الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/فصل في علمنا بصفاته تعالى وجهلنا بكيفيتها

فصل في علمنا بصفاته تعالى وجهلنا بكيفيتها

إذا تبين هذا فقول السائل: كيف ينزل؟ بمنزلة قوله: كيف استوى؟ وقوله: كيف يسمع؟ وكيف يبصر؟ وكيف يعلم ويقدر؟ وكيف يخلق ويرزق؟ وقد تقدم الجواب عن مثل هذا السؤال من أئمة الإسلام مثل: مالك بن أنس، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ فإنه قد روى من غير وجه أن سائلا سأل مالكا عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [1]: كيف استوى؟ فأطرق مالك حتى علاه الرُّحَضَاء ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء؛ ثم أمر به فأخرج.

ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر الأئمة، قولهم يوافق قول مالك: في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته، ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب، فنعلم معنى الاستواء، ولا نعلم كيفيته، وكذلك نعلم معنى النزول، ولا نعلم كيفيته، ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة، ولا نعلم كيفية ذلك، ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك، ولا نعلم كيفية ذلك.

وأما سؤال السائل: هل يخلو منه العرش أم لا يخلو منه؟ وإمساك المجيب عن هذا لعدم علمه بما يجيب به فإنه إمساك عن الجواب بما لم يعلم حقيقته، وسؤال السائل له عن هذا إن كان نفيًا لما أثبته الرسول ﷺ، فخطأ منه، وإن كان استرشادًا، فحسن، وإن كان تجهيلًا للمسؤول، فهذا فيه تفصيل؛ فإن المثبت الذي لم يثبت إلا ما أثبته الرسول ﷺ ونفي علمه بالكيفية، فقوله سديد لا يرد عليه سؤاله، والمعترض الذي يعترض عليه بهذا السؤال، اعتراضه باطل؛ فإن ذلك لا يقدح في جواب المجيب.

وقول المسؤول: هذا قول مبتدع ورأى مخترع حيدة منه عن الجواب يدل على جهله بالجواب السديد، ولكن لا يدل هذا على أن نفي المعترض لما أخبر به الرسول حق، ولا على أن تأويله بنزول أمره ورحمته تأويل صحيح.

ومما يبين ذلك: أن هذا المعترض إما أن يقر بأن الله فوق العرش، وإما ألا يكون مقرًا بذلك. فإن لم يكن مقرًا بذلك، كان قوله: هل يخلو العرش منه أم لا يخلو؟ كلامًا باطلًا؛ لأن هذا التقسيم فرع ثبوت كونه على العرش، وإن قال المعترض: أنا ذكرت هذا التقسيم لأنفي نزوله وأنفي العلو؛ لأنه إن قال: يخلو منه العرش، لزم أن يخلو من استوائه على العرش وعلوه عليه، وألا يكون وقت النزول هو العلي الأعلى، بل يكون في جوف العالم والعالم محيط به. وإن قال: إن العرش لا يخلو منه، قيل له: فإذا لم يخل العرش منه لم يكن قد نزل، فإن نزوله بدون خلو العرش منه لا يعقل. فيقال لهذا المعترض : هذا الاعتراض باطل لا ينفعك؛ لأن الخالق سبحانه وتعالى موجود بالضرورة والشرع والعقل والاتفاق، فهو إما أن يكون مباينًا للعالم فوقه، وإما أن يكون مداخلًا للعالم محايثًا، وإما أن يكون لا هذا ولا هذا.

فإن قلت: إنه محايث للعالم بطل قولك، فإنك إذا جوزت نزوله وهو بذاته في كل مكان، لم يمتنع عندك خلو ما فوق العرش منه، بل هو دائمًا خال منه. لأنه هناك ليس عندك شيء، ثم يقال لك: وهل يعقل مع هذا أن يكون في كل مكان وأنه مع هذا ينزل إلى السماء الدنيا؟ فإن قلت: نعم، قيل لك: فإذا نزل، هل يخلو منه بعض الأمكنة أو لا يخلو؟ فإن قلت: يخلو منه بعض الأمكنة، كان هذا نظير خلو العرش منه. فإن قلت: لا يخلو منه مكان، كان هذا نظير كون العرش لا يخلو منه. فإن جوزت هذا، كان لخصمك أن يجوز هذا.

فقد لزمك على قولك ما يلزم منازعك، بل قولك أبعد عن المعقول؛ لأن نزول من هو فوق العالم أقرب إلى المعقول من نزول من هو حال في جميع العالم، فإن نزول هذا لا يعقل بحال، وما فررت منه من الحلول وقعت في نظيره، بل منازعك الذي يجوز أن يكون فوق العالم وهو أعظم عنده من العالم وينزل إلى العالم أشد تعظيمًا لله منك، ويقال له: هل يعقل موجودان قائمان بأنفسهما أحدهما محايث للآخر؟ فإن قال: لا، بطل قوله. وإن قال: نعم، قيل له: فليعقل أنه فوق العرش وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش، فإن هذا أقرب إلى العقل مما إذا قلت: إنه حال في العالم.

وإن قلت: إنه لا مباين للعالم ولا مداخل له. قيل لك: فهل يعقل موجودان قائمان بأنفسهما ليس أحدهما مباينًا للآخر ولا محايثًا له؟ فإن جمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة، فإذا قال: نعم يعقل ذلك، فيقال له: فإن جاز وجود موجود قائم بنفسه ليس هو مباينًا للعالم ولا محايثًا له، فوجود مباين للعالم ينزل إلى العالم ولا يخلو منه ما فوق العالم أقرب إلى المعقول؛ فإنك إن كنت لا تثبت من الوجود إلا ما تعقل له حقيقة في الخارج، فأنت لا تعقل في الخارج موجودين قائمين بأنفسهما ليس أحدهما داخلًا في الآخر ولا محايثًا له، وإن كنت تثبت ما لا تعقل حقيقته في الخارج، فوجود موجودين أحدهما مباين للآخر أقرب إلى المعقول، ونزول هذا من غير خلو ما فوق العرش منه أقرب إلى المعقول من كونه لا فوق العالم ولا داخل العالم، فإن حكمت بالقياس، فالقياس عليك لا لك، وإن لم تحكم به، لم يصح استدلالك على منازعك به.

وأما قول السائل: ليس هذا جوابي بل هو حَيْدَة عن الجواب، فيقال له: الجواب على وجهين: جواب معترض ناف لنزوله وعلوه، وجواب مثبت لنزوله وعلوه، وأنت لم تسأل سؤال مستفت، بل سألت سؤال معترض ناف. وقد تبين لك أن هذا الاعتراض ساقط لا ينفعك، فإنه سواء قيل: إنه يخلو منه العرش أو قيل: لا يخلو منه العرش، ليس في ذلك ما يصحح قولك: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا قولك إنه بذاته في كل مكان. وإذا بطل هذان القولان تعين الثالث، وهو: أنه سبحانه وتعالى فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وإذا كان كذلك، بطل قول المعترض.

هذا إن كان المعترض غير مقر بأنه فوق العرش، وقد سئل بعض أئمة نفاة العلو عن النزول، فقال: ينزل أمره. فقال له السائل: فممن ينزل؟ ما عندك فوق العالم شيء فممن ينزل الأمر؟ من العدم المحض ! فبهت.

وإن كان المعترض من المثبتة للعلو، ويقول: إن الله فوق العرش، لكن لا يقر بنزوله، بل يقول بنزول ملك أو يقول بنزول أمره الذي هو مأمور به، وهو مخلوق من مخلوقاته؛ فيجعل النزول مفعولًا محدثًا يحدثه الله في السماء، كما يقال مثل ذلك في استوائه على العرش، فيقال له: هذا التقسيم يلزمك فإنك إن قلت: إذا نزل يخلو منه العرش، لزم المحذور الأول، وإن قلت: لا يخلو منه العرش، أثبت نزولًا مع عدم خلو العرش منه، وهذا لا يعقل على أصلك.

وإن قال: إنما أثبت ذلك في بعض مخلوقاته، قيل له: أي شيء أثبته مع عدم فعل اختياري يقوم بنفسه كان غير معقول من هذا الخطاب؛ لا يمكن أن يراد به أصلًا، مع تحريف الكلم عن مواضعه، فجمعت بين شيئين: بين أن ما أثبته لا يمكن أن يعقل من خطاب الرسول ﷺ، وبين أنك حرفت كلام الرسول ﷺ. فإن قلت: الذي ينزل ملك. قيل: هذا باطل من وجوه:

منها: أن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [2]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [3].

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يُصَلُّون، وتركناهم وهم يصلون».

وكذلك ثبت في الصحيح: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين فُضْلً، يَتَتَبعون مجالس الذِّكر. فإذا مَرُّوا على قوم يذكرون الله تعالى ينادون: هَلُمُّوا إلى حاجتكم فَيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا». قال: «فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : ما يقول عبادي؟» قال: «فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك».

وفي رواية لمسلم: «إن لله ملائكة سيارة، فضلًا عن كتاب الناس، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا حتى يملؤوا ما بينهم وبين سماء الدنيا، فإذا تفرقوا، عرجوا أو صعدوا إلى السماء». قال: «فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك، ويسألونك». الحديث بطوله.

الوجه الثاني أنه قال فيه: «من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفرله؟». وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها ملك عن الله، بل الذي يقول الملك: ما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل أني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»، وذكر في البغض مثل ذلك.

فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطب، بل يقول: إن الله أمر بكذا أوقال كذا. وهكذا إذا أمر السلطان مناديًا ينادي فإنه يقول: يامعشر الناس، أمر السلطان بكذا، ونهى عن كذا، ورسم بكذا، لا يقول: أمرت بكذا، ونهيت عن كذا، بل لو قال ذلك بودر إلى عقوبته.

وهذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى عليه السلام بأنه أمر ملكًا فكلمه، فقال لهم أهل السنة: لو كلمه ملك لم يقل: {إِنَّنِي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [4]، بل كان يقول كما قال المسيح عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [5].

فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء تقول كما كان جبريل عليه السلام يقول لمحمد ﷺ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [3] ويقول: إن الله يأمرك بكذا ويقول كذا، لا يمكن أن يقول ملك من الملائكة: {إِنَّنِي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [4]، ولا يقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟»، ولا يقول: لا يسأل عن عبادي غيري، كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما، وسندهما صحيح أنه يقول: «لا أسأل عن عبادي غيري».

وهذا أيضا مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر مناديًا فينادي، فإن هذا إن كان ثابتًا عن النبي ﷺ، فإن الرب يقول ذلك، ويأمر مناديًا بذلك، لا أن المنادي يقول: «من يدعوني فأستجيب له؟»، ومن روى عن النبي ﷺ أن المنادي يقول ذلك، فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله ﷺ. فإنه مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي نقلته الأمة خلفًا عن سلف فاسد في المعقول، فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين، كما روى بعضهم [6] بالضم، وكما قرأ بعضهم: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} [7]، ونحو ذلك من تحريفهم اللفظ والمعنى.

وإن تأول ذلك بنزول رحمته أو غير ذلك، قيل: الرحمة التي تثبتها إما أن تكون عينً قائمة بنفسها، وإما أن تكون صفة قائمة في غيرها.

فإن كانت عينًا وقد نزلت إلى السماء الدنيا، لا يمكن أن تقول: من يدعوني فأستجيب له؟ كما لا يمكن الملك أن يقول ذلك.

وإن كانت صفة من الصفات، فهي لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من محل. ثم لا يمكن الصفة أن تقول هذا الكلام ولا محلها. ثم إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم تنزل إلينا، فأي منفعة لنا في ذلك؟

وإن قال: بل الرحمة ما ينزله على قلوب قوّام الليل في تلك الساعة، من حلاوة المناجاة والعبادة، وطيب الدعاء والمعرفة، وما يحصل في القلوب من مزيد المعرفة بالله والإيمان به وذكره وتجليه لقلوب أوليائه، فإن هذا أمر معروف يعرفه قوّام الليل، قيل له: حصول هذا في القلوب حق، لكن هذا ينزل إلى الأرض إلى قلوب عباده لا ينزل إلى السماء الدنيا، ولا يصعد بعد نزوله، وهذا الذي يوجد في القلوب يبقى بعد طلوع الفجر، لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب، هي من آثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى.

كما وصف نفسه بالنزول عَشِيَّة عَرَفَة في عدة أحاديث صحيحة، وبعضها في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وأنه عز وجل ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟»، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم عرفة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا يباهي بأهل عرفة الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتونى شُعْثًا غُبْرًا ضاحين من كل فَجّ عميق».[8] وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا يباهي بأهل عرفة الملائكة ويقول: انظروا إلى عبادي، أتونى شُعْثًا غُبْرًا» فوصف أنه يدنو عشية عرفة إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بالحجيج فيقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا ما أراد هؤلاء؟» فإنه من المعلوم أن الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه، لكن ليس هذا الذي في قلوبهم هو الذي يدنو إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بالحجيج.

والجهمية ونحوهم من المعطلة، إنما يثبتون مخلوقًا بلا خالق، وأثرًا بلا مؤثر، ومفعولًا بلا فاعل، وهذا معروف من أصولهم، وهذا من فروع أقوال الجهمية.

وأيضا، فيقال له: وصف نفسه بالنزول كوصفه في القرآن بأنه {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [9] وبأنه استوى إلى السماء وهي دخان، وبأنه نادى موسى وناجاه في البقعة المباركة من الشجرة، وبالمجيء والإتيان في قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [10]، وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [11].

والأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ في إتيان الرب يوم القيامة كثيرة، وكذلك إتيانه لأهل الجنة يوم الجمعة، وهذا مما احتج به السلف على من ينكر الحديث، فبينوا له أن القرآن يصدق معنى هذا الحديث، كما احتج به إسحاق بن راهويه على بعض الجهمية بحضرة الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان.

قال أبو عبد الله الرِّبَاطي: حضرت يومًا مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ فقال: نعم، فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال له الرجل: أثبته فوق، فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [10] فقال الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة ! فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة، من يمنعه اليوم؟

ثم بعد هذا، إذا نزل: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ هذه مسألة أخرى تكلم فيها أهل الإثبات.

فمنهم من قال: لا يخلو منه العرش، ونقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في رسالته إلى مُسَدَّد، وعن إسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم.

ومنهم من أنكر ذلك، وطعن في هذه الرسالة، وقال: راويها عن أحمد بن حنبل مجهول لا يعرف.

والقول الأول معروف عند الأئمة، كحماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا أحمد بن محمد المقدمي، ثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السُّرِّي حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء. ورواه ابن بطة في كتاب الإبانة فقال: حدثني أبو القاسم حفص بن عمر الأردبيلي، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء «ينزل الله إلى سماء الدنيا» أيتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء، وقال ابن بطة: وحدثنا أبو بكر النجاد، ثنا أحمد بن علي الأبار [12] ثنا علي بن خَشْرَم [13] قال: قال إسحاق بن راهويه: دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء، أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ قلت: نعم، رواها الثقات الذين يروون الأحكام. قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه. قال: نعم. قلت: ولم تتكلم في هذا؟

وقد رواها اللالكائي أيضا بإسناد منقطع، واللفظ مخالف لهذا. وهذا الإسناد أصح، وهذه والتي قبلها حكايتان صحيحتان رواتهما أئمة ثقات. فحماد بن زيد يقول: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء، فأثبت قربه إلى خلقه مع كونه فوق عرشه، وعبد الله بن طاهر وهو من خيار من ولي الأمر بخراسان كان يعرف أن الله فوق العرش، وأشكل عليه أنه ينزل، لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه العرش، فأقره الإمام إسحاق على أنه فوق العرش، وقال له: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ فقال له الأمير: نعم، فقال له إسحاق: لم تتكلم في هذا؟ يقول: فإذا كان قادرًا على ذلك لم يلزم من نزوله خلو العرش منه، فلا يجوز أن يعترض على النزول بأنه يلزم منه خلو العرش، وكان هذا أهون من اعتراض من يقول: ليس فوق العرش شيء، فينكر هذا وهذا.

ونظيره ما رواه أبو بكر الأثرم في السنة قال: حدثنا إبراهيم بن الحارث يعني العُبَادي قال: حدثني الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. أراد الفضيل بن عياض رحمه الله مخالفة الجهمي الذي يقول: إنه لا تقوم به الأفعال الاختيارية فلا يتصور منه إتيان، ولا مجيء، ولا نزول، ولا استواء، ولا غير ذلك من الأفعال الاختيارية القائمة به. فقال الفضيل: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما شاء. فأمره أن يؤمن بالرب الذي يفعل ما يشاء من الأفعال القائمة بذاته التي يشاؤها، لم يرد من المفعولات المنفصلة عنه.

ومثل ذلك ما يروى عن الأوزاعي وغيره من السلف، أنهم قالوا في حديث النزول: يفعل الله ما يشاء. قال اللالكائي: حدثنا المسير بن عثمان، حدثنا أحمد بن الحسين، ثنا أحمد بن علي الأبَّار، قال: سمعت يحيى بن مَعِين يقول: إذا سمعت الجهمي يقول: أنا أكفر برب ينزل، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يريد، فإن بعض من يعظمهم وينفي قيام الأفعال الاختيارية به كالقاضي أبي بكر، ومن اتبعه، وابن عَقِيل، والقاضي عياض، وغيرهم يحمل كلامهم على أن مرادهم بقولهم: يفعل ما يشاء أن يحدث شيئا منفصلًا عنه من دون أن يقوم به هو فعل أصلًا. وهذا أوجبه أصلان لهم:

أحدهما: أن الفعل عندهم هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فهم يفسرون أفعاله المتعدية، مثل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [14] وأمثاله: أن ذلك وجد بقدرته من غير أن يكون منه فعل قام بذاته، بل حاله قبل أن يخلق وبعد ما خلق سواء، لم يتجدد عندهم إلا إضافة ونسبة وهي أمر عدمي، لا وجودي، كما يقولون مثل ذلك في كونه يسمع أصوات العباد، ويرى أعمالهم وفي كونه كلم موسى وغيره، وكونه أنزل القرآن، أو نسخ منه ما نسخ، وغير ذلك؛ فإنه لم يتجدد عندهم إلا مجرد نسبة وإضافة بين الخالق والمخلوق، وهي أمر عدمي، لا وجودي.

وهكذا يقولون في استوائه على العرش إذا قالوا: إنه فوق العرش، وهذا قول ابن عقيل وغيره، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى. ويسمى ابن عقيل هذه النسبة: الأحوال، ولعله يشبهها بالأحوال التي يثبتها من يثبتها من النظار، ويقولون: هي لا موجودة ولا معدومة، كما يقول ذلك أبو هاشم، والقاضيان: أبو بكر، وأبو يعلى، وأبو المعالي الجويني في أول قوليه.

وأكثر الناس خالفوهم في هذا الأصل، وأثبتوا له تعالى فعلًا قائمًا بذاته، وخلقًا غير المخلوق ويسمى التكوين وهو الذي يقول به قدماء الكُلابية، كما ذكره الثقفي والضُّبَعِي وغيرهما من أصحاب أبي بكر محمد بن خُزَيّمة في العقيدة؛ التي كتبوها وقرؤوها على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة؛ لما وقع بينهم النزاع في مسألة القرآن. وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وجمهور الحنفية والحنبلية وأئمة المالكية والشافعية، وهو الذي ذكره البغوي في شرح السنة عن أهل السنة، وذكره البخاري إجماع العلماء، كما بسط ذلك في مواضع أخر.

والأصل الثاني: نفيهم أن تقوم به أمور تتعلق بقدرته ومشيئته، ويسمون ذلك: حلول الحوادث فلما كانوا نفاة لهذا، امتنع عندهم أن يقوم به فعل اختياري، يحصل بقدرته ومشيئته، لا لازم ولا متعد، لا نزول ولا مجيء، ولا استواء ولا إتيان، ولا خلق، ولا إحياء، ولا إماتة، ولا غير ذلك. فلهذا فسروا قول السلف بالنزول بأنه يفعل ما يشاء، على أن مرادهم حصول مخلوق منفصل، لكن كلام السلف صريح في أنهم لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا الفعل الاختياري الذي يقوم به.

والفضيل بن عياض رحمه الله لم يرد أنه يخلو منه العرش، بل أراد مخالفة الجهمية؛ فإن قوله:[15] لا يتضمن أنه لا بد أن يكون تحت العرش بل كلامه من جنس كلام أمثاله من السلف، كالأوزاعي، وحماد بن زيد، وغيرهما. ومنهم من أنكر ما روى عن أحمد في رسالته إلى مُسَدَّد، وقال: راويها عن أحمد مجهول، لا يعرف في أصحاب أحمد من اسمه أحمد بن محمد البَرْدَعِيّ.

وأهل الحديث في هذا على ثلاثة أقوال:

منهم من ينكر أن يقال: يخلو أو لا يخلو، كما يقول ذلك الحافظ عبد الغني المقدسي وغيره.

ومنهم من يقول: بل يخلو منه العرش، وقد صنف أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن محمد بن منده مصنفًا في الإنكار على من قال: لا يخلو منه العرش، وسماه: الرد على من زعم أن الله في كل مكان، وعلى من زعم أن الله ليس له مكان، وعلى من تأول النزول على غير النزول.

هامش

  1. [طه: 5]
  2. [النحل: 2]
  3. 3٫0 3٫1 [مريم: 64]
  4. 4٫0 4٫1 [طه: 14]
  5. [المائدة: 117]
  6. [ينزل]
  7. [النساء: 164]
  8. [والشُّعْث: هو اغبرار الرأس، والغَبَرُ: هو التراب، والغُبْرة: لونه]
  9. [الحديد: 4]
  10. 10٫0 10٫1 [الفجر: 22]
  11. [الأنعام: 158]
  12. [هو أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبار، الحافظ المتقن، من علماء الأثر ببغداد، وكان من أزهد الناس، وتوفي سنة 092ه]
  13. [هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الأثرم، أحد الأعلام ومصنف السنن، له مصنفات في علل الحديث، وثقه ابن حبان، وتكلم فيه غيره، مات سنة 273ه وقيل غير ذلك]
  14. [الأعراف: 54]
  15. [يفعل ما يشاء]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس
الأسماء والصفات | سئل شيخ الإسلام ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات | فصل في أن وصف الله لا يتجاوز القرآن والسنة | فصل في مخالفات المعتزلة والجهمية والحرورية | جماع الأمر في الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها | سئل شيخ الإسلام عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه | قول ابن عربي في معنى اسمه تعالى العلي | إنكار جماعة على أبي طالب بعض كلامه في الصفات | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن علو الله على سائر مخلوقاته | فصل في قول المعتزلة والجهمية والحرورية إن الاستواء معناه الاستيلاء والملك والقهر | فصل في إبطال تأويل من تأول الاستواء بمعنى الاستيلاء | فصل في الإخبار بكروية الأرض | قاعدة عظيمة في إثبات علوه تعالى | سئل شيخ الإسلام عن مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش | فصل في وجوب إثبات العلو لله تعالى | فصل في معنى الحقيقة | فصل | فصل في الجمع بين علو الرب عز وجل وبين قربه من داعيه وعابديه | فصل في تمام الكلام في القرب | فصل في قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه | ما يحصل لصاحب المحبة والذكر والتأله | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجلين اختلفا في الاعتقاد أن الله في السماء | سئل شيخ الإسلام عمن يعتقد الجهة هل هو مبتدع أو كافر أو لا | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الأبيات | فصل في مباينة الله لخلقه وعلوه على عرشه | سئل شيخ الإسلام في رجلين تنازعا في حديث النزول أحدهما مثبت والآخر ناف | فصل في معرفة أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه | فصل في علمنا بصفاته تعالى وجهلنا بكيفيتها | سئل عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في أقوال أهل السنة | فصل في تأول قوم من المنتسبين إلى السنة والحديث حديث النزول | اختلاق كلام على الإمام أحمد يناقض المنقول المتواتر عنه | كفر من زعم أن الرب يقبل التفرق والانقسام | زعم ابن حزم أن العود لم يروه إلا زاذان عن البراء | معنى وسع ربنا كل شيء علما | فصل في معنى أن الله هو العلي الأعلى | فصل في نزاع الناس في معنى حديث النزول | قولان ضعيفان للجهمية ونحوهم