أهواء المؤلف: بدر شاكر السياب |
- أطلي على طرفي الدامع خيالا من الكوكب الساطع
- ظلا من الأغصن الحالمات على ضفة الجدول الوادع
- وطوفي أناشيد في خاطري يناغين من حبّي الضائع
- يفجّرن من قلبي المستفيض ويقطرن في قلبي السامع
- لعينيك للكوكبين اللذين يصبان في ناظريّ الضياء
- لنبعين، كالدهر، لا ينضبان ولا يسقيان الحيارى الظماء
- لعينيك ينثال بالأغنيات فؤاد أطال انثيال الدماء
- يودّ، إذا ما دعاك اللسان على البعد لو ذاب فيه النداء
- يطول انتظاري، لعلي أراك لعلي، ألاقيك بين البشر
- سألقاك. لا بد لي أن أراك وإن كان بالناظر المحتضر
- فديت التي صوّرتها مناي وظل الكرى في هجير السهر
- أطلي على من حباك الحياة فأصبحت حسناء ملء النظر!
- اطلّي فتاة هواي والخيال على ناظر الرؤى عالق
- بعشرين من ريقات السنين عبرن المدرات في خافقي
- بعشرين كلاّ وهبت الربيع وما فيه من عمري العاشق
- فما ظل إلا الربيع صغير أخبّيه للموعد الرائق
- سأروي على مسمعيك الغداة أحاديث سمّيتهن الهوى
- وأنباء قلب غريق السراب شقيّ التداني ، كئيب النوى
- أصيخي .. فهذي فتاة الحقول وهذا غرام هناك انطوى
- أتدرين عن ربة الراعيات ؟ عن الريف ؟ عما يكون الجوى
- هو الريف هل تبصرين النخيل ؟ وهذي أغانيه هل تسمعين
- وذاك الفتى شاعر في صباه وتلك التي علمته الحنين
- هي الفنّ من نبعت المستطاب هي الحبّ من مستقاه الحزين
- رآها تغني وراء القطيع كـ( بنلوب ) تستمهل العاشقين
- فما كان غير التقاء الفؤادين في خفقة منهما عاتية
- وما كان غير افترار الشفاة بما يشبه البسمة الحانية
- وكان الهوى ، ثم كان اللقاء لقاء الحبيبين في ناحية
- فما قال : أهواك ، حتى ترامى عياء على ضفة الساقية
- وأوفى على العاشقين الشتاء ويوم دجا في ضحاه السحاب
- خلا الغاب ما فيه إلا النّخيل وإلا العصافير فهو ارتقاب
- وبين الحبيبين في جانبيه من السّعف في كل ممشى حجاب
- فما كان إلا وميض أضاء ذرى النخل وانحل غيم وذاب
- ويا سدرة الغاب كيف استجارا بأفنانك الناطفات المياه
- رآها وقد بلّ من ثوبها حيا زخ فاستقبلتها يداه
- على الجدع يستدفئان الصدور على موعد كل آه بآه
- سلي الجدع كيف التصاق الصدور بهزّاتها، وابتعاد الشفاة ؟
- أشاهدت يا غاب رقص الضياء على قطرة بين أهدابها ؟
- ترى أهي تبكي بدمع السماء أساها وأحزان أترابها ؟
- ولكنّها كل نور الحقول ودفء الشذى بين أعشابها
- وأفراح كلّ العصافير فيها وكلّ الفراشات في غابها
- وذاك الخصام الذي لو يفدّي لفديت ساعته بالوئام
- أفدّيه من أجل يوم ترفّ يد فيه أو لفتة بالسلام
- ومن أجل عينين لا تستطيعان ان تنظرا دون ظل ابتسام
- تذوب له قسوة في الأسارير كالصحو ينحل عنه الغمام
- خصاماً ولما نعلّ الكؤوس ؟ أحطّمتها قبل أن نسكرا ؟
- خصاماً ، وما زال بعض الربيع نديّاً على الصيف مخضوضرا ؟
- خصاماً ؟ فهل تمنعين العيون إذا لألأ النّور أن تنظرا؟
- وهل توقفين انعكاس الخيال من النهر، أن يملك المعبرا ؟
- أغاني شبابتي تستبيك وتدنيك مني، ففيم الجفاء ؟
- كأن قوى ساحر تستبدّ بأقدامك البيض، عند المساء
- ويفضي بك الدّرب حيث استدار، إلى موعدي بين ظلّ وماء
- على الشطّ، بين ارتجاف القلوع وهمس النخيل، وصمت السماء
- وحجبت خدّيك عن ناظري بكفيك حينا وبالمروحات
- سأشدو وأشدو فما تصنعين اذا احمر خدّاك للأغنيات ؟
- وأرخيت كفيك مبهورتين وأصغيت، واخضل حتى الموات
- إلى أن يموت الشعاع الأخير على الشرق، والحب، والأمنيات
- وهيهات، إن الهوى لن يموت ولكنّ بعض الهوى يأفل
- كما تأفل الأنجم الساهرات كما يغرب الناظر المسبل،
- كما تستجمّ البحار الفساح ملّيا، كما يرقد الجدول
- كنوم اللظى، كانطواء الجناح كما يصمت الناي والشمأل !
