الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/فصل في تمام الكلام في القرب

فصل في تمام الكلام في القرب

والرب سبحانه لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل، بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم، لا يشغله هذا عن هذا.

قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة، وقد قال ﷺ: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر».

والله سبحانه في الدنيا يسمع دعاء الداعين، ويجيب السائلين؛ مع اختلاف اللغات، وفنون الحاجات.

والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددًا قليلًا قريبًا منه، والواحد منا يجد في نفسه قربًا ودنوًا وميلًا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين، دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب. والرب تعالى واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها، وعطاؤه الحاجات كلها.

ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان، إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا. وكذلك يجد في نفسه خضوعًا لبعض الناس ومحبة ويجد فيها نأيًا وبعدًا عن آخرين، وارتفاعًا وإقبالًا على قوم، وإعراضًا عن قوم غير ما هو قائم بالبدن.

ففي الجملة، ما نطق به الكتاب والسنة من قرب الرب من عابديه وداعيه هو مقيد مخصوص؛ لا مطلق عام لجميع الخلق، فبطل قول الحلولية، كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [1] فهذا قربه من داعيه.

وأما قربه من عابديه ففي مثل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [2].

وقوله: «ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه» وقال: «من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا» فهذا قربه إلى عبده، وقرب عبده إليه؛ ودنوه عشية عرفة إلى السماء الدنيا لا يخرج عن القسمين؛ فإنه ﷺ قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة» فدنوه لدعائهم.

وأما نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة؛ فإن كان لمن يدعوه ويسأله ويستغفره، فإن ذلك الوقت يحصل فيه من قرب الرب إلى عابديه ما لا يحصل في غيره، فهو من هذا، وإن كان مطلقًا فيكون بسبب الزمان؛ لكونه يصلح لهذا وإن لم يقع فيه.

ونظيره ساعة الإجابة يوم الجمعة. روى أنها مقيدة بفعل الجمعة، وهي من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة؛ ولهذا تكون مقيدة بفعل الجمعة، فمن لم يصل الجمعة لغير عذر ويعتقد وجوبها لم يكن له فيها نصيب، وأما من كانت عادته الجمعة ثم مرض أو سافر، فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، وكذلك المحبوس ونحوه، فهؤلاء لهم مثل أجر من شهد الجمعة، فيكون دعاؤهم كدعاء من شهدها.

وقد تكون الرحمة التي تنزل على الحُجَّاج عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وعلى من شهد الجمعة، تنتشر بركاتها إلى غيرهم من أهل الأعذار، فيكون لهم نصيب من إجابة الدعاء وحظ مع من شهد ذلك، كما في شهر رمضان، فهذا موجود لمن يحبهم ويحب ما هم فيه من العبادة، فيحصل لقلبه تقرب إلى الله، ويود لو كان معهم.

وأما الكافر والمنافق الذي لا يرى الحج برًا، ولا الجمعة فرضًا وبرًا، بل هو معرض عن محبة ذلك وإرادته، فهذا قلبه بعيد عن رحمة الله؛ فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وهذا ليس منهم.

وروى في ساعة الجمعة أنها آخر النهار فيكون سببها الوقت.

وقد ثبت في الصحيح: «أن في الليل ساعة يستجاب الدعاء فيها كما في يوم الجمعة، وذلك كل ليلة، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر».

هامش

  1. [البقرة: 186]
  2. [الإسراء: 57]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس
الأسماء والصفات | سئل شيخ الإسلام ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات | فصل في أن وصف الله لا يتجاوز القرآن والسنة | فصل في مخالفات المعتزلة والجهمية والحرورية | جماع الأمر في الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها | سئل شيخ الإسلام عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه | قول ابن عربي في معنى اسمه تعالى العلي | إنكار جماعة على أبي طالب بعض كلامه في الصفات | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن علو الله على سائر مخلوقاته | فصل في قول المعتزلة والجهمية والحرورية إن الاستواء معناه الاستيلاء والملك والقهر | فصل في إبطال تأويل من تأول الاستواء بمعنى الاستيلاء | فصل في الإخبار بكروية الأرض | قاعدة عظيمة في إثبات علوه تعالى | سئل شيخ الإسلام عن مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش | فصل في وجوب إثبات العلو لله تعالى | فصل في معنى الحقيقة | فصل | فصل في الجمع بين علو الرب عز وجل وبين قربه من داعيه وعابديه | فصل في تمام الكلام في القرب | فصل في قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه | ما يحصل لصاحب المحبة والذكر والتأله | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجلين اختلفا في الاعتقاد أن الله في السماء | سئل شيخ الإسلام عمن يعتقد الجهة هل هو مبتدع أو كافر أو لا | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الأبيات | فصل في مباينة الله لخلقه وعلوه على عرشه | سئل شيخ الإسلام في رجلين تنازعا في حديث النزول أحدهما مثبت والآخر ناف | فصل في معرفة أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه | فصل في علمنا بصفاته تعالى وجهلنا بكيفيتها | سئل عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في أقوال أهل السنة | فصل في تأول قوم من المنتسبين إلى السنة والحديث حديث النزول | اختلاق كلام على الإمام أحمد يناقض المنقول المتواتر عنه | كفر من زعم أن الرب يقبل التفرق والانقسام | زعم ابن حزم أن العود لم يروه إلا زاذان عن البراء | معنى وسع ربنا كل شيء علما | فصل في معنى أن الله هو العلي الأعلى | فصل في نزاع الناس في معنى حديث النزول | قولان ضعيفان للجهمية ونحوهم