الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/تنازع الذين قالوا كلام الله غير مخلوق

تنازع الذين قالوا كلام الله غير مخلوق

والمقصود هنا أن الذين قالوا: كلام الله غير مخلوق، تنازعوا بعد ذلك على هذه الأقوال، مع أن أكثر الذين قالوا بعض هذه الأقوال لا يعلمون ما قال غيرهم، بل غاية ما عند أئمتهم المصنفين في هذا الباب معرفة قولين أو ثلاثة أو أربعة من هذه الأقوال كقول المعتزلة والكُلاَّبية والسالمية والكرامية ولا يعرفون أن في الإسلام من قال سوى ذلك، ويصنف أحدهم كتابًا كبيرًا في مقالات الإسلاميين وفي الملل والنحل، ويذكر عامة الأقوال المبتدعة في هذا الباب، والقول المأثور عن السلف والأئمة لا يعرفه ولا ينقله، مع أن الكتاب والسنة مع المعقول الصريح لا يدل إلا عليه، وكل ما سواه أقوال متناقضة كما بسط في موضعه.

والقصد هنا أن من كان عنده أن قول المعتزلة مثلًا، أو قول المعتزلة والكرامية، أو قول هؤلاء وقول الكلابية، أو قول هؤلاء وقول السالمية، هو باطل من أقوال أهل البدع، لم يبق عنده قول أهل السنة إلا القول الآخر الذي هو أيضا من الأقوال المبتدعة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، فيفرع على ذلك القول ما يضيفه إلى السنة، ثم إذا تدبر نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، وجدها تخالف ذلك القول أصلًا وفرعًا، كما وقع لمن أنكر فضل فاتحة الكتاب و آية الكرسي و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } على غيرها من القرآن، فإن عمدتهم ما قدمته من الأصل الفاسد. أما كون الكلام واحدًا، فلا يتصور فيه تفاضل ولا تماثل ولا تعدد. وأما كون صفات الرب لا تتفاضل وربما قالوا: القديم لا يتفاضل، وهو من جنس قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم: القديم لا يتعدد، فهذا لفظ مجمل، فإن القديم إذا أريد به رب العالمين، فرب العالمين إله واحد لا شريك له، وإذا أريد به صفاته، فمن قال: إن صفات الرب لا تتعدد، فهو يقول: العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر هو العلم. وقد يقول بعضهم أيضا: العلم هو الكلام. ويقول آخرون: العلم والقدرة هو الإرادة، ثم قد يقولون: إن الصفة هي الموصوف، فالعلم هو العالم، والقدرة هي القادر. وهذه الأقوال صرح بها نفاة الصفات من الفلاسفة والجهمية ونحوهم كما حكيت ألفاظهم في غير هذا الموضع. ومعلوم أن في هذه الأقوال من مخالفة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بل مخالفة المعلوم بالاضطرار للعقلاء. والمعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ودين الرسل ما يبين أنها في غاية الفساد شرعًا وعقلًا.

ثم إن هؤلاء تأولوا نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باطلة، منهم من قال: المراد بكونه أعظم وأفضل وخيرًا كونه عظيما في نفسه، وامتنع هؤلاء من إجراء التفضيل عليه. وحكي هذا عن الأشعري وابن الباقلاني وجماعة غيرهما. ومعلوم أن من تدبر ألفاظ الكتاب والسنة، تبين له أنها لا تحتمل هذا المعنى، بل هو من نوع القرمطة، فإن الله تعالى يقول: { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [1]، وقال النبي ﷺ لأُبي: «أتدري أي آية معك في كتاب الله أعظم؟ »، وقال: «لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها»، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره.

ومنهم من قال: بل المراد بقوله: { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } [2]، أي: خير منها لكم، أي: أكثر ثوابًا أو أقل تعبًا، وقال: ما دل على أن بعضه أفضل من بعض، فليس هو تفضيلًا لنفس الكلام، بل لمتعلقه. وهو أن تلاوة هذا والعمل به يحصل به من الأجر أكثر مما يحصل بالآخر. فيقال لهؤلاء: ما ذكرتموه حجة عليكم، مع ما فيه من مخالفة النص. وذلك أن كون الثواب على أحد القولين أو الفعلين أكثر منه على الثاني، إنما كان لأنه في نفسه أفضل؛ ولهذا إنما تنطق النصوص بفضل القول والعمل في نفسه، كما قد سئل النبي ﷺ غير مرة: أي العمل أفضل؟ فيجيب بتفضيل عمل على عمل، وذلك مستلزم لرجحان ثوابه. وأما رجحان الثواب مع تماثل العملين، فهذا مخالف للشرع والعقل.

