→ فصل فيمن خالف ما جاء به النبي | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في تحريف الإنجيل ابن تيمية |
فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم ← |
فصل في تحريف الإنجيل
فإن قيل: فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم وقال لهم: أنا المسيح ولا يقولون: إن الشيطان تمثل على صورته، فالشيطان ليس هو لحم وعظم وهذه أثر المسامير أو نحو هذا الكلام، فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ } [1]، وقال قبل هذا: { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [2]، وقد قال قبل هذا: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءّ } [3]، وقال أيضا: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [4]، وقال أيضا: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين } [5]، وهذا أمر للنبي ﷺ بأن يقول لأهل الكتاب الذين بعث إليهم وهم من كان في وقته ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة: لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم، وكذلك قوله: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ } إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوراة فيها حكم الله، وكذلك قوله: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ } هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد ﷺ.
قيل قبل هذا: إنه قد قيل: ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل، بل ذلك مبدل؛ فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة.
ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرًا مما في التوراة أو الإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال: بل ذلك قليل. وقيل: لم يحرف أحد شيئًا من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل، وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين. والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض نسخًا صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي ﷺ، ونسخًا كثيرة محرفة. ومن قال: إنه لم يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه، ومن قال: جميع النسخ بعد النبي ﷺ حرفت، فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ.
وإذا كان كذلك، فنقول: هو سبحانه قال: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ } [6] وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ليس هو مما أنزله الله، ومما تلقوه عن موسى وعيسى، بل هو مما كتبوه مع ذلك للتعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس.
وكذلك: { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } ، وقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ، فإن إقامة الكتاب العملُ بما أمر الله به في الكتاب من التصديق بما أخبر به على لسان الرسول. وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك، ليس هو مما أنزله الله على الرسول، ولا مما أمر به ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة، يصنف الشخص كتابًا، فيذكر ناسخه في آخره عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف.
ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وألا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير، ولا آمين ولا غير ذلك، والمصاحف القديمة كتبها أهل العلم على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور، والتخميس، والتعشير، والوقف، والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا، وكتب اسمه، ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح، وتوفيه، ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين، ليس هو مما قاله المسيح، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله.
فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين فقد دخلت الشبهة.
قيل: الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء؛ فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة إن كان حقًا قُبِل وإلا رُدّ؛ ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي ﷺ من القرآن والحديث يجب قبوله، لاسيما المتواتر كالقرآن، وكثير من السنن. وأما ما قالوه فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه رد إلى الله والرسول، وعمر قد كان أولا أنكر موت النبي ﷺ حتى رد ذلك عليه أبو بكر، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعى الزكاة، فلم يكن هذا قادحًا فيما نقلوه عن النبي ﷺ.
والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح، ولم يشهد أحد منهم صلبه، فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرًا، وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل: إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح، ولكنهم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس.
وحينئذ، فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، لكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء بعد أيام، وقال: أنا المسيح، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرًا ما تجىء ويدعى أحدهم أنه نبي أو صالح، ويقول: أنا فلان النبي أو الصالح ويكون شيطانًا، وفي ذلك حكايات متعددة، مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍ وقال: أنا المسيح، جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان فقال: أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك.
فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب كما قال تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } [7]، وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ } [8]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح، ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون وهم آثمون. وإذا قالوه فخرًا لم يحصل لهم الفخر لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قالالنبي ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟. قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه».
وقوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } قيل: هم اليهود، وقيل: النصارى، والآية تعم الطائفتين، وقوله: { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } قيل: من قتله، وقيل: { مِّنْهُ } أي في شك منه، هل صلب أم لا، كما اختلفوا فيه فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا، وهم في شك من ذلك: { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } [9]، فإذا كان هذا في الصلب، فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال: إنه هو المسيح؟
فإن قيل: إذا كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم: { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [10]، وقوله: { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [11]؟
قيل: ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه؛ فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلا له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء. وقال تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [12] الآية، وقال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [13].
وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم هو، مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي ﷺ جاءهم في اليقظة، فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو من أكثر الناس اتباعًا للسنة واتباعًا له، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره. وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله، فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح، ولا يقدح فيما نقلوه عنه، وعمر لما كان يعتقد أن النبي ﷺ لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه لم يكن هذا قادحًا في إيمانه، وإنما كان غلطًا ورجع عنه.
هامش
- ↑ [المائدة: 47]
- ↑ [المائدة: 46، 47]
- ↑ [المائدة: 43، 44]
- ↑ [المائدة: 66]
- ↑ [المائدة: 68]
- ↑ [المائدة: 47]
- ↑ [النساء: 157]
- ↑ [النساء: 157]
- ↑ [النساء: 157]
- ↑ [آل عمران: 55]
- ↑ [الصف: 14]
- ↑ [آل عمران: 146]
- ↑ [آل عمران: 144]