→ فصل في وجوب إثبات العلو لله تعالى | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في معنى الحقيقة ابن تيمية |
فصل معنى كون ذلك حقيقة ← |
فصل في معنى الحقيقة
سئل شيخ الإسلام ركن الشريعة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [1]، وقوله ﷺ: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا»: هل الاستواء والنزول حقيقة أم لا؟ وما معنى كونه حقيقة؟ وهل الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له كما يقوله الأصوليون أم لا؟ وما يلزم من كون آيات الصفات حقيقة؟
فأجاب:
الحمد الله رب العالمين، القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات، التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ؛ فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات. سمى نفسه حيّا، عليمًا، حكيمًا، قديرًا، سميعًا، بصيرًا، غفورًا، رحيمًا، إلى سائر أسمائه الحسنى.
قال الله تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} [2]، وقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [3]، وقال: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [4]، وقال: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [5] أي: بقوة، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [6].
وقال عن ملائكته: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [7]، وقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [8]، وقال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [9]، وقال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [10]، وقال: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} [11]، وقال تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} [12]، وقال: {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله} [13]، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [14]، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [15]، وقال: {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} [16]، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [17]، وقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [18]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [19]، وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [20]، وأمثال ذلك، فالقول في بعض هذه الصفات كالقول في بعض.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [21]. ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقال نعيم بن حماد الخزاعي: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيهًا.
ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين: إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد على أهل النفي والتعطيل، فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدمًا.
وقد اتفق جميع أهل الإثبات على أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، مريد حقيقة، متكلم حقيقة، حتى المعتزلة النفاة للصفات قالوا: إن الله متكلم حقيقة؛ كما قالوا مع سائر المسلمين: إن الله عليم حقيقة، قدير حقيقة، بل ذهب طائفة منهم كأبي العباس الناشي إلى أن هذه الأسماء حقيقة لله مجاز للخلق.
وأما جمهور المعتزلة مع المتكلمة الصفاتية من الأشعرية الكلابية، والكَرَّامية، والسالمية، وأتباع الأئمة الأربعة من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، والصوفية فإنهم يقولون: إن هذه الأسماء حقيقة للخالق سبحانه وتعالى وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة أيضا. ويقولون: إن له علمًا حقيقة، وقدرة حقيقة، وسمعًا حقيقة، وبصرًا حقيقة.
وإنما ينكر أن تكون هذه الأسماء حقيقة النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم من المتفلسفة الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى، ويقولون: ليس بحي ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا موجود، ولا معدوم، فهؤلاء ومن ضاهاهم ينفون أن تكون له حقيقة! ثم يقول بعضهم: إن هذه الأسماء لبعض المخلوقات، وأنها ليست له حقيقة ولا مجازًا.
وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة؛ لأنهم ألحدوا في أسماء الله وآياته وقد قال الله تعالى: {وَلله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [22]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [23]، وهؤلاء شر من المشركين الذين أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [24]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [25].
فإن أولئك المشركين إنما أنكروا اسم الرحمن فقط، وهم لا ينكرون أسماء الله وصفاته؛ ولهذا كانوا عند المسلمين أكفر من اليهود والنصارى.
ولو كانت أسماء الله وصفاته مجازًا يصح نفيها عند الإطلاق، لكان يجوز أن الله ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير، ولا سميع، ولا بصير، ولا يحبهم ولا يحبونه، ولا استوى على العرش، ونحو ذلك.
ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال أبو عمر بن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع]</ref> من الجهمية والمعتزلة والخوارج فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود لا مثبتون. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة.
وهذا الذي حكاه ابن عبد البر عن المعتزلة ونحوهم هو في بعض ما ينفونه من الصفات، وأما فيما يثبتونه من الأسماء والصفات كالحي والعليم والقدير والمتكلم فهم يقولون: إن ذلك حقيقة، ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة إنما أنكره لجهله مسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين، وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلًا للخالق. فيقال له: هذا باطل؛ فإن الله موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وليس هذا مثل هذا، والله تعالى له ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته كذوات المخلوقات.
وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد علم وسمع وبصر حقيقة، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم الله وسمعه وبصره، ولله كلام حقيقة، وللعبد كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين.
ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين؛ فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء.
والله تعالى يحمل العرش وحملته بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا. فمن ظن أن قول الأئمة: إن الله مستو على عرشه حقيقة، يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة، وسمع حقيقة، وبصر حقيقة، وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم.
هامش
- ↑ [ طه: 5]
- ↑ [طه: 7]
- ↑ [ البقرة: 255]
- ↑ [الذاريات: 58]
- ↑ [الذاريات: 47]
- ↑ [الأعراف: 156]
- ↑ [غافر: 7]
- ↑ [البينة: 8]
- ↑ [ التوبة: 72]
- ↑ [ الفتح: 6]
- ↑ [الأعراف: 152]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [ طه: 46]
- ↑ [النساء: 134]
- ↑ [ص: 75]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [البقرة: 210]
- ↑ [الفجر: 22]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [فصلت: 40]
- ↑ [الفرقان: 60]
- ↑ [الرعد: 30]