وكذلك الكلام، ففي صحيح مسلم، عن سمرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن مع كونها من القرآن، ففضل نفس هذه الأقوال بعد القرآن على سواها. وكذلك في صحيح مسلم أنه سئل: أي الكلام أفضل؟ فقال: «ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده». وفي الموطأ وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، فأخبر أن هذا الكلام أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله. وفي سنن ابن ماجة عنه أنه قال: «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله»، وقد رواه ابن أبي الدنيا. وفي الصحيحين أنه قال: «الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله». ومثل هذا كثير في النصوص يفضل العمل على العمل، والقول على القول، ويعلم من ذلك فضل ثواب أحدهما على الآخر.

أما تفضيل الثواب بدون تفضيل نفس القول والعمل، فلم يرد به نقل ولا يقتضيه عقل، فإنه إذا كان القولان متماثلين من كل وجه، أو العملان متماثلين من كل وجه، كان جعل ثواب أحدهما أعظم من ثواب الآخر ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح. وهذا أصل قول القدرية والجهمية الذين يقولون: إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، وظنوا أنهم بهذا الأصل ينصرون الإسلام، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل تسلط عليهم سلف الأمة وأئمتها بالتبديع والتضليل والتكفير والتجهيل، وتسلط عليهم خصومهم الدهرية وغيرهم بإلزامهم مخالفة المعقول، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزيادة في مخالفة المشروع والمعقول كما جرى للملحدين مع المبتدعين.

وأيضا، فقول القائل: إنه ليس بعض ذلك خيرًا من بعض بل بعضه أكثر ثوابًا، رد لخبر الله الصريح، فإن الله يقول: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [3]، فكيف يقال: ليس بعضه خيرًا من بعض؟ وإذا كان الجميع متماثلًا في نفسه، امتنع أن يكون فيه شيء خيرًا من شيء. وكون معنى الخير أكثر ثوابا مع كونه متماثلا في نفسه، أمر لا يدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازًا، فلا يجوز حمله عليه، فإنه لا يعرف قط أن يقال: هذا خير من هذا وأفضل من هذا مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابد مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأما إذا قدر أن مختارًا جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه، فهذا لا يعقل وجوده، ولو عقل لم يقل: إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لا يتصف به أحدهما البتة.

وأيضا، ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها»، فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلًا، فمن قال: إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثل لها من كل وجه، فقد ناقض الرسول في خبره.

وأيضا، فقد تقدم قوله: { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [4]، ومع تماثل كل حديث لله، فليس القرآن أحسن من التوراة والإنجيل. وكذلك تقدم ما خص الله به القرآن من الأحكام.

فإن قيل: نحن نسلم لكم أن الله خص بعض كلامه من الثواب والأحكام بما لا يشركه فيه غيره، لكن هذا عندنا بمحض مشيئته، لا لاختصاص ذلك الكلام بوصف امتاز به عن الآخر، قيل: أولًا: هذا مخالف لصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع مخالفته الصريح المعقول، ثم هذا مبني على أصل الجهمية والقدرية، وهو أن القادر المختار يرجح أحد يتكلم ولا أن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكنًا من المتماثلين على الآخر بلا مرجح. وهؤلاء لما جوزوا هذا قالوا: إن الرب لم يزل معطلًا، وما كان يمكن في الأزل أن غير حدوث شيء، اقتضى انتقالهما من الامتناع إلى الإمكان، وقالوا: إن القادر المرجح يرجح بلا مرجح.

ثم قالت الجهمية: والعبد ليس بقادر في الحقيقة، فلا يرجح شيئا، بل الله هو الفاعل لفعله، وفعله هو نفس فعل الرب. وقالت القدرية: العبد قادر تام القدرة يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا سبب حادث، ولا حاجة إلى أن يحدث الله ما به يختص به فعل أحدهما، بل هو مع أن نسبته إلى الضدين: الإيمان والكفر سواء يرجح أحدهما بلا مرجح لا من الله ولا من العبد، ولا يفتقر إلى إعانة الله ولا إلى أن يجعله شائيًا، ولا يجعله يقيم الصلاة، ولا يجعله مسلمًا. ومعلوم بالعقول خلاف هذا، والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكن المدح في هذا الكلام معناه أنه مطلق المشيء ة لا معوق له إذا أراد شيئًا، كما قال النبي ﷺ: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مُكْرِه له». فبين ﷺ أنه لا يفعل إلا بمشيئته، ليس له مكره حتى يقال له: افعل إن شئت، ولا يفعل إن لم يشأ.

فهو سبحانه إذا أراد شيئًا؛ كان قادرًا عليه لا يمنعه منه مانع. لا يعني بذلك أنه يفعل لمجرد مشيء ة ليس معها حكمة، بل يفعل عندهم ما وجود فعله وعدمه بالنسبة إليه سواء من كل وجه، فإن هذا ليس بمدح، بل المعقول من هذا أنه صفة ذم، فمن فعل لمجرد إرادته الفعل من غير حكمة لفعله ولا تضمن غاية مجردة كان ألا يفعل خيرًا له. وقد ذم الله سبحانه في كتابه من نسبه إلى هذا فقال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [5]، وقال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [6]، قال المفسرون: العبث: أن يعمل عملًا لا لحكمة، وهو جنس من اللعب. وقال: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [7]، وقال: { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [8]. قال المفسرون وأهل اللغة: السدي: المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى، كالذي يترك الإبل سدى مهملة. وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } [9]، وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } [10].