- أعام مضى والهوى ما يزال كما كان، لا يعتريه الفتور
- أهذا هو الصيف يوفي علينا فنلقاه ثانية، كالزهور
- ولكنهمن زهور الخلود فلا أظمأت ريّهنّ الحرور
- ولا نال من لونهّن الشتاء ولا استنزفت عطرهن الدهور
- أغانيّ ، والغاب قفر الوكون حبيس النسائم تحت الدوالي
- ترى ماؤه، لاتّقاد الهجير حريقا بما فوقه من ظلال
- وفوق التعاشيب، حيث الغصون ينؤن بأفيائهن الثقال
- لها مضجع هدهدته العطور أأبصرت كيف اضطجاع الجمال؟
- أأمسيت استحضر الذكريات وما كان بالأمس كل الحياة؟
- أضاعت حياتي ؟ أغاب الغرام أماتت على الأغنيات الشفاة؟
- أنمسي، ومازال غاب النخيل خضيلا وما زال فيه الرعاة،
- حديثا على موقد لسامرين : أحبّا، وخابا فوا حسرتاه؟
- أناديك لو تسمعين النداء وأدعوك أدعوك! يا للجنون
- إذا رن في مسمعيك الغداة من المهد صوت الرضيع الحنون
- ونادى بك الزوّج أن ترضعيه ونادى صدى أخفتته السنون
- فما نفعها صرخة من لهيب أدوّي بها ؟ من عساني أكون؟
- أعفّرت من كبرياء النداء؟ وأرجعت آمادي القهقرى؟
- نسيت التي صورتها مناي وناديت أنثى ككل الورى ؟
- وأعرضت عن مسمع في السماء إلى مسمع في تراب القرى !
- أتصغي فتاة الهوى والخيال وأدعو فتاة الهوى والثرى؟
- وودعت سجواء بين الحقول ودنيا عن الشر في معزل
- وخلفت في كل ركن خصيل من الريف ذكرى هوى أول
- قصاصات أوراقي الهامسات بشعري على ضفة الجدول
- وجذعا كتبت اسمها الحلو فيه ونايا يغني مع الشمأل
- فمن هذه المسترق القلوب صبى ملؤها روح الطافرة
- أما كنت ودعت تلك العيون الظليلات والخصلة النافرة؟
- كأني ترشفت قبل الغداة سنى هذه النظرة الآسرة !
- أما كان في الريف شيء كهذا ؟ اما تشبة الربة الغابرة؟!
- مشى العمر ما بيننا فاصلا فمن لي بأن أسبق الموعد ؟
- ولكنه الحبّ منه الزمان ثوان ومما احتواه المدى
- أراها فانفض عنها السنين كما تنفض الريح برد الندى
- فتغدو وعمري أخو عمرها ويستوقف المولد المولدا
- وهل تسمع الشعر إن قلته وفي مسمعيها ضجيج السنين
- أطلت على السبع من قبل عشر ين عاما وما كنّ إلا جنين ؟
- وأمسى ولم تدر أنت الغرام هواها حديث الورى أجمعين
- لقد نبّأوها بهذا الهوى فقالت : وما أكثر العاشقين ؟!
- أمن قلبه انثال هذا النشيد إليها، إلى الذئبة الضارية ؟
- ولو لم يكن فيه طعم الدماء ما استشعرت رنة القافية
- وما زال تسبيه غمّازتان تبوحان بالبسمة الخافية
- وما زالتا تذكران الخيال بما كان في الأعصر الخالية
- وبالحب والغادة المستبد صباها به ، يلعبان الورق
- وكيف استكان الإله الصغير فألقى سهام الهوى والحنق
- رهان، رمى فيه غمّازتيه وورد الخدود، ونور الحدق
- لك الله ، كيف اقتحمت القرون ولم يخب في وجنتيك الألق ؟
- كأن ابتسامتها والربيع شقيقتان ، لولا ذبول الزهر
- أآذار ينثر تلك الورود على ثغرها ؟ أم شعاع القمر ؟
- ففي ثغرها افترّ كل الزمان وما عمر آذار إلا شهر
- وبالروح فديت تلك الشفاة وإن أذكرتني بكاس القدر !
- أطلي على طرفي الدامع خيالا من الكوكب الساطع
- وظلا من الأغصن الحالمات على ضفة الجدول الوادع
- وطوفي أناشيد في خاطري يناغين من حبي الضائع
- يفجرن من قلبي المستفيض ويقطرن في قلبي السامع