الرئيسيةبحث

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ/أخبار أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ
المؤلف: أبو طاهر المقرئ


الثمالي المعروف بالمبرد انتهى علم النحو بعد طبقة الجرمي والمازني إلى أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي وهو من ثمالة قبيلة من الأزد. وأنشدنا أبو بكر بن السراج عن أبي العباس لعبد الصمد بن المعذل يعاتبه.

سألنا عن ثمالة كل حي         فقال القائلون ومن ثماله

فقلت محمد بن يزيد منهم         فقالوا زدتنا بهم جهاله

وقد حدثنا عنه أبو بكر بن أبي الأزهر بشيء ظريف في هذا المعنى. حدثنا ابن أبي الأزهر قال حدثني محمد بن يزيد قال قال لي المازني: يا أبا العباس بلغني أنك تتصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيس وإلى مواضع المجانين والمعالجين فما معناك في ذاك؟ قال: فقلت: إن لهم أعزك الله طرائف من الكلام وعجائب من الأقسام. فقال: خبرني بأعجب ما رأيته من المجانين. قال فقلت: دخلت يوماً إلى مستقرهم فرأيت مراتبهم على مقدار بليتهم وإذا قوم قيام قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها لأن علاج أمثالهم أن يقوموا الليل والنهار لا يقعدون ولا يضطجعون ومنهم من يحلب على رأسه وتدهن أرداؤه ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسب ما يحتاجون، فدخلت يوماً مع ابن أبي خميصة وكان المتقلد للنفقة عليهم ولتفقد أحوالهم فنظروا وأنا معه فأمسكوا عما كانوا عليه لولاء موضعه فمررت على شيخ منهم تلوح صلعته وتبرق للدهن جبهته وهو جالس على حصير نظيف ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة. فجاوزته إلى غيره فناداني: سبحان الله أين السلام من المجنون ترى أنا أم أنت. فاستحيت منه وقلت: السلام عليكم. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر لأنه كان يقال: إن لله إخاء على القوم دهشة اجلس أعزك الله عندنا. وأومى إلى موضع من حصيره ينفضه كأنه يوسع لي. فعزمت على الدنو منه فناداني ابن أبي خميصة: إياك إياك! فأحجمت عن ذلك ووقفت ناحية أستحلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه. ثم قال لي وقد رأى معي محبرة: يا هذا أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهما أتجالس أصحاب الحديث الأغثاث أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر. قال: أتعرف أبا عثمان المازني. قلت: نعم معرفة ثاقبة. قال: أفتعرف الذي يقول فيه:

وفتى من مازنٍ ساد أهل البصره         أمه معروفة وأبوه نكره

قلت: لا أعرفه، قال: أفتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر معه ذهن وله حفظ وقد برز في النحو وجلس في مجلس صاحبه وشاركه فيه يعرف بالمبرد، قلت: أنا والله عين الخبير به. قال: فهل أنشدك شيئاً من عبثات أشعاره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر. قال: سبحان الله أليس هو الذي يقول:

حبذا ماء العناقيد يريق الغانيات         بهما ينبت لحمي ودمي أي نبات

أيها الطالب أشهى من لذيذ الشهوات         كل بماء المزن تفاح خدود الناعمات

قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجلس الأنس. قال: يا سبحان الله أويستحيا أن ينشد مثل هذا حول الكعبة ما تسمع الناس يقولون في نسبه. قلت: يقولون هو من الأزد أزد شنؤة ثم من ثمالة. قال: قاتله الله ما أبعد غوره أتعرف قوله:

سألنا عن ثمالة كل حيٍ         فقال القائلون ومن ثماله

فقلت محمد بن يزيد منهم         فقالوا زدتنا بهم جهاله

فقال لي المبرد خل قومي         فقومي معشر فيهم نذاله

قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يقوله لها فيه. قال: كذب من ادعاها غيره هذا كلام رجل لا نسب له يريد أن يثبت بهذا الشعر له نسباً. قلت أنتم أعلم. قال: يا هذا قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت بفصاحتك من استحساني وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه. الكنية أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس. قال: فالاسم. قلت: محمد. قال: فالأب. قلت: يزيد. قال: قبحك الله أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره. ثم وثب باسطاً يده لمصافحتي. فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الأرض فأمنت عند ذلك غائلته. فقال لي: يا أبا العباس صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع فليس يتهيأ لك في كل وقت أن تصادف مثلي في مثل هذه الحال الجميلة أنت المبرد. وجعل يصفق وقد انقلبت عينه وتغيرت حليته. فبادرت مسرعاً خوفاً أن تبدرني منه بادرة وقبلت قوله فلم أعاود الدخول إلى مخيس ولا غيره.

وأخذ أبو العباس النحو عن الجرمي والمازني وغيرهما وكان على المازني يعول ويقال أنه بدأ بقراءة كتاب سيبويه وختمه على المازني. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي وهو أقدم مولداً منه ورأى الناس بالبصرة يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه. وسمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمتقدم. وسمعته يقول: لقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب. وسمعت نفطويه يقول: ما رأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد منه ومن أبي العباس بن فرات. وكذلك خبرنا أبو بكر بن السراج عن محمد بن خلف وكيع. وكان بينه وبين أبي العباس ثعلب من المنافرة ما لا خفاء به وأكثر أهل التحصيل يفضلونه.

أنشدنا أبو بكر بن أبي الأزهر قال أنشدني أحمد بن عبد السلام وكان أكبر من خالد الكاتب سناً يقول في محمد بن يزيد:

رأيت محمد بن يزيد يسمو         إلى الخيرات في جاه وقدر

جليس خلائف وغذى ملكٍ         وأعلم من رأيت بكل أمر

وفتيانية الظرفاء فيه         وأبهة الكبير بغير كبر

وينثر إن أجال الفكر دراً         وينثر لؤلؤاً من غير فكر

وكان الشعر قد أودى فأحيا         أبو العباس دائر كل شعر

وقالوا ثعلب رجل عليمٌ         وأين النجم من شمس وبدر

وقالوا ثعلب يفتي ويملي         وأين الثعلبان من الهزبر

وهذا في مقالك مستحبلاً         تشبه جدولاً وشلاً ببحر

قال وأنشدني فيه:

وأنت الذي لا يبلغ الوصف مدحه         وإن أطنب المداح مع كل مطنب

رأيتك والفتح بن خاقان راكباً         وأنت عديل الفتح في ل موكب

وكان أمير المؤمنين إذا رنا         إليك يطيل الفكر بعد التعجب

وأوتيت علماً لا تحيط بكنهه         علوم بني الدنيا ولا نحو ثعلب

يروح إليك الناس حتى كأنهم         ببابك في أعلى منى والمحصب

وأنشدنا ابن أبي الأزهر لنفسه:

شكا ما به من هوىً منصب         إلى إلفه الأوصب الأنصب

فبات يخدان حر الخدود         بفيض دموعِهما السكب

ويعتنقان وقلباهما         على مثل جمر الغضا الملهب

إلى أن بدا في الدجى ساطعٌ         من الصبح يسطو على الغيهب

فيا حسنها ليلة لو تمد         طوال الدهور فلم تذهب

وهل ترجعن بلذاتها         على حال أمن من الرقب

أيا طالب العلم لا تجهلن         وعذ بالمبرد أو ثعلب

تجد عند هاذين علم الورى         ولا تك كالجمل الأجرب

علوم الخلائق مقرونة         بهاذين بالشرق والمغرب

ومن شعر أبي العباس وكان مليح الطبع أخبر أبو بكر بن أبي الأزهر قال كتب طاهر بن الحارث كاتب محمد بن عبد الله بن طاهر إليه رقعة في درجها تسبيب له على مصر قد فرغ منه وأحكمه وكان الغلام الموصل للرقعة يسمى نصراً فأجابه عن رقعته وكتب في آخر الجواب.

بنفسي أخ برٌّ شددت به أزري         فألفيته حراً على العسر واليسر

أغيب فلي منه ثناءٌ ومدحة         وأحضر منه أحسن القول والبشر

وما طاهرٌ إلا جمالٌ لصحبه         وناصر عافيه على كلب الدهر

تفردت يا خير الورى فكفيتني         مطالبةٌ شنعاء ضاق لها صدري

فأحسن من وجه الحبيب ووصله         كتابٌ أتاني مدرجاً بيدي نصر

سررت به لما أتى ورأيتني         غنيت وإن كان الكتاب إلى مصر

وقلت رعاك الله من ذي مودة         فقد فت إحساناً وقصر بي شكري

وكان مولده فيما خبرنا أبو بكر بن السراج وأبو علي الصفار في سنة عشر ومائتين ومات سنة خمس وثمانين ومائتين. وقد كان من نظرائه في عصره ممن قرأ كتاب سيبويه على المازني جماعة لم يكن لهم كنباهته مثل أبي ذكوان ووقع إلى سيراف في أيام الزنج وكان التوزي زوج أمه وعسل بن ذكوان وخرج إلى الأهواز وأقام بعسكر مكرم من كور الأهواز. وأبو يعلى بن أبي زرعة بصري من أصحاب المازني مقدم وقد عمل كتاباً في النحو لم يتمه.

ومن أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وأبو الحسن بن كيسان واليهما انتهت الرياسة في النحو بعد أبي العباس محمد بن يزيد غير أن أبا إسحاق كان أشد لزوماً لمذهب البصريين وكان ابن كيسان يخلط المذهبين.

وكان بعدهما أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج وأبو بكر محمد بن علي المعروف بمبرمان وعنهما أخذت أكثر النحو وعليهما قرأت كتاب سيبويه.

وفي طبقتهما ممن يخلط علم البصريين بعلم الكوفيين أبو بكر بن شقير وأبو بكر بن الخياط.