وقد بين سبحانه الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه، وبين من يحمده ويكرمه من أوليائه، ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه، وأنهم مختلفون لا يجوز التسوية بينهما، وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له، فقال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } [11]، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [12]، وقال تعالى: { امْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [13]، فبين أن هذا الحكم سيئ في نفسه ليس الحكم به مساويًا للحكم بالتفاضل. ثم قال: { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [14]، فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم أحدًا فينقص من حسناته شيئا، بل كما قال: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [15].

وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدًا من خلقه، فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره، فقال تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [16]، وقال تعالى: { لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [17]، وقال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [18]،

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا». وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم، وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جري بها القدر ليس بظلم، فإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيره بسيئاته وانتصف للمظلوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلمًا منه باتفاق العقلاء، بل ذلك أمر محمود منه، ولا يقول أحد: إن الظالم معذور لأجل القدر. فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين، كيف يكون ذلك ظلمًا منه لأجل القدر؟! وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له، وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له، كان ذلك عدلا منه وحكمة، فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولم يجعل المتقين كالفجار، ولا المسلمين كالمجرمين، والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب؛ ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث، كما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ: «إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة»، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وكذلك من قابلهم فنفي حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة، وما حرمه على نفسه من الظلم، وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس، واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين، كقوله تعالى: { وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [19]، وقوله تعالى: { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [20]، ونحو ذلك، فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان إمام غلاة المجبرة وكان ينكر رحمة الرب، ويخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟! يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح، لا لحكمة ولا رحمة.

ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون؛ لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم، وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [21]، وقد وصفه الله - تعالى بقوله: { وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [22]، فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر، ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث.

ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به، والمنكر لا معنى له إلا ما حرم، لكان هذا كقول القائل: يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم. وهذا كلام لا فائدة فيه، فضلًا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره. ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك، وكل نبي بعث فهذه حاله. وقد قال تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [23]، فَعُلِم أن الطيب وصف للعين، وأن الله قد يحرمها مع ذلك عقوبة للعباد، كما قال تعالى لما ذكر ما حرمه على بني إسرائيل: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [24]، وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [25] فلو كان معنى الطيب هو ما أحل، كان الكلام لا فائدة فيه، فعلم أن الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان.

وليس المراد به مجرد التِذَاذ الأكل، فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منه، ولا المراد به التِذَاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته، فإن مجرد كون أمة من الأمم تعودت أكله وطاب لها، أو كرهته لكونه ليس في بلادها لا يوجب أن يحرم الله على جميع المؤمنين ما لم تعتده طباع هؤلاء، ولا أن يحل لجميع المؤمنين ما تعودوه. كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه الله تعالى؟! وقد قيل لبعض العرب: ما تأكلون؟ قال: ما دب ودرج، إلا أم حبين. فقال: ليهن أم حبين العافية. ونفس قريش كانوا يأكلون خبائث حرمها الله، وكانوا يُعَافُون مطاعم لم يحرمها الله. وفي الصحيحين، عن النبي ﷺ أنه قدم له لحم ضَبٍّ فرفع يده ولم يأكل، فقيل: أحرام هو يارسول الله؟ قال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه». فعلم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبًا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم.

وأيضا، فإن النبي ﷺ وأصحابه لم يحرم أحد منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلته العرب، وقوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [26]، إخبار عنه أنه سيفعل ذلك، فأحل النبي ﷺ الطيبات وحرم الخبائث مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فإنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس والغاذي شبيه بالمغتذي صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم وهو البغي والعدوان، كما حرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي ﷺ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». ولهذا كان شهر رمضان إذا دخل صفدت الشياطين؛ لأن الصوم جنة.

فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تفسد العقول والأخلاق، فأباح الله للمتقين الطيبات التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها، وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة. ومن حرمها كالرهبان فقد تعدى حدود الله فاستحق العقوبة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [27]، وفي الحديث الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»، وفي حديث آخر: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر»، وقال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [28] أي: عن شكره، فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه وعما حرمه عليه: هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [29]، فنهاهم عن تحريم الطيبات. كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل الله هذه الآية. وفي الصحيحين أن رجالًا من الصحابة قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأقوم لا أنام. وقال آخر: أما أنا فلا أقرب النساء. وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فقال النبي ﷺ: «ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا.. لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني». ولبسط هذه الأمور موضع آخر.

والمقصود هنا أن الله بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا } [30]، فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي، وأن ذلك علة للنهي عنها، وقوله: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } [31]، فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك وتنزيهه عن ذلك، فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى الله الأمر به، ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده، وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم، بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضته حكمته.

وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر الله بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل الله ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة، ونحو ذلك مما يقولونه، كقولهم: إن كلام الله كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض، ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ. والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } [32]، وقول النبي ﷺ لأُبي: «أي آية في كتاب الله أعظم؟ »، وقوله في الفاتحة: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها»، ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه.

والنبي ﷺ سأل أبيًا: «أي آية في كتاب الله أعظم؟ » فأجابه أبي بأنها آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: «ليَهَنك العلم أبا المنذر». ولم يستشكل أُبي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي ﷺ بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات، وكذلك قوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [33].

وما رأيتهم تنازعوا في تفسير { بِخَيْرٍ مِّنْهَا }، فإن هذه الآية فيها قراءتان مشهورتان: قراءة الأكثرين: { أَوْ نُنسِهَا } من أنساه ينسيه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: { أو ننسأها } بالهمز من نسأه ينسأه. فالأول من النسيان، والثاني من نسأ إذا أخر. قال أهل اللغة: نَسَأْتُةُ نَسأ: إذا أَخَّرْتُهُ. وكذلك أنسأته، يقال: نسأته البيع وأنسأته. قال الأصمعي: أنسأ الله في أجله ونسأ في أجله بمعنى. ومن هذه المادة بيع النسيئة. ومن كلام العرب: من أراد النَّسَاء ولا نَسَاء، فليبكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل من غشيان النِّساء.

فأما القراءة الأولى فمعناها ظاهر عند أكثر المفسرين، قالوا: المراد به ما أنساه الله من القرآن كما جاءت الآثار بذلك، فإن ما يرفع من القرآن إما أن يكون رفعًا شرعيًا بإزالته من القلوب وهو الإنساء، فأخبر تعالى أن ما ينسخه أو ينسيه، فإنه يأتي بخير منه أو مثله، بين ذلك فضله ورحمته لعباده المؤمنين، فإنه قال قبل ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [34]، فنهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به، وأخبر أنهم لحسدهم ما يودون أن الله ينزل عليه شيئا من الكتاب والحكمة، ثم أخبر بنعمته على المؤمنين، فإنه قد كان بعض القرآن ينسخ وبعضه ينسى كما جاءت الآثار بذلك وما أنساه سبحانه هو مما نسخ حكمه وتلاوته، بخلاف المنسوخ الذي يتلى وقد نسخ ما نسخ من حكمه أو نسخ تلاوته ولم ينس، وفي النسخ والإنساء نقص ما أنزله على عباده.

فبين سبحانه أنه لا نقص في ذلك، بل كل ما نسخ أو ينسى فإن الله يأتي بخير منه أو مثله، فلا يزال المؤمنون في نعمة من الله لا تنقص بل تزيد، فإنه إذا أتي بخير منها زادت النعمة، وإن أتي بمثلها، كانت النعمة باقية، وقال تعالى: { أَوْ نُنسِهَا } [35]، فأضاف الإنساء إليه، فإن هذا الإنساء ليس مذمومًا، بخلاف نسيان ما يجب حفظه، فإنه مذموم فإن هذا إنساء لما رفعه الله، وأما نسيان ما أمر بحفظه فمذموم، قال تعالى: { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [36]، وهذا النسيان وإن كان متضمنًا لترك العمل بها مع حفظها فإذا نسيت الآيات بالكلية حتى لا يعرف ما فيها، كان ذلك أبلغ في ترك العمل بها فكان هذا مذموما. قال النبي ﷺ في الحديث الذي في السنن: «من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم»، ولهذا كره النبي ﷺ أن يضيف الإنسان النسيان إلى نفسه، فقال في الحديث المتفق عليه: «بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو أنسي. استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من النعم من عقلها».

ثم منهم من جعل { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [37] هو ما ترك تلاوته ورسمه ونسخ حكمه، وما أنسي هو ما رفع فلا يتلي. ومنهم من أدخل في الأول ما نسخت تلاوته وإن كان محفوظًا. فالأول قول مجاهد وأصحاب عبد الله بن مسعود، وروى الناس بالأسانيد الثابتة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال: نثبت خطها ونبدل حكمها، قال: وهو قول عبد الله بن مسعود { أَوْ نُنسِهَا } أي: نمحوها فإن ما نسي لم يترك. وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي ﷺ الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [38]. وكذلك روي عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن كعب وقتادة وعكرمة. وكان سعد بن أبي وقاص يقرأها { أوْ نُنسِهَا } بالخطاب، أي: تنسها أنت يامحمد، وتلا قوله: { سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى } [39]، وقوله: { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [40].

وقد جاءت الآثار بأن أحدهم كان يحفظ قرآنًا ثم ينساه، ويذكرون ذلك للنبي ﷺ فيقول: »إنه رفع«، مثل ما صح من حديث الزهري، حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلًا كان معه سورة فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله ﷺ، فقال بعضهم: ذهبت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها. وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك. وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: «إنها نسخت البارحة».

