اعلم أني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة وأسندته لدعائم قوية وتحريت جهدي الصواب، واستعنت بفهم أولي الألباب، وسألت الله عز اسمه أن يجنبني الخطأ والزلل، ويبلغني الرجاء والأمل. فأعلي قواعده وأرصف بنيانه ما شاهدته وعقلته، وعرفته وعلقته. وعليه رفعت البنيان وعملت الدعائم والأركان ومن قواعده أيضا وأركانه. وما استعنت به على بيانه سؤال ذوي العقول من الناس، ومن لم أعرفهم بالغفلة والالتباس عن الكور والأعمال في الأطراف التي بعدت عنها، ولم يتقدر لي الوصول إليها. فما وقع عليه اتفاقهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذته. وما لم يكن لي بد من الوصول إليه والوقوف عليه قصدته. وما لم يقر في قلبي ولم يقبله عقلي أسندته إلى الذي ذكره أو قلت زعموا. وشحنته بفصول وجدتها في خزائن الملوك.
وكل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التي قصدتها ولا طلب الفوائد التي أردتها أما أبو عبد الله الجيهاني فإنه كان وزير أمير خراسان وكان صاحب فلسفة ونجوم وهيئة فجمع الغرباء وسألهم عن الممالك ودخلها وكيف المسالك إليها وارتفاع الخنس منها وقيام الظل فيها ليتوصل بذلك إلى فتوح البلدان ويعرف دخلها ويستقيم له علم النجوم ودوران الفلك. ألا ترى كيف جعل العالم سبعة أقاليم وجعل لكل إقليم كوكبا مرة يذكر النجوم والهندسة وكرة يورد ما ليس للعوام فيه فائدة وتارة ينعت أصنام الهند وطورا يصف عجائب السند وحينا يفصل الخراج والرد. ورأيته ذكر منازل مجهولة ومراحل مهجورة ولم يفصل الكور ولا رتب الأجناد ولا وصف المدن ولا استوعب ذكرها بل ذكر الطرق شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً مع شرح ما فيها من السهول والجبال والأودية والتلال والمشاجر والأنهار وبذاك طال كتابه وغفل عن أكثر طرق الأجناد ووصف المدائن الجياد.
وأما أبو زيد البلخي فإنه قصد بكتابه الأمثلة وصورة الأرض بعد ما قسمها على عشرين جزأ، ثم شرح كل مثال واختصر ولم يذكر الأسباب المفيدة ولا أوضح الأمور النافعة التفصيل والترتيب، وترك كثيراً من أمهات المدن فلم يذكرها وما دوخ البلدان ولا وطئ الأعمال ألا ترى إن صاحب خراسان استدعاه إلى حضرته ليستعين به فلما بلغ جيحون كتب إليه إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي فإن رأيي يمنعني من عبور هذا النهر. فلما قرأ كتابه أمره بالخروج إلى بلخ.
وأما ابن الفقيه الهمذاني فإنه سلك طريقة أخرى ولم يذكر إلا المدائن العظمى ولم يرتب الكور والأجناد وادخل في كتابه ما لا يليق به من العلوم، مرة يزهد في الدنيا وتارة يرغب فيها ودفعة يبكي وحينا يضحك ويلهي.
وأما الجاحظ وابن خرداذبه فان كتابيهما مختصران جدا لا يحصل منهما كثير فائدة. فهذا ما وقع إلينا من المصنفات في هذا الباب بعد البحث والطلب وتقليب الخزائن والكتب وقد اجتهدنا في أن لا نذكر شيئا قد سطروه، ولا نشرح أمرا قد أوردوه، إلا عند الضرورة لئلا نبخس حقوقهم، ولا نسرق من تصانيفهم. مع أنه لا يعرف فضل كتابنا هذا إلا من نظر في كتبهم أو دوخ البلدان وكان من أهل العلم والفطنة. ثم أني لا أبرئ نفسي من الزلل، ولا كتابي من الخلل. ولا أسلمه من الزيادة والنقصان ولا افلت من الطعن على كل حال. وبعد فإن شرحنا الأسباب التي شرطناها في الخطبة يتفاوت في الأقاليم ولا يتساوى لانا إنما نذكر ما نعرف وليس هو علم يطرد بالقياس فيتساوى، وإنما يدرك بالمعاينة والخبر فينهى.
وفي كتابنا هذا اختصار لفظ يدل على معان مثل قولنا: لا نظير له نريد أن ليس مثله بت مثل: معتقة بيت المقدس، ونيده مصر، وليم البصرة، وهذه أشياء لا يرى مثلها وإن كانت أجناساً. فإن قلنا غاية فإنها تعني في الجودة من الأجناس مثل أجاص العمري بشيراز، وتين الدمشقي بالرملة، ومشمش العصلوني والريباس بنيسابور. فإن قلنا جيد فقد يكون أجود منه الطائفي، ونيل أريحا خير منه الزبيدي، وخوخ مكة أسرى منه الدارقي.
وربما أجملنا القول وتحته شرح مثل قولنا في الأهواز ليس لجامعها حرمة، وذلك أنه أبداً مملوء بخلق من الشطار والسوقه والجهال يتعدون إليه ويجتمعون فيه، ثم لا يخلو قوم جلوس والناس في الفريضة وهو بيت الشحاذين ومركز للفاسقين.
وكقولنا ولا أعز من أهل بيت المقدس لأنك لا ترى بها بخساً ولا تطفيفاً ولا شرباً ظاهراً ولا سكران ولا بها دور فسق سراً ولا إعلاناً مع تعبد وإخلاص. ولقد بلغهم أن الأمير يشرب فتسوروا عليه داره وفرقوا أهل مجلسه.
ومثل قولنا في شيراز لا مقدار لأهل الطيالسة بها وذلك أنه لباس الشريف والوضيع والعالم والجاهل، وكم قد رأيت بها من سكارى قد بعثروا بطيالسهم وسحبوها، وكنت إذا استأذنت على الوزير وأنا مطيلس حجبت إلا إذا عرفت وإذا آتيت بدراعة أذن لي. وربما ذكرنا وانثنا في ذكر بلدة واحدة، فالتذكير مصروف إلى مصر والتأنيث إلى قصبة ومدينة، مع أن أهل الأدب قد أجازوا ذلك فيما ليس له روح.
والبلد يعم المصر والقصبة والرستاق والكورة والناحية وإذا وصفنا قصبة في كورتها ذكرناها باسمها، مثل الفسطاط ونموجكث واليهودية، وان ذكرناها في موضع آخر ذكرناها باسمها المعروف عند الناس، فقلنا مصر بخارا اصبهان.
وكلما قلنا المشرق فهي دولة آل سامان. فإن قلنا الشرق أردنا أيضاً فارس وكرمان والسند فإن قلنا المغرب فهو- الإقليم. فإن قلنا الغرب تبع ذلك مصر- والشام وقد أودعناه شيئا من الغامض والمعاني ليجل ويقل، وأوردنا فيه الحجج توثقاً والحكايات تحققاً والسجع تظرفاً والأخبار تبركاً. وبسطنا أكثره ليقف عليه العوام إذا تأمله، ورتبناه على طرق الفقه ليجل عند العلماء إذا تدبروه. وذكرنا الاختلافات تبحرا والنكت تحرزاً، وطولناه بوصف المدن لمعان شتى، وذكرنا الشؤون لفوائد لا تخفى، أوضحنا الطرق لان الحاجة إليها أشد، وصورنا الأقاليم لان المعرفة بها أروج، وفصلنا الكور لان ذلك أصوب. وقد استخرنا الله تعالى قبل جمعه، وسألناه التوفيق والمعونة، بعد ما استشرنا صدور الزمان والأئمة، وحملنا محضره إلى القاضي المختار عالم خراسان وأوفر قضاة الزمان. فكل أشار به وقبله وبعث على إحضاره ومدحه.
وقد ذكرنا ما رأيناه وحكينا ما سمعناه. فما صح عندنا بالمعاينة وأخبار التواتر أرسلنا به القول. وما شككنا فيه أو كان من طريق الآحاد أسندناه إلى الذي منه سمعناه. ولم نذكر في كتابنا إلا صدراً مشهوراً أو عالماً مذكوراً أو سلطاناً جليلاً إلا عند ضرورة أو خلال حكاية، ولوقارة ذلك ألن نسميه رجلاً ونذكر محله لئلا يدخل في جملة الاجلة. واعلم إني مع هذه الوثائق والشروط لم أظهره حتى بلغت الأربعين، ووطئت جميع الأقاليم وخدمت أهل العلم والدين. واتفق وفاء ذلك بمصر فارس في دولة أمير المؤمنين أبي بكر عبد الكريم الطائع لله، وعلى المغرب أبو منصور نزار العزيز بالله أمير المؤمنين سنة 375 ولم نذكر إلا مملكة الإسلام حسب ولم نتكلف ممالك الكفار لأنها لم ندخلها ولم نر فائدة في ذكرها، بلى قد ذكرنا مواضع المسلمين منها. وقد قسمناها أربعة عشر إقليما أفردنا أقاليم العجم عن أقاليم العرب. ثم فصلنا كور كل إقليم ونصبنا أمصارها وذكرنا قضبانها ورتبنا مدنها وأجنادها بعد ما مثلناها، ورسمنا حدودها وخططها، وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة، بنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الإفهام، ويقف عليه الخاص والعام.
والأقاليم العربية: جزيرة العرب ثم العراق ثم أقور ثم الشام ثم مصر ثم المغرب.
وأقاليم العجم أولها المشرق ثم ألد يلم ثم الرحاب ثم الجبال ثم خوزستان ثم فارس ثم كرمان ثم السند. وبين أقاليم العرب بادية، ووسط أقاليم الأعاجم مفازة، لا بد من أفرادهما الاستقصاء في وصفهما لشدة الحاجة إليهما وكثرة الطرق فيهما. وأما البحار والأنهار فقد أفردنا لهما باباً كافياً لشدة الحاجة إليه والأشكال فيه.