→ فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في أحوال أهل الضلال والبدع ابن تيمية |
تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع ← |
فصل في أحوال أهل الضلال والبدع
وأهل الضلال، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، هم كما قال مجاهد: أهل البدع والشبهات؛ يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد، قال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم.
والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم.
وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام الله ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا الله، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقًا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى، والخوارج، وغيرهم؛ إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام الله وجعلوه محكمًا، وجعلوا المحكم متشابهًا.
وأما أولئك كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك وغيرهما كطائفة من أصحاب أحمد: إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا: وأصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [1]، في المتشابهات قولان:
أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس.
والثاني وهو الصحيح: أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال: { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [2]، وهذا كقوله: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس»، وكذلك قولهم: { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [3].
وقد صنف أحمد كتابًا في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس. قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها.
ومن قال من السلف: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضا، ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجىء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه.
وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله: { إنَّا } و { نحن }، وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه: { إيَّاي } وما قيل فيه: { إنَّا } لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه، إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده؛ ولهذا لا يقول: فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } [4]، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [5]، { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } [6]، ونحو ذلك، مع أن تأويل هذا وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم لا يعلمه إلا الله، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد.
وهذا مثل لفظ المركب و الجسم و المتحيز و الجوهر و الجهة و العرض ونحو ذلك، ولفظ الحيز ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضا، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول: سهيل بعيد من الثريا، لا يجوز أن يقترن بها، ولا يتزوجها، والذي قال:
أيها المنكح الثريا سهيلا
أراد امرأة اسمها الثريا، ورجلا اسمه سهيل. ثم قال:
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يمان
وهذا لفظ مشترك، فجعل يعجبه، وإنكاره من الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع.
والأصل الذي بني عليه نفاة الصفات وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق، وكذب رسوله موسى في أن الله كلمه، هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم، وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية، وفي ذم هؤلاء المتكلمين.
والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضا وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل.
ولكن كثيرًا من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقًا للشرع والعقل، حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل، لكنه طويل أو يبعد المعرفة، أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة، وأنه صحيح في نفسه.
وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلا وشرعًا، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك.
ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك؛ إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة؛ فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين.
وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع، وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقًا لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقًا لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة.
ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا: هو الله، وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم؛ إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لابد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب، لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم، بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه.
ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثَمَّ قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع، فما أثبتوا قديمًا ولا واجبًا.
فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا: هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا: هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنها ** قد حليت بمحاسن الأشياء
وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون } [7]، وقد قيل: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } من غير رب خلقهم، وقيل: من غير مادة، وقيل: من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق.
ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت: إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال: إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول: إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف.
ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله، صار به إلى السفسطة، والسفسطة تعرض لآحاد الناس، وفي بعض الأمور، ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء، هذا لا يتصور؛ فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث.
وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو فعل بمشيئته، فهو محدث وممكن، لزمهم القول بحدوث كل موجود؛ إذ كان الخالق جل جلاله متصفًا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات، مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته، ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته، لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه؛ لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث؛ لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإذا كان حادثًا كان له محدث قديم، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب، وأنه ذات مجردة عن الصفات، ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين، ويقولون: هو بلا إشارة ولا تعيين، وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو في الذهن، فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع.
فجاء إخوانهم في أصل المقالة. وقالوا: هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات، فقالوا بحلوله في كل شيء.
وقال آخرون منهم: هو وجود كل شيء، ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت، ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق، ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة، ومنهم من جعله في العالم كالزبد في اللبن وكالزيت والشيرج في السمسم والزيتون، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن الأصل الذي أضلهم قولهم: ما قامت به الصفات والأفعال، والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث، ثم قالوا: والجسم لا يخلو من الحوادث، وأثبتوا ذلك بطرق؛ منهم من قال: لا يخلو عن الأكوان الأربعة: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ومنهم من قال: لا يخلو عن الحركة والسكون فقط. ومنهم من قال: لا يخلو عن الأعراض، والأعراض كلها حادثة، وهي لا تبقى زمانين، وهذه طريقة الآمدي، وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها، والرازي اعتمد على طريقة الحركة والسكون.
وقد بسط الكلام على هذه الطرق، وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه، وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم في فساد جميع هذه الطرق، وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه، وبينوا فسادها طريقًا طريقًا بما ذكروه، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وأما الهشامية والكَرَّامية، وغيرهم، ممن يقول بأنه جسم قديم، فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة، لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم، ولا قالوا: إن الجسم لا ينفك عن الحوادث؛ إذ كان القديم عندهم جسمًا قديمًا وهو خال من الحوادث، وقد قيل: أول من قال في الإسلام: إن القديم جسم هو هشام بن الحكم [8]، كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان.
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية كثير مشهور، فإن مرض التعطيل شر من مرض التجسيم، وإنما كان السلف يذمون المشبهة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قالوا: المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. وابن كلاب ومن تبعه أثبتوا الصفات التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، فأما التي تتعلق بمشيئته وقدرته فينفونها، قالوا: لأنها حادثة ولو قامت به الحوادث لكان حادثًا؛ لأن ما قبل الشيء لم يخل عنه وعن ضده، فلو قبل بعض هذه الحوادث لم يخل منه ومن ضده فلم يخل من الحوادث فيكون حادثًا.
ومحمد بن كرَّام كان بعد ابن كُلاَّب في عصر مسلم بن الحجاج، أثبت أنه يوصف بالصفات الاختياريات، ويتكلم بمشيئته وقدرته، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بل قال: إنه صار يتكلم بمشيئته وقدرته، كما صار يفعل بمشيئته وقدرته بعد أن لم يكن كذلك، وقال هو وأصحابه في المشهور عنه: إن الحوادث التي تقوم به لا يخلو منها ولا يزول عنها؛ لأنه لو قامت به الحوادث ثم زالت عنه كان قابلا لحدوثها وزوالها، وإذا كان قابلا لذلك لم يخل منه، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإنما يقبل على أصلهم أنه تقوم به الحوادث فقط، كما يقبل أن يفعلها ويحدثها، ولا يلزم من ذلك أنها لم تخل منه، كما لم يلزم أنه لم يزل فاعلا لها. والحدوث عندهم غير الأحداث. والقرآن عندهم حادث لا محدث؛ لأن المحدث يفتقر إلى إحداث بخلاف الحدوث.
وهم إذا قالوا: كان خاليًا منها في الأزل وكان ساكنًا، لم يقولوا: إنه قام به حادث، بل يقولون: السكون أمر عدمي كما يقوله الفلاسفة ولكن الحركة أمر وجودي، بخلاف ما يقوله من يقوله من المعتزلة والأشعرية: إن السكون أمر وجودي كالحركة، فإذا حصل به حادث لم يكن ثم عدم هذا الحادث، فإنما يعدم الحادث بإحداث يقوم به وهذا ممتنع، وهم يقولون: إنه يمتنع عدم الجسم، وعندهم أن الباري يقوم به إحداث المخلوقات وإفناؤها، فالحوادث التي تقوم بهم تقوم به لو أفناها لقام به الإحداث والإفناء، فكان قابلا لأن يحدث فيه حادث ويفني ذلك الحادث، وما كان كذلك لم يخل من إحداث وإفناء فلم يخل من الحوادث، و ما لم يخل منها فهو حادث، وإنما كان كذلك لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده كما قالت الكلابية، لكن المعتزلة يقولون: السكون ضد الحركة فالقابل لأحدهما لا يخلو عنه وعن الآخر، وهؤلاء يقولون: السكون ليس بضد وجودي، بل هو عدمي، وإنما الوجودي هو الإحداث والإفناء، فلو قبل قيام الإحداث والإفناء به لكان قابلا لقيام الأضداد الوجودية، والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده.
وهؤلاء لما أراد منازعوهم إبطال قولهم، كان عمدتهم بيان تناقض أقوالهم، كما ذكر ذلك أبو المعالي وأتباعه، وكما ذكر الآمدي تناقضهم من وجوه كثيرة، قد ذكرت في غير هذا الموضع، وغايتها أنها تدل على مناقضتهم لا على صحة مذهب المنازع.
وثَمَّ طائفة كثيرة تقول: إنه تقوم به الحوادث وتزول، وإنه كلم موسى بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم، وأظن الكرامية لهم في ذلك قولان، وإلا فالقول بفناء الصوت الذي كلم به موسى من جنس القول بقدمه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والحديث والفقه من السالمية وغيرهم، ومن الحنبلية والشافعية والمالكية، يقول: إنه كلم موسى بصوت سمعه موسى، وذلك الصوت قديم، وهذا القول يعرف فساده ببديهة العقل، وكذلك قول من يقول: كلمة بصوت حادث، وأن ذلك الصوت باق لا يزال هو وسائر ما يقوم به من الحوادث، هي أقوال يعرف فسادها بالبديهة.
وإنما أوقع هذه الطوائف في هذه الأقوال ذلك الأصل الذي تلقوه عن الجهمية، وهو أن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وهو باطل عقلا وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع، وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة، وخالفوا العقل والشرع، وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم، من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم في هذا الأصل الذي جعلوه أصل دينهم، ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول، وثبت لهم الأصل، ولكن ضيعوا الأصول فحرموا الوصول، والأصول اتباع ما جاء به الرسول.
وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة، وكانت كما ضرب الله المثلين: مثل البناء والشجرة، فقال في المؤمنين والمنافقين: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [9]، وقال: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء } [10]، والأصول مأخوذة من أصول الشجرة وأساس البناء؛ ولهذا يقال فيه: الأصل ما ابتنى عليه غيره، أو ما تفرع عنه غيره.
فالأصول الثابتة هي أصول الأنبياء، كما قيل:
أيها المغتدي لتطلب علما ** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح حكما ** ثم أغفلت أصل أصل الأصول
والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب، ويتفرع عليها. وقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين. والكلمة هي قضية جازمة وعقيدة جامعة، ونبينا ﷺ أوتي فواتح الكلام، وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم قضية، فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبات أصل الشجرة الطيبة وفرعها في السماء { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [11] والله- سبحانه - مَثَّل الكلمة الطيبة، أي: كلمة التوحيد، بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عال، وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال: { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ، فالمؤمن عنده يقين وطمأنينة، والإيمان في قلبه ثابت مستقر، وهو في نفسه ثابت على الإيمان مستقر لا يتحول عنه، والكلمة الخبيثة { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ } ، استؤصلت واجتثت، كما يقطع الشيء يجتث من فوق الأرض { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } : لا مكان تستقر فيه ولا استقرار في المكان؛ فإن القرار يراد به مكان الاستقرار، كما قال تعالى: { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [12]، وقال: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } [13]. ويقال: فلان ما له قرار أي ثبات، وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا، فالمبطل ليس قوله ثابتًا في قلبه، ولا هو ثابت فيه ولا يستقر، كما قال تعالى في المثل الآخر: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } [14] فإنه وإن اعتقده مدة فإنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك بالله، فعند الحقيقة يضل عنه ما كان يدعو من دون الله.
وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان عند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمن كان معه كلمة طيبة أصلها ثابت كان له فرع في السماء يوصله إلى الله، فإنه سبحانه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [15] ومن لم يكن معه أصل ثابت فإنه يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول. ولهذا تجد أهل البدع والشبهات لا يصلون إلى غاية محمودة، كما قال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [16].
والله - سبحانه- بعث الرسل وأنزل الكتب، بأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أمر به على ألسن رسله.
وأصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله؛ ولهذا كان مذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض ذلك ما قدروا الله حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عبدوه حق عبادته.
والله - سبحانه - قد ذكر هذه الكلمة ماقدروا الله حق قدره في ثلاثة مواضع؛ ليثبت عظمته في نفسه، وما يستحقه من الصفات، وليثبت وحدانيته وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وليثبت ما أنزله على رسله، فقال في الزمر: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية [17]، وقال في الحج: { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [18]، وقال في الأنعام: { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [19].
وفي المواضع الثلاثة ذم الذين ما قدروه حق قدره من الكفار، فدل ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يقدر الله حق قدره، كما يجب عليه أن يتقيه حق تقاته، وأن يجاهد فيه حق جهاده، قال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [20]، وقال: { اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [21] والمصدر هنا مضاف إلى المفعول، والفاعل مراد أي حق جهاده الذي أمركم به، وحق قاته التي أمركم بها، واقدروه قدره الذي بينه لكم وأمركم به، فصدقوا الرسول فيما أخبر، وأطيعوه فيما أوجب وأمر. وأما ما يخرج عن طاقة البشر فذلك لا يذم أحد على تركه، قالت عائشة: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو.
ودلت الآية على أن له قدرًا عظيمًا، لا سيما قوله: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [22] وفي تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: من آمن بأن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره.
هامش
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [البقرة: 70]
- ↑ [الفتح: 1]
- ↑ [القيامة: 18]
- ↑ [القصص: 3]
- ↑ [الطور: 35]
- ↑ [هو هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، متكلم مناظر، من كبار الرافضة ومشاهيرهم، له مصنفات كثيرة منها الإمامة والقدر يقال إنه عاش إلى خلافة المأمون]
- ↑ [التوبة: 109]
- ↑ [إبراهيم: 24-27]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [ابراهيم: 29]
- ↑ [غافر: 64]
- ↑ [الرعد: 17]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [الرعد: 14]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [الحج: 73، 74]
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [الحج: 78]
- ↑ [آل عمران: 102]
- ↑ [الزمر: 67]