وقوله: { أو ننسأها } النسأ بمعنى التأخير، وفيه قولان للسلف: القول الأول يروى عن طائفة، قال السدي: [41] قال: نسخها: قبضها { أو ننسأها } فنتركها لا ننسخها { نأت بخير } من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وكذلك في تفسير الوالبي عن ابن عباس: { ما ننسخ من آية أو ننسأها } يقول: ما نبدل من آية أو نتركها فلا نرفعها من عندكم { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [42]، روي ذلك عن الربيع بن أنس. ومن الناس من فسر بهذا المعنى القراءة الأولى فقالوا: معنى ننسها: نتركها عندكم، فإن النسيان هو الترك. وقال الأزهري ننسها: نأمر بتركها. يقال: أنسيت الشيء، وأنشد:

إني علي عقبة أقضيها ** لست بناسيها ولا منسيها

أي: ولا آمر بتركها.

والقول الثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها.

والصواب القول الأوسط، روى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله: { ما ننسخ من آية أو ننسأها }، أي: نؤخرها. وبإسناده المعروف عن أبي العالية { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا يعمل بها { أو ننسأها }، أي: نرجئها عندنا، وفي لفظ عن أبي العالية: نؤخرها عندنا. وعن عطاء: نؤخرها. وقد ذكر قول ثالث عن السلف وهو قول رابع أن المعنى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } وهو ما أنزلناه إليكم ولا نرفعه { أو ننسأها }، أي: نؤخر تنزيله فلا ننزله. ونقل هذا بعضهم عن سعيد بن المسيب وعطاء. أما { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فهو ما قد نزل في القرآن، جعلاه من النسخة { أو ننسأها }، أي: نؤخرها فلا يكون، وهو ما لم ينزل.

وهذا فيه نظر؛ فإن ابن أبي حاتم روى بالإسناد الثابت عن عطاء { مّا نّنًسّخً مٌنً آيّةُ } : أما ما نسخ فهو ما ترك من القرآن بالكاف وكأنه تَصَحَّف على من ظنه نزل من النزول، فإن لفظ ترك فيه إبهام. ولذلك قال ابن أبي حاتم: يعني ترك لم ينزل على محمد، وليس مراد عطاء هذا، وإنما مراده أنه ترك مكتوبًا متلوًا ونسخ حكمه كما تقدم عن غيره، وما أنسأه هو ما أخره لم ينزله: وسعيد وعطاء من أعلم التابعين لا يخفى عليهما هذا. وقد قرأ ابن عامر: » ما ننسخ من آية« وزعم أبو حاتم أنه غلط، وليس كما قال، بل فسرها بعضهم بهذا المعنى فقال: ما ننسخ: نجعلكم تنسخونها كما يقال: أكتبته هذا. وقيل: أنسخ جعله منسوخًا، كما يقال: قبره إذا أراد دفنه، وأقبره، أي: جعل له قبرًا. وطرده: إذا نفاه، وأطرده: إذا جعله طريدًا. وهذا أشبه بقراءة الجمهور.

والصواب: قول من فسر { أو ننسأها }، أي: نؤخرها عندنا فلا ننزلها. والمعنى: أن ما ننسخه من الآيات التي أنزلناها. أو نؤخر نزوله من الآيات التي لم ننزلها بعد { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، فكما أنه يعوضهم من المرفوع يعوضهم من المنتظر الذي لم ينزله بعد إلى أن ينزله، فإن الحكمة اقتضت تأخير نزوله فيعوضهم بمثله أو خير منه في ذلك الوقت إلى أن يجيء وقت نزوله فينزله أيضا مع ما تقدم ويكون ما عوضه مثله أو خيرًا منه قبل نزوله. وأما ما أنزله إليهم ولم ينسخه، فهذا لا يحتاج إلى بدل، ولو كان كل ما لم ينسخه الله يأت بخير منه أو مثله، لزم إنزال مالا نهاية له.

وكذلك إن قدر أن المراد يؤخر نسخه إلى وقت ثم ينسخه، فإنه ما دام عندهم لم يحتج إلى بدل يكون مثله أو خيرًا منه، وإنما البدل لما ليس عندهم مما أنسوه أو أخر نزوله فلم ينزله بعد؛ ولهذا لم يجعل البدل لكل ما لم ينزله، بل لما نسأه فأخر نزوله؛ إذ لو كان كل ما لم ينزل يكون له بدل، لزم إنزال ما لا نهاية له، بل ما كان يعلم أنه سينزله وقد أخر نزوله يكونون فاقديه إلى حين ينزل، كما يفقدون ما نزل ثم نسخ، فيجعل سبحانه لهذا بدلًا ولهذا بدلًا. وأما ما أنزله وأقره عندهم وأخر نسخه إلى وقت، فهذا لا يحتاج إلى بدل، فإنه نفسه باق، ولو كان هذا مرادًا؛ لكان كل قرآن قد نسخه يجب أن ينزل قبل نسخه ما هو مثله أو خير منه، ثم إذا نسخه يأتي بخير منه أو مثله، فيكون لكل منسوخ بدلان: بدل قبل نسخه، وبدل بعد نسخه. والبدل الذي قبل نسخه لا ابتداء لنزوله، فيجب أن ينزل من أول الأمر، فيلزم نزول ذلك كله في أول الوحي، وهذا باطل قطعًا.

فإن قيل: فهذا يلزم فيما أخره فلم ينزله، فإن له بدلًا ولا وقت لنزول ذلك البدل، قيل: ما أخر نزوله وهو يريد إنزاله معلوم، والبدل الذي هو مثله أو خير منه يؤتى به في كل وقت، فإن القرآن ما زال ينزل، وقد تضمن هذا أن كل ما أخر نزوله فلابد أن ينزل قبله ما هو مثله أو خير منه، وهذا هو الواقع، فإن الذي تقدم من القرآن نزوله لم ينسخ كثير منه خير مما تأخر نزوله، كالآيات المكية، فإن فيها من بيان التوحيد والنبوة والمعاد وأصول الشرائع ما هو أفضل من تفاصيل الشرائع، كمسائل الربا، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك. فهذا الذي أخره الله مثل آية الربا فإنها من أواخر ما نزل من القرآن، وقد روي أنها آخر ما نزل، وكذلك آية الدَّينِ والعِدَّةِ والحيض ونحو ذلك، قد أنزل الله قبله ما هو خير منه من الآيات التي فيها من الشرائع ما هو أهم من هذا، وفيها من الأصول ما هو أهم من هذا.

ولهذا كانت سورة الأنعام أفضل من غيرها، وكذلك سورة يس ونحوها من السور التي فيها أصول الدين التي اتفق عليها الرسل كلهم - صلوات الله عليهم - ولهذا كانت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

مع قلة حروفها تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها التوحيد، فعلم أن آيات التوحيد أفضل من غيرها، وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب، كما دل عليه قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [43]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»، وسورة الحجر مكية بلا ريب، وفيها كلام مشركي مكة وحاله معهم، فدل ذلك على أن ما كان الله ينسأه فيؤخر نزوله من القرآن، كان ينزل قبله ما هو أفضل منه، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }

مكية بلا ريب، وهو قول الجمهور. وقد قيل: إنها مدنية، وهو غلط ظاهر.

وكذلك قول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب. ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال: إنها مكية معه زيادة علم. وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

، أكثرهم على أنها مكية. وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن الله أنزلها بمكة أولًا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخري. وهذا مما ذكره طائفة من العلماء وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك.

فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقًا. والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. والواحد منا قد يسأل عن مسألة فيذكر له الآية أو الحديث، ليبين له دلالة النص على تلك المسألة وهو حافظ لذلك، لكن يتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب.

فقد تبين أن البدل لما أخر نزوله بخلاف ما كان عندهم لم ينسخ، فإن هذا لا بدل له، ولو قدر أنه سينسخ فإنه ما دام محكما، لم يكن بدله خيرًا منه. وكذلك البدل عن المنسوخ يكون خيرًا منه. وأكثر السلف أطلقوا لفظ { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } [44] كما في القرآن، ولم يستشكل ذلك أحد منهم. وفي تفسير الوالبي: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وعن قتادة: { نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى. وهذان لم يستشكلا كونها خيرًا من الأولى، بل بينا وجه الفضيلة، كما تقدم من أن الكلام الأمري يتفاضل بحسب المطلوب، فإذا كان المطلوب أنفع للمأمور، كان طلبه أفضل، كما أن رحمة الله التي سبقت غضبه هي أفضل من غضبه. فما قالاه تقرير للخيرية لا نفي لها.

فإن قيل: فآية الكرسي قد ثبت أنها أعظم آية في كتاب الله، وإنما نزلت في سورة البقرة وهي مدنية بالاتفاق فقد أخر نزولها ولم ينزل قبلها ما هو خير منها ولا مثلها؟ قيل: عن هذا أجوبة:

أحدها: أن الله قال: { نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [45]، ولم يقل: بآية خير منها، بل يأتي بقرآن خير منها أو مثلها. وآية الكرسي وإن كانت أفضل الآيات فقد يكون مجموع آيات أفضل منها. والبقرة وإن كانت مدنية بالاتفاق، وقد قيل: إنها أول ما نزل بالمدينة، فلا ريب أن هذا في بعض ما نزل، وإلا فتحريم الربا إنما نزل متأخرًا. وقوله: { وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } [46] من آخر ما نزل. وقوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [47]، نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق العلماء، وقد كانت سورة الحشر قبل ذلك، فإنها نزلت في بني النضير باتفاق الناس، وقصة بني النضير كانت متقدمة على الحديبية، بل على الخندق باتفاق الناس، وإنما تأخر عن الخندق أمر بني قريظة، فهم الذين حاصرهم النبي ﷺ عقب الخندق، وأما بنو النضير، فكان أجلاهم قبل ذلك باتفاق العلماء. وكذلك سورة الحديد مدنية عند الجمهور، وقد قيل: إنها مكية وهو ضعيف؛ لأن فيها ذكر المنافقين وذكر أهل الكتاب، وهذا إنما نزل بالمدينة، لكن يمكن أنها نزلت قبل كثير من البقرة.

