستدل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تعيين النية عندما إذا نوى النفل أتى بما أمر به فوجب أن يصح كما إذا كان عليه فريضة الحج ونوى النفل فإن الحكم في الأصل مما لا يقول به الحنفي بل الشافعي فلا يصح من المستدل بناء الفرع عليه لأنه إما أن يذكر ذلك في معرض التقرير لمأخذ من هو منتم إليه أو في معرض الإلزام للخصم: فإن كان الأول فهو ممتنع لأنه إنما يعرف كون الوصف الجامع مأخذاً لأمامه بإثباته للحكم على وفقه وبالقياس على الأصل الذي لا يقول به إمامه لا يعرف ذلك. وإن كان الثاني وذلك بأن يقول هذا هو عندك علة الحكم في الأصل المقيس عليه وهو موجود في محل النزاع فيلزمك الاعتراف بحكمه وإلا فيلزم منه إبطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير معارض ويلزم من إبطال التعليل به امتناع إثبات الحكم به في الأصل فهو أيضاً ممتنع لوجهين: الأول أن للمعترض أن يقول: الحكم في الأصل لم يكن عندي ثابتاً على هذا الوصف بل بناء على غيره ويجب تصديقه فيه لكونه عدلاً والظاهر من حاله الصدق وهو أعرف بمأخذ مذهبه الثاني أنه وإن كان الحكم في الأصل معللاً بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام المعترض بالتخطئة في الفرع بإثبات خلاف حكمه ضرورة تصويبه في اعتقاد كون الوصف الجامع علة للحكم في الأصل المقيس عليه وهو غير لازم إذ ليس تخطئته في الفرع ضرورة تصويبه في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور أولى من تخطئته في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور وتصويبه في حكم الفرع. الشرط الخامس أن لا يكون حكم الأصل معدولاً به عن سنن القياس والمعدول به عن سنن القياس على قسمين : الأول ما لا يعقل معناه وهو على ضربين: إما مستثنى من قاعدة عامة أو مبتدأ به: فالأول كقبول شهادة خزيمة وحده فإنه مع كونه غير معقول المعنى مستثنىً من قاعدة الشهادة. والثاني كأعداد الركعات وتقدير نصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات فإنه مع كونه غير معقول المعنى غير مستثنى من قاعدة سابقة عامة وعلى كلا التقديرين يمتنع فيه القياس. الثاني ما شرع ابتداء ولا نظير له ولا يجري فيه القياس لعدم النظير وسواء كان معقول المعنى كرخص السفر والمسح على الخفين لعلة دفع المشقة أو هو غير معقول المعنى كاليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة ونحوه. الشرط السادس إذا كان حكم الأصل متفقاً عليه فقد اختلفوا في كيفية الاتفاق: فمنهم من قال بأنه يكفي أن يكون ذلك متفقاً عليه بين الفريقين لا غير ومنهم من قال لا يكفي ذلك بل لا بد وأن يكون متفقاً عليه بين الأمة وإلا فإن كان متفقاً عليه بين الفريقين فقط فلا يصح القياس عليه وسموه قياساً مركباً. وقبل النظر في مأخذ الحجاج فلا بد من النظر في معنى القياس المركب وأقسامه. أما القياس المركب فهو أن يكون الحكم في الأصل غير منصوص عليه ولا مجمع عليه من الأمة وهو قسمان: الأول مركب الأصل والثاني مركب الوصف. أما التركيب في الأصل فهو أن يعين المستدل علةً في الأصل المذكور ويجمع بها بينه وبين فرعه فيعين المعترض فيه علةً أخرى ويقول: الحكم عندي ثابت بهذه العلة وذلك كما إذا قال في مسألة الحر بالعبد مثلاً عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب فإن المكاتب غير منصوص عليه ولا مجمع عليه بين الأمة لاختلاف الناس في وجوب القصاص على قاتله وإنما هو متفق عليه بين الشافعي وأبي حنيفة وعند ذلك فللحنفي أن يقول العلة في المكاتب المتفق عليه المانعة من جريان القصاص فيه عندي إنما هو جهالة المستحق من السيد أو الورثة. فإن سلم ذلك امتنعت التعدية إلى الفرع لخلو الفرع عن العلة وإن أبطل التعليل بها فأنا أمنع الحكم في الأصل لأنه إنما ثبت عندي بهذه العلة وهي مدرك إثباته ولا محذور في نفي الحكم لانتفاء مدركه إذ لم يلزم منه مخالفة نص ولا إجماع وعلى كلا التقديرين فالقياس يكون ممتنعاً إما لمنع حكم الأصل وإما لعدم علة الأصل في الفرع.
قال بعض الأصوليين: وإنما سمي هذا النوع قياساً مركباً لاختلاف الخصمين في علة الأصل وليس بحق وإلا كان كل قياس اختلف في علة أصله وإن كان منصوصاً أو متفقاً عليه بين الأمة مركباً وليس كذلك. والأشبه أنه إنما سمي بذلك لاختلاف الخصمين في تركيب الحكم على العلة في الأصل فإن المستدل يزعم أن العلة الجامعة مستنبطة من حكم الأصل وهي فرع له والمعترض يزعم أن الحكم في الأصل فرع على العلة وهي المثبتة له وأنه لا طريق إلى إثباته سواها وأنها غير مستنبطة منه ولا هي فرع عليه ولذلك منع ثبوت الحكم عند إبطالها وإنما سمي مركب الأصل لأنه نظير في علة حكم الأصل. وأما مركب الوصف فهو ما وقع الاختلاف فيه في وصف المستدل هل له وجود في الأصل أو لا؟ وذلك كما لو قال المستدل في مسألة تعليق الطلاق بالنكاح تعليق فلا يصح قبل النكاح كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق فللخصم أن يقول: لا نسلم وجود التعليق في الأصل بل هو تنجيز فإن ثبت أنه تعليق فأنا أمنع الحكم وأقول بصحته كما في الفرع ولا يلزمني من المنع محذور لعدم النص عليه وإجماع الأمة وإنما سمي مركب الوصف لأنه خلاف في تعيين الوصف الجامع. وإذ أتينا على بيان معنى القياس المركب وأقسامه فنقول: لا يخلو إما أن ينظر في ذلك إلى الناظر المجتهد أو المناظر: فإن كان الأول فإن كان له مدرك في ثبوت حكم الأصل سوى النص والإجماع فالقياس صحيح لأنه إذا غلب على ظنه صحة القياس فلا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه وإن لم يكن له مدرك سوى النص والإجماع فالقياس متعذر لتعذر إثبات حكم الأصل وإن كان الثاني فالمختار بعد إبطال ما يعارض به الخصم في القسم الأول من التركيب وتحقيق وجود ما يدعيه في الأصل في القسم الثاني منه إنما هو التفصيل وهو أن الخصم إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً. فإن كان مجتهداً وظهر في نظره إبطال المدرك الذي بني عليه حكم الأصل فله منع حكم الأصل وعند ذلك فالقياس لا يكون منتفعاً به بالنسبة إلى الخصم. وإن كان مقلداً فليس له منع الحكم في الأصل وتخطئة إمامه فيه بناء على عجزه هو عن تمشية الكلام مع المستدل وذلك لاحتمال أن لا يكون ما عينه المعترض هو المأخذ في نظر إمامه وبتقدير أن يكون هو المأخذ في نظر إمامه فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه عنه لكونه أكمل حالاً منه وأعرف بوجه ما ذهب إليه وتقريره. وقد قيل إنه وإن كان لا بد من تخطئة إمام المعترض إما في حكم الأصل أو الفرع فليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع وليس بحق فإنه كما أنه ليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع فليس للمستدل تخطئة إمام المعترض في الفرع دون الأصل ولا أولوية. فإن قيل: بل تخطئته في الفرع أولى لوقوع الخلاف فيه بين إمام المستدل وإمام المعترض بخلاف حكم الأصل فيقال كما أن الخلاف واقع في الفرع بين الإمامين فالخلاف في الأصل أيضاً واقع بين الأئمة إذ هو غير مجمع عليه وليس موافقة إمام المستدل في الفرع أولى من موافقة المخالف في الأصل. الشرط السابع أن لا يكون الدليل الدال على إثبات حكم الأصل دالاً على إثبات حكم الفرع وإلا فليس جعل أحدهما أصلاً للآخر أولى من العكس. الشرط الثامن اختلف الأصوليون في اشتراط قيام الدليل على تعليل حكم الأصل وجواز القياس عليه نفياً وإثباتاً والمختار أنه إن أريد بالدليل الدال على ذلك أن يكون دليلاً خاصاً بذلك الأصل من كتاب أو سنة أو إجماع فهو باطل. وإن أريد به أنه لا بد من قيام دليل على ذلك بجهة العموم والشمول فهو حق: وذلك لأنا سنبين أن كل أصل أمكن تعليل حكمه فإنه يجب تعليله وإنه يجوز القياس عليه وذلك لأن مدرك كون القياس حجةً إنما هو إجماع الصحابة على ما يأتي. وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند وجود ما يظن كونه علةً لحكم الأصل في الأصل فظن وجوده في الفرع وإن لم يقم دليل خاص على وجوب تعليل حكم ذلك الأصل وجواز القياس عليه حتى قال عمر لأبي موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك ولم يفصل. وكذلك اختلفوا في قوله: أنت علي حرام حتى قاسه بعضهم على الطلاق وبعضهم على الظهار وبعضهم على اليمين ولم ينقل نص خاص ولا إجماع على القياس على تلك الأصول ولا على جواز تعليلها.
القسم الثاني
في شروط علة الأصل وقد اتفق الكل على جواز تعليل حكم الأصل بالأوصاف الظاهرة الجلية العرية عن الاضطراب وسواء أكان الوصف معقولاً كالرضى والسخط أم محساً كالقتل والسرقة أم عرفياً كالحسن والقبح وسواء أكان موجوداً في محل الحكم كما ذكر من الأمثلة أم ملازماً له غير موجود فيه كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد لكن اختلفوا في شروط فلنفرض في كل واحد منها مسألة. المسألة الأولى ذهب الأكثرون إلى أن شرط علة الأصل أن لا يكون محل حكم الأصل ولا جزءً من محله. وذهب آخرون إلى جوازه. والمختار إنما هو التفصيل وهو امتناع ذلك في المحل دون الجزء وذلك لأن الكلام إنما هو واقع في علة أصل القياس فلو كانت العلة فيه هي محل حكم الأصل بخصوصه لكانت العلة قاصرةً لاستحالة كون محل حكم الأصل بخصوصه متحققاً في الفرع وإلا كان الأصل والفرع متحداً وهو محال. نعم إنما يمكن ذلك فيما إذا لم تكن علة حكم الأصل متعديةً لأنه لا يعد في استلزام محل الحكم لحكمة داعية إلى ذلك الحكم كاستلزام الأوصاف العامة لمحل الأصل والفرع. وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عموم الأصل والفرع. المسألة الثانية اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة والمختار أنه لا بد وأن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم وإلا فلو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين: الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه فلو كانت معرفةً لحكم الأصل لكان متوقفاً عليها ومتفرعاً عنها وهو دور ممتنع. المسألة الثالثة ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط. وجوزه الأقلون ومنهم من فصل بين العلة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة فجوز التعليل بالأولى دون الثانية وهذا هو المختار. أما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً غير مضطربة فلأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها. وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها لثلاثة أوجه: الأول أنها إذا كانت خفيةً مضطربةً مختلفةً باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها والوقوف عليه إلا بعسر وحرج ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه منه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام. ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين ولم يعلقها بنفس المشقة لما كانت مما يضطرب ويختلف ولهذا فإنه لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ وإن كان في غاية الرفاهية والدعة لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب. الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لحكمة الزجر أو الجبر وتعليل صحة البيع بالتصرف الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه ونحوه ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لم احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكم والنظر إليها لعدم الحاجة إليها ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما. الثالث: أن التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفيةً مضطربةً مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها والحرج منفي بقوله تعالى:" ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 غير أنا خالفناه في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط لكون المشقة فيه أدنى فبقينا عاملين بعموم النص فيما عداه. فإن قيل: ما ذكرتموه في جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة فهو فرع إمكان ذلك وهو غير مسلم في الحكمة فإنها راجعة إلى الحاجات إلى المصالح ودفع المفاسد والحاجات مما تخفى وتزيد وتنقص فلا تكون ظاهرةً ولا منضبطةً وإن سلمنا إمكان ذلك نادراً غير أنه يلزم من التوسل إلى معرفتها في آحاد الصور لتعيين القليل منها نوع عسر وحرج لا يلزم في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية والمظان الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم في الغالب وذلك مدفوع بقوله تعالى:" ما جعل عليكم في الدين من حرج ". وما ذكرتموه في امتناع التعليل بالحكمة الخفية: أما الوجه الأول فالبحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها ضرورة أنها علة لكون الوصف علةً ولولا اشتمال الوصف عليها لما كان علةً للحكم وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابطها. وحيث لم تقض بالترخص في حق الحمال في الحضر دفعاً للمشقة عنه فغايته امتناع تعليل الرخصة بمطلق المشقة بل بالمشقة الخاصة بالسفر ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة مطلقاً. وأما الوجه الثاني فغاية ما فيه جواز التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة قولكم: إنه لا حاجة إليه لا نسلم ذلك فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة. وأما الوجه الثالث فهو أن الحرج اللازم عن البحث عن الحكمة الخفية وإن كان شاقاً غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها. وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير أقل مشقةً وحرجاً فكان أولى بالمخالفة. والجواب عن الاعتراض الأول: أن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرةً منضبطةً بنفسها في بعض الصور لا فيما لم يكن قولهم: إن الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط ليس كذلك فإنها إذا كانت ظاهرةً منضبطةً كالوصف فلا تفاوت. وعن الاعتراض الأول: على الوجه الثاني: أن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها حتى نأمن من الاختلاف بين الأصل والفرع فيها وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة ولا يكفي فيه مجرد معرفة احتمالها بخلاف ما إذا كانت مضبوطةً بضابط فإنا نكتفي بمعرفة الضابط ومعرفة أصل احتمال الحكمة لا غير ويدل على ذلك ما ذكرناه من الاستشهاد وما ذكروه عليه فهو اعتراف بامتناع التعليل بمجرد الحكمة وهو المطلوب. وعن الاعتراض على الوجه الثاني أنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط: قولهم إن الوقوف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها قلنا: فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة لما فيه من تأخير إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة مع إمكان إثباته بالضابط في أقرب زمان وذلك ممتنع. وعن الاعتراض على الوجه الثالث أنا لا نسلم التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع ضابطها ومع خلوها عن الضابط وذلك لأنا نفتقر في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى نأمن من التفاوت فيها بين الأصل والفرع كما سبق ولا كذلك في البحث عنها مع ضابطها فإنا لا نفتقر في البحث عنها إلى أكثر من معرفة أصل احتمالها ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من تعرفها لا بجهة التفصيل. المسألة الرابعة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الثبوتي بالعدم: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا أن تكون العلة للحكم الثبوتي أمراً وجودياً وهو المختار وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول: أن الحكم بكون الوصف علةً صفة وجودية لأن نقيض العلة لا علة و لا علة أمكن أن يكون صفة لبعض الأعدام ولو كان المفهوم من لا علة وجودياً لكان الوجود صفة للعدم وهو محال وإذا كان لا علة عدماً فالمفهوم من نقيضها وجودي. الوجه الثاني: أنه يصح قول القائل أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ ولو لم يكن الحدوث متوقفاً على وجود شيء لما صح هذا الكلام كما لو قال أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال؟ حيث لم يكن حدوث المال لفلان متوقفاً على ما قيل. الثالث: وهو خاص بما إذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف كالوجوب والحظر ونحوه وهو أن يقال قد ثبت أن العلة المستنبطة من الحكم لا بد وأن تكون بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة والباعث ما اشتمل على تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها كما يأتي بيانه. فإذا كان الحكم ثابتاً بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض فلا بد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدوراً للمكلف في إيجاده وإعدامه وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيداً لمثل ذلك الغرض لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب والعدم المحض لا انتساب له إلى قدرة المكلف لا بإيجاد ولا إعدام فجعل ضابطاً لغرض الحكم ومقصوده لا يكون مفضياً إلى مقصود شرع الحكم فيمتنع التعليل به. فإن قيل: ما ذكرتموه من الوجه الأول معارض بما يدل على أن المفهوم من صفة العلة عدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو كانت صفة العلة أمراً وجودياً لم يخل إما أن تكون واجبةً لذاتها أو ممكنةً: الأول محال وإلا لما افتقرت إلى الموصوف بها والثاني يوجب افتقارها إلى علة مرجحة لها والكلام في صفة تلك العلة كالكلام في الأولى وهو تسلسل ممتنع. الوجه الثاني: أنه يصح وصف الأمر العدمي بكونه علة للأمر العدمي ولهذا يصح أن يقال: إنما لم أسلم على فلان لأني لم أره وإنما لم أفعل كذا لعدم الداعي إليه. وأما الوجه الثاني فليس فيه دلالة على توقف حدوث ذلك الأمر على تجدد وجود أمر آخر ولهذا فإنه يصح أن يقال أي شيء صنع هذا حتى حدث له هذا المال؟ وإن لم يكن حصول المال له موقوفاً على صنع من جهته لجواز حدوثه له عن إرث أو وصية. وإن سلمنا دلالته على التوقف على الأمر الوجودي غير أنه معارض بما يدل على صحة تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي وبيانه أنه يصح أن يقال ضرب فلان عبده لأنه لم يمتثل أمره وشتم فلان فلاناً لأنه لم يسلم عليه وهو تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي. وأما الوجه الثالث فهو وإن سلمنا أن العلة لا بد وأن تكون بمعنى الباعث وأن الباعث عبارة عما ذكرتموه ولكن لا نسلم امتناع كون الوصف العدمي باعثاً وذلك لأنا أجمعنا على جواز التعليل بالوصف الوجودي الظاهر المنضبط إذا كان يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ظاهرا فالعدم المقابل له يكون أيضاً ظاهراً منضبطاً ويكون مشتملاً على نقيض ما اشتمل عليه الوصف الوجودي وهو لا يخرج عن المصلحة أو المفسدة لأنه إن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مصلحةً فعدمه يلزمه عدم تلك المصلحة وعدم المصلحة مفسدة وإن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مفسدة فعدمه يلزمه عدم تلك المفسدة وعدم المفسدة مصلحة وهو مقدور للمكلف لأنه إذا كان مقابله وهو الوصف الوجودي مقدوراً فلا معنى لكونه مقدوراً إلا أنه مقدور على إيجاده وإعدامه فإذا العدم المقابل للوجود مقدور وإذا كان مقدورا وهو ظاهر منضبط مشتمل على مصلحة أو مفسدة فقد أمكن التعليل به كما أمكن التعليل بالوصف الوجودي. والجواب عن الأول أن ما ذكروه من لزوم التسلسل بتقدير كون العلية صفةً وجوديةً لازم بتقدير كونها عدمية وذلك لأن المفهوم من صفة العلية إذا كان أمراً عدمياً فإما أن يكون واجباً لنفسه ومفهومه أو ممكناً: لا جائز أن يكون واجباً لذاته ولا لما افتقر في تحقيقه إلى نسبته إلى ذات العلة وكونه وصفاً لها وإن كان ممكناً فلا بد له من علة مرجحة والتسلسل لازم له وعند ذلك فالجواب يكون متحداً. وما ذكروه من الاحتجاج ثانياً فلا يصح وذلك لأن وجود الداعي إلى الفعل شرط لوجود الفعل وكذلك الرؤية لزيد شرط في السلام عليه لا أن ذلك علة له وإنما أضيف عدم الأثر إليه بلام التعليل بجهة التجوز لمشابهته للعلة في افتقار الأثر إلى كل واحد منهما.
