الرئيسيةبحث

أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخَافقُ الحسَّاسُ؟

أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخَافقُ الحسَّاسُ؟

أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخَافقُ الحسَّاسُ؟
المؤلف: أبو القاسم الشابي



أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخَافقُ الحسَّاسُ؟
 
أينَ الطُّموحُ، والأَحْلامُ؟
أين يا شعبُ، رُوحُك الشَّاعرُ الفنَّانُ
 
أينَ، الخيالُ والالهامُ؟
أين يا شعبُ، فنُّك السَّاحرُ الخلاّقُ؟
 
أينَ الرُّسومُ والأَنغامُ؟
إنَّ يمَّ الحياة ِ يَدوي حوالَيْكَ
 
فأينَ المُغامِرُ، المِقْدَامُ
أينَ عَزْمُ الحياة ِ؟ لا شيءَ إلاّ
 
الموتُ، والصَّمتُ، والأسى، والظلامُ
عُمُرٌ مَيِّتٌ، وَقَلْبٌ خَواءٌ
 
ودمٌ، لا تثيره الآلامُ
وحياة ٌ، تنامُ في ظلمة ِ الوادي
 
وتنْمو من فوقِها الأوهام
أيُّ عيشٍ هذا، وأيُّ حياة ٍ؟!
 
رُبَّ عَيْشٍ أخَفُّ منه الحِمَام
قد مشتْ حولَك الفصولُ وغَنَّتْكَ
 
فلم تبتهِجْ، ولمْ تترنَّمْ
ودَوَتْ فوقَك العواصِفُ والأنواءُ
 
حَتَّ أَوشَكْتَ أن تتحطَّمْ
وأطافَتْ بكَ الوُحوشُ وناشتْك
 
فلم تضطرب، ولم تتألمْ
يا إلهي! أما تحسُّ؟ أَمَا تشدو؟
 
أما تشتكي؟ أما تتكلَّمْ؟
ملَّ نهرُ الزّمانِ أيَّامَكَ الموتَى
 
وأنقاضَ عُمرِكَ المتهدِّمْ
أنتَ لا ميِّتٌ فيبلَى، ولا حيٌّ
 
فيمشي، بل كائنٌ، ليس يُفْهَمْ
أبداً يرمقُ الفراغَ بطرفٍ
 
جامدٍ، لا يرى العوالِمَ، مُظْلِمْ
أيُّ سِحْرٌ دهاكَ! هل أنتَ مسحورٌ
 
شقيٌّ؟ أو ماردٌ، يتهكَّمْ؟
آه! بل أنتَ في الشُّعوب عجوزٌ،
 
فيلسوفً، مُحطَّمٌ في إهابِهْ
ماتَ شوقُ الشبابِ في قلبِه الذاوي،
 
وعزمُ الحياة ِ في أعصابِهْ
وهناكَ.. اصطفى البقاءَ مع الأموات،
 
«في قبرِ أمسِهِ» غيرَ آبِهْ...
وارتضى القبرَ مسكناً، تتلاشى
 
فيه أيَّامُ عُمرِهِ المتشابِهْ
وتناسى الحياة َ، والزّمَنَ الدّاوي
 
وما كان منْ قديمِ رِغَابِهْ
واعبدِ «الأمسَ» وادَّكِرْ صُوَرَ الماضِي
 
فدُنْيَا العجوزِ ذكري شبابِهْ...
وإذا مرَّتِ الحياة ُ حوالَيْكَ
 
جميلاً، كالزّهر غضَّا صِباها
تتغنّى الحياة بالشوق والعزم
 
فيحْي قلبَ الجمادِ غِنَاها
والربيعُ الجميلُ يرقصُ فوقَ
 
الوردِ، والعشبِ، مُنْشِداً، تيَّاهاً
ومشَى النّاسُ خلفَها، يتَمَلوْنَ
 
جمالَ الوجودِ في مرآها
والربيعُ الفَنَّانُ شاعِرُها المفتونُ
 
يُغْرِي بحبِّها وهواها
وَتَمَلَّ الجمالَ في رِممِ الموتَى..!
 
بعيداً عن سِحْرِهَا وَصَدَاها
وَتَغَزَّلْ بسِحْرِ أيَّامِكَ الأولى
 
وخَلِّ الحياة َ تخطو خطاها
وإذا هبَّت الطيورُ مع الفجر،
 
تُغنِّي بينَ المروجِ الجميلهْ
وتُحَيِّي الحياة َ، والعالَمَ الحيَّ،
 
بِصَوْتِ المحبَّة ِ المعسولهْ
والفَراشُ الجميلُ رَفْرَفَ في الرَّوْضِ،
 
يناجي زهورَهُ المطلولهْ
وأفاقَ الوجودُ للعمل المُجْدِي
 
ولِلسَّعي، والمعاني الجليلهْ
ومشى الناس في الشِّعاب، وفي الغاب،
 
وفوق المسَالكِ المجهولهْ
ينشدون الجمالَ، والنُّورَ، والأفراحَ
 
والمجدَ، والحياة َ النبيلهْ
فاغضُضِ الطَّرفَ في الظَّلامِ! وحاذِرْ
 
فِتْنَة َ النُّورِ..! فهيَ رُؤْيَا مَهولَة...
وَصَبَاحُ الحياة ِ لا يُوقِظُ الموْتَى
 
ولا يَرْحَمُ الجفونَ الكليلهْ
كلُّ شيءٍ يُعَاطِفُ العالَم الحيَّ،
 
ويُذكِي حياتَه، ويُفيدُهْ
والذي لا يجاوِبُ الكونَ بالاحساسِ
 
عِبْءٌ على الوجودِ، وُجُودُهُ
كُلُّ شيءٍ يُسايرُ الزَّمنَ الماشي
 
بعزمٍ، حتى الترابُ، ودودُهُ
كلُّ شيءٍ ـ إلاَّكَ ـ حَيٌّ، عَطوفٌ
 
يُؤْنِسُ الكونَ شَوْقُه، ونَشيدُهُ
فلِماذا تعيشُ في الكون يا صَاحِ!
 
وما فيكَ من جنًى يستفيدُهْ
لستَ يا شيخُ للحياة ِ بأَهْلٍ
 
أنت داءٌ يُبِيدُها وتُبِيدُهْ
أنت قَفْرٌ، جهنَّميٌّ لَعِينٌ،
 
مُظْلِمٌ، قَاحلٌ، مريعٌ جمودُهْ
لا ترفُّ الحياة ُ فيه، فلا طيرَ
 
يغنّي ولا سَحَابَ يجودُهْ
أنتَ يا كاهنَ الظلامِ ياة ٌ
 
تعبد الموتَ..! أنت روحٌ شقيٌّ
كافرٌ بالحياة ِ والنُّورِ..، لا يُصغي
 
إلى الكون قلبُه الحَجَرِيُّ
أنتَ قلبٌ، لا شوقَ فيه ولا عزمَ
 
وهذا داءٌ الحياة ِ الدَّوِيُّ
أنتَ دنيا، يُظِلُّها أُفُقُ الماضي
 
وليلُ الكآبة ِ الأَبديُّ
مات فيها الزّمانُ، والكونُ إِلاَّ
 
أمسُها الغابرُ، القديمُ، القَصِيُّ
والشقيُّ الشقيُّ في الأرض قلبٌ
 
يَوْمُهُ مَيِّتٌ، وما ضيه حيُّ
أنتَ لا شيءَ في الوجودِ، فغادِرْهُ
 
إلى الموت فَهْوَ عنك غَنِيُّ