ففي الجملة، نزول أول الحديد وآخر الحشر قبل آية الكرسي ممكن، والأنعام ويس وغيرها نزل قبل آية الكرسي بالاتفاق.

الجواب الثاني: أنه تعالى إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها، أتي بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [48]، فإن هذه الآية جملة شرطية تضمنت وعده أنه لابد أن يأتي بذلك وهو الصادق الميعاد، فما نسخه بعد هذه الآية، أو أنسأ نزوله مما يريد إنزاله، يأت بخير منه أو مثله. وأما ما نسخه قبل هذه أو أنسأه، فلم يكن قد وعد حينئذ أنه يأتي بخير منه أو مثله. وبهذا أيضا يندفع الجواب عن الفاتحة، فإنه لا ريب أنه تأخر نزولها عن سورة { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وهي أفضل منها. فعلم أنه قد يتأخر إنزال الفاضل، وأنه ليس كل ما تأخر نزوله نزل قبله مثله أو خير منه. لكن إذا كان الموعود به بعد الوعد، لم يرد هذا السؤال.

يدل على ذلك قوله: { مَا نَنسَخْ }، فإن هذا الفعل المضارع المجزوم إنما يتناول المستقبل، وجوازم الفعل إنْ وأخواتها ونواصبه تخلصه للاستقبال.

وقد يجاب بجواب ثالث: وهو أن يقال: ما نزل في وقته كان خيرًا لهم وإن كان غيره خيرًا لهم في وقت آخر، وحينئذ فيكون فضل بعضه على بعض على وجهين: لازم كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .

وفضل عارض بحيث تكون هذه أفضل في وقت وهذه أفضل في وقت آخر، كما قد يقال في آية التخيير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية ومع آية إيجاب الصوم عزما، وهذا كما أن الأفعال المأمور بها كل منها في وقته أفضل، فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل، وبعد النسخ الصلاة إلى الكعبة أفضل.

وعلى ما ذكر فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، بل هي المنصوصة عنه صريحًا ألا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، وعليها عامة أصحابه؛ وذلك لأن الله قد وعد أنه لابد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير، ووعد بأن ما أنساه المؤمنين فهو كذلك، وأن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك، وهذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع، أو آخر مثله، أو خير منه، ولو نسخ بالسنة، فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه، فهو خلاف ما وعد الله. وإن قيل: بل يأتي بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه وبين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك وهو خلاف مقصود الآية، فإن مقصودها أنه لابد من المرفوع أو مثله أو خير منه.

وأيضا، فقوله: { نَأْتِ } [49] لم يرد به بعد مدة، فإن الذي نسأه وهو يريد إنزاله قد علم أنه ينزله بعد مدة، فلما أخبر أن ما أخره يأتي بمثله أو خير منه قبل نزوله، علم أنه لا يؤخر الأمر بلا بدل، فلو جاز أن يبقى مدة بلا بدل، لكان ما لم ينزل أحق بألا يكون له بدل من المنسوخ، فلما كان ذاك قد حصل له بدل قبل وقت نزوله لتكميل الأنعام، فلأن يكون البدل لما نسخ من حين نسخ بَعْدُ أولى وأحرى؛ ولأنه قد علم أن القرآن نزل شيئا بعد شيء، فلو كان ما ينزله بدلًا عن المنسوخ يؤخره لم يعرف أنه بدل، ولم يتميز البدل من غيره، ولم يكن لقوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فائدة إلا كالفائدة المعلومة لو لم ينسخ شيء.

غاية ما يقال: إنه لو لم ينسخ شيء، لجاز ألا ينزل بعد ذلك شيء، وإذا نسخ شيء، فلابد من بدله ولو بعد حين. وهذا مما يعتقدونه، فإنهم قد اعتادوا نزول القرآن عند الحوادث والمسائل والحاجة، فما كانوا يظنونه إذا نسخت آية ألا ينزل بعدها شيء، فإنها لو لم تنسخ، لم يظنوا ذلك، فكيف يظنون إذا نسخت؟! الثاني: أنه إذا كان قد ضمن لهم الإتيان بالبدل عن المنسوخ، علم أن مقصوده أنه لا ينقصهم شيء مما أنزله، بل لابد من مثل المرفوع أو خير منه، ولو بقوا مدة بلا بدل لنقصوا.

وأيضا، فإن هذا وعد معلق بشرط، والوعد المعلق بشرط يلزم عقبه، فإنه من جنس المعاوضة وذلك مما يلزم فيه أداء العوض على الفور إذا قبض المعوض، كما إذا قال: ما ألقيت من متاعك في البحر فعلى بدله، وليس هذا وعدًا مطلقًا كقوله: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [50] ؛ ولهذا يفرق بين قوله: والله لأعطينك مائة، وبين قوله: والله لا آخذ منك شيئا إلا أعطيتك بدله، فإن هذا واجب على الفور.

ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا. وكذلك قول على رضي الله عنه للقاص: هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟ فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن، لوجب أن يذكر ذلك أيضا.

وأيضا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الكلام والرأي، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا علم للعقل به، وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلًا مختلفين في وقوعه شرعًا، وإذا كان كذلك، فهذا الخبر الذي في الآية دليل على امتناعها شرعًا.

وأيضا، فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ، قاض عليه، مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرًا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنًا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق، وإقرار ما أقره، ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب، لزم أن تكون مثله أو أفضل منه.

وأيضا، فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث، كما اتفق على ذلك السلف، قال تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [51]. والفرائض المقدرة من حدوده؛ ولهذا ذكر ذلك عقب ذكر الفرائض، فمن أعطي صاحب الفرائض أكثر من فرضه، فقد تعدى حدود الله، بأن نقص هذا حقه، وزاد هذا على حقه، فدل القرآن على تحريم ذلك وهو الناسخ.

هامش

  1. [الزمر: 23]
  2. [البقرة: 106]
  3. [البقرة: 106]
  4. [الزمر: 23]
  5. [ص: 27]
  6. [المؤمنون: 115، 116]
  7. [الأنبياء: 16،، 17]
  8. [القيامة: 36]
  9. [الأنعام: 73]
  10. [الحجر 85، 86]
  11. [الحجر: 85، 86]
  12. [ص: 82]
  13. [الجاثية: 21]
  14. [الجاثية: 22]
  15. [الكهف: 49]
  16. [طه: 112]
  17. [ق: 28،، 29]
  18. [هود 100، 101]
  19. [البقرة: 164]
  20. [الأعراف: 57]
  21. [الأنبياء: 107]
  22. [الأعراف: 156، 157]
  23. [النساء: 160]
  24. [الأنعام: 146]
  25. [المائدة: 4]
  26. [الأعراف: 157]
  27. [البقرة: 172]
  28. [التكاثر: 8]
  29. [المائدة: 87]
  30. [الإسراء: 32]
  31. [الأعراف: 28]
  32. [الزمر: 23]
  33. [البقرة: 106]
  34. [البقرة: 104، 105]
  35. [البقرة: 106]
  36. [طه: 162]
  37. [البقرة: 106]
  38. [البقرة: 106]
  39. [الأعلى: 6]
  40. [الكهف: 24]
  41. [ما ننسخ من آية]
  42. [البقرة: 106]
  43. [الحجر: 87]
  44. [البقرة: 106]
  45. [البقرة: 106]
  46. [البقرة: 218]
  47. [البقرة: 196]
  48. [البقرة: 106]
  49. [البقرة: 106]
  50. [الفتح: 27]
  51. [النساء: 13، 14]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع عشر
سورة الإخلاص | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عما ورد في سورة قل هو الله أحد أنها تعدل ثلث القرآن | فصل في بيان هل كلام الله بعضه أفضل من بعض أو لا | أسماء المصادر | فصل في دلالة النصوص النبوية والآثار على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض | فصل في النصوص والآثار في تفضيل كلام الله | فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض | فصل في مسألة التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدا | تنازع الذين قالوا كلام الله غير مخلوق | فصل في أصناف الناس في مقام حكمة الأمر والنهي | سئل شيخ الإسلام في تفسير قول النبي في سورة الإخلاص إنها تعدل ثلث القرآن | سئل عمن يقرأ القرآن، هل يقرأ سورة الإخلاص مرة أو ثلاثا وما السنة في ذلك | فصل في تفسير قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد | فصل في قول الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد | فصل في أن التولد لابد له من أصلين | فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين | فصل فيما يبين أن ما نزه الله نفسه ونفاه عنه بقوله لم يلد ولم يولد | فصل في الذين كانوا يقولون من العرب إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن | فصل في ما يقوله الفلاسفة القائلون بأن العالم قديم صدر عن علة موجبة بذاته | فصل في الاحتجاج بسورة الإخلاص من أهل الكلام | مسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة | فصل في الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ المركب ونحو ذلك | كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية | زعم الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم | فصل في بيان أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة | فصل في المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند | من أسس دين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدا فقط | سورة الفلق | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الفلق | سورة الناس | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الناس | فصل في بيان بعض الاستعاذة كما جاءت بذلك الأحاديث | فصل في تفسير سورة الفلق والناس | فصل في ظهور المناسبة بين السورتين