ولذلك يقال في صورة تعليق الطلاق والعتق بدخول الدار إنما طلقت الزوجة وعتق العبد لدخول الدار ويجب حمل ذلك على جهة التجوز جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل. قولهم على الوجه الثاني: ليس فيه دلالة على توقف الحدوث عل تجدد الوجود قلنا: دليله ما ذكرناه وما ذكروه من الاستشهاد فإنما صح بناء على الظاهر من جهة أن الغالب في حدوث المال لبعض الأشخاص أن يكون مستنداً إلى صنعة لا إلى ما ذكروه ونحن إنما نتمسك في هذا الوجه بالظاهر لا بالقطع. وما ذكروه من المعارضة الدالة على تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي غير صحيح فإن المعلل به ليس هو العدم المحض فإنه غير منتسب إلى فعل الشخص فلا يحسن جعله علة للعقاب لا عقلاً ولا شرعاً وإنما التعليل بالامتناع عن ذلك وكف النفس عنه وهو أمر وجودي لا عدمي. وما ذكروه على الوجه الثالث فحاصله راجع إلى التعليل بالإعدام المقدور وهو أمر وجودي لا بالعدم المحض الذي لا قدرة للمكلف عليه وذلك غير ما وقع فيه النزاع. وإذا عرف امتناع تعليل الوجود بالعدم المحض مما ذكرناه فبمثله يعلم أن العدم لا يكون جزأ من العلة المقتضية للأمر الوجودي ولا داخلاً فيها والوجه في الاعتراض على ذلك والانفصال فعلى ما تقدم. ويخصه اعتراض آخر وهو أن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من المعرف لكونها معجزةً وكذلك الدوران فإنه معرف لعلية المدار وأحد أجزاء الدوران العدم مع العدم. وجوابه أنا لا نسلم أن العدم فيما ذكروه من صور الاستشهاد جزء من المعرف بل شرط والشرط غير الجزء. وإذا عرف امتناع تعليل الحكم الثبوتي بالعدم المحض وامتناع جعله جزأ من العلة لزم امتناع التعليل بالصفات الإضافية وذلك لأن المفهوم من الصفة الإضافية إما أن يكون وجوداً أو عدماً لا جائز أن يكون وجوداً لأن الصفة الإضافية لا بد وأن تكون صفة للمضاف ويلزم من ذلك قيام الصفة الوجودية بالمعدوم المحض وهو محال. وبيان لزوم ذلك أن الإضافة الواقعة بين المتناقضين وبين المتقدم والمتأخر قائمة لكل واحد من الأمرين وأحد المتقابلين مما ذكرناه لا بد وأن يكون معدوماً وإذا بطل أن يكون المفهوم من الإضافة وجوداً تعين أن يكون عدماً. ?المسألة الخامسة اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي: فجوزه قوم ومنع منه آخرون وشرطوا في العلة أن لا تكون حكماً شرعياً. ونحن نشير إلى مأخذ الفريقين وننبه على ما فيه ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار: فأما من قال بأن الحكم يجوز أن يكون علةً للحكم فقد احتجوا عليه بأن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً والدوران دليل كون المدار عليه للدائر وسنبين أن الدوران لا يدل على التعليل فيما بعد. وأما القائلون بامتناع التعليل بالحكم فقد احتجوا بأن الحكم إذا كان علة لحكم آخر فإما أن يكون متقدماً عليه أو متأخراً عنه أو مقارناً له: لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها عنها وهو نقض للعلة. ولا جائز أن يقال بالثاني لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم. وإن كان الثالث فليس جعل أحدهما علةً للآخر أولى من العكس. وأيضاً فإنه يحتمل أن لا يكون لحكم الأصل علة ويحتمل أن يكون وإذا كان معللاً احتمل أن لا يكون الحكم به هو العلة واحتمل أن يكون وعلى هذا فلا يكون علةً على تقديرين وإنما يكون علة على تقدير واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد. وأيضاً فإنه لو كان الحكم علة للحكم فإما أن يكون علة بمعنى الإمارة المعرفة أو بمعنى الباعث: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق ولا جائز أن يقال بالثاني لأن القول بكون الحكم داعياً وباعثاً على الحكم محال خارق للإجماع. ولقائل أن يقول: أما الحجة الأولى فلا نسلم امتناع التقدم. قولهم: يلزم منه نقض العلة ليس كذلك فإن الحكم لم يكن علة لنفسه وذاته بل إنما يصير علة باعتبار الشرع له بقران الحكم الآخر به وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالشدة المطربة فإن الشدة المطربة وإن كانت متقدمة على التحريم فلا يقال إنها علة قبل اعتبارها من الشرع بقران التحريم بها فلا تكون منتقضةً بتخلف التحريم عنها قبل ورود الشرع وإن سلمنا امتناع التقدم فما المانع أن يكون مقارناً؟.
قولهم: ليس جعل أحد المقترنين علة للآخر أولى من العكس ليس كذلك فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كان أحد الحكمين مناسباً للحكم الآخر من غير عكس وإلا فمع قطع النظر عن جهة البعث في أحد الحكمين فلا يكون علة. وما ذكروه من الترجيح فهو لازم عليهم في التعليل بالأوصاف الحقيقة وما هو جواب ثم فهو الجواب فيما نحن فيه. وأما الحجة الثانية فالمختار من قسميها أنه علة بمعنى الباعث. قولهم: إنه ممتنع خارق للإجماع دعوى مجردة لا دليل عليها. وعند هذا فنقول: المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة للحكم بمعنى الإمارة المعرفة لكن لا في أصل القياس بل في غيره فقد حرمت كذا فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: مهما رأيتم أنني حرمت كذا فقد حرمت كذا ومهما أبحت كذا فقد أبحث كذا كما لو قال: مهما زالت الشمس فصلوا ومهما طلع هلال رمضان فصوموا. وأما في أصل القياس فقد بينا أنه لا يجوز أن تكون العلة فيه بمعنى الإمارة المعرفة بل بمعنى الباعث فإذا كان الحكم علة لحكم أصل القياس فلا بد وأن يكون باعثاً عليه وعلى هذا فحكم الأصل إما أن يكون حكماً تكليفياً أو ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار. فإن كان ثابتاً بخطاب التكليف امتنع أن يكون الحكم الشرعي علةً له لأنه غير مقدور للمكلف لا في إيجاده ولا في إعدامه فلا يصلح أن يكون علةً لما ذكرناه في امتناع التعليل بالوصف العدمي وبما ذكرناه أيضاً يمتنع تعليله بالوصف العرفي والتقديري والوصف الوجودي الذي لا قدرة للمكلف على تحصله كالشدة المطربة والطعم والتعدية والصغر ونحوه. وأما إن كان حكم الأصل ثابتاً بخطاب الوضع والأخبار فلا بد وأن يكون الحكم المعلل به باعثاً على حكم الأصل إما لدفع مفسدة لزمت من شرع الحكم مصلحة تلزم منه: فإن كان الأول فيمتنع أن يكون الحكم علةً لأن المفسدة اللازمة من الحكم المعلل به كانت مطلوبة الانتفاء بشرع حكم الأصل لما شرع الحكم المعلل به لما يلزم من شرعه من وجوه مفسدة مطلوبة الانتفاء للشارع: وإن كان الثاني فلا يمتنع تعليل الحكم بالحكم فإنه لا يمتنع أن يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما فقد ينحل من هذه الجملة أن إطلاق القول بامتناع التعليل بالحكم الشرعي وجوازه ممتنع بل لا بد من النظر إلى ما ذكرناه لما ذكرناه من التفصيل. المسألة السادسة اشترط قوم أن تكون العلة ذات وصف واحد لا تركيب فيه كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ونحوه ومنع من ذلك الأكثرون وهو المختار وذلك كتعليل وجوب القصاص بالمحدد بالقتل العمد العدوان. ودليله أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما يقوم الدليل على ظن التعليل بها إما بمناسبة أو شبه أو سبر وتقسيم أو غير ذلك من طرق الاستنباط أو التخريج مع اقتران الحكم بها حسب دلالته على علية الوصف الواحد وكان علةً. فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على جواز التعليل بعلة ذات أوصاف غير أنه معارض بما يدل على امتناعه. وبيانه من أربعة أوجه: المعارضة الأولى أن مجموع الأوصاف إذا كان علةً للحكم فالعلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف ودليله أمران: الأول: أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف ونجهل كونها علةً والمعلوم غير المجهول. الثاني: أنه يحسن أن يقال: الهيئة الاجتماعية من الأوصاف علة فنصفها بها والصفة يجب أن تكون غير الموصوف وعند ذلك فإما أن تكون صفة العلية بتمامها قائمةً بكل واحد من الأوصاف أو بواحد منها أو أنها مع اتحادها قائمة بالمجموع كل بعض منها قائم بوصف: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان كل وصف علةً مستقلةً لأن العلة مجموع الأوصاف وهو خلاف الفرض كيف وإن ذلك محال كما يأتي. وإن قيل بالثاني فالعلة ذلك الوصف الذي قامت به صفة العلية لا مجموع الأوصاف وهو أيضاً خلاف الفرض. ولا جائز أن يقال بالثالث لأن صفة العلية متحدة فيلزم من ذلك تعدد المتحد لقيامه بالمتعدد أو اتحاد المتعدد وهو محال. المعارضة الثانية أنه لو كانت العلية صفة لأوصاف متعددة فهي متوقفة على كل واحد من تلك الأوصاف ويلزم من ذلك أن يكون عدم كل وصف منها علةً مستقلةً لعدم صفة العلية ضرورة انتفائها عند عدمه وذلك محال لوجهين: الأول أنه إذا انتفت جميع الأوصاف فإما أن يكون عدم كل وصف علةً مستقلةً لعدم العلية أو البعض دون البعض أو أنه لا واحد منها مستقل بل المستقل الجميع. لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى استقلال عدم كل واحد من الأوصاف بعدم العلية لا معنى له سوى أنه المفيد لذلك دون غيره ويلزم من ذلك امتناع استقلال كل واحد منها. ولا جائز أن يقال بالثاني لأنه لا أولوية لاختصاص البعض بذلك دون البعض. ولا جائز أن يقال بالثالث لما فيه من إخراج كل واحد من تلك الأوصاف عن الاستقلال بالعلية وقد قيل إنه مستقل. الوجه الثاني: أنه إذا كان عدم كل وصف منها يستقل عند انفراده بعدم العلية فبتقدير انتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف يلزم منه أنه إذا انتفى بعد ذلك وصف آخر من تلك الأوصاف أن لا يكون موجباً لعدم العلية لكونها معدومةً ويلزم من ذلك نقض العلة العقلية وهو محال. المعارضة الثالثة: أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من تلك الأوصاف مناسباً للحكم أو لا واحد منها مناسب له أو المناسب البعض دون البعض: فإن كان الأول فيلزم من مناسبة كل واحد للحكم مع اقتران الحكم به أن يكون مستقلاً بالتعليل وعند ذلك فالحكم إما أن يضاف إلى كل واحد على سبيل الاستقلال أو إلى البعض دون البعض أو إلى الجملة والكل محال لما تقدم في المعارضة السابقة. وإن كان الثاني فضم ما لا يصلح للتعليل إلى ما يصلح له لا يكون مفيداً للتعليل. وإن كان الثالث فذلك هو العلة المستقلة لمناسبته وقران الحكم به ولا مدخل لغيره في التعليل. المعارضة الرابعة: أن كل واحد من الأوصاف إذا لم يكن علة عند انفراده فعند انضمامه إن تجددت صفة العلية له فلا بد من تجدد أمر يقتضي العلية وذلك الأمر المتجدد لا بد له من علة متجددة توجبه والكلام في ذلك المتجدد كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع. الجواب عن المعارضة الأولى من ثلاثة أوجه: الأول أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علةً سوى أن الشارع قضى بالحكم رعايةً لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة وليس ذلك صفة لها فلا يلزم ما ذكروه. الثاني: أنه إن كانت العلية صفةً وجوديةً فممنوع وبيانه من وجهين: الأول: أنها لو كانت صفةً وجوديةً لكانت عرضاً والصفات المعلل بها أعراض والعرض لا يقوم بالعرض كما بيناه في أبكار الأفكار وغيره. الثاني: أنها صفة إضافية وقد بينا فيما تقدم أن المفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي وما ذكروه من المحال إنما يلزم بتقدير كونها صفةً وجوديةً وليس كذلك. غير أن هذين الجوابين يناقضان ما ذكر من الوجه الأول في امتناع التعليل بالعدم. الثالث: أن ما ذكروه منتقض بكون القول المخصوص خبراً أو استخباراً أو وعداً أو وعيداً أو غير ذلك مع تعدل ألفاظه وحروفه فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك لم يمتنع وصفه بما وصف به فما هو الجواب هاهنا يكون جوابا في محل النزاع. وعن الثانية: أنها مبنية على كون عدم الأوصاف علة لعدم العلية وليس كذلك لوجهين: الأول أن العدم لا يصلح أن يكون علية لما تقدم. الثاني أن وجود كل واحد من الأوصاف شرط في تحقق العلية فانتفاء العلية عند انتفاء بعض الأوصاف أو كلها إنما هو لانتفاء الشرط لا لعلة عدم العلية. وعن الثالثة أنه وإن لم يكن كل واحد من الأوصاف مناسباً للحكم مناسبة استقلال فلا يمتنع أن تكون مناسبة الاستقلال ناشئةً أو ملازمةً للهيئة الاجتماعية من الأوصاف كما في القتل العمد العدوان بالنسبة إلى وجوب القصاص ونحوه. وعن الرابعة أن المتجدد والمستلزم للعلية إنما هو الانضمام الحادث بالفاعل المختار فلا تسلسل ثم يلزم على ما ذكروه تجدد الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة فإنها غير متحققة في كل واحد واحد من الأوصاف مع لزوم ما ذكروه فما هو الجواب عن تجدد الهيئة الاجتماعية يكون جواباً عن تجدد صفة العلية. المسألة السابعة اتفق الكل على أن تعدية العلة شرط في صحة القياس وعلى صحة العلة القاصرة كانت منصوصةً أو مجمعاً عليها وإنما اختلفوا في صحة العلة القاصرة إذا لم تكن منصوصةً ولا مجمعاً عليها.
وذلك كتعليل أصحاب الشافعي حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمينة: فذهب الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحتها وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد الله البصري والكرخي إلى إبطالها. والمختار صحتها. وقد احتج القائلون بذلك بمسالك: المسلك الأول أنهم قالوا تعدية العلة إلى الفرع موقوف على صحتها في نفسها فلو كانت صحتها متوقفةً على تعديتها كان دوراً ممتنعاً ولقائل أن يقول إن أردتم بالتعدية الموقوفة على صحة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع فهو مسلم وإن أردتم بالتعدية نقول بأن التعدية بالاعتبار الأول شرط في صحة العلة ليكون دوراً وإنما نقول بأن شرط صحة العلة التعدية بالاعتبار الثاني وهو غير مفض إلى الدور فإن صحة العلة وإن كانت مشروطةً بوجودها في غير محل النص فوجودها غير متوقف على صحتها في نفسها فلا دور وإن سلمنا توقف التعدية على الصحة وتوقف الصحة على التعدية فإنما يلزم الدور أن لو كان ذلك التوقف مشروطاً بتقدم كل واحد من الأمرين على الآخر وأما إذا كان ذلك بجهة المعية كما في توقف كل واحد من المضافين على الآخر فلا دور. المسلك الثاني: أنهم قالوا إذا دار الحكم مع الوصف القاصر وجوداً وعدما دل على كونه علةً كالمتعدي وهو غير صحيح لما سنبينه من إبطال التمسك بالدوران. المسلك الثالث: أنهم قالوا إذا جاز أن تكون علةً عند دلالة النص عليها جاز أن يكون علةً بالاستنباط وهو غير صحيح أيضاً.وذلك لأن عليتها عند دلالة النص مستفادة من النص ودلالة النص عليها غير متحققة حالة استنباطها فلا يلزم أن تكون علةً. فإن قيل: إذا دل النص على علية الوصوف القاصر وجب الحكم بعلية المستنبط لما بينهما من الاشتراك في الحكمة قلنا: هذا قياس في الأسباب وسيأتي إبطاله والمعتمد في ذلك أن يقال إذا كان الوصف القاصر مناسباً للحكم والحكم ثابت على وفقه غلب على الظن كونه علة للحكم بمعنى كونه باعثاً عليه ولا معنى لصحة العلة سوى ذلك. فإن قيل القضاء بصحة العلة يستدعي فائدةً فإن ما لا فائدة فيه لا يمكن القضاء بصحته وفائدة العلة إنما هي في إثبات الحكم بها والعلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الأصل لكونه ثابتاً بالنص أو الإجماع ولأنها مستنبطة منه فتكون فرعاً عليه فلو كانت مثبتةً له لكان فرعاً عليها وهو دور ولا هي مثبتة للحكم في الفرع لعدم تعديتها فقد تعرت عن الفائدة بالكلية فلا تكون صحيحةً قلنا: وإن سلمنا امتناع إثبات الحكم بالعلية القاصرة وأن إثبات الحكم بها فائدة لها ولكن لا نسلم انحصار فائدتها في ذلك بل لها ثلاث فوائد أخر: الأولى: معرفة كونها باعثةً على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة أو الشبه وإذا كانت باعثة على الحكم كان الحكم معقول المعنى وكان أدعى إلى الانقياد وأسرع في القبول له مما لم يظهر فيه الباعث وكان تعبداً وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع من شرع الحكم فكان التعليل بها مفيداً. الثانية: أن العلة إذا كانت قاصرة فبتقدير ظهور وصف آخر متعد في محلها يمتنع تعدية الحكم به دون ترجيحه على العلة القاصرة وذلك من أجل الفوائد. الثالثة: أنه إذا كانت القاصرة علةً وعرفناها فقد امتنع بسببها تعدية الحكم إلى الفرع وذلك أيضاً من أتم الفوائد. فإن قيل: وإن كان ما ذكرتموه من جملة الفوائد وأن ذلك مما يغلب على الظن الصحة غير أن العمل بالظن على خلاف قوله تعالى:" وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " النجم 28 وحيث خالفناه في العلة المتعدية لاشتمالها على ما ذكرتموه من الفوائد وزيادة فائدة التعدية فلا يلزم منه المخالفة فيها دون ذلك. قلنا: يجب حمل الآية على ما المطلوب فيه القطع جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل سلمنا أنه لا فائدة في العلة القاصرة ولكن لا يلزم من ذلك امتناع القضاء بصحتها بدليل ما لو كانت منصوصةً. المسألة الثامنة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المستنبطة: فجوزه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ومنع من ذلك أكثر أصحاب الشافعي وقد قيل إنه منقول عن الشافعي ثم القائلون بجواز تخصيصها اتفقوا على جواز تخصيص العلة المنصوصة واختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل التخلف مانع ولا فوات شرط فمنع منه الأكثرون وجوزه الأقلون والقائلون بالمنع في تخصيص العلة المستنبطة اختلفوا في جواز تخصيص العلة المنصوصة. والمختار إنما هو التفصيل وهو أن يقال: العلة الشرعية لا تخلو إما أن تكون قطعيةً أو ظنيةً: فإن كانت قطعيةً فتخلف الحكم عنها لايخلو إما أن يكون لا بدليل أو بدليل لا جائز أن يقال بالأول لأنه محال. وإن كانت ظنيةً فتخلف الحكم عنها إما في معرض الاستثناء أو لا في معرض الاستثناء. فإن كان الأول كتخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب صاع من التمر وتخلف وجوب الغرامة عمن صدرت عنه الجناية في باب ضرب الدية على العاقلة وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا ونحوه فذلك مما لا يدل على بطلان العلة بل تبقي حجةً فيما وراء صورة الاستثناء وسواء كانت العلة المخصوصة منصوصةً أو مستنبطةً وذلك لأن الدليل من النص أو الاستنباط قد دل على كونها علةً وتخلف الحكم حيث ورد بطريق الاستثناء عن قاعدة القياس كان مقررا لصحة العلة لا ملغياً لها. وأما إن كان تخلف الحكم عنها لا بطريق الاستثناء فلا يخلو إما أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطةً: فإن كانت منصوصةً فلا يخلو إما أن يمكن حمل النص على أن الوصف المنصوص عليه بعض العلة وذلك كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين مأخوذاً من قوله عليه السلام الوضوء مما خرج فإنه إذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد أو حمله على تعليل حكم آخر غير الحكم المصرح به في النص وذلك قوله تعالى:" يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 معللاً بقوله تعالى:" ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " فإن الحكم المعلل المصرح به إنما هو خراب البيت وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فأمكن حمل الخراب على استحقاق الخراب وجد الخراب أو لم يوجد. أو أنه لا يمكن ذلك فإن أمكن تأويل النص بالحمل على معنى خاص أو حكم آخر خاص وجب التأويل لما فيه من الجمع بين دليل التعليل بتأويله ودليل إبطال العلة المذكورة وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلية لما عارضها من النص النافي لحكمها والعلة المنصوصة في معنى النص وتخلف حكم النص عنه في صوره لما عارضه لا يوجب إبطال العمل به في غير صورة المعارضة فكذلك العلة المنصوصة. وأما إن كانت العلة مستنبطةً فتخلف الحكم عنها إما أن يكون لمانع أو فوات شرط أو لا يكون: فإن كان الأول وذلك كما في تعليل إيجاب القصاص على القاتل بالقتل العمد العدوان وتخلف الحكم عنه في الآب والسيد بمانع الأبوة والسيادة فلا يكون ذلك مبطلاً للعلية فيما وراء صورة المخالفة لأن دليل الاستنباط قد دل على العلية بالمناسبة والاعتبار وقد أمكن إحالة نفي الحكم على ما ظهر من المانع لا على إلغاء العلة فيجب الحمل عليه جمعاً بين الدليل الدال على العلة والدليل الدال عل مانعية الوصف النافي للحكم فإن الجمع بين الأدلة أولى من إبطالها. ولا يخفى أن القول بإبطال العلة يتخلف الحكم عنها مما يلزم منه إبطال الدليل الدال على العلة والدليل الدال على مانعية المانع فكان القول بإحالة نفي الحكم على المانع أولى. فإن قيل: لا نسلم أن المناسبة وقران الحكم بها فقط دليل العلية بل مع الاطراد وإن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إمكان تعليل انتفاء الحكم بالمانع لوجهين: الأول: أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف يتوقف على وجود المقتضي للحكم فيها فإنه لو لم يكن المقتضي للحكم موجوداً فيها لكان الحكم منتفياً لانتفاء المقتضي لا للمانع ولا لفوات الشرط والقول بكون الوصف المذكور علةً يتوقف في صورة التخلف على وجود المانع أو فوات الشرط فإنا إذا لم نتبين وجود المانع ولا فوات الشرط فالحكم يجب أن يكون منتفياً لانتفاء ما يقتضيه وعند ذلك نتبين أن الوصف المذكور ليس بعلة وإذا توقف كل واحد من المقتضي والمانع على الآخر كان دوراً ممتنعاً وهذا الامتناع إنما لزم من التعليل بالمانع أو فوات الشرط في صورة التخلف فكان ممتنعاً. الوجه الثاني أن انتفاء الحكم في صورة التخلف كان متحققاً قبل وجود المانع وفي تعليله بالمانع تعليل المتقدم بالمتأخر وهو محال وسواء كان المانع بمعنى الإمارة أو الباعث. قلنا: جواب الأول أنا إذا رأينا الوصف مناسباً والحكم مقترناً به غلب على الظن تأول النظر إليه أنه علة مع قطع النظر عن البحث في جميع مجاري العلة هل الحكم مقارن لها أو لا وأما الاطراد فحاصله يرجع إلى السلامة عن النقص المعارض لدليل العلية وعدم المعارض عن داخل في دليل العلية وعن الدور من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع يستدعي وجود المقتضي ودليله أنه يصح انتفاؤه بالمانع مع وجود المقتضي ومع كون المقتضي معارضاً للمانع فلأن يصح تعليل النفي به مع عدم المقتضي كان أولى. الثاني: وإن سلمنا توقف التعليل بالمانع على وجود المقتضي ولكن لا نسلم توقف وجود المقتضي على وجود المانع فإن كون المقتضي مقتضياً إنما يعرف بدليله من المناسبة والاعتبار أو غير ذلك من الطرق وذلك متحقق فيما نحن فيه. فيجب القضاء بكونه مقتضياً والمانع إنما هو من قبيل المعارض فإن وجد انتفاء الحكم المقتضي مع بقاء المقتضي بحاله مقتضياً وإن لم يوجد عمل المقتضي عمله. الثالث: سلمنا توقف كل واحد منهما على الآخر لكن توقف معية أو توقف تقدم: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فلا دور. وعن قولهم: فيه تعليل المتقدم بالمتأخر أن المعلل نفيه بالمانع إنما هو انتفاء الحكم الذي صار بسبب وجود المقتضي بعرضية الثبوت عرضيةً لازمةً لا مطلق حكم وذلك مما لا يسلم تقدمه على المانع المفروض وأما إن لم يظهر في صورة التخلف مانع ولا فوات شرط فالحق بطلان العلة وذلك لأن العلة المستنبطة إنما عرف كونها علةً باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها وذلك إن دل على اعتبارها. فتخلف الحكم عنها مع ظهور ما يكون مستنداً لنفيه يدل على إلغائها وليس أحد الدليلين أولى من الآخر فيتقاومان ويبقى الوصف على ما كان قبل الاعتبار ولم يكن قبل ذلك علة فكذلك بعده. فإن قيل: مناسبة الوصف وقران الحكم به دليل ظاهر على كونه علةً وكذلك سائر طرق الاستنباط وهذا الدليل قائم وإن وجد النقص وتخلف الحكم عن الوصف غايته أنه يوجب الشك في فساد العلة وتقاوم احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة أو وجود المعارض على السواء وإذا كان دليل العلة ظاهراً ودليل الفساد مشكوكاً فيه فالمشكوك فيه لا يقع في مقابلة الظاهر. ودليل وقوع الشك في فساد العلة في صورة النقض وتقاوم الاحتمال فيها أنه يحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض من وجود مانع أو فوات شرط ويحتمل أنه لفساد العلة وهما متقاومان. وبيان التقاوم أن احتمال الانتفاء لانتفاء العلة وإن كان على وفق الأصل بالنسبة إلى احتمال انتفائه للمعارض دفعاً لمحذور المعارضة غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى إبطال العلة مع قيام الدليل الدال على كون الوصف علةً واحتمال انتفاء الحكم للمعارض وإن كان على خلاف الأصل لما فيه من نفي الحكم مع قيام دليله غير أنه على وفق الأصل من جهة موافقة الدليل الدال على كون الوصف علة فإذا احتمال انتفاء الحكم لانتفاء العلة موافق للأصل من وجه ومخالف له من وجه فيتقاوم الاحتمالان على السواء وذلك مما يوجب الشك في فساد العلة والشك لا يعارض الظاهر بوجه. قلنا: اذا اعترف بالشك في دليل فساد العلة فيلزم منه الشك في فساد العلة ويلزم من الشك في فساد العلة انتفاء الظن بكونها علةً لأن الصحة والفساد متقابلان فمهما وقع الشك في أحد المتقابلين وقع الشك في الآخر وإن كان أحدهما ظاهراً والآخر بعيداً فالقول بوقوع الشك في أحد المتقابلين مع ظهور الآخر ممتنع كما يمتنع الشك في الغيم مع ظن الصحو والشك في موت زيد مع ظن حياته وهذا بخلاف ما اذا شككنا في الطهارة وحكمنا بالنجاسة نظراً إلى النجاسة السابقة فإن الشك في هذه الصور لا يجامع النظر إلى الأصل بل عند النظر إلى الأصل يترجح أحد احتمالي الشك على الآخر فلا يبقى الشك متحققاً حتى إنه لو وقع الشك في النجاسة أو الطهارة مع النظر إلى الأصل لبقي الشك معمولاً به. وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن الشك انما وقع في فساد العلة في صورة النقض مع النظر إلى دليل العلة ولولا النظر إلى دليل العلة لكان الظاهر انتفاء الحكم لا انتفاء العلة ومهما كان كذلك فلا يمكن القضاء بظهور العلة مع أن تقاوم الاحتمال إنما كان بالنظر إلى دليل العلة. كيف وإنه قد يمكن أن يقال: انتفاء الحكم مع وجود الوصف دليل ظاهر على أنه ليس بعلة وثبوت الحكم على وفقه مع مناسبته مما يوجب الشك في صحة التعليل به في محل الاعتبار والمشكوك فيه لايعارض الظاهر وبيان وقوع الشك في صحة التعليل في الأصل المستروح إليه أنه وإن كان ثبوت الحكم به على وفق الأصل غير أنه على خلاف الأصل بالنظر إلى دليل الفساد. وثبوت الحكم لغيره وإن كان على خلاف الأصل مع عدم الظفر به إلا أنه على وفق الأصل بالنظر إلى دليل الفساد ويلزم من ذلك تقاوم الاحتمالات في صحة العلة وكان الظاهر قد دل على فسادها فلا يترك بالمشكوك فيه. فإن قيل: ما ذكرتموه من دلائل عدم الانتقاض في الصور المذكورة معارض من ثمانية أوجه: الأول: وهو اختيار أبي الحسين البصري أن تخصيص العلة مما يمنع من كونها أمارة على الحكم في شيء من الفروع سواء ظن بها أنها جهة للمصلحة أو لم يكن ظن بها ذلك. وبيان ذلك أنا إذا علمنا أن علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلاً هي كونه موزوناً ثم علمنا إباحة بيع الرصاص بالرصاص متفاضلاً مع أنه موزون لم يخل إما أن يعلم ذلك بعلة أخرى تقتضي إباحته أو بنص: فإن علمنا إباحته بعلة أخرى يقايس بها الرصاص على أصل مباح لكونه أبيض مثلاً فإنا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلاً إلا بكونه موزوناً غير أبيض فإنا لو شككنا في كونه أبيض لم نعلم قبح بيعه متفاضلاً كما لو شككنا في كونه موزوناً فبان أنا لا نعلم بعد التخصيص تحريم شيء لكونه موزوناً فقط فبطل أن يكون الموزون وحده علة بل الموزون مع كونه غير أبيض وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا دل على إباحة بيع الرصاص نص وسواء علمت علة الإباحة أو لم تعلم. الثاني: قال بعض أصحابنا: اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر: فإن اعتبر لم تكن العلة علة الا عند انتفاء المعارض وذلك يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس هو تمام العلة بل بعضها. وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل يكون الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضاً. الثالث: أنه لا بد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضياً اقتضاء حقيقياً بالفعل وبين كون المانع مانعاً حقيقياً بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد المتنافيين بالذات انتفاء الأول وليس انتفاء الأول لطريان اللاحق وإلا لزم الدور وحيث كان شرط كون المانع مانعاً خروج المقتضي عن كونه مقتضياً بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضياً بالفعل لأجل تحقق والا لزم الدور فاذا المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضياً لا بالمانع بل بذاته وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك لا يصلح للعلية. الرابع: أن الوصف وإن وجد مع الحكم في الأصل فقد وجد مع الحكم في صورة النقض مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علةً لذلك الحكم ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقض يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم في تلك الصورة. والوصف الحاصل في الفرع كما إنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو مثل الوصف الحاصل في صورة النقض وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر فلم يجز الحكم عليه بكونه علةً.
الخامس قالوا: لا طريق إلى صحة العلة الشرعية سوى جريانها مع معلولها فإذا لم تجر معه لم يكن إلى صحتها طريق. السادس قالوا: العلة الشرعية إذا دل الدليل على تعلق الحكم بها امتنع تخصيصها كالعلة العقلية. السابع قالوا: العلة في القياس طريق إلى إثبات الحكم في الفرع فإذا وجدت العلة في نوعين امتنع أن تكون طريقاً إلى العلم بحكم أحدهما دون الآخر كما في الإدراكات والأدلة العقلية. الثامن قالوا: لو جاز وجود العلة الشرعية في فروع يثبت الحكم معها في البعض دون البعض لم يكن البعض بالإثبات أولى من البعض الآخر. وما ذكرتموه من دليل الانتقاض في الصورة الأخيرة معارض من أربعة أوجه: الأول إجماع الصحابة على ذلك ودليله ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن سنن القياس واشتهر ذلك فيما بين الصحابة من غير نكير فصار إجماعاً. الثاني: أن العلة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع ووجودها في موضع من غير حكم لا يخرجها عن كونها أمارةً فإنه ليس من شرط كون الأمارة أمارةً على شيء أن يكون ذلك الشيء ملازماً لها دائماً بدليل وجود جميع الأمارات الشرعية على إثبات الأحكام وإن لم تكن الأحكام ملازمةً لها قبل ورود الشرع وبدليل الغيم الرطب فإنه أمارة على وجود المطر وإن لم يكن المطر ملازماً له ولذلك فإن وقوف مركوب القاضي على باب الملك أمارة على كونه في دار الملك ولا يخرج في ذلك أمارة لوجوده في بعض الأوقات والقاضي غير موجود في دار الملك بأن يكون مركوبه مستعاراً وكذلك خبر الواحد فإنه أمارة على وجود الحكم وتخلف حكمه عند وجود النص الراجح المخالف له لا يخرجه عن كونه أمارة عليه عند عدم ذلك النص. الثالث: أن العلة المستنبطة أمارة فجاز تخصيصها كالمنصوصة. الرابع: أن كون الوصف أمارة على الحكم في محل إما أن يتوقف على كونه إمارةً على ذلك الحكم في محل آخر أو لا يتوقف: فإن توقف فإما أن لا يتعاكس الحال في ذلك أو يتعاكس: الأول محال لما فيه من الدور والثاني أيضاً محال لعدم الأولوية وإن لم يتوقف فهو المطلوب. والجواب عن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على امتناع التخصيص: أنا وإن سلمنا أن علة القياس أمارة على حكم الفرع معرفة له وأنه إذا تخلف الحكم عنها في صورة أخرى للمعارض لا يمكن إثبات الحكم بها في فرع من الفروع دون العلم بانتفاء ذلك المعارض لها المتفق عليه ولكن لا يلزم أن يكون انتفاء المعارض من جملة المعرف للحكم بل المعرف للحكم إنما هو ما كان باعثاً عليه في الأصل. وانتفاء المعارض انما توقف إثبات حكم الامارة عليه ضرورة أن الحكم لا يثبت مع تحقق المعارض النافي له فكان نفيه شرطاً في إثبات حكم الأمارة لا أنه داخل في مفهوم الأمارة. وعن الثانية أنه وإن سلم أن اقتضاء العلة للحكم لا يتوقف على عدم المعارض فما المانع منه قولهم إنه يكون الحكم حاصلاً وإن حصل المعارض لا نسلم ذلك فإن العلة وان كانت مقتضيةً للحكم فإنما يلزم وجود الحكم أن لو انتفى المعارض الراجح أو المساوي وعلى هذا فلا يلزم من انتفى القدح في المعارض ولا في العلة. وعن الثالثة لا نسلم المنافاة بين اقتضاء المقتضي واقتضاء المانع ولا استحالة الجمع بينهما وإن استحال الجمع بين حكميهما وعلى هذا فلا يلزم من تحقق المانع خروج المقتضي عن جهة اقتضائه لا بذاته ولا بغيره بخلاف المتنافيات بالذات. وعن الرابعة أنه وإن كان وجود الوصف مع الحكم في الأصل لا يوجب القطع بكونه علةً لكنه يغلب على الظن كونه علة ووجوده مع عدم الحكم في صورة النقص لا نسلم أنه يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم بل الظن بالعلية باق بحاله وانتفاء الحكم إنما كان لوجود المعارض النافي للحكم على ما هو معلوم من قاعدة القائلين بتخصيص العلة. وعن الخامسة لا نسلم أن اطراد العلة طريق إلى صحتها كما يأتي مفصلاً من كونه لا طريق سواه.
وعن السادسة لا نسلم أن العلة العقلية يمتنع تخلف الحكم عنها بل ذلك جائز عند فوات القابل لحكمها كما بيناه في الكلاميات وإن سلمنا امتناع تخلف حكمها عنها فليس ذلك لدلالة الدليل على تعلق الحكم بها ولا لكونها علةً بل إنما كان ذلك بكونها مقتضيةً للحكم لذاتها وذلك غير متحقق في العلة الشرعية فإنها ليست مقتضيةً للحكم لذاتها وإنما هي علة بوضع الشارع لها أمارةً على الحكم في الفرع. وعن السابعة أنه ليست العلة في امتناع الافتراق في الدليل العقلي المتعلق بمدلولين وامتناع الافتراق في الإدراك المتعلق بمدركين كونه طريقاً لا دليلاً بل لكون الدليل العقلي موجباً لذاته ولكون الإدارك مما يجب العلم بالمدرك عنده عادةً بخلاف العلل الشرعية على ما سبق. وعن الثامنة أنه إنما اختص البعض بتخلف الحكم دون البعض لاختصاصه بمعارض لا تحقق له فيما كان الحكم ثابتاً فيه. وعن المعارضة الأولى من المعارضات الدالة على التخصيص أنه لا دلالة لقول ابن مسعود على أن القياس الذي كان الحكم ثابتاً على خلافه أنه حجة فالإجماع على ذلك لا يكون مفيداً وإن كان حجةً لكن يمكن حمله على ما إذا كان تخلف الحكم عنه بطريق الاستثناء ويجب الحمل عليه جمعاً بين الأدلة. وعن الثانية لا نسلم أن تخلف الحكم عن الأمارة من غير معارض لا يخرجها عن كونها أمارةً وذلك لأنه إما أن يكون كل ما توقف عليه التعريف في صورة كانت الأمارة أمارةً فيه قد تحقق في صورة تخلف الحكم أو لم يتحقق: فإن كان الأول فتخلف الحكم عنه ممتنع وإن كان الثاني فالموجود في صورة التخلف ليس هو الأمارة التي توقف عليها التعريف بل البعض منها وعلى هذا يكون تخريج كل ما ذكروه من الصور. وعن الثالثة: بمنع كون المستنبطة مع تخلف الحكم عنها من غير معارض أمارةً. وعلى هذا فلم يوجد الجامع بين الأصل والفرع وإن دلوا على كونها أمارةً مع التخصيص بطريق آخر فهو كاف في المطلوب وخروج عن خصوص هذه الدلالة. وعن الرابعة: أن المختار مما ذكروه من الأقسام قسم التوقف من الطرفين. قولهم: إن ذلك يفضي إلى الدور إنما يلزم إن لو توقف كون الأمارة في كل واحدة من الصورتين على كونها أمارةً في الصورة الأخرى توقف تقدم أما إذا كان ذلك بطريق المعية فلا كما عرف ذلك فيما تقدم والله أعلم. المسألة التاسعة اختلفوا في الكسر هل هو مبطل للعلة أو لا ؟ اختلفوا في الكسروهو تخلف الحكم المعلل عن معنى العلة وهو الحكمة المقصوده من الحكم هل هو مبطل للعلة أو لا؟ وصورته ما لو قال الحنفي في مسألة العاصي بسفره مسافر فوجب أن يترخص في سفره كغير العاصي في سفره وبين مسافة السفر بما فيه من المشقة فقال المعترض: ما ذكرته من الحكمة وهي المشقة منتقضة فإنها موجودة في حق الحمال وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر ومع ذلك فإنه لا رخصة والأكثرون على أن ذلك غير مبطل للعلة. والوجه فيه أن الكلام إنما هو مفروض في الحكمة التي ليست منطبطةً بنفسها بل بضابطها وعند ذلك فلا يخفى أن مقدارها مما لا ينضبط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال وما هذا شأنه. فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام على ما قال تعالى:" وما جعل عليكم في الدين من حرج " وعلى هذا فيمتنع التعليل بها دون ضابطها وإذا لم تكن علة فلا معنى لإيراد النقض عليها. فإن قيل: المقصود من شرع الحكم إنما هو الحكمة دون ضابطها وعند ذلك فيحتمل أن يكون مقدار الحكمة في صورة النقض مساوياً لمقدارها في صورة التعليل ويحتمل أن يكون أزيد ويحتمل أن يكون أنقص. وعلى تقدير المساواة والزيادة فقد وجد في صورة النقص ما كان موجوداً في صورة التعليل وإنما لا يكون موجوداً بتقدير أن يكون أنقض ولا يخفى أن ما يتم على تقديرين أغلب على الظن مما لا يتم إلا على تقدير واحد ومع ذلك فيظهر إلغاء ما ظن أن الحكم معلل به. قلنا: الحكمة وإن كانت هي المقصودة من شرع الحكم لكن على وجه تكون مضبوطةً إما بنفسها أو بضابطها لما ذكرناه وما فرض من الحكمة في صورة النقض مجردةً عن ضابطها فامتنع كونها مقصودةً وبتقدير كونها مقصودةً فالنقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل كونها معللاً بها.
وعلى هذا فانتفاء الحكم مع وجود الحكمة في دلالته على إبطال التعليل بالحكمة مرجوح بالنظر إلى دليل التعليل بها وذلك لأنه من المحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقص لمعارض ومع هذا الاحتمال فتخلف الحكم عنها لا يدل على إبطالها. فإن قيل: بحثنا وسبرنا فلم نطلع على ما يصلح معارضاً في صورة النقص فيظهر أن انتفاءه لانتفاء العلة فهو معارض بقول المستدل بحثت في محل التعليل فلم أطلع على ما يصلح للتعليل سوى ما ذكرته فدل على التعليل به. فإن قيل: بحثنا راجح لما فيه من موافقة انتفاء الحكم لانتفاء علته إذ هو الأصل نفياً للتعارض فهو معارض بما بحث المستدل من موافقة ما ظهر من دليل العلة من المناسبة والاعتبار فيتقاومان ويترجح كلام المستدل بأن مقدار الحكمة في صورة التعليل وإن كان مظنون الوجود في صورة النقض. فيحتمل أن لا يكون موجوداً فيها وإلا كان مقطوعاً لا مظنوناً وهو موجود في صورة التعليل قطعاً مع قران الحكم به قطعاً وهو دليل العلية وما هو دليل البطلان موجودها في صورة النقض ظناً مع انتفاء الحكم قطعاً والمقطوع به من وجهين راجح على ما هو مقطوع من وجه ومظنون من وجه ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح مما لا يتجه على النقض على المظنة فلذلك كان النقض لازماً على المظنة دون الحكمة. فإن قيل: فلو فرض وجود الحكمة في صورة النقض قطعاً فما المختار فيه؟ قلنا: ذلك مما يمتنع وقوعه وبتقدير وقوعه فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا الفتات إليه مصيراً منه إلى أن التوسل إلى معرفة ذلك في آحاد الصور بخفائه وندرته مما يلزم منه نوع عسر وحرج ولا يلزم مثله في التوسل إلى معرفة الضوابط الجلية فكان من المناسب حط هذه الكلفة عن المجتهد ورد الناس إلى الضوابط الجلية المشتملة على احتمال الحكم في الغالب. ولقائل أن يقول: البحث عن الحكمة في آحاد الصور هل هي موجودة قطعاً وإن كان يفضي إلى العسر والحرج إلا أنا نعلم أن المقصود الأصلي من إثبات الأحكام ونفيها إنما هو الحكم والمقاصد. فعلى تقدير وجود الحكمة في بعض الصور مماثلةً لها في محل التعليل قطعاً لو لم نقل بوجوب التعليل بها في غير محل التعليل لزم منه انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعاً وذلك ممتنع كما يمتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعاً فيما عدا الصورة النادرة وكذلك لو لم نقل بإلغائها عند تخلف الحكم عنها فيصح مع تيقنها فيلزم منه إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعاً ولا يخفى أن محذور إثبات الحكم لحكمة ألغاها الشارع أو نفي الحكم مع وجود حكمته يقيناً أعظم من المحذور اللازم للمجتهد من البحث عن الحكمة في آحاد الصور على ما لا يخفى. وعلى هذا يكون الكلام فيما إذا فرض وجود الحكمة في صورة النقض أزيد منها في محل التعليل يقيناً لكن إن كان قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها بأن يكون وافياً بتحصيل أصل الحكمة وزيادة ولو رتب عليها في تلك الصورة الحكم المعلل كان فيه الإخلال بتلك الزيادة في صورة النقض فلا يكون ذلك نقضا للحكمة ولا إلغاء لها بل الواجب تخلف الحكم المعلل عنها وإثبات الحكم اللائق بها الوافي بتحصيل الزيادة لما فيه من رعاية أصل المصلحة وزيادتها فإنه أولى من رعاية أصل المصلحة وإلغاء الزيادة. فإذاً انتفاء الحكم في هذه الصورة لا يدل على إلغاء الحكمة بل على اعتبارها بأصلها وصفتها ومثال ذلك ما إذا علل المستدل وجوب القطع قصاصاً بحكمة الزجر فقال المعترض مقصود الزجر في القتل العمد العدوان أعظم. ومع ذلك فإنه لا يجب به القطع فللمستدل أن يقول: الحكمة في صورة النقض وإن كانت أزيد منها في محل التعليل غير أنه قد ثبت معها في صورة النقض حكم هو أليق بها وهو وجوب القتل. المسألة العاشرة اختلفوا في النقض المكسور وهو النقض على بعض أوصاف العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح بيعه كما لو قال بعتك عبداً فقال المعترض هذا ينتقض بما لو تزوج امرأة لم يرها فإنها مجهولة الصفة عند العاقد لدى العقد ومع ذلك فإن النكاح يصح والأكثرون على رده وإبطاله.
وذلك لأن التعليل إنما وقع بكونه مبيعاً مجهول الصفة لا بكونه مجهول الصفة فقط والمنكوحة ليست مبيعةً وإن كانت مجهولة الصفة وإبطال التعليل ببعض أوصاف العلة لا يكون إبطالاً بجملة العلة. نعم إن بين المعترض أنه لا تأثير للوصف الذي وقع به الأحتراز عن النقص في الحكم لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى الوصف الآخر فالمستدل بين أمرين بين أن يبقى مصراً على التعليل بمجموع الوصفين وبين أن يترك الكلام على التعليل بالوصف المنقوض: فإن كان الأول فقد بطل التعليل بما علل به لعدم التأثير لا بالنقض. وإن كان الثاني فقد بطل التعليل بالنقض لكونه وارداً على كل العلة فإن قيل الوصف المحذوف وإن لم يكن مناسباً ولا له تأثير في إثبات الحكم المعلل لا بانفراده ولا مع ضميمة إلى غيره فلا يمتنع أخذه في التعليل لفائدة الاحتراز عن النقض وإنما يخرج عن التعليل إن لو تعرى عن الفائدة بالكلية وليست الفائدة منحصرةً في المناسبة على ما تقدم. قلنا: فائدة الاحتراز به عن النقض متوقفة على كونه من أجزاء العلة حتى إنه لو لم يكن من أجزاء العلة لكانت العلة ما وراءه والنقض إذ ذاك يكون وارداً عليها وكونه من أجزاء العلة يتوقف على إمكان الاحتراز به عن النقض وهو دور ممتنع. المسألة الحادية عشرة اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية: فأثبته قوم ونفاه أصحابنا والمعتزلة. وقبل الخوض في الحجاج لا بد من بيان أقسام العكس واختلاف الاصطلاحات فيه وتعيين محل النزاع منها فنقول: أما العكس في اللغة فمأخوذ من رد أول الأمر إلى آخره وآخره إلى أوله وأصله شد رأس البعير بخطامه إلى ذراعه. وأما في اصطلاح الحكماء فهو عبارة عن جعل اللازم ملزوماً والملزوم لازماً مع بقاء كيفية القضية بحالها من السلب والإيجاب وذلك كقول القائل في عكس القضية الحملية إذا كانت موجبةً كليةً كقولنا كل إنسان حيوان أو جزئيةً كقولنا بعض الإنسان حيوان بعض الحيوان إنسان أو كليةً سالبةً كقولنا لا شيء من الإنسان بحجر لا شيء من الحجر بإنسان وعلى قياسه عكس القضية الشرطية. وأما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد يطلق العكس باعتبارين: الأول: منهما مثل قول الحنفي: لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه في المحدد وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره وهو باطل فإنه لا مانع من ورود الشارع بوجوب القصاص بكل جارح وإن تخصص وجوبه في المثقل بالكبير منه. وأما الثاني فهو انتفاء الحكم عند انتفاء العلة والعكس بهذا الاعتبار هو المقصود بالخلاف هاهنا. والمختار فيه إنما هو التفصيل وهو أن جنس الحكم المعلل إما أن لا يكون له سوى علة واحدة أو أنه معلل بعلل في كل صورة بعلة فإن كان الأول وذلك كتعليل جنس وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان فإنه لا علة له سواه فلا شك في لزوم انتفائه عند انتفاء علته لا لأنه يلزم من نفي العلة الواحدة نفي الحكم بل لأن الحكم لا بد له من دليل ولا دليل. وإن كان الثاني كما في تعليل إباحة الدم بالقتل العمد العدوان والردة عن الإسلام والزنى في الإحصان وقطع الطريق وتعليل نقض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط فلا شك أنه لا يلزم من انتفاء بعض هذه العلل نفي جنس الحكم لجواز وجود علة أخرى وإنما يلزم نفيه بتقدير انتفاء جميع العلل. هذا في جنس الحكم المعلل وأما آحاد أشخاص الحكم في آحاد الصور فإنه يمتنع تعليله بعلتين على ما يأتي تقريره وإنما يكون معللاً بعلة واحدة على طريق البدل فلا يلزم من نفي العلة المعينة نفيه لجواز وجود بدلها لما سبق. فإن قيل: وإن كان الحكم معللاً بعلة واحدة ولا علة له سواها في دليل عليه فكانت مشابهةً للدليل العقلي في العقليات ولا يلزم من نفي الدليل في العقليات نفي المدلول ولهذا فإن الصنعة دليل وجود الرب تعالى ولو قدر انتفاؤها لم يلزم منه انتفاء وجود الرب تعالى فكذلك العلة الشرعية. قلنا: العلة وإن كانت دليل الحكم فلا نعني بانتفاء الحكم عند انتفائها انتفاءه في نفسه بل انتفاء العلم أو الظن به ضرورة توقف ذلك على النظر الصحيح في الدليل ولا دليل وكذلك الحكم في الصنعة مع الصانع. المسألة الثانية عشرة اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة واختلفوا في جواز تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين معاً: فمنهم من منع ذلك مطلقاً كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين ومن تابعهما ومنهم من جوز ذلك مطلقاً ومنهم من فصل بين العلل المنصوصة والمستنبطة فجوزه في المنصوصة ومنع منه في المستنبطة كالغزالي ومن تابعه. والمختار إنما هو المذهب الأول وذلك لأنه لو كان معللاً بعلتين لم يخل إما أن تستقل كل واحدة بالتعليل أو أن المستقل بالتعليل إحداهما دون الأخرى أو أنه لا استقلال لواحدة منهما بل التعليل لا يتم إلا باجتماعهما. لا جائز أن يقال بالأول لأن معنى كون الوصف مستقلاً بالتعليل أنه علة الحكم دون غيره ويلزم من استقلال كل واحدة منهما بهذا التفسير امتناع استقلال كل واحدة منهما وهو محال. وإن كان الثاني أو الثالث فالعلة ليست إلا واحدةً وعلى هذا فلا فرق بين أن تكون العلة في محل التعليل بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة. فإن قيل: نحن لا نفسر استقلال العلة بأن الحكم ثبت بها لا غير ليلزمنا ما قيل بل معنى استقلالها أنها لو انفردت لكان الحكم ثابتاً لها ولا أثر لانتفاء غيرها ولا يخفى وجه الفرق بينه وبين القسمين الآخرين سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعليل الحكم بعلتين على وجه تكون كل واحدة مستقلةً بالحكم لكنه معارض بما يدل على جوازه بالنظر إلى ما هو الواقع من أحكام الشرع وذلك أنا قد اتفقنا على ثبوت الحكم الواحد عقيب علل مختلفة كل واحدة قد ثبت استقلالها بالتعليل في صورة وعند ذلك فإما أن يقال: العلة منها واحدة أو الكل علة واحدة ذات أوصاف أو أن كل واحدة علة مستقلة: لا جائز أن يقال بالأول وإلا فهي معينة أو مبهمة: القول بالتعيين ممتنع لعدم الأولوية ولما فيه من خروج الباقي عن التعليل مع استقلال كل واحدة به وبهذا يبطل الإبهام. والقسم الثاني أيضاً فلم يبق سوى القسم الثالث وهو الاستقلال ودليل ثبوت مثل هذه الأحكام الإجماع على إباحة قتل من قتل مسلماً قتلاً عمداً عدواناً وارتد عن الإسلام وزنى محصناً وقطع الطريق معاً وعلى ثبوت الولاية على الصغير المجنون وعلى امتناع نكاح من أولدته وأرضعته وعلى تحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة وعلى انتقاض الوضوء بالمس واللمس والبول والغائط معاً. والجواب عن الإشكال الأول أن الكلام إنما هو مفروض في حالة الاجتماع لا في حالة الانفراد والتقسيم في حالة الاجتماع فعلى ما سبق وأما الأحكام فالوجه في دفعها أن تقول أما إباحة قتل من قتل وارتد وزنى محصناً وقطع الطريق فالعلل وإن كانت فيه متعددة فالحكم أيضاً متعدد شخصاً وإن اتحد نوعاً. ولذلك فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العود عن الردة إلى الإسلام انتفاء إباحة بباقي الأسباب الأخر ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص انتفاؤها بباقي الأسباب ويدل على تعدد الحكم أيضاً أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص. ولذلك يتمكن من إسقاطه مطلقاً والإباحة بجهة الزنى والردة حق لله تعالى بجهة الخلوص دون الآدمي وذلك غير متصور في شيء واحد وعلى تقدير الاستيفاء فالمقدم حق الآدمي وهو الإباحة بجهة القصاص لأن حقه مبني على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة من حيث إن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى. وأما ثبوت الولاية على الصغير المجنون فمستندة إلى الصغر لسبقه على الجنون لكون الجنون لا يعرف إلا بعد حين وكذلك امتناع نكاح الوالدة المرضعة فإنه مستند إلى الولادة دون الرضاع لسبقها عليه. وأما الوطء في حق الحائض المعتدة المحرمة فغير محرم على التحقيق وإنما المحرم في حق الحائض ملابسة الأذى وفي حق المعتدة تطويل العدة وفي حق المحرمة إفساد العبادة وهي أحكام متعددة لا أنها حكم واحد. وأما المس واللمس وباقي الأسباب فالأحداث المرتبة عليها متعددة على رأي لنا. وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي فأحكامها أيضاً متعددة لا أنها حكم واحد والنزاع إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين لا في تعليل حكمين وعلى هذا فلا يخفى وجه التخريج لكل ما يرد من هذا القبيل. المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية هل تكون علة لحكمين شرعيين أو لا؟ والمختار جوازه وذلك لأن العلة إما بمعنى الأمارة أو الباعث. فإن كانت بمعنى الأمارة فغير ممتنع لا عقلاً ولا شرعاً نصب أمارة واحدة على حكمين مختلفين وذلك مما لا نعرف فيه خلافاً كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أمارةً على وجوب الصوم والصلاة ونحوه. وأما إن كانت بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون الوصف الواحد باعثاً للشرع على حكمين مختلفين أي مناسباً لهما وذلك كمناسبة شرب الخمر للتحريم ووجوب الحد وكذلك التصرف بالبيع من الأهل في المحل المرئي فإنه مناسب لصحة البيع ولزومه. فإن قيل: إذا كان الوصف مناسبا لأحد الحكمين فمعنى كونه مناسباً له أنه لو رتب ذلك الحكم عليه لحصل مقصوده. وعلى هذا فيمتنع أن يكون مناسباً للحكم الآخر لأنه لو ناسبه لكان بمعنى أن ترتيبه عليه محصل للمقصود منه وفي ذلك تحصيل الحاصل لكونه حاصلاً به لحكم الآخر وأيضاً فإنه إذا كان الوصف الواحد مناسباً لحكمين مختلفين: فإما أن يناسبهما من جهة واحدة أو من جهتين مختلفتين: فإن كان الأول فهو ممتنع إذ الشيء الواحد لا يكون مناسباً لشيء من جهة ما يناسب مخالفه وإن كان الثاني فعلة الحكمين مختلفة لا أنها متحدة. والجواب عن الأول أن معنى المناسب للحكم أعم مما ذكروه وذلك لأن المناسب ينقسم إلى ما ترتيب الحكم الواحد عليه يستقل بتحصيل مقصوده وذلك مما يمنع كونه مناسباً للحكمين بهذا التفسير وإلى ما يتوقف حصول مقصوده على ترتيب الحكم عليه وإن لم يكن ذلك الحكم وافياً بتحصيل المقصود دون الحكم الآخر. وعلى هذا فامتناع مناسبة الوصف الواحد للحكمين بالتفسير الأول وإن كان لازماً فلا يمتنع أن يكون مناسباً للحكمين بالتفسير الثاني. وعن الإشكال الثاني أنه إذا عرف أن معنى مناسبة الوصف للحكمين توقف حصول المقصود منه على شرع الحكمين فلا يمتنع أن يكون الوصف مناسباً لهما من جهة واحدة. المسألة الرابعة عشرة إذا كانت العلة في أصل القياس بمعنى الباعث فشرطها أن تكون ضابط الحكمة المقصودة للشرع كما قررناه من إثبات الحكم أو نفيه بحيث لا يلزم منه إثبات الحكم مع تيقن انتفاء الحكمة في صورة وإلا كان فيه إثبات الحكم مع انتفاء الحكمة المطلوبة منه يقيناً وهو ممتنع ومثاله ما لو قيل بأن حكمة القصاص إنما هي صيانة النفس المعصومة عن الفوات فمن ضبط صيانة النفس عن الفوات بالجرح لا غير كما يقوله أبو حنيفة فيلزمه شرع القصاص في حق من جرح ميتاً ضرورة وجود الضابط مع تيقن انتفاء الحكمة أو نفي الحكم مع وجود علته وهو ممتنع. فإن قيل: وإن لزم من ذلك إثبات الحكم في صورة بدون حكمة. فذلك الضابط في الأصل المذكور إنما يمتنع الضبط به إن لو لم يكن له سوى حكمة واحدة وأما إذا جاز أن يكون الوصف الواحد ضابطاً في كل صورة لحكمة فانتفاء حكمة إحدى الصورتين عن الأخرى لا يوجب أن يكون ثبوت الحكم في الصورة التي انتفت عنها تلك الحكمة عرياً عن الفائدة بل يكون ثبوته بالحكمة الخاصة بتلك الصورة والضابط لها ولحكمة الحكم في الصورة الأخرى شيء واحد. قلنا: إذا اتحد الضابط فاختصاصه في كل صورة بحكمة مخالفة للحكمة المختصة به في الصورة الأخرى إما أن يكون ذلك لذاته أو لمخصص مختص بتلك الصورة دون الصورة الأخرى. لا جائز أن يقال بالأول وإلا لزم الاشتراك بين الصورتين في الحكمتين ضرورة اتحاد المستلزم لها. وإن قيل بالثاني فما به التخصيص في كل واحدة من الصورتين ولا وجود له في الصورة الأخرى يكون من جملة الضابط فالضابط للحكمتين يكون مختلفاً وإن كان مركبا من الوصف المشترك وما به تخصصت كل صورة من المخصص الزائد. المسألة الخامسة عشرة ذهب جماعة إلى إن شرط ضابط الحكمة أن يكون جامعاً بحيث لا توجد الحكمة يقينا في صورة دونه مصيراً منهم إلى أنه لو كان كذلك فلا يخلو إما أن يثبت الحكم في الصورة التي وجدت فيها الحكمة دون ذلك الضابط أو لا يثبت: فإن كان الأول فيلزم مه إدارة الحكم على الحكمة دون ضابطها وهو ممتنع لما فيه من الاستغناء عن الضابط لإمكان إثبات الحكم بالحكمة دونه.
وإن كان الثاني فيلزم منه إهمال الحكمة مع العلم بأن الحكم لم يثبت إلا بها وهو ممتنع وصورة ذلك ضبط الحنفي العمدية باستعمال الجارح حيث إنه يلزم منه إهمال العمدية مع تيقن وجودها فيما إذا أدار حجر البزارة على رأسه أو ألقاه في بحر مغرق أو نار محرقة. ولقائل أن يقول: ما ذكر من المحذور إنما يلزم إن لو امتنع تعليل الحكم في صورتين بعلتين وهو باطل لما سبق ومع جواز تعليل الحكم في صورتين بعلتين لا يمتنع أن تكون حكمة الحكم في الصورتين واحدة ولها في كل صورة ضابط بحسب تلك الصورة وذلك لا يجر إلى إهمال الحكمة ولا إلى إلغاء الضابط. المسألة السادسة عشرة اختلفوا في جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عن ذلك الحكم في الوجود وذلك كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون. والمختار امتناعه وذلك لأن علة حكم الأصل إما أن تكون بمعنى الباعث أو بمعنى الأمارة المعرفة له. فإن كان الأول فيلزم من تأخر العلة عن الحكم في الوجود أن يكون الحكم ثابتاً قبل ذلك إما لا بباعث أو بباعث غير العلة المتأخرة عنه لاستحالة ثبوت الحكم بباعث لا تحقق له مع الحكم. وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين: الأول: ما بيناه من امتناع كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة. الثاني: أنها وإن كانت بمعنى الأمارة فإنما هو في تعريف الحكم وقد عرف قبلها ضرورة سبقه في الوجود عليها وتعريف المعروف محال. فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يستقيم بتقدير امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين وإلا فبتقدير تعليله بعلتين فلا يمتنع تعليله بعلة موجودة معه وعلة متأخرة عنه. قلنا: أما أولاً فقد بينا امتناع تعليل الحكم بعلتين في صورة واحدة وبتقدير جواز ذلك فإنما يجوز لتقدير أن لا تكون إحدى العلتين متقدمة على الأخرى لما بيناه فيما تقدم. المسألة السابعة عشرة إذا كان الحكم في الأصل نفياً والعلة له وجود مانع أو فوات شرط فقد اختلفوا في اشتراط وجود المقتضي لإثباته. والمختار اشتراطه وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمصالح الخلق فما لا فائدة في إثباته فلا يشرع فانتفاؤه يكون لانتفاء فائدته وسواء وجدت ثم حكمة تقتضي نفيه أو لم توجد وفرق بين انتفاء الحكم لانتفاء فائدته وبين انتفائه لوجود فائدة نافية له. وإذا كان كذلك فما لم يوجد المقتضي للإثبات كان نفي الحكم للمانع أو لفوات الشرط ممتنعاً. فإن قيل: لا خفاء بأن وجود المقتضب من قبيل المعارض لوجود المانع وفوات الشرط فإذا استقل المانع وفوات الشرط بنفي الحكم مع وجود ما يعارضه ويكسر سورته فلأن يستقل بالنفي مع انتفاء المعارض كان أولى وأيضاً فإنا لو اشترطنا وجود المقتضي فيلزم منه التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط والتعارض على خلاف الأصل لما فيه من إهمال أحد الدليلين. وعند انتفاء المقتضي لو أحلنا نفي الحكم على نفي المقتضى مع تحقق ما يناسب نفي الحكم من المانع أو فوات الشرط لزم منه إهمال مناسبة المانع وفوات الشرط مع اقتران نفي الحكم به وهو خلاف الأصل. قلنا: جواب الإشكال الأول أنه لا يلزم من انتفاء الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي المشترط في إعماله لما بيناه انتفاؤه له مع فوات شرط إعماله. وجواب الثاني: أنه وإن لزم من وجود المقتضي التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط فهو أهون من نفيه لوجود المانع مع فوات شرط إعماله على ما حققناه. ولهذا كان نفي الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي متفقاً عليه بين القائلين بتخصيص العلة ومختلفاً فيه مع انتفاء المقتضي وبتقدير انتفاء المقتضي فنفي الحكم له دون ما ظهر من المانع وفوات الشرط وإن أفضى إلى إلغاء مناسبة المانع وفوات الشرط مع اعتباره إلا أنه أولى من انتفائه للمانع أو فوات الشرط. ولهذا وقع الاتفاق من الكل على استقلاله بالنفي عند عدم المعارض ووقع الخلاف في استقلال المانع وفوات الشرط بالنفي مع القائلين بامتناع تخصيص العلة فكان النفي له أولى.
ولا يمكن أن يقال بإحالة النفي على نفي المقتضي والمانع معاً لأنه معا لأنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالنفي أو أن المقتضي للنفي الهيئة الاجتماعية منهما وهما بمنزلة أجزاء العلة النافية لا سبيل إلى الأول لما بيناه من امتناع تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين مستقلتين ولا سبيل إلى الثاني لأن نفي المقتضي بتقدير انتفاء معارضه مستقل بالنفي إجماعاً وفيه إخراج المستقل عن الاستقلال وهو ممتنع. وإذا ثبت أنه لا بد في التعليل بالمانع وفوات الشرط من وجود المقتضي فلا بد من بيانه بطريق تفصيلي يدل على وجوده وعليته بما يساعد من الأدلة وإن اتفق أن كان الشارع قد نص على نفي الحكم فهو دليل ظاهر على وجود المقتضى لأنه لو لم يكن المقتضي موجوداً كانت فائدة التنصيص على النفي التأكيد لاستقلال نفي المقتضي بالنفي. والأصل أن يحمل كلام الشارع على فائدة التأسيس لكونها أصلاً وإنما يتم ذلك بالنظر إلى وجود المقتضي. فإن قيل: اعتقاد وجود المقتضي حملاً للكلام على فائدة التأسيس يلزم منه نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه وهو خلاف الأصل وليس مخالفة محذور مخالفة المقتضى مع كونه خلاف الأصل دفعاً لمحذور حمل الكلام على فائدة التأكيد أولى من العكس. قلنا: بل المحذور اللازم من نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه مخالفة المقتضي لا غير وهو غالب في الشرع ومحذور التأكيد مع كونه نادراً فيه مخالفة ما ظهر من مناسبة المانع واعتباره مع أن الغالب من حال الشارع اعتبار المناسبات لا إلغاؤها. ولا يخفى أن التزام محذور عهد التزامه في الشرع غالباً وليس فيه التزام محذور آخر أولى من التزام محذور لم يعهد التزامه في الشرع غالباً وفيه التزام محذور آ خر. المسألة الثامنة عشرة يجب أن تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع عليه بالإبطال يجب أن لا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال وذلك كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء لما فيه من رفع وجوب الشاة وأن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف عليتها على اعتبارها به وأن لا تكون طرديةً محضةً كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه لما بيناه من أن العلة في الأصل لا تكون إلا بمعنى الباعث والوصف الطردي لا يكون باعثاً ولأن الحكم في الفرع إنما يثبت بما غلب على الظن أن الحكم في الأصل ثابت له وذلك غير متصور في الوصف الطردي وأن لا يكون لها في الأصل معارض لا تحقق له في الفرع لما يأتي تقريره وأن لا تكون مخالفة للنص الخاص أو للإجماع وهذا كله من الشروط المتفق عليها. وقد اشترط فيها أن لا تكون مخصصةً لعموم القرآن وقد أبطلناه فيما تقدم وأن لا تعارضها علةً أخرى تقتضي نقيض حكمها وإنما يصح ذلك أن لو كانت العلة المعارضة لها راجحةً عليها وممتنعة التخصيص وقد عرف ما في ذلك وأن لا تتضمن زيادة على النص وإنما يصح ذلك أن لو كانت الزيادة منافيةً لمقتضى النص وأن تكون منتزعةً من أصل مقطوع بحكمه وليس كذلك لما بيناه من جواز القياس على أصل حكمه ثابت بدليل مظنون وأن لا تكون مخالفةً لمذهب الصحابي وليس كذلك لجواز أن يكون مذهب الصحابي مستنداً إلى علة مستنبطة من أصل آخر إلا أن تكون علته مع ظهورها راجحة وأن يكون وجودها في الفرع مقطوعاً به وليس كذلك لأن وجودها أحد ما يتوقف عيه الحكم في الفرع فكان الظن كافياً فيه كما في وجودها في الأصل وفي كونها علةً وفي نفي المعارض عنها في الأصل والفرع وبالجملة فهذه الشروط في محل الاجتهاد. المسألة التاسعة عشرة اتفقوا على أن نصب الوصف سبباً وعلة من الشارع وأن دليله لا بد وأن يكون شرعياً وسواء كان كونه سبباً وعلةً وحكماً شرعياً أو لم يكن كما سبق وجه الكلام فيه وإنما اختلفوا في الدليل الدال على العلة الجامعة في القياس: فذهب بعض أصحابنا إلى أن شرطه أن لا يكون متناولاً لإثبات الحكم في الفرع وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الفواكه مطعوم فجرى فيه الربا قياسا على البر ثم دل على كون الطعم علة بقوله عليه السلام:" لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل "فإنه وإن كان دليلاً على كون الطعم علةً بالإيماء فهو دليل على تحريم الربا في الفواكه بعمومه.
وربما كان الدليل الدال على العلة متناولاً لحكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة الخارج من غير السبيلين خارج نجس فينفض الوضوء كالخارج من السبيلين. ثم دل على كون الخارج النجس علةً للنقض بقوله عليه السلام:" من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة "فإن القيء والرعاف والمذي من حيث هو خارج نجس مناسب لنقض الوضوء فترتيب الحكم عليه في كلام الشارع يدل على التعليل به كما يأتي في طرق إثبات العلة ولكنه مع ذلك متناول لإثبات حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل وإنما شرطوا امتناع ذلك مصيراً منهم إلى أنه إذا كان دليل العلة يستقل بالدلالة على الحكم المتنازع فيه فالاستدلال بالعلة على الحكم على وجه لا بد من إثباتها بدليل يستقل بإثبات الحكم المتنازع فيه يكون تطويلاً بلا فائدة فليعدل إليه أولاً. ولقائل أن يقول: الاستدلال بالعلة المثبتة بالنص المتناول لحكم الفرع وإن أفضى إلى التطويل فحاصله يرجع إلى مناقشة جدلية وليس ذلك مما يقدح في صحة القياس المذكور ولا يكون قادحاً في المقصود وقد ينقدح عنه جواب آخر في بعض الصور وهو عند ما إذا كان العام الدال على حكم الفرع قد خص في صورة وكان المستدل ممن يرى أن العام بعد التخصيص لا يبقى حجة إلا في أقل الجمع فله أن يقول: إنما لم أتمسك بعموم النص في إثبات حكم الفرع لعدم مساعدة الدليل على إدراج الفرع فيه وذلك لا يمنع من التمسك به في إثبات العلة ولو في صورة واحدة ومهما كان كذلك لزم إثبات الحكم بتلك العلة في أي صورة وجدت ولذلك وقع التمسك به في إثبات العلة دون الحكم. المسألة العشرون اختلف الشافعية والحنفية في حكم أصل القياس المنصوص عليه هل هو ثابت بالعلة أو النص؟ فقالت الشافعية إنه ثابت بالعلة وقالت الحنفية إنه ثابت بالنص محتجين على ذلك بأمور ثلاثة: الأول: أن الحكم في الأصل مقطوع به والعلة المستنبطة منه مظنونة والمقطوع به لا يكون ثابتاً بالمظنون. الثاني: أن العلة مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه وتابعة له في الوجود فلو كان الحكم ثابتا بها لكان الأصل ثابتاً بما لا ثبوت له دون ثبوته وهو دور. الثالث: أنه قد يثبت الحكم تعبداً من غير علة فلو كان ثابتا بالعلة لما ثبت مع عدمها. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة آئل إلى اختلاف في اللفظ وذلك أن قول أصحابنا بأن الحكم ثابت بالعلة لا يريدون به أن العلة معرفة له بالنسبة إلينا ضرورة أنها مستنبطة منه وأنها لا تعرف دون معرفته وإنما يريدون به أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنها التي لأجلها أثبت الشارع الحكم وأصحاب أبي حنيفة غير منكرين لذلك وحيث قالت الحنفية إن العلة غير مثبتةً للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست باعثةً وإنا أرادوا بذلك أنها غير معرفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا وأصحابنا غير منكرين لذلك فلا خلاف في المعنى بل في اللفظ. القسم الثالث في شروط الفرع وهي خمسة الشرط الأول أن يكون خالياً عن معارض راجح يقتضي نقيض ما اقتضته علة القياس على رأي القائلين بجواز تخصيص العلة ليكون القياس مفيداً. الشرط الثاني: أن تكون العلة الموجودة فيه مشاركةً لعلة الأصل إما في عينها كتعليل تحريم شرب النبيذ بالشدة المطربة المشتركة بينه وبين الخمر أو في جنسها كتعليل وجوب القصاص في الأطراف بجامع الجناية المشتركة بين القطع والقتل لأن القياس على ما تقدم إنما هو تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة علة الأصل. فإذا لم تكن علة الفرع مشاركةً لها في صفة عمومها ولا خصوصها فلم تكن علة الأصل في الفرع فلا يمكن تعدية حكم الأصل إلى الفرع. الشرط الثالث: أن يكون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه كوجوب القصاص في النفس المشترك بين المثقل والمحدد أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها قياساً على إثبات الولاية في مالها فإن المشترك بينهما إنما هو جنس الولاية لا عينها ولو لم يكن كذلك لكان القياس باطلاً. وذلك لأن شرع الأحكام لم يكن مطلوباً لذاته بل لما يفضي إليه من مقاصد العبد وسواء ظهر المقصود أم لم يظهر. فإذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا أن ما يحصل به من المقصود مثل ما يحصل من حكم الأصل ضرورة اتحاد الوسيلة فيجب إثباته. وأما إذا كان حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل مع أنه الوسيلة إلى تحصيل المقصود فإفضاؤه إلى الحكمة المطلوبة يجب أن يكون مخالفاً لإفضاء حكم الأصل إليها والمخالفة بينهما من الإفضاء إما أن تكون بزيادة في إفضاء حكم الأصل إليها أو في إفضاء حكم الفرع: فإن كان الأول: فلا يلزم من شرع الحكم في الأصل رعايةً لأصل المقصود وزيادة الإفضاء إليه شرع حكم الفرع تحصيلاً لأصل المقصود دون زيادة الإفضاء إليه لأن زيادة الإفضاء إلى المقصود مقصودة في نظر العقلاء وأهل العرف. وإن كان الثاني: فهو ممتنع لأنا أجمعنا على امتناع ثبوت مثل حكم الفرع في الأصل. وعند ذلك فتنصيص الشارع على حكم الأصل دون حكم الفرع يدل على أن حكم الأصل أفضى إلى المقصود من حكم الفرع وإلا فلو كان حكم الفرع أفضى إلى المقصود من حكم الأصل لكان أولى بالتنصيص عليه فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور الاختلاف في الأحكام الشرعية وليس كذلك وذلك لأن حكم الله هو كلامه وخطابه وذلك مما لا اختلاف فيه وإنما الاختلاف في تعلقاته ومتعلقاته. وحكم الشارع بالوجوب لا يخالف حكمه بالتحريم من حيث هو حكم الله وكلامه وإن وقع الاختلاف في أمر خارج كالذم على الفعل والذم على الترك بسبب اختلاف محل الخطاب ولا يخفى أن اختلاف محل الخطاب غير موجب لاختلاف الحكم في نفسه بدليل اشتراك الصوم والصلاة في حكم الوجوب والقتل والزنى في التحريم. وإن سلمنا تصور الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ولكن ما المانع أن يكون إفضاء حكم الفرع إلى المقصود أتم من إفضاء حكم الأصل إليه. قولكم: لو كان كذلك لكان التنصيص عليه في الأصل أولى إنما يلزم أن لو لم تكن فائدة التنصيص على حكم الأصل لقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى وبتقدير أن لا يكون ذلك مقصوداً للشارع فإنما لم ينص عليه لاحتمال أن يكون ذلك لمانع مختص به لا وجود له في حكم الأصل. والجواب عن السؤل الأول: أنه ليس حكم الشارع عبارةً عن مطلق كلامه وخطابه ليصح ما قيل بل الخطاب المقيد بتعلق خاص كما بيناه في حد الحكم وإذا كان التعلق داخلاً في مفهوم الحكم فالتعلقات مختلفة ويلزم من اختلافها اختلاف الأحكام. وعن الثاني: أنه لو كانت فائدة تخصيص حكم الأصل بالتنصيص عليه التنبيه به على حكم الفرع لكان حكم الفرع ثابتاً بمفهوم الموافقة لا بالقياس ولجاز إثباته في الأصل وهو ممتنع. قولهم: إنما لم ينص عليه لاحتمال اختصاصه بمانع. قلنا: المانع إما أن يكون من لوازم صورة الأصل أو من لوازم مثل حكم الفرع أو من لوازم اجتماع الأمرين: فإن كان الأول فيلزم منه امتناع إثبات حكم الأصل في الأصل بطريق الأولى ضرورة كون مقصوده أدنى من مقصود حكم الفرع على ما وقع به الفرض. وإن كان الثاني فيلزم منه امتناع ثبوته في الفرع أيضاً ضرورة أن ما هو المانع من إثباته في الأصل من لوازم نفس ذلك الحكم وإن كان الثالث فالأصل عدمه. الشرط الرابع: أن لا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه وإلا ففيه قياس المنصوص على المنصوص وليس أحدهما بالقياس على الآخر أولى من العكس وهذا مما لا نعرف خلافاً بين الأصوليين في اشتراطه. الشرط الخامس أن لا يكون حكم الفرع متقدماً على حكم الأصل وذلك كما لو قاس الشافعي الوضوء على التيمم في الافتقار إلى النية لأنه يلزم منه أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً قبل كون العلة الجامعة في قياسه علة ضرورة كونها مستنبطةً من حكم متأخر عنه اللهم إلا أن يذكر ذلك بطريق الإلزام للخصم لا بطريق مأخذ القياس. وقد شرط قوم أن يكون الحكم في الفرع ثابتاً بالنص جملة لا تفصيلاً وهو باطل فإن الصحابة قاسوا قوله: أنت علي حرام على الطلاق واليمين والظهار ولم يوجد في الفرع نص لا جملة ولا تفصيلاً. الباب الثاني في مسالك إثبات العلة الجامعة في القياس المسلك الأول: الإجماع وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علةً لحكم الأصل إما قطعاً أو ظناً فإنه كاف في المقصود وذلك كإجماعهم على كون الصغر علةً لثبوت الولاية على الصغير في قياس ولاية النكاح على ولاية المال. فإن قيل: فإذا كانت العلة مجمعاً عليها قطعاً فكيف يسوغ الخلاف معها في مسائل الاجتهاد؟ قلنا بأن يكون وجودها ظنياً في الأصل أو الفرع وأما إن كان وجودها فيهما مع كونها مقطوعاً بعليتهما فلا. المسلك الثاني: النص الصريح وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال وهو قسمان: الأول: ما صرح فيه بكون الوصف علةً أو سبباً للحكم الفلاني وذلك كما لو قال: العلة كذا أو السبب كذا. القسم الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل كاللام والكاف ومن وإن والباء. أما اللام فكقوله تعالى:" أقم الصلاة لدلوك الشمس " الإسراء 78 أي زوال الشمس. وكقوله تعالى:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات 56 وكقوله عليه السلام:" كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة "أي القوافل السيارة وذلك يدل على التعليل بالوصف الذي دخلت عليه اللام لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل. وأما الكاف فكقوله تعالى:" كيلا يكون دولة بين الأغنياء " الحشر 7 أي كي لا تبقى الدولة بين الأغنياء بل تنتقل إلى غيرهم. وأما من فكقوله تعالى:" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " المائدة 32 وأما إن فكقوله عليه السلام في قتلى أحد زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك وكقوله عليه السلام في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً. وأما الباء فكقوله تعالى:" جزاء بما كانوا يعملون ". فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل فتكون مجازاً فيما قصد بها وذلك في اللام كما لو قيل: لم فعلت كذا؟ فقال: لأني قصدت أن أفعل وكما في قول القائل: أصلي لله وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب فقصد الفعل لا يصلح أن تكون علة للفعل وغرضاً له. وكذلك ذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علةً للصلاة ولا الموت علةً للولادة ولا الخراب علةً للبناء بل علة الفعل ما يكون باعثاً على الفعل وهي الأشياء التي تصلح أن تكون بواعث. وكما في قوله تعالى:" يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " الحشر 2 " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " الأنفال 13 وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فليست المشاقة علة لخراب البيت اللهم إلا أن يحمل لفظ الخراب على استحقاق الخراب أو على استحقاق العذاب فإنه يكون معللاً بالمشاقة. المسلك الثالث: ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء. وذلك بأن يكون التعليل لازماً من مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل وهو ستة أقسام. الأول ترتيب الحكم على الموصف بفاء التعقيب والتسبيب في كلام الله أو رسوله أو الراوي عن الرسول. أما في كلام الله تعالى فكما في قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة 38 " واذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " المائدة 6. وأما في كلام رسوله فكقوله عليه السلام "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له "وقوله" ملكت نفسك فاختاري ". وأما في كلام الراوي فكما في قوله: سها رسول الله ﷺ في الصلاة فسجد وزنى ماعز فرجمه رسول الله ﷺ وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علةً للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرةً في التعقيب. ولهذا فإنه لو قيل جاء زيد فعمرو فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلة ويلزم من ذلك السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحكم عقيبه وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً لأن الفاء في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه. غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه وهذه الرتب متفاوتة فأعلاها ما ورد في كلام الله تعالى ثم ما ورد في كلام رسوله ثم ما ورد في كلام الراوي وسواء كان فقهياً أو لم يكن لكنه إن كان فقيهاً كان الظن بقوله أظهر وإذا لم يكن فقيهاً وإن كان في أدنى الرتب غير أنه مغلب على الظن لأنه إذا قال سها رسول الله ﷺ فسجد فالظاهر من حاله مع كونه متديناً عالماً بكون الفاء موضوعةً للتعقيب أنه لو لم يفهم أن السهو سبب للسجود وإلا لما رتب السجود على السهو بالفاء لما فيه من التلبيس بنقل ما يفهم منه السببية ولا يكون سبباً بل ولما كان تعليقه للسجود بالسهو أولى من غيره. القسم الثاني ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي عليه السلام فحكم عقيبها بحكم فإنه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم. وذلك كما روي أن أعرابياً جاء إلى النبي ﷺ فقال له: هلكت وأهلكت فقال له النبي ﷺ: ماذا صنعت؟ فقال واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً فقال له عليه السلام: اعتق رقبة فإنه يدل على كون الوقاع علةً للعتق. وذلك لأنا نعلم أن الأعرابي إنما سأل النبي ﷺ عن واقعته لبيان حكمها شرعاً وأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له لا أنه ذكره ابتداء منه لما فيه من إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة وكل ذلك وإن كان ممكناً إلا أنه على خلاف الظاهر. وإذا كان ذلك جواباً عن سؤاله فالسؤال الذي عنه الجواب يكون ذكره مقدراً في الجواب في كلام المجيب فيصير كأنه قال: واقعت فكفر وقد عرف أن الوصف إذا رتب الحكم عليه في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقاً فإنه يكون علة فكذلك إذا كان الحكم مرتبا عليه بفاء التعقيب تقديراً. ولهذا كان هذا القسم ملحقاً بالقسم الذي قبله وإن كان دونه في الظهور والدلالة لكون الفاء فيه مقدرةً وفي الأول محققةً ولاحتمال أن يكون قد بدأ به لا عن قصد الجواب وذلك كما لو قال العبد لسيده: قد طلعت الشمس أو غربت. فقال له: اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤاله ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء وعدول عن السؤال بالكلية إما لذهوله عن السؤال أو لعدم الالتفات اليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان منقدحاً هاهنا فهو بعيد في حق النبي عليه السلام فيما فرض السؤال عنه إذ الغالب عدم الذهول وأنه إنما قصد الجواب حتى لا يكون مؤخراً للبيان عن وقت الحاجة مع كونه خلاف الظاهر. القسم الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة ومنصب الشارع مما ينزه عنه وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكوراً مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله. فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيداً ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعاً نفياً لما لا يليق بكلامه عنه. وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه لكونه عارفاً بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه واذا كان ذلك هو الظاهر من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى. وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له. وهذا القسم على أصناف وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال. فإن كان من غير سؤال فهو الصنف الأول وذلك كما في حديث ابن مسعود ليلة الجن حيث توضأ عليه السلام بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتناب ملوحته فقال: ثمرة طيبة وماء طهور فإنه يدل على جواز الوضوء به وإلا كان ذكره ضائعاً لكون ما ذكر ظاهراً غير محتاج إلى بيان.
وان كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره: فإن كان في محل السؤال فهو الصنف الثاني وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي ﷺ:" أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم فقال: فلا إذا " فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف إذا وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظراً إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد. وإن كان في غير محل السؤال وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال فهو الصنف الثالث وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ فقالت: نعم قال: فدين الله أحق بالقضاء. فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي عليه السلام ذكر دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي فذكره لنظير المسؤول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثاً. ويلزم من كون نظير الواقعة علةً للحكم المرتب عليها أن يكون المسؤول عنه أيضاً علةً لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسؤول عنه بواسطة العلة المومي إليها. وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين وذلك كما روي عن عمر أنه سأل النبي عليه السلام عن قبلة الصائم: هل تفسد الصوم؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم؟ فقال: لا وذلك لأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدةً للصوم لكونها مقدمةً للوقاع المفسد للصوم فنقض النبي عليه السلام ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدةً للصوم أما أن يكون ذلك تنبيهاً على تعليل عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمةً للفساد فلا. وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمةً لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعاً من الإفطار بل غايته أن لا يكون مفطراً فكان الأشبه بما ذكره النبي عليه السلام أن يكون نقضاً لا تعليلاً. وأيضاً فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه أما الزيادة فلعدم تعلق الغرض بها وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل. وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدةً للصوم أم لا؟ فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسؤول عنه فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جواباً مطابقاً للسؤال بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة فكان جواباً مطابقاً للسؤال. القسم الرابع: أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفة فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة هي علة التفرقة في الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علةً لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان منصب الشارع عنه. وذلك منقسم إلى ما يكون حكم أحد الأمرين مذكوراً في ذلك الخطاب دون ذكر الآخر وإلى ما لا يكون مذكوراً فيه: الأول: كما في قوله عليه السلام القاتل لا يرث فإنه خصص القاتل بعدم الميراث بعد سابقة إرث من يرث. والثاني: فمنه ما تكون التفرقة فيه بلفظ الشرط والجزاء كقوله:" لا تبيعوا البر بالبر "إلى قوله:" فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد "ومنه ما يكون بالغاية كقوله تعالى:" ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة 222 ومنه ما يكون بالاستثناء كقوله تعالى:" فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون " البقرة 237 ومنه ما يكون بلفظ الاستدراك كقوله تعالى:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " المائدة 89 ومنه أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر كقوله عليه السلام " للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم " القسم الخامس: أن يكون الشارع قد أنشأ الكلام لبيان مقصود وتحقيق مطلوب ثم يذكر في أثنائه شيئاً آخر لو لم يقدر كونه علة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام لا بأوله ولا بآخره فإنه يعد خبطاً في اللغة واضطراباً في الكلام وذلك مما تبعد نسبته إلى الشارع وذلك كقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع "الجمعة 9 فالآية إنما سيقت لبيان أحكام الجمعة لا لبيان أحكام البيع. فلو لم يعتقد كون النهي عن البيع علة للمنع عن السعي الواجب إلى الجمعة لما كان مرتبطاً بأحكام الجمعة وما سيق له الكلام ولا تعلق به وذلك ممتنع لما سبق وقوله تعالى:" وذروا البيع " وإن كانت صيغته صيغة أمر إلا أنه في معنى النهي إذا النهي طلب ترك الفعل وقوله تعالى:" وذروا البيع " طلب لترك البيع فكان نهياً. القسم السادس: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً كقوله عليه السلام:" لا يقضي القاضي وهو غضبان "فإنه يشعر بكون الغضب علةً مانعةً من القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال وكذلك اذا قال: أكرم العالم وأهن الجاهل فإنه يسبق إلى الفهم منه أن العلم علة للإكرام والجهل علة للإهانة وذلك لوجهين. الأول: ما ألف من عادة الشارع من اعتبار المناسبات دون إلغائها فإذا قرن بالحكم في لفظه وصفا مناسباً غلب على الظن اعتباره له. الثاني: ما علمنا من حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خلياً عن الحكمة إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام فإذا ذكر مع الحكم وصفاً مناسباً غلب على الظن أنه علة له إلا أن يدل الدليل على أنه لم يرد به ما هو الظاهر منه فيجوز تركه. وذلك كما في قوله لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه وإن دل بظاهره على أن مطلق الغضب علة فجواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضب ليس بعلة بل الغضب المانع من استيفاء النظر وإذا عرفت أقسام الوصف المومي إليه ترتب عليه النظر في مسألتين. المسألة الاولى اختلف الأصوليون في اشتراط مناسبة الوصف المومي إليه: فأثبته قوم ونفاه آخرون كالغزالي وأتباعه. حجة من قال باشتراط المناسبة أن الغالب من تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء وأهل العرف ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره أكرم الجاهل وأهن العالم قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجاهل لجهلة ولا أن أمره بإهانة العلم لعلمه وإن ذلك لا يصلح للتعليل نظرا إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل. وأيضاً فإن الاتفاق من الفقهاء واقع على امتناع خلو الاحكام الشرعية عن الحكم إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر. وما يعلم قطعاً أنه لا مناسبة فيه ولا وهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به. والمختار أن تقول أما ما كان من القسم السادس الذي فهم التعليل فيه مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضاً. وأما ما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه إلا أن تكون العلة بمعنى الباعث وأما بمعنى الأمارة والعلامة فلا. وعلى هذا فما ذكروه من الحجة على امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح إن لو قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث ولا اتجاه لها في التعليل بمعنى الأمارة والعلامة. وعلى هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامةً على الإكرام والعلم علامةً على الإهانة إذا لم يكن هو الباعث بل الباعث غيره. المسألة الثانية اتفقوا على صحة الإيماء فيما إذا كان حكم الوصف المومي إليه مدلولاً عليه بصريح اللفظ. كالأمثلة السابق ذكرها وأما إذا كان اللفظ يدل على الوصف بصريحه والحكم مستنبط منه غير مصرح به كما في قوله تعالى:" وأحل الله البيع وحرم الربا " فإن اللفظ بصريحة يدل على الحل والصحة مستنبطة منه.
ووجه استنباط الصحة منه أنه لو لم يكن البيع صحيحاً لم يكن مثمراً إذ هو معنى نفي الصحة وإذا لم يكن مثمراً مفيداً كان تعاطيه عبثاً والعبث مكروه والمكروه لا يحل وعند ذلك فيلزم من الحل الصحة لتعذر الحل مع انتفاء الصحة. وهذا مما اختلف في كونه مومى إليه: فذهب قوم إلى امتناع الإيماء تمسكاً منهم بأن الإيماء إنما يتحقق إذا دل اللفظ بوضعه على الوصف والحكم كما سبق من الأمثلة وأما اذا دل على الوصف بالوضع وكان الحكم مستنبطاً منه فلا يدل ذلك على كونه مومي إليه كما إذا دل اللفظ على الحكم بوضعه وكان الوصف مستنبطاً منه فإنه لا يدل على الإيماء إلى الوصف وذلك كما في قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها فإنه يدل على الحكم وهو التحريم وضعاً والشدة المطربة علة مستنبطة منه وليست مومي إليها. وذهب المحققون إلى كونه مومي إليه وهو الحق وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف وهو الحل والصحة لازمة له لما تقرر فإثبات الحل وضعاً يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمةً للحل فيكون ثابتاً بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترناً بذكر وصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً ضرورة تساويهما في الثبوت وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتاً بدلالة اللفظ وضعاً والآخر مستنبطاً من مدلول اللفظ وضعا لأن الإيماء إنما كان مستفاداً عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتاً بطريق الوضع. وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم مدلولا عليه وضعا والوصف مستنبط منه وذلك لأن الوصف المستنبط من الحكم المصرح به كما في المثال المذكور لم يكن وجوده لازماً من الحكم المصرح به ولا مناسبته لتحققه قبل شرع الحكم بخلاف الصحة مع الحل كما تقدم تحقيقه. والمعتبر في الإيماء أن يكون الوصف المومي إليه مذكوراً في كلام الشارع مع الحكم أو لازما من مدلول كلامه والأمران مفقودان في الوصف المستبط بخلاف الحل مع الصحة. المسلك الرابع: في إثبات العلة بالسير والتقسيم وذلك أن يقال: الحكم الثابت في الأصل إما أن يكون ثابتاً لعلة أو لا لعلة: لا جائز أن يقال بالثاني إذا هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو عن علة إما بجهة الوجوب كما قالت المعتزلة أو لا بجهة الوجوب كقول أصحابنا وبتقدير جواز خلوه عن العلة فالخلو عنها على خلاف الغالب المألوف من شرع الأحكام وذلك يدل ظاهراً على استلزام الحكم فيما نحن فيه للعلة وإذا كان لا بد له من علة فإما بأن تكون ظاهرةً أو غير ظاهرة: لا جائز أن تكون غير ظاهرة وإلا كان الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لوجوه ثلاثة: الأول: أن إثبات الحكم بجهة التعقل أغلب من إثباته بجهة التعبد وإدراج ما نحن فيه تحت الغالب أغلب على الظن. الثاني: أنه إذا كان الحكم معقول المعنى كان على وفق المألوف من تصرفات العقلاء وأهل العرف والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وزان التصرفات العرفية. الثالث: أنه إذا كان معقول المعنى كان أقرب إلى الانقياد وأسرع في القبول فكان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم فكان أولى وإذا كان لا بد من علة ظاهرة. فإذا قال المناظر: الموجود في محل الحكم لا يخرج عن وصفين أو ثلاثة مثلاً لأني بحثت وسبرت فلم أطلع على ما سواه وكان أهلاً للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلاً ثقة فيما يقول. والغالب من حاله الصدق غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور من الأوصاف أو قال الأصل عدم كل موجود سوى ما وجد من الأوصاف المذكورة إلا أن يدل الدليل عليه والأصل عدم ذلك الدليل فإنه يغلب على الظن الحصر فيما عينه. وإذا ثبت حصر الأوصاف فيما عينه فإذا بين بعد ذلك حذف البعض عن درجة الاعتبار في التعليل بدليل صالح مساعد له عليه بحيث يغلب على الظن ذلك فيلزم من مجموع الأمرين انحصار التعليل فيما استبقاه. ضرورة امتناع خلو محل الحكم عن علة ظاهرة وامتناع وجود ما وراء الأوصاف المذكورة وامتناع إدراج المحذوف في التعليل لما دل عليه الدليل. فإن قيل لعله لم يبحث ولم يسبر وإن بحث وسبر فلعله وجد وصفاً وراء ما أدعى الحصر فيه ولم يذكره ترويجاً لكلامه وإن لم يجد شيئاً وراء المذكور فلا يدل ذلك على عدمه فإن عدم العلم بالوصف جهل به والجهل بوجود الوصف لا يدل على عدمه وإن دل على عدمه بالنسبة إلى الباحث فلا يدل على عدمه بالنسبة إلى الخصم فإنه ربما كان عالماً بوجود وصف آخر وراء المذكور. وعند ذلك فلا ينتهض بحث المستدل دليلاً في نظر خصمه على العدم لعلمه بمناقضته ثم وإن دل ذلك على حصر الأوصاف فيما ذكره فحذف بعض الأوصاف عن درجة الاعتبار في التعليل إنما يلزم منه انحصار التعليل في المستبقي أن لو كان الحكم في محل التعليل معقول المعنى. وإما على تقدير كونه غير معقول المعنى فلا لأنه جاز أن يشترك المحذوف والمستبقي في انتفاء الاعتبار وإن كان الحكم معقول المعنى فغاية ما في حذف الوصف المحذوف إبطال معارض العلة ولا يلزم من ذلك صحة كون المستبقي علةً لأن صحة العلة إنما تكون بالنظر إلى وجود مصححها لا بالنظر إلى انتفاء معارضها. قلنا إذا كان الباحث مسلماً عدلاً فالظاهر أنه صادق فيما أخبر به من البحث وعدم الاطلاع على وصف آخر وعند ذلك فالقضاء بنفي الوصف لا يكون مستنداً إلى عدم العلم به بل بناء على الظن بعدمه فإن الظن بعدم الشيء ملازم للبحث عن ذلك الشيء ممن هو أهله مع عدم الاطلاع عليه. وعند ذلك فالظاهر أنه لو كان الخصم يعلم وجود وصف آخر لأبرزه وأظهره إفحاماً لخصمه وإظهاراً لعلم مست الحاجة إلى اظهاره فدعوى العلم منه بوجود وصف آخر من غير بيان مع إمكان البيان لا يكون مقبولاً لظهور العناد فيه ولو بين الخصم وجود وصف آخر فإنا وإن تبيناً انخرام حصر المستدل به. غير أنه إذا أدرجه في الإبطال معما أبطل فإنه لا يعد منقطعاً فيما يقصده من التعليل بالوصف المستبقي واذا ثبت انحصار الأوصاف في القدر المذكور فلا يخفى أنه إذا أخرج البعض عن درجة الاعتبار تعين انحصار التعليل في المستبقي فإنه وإن جاز أن يكون الحكم تعبداً غير أنه بعيد لما سبق تقريره. وليس القضاء بكون المستبقي علةً بناء على إبطال المعارض بل على أن الحكم في محل التعليل لا بد له من علة ظاهراً. وعند ذلك يغلب على الظن انحصارها في الأوصاف المذكورة فإذا قام الدليل على إبطال البعض غلب على الظن التعليل بالمستبقي ويكون ذلك الظن مستفاداً من جملة القواعد الممهدة لا من نفس إبطال المعارض. هذا كله في حق المناظر. وأما الناظر المجتهد فإنه مهما غلب على ظنه شيء من ذلك فلا يكابر نفسه وكان مؤاخذاً بما أوجبه ظنه وعند ذلك فلا بد من بيان طرق الحذف. الأول: منها أن يبين المستدل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف وهو ملقب بالإلغاء وهو شديد الشبه بالعكس الذي ليس بمقبول وسيأتي الفرق بينهما. ولا بد من بيان ثبوت الحكم مع الوصف المستبقي فإنه لو ثبت دونه كما ثبت المحذوف كان ذلك إلغاء للمستبقي أيضاً وعند ذلك فيتبين استقلال المستبقي بالتعليل ومع ظهور ذلك فيمتنع إدخال الوصف المحذوف في التعليل في محل التعليل. لأنه يلزم منه إلغاء وصف المستدل في الفرع مع استقلاله ضرورة تخلف ما لم يثبت كونه مستقلاً وهو ممتنع ويمتنع أيضاً إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف المحذوف لا غير لما فيه من إثبات الحكم بما لم يثبت استقلاله وإلغاء ما ثبت استقلاله وهو ممتنع. لكن لقائل أن يقول: دعوى استقلال الوصف المستبقي في صورة الإلغاء بالتعليل من مجرد إثبات الحكم مع وجوده وانتفاء الوصف المحذوف غير صحيحة فإنه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الإلغاء كافياً في التعليل بدون ضميمة ما يدل على استقلالة بطريق من طرق إثبات العلة لكان ذلك كافياً في أصل القياس ولم يكن إلى البحث والسبر حاجة.
وكذا غيره من الطرق فإذا لا بد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة وعند ذلك إن شرع المستدل في بيان الاستقلال ببعض طرق إثبات العلة فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن تكون أصلاً لعلته وتبيناً أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار يكون تطويلاً بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال في إثبات كون الوصف علةً من طريق إلى طريق آخر وهو شنيع في مقام النظر. الطريق الثاني: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه. الطريق الثالث: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل فيجب إلغاؤه وإن كان مناسباً وذلك كما في قوله عليه السلام:" من أعتق شركاً له من عبد قوم عليه نصيب شريكه "فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام. الطريق الرابع: إذا قال بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد فيه مناسبة ولا ما يوهم المناسبة وكان أهلاً للنظر والبحث عدلاً فالظاهر صدقه وأن الوصف غير مناسب ويلزم من ذلك حذفه ضرورة كون العلة في الأصل بمعنى الباعث على ما تقرر قبل وامتناع اعتبار ما لا يكون مناسباً. فإن قيل: البحث والسبر وإن دل على عدم المناسبة في الوصف المحذوف فللمعترض أن يقول: بحثت في الوصف المستبقي فلم أجد فيه مناسبةً وعند ذلك فإن بين المستدل المناسبة فيه فقد انتقل في إثبات العلة من طريقة السبر إلى المناسبة وإن لم يبين ذلك لم يكن وصف المعترض بالحذف أولى من وصف المستدل. قلنا: إن كان قد سبق من المعترض تسليم مناسبة كل واحد من الوصفين فلا يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف منع المناسبة في المستبقي لكون مانعاً لما سلمه ولا يجب على المستدل بيان المناسبة في الوصف المستبقي. وإن لم يسبق من المعترض تسليم ذلك فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض بموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات. المسلك الخامس في إثبات العلة المناسبة والإحالة ويشتمل على ثمانية فصول. الفصل الأول في تحقيق معنى المناسب قال أبو زيد: المناسب عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول. وما ذكره وإن كان موافقاً للوضع اللغوي حيث يقال هذا الشيء مناسب لهذا الشيء أي ملائم له غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه فلا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقام النظر لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فلا يكون مناسباً بالنسبة الي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول. فإنه ليس الاحتجاج علي بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي له بالقبول وعلى هذا بني أبو زيد امتناع التمسك في إثبات العلة في مقام النظر بالمناسبة وقران الحكم بها وإن لم يمتنع التمسك بذلك في حق الناظر لأنه لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله. والحق في ذلك أن يقال: المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم وسواء كان ذلك الحكم نفيا أو إثباتا وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة وهو أيضاً غير خارج عن وضع اللغة لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط. وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصح لغةً أن يقال إنه مناسب له ولا يخفى إمكان إثبات مثل ذلك في مقام النظر على الخصم بما لو أعرض عنه الخصم وأصر معه على المنع كان معانداً. الفصل الثاني في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم
المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالى الرب تعالى عن الضرر والانتفاع وربما كان ذلك مقصوداً للعبد لأنه ملائم له وموافق لنفسه. ولذلك إذا خير العاقل بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده على عدمه وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة: فإن كان في الدنيا فشرع الحكم إما أن يكون مفضياً إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دواماً أو تكميلاً. فالأول: مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلاً لأصل المقصود المتعلق به من الملك أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوهما. وأما الثاني: فكالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على من قتل عمداً عدواناً لإفضائه إلى دوام المصلحة المعلقة بالنفس الإنسانية المعصومة. وأما الثالث: فكالحكم باشتراط الشهادة ومهر المثل في النكاح فإن مكمل لمصلحة النكاح لا أنه محصل لأصلها لحصولها بنفس اعتبار التصرف وصحته. وأما في الاخرى فالمقصود العائد إليها من شرع الحكم لا يخرج عن جلب الثواب ودفع العقاب. فالأول: كالحكم بإيجاب الطاعات وأفعال العبادات لإفضائه إلى نيل الثواب ورفع الدرجات. والثاني: فكالحكم بتحريم أفعال المعاصي وشرع الزواجر عليها دفعا لمحذور العقاب المرتب عليها. الفصل الثالث في بيان مراتب إفضاء الحكم إلى المقصودمن شرع الحكم واختلافها المقصود إما أن يكون حاصلا من شرع الحكم يقينا أو ظنا أو أن الحصول وعدمه متساويان أو أن عدم الحصول راجح على الحصول. أما الأول: فمثاله إفضاء الحكم بصحة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك. وأما الثاني: فكشرع القصاص المرتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس المعصومة عن الفوات فإنه مظنون الحصول راجح الوقوع إذ الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أنه لا يقدم على القتل فتبقى نفس المجني عليه إلى نظائره من الزواجر وليس ذلك مقطوعاً به لتحقق الإقدام على القتل مع شرع القصاص كثيراً. وأما القسم الثالث: فقلما يتفق له في الشرع مثال على التحقيق بل على طريق التقريب وذلك كشرع الحد على شرب الخمر لحفظ العقل فإن إفضاءه إلى ذلك متردد حيث إنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومةً لكثرة المقدمين عليه لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة. ومثال القسم الرابع: إفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد والتناسل فإنه وإن كان ممكناً عقلاً غير أنه بعيد عادة فكان الإفضاء إليه مرجوحاً. فهذه الأقسام الأربعة وإن كانت مناسبةً نظراً إلى أنها موافقة للنفس غير أن أعلاها القسم الأول لتيقنه ويليه الثاني لكونه مظنوناً راجحاً ويليه الثالث لتردده ويليه الرابع لكونه مرجوحاً. والقسمان الأولان متفق على صحة التعليل بهما عند القائلين بالمناسبة وأما القسم الثالث والرابع: فلكون المقصود فيهما غير ظاهر للمساواة في الثالث والمرجوحية في الرابع فالاتفاق واقع على صحة التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة وكان المقصود ظاهراً من الوصف في غالب صور الجنس وإلا فلا. وذلك كما ذكرناه من مثال صحة نكاح الآيسة لمقصود التوالد فإنه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة إلا انه ظاهر فيما عداها. وعلى هذا فلو خلا الوصف الذي رتب عليه الحكم عن المقصود الموافق للنفس قطعاً وإن كان ظاهراً في غالب صور الجنس كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية وشرع الاستبراء في شراء الجارية لمعرفة فراغ الرحم فيما إذا اشترى الجارية ممن باعها منه في مجلس البيع الأول لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعاً وإن كان ذلك ظاهراً في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصور فلا يكون مناسباً ولا يصح التعليل به لأن المقصود من شرع الأحكام الحكم فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقيناً لا يكون مفيداً فلا يرد به الشرع خلافا لأصحاب أبي حنيفة. الفصل الرابع في أقسام المقصود من شرع الحكم واختلاف مراتبه في نفسه وذاته وهو لا يخلو إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو لا يكون من قبيل المقاصد الضرورية. فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلاً أو لا يكون أصلاً. فإن كان أصلاً فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع العلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة. أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع وأما حفظ النفوس فبشرع القصاص وأما حفظ العقول فبشرع الحد على شرب المسكر وأما حفظ الأموال التي بها معاش الخلق فبشرع الزواجر للغصاب والسراق. وأما إن لم يكن أصلاً فهو التابع المكمل للمقصود الضروري وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير وإن لم يكن مسكراً فإن أصل المقصود من حفظ العقل حاصل بتحريم شرب المسكر لا بتحريم قليله وإنما يحرم القليل للتكميل والتتميم. وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه أو لا تدعو إليه الحاجة. فإن كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة فإما أن يكون أصلا أو لا يكون أصلاً. فإن كان أصلاً فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لا لضرورة ألجأت إليه بل لحاجة تقييد الكفوء الراغب خيفة فواته عند دعو الحاجة إليه بعد البلوغ لا إلى خلف. وأما تسليط الولي على تربية الصغير وإرضاعه وشرآء المطعوم والملبوس له فليس من هذا القبيل بل من قبيل الضروريات الأصلية التي لا تخلو شريعة عن رعايتها وهذا القسم في الرتبة دون القسم الأول ولهذا جاز اختلاف الشرائع فيه دون القسم الأول وهو في محل المعارضة مع ما كان من قبيل التكملة والتتمة للقسم الأول ولهذا اشتركا في جواز اختلاف الشرائع فيهما. وإن لم يكن أصلاً فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن كان أصل المقصود حاصلاً دون ذلك. وهذ النوع في الرتبة دون ما تقدم أما بالنظر إلى المقصود الذي هو من باب الضرورات والحاجات فظاهر وأما بالنظر إلى ما هو من قبيل التكملة للمقصود الضروري فلكونه مكملا لما ليس بضروري. وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة من حيث إن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخراً للمالك مشغولاً بخدمته فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها جرياً للناس على ما ألفوه وعدوه من محاسن العادات وإن كان لا تتعلق به حاجة ضرورية ولا زائدة ولا هو من قبيل التكملة لأحدهما وليس هذا من قبيل سلب ولايته على الطفل فإن سلب ولايته من قبيل الحاجات لأن الولاية على الطفل تستدعي الخلو والفراغ والنظر في أحواله واستغراق العبد بما هو الواجب عليه من خدمة مالكه مانع له من ذلك ولا كذلك في الشهادة لاتفاقهما في بعض الأحيان. الفصل الخامس اختلفوا في الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي على وجه يلزم منه وجود مفسدة مساوية له أو راجحة عليه هل تنخرم مناسبته أو لا؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون. وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة. الأول: أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا تختل بمعارضة المفسدة ودليله أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى. فإن كان الأول فإما أن تبطل كل إحداة منهما بالأخرى أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى الأول محال لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققةً مع المعلول والثاني محال لعدم الأولوية. والثالث هو المطلوب وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضةً بالمرجوحة فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ولأنه ليس انتفاء بعض الراحج وبقاء بعضه أولى من العكس ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا فالكلام في الراجح كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع. وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض ولهذا يحسن من العاقل أن يقول الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة. الوجه الثاني: أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجراً له ولأمثاله عن الحبس المضر به والإحسان إليه وإكرامه إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره. وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجاً عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحاً. الثالث: أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة. ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبراً في مناسبته لما كان كذلك. الرابع: أن الشارع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظراً إلى ما فيها من المصلحة وبتحريمها نظراً إلى ما فيها من مفسدة الغصب فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة. وهذه الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول: إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة. وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة. ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيهاً خارجاً في تصرفه عن تصرفات العقلاء ولو كان ذلك مناسباً لما كان كذلك وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة. وقول القائل إن الداعي موجود فالمراد به المصلحة دون المناسبة. وقوله: غير أنه يمنعني منه مانع وإن كان صحيحاً في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة مع وجود المناسب للحكم. وعلى هذا نقول بأن مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل. وأما الحجة الثانية فلقائل أن يقول أيضاً: مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة فإن فعله لا يكون مناسباً ويكون بتصرفه خارجاً عن تصرفات العقلاء. وأما الحجة الثالثة فلقائل أن يقول: لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعاً لجواز أن يكون في نفسه مرجوحاً وإن لم يطلع عليه.
وأما الحجة الرابعة: فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلاً للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها وهو صحة الصلاة فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغضب لا تختل بل هي باقية بحالها ولو كانت لازمةً من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة وليس كذلك. وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغضب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها وهي المصلحة والمفسدة إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر. وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل وحاصله أن يقول المعلل لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل سوى ما ذكرته لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبداً وهو خلاف الأصل لوجهين. الأول: أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد فإدراج ما نحن فيه تحته أولى. الثاني: أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم. لكن لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر تمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحةً على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به وليس أحد البحثين أولى من الآخر. فإن قلتم: بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد وبحثكم إنما هو عما به الترجيح وهو منحصر في محل الحكم فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره فكان ما ذكرناه أولى. قلنا: ما به الترجيح إن كان خارجاً عن محل الحكم فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض. غير أن الظن الحاصل من البحثين إما أن يكون متساوياً أو متفاوتاً: وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض فلا ترجيح في جانب المستدل وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحاً. ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد وينبغي أن يعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة. وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت المصلحة مرجوحةً أو مساويةً. فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات أو مساو له أو مرجوح بالنسبة إليه فإن كان راجحاً فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحاً وإلا فلو لم يكن مناسباٍ كان الحكم منتفياً لانتفاء المناسب لا لوجود المانع وإن كان مساوياً. فكذلك أيضاً وإن كانت مفسدة المانع مرجوحةً فقد قيل بانتفاء الحكم له ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب. الفصل السادس في كيفية ملازمة الحكمة لضابطها وبيان أقسامها فنقول: الحكمة اللازمة لضابطها إما أن تكون ناشئةً عنه وإما أن لا تكون ناشئةً عنه. والتي لا تكون ناشئةً عنه إما أن تكون للوصف دلالة على الحاجة إليها أو لا تكون كذلك. فالأول: كشرع الرخصة في السفر لدفع المشقة الناشئة من السفر. والثاني: كالحكم بصحة البيع بإفضائه إلى الانتفاع بالعوض فإن الانتفاع لازم لصحة البيع ظاهراً وليس ناشئاً عن البيع ولكن للبيع وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل وهو الإيجاب والقبول دلالة على الجاحة إليه. والثالث: كما في ملك نصاب الزكاة فإنه يناسب إيجاب الزكاة من حيث إنه نعمة والنعمة تناسب الشكر لإفضاء الشكر إلى زيادة النعمة على ما قال تعالى:" ولئن شكرتم لأزيدنكم " والزكاة صالحة لأن تكون شكراً لما فيها من إظهار النعمة وإظهار النعمة في العرف يعد شكراً. ولا يخفى أن ما مثل هذا المقصود وهو زيادة النعمة ملازم لترتيب إيجاب الزكاة على ذلك النصاب وليس زيادة النعمة ناشئة عن نفس ملك النصاب كما كانت المشقة ناشئةً عن السفر ولا لملك النصاب دلالة على الحاجة إلى زيادة النعمة كدلالة البيع على الحاجة إلى الانتفاع. الفصل السابع في أقسام المناسب بالنظر إلى اعتباره وعدم اعتباره فنقول: الوصف المناسب إما أن يكون معتبراً في نظر الشارع أو لا يكون معتبراً فإن كان معتبراً فاعتباره إما أن يكون بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة بنص أو إجماع. فإن كان معتبراً بنص أو إجماع فيسمى المؤثر على ما سبق تحقيقه في المسائل المتقدمة وإذا كان معتبراً بترتيب الحكم على وفقه في صورة فالذي تقتضيه القسمة العقلية تسعة أقسام وذلك لأنه إما أن يكون معتبراً بخصوص وصفه أو بعموم وصفه أو بخصوصه وعمومه وإن كان معتبراً بخصوص وصفه دون عموم وصفه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم المعلل أو في جنسه أو في عينه وجنسه. وإن كان معتبراً بعموم وصفه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وإن كان معتبراً بعموم وصفه وخصوصه فإما أن يكون معتبراً في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وأما إن لم يكن الوصف معتبراً فلا يخلو إما أن يظهر مع ذلك إلغاؤه أو لم يظهر منه ذلك. فهذه جملة الأقسام المذكورة غير أن الواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة. القسم الأول: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحل المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي وهذا القسم هو المعبر عنه بالملائم وهو متفق عليه بين القياسين ومختلف فيما عداه. القسم الثاني: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ولا دل على كونه علةً نص. ولا إجماع لا بصريحه ولا إيمائه وذلك كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول النبيذ وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه ولا إجماع عليه فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علةً فلا يكون معتبراً بنص أيضاً وهذا هو المناسب الغريب وهو مختلف فيه بين القياسين وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل. ولهذا فإنا إذا رأينا شخصاً قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها غلب على الظن ما رتب الحكم عليه والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أو لا لعلة. فإن كان لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام عن العلل وإن كان لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر أو لما ظهر: الأول ويلزم منه التعبد وهو بعيد على ما عرف والثاني هو المطلوب. فإن قيل: الفرق بين ما نحن فيه وبين صورة الاستشهاد إنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة فكان ذلك من قبيل القسم الأول وهو الملائم المتفق عليه لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه. قلنا: نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغى ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل نظراً إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام والإحسان في حق العاقل كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها. وليس هذا من القسم الأول في شيء لأن القسم الأول مفروض فيما علم من الشارع اعتبار العين في العين فيه والجنس في الجنس والفرق بين الأمرين ظاهر. القسم الثالث أن يكون الشارع قد اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم لا غير أي أنه لم يعتبر مع ذلك عينه في عينه ولا عينه في جنسه ولا جنسه في عينه ولا دل عليه نص ولا إجماع وهذا أيضاً من جنس المناسب الغريب المختلف فيه بين القياسين إلا أنه دون القسم الثاني وذلك لأن الظن الحاصل باعتبار الخصوص لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف. فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين الزائدتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط أصل الصلاة بل من جنسها. واعلم أن الوصف المعلل به وكذلك الحكم المعلل له أجناس: منها ما هو عال ليس فوقه ما هو أعلى منه ومنها ما هو قريب إليه ليس بينه وبينه واسطة ومنها ما هو متوسط بين الطرفين إما على السواء أو أنه إلى أحد الطرفين أقرب من الآخر. فأما الجنس العالي للحكم الخاص فكونه حكماً وأخص منه كونه وجوباً أو تحريماً أو غير ذلك من الأحكام وأخص من الوجوب العبادة وغير العبادة وأخص من العبادة الصلاة وغير الصلاة وأخص من الصلاة الفرض والنفل. وأما الجنس العالي للوصف الخاص فكونه وصفاً تناط الأحكام به وأخص منه كونه مناسباً بحيث يخرج منه الشبهي وأخص منه المصلحة الضرورية وأخص منه حفظ النفس والعقل وعلى هذا النحو فالظن في هذا القسم مما يزيد وينقص بسبب التفاوت فيما به الاشتراك من الجنس العالي والسافل والمتوسط فيما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن وما كان الاشتراك فيه بالأعم فهو أبعد وما كان بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول. القسم الرابع: المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة ويعبر عنه بالمناسب المرسل وسيأتي الكلام عنه فيما بعد. القسم الخامس: المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صوره فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به وذلك كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم يجب عليك صوم شهرين متتابعين. فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوة فرجه فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغةً في زجره فهذا وإن كان مناسباً غير أنه لم يشهد له شاهد في الشرع بالاعتبار مع ثبوت الغاية بنص الكتاب. الفصل الثامن في إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علةً وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول. أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجباً أو لا يكون واجباً: فإن كان واجباً فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود فكان المقصود لازماً من فعله ظناً. وإذا كان المقصود لازماً في صنعه فالأحكام من صنعه فكانت لغرض ومقصود والغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني. وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء 107 فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب. وأيضاً قوله تعالى:" ورحمتي وسعت كل شيء " الأعراف 156 فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمةً لا رحمة لما سبق وأيضاً قوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص. وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد فإذا رأينا حكماً مشروعاً مستلزماً لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبداً وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره فلم يبق إلا أن يكون مشروعاً لما ظهر وإذا كان ذلك مظنوناً فيجب العمل به لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية. فمن ذلك ما اشتهر عنهم في زمن عمر من تقدير حد شارب الخمر بثمانين جلدة بسبب ظن وقع لهم من قول علي رضي الله عنه أرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين إقامة للشرب الذي هو مظنة الافتراء مقام الافتراء في حكمه. ومن ذلك حكمهم في إمامة أبي بكر بالرأي والظن وقياسهم العهد على العقد في الإمامة ورجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في قتال بني حنيفة حيث امتنعوا من أداء الزكاة واتفاقهم على كتبة المصحف وجمع القرآن بين الدفتين بالرأي والظن واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والإخوة على وجوه مختلفة. ومن ذلك ما اشتهر عن آحاد الصحابة من العمل بالظن والرأي من غير نكير عليه. فمن ذلك قول أبي بكر: أقول في الكلالة برأيي وحكمه بالرأي في التسوية في العطاء ومن ذلك قول عمر: أقول في الجد برأيي وأقضي فيه برأيي وقضى فيه بآراء مختلفة وقوله في حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وتشريكه في المسألة الحمارية لما قيل له هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة؟ ومن ذلك ما نقل عن عثمان إنه قال لعمر في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أشد وإن تتبع من قبلك فنعم ذلك الرأي إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى. فإن قيل: لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمقاصد وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود أو لا يستلزم والأول ممتنع لسبعة عشر وجهاً: الأول: أن القائل قائلان: قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى وقائل إنها مخلوقة للعبيد فمن قال إنها مخلوقة لله تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء. ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت مخلوقةً لهم بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضاً لحكمة. الثاني: أنه لو استلزم فعله للحكمة ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس وما أوجب تخليد أهل النار في النار لعدم الحكمة في ذلك. الثالث: أنه لو كان لحكمة ومقصود فعند تحقق الحكمة لا يخلو إما أن يجب الفعل بحيث لا يمكن عدمه أو لا يجب: فإن كان الأول فيلزم منه أن يصير الباري تعالى مضطراً غير مختار وإن لم يجب الفعل فقد أمكن وجوده تارةً وعدمه تارةً وعند ذلك إما أن يترجح أحد الممكنين على الآخر لمقصود أو لا لمقصود فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو المطلوب. الرابع: أنه لو كان صنع الرب تعالى يستلزم الغرض والمقصود فذلك المقصود إما أن يكون حادثاً أو قديماً: فإن كان قديماً فيلزم منه قدم الصنع والمصنوع وهو محال وإن كان حادثاً فإما أن يتوقف حدوثه على مقصود آخر أو لا يتوقف فالأول يلزم منه التسلسل والثاني هو المطلوب. الخامس: أنه تعالى قد كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن كأبي جهل وغيره وذلك مما يستحيل معه الإيمان وإلا كان علمه جهلاً والتكليف بما لا يمكن وقوعه على وجه يعاقب المكلف على عدم فعله مجرد عن الغرض والحكمة. السادس: أن حكم الله هو كلامه وخطابه وكلامه وخطابه قديم والمقصود لا جائز أن يكون قديماً وإلا لزم منه موجود قديم غير الباري تعالى وصفاته وهو محال وإن كان حادثاً فيلزم منه تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع.
السابع: أن خلق الباري تعالى للعالم في وقته المعلوم المحدود مع جواز خلقه قبله أو بعده وتقديره بشكله المقدر مع جواز أن يكون أصغر أو أكبر مما لا يوقف منه على غرض ومقصود. الثامن: أنه لو كان له في فعله غرض ومقصود لم يخل إما أن يكون فعله لذلك الغرض أولى من تركه أو لا يكون أولى: فإن كان الأول فيلزمه منه أن يكون الرب تعالى مستكملاً بذلك الصنع وناقصاً قبله وهو محال وإن لم يكن فعله أولى من الترك امتنع الفعل لعدم الأولوية. التاسع: أن الحكم والمقاصد خفية وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حق المكلف باطلاعه عليها بالبحث عنها والحرج منفي بقوله تعالى:" وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78. العاشر: أن وجود الحكمة مما يجب تأخره عن وجود شرع الحكم وما يكون متأخراً في الوجود يمتنع أن يكون علة لما هو متقدم عليه. الحادي عشر: أنه لو كان شرع الأحكام للحكم لكانت مفيدةً لها قطعاً وذلك لأن الله تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعاً.فلو فعل ما فعله قصداً لتحصيل تلك الحكمة لكان الظاهر منه أنه فعله على وجه تحصل الحكمة به قطعاً وأكثر الأحكام من الزواجر وغيرها غير مفيدة لما ظن أنها حكم لها قطعاً. الثاني عشر: أنه لا يخلو إما أن يكون الرب تعالى قادراً على تحصيل تلك الحكمة الحاصلة من شرع الحكم دون شرع الحكم أو لا يكون قادراً عليه: لا جائز أن لا يكون قادراً إذ هو صفة نقص والنقص على الله محال وإن كان قادراً على ذلك فشرع الحكم وتوسطه في البين لا يكون مفيداً بل هو محض عناء وتعب. الثالث عشر: أن خلق الكافر شقياً في الدنيا مخلداً في العذاب أخرى مما لا حكمة فيه ولا مقصود. الرابع عشر: أن الله تعالى قد أوجب على المكلف معرفته وذلك إما أن يكون على العارف به أو على غير العارف: الأول فيه تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه المحال حيث أوجب معرفته على من لا يعرفه مع توقف معرفة إيجابه على معرفة ذاته وهو دور ولا مصلحة في شيء من ذلك. الخامس عشر: أن الله تعالى قد أقدر العباد على المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم من ذلك ولم يفعل شيئاً من ذلك وذلك مما لا حكمة فيه. السادس عشر: أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضرر والرب تعالى منزه عن ذلك. السابع عشر: أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثاً والرب يتعالى عن ذلك لكونه متصرفاً في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل على ما قال تعالى:" لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الأنبياء 23 وإن لم يكن فعله مستلزماً للحكمة فهو المطلوب. سلمنا استلزام شرع الحكم للحكمة ولكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً ولو كان يدل المناسب على كونه علة لكانت أجزاء العلة المناسبة عللاً بل غايته أن تكون جزء علة ولا يلزم من وجود جزء العلة في الفرع وجود الحكم. سلمنا غلبة الظن بكون ما ظهر من المناسب علةً ولكن لا نسلم وجوب العمل بالظن مطلقاً لما سنبينه في مسألة كون القياس حجةً وما ذكرتموه من الدلائل فسيأتي الكلام عليها أيضاً في مسألة كون القياس حجة. والجواب عما ذكروه من المنع ما سبق تقريره وعن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه. الأول أن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء. الثاني وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقاً حتى يطرد ذلك في كل مخلوق بل إنما ندعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي ولا ندعي ذلك قطعاً بل ظاهراً. الثالث وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقاً ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعاً لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى. وبهذين الجوابين الأخيرين يكون جواب الشبهة الثانية. وعن الثالثة أن وجود الفعل وإن قدر تحقق الحكمة غير واجب بل هو تبع لتعلق القدرة والإرادة به ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختاراً.
وعن الرابعة أن المقصود حادث ولكن لا يفتقر إلى مقصود آخر فإنا إنما ندعي ذلك فيما هو ممكن وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع وإن كان مفتقراً إلى مقصود فذلك المقصود هو نفسه لا غيره فلا تسلسل. وعن الخامسة أنا لا ندعي لزوم المقصود في كل فعل ليلزمنا ما قيل وإن كان ذلك لازماً فلا يمتنع أن يكون ذلك لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها كما بيناه في التكليف بما لا يطاق. وعن السادسة أن الحكم ليس هو نفس الكلام القديم كما سبق تقريره بل الكلام بصفة التعلق فكان حادثاً وإن كان الحكم قديماً والمقصود حادثاً فإنما يمتنع تعليله به أن لو كان موجباً للحكم وليس كذلك بل إما بمعنى الأمارة والعلامة عند من يقول بذلك والحادث لا يمتنع أن يكون أمارةً على القديم وإما بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضاً أن يكون متأخراً ويكون حكم الله القديم بما حكم به لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث. وعن السابعة بمنع انتفاء الحكمة فيما قيل وإن لم تكن معلومة لنا. وعن الثامنة أن فعله لذلك الغرض أولى من تركه لكن بالنظر إلى المخلوق دون الخالق. وعن التاسعة أنه لا حرج في ربط الأحكام بالحكم إذا كانت منضبطةً بأنفسها أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها لعدم العسر في معرفتها وإن كان في ذلك نوع عسر وحرج يكد العقل في الاجتهاد فيها فلا نسلم خلو ذلك عن المقصود وهو زيادة الثواب على ما قال عليه السلام:" ثوابك على قدر نصبك ". وعن العاشرة أن الحكمة وإن كانت متأخرة في الوجود عن شرع الحكم فإنما يمتنع أن تكون علةً بمعنى المؤثر لا بمعنى الباعث. وعن الحادية عشرة أنه لا يمتنع أن تكون الحكمة المقصودة من شرع الحكم إنما هو حصول الحكمة ظاهراً لا قطعاً. وعن الثانية عشرة أنه لا يمتنع على بعض آراء المعتزلة أن يقال بأن الرب تعالى غير قادر على تحصيل ذلك الغرض الخاص من شرع ذلك الحكم دون شرعه ولا يلزم منه العجز ضرورة كونه غير ممكن. وإن قدر أنه قادر على ذلك وهو الحق فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به وإن قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر. وعن الثالثة عشرة أن الحكمة فيما ذكروه إما أن تكون ممتنعةً أو جائزةً فإن كان الأول فلا يلزم امتناعها فيما هي ممكنة فيه وإن كان الثاني فلا مانع من وجودها وإن لم نطلع نحن عليها. وهو الجواب عن الرابعة عشرة كيف وأنه إنما يلزم الدور الممتنع أن لو قيل بتوقف الوجوب على معرفة المكلف للوجوب وليس كذلك على ما سبق تقريره في شكر المنعم. وعن الخامسة عشرة ما هو جواب الشبهتين قبلها. وعن السادسة عشرة بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعاً بل واقعاً في الغالب. وعن السابعة عشرة أن ما ذكروه إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما حققناه في كتبنا الكلامية. قولهم: لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علةً قلنا لا يلزم أن يكون علةً قطعاً وإنما يلزم أن يكون علةً ظاهراً ضرورة أنه لا بد للحكم من علة ظاهرة على ما سبق تقريره ولا ظاهر سواه. وأما أجزاء العلة وإن كانت مناسبة فإنما يمتنع التعليل بكل واحد منها لما سبق من امتناع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلل بخلاف ما إذا اتحد الوصف أو تعدد وكانت العلة مجموع الأوصاف. قولهم: لا نسلم وجوب العمل بذلك وإن كان مظنوناً قلنا: دليله ما ذكرناه وما سيأتي في مسألة إثبات القياس على منكريه وما يذكرونه على ذلك فسيأتي جوابه ثم أيضاً. المسلك السادس: إثبات العلة بالشبه. ويشتمل على ثلاثة فصول. الفصل الأول في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه وما هو المختار فيه نقول: اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه: فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر فإلحاقه بما هو أكثر مشابهةً هو الشبه. وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان أحدهما النفسية وهو مشابه للحر فيها ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية والثاني المالية وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة. إلا أن مشابهته للحر في كونه آدمياً مثاباً معاقباً ومشابهته للفرس في كونه مملوكاً مقوماً في الأسواق فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له وليس هذا من الشبه في شيء فإن كل واحد من المناطين مناسب وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرةً فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح. ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه قطعاً غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى:" فجزاء مثل ما قتل من النعم ". وليس هذا أيضاً من الشبه إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية والنظر هاهنا إنما هو في تحقيق الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط وهو معلوم بدلالة النص ودليل أن الواجب هو الأشبه أنه أوجب المثل ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم فكان ذلك محمولاً على الأشبه كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه. ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا فيجب الحكم بها ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب. وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن يستلزم ما يناسب الحكم وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد. ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة أو لا تظهر فيه المناسبة بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل فهو المناسب. وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام. فإن كان من الأول فهو الطردي الذي لا التفات إليه ومثاله ما لو قال الشافعي مثلاً في إزالة النجاسة بمائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما: وإن كان الثاني فهو الشبهي وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم به في ظهور المناسبة فيه ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه فهو دون المناسب وفوق الطردي. ولعل المستند في تسميته شبهياً إنما هو هذا المعنى: ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر. واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعاً إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر.