→ الأعمال | في الميزان المؤلف: عباس العقاد |
← |
حق الأمانة على المؤرخ في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي أن يراجع بينه وبين ضميره
طائفة من الحقائق البديهية، قبل أن يستقيم له الميزان الصادق لتقدير الرجال بأقدارهم،
وتقويم المناقب والمآثر بقيمتها.
ومن هذه الحقائق البديهية أن الأموال التي بذلها معاوية للمأجورين من حوله لم
تبذل لتعريف الناس بحسناته وسيئاته، كما يعرفها من لم يأجر بمال ولم يتصل معه
يلليب
ومن هذه الحقائق البديهية أن سلطان معاوية يدخل في الحساب حيث يؤوب
الباحث إلى ذلك الزمن، ليفرق بين ما يقال عن صاحب السلطان، وما يقال عن رجل
يحاربة السلطان في سمعته وذكراه.
ومن الحقائق البديهية تواطؤ الزمن على إقرار ما قيل وتكرر وطال وقوعه في
الأسماع، حتى تكاد تنفر من تغييره لو عرض لها فيه شيء من التغيير، وحتى لتكاد
تعجز عن النفاذ إلى الحقيقة لو رغبت في ذلك التغيير لسبب من الأسباب، وقلما تعرض
هذه الأسباب لمن لا يعنيهم تمحيص ما يقال في الساعة الراهنة، فضلا عما يقال ويعاد
منه مئات السنين.
ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي بتوافق الطبائع، كما تأتي بالغرض
والرشوة، فلا يسهل على الإنسان نقد صفة يعلم أنه متصف بمثلها، وأستنكار وسيلة
يعلم أنه لا يستنكرها، ولا يأبى النجاح إذا توسل بها إليه.
ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي من جهات لم تخطر للمنتفع بمحاباتها على
بال، فالدولة الأموية في الأندلس أنشأت للشرق الإسلامي تاريا لم يكتبه مؤرخوه، ولا
يكتبونه على هذا النحو لو أنهم كتبوه، وجاءت تلك الدولة الأندلسية بمؤرخين من الأعلام ينصبون الميزان راجا لكل سيرة أموية لا يقصدونها بالمحاباة، ولكنهم لا يستطيعون
أن يقصدوها بالنقد والملامة؛ لأنهم مصروفون بهواهم عن هذا الطريق.
من هؤلاء أناس في طبقة ابن خلدون، يضع معاوية في ميزانه فيكاد يحسبه بقية الخلفاء الراشدين، ويتمحل المعاذير له في إسناد ولاية العهد إلى ابنه فسوقه وخلل سياسته، وكراهة الناس لحكمه حتى من أبناء قومه.
ولا يهولن قارئ التاريخ اسم ابن خلدون فيذكره، وينسى الحقائق البديهية التي لا تكلفة أكثر من نظرة مستقيمة إلى الواقع الميسر لكل ناظر في تواريخ الخلفاء الراشدين وتاريخ معاوية
فما في وسع ابن خلدون أن يخرج من هذه التواريخ بمشابهة بعيدة تجمع بين معاوية والصديق والفاروق وعثمان وعلي في مسلك من مسالك الدين أو الدنيا، وفي حالة من أحوال الحكم أو المعيشة، وإنه لفي وسع كل قارئ أن يجد المشابهات الكثيرة، التي تجمع بين معاوية ومروان وعبد الملك وسليمان وهشام، فلا يفترقون فيها إلا بالدرجة والمقدار، أو بالتقديم والتأخير، وإذا كان هذا شأن ابن خلدون، فقل ما شئت في سائر المؤرخين وسائر المستمعين للتواريخ، من مشارقة شهدوا زمان الدولة ومشارقة لم يشهدوه، ومن مغاربة عاشوا في ظل تلك الدولة، وتعلقت أقدارهم بأقدارها، وأيقنوا أنهم لا ينقصون منها شيئا ثم يستطيعون تعويضه من الأندلس بما يغنيهم عنه، وما زال العهد بالمنبت عن أرومته أن يلصق بها أشد من لصوق القائمين عليها.
إذا روجعت تلك الحقائق في ميزان التاريخ فقد ذهب من الكفة كل ما زيد عليها في إبان الدولة، وكل ما علق بها من تواطؤ الزمن وتكرار العادة، وكسل السامع من مشقة المراجعة، وانتزاع الفكر مما ألفه ولم يألف سواه ... لقد تمهدت لمعاوية أسباب لم تتمهد في عصره لأحد غيره من قبل الإسلام، وفي صدر الإسلام، إلى أيام عثمان. ولم يكن مفرطا أو عاجرا؛ فلم يضيع ما تمهد له بعجلة لا تؤمن عاقبتها، أو بتقصير عن الفرصة في أوانها، وكان له دهاء وحلم، وكان فيه طموح واعتداد بالنفس وسمة من سمات الرئاسة
وكان له من كل أولئك قدره الذي أعانه على مقصده كما أعين بغيره، فكان في يديه من المال والجند وسلطان الولاية ما لم يكن في يدي أحلى من نظرائه ومنازعيه، ولولا ذلك لما أفاده دهاؤه مع أعوانه من الدهاة؛ لأنه لم يغلبهم بعقل غالب، ولم يصرفهم عن مقصدهم إلى مقصده، بل خدمهم وخدموه، ولو لم يكن عنده ما يطلبونه لخدموا غيره أو نازعوه على سواء، وربما نازعه بعضهم على رجحان.
وكان له حلم أوشك أن يحرمه عزة الرئاسة، ولكنه حلم من لا يغضب، وليس بحلم من يغضب ويملك عنان غضبه، فسيان أن يركب غضبه بعنان أو بغير عنان، فإنه في غني عن قوة الساعد مع مطية لا تثور ثورة الجماح في كل حين.
وكان له طموح إلى السيادة، ولكنه طموح الألفة والعادة، ورثه مع جاه الأسرة ولم يخلق فيه بتلك الخليقة «الحيوية التي يطبع عليها العصاميون، فكأنما هي جزء من التركيب وليست وجاهة من وجاهات البيت العريق يطلبها كما يطلب الميراث.
وإذا وزنت قدرة معاوية بميزان النجاح حصل من نجاحه في كفة الميزان حاصل قليل، پهون شأنه مع أثقال الكفة الأخرى من الجهود والشواغل والهموم.
فقد أراد الملك له ولبنيه، ولم يرده لبني أمية أجمعين؛ لأنه فرق بينهم ما اجتمع، وأغرى أناسا منهم بأناس، ولم يعمل عمله إلا ليتركه من بعده لعشيرته من بني سفيان، فلم يخلفه من ذريته غير يزيد، وذهب يزيد في عنفوانه بداء الجنب فلم يخلفه أحد من ولديه.
وتبعة معاوية في عاقبة ولي عهده الذي خرق الخوارق من أجله أعظم جدا من مسعاته في توريثه الملك، وتوريث أبنائه من بعده، فقد جنت عليه تلك الخليقة الأموية، فلم يعرف من البر بالأبناء غير الإملاء لهم في النعمة والمتاع، وما كان يزيد ليقصد في مطامعه ومناعمه، وهو ينظر إلى قدوة سبقته إلى تلك المطاعم والمناعم، وسبقته إلى تدبيرها له كلما استعصت عليه، ولو لم تكن من الشهوات التي يقضيها الآباء للأبناء
إن ذات الجنب مرض من أمراض الكبد، وأمراض الكبد قضاء حتم على المنهوم بطعامه، والمفرط في شهواته، وقد صنع معاوية ليزيد هذا وصنع له ذاك: صنع له عدة النعمة والمتعة، ووضع له عدة الملك والسلطان، وما يحسب له من هذا دون ما يحسب من ذاك
وخرج معاوية من الملك بالأيام التي قضاها في نعمته وثرائه، ولا نقول في صولته وعزه، فقد كان يذل لكل ذي بيعة منشودة ذلا لم يصبر من بايعوه على مثله، ولو وزن ما أحتمله في سبيل بيعتهم وما أحتملوه في سبيل طاعته؛ لكان ما أحتمله أثقل الكفتين؛ تبعته العامة في أمر الملك فأمر جسيم لا تعدله جسامة عمل في عصره؛ لأنه نكص[1] بالملك خطوات، وكان في ميسوره أن يتقدم به خطوات تزيد عليها، مع ما بین الخطوة الناكصة والخطوة المتقدمة من بون بعيد.
لم يكن في ميسوره أن يديم على الدولة خلافة خلافة الصديق أو الفاروق، ولكن كان في ميسوره أن يجنبها الكسروية والهرقلية، وأن يجعل للخلافة أثرا باقيا في ولاية الأمر، إن لم يصمد على سنة الراشدين لم يصمد على سنة الملك العقيم، ولو أنه أنشأ هذا الملك في الدولة الإسلامية والناس لا يعرفون غيره لخف نصيبه من اللوم، وهان حق التاريخ وحق العالم الإسلامي، والعالم الإنساني عليه.
غير أن الناس عرفوا في زمانه فارقا شاسعا بين ولي الأمر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية، وأمانة للخلق والخالق، وشريعة لمرضاة الناس بالحق والإنصاف، وبين الحكم الذي يحاط بالأبهة، ويجري على سنة المساواة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة، ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة، كان الرجل من النصحاء يدخل عليه كأنما يبكته فيسلم عليه بالملك، ولا يسلم عليه بالخلافة.
وتتابع عليه في أيامه الأولى من يقول له: السلام عليكم أيها الملك، فكان ينكر الاسم ولا ينكر السمة، إلى أن تنازعه الخيار بين ترك السمة أو التمادي فيها، فتمادي فيها وقال جهرة لمن حوله: نعم أنا أول الملوك!
وتبعته فيما شجر[2] بعده من خلال توازن تبعته في هذا الخروج بولاية الأمر من روع الخلافة إلى أبهة الهرقلية والكسروية. فما كان من المعقول، ولا من طبائع الأمور، أن تبذر في الأرض كل تلك البذور من جراثيم التفرقة، ثم تسلم الدولة من عقابيلها أو تظل التفرقة سندا لصاحب الأمر مثات السنين، كما كانت المعاوية سنوات معدودات. تبعات يحسب حسابها العسير إن كان للتاريخ جدوى يحرص عليها، وكان لشرف الذكر وزن يقام. وليست جدوى التاريخ هنا كلمة مدح تنقص أو تزاد، وإنما جدواه أن يصان الذكر عن الابتذال، وهو أشرف ما تملكه الإنسانية من تشريف أبنائها في الحياة وبعد الممات، فلا يباح عرض الإنسانية لكل من يملك طعاما يملأ به البطون أو ما يملأ به الجيوب، ولا يختلط الحق بالباطل ثم تذهب الحيلة فيه وتثوب العقول والضمائر إلى التسليم، ويتساوى الجوهر والطلاء في ميزان الخلود والبقاء، ومعاوية في هذا الميزان، لا يخرج منه مغبونًا ولا غابنًا للحقيقة من بعده، وإنما تحسب له قدرته بتقدير، ويُعطَى من أثر قدرته، ومن أثر نيته، ما هو به حقيق.
وقد عمل بتلك القدرة ما أفاده وأفاد قومه وأفاد الأمم التي تولاها فيما تستفيده من قرار الدولة و«ضبط» الأمور، وذلك حق القدرة الذي لا حاجة معه إلى اللجاجة في أمر النية، فلو أن أحدا أراد أن يمحو من سجله كل ما عمله لنفسه ولبنيه لما بقي في ذلك السجل عمل واحد تطول فيه اللجاجة حول النيات وتعود فنقول: إنها قدرة لا ترسل على إطلاقها بغير تقدير، وإن تقديرها الحق أنها غاية القدرة إلى الشوط القصير.
لقد كان قويا لا مشاحة[3] في وصفه بالقوة على مثالها، ومثالها أنك تصوغها في خيالك على صورة من الصور، فتحضرك صورة الجمل الصبور، ولا تحضرك صورة الأسد